عبد العزيز بن عبد الرحمن الخريف ( فقد ورثاء )

فقد ورثاء

الجزء الأول

edit

الدكتور يوسف السلوم إلى رحمة الله(<!--)

 

رأيت أخا الدنيا وإن بات آمنا
<!--

 

على سفر يسرى به وهو لا يدري
<!--

بالأمس القريب رحل أخوه الفاضل عبدالله بن إبراهيم السلوم، وقبله بفترة ليست بالبعيدة غادر الحياة أخواه: محمد و د . حمد ـ زميلنا بدار التوحيد بالطائف عامي ـ 71/1372هـ ـ واليوم الخميس 21/7/1429هـ لحق بهم شقيقهم الدكتور ـ لواء ـ يوسف بن إبراهيم السلوم ـ رحمه الله ـ بعد صراع طويل مع المرض الذي نغص عليه حياته، وجعله يعيش قلقا متنقلا ما بين منزله ومستشفى القوات المسلحة، مع تجدد أحزانه على فقد إخوته الثلاثة، وتتابعهم الواحد تلو الآخر حتى وصل دوره فلحق بهم ـ رحمهم الله جميعا ـ ، وقد خيم الحزن على أجواء أسرة آل سلوم ومحبيهم حيث انتهت أيام الأخوة الأربعة ـ الكبار ـ من أيام الدنيا، وهذه سنة المولى في خلقه: قادم وراحل ..، ولقد تكرر أمام ناظريه هز نعوشهم صوب المقابر مراقد الراحلين مما جعل هم الرحيل يساوره ويقلقه، ولسان حاله يتمثل بهذين البيتين:

  أؤ أمل أن أحيا وفي كل ساعة
<!--

 

تمر بي الموتى تهز نعوشها
<!--

وهل أنا إلا مثلهم غير أن لي
<!--

 

بقايا ليال في الزمان أعيشها !
<!--

وقد استوفى حقه من ليالي العمر ـ رحمه الله ـ بعد ما عاش مع أسرته وبين إخوته في أجواء جميلة يسودها الود والتآلف، والتواصل المستمر بينهم، وبين معارفهم مدى حياتهم حتى فرقهم هادم اللذات ومفرق الجماعات، واذكر أن الدكتور حمد وأخويه محمد ويوسف وبعض أبنائهم قد خصصوا بعد المغرب من كل ليلة لزيارة شقيقهم الأكبر عبدالله وخاصة حينما أقعده الكبر لتبادل الأحاديث الودية معه، والاستفادة من تجاربه في الحياة ومن مخزون ذكرياته ..، وإيناسه وتخفيف وحشة الوحدة عنه داخل منزله .. متطرقين لأيام الصغر والطفولة وهم بين أحضان والديهم. وما يجري في تلك الأيام من ذكريات جميلة يرددونها بينهم تلذذا بالماضي البعيد..، فجلوسهم معه مما يؤنسه ويدخل السرور بين جوانحه، ولكن أيام السرور لا تدوم أبدا:-

  ما أحسن الأيام إلا أنها  
<!--

 

يا صاحبي   إذا مضت لا تعود
<!--

وكثيرا ما يستحضر مثل هذا البيت للحث على تحمل مصائب الدنيا مرددا:-

  تعز فلا إلفين بالعيش متعا 
<!--

 

ولكن لوراد المنون تتابعا
<!--

ولقد عاش الدكتور يوسف – أبو عبدالله – منذ فجر حياته مكافحا وجادا في كل المراحل الدراسية حتى نال درجة الدكتوراه من إحدى جامعات المملكة المتحدة ..، وكان هدفه أن يخدم وطنه بكل إخلاص وأمانه، وليكون قدوة حسنة للأجيال المثاليين، حيث حصل على رتبة لواء بالجيش السعودي قبل رسالة الدكتوراه، وقد تقلب في عدد من المناصب العالية منها: مدير عام التخطيط والميزانية والمتابعة لوزارة الدفاع والطيران ،ثم تعيينه مديراً للمصانع الحربية بالخرج، وقائد منطقة المدينة المنورة ، ومدير إدارة التفتيش، وأمين عام الخدمة العسكرية بالديوان الملكي، ثم سفيرا في كينيا، وأخيرا عضوا في مجلس الشورى للدورتين. بعد ذلك أخلد إلى الراحة والكتابة عبر الصحف والمجلات، وإعداد مجموعة من مؤلفاته ومذكراته: تحت الطبع الآن ليقتات منها من بعده ـ تغمده الله بواسع رحمته ـ ولقد اتصف بالحزم والشجاعة في الرأي وإفهام من تحته بإتقان ما يوكل إليهم من أعمال محاطة بالسرية التامة، فهو رجل عالي القامة في المحافل العسكرية، وله مكانة لدى ولاة الأمر لما يتمتع به من حنكة وإخلاص وتفان في خدمة الوطن وأهله، ومع ذلك كان دمث الأخلاق لطيف المعشر محبا للقراءة واسع الأفق والإطلاع على كل جديد، وقد ظهر ذلك جليا في قوة أسلوبه ومتانته، وأحاديثه الشيقة النابعة من تراكم المعلومات من مخزونات ذاكرته فهي نبع ثر يقتات منها في كل مجال يكتبه  أو يتحدث فيه، ولئن غاب عن نواظرنا شخص أبي عبدالله فإن ذكره الحسن لا يبرح خواطرنا مدى العمر، والأمل في أبنائه الكرام أن يبادروا بطبع مؤلفاته ومذكراته التي بذل في إعدادها عصارات أفكاره النيرة، كي يستفاد منها، ولتبقى مرجعا وذكرا خالدة على تعاقب الملوين، وفي ختام هذه الكلمة الوجيزة أرجو من المولى أن يسكنه فسيح جناته ويلهم ذريته وأبنائه وبناته وعقيلتيه أم عبدالله وأم فيصل الصبر والسلوان.

"إنا لله وإنا إليه راجعون "  

 

 

 

 

 

   الشيخ حاضر العريفي إلى رحمة الله(<!--)

 

  تتابع أخوتي ومضوا لأمر  
<!--

 

عليه تتابع القوم الخيارُ
<!--

الدنيا طبعت على كدر ومتاعب جمة سواء الجسمانية أو الفكرية والنفسية معاً، وهذا هو واقع الحياة مابين صفو وكدر، ومنغصات يختلف وقعها وارتطامها بجمار القلوب المحاطة بسياج الأضلع ومسبباتها قوة وضعفاً، لأن مصائب الدنيا تختلف باختلاف أحاسيس وتحمل الأفراد والجماعات لها، فهي وإن صفت أعقب صفوها كدر:

طبعت على كدر وأنت تريدها
<!--

 

صفواً من الأقذاء والأكدار
<!--

فبينما يعيش المرء مزهواً بالصحة والسعادة مغتبطاً في هذا الوجود ومستأنساً بأطاييب الحياة وملذاتها مع ما يزاوله من أنشطة وجولات ـ أحياناً ـ في مناكب الأرض كيفما يشاء يمنة ويسرة طلباً للمعيشة، أو ترفهاً وسياحة، فإذا بمفاجآت الأقدار تنغص وتكدر عليه ما أستمتع به من حلو العيش وأطايب النعيم وملذات الحياة بحلول بعض الأمراض الطارئة المخيفة ـ مثلاً ـ التي قد تكون سبباً في قلقه وتعجيل رحيله ـ والآجال بيد الله وحده ـ فيكون وقع ذاك الوافد المزعج محطماً لقواه ولأماله العراض، فيظل هاجس الرحيل مدوياً في طوايا نفسه، ومجلجلاً في حنايا صدره مُكدراً لخاطره، فيحاول جاهداً صده وإفلاته من جسده بتكثيف المراجعة للأطباء علّهم يعملون شيئاً ما يطمئن نفسه المحاطة بالقلق والخوف من المجهول المحتوم ..، وقد يزمع السفر إلى بعض بلدان العالم المتقدمة طبياً علّه يجد سبباً في مد حبل عمره معافاً، ولكن المكتوب في عالي جبينه لامناص منه البتة، وهذا هو شأن أمثال الشيخ الوجيه الحبيب حاضر بن عبد الله العريفي الذي حاول الفرار من قبضة هادم اللذات بالتعجل بالسفر متنقلاً بين البلدان الأوربية، والولايات الأمريكية، فراراً منه، فرجع خائبة آماله وأستمر في العلاج بمستشفى الملك فيصل التخصصي بجدة بضع شهور، ثم رحل عنا وغاب عن الوجود في يوم الأحد 16/8/1429هـ وقد أديت صلاة الميت عليه بعد صلاة العصر في المسجد الحرام ودفن بمقابر العدل مأسوفاً عليه بعد حياة سعيدة حافلة بالمسرات وسعة الخاطر، وبعد أن صال وجال وطاف في أنحاء الدنيا ...، ومتع ناظريه من آفاقها المتباعدة إلى أن حضره يومه الموعود ـ كما أسلفنا آنفاً ـ " ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها ... الآية " سورة يونس 49.

وكان ذاك اليوم الأحد 16/8 يوم محزن لأبنائه وعقيلتيه أم خالد وأم نواف وجميع أفراد أسرته ومحبيه ـ تغمده الله بواسع رحمته ـ ولقد قضى أيام طفولته وأوائل شبابه بين أحضان والدية في ربوع وأكناف بلده "جزالة " بمحافظة القويعية بلد أسرة العرافا الذين اشتهروا بالكرم والتعاون والتآلف فيما بينهم، عاش بين أقرانه وأترابه في تلك البلد الوادعة التي يسود جوها الهدوء وطيب المناخ أجمل أيام عمره وأحلى ذكرياته، وقد تروى من ماء بئر "جزالة  المشهورة" فزاده ماؤها العذب حلاوة وطراوة في حديثه، ولطافة في حسن تعامله مع الجميع ..! ثم رحل إلى مدينة الرياض وأخذ بأسباب المعيشة، وبعد تحسن حاله المادية أخذ يشتغل بالتجارة، وأخيراً استقر به المطاف في أولى مصائف المملكة بمحافظة الطائف فحسنت حاله المادية كثيراً، ثم اختاره شركاؤه مديراً عاما لشركة الجزيرة للمقاولات ..، لما يتمتع به من أمانة وحنكة وحسن تعامل،  فأشرع باب منزلة داخل المدينة وبستانه الواقع في مرتفعات الهدا بالطائف لاستقبال من يؤمه من الضيوف، وقاصديه من أسرته وأصدقائه ومعارفه الكثر ..، ويعد ذاك البستان من أجمل البساتين الحافلة بأجود أنواع الفواكه والخضروات: من رمان وكروم وكمثرى وحماط ..، وبسائر الخضروات المعروفة بتلك الأجواء الممتعة :

بنفسي تلك الأرض ما أطيب الربا 
<!--

 

وما أحسن المصطاف والمتربعا
<!--

فهو ـ رحمه الله ـ قد طوق أعناق الرجال بأفضاله وكرمه الحاتمي ..، مع ما ينفح الزائر بجزيل هداياه من تلك الثمار الحلوة اليانعة، فمن صفاته الحميدة أنه طيب المعشر هادئ الطبع حلو الطرفة والنكات، فحديثه خفيف على القلوب لا يمل يؤنس السامع، وينسي الضيف أهله ببالغ حفاوته وإيناسه، وهذا يذكرنا بقول الشاعر الغنوي:

حبيب إلى الزوار غشيان بيته  
<!--

 

جميل المحيا ، شب وهو كريم
<!--

وكأني بمن يمر محاذياً ذاك المكان الذي ألفوه مرتع الأضياف لاوياً عنقه نحوه متحسراً على غياب صاحبه وقد خلت من شخصه داره ...! مستحضراً هذا البيت:

ووحشته حتى كأن لم يكن به
<!--

 

أنيس ولم تحسن لعين مناظره !
<!--

فنرجوا أن تستمر ساعات الأنس بلقاء الأحبة والأضياف هناك ... ولقد سعدت بمعرفة "أبو عبد الله" منذ أعوام وبأول لقاء معه وبصديقه الخاص الأستاذ الفاضل عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ مدير عام الإقليم الجنوبي للخطوط السعودية، وذلك في حفل تكريم حفظة القرآن الكريم بالمدرسة الصالحية بمحافظة حريملاء منذ سنوات التي سعد بتأسيسها وفتحها على نفقته الخاصة الشيخ الراحل محمد بن صالح بن سلطان ـ رحمه الله ـ فكنت كلما أحضر إلى الطائف أزوره وأزور صديقنا الأستاذ عبد الرحمن آل الشيخ وألقى كل تكريم وحفاوة منهما، كما لا أنسى هدايا "حاضر" المتكررة الجزلة من كراتين الرمان وسائر الفواكه كل عاما ..،  وكان من حفاوته بي أثناء وجودي بفندق المسرة الواقع على مقربة من مطار الحوية في ضيافة محافظ الطائف الأستاذ فهد بن عبد العزيز المعمر وقت الاحتفال بمرور خمسين عاماً على تأسيس دار التوحيد عام 1364هـ كان رحمه الله يأتي في الصباح الباكر فيأخذني بالقوة بسيارته لتناول طعام الإفطار معه الذي تعده  إعداداً شهياً عقيلتاه أم خالد وأم نواف متعهما الله بالصحة والسعادة، وجبر مصيبتهما بفقد إلفهما الغالي اللتين حزنتا عليه حزناً عميقاً سيطول مكثه بين جوانحهما ..! فلسان حالي يملي عليهما هذا البيت لعلهما تجدان فيه سلوة:

فقلت لها صبراً فكل قرينة
<!--

 

مفارقها لابد يوماً قرينها !
<!--

وأنا بدوري أختتم هذه الكلمة الوجيزة بهذا البيت :

ستبقى لكم في مضمر القلب والحشا  
<!--

 

سريرة ود يوم تبلى السرائر
<!--

فذكرى "أبوعبد الله " ستبقى في خاطري مدى عمري ـ رحمه الله رحمة واسعة ـ  وألهم أبناءه ومعالي الشيخ ناصر الشثري وأبناءه، وزوجتيه وأسرته ومحبيه الصبر والسلوان." إنا لله وإن إليه راجعون ". 


رحم الله الشيخ عبدالله بن إبراهيم آل معمر(<!--)

 

كل ابن أنثى وإن طالت سلامته
<!--

 

يوماً على آلة حدباء محمول
<!--

لكل أجل كتاب ولكل حي نهاية وغياب، فهذه سنة المولى في خلقه منذ الأزل، حياة ثم ممات لجميع الخلائق المتتابعة على ظهر هذا الكوكب الأرضي إلى يوم البعث والنشور، فالسعيد في ذاك الموقف الرهيب الذي تذهل فيه كل مرضعة عن ما أرضعت من يأخذ كتابه بيمينه مسروراً فنرجو من المولى أن يكون الأخ الكريم الوجيه: عبد الله بن إبراهيم المعمر من أولئك السعداء، حيث لاقى وجه ربه بعد صلاة التراويح في ليلة الثلاثاء 9-9- 1429هـ متخطياً تسعة عقود من الزمن، ومقارباً عبور (الهنيدة( مأسوفاً عليه بعد رحلة طويلة حافلة بالعطاء وبالعمل الجاد في خدمة الوطن وأهله تحت مظلة ملوك هذا الوطن أنجال مؤسس وموحد أرجاء هذه البلاد جلالة الملك عبد العزيز - طيب الله ثراه -، وظل في الخدمة ما يقارب الأربعين عاماً قضاها متنقلاً أميراً ومحافظاً في كثير من مدن المملكة بدءاً من مدينة شقراء - حوطة بني تميم - مرات - الأفلاج - حريملاء - المجمعة -، وأخيراً محافظاً بوادي الدواسر، تغمده الله بواسع رحمته - بعد ذلك أخلد إلى الراحة في مهوى رأسه: بلد آبائه وأجداده (سدوس) فأخذ أحبته ومعارفه يتقاطرون على قصره ومزارعه لزيارته، والاستمتاع بأحاديثه الشيقة التي يتخللها بعض القصص والمواقف الطريفة التي مر بها أثناء رحلته الطولى، وتنقله بين تلك المدن والمحافظات المشار إليها بكل نشاط وإخلاص، فأولئك الزوار يلقون منه حسن الاستقبال، والمبالغة في إكرامهم وإيناسهم بما يحلو لهم، فمكانه بمنزله الصوالين الأدبية التي يؤمها الكبار من علية القوم والأدباء، وسائر طبقات المجتمع لما يلقونه من حفاوة وتكريم:

حبيب إلى الزوار غشيان بيته
<!--

 

جميل المحيا، شب وهو كريم
<!--

ثم أعقب تلك الأيام وليالي سروره مع أسرته ومع أحبته مكابدة أعراض الكبر والآلام المتعددة والتنقل من قصره إلى مستشفى الملك فيصل التخصصي بين حين وآخر، وهكذا طبيعة الحياة التي لا يدوم لها سرور حتى انتهاء رصيده الزمني من أيام الدنيا ليلة الثلاثاء 9-9-1429هـ منتقلاً إلى دار البقاء والمقام:

ولا خير في الدنيا لمن لم يكن له
<!--

 

من الله في دار المقام نصيب
<!--

فنرجو له طيب الإقامة في جدثه إلى أن يأذن الله لجميع الخلائق بالنهوض من مراقدهم، ولقد تحقق على يديه الكثير من المشاريع التنموية في تطوير معظم البلدان التي كان يعمل بها.. كما أن له دورا فاعلا في إصلاح ذات البين، وبين الأطراف التي قد يحدث بينها خلافات وتنازع مما أكسبه محبة لدى المواطنين، وتقدير المسؤولين له لما يتمتع به من حنكة وبعد نظر، وحسن تعامل مع الغير، لذا عمد ولاة الأمر على تعيينه في عدد من كبريات المدن.

والمحافظات ممثلاً لهم ومنفذاً لأوامرهم، فقام بتلك المهام بكل جد وإخلاص خير قيام طيلة تسنمه لتلك المناصب المتعددة.. ولقد ولد وترعرع وتربى بين أحضان والديه في بلده سدوس الشهيرة المتربعة على جنبات شعيب الحيسية الحافلة بأشجار الطلح وارفات الظل التي تعتبر من المتنزهات الجميلة لجلالة الملك عبد العزيز والمرحلة الأولى السنوية من مراحل توقفه أثناء توجهه إلى الحجاز وإلى بيت الله الحرام، بمكة المكرمة - آنذاك - بل وما زالت تلك الغابات متنفساً لمن يؤمنها من مدينة الرياض، وغيرها من البلدان المجاورة، وخاصة في مواسم الربيع وإجازة العيدين، ويعتبر ذاك الشعيب من أوسع وأكبر منحدرات سيل وادي حنيفة المتجه عبر العيينة والجبيلة صوب الرياض.. ولقد اشتهرت أسرة آل معمر بالكرم الحاتمي منذ أحقاب السنين فبلد سدوس ممر ومعبر هام لقاصدي الرياض راجلين وراكبين دوابهم..، وخاصة القادمين من الجهات الشمالية مثل القصيم، وسدير، والوشم، ومن البلدان المجاورة لها..، وذلك في الزمان الأول كانوا يتجهون لقضاء حوائجهم، والبعض للأعمال الحرفية هناك في داخل مدينة الرياض، والبعض يعمل في المزارع والنخيل الحكومية المحيطة بالمدينة لكسب لقمة العيش لهم ولأسرهم، وذلك قبل وجود المدارس وتوفر الوظائف الحكومية في تلك الحقبة البعيدة..، فضيوف آل معمر باستمرار ليلاً ونهاراً فيقدموا لهم ما تيسر من أطعمة وأعلاف لمواشيهم ودوابهم، فصدورهم رحبة لا تمل وجوه الأضياف من عابري الطريق، فالأسماع دائماً تلذ لذكرهم لما يتمتعون به من سخاء وكرم، وبعد هذا الاستطراد الذي ألزمنا بالتنويه بأفضال الذين خلد التاريخ لهم ذكراً حسناً وسمعة يعبق أريجها..، إلى الحديث عن الشيخ عميد أسرة آل معمر (أبو سعد) - رحمه الله - وحفاوته وإكرام من يؤمه سواء أثناء عمله المشرف في تلك المدن والمحافظات، أو بعده بل وقبيل رحيله: كنا نزوره على فترات متقاربة في مزارعه وفي قصره مع بعض الإخوة للاطمئنان على صحته والاستئناس بأحاديثه الممتعة التي لا تمل، وما يتخللها من طرائف وعِبَر، وكان يصر على إكرامنا وتناول طعام العشاء بجانبه رغم ما يعانيه من متاعب جمة وأمراض شتى، كما أن أخاه الشيخ الراحل عبد الرحمن لا يقل عنه حفاوة وإكراماً بضيوفه - آنذاك - رحمهما الله جميعاً، فالكرم سجية من سجايا أسرة آل معمر..، وعندما قدمت لزيارته الزيارة الأخيرة بالمستشفى التخصصي وهو في شبه غيبوبة فسلمت عليه قائلاً أنا محبكم عبد العزيز بن عبد الرحمن الخريف فبادرني بصوت عال وهو في حالة حرجة ابن الشيخ ابن الشيخ! وهي آخر كلمة سمعتها من فيه - تغمده الله بواسع رحمته.

ولقد اشتهر مدة حياته ـ كما أسلفنا ـ بإبادة الخراف صغاراً وكباراً تكريماً لأضيافه مُهلياً ومرحباً والابتسامة لا تبرح شفتيه ولله در (أبو تمام) حيث يقول:

فتى لم تكن تغلي الحقود بصدره
<!--

 

وتغلي لأضياف الشتاء مراجله
<!--

ولئن خلا مكانه منه فإن شخصه يظل ماثلاً في خواطر محبيه مدى الأيام..  رحم الله أبا سعد وأسكنه فسيح جناته وألهم ذويه وأبناءه وبناته وعقيلته أم عبد العزيز وجميع محبيه الصبر والسلوان.

}إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ{.

وغــــابت كريمــــة السجــــايا(<!--)

 

وما المال والأهلون إلا ودائع
<!--

 

ولابد يوماً أن ترد الودائع
<!--

فجائع الأيام تتراء وإن صفت يوماً أعقب صفوها كدر، فالإنسان في هذا الوجود يمر به عقود من الزمن يسعد فيها بين أسرته وأخوته وبين أحبته ورفاق عمره, ويستمر ذاك الترابط والتواد وتحلو الحياة بصحبتهم ورؤيتهم صباحاً مساءً، وعلى فترات من الزمن يتخللها أفراح ومسرات بعيدة عن منغصات الحياة حتى إن الإنسان قد يخال أن أجواء الزمن هكذا صحوا وشروقاً دائماً, فلا يلبث أن يفاجأ بما يكدر خاطرة من رحيل عزيز عليه من الوالدين أو أحدهما أو أخ وصديق، فبينما كنت أتناول طعام الإفطار بعد أذان مغرب يوم الخميس 18/9/1429هـ وإذا برنين الهاتف يحمل خبر وفاة أختي طرفة ـ أم صالح بن عبد الله العجاجي، حيث قال أبنها الأكبر والحزن قد أستوطن في شعاب نفسه ياخال، أظلم منزلنا برحيل الوالدة الذي تزامن غروبها عن الدنيا مع غروب شمس يوم الخميس 18/9/1429هـ فأجبته مسترجعاً " إنا لله وإنا إليه راجعون "وقد ظل المرض مصاحباً لها حوالي تسعة أعوام وهي طريحة الفراش، ولسانها دائماً رطب بذكر الله وتلاوة ما تيسر من قراءة قصار السور ..، ولم تبدي تضجراً أو تسخطاً رغم ما تعانيه من ملل وأمراض متعددة، فهي راضية بما هي فيه من متاعب راجية عظيم الأجر من رب العالمين..، ولقد طوح بي الخيال إلى أيام طفولتي ورعايتها لي فهي بمنزلة الوالدة في حنانها وعنايتها بي كما أنها تخصني ببعض ما يُسعدني من ألعاب وبعض المأكولات مثل "الأقط" وهو لبن مجفف "والفتيت" وشئ من الحبوب، وخاصة وقت ذهاب الوالدة للحج على الجمال ـ آنذاك ـ مدة شهرين تقريباً ذهاباً وإياباً .. وقد أنستني التفكير والتعلق بالوالدة لحسن تعاملها وعطفها ـ رحمة الله عليهما جميعاً ـ ولقد عاشت الأخت ـ أم صالح ـ أكثر من تسعة عقود من الزمن محبوبة وحميدة أيامها ولياليها في محيطها الأسري، ومع جيرانها وصديقاتها اللاتي بكينها كثيراً وحزنّ لفراقها الأبدي لما تتمتع به من حنكة، وخلق كريم وعطف على الصغير والكبير بل وبخدمة المرضى من قريباتها وملازمتهن، سواء في المستشفيات أو داخل بيوتهن، مثل الأخوات والخالات، بل وبرعاية لبعض الأطفال الذين باكرهم اليتم برحيل أمهاتهم وليس بمنازلهم من يرعاهم وخاصة الذين تربطهم بها صلة قرابة ..، فهي تعاودهم ما بين وقت وآخر لتخفيف وطأة اليتم ووحشة فراق وغياب أقرب الناس إلى قلوبهم لمواساتهم وتقديم ما يلزمهم وتفقد ملابسهم..، كل ذلك وفاءً منها واحتساباً للأجر من رب العباد الذي يقول في محكم كتابه العزيز " إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا ". وسيحدث غيابها في الساحة الأسرية فراغاً وفجوة واسعة، ولاسيما من تربطها بهم صلة قرابة وصداقة، ومجورة, فهي معروفة برحابة الصدر وبالتفاني في إسداء المعروف الذي يقي مصارع السوء، وبالعمل الخيري مع جاراتها في الحي والمحلات القريبة من منزلها ..، ولاسيما في سالف الزمان المشهورة بتكاتف وتعاون تلك الأجيال فيما بينهم بصفة عامة, وفي مجالات أخرى مثل مواسم الأعياد والتحضير لعمل ولائم الزواجات، والمناسبات المشابهة لذلك .. فهي تشاطر قريباتها وجاراتها في تحضير بعض الأطعمة لعدم وجود محلات للطبخ, كذالك تساهم في خياطة عدد من ملابس العرائس ومستلزماتهن، فهذا العمل الجميل التعاوني سائد في الأوساط الاجتماعية قديماً:

إذا الحمل الثقيل توازعته 
<!--

 

أكف القوم خف على الرقاب
<!--

فهي مثالية في جميع أعمالها وصفاتها ـ تغمدها الله بواسع رحمته ـ ومما زاد أوارى حزني ما سمعته من شقيقتي الصغرى "هيا" أم الدكتور محمد بن عبد العزيز العقيلي حينما هاتفتها معزياً في أختي الكبرى "أم صالح" قائلة بصوت حزين لامس هضاب قلبها: (ما عاد لي أخوات يا أُخيي)!! ولسان حالها في تلك اللحظة يجيب بمثل هذا البيت:

بلى إن هذا الدهر فرق بيننا 
<!--

 

و أي جميع لا يفرقه الدهر
<!--

ولئن غابت عن ناظري فإن ذكرها العاطر سيبقى خالداً في خاطري مدى عمري..

رحم الله "أم صالح" وأسكنها عالي الجنان وألهمنا "إخوتها" وذويها وأبنائها وأبنتها الجوهرة أم "محمد "  الصبر والسلوان.

" إنا لله وإنا إليه راجعون "

 

 

 

 

 

رحم الله الصديق محمد بن عبدالله العمراني(<!--)

 

وما الناس إلا ظاعن ومودع  
<!--

 

وثاوٍ قريح الجفن يبكى لراحل
<!--

الإنسان حينما يفاجأ برحيل عزيز وقريب أو صديق يشعر بحزن عظيم، وجرح عميق يلامس فؤاده ويصدع قلبه، ولا يلبث أن يسترجع شريط الذكريات الجميلة معه ولا سيما إذا كان الراحل من أترابه ولداته، فتقارب السن يعد ـ أحياناـ من أركان الصداقة وأدومها بقاء في شعاب النفس أمدا بعيدا، فالمرء بحسه وبفطرته ينظر إلى أقرانه ومن عاش معهم في صغره نظرة خاصة عند غيابهم نظرة تشده إلى الماضي البعيد عصر الطفولة والبراءة حتى ولو لم تربطه بهم صلة قرابة أو نسب، فكيف إذا كان الغائب قريبا كريما وصديقا حميما مثل من فجعنا بوفاته وبرحيله العاجل عنا قبيل صلاة فجر يوم الاثنين 6/10/1429هـ بعد ما أومأ شعوب بأن رصيده الزمني من أيام الدنيا قد انتهى تماما إنه الأخ الكريم ابن الخالة محمد بن عبدالله العمراني ـ أبو عبدالعزيزـ ولقد عاش بين أحضان والديه مطيعا وبارا بهما، ومُشاطراً في الأعمال الحرفية والفلاحة مبكراً، فحياته كلها كفاح وعراك ـ أحياناـ مع نظرائه وأنداده، فهو يتصف بالشجاعة والصراحة والعمل الجاد حتى بعد رحيل والديه ـ رحمهم الله جميعاًـ فبيتهم بيت كرم وحب للبذل في أوجه البر والإحسان إلى الأيتام والفقراء، بل هو مقصدا ومأوى للأضياف، وهذه الصفات المحمودة من صفات أسرة آل عمران عموما منذ القدم ولا تكاد تخلو منازلهم من الأضياف،  فأبو عبدالعزيز رجل مهيب ذو نخوة وفزعة جمع بين قوة الشخصية والكرم المستمر، فوجه لا يمل الضيف، وقد اكتسب هذه الصفة الجميلة من أسلافه الذين وارتهم الترب وغابوا عن الوجود ـ رحمهم الله ـ ومن حسن الطالع أن جمع الله بينه وبين "أم عبدالعزيز" حليلته الفاضلة منيرة بنت عبدا لرحمن بن ناصر ـ تغمدها الله بواسع رحمته ـ التي هي خير معين له طيلة حياتها معه تحثه على مضاعفة البذل في أوجه البر وصلة الأرحام وسائر أسرته ومعارفه، ولقد اشتهرت بالبذل السخي في أوجه البر والإحسان إلى الأرامل والأيتام، وتلمس حاجات جاراتها، ولقد انفردت بصفة حميدة لا تماثل وخاصة أيام وجود المستشفى مجاوراً لمنزلهم بحريملاء، فهي تهتم بالمريضات المنومات بقسم النساء والولادة وبالذات الغريبات منهن حديثات الولادة فتحضر لهن ملابس لمواليدهن، وتمهدهم بطريقتها الخاصة، كما تزودهن بمستلزماتهن.. بجانب ما تقدمه من شوربة وطعام خاص لهن كل ذلك حب منها للمساكين ورجاء المثوبة من رب العالمين، كما لا ننسى إكرامها وحفاوتها بوالدتي ـ رحمها الله ـ عندما تزورهم بمنزلهم فهي تبالغ في إكرامها وتهيئ لها الفراش الوثير عند مبيتها عندهم حيث تظل لديهم يوما أو يومين .. ولقد أحدث رحيلها ـ رحمها الله ـ فجوة واسعة في محيطها الأسرى، والاجتماعي لما تحلى به من كرم وسجايا حميدة، كما أن بعلها محمد قد تأثر كثيرا وحزن على فراقها حزنا طويلا ساوره حتى لحق بها.. فأضجع على مقربة من جدثها:

مُجاور قوم لاتزور بينهم   
<!--

 

ومن زارهم في دارهم زار همدا
<!--

فذكريات الطفولة مع (أبوعبدالعزيز) باقية ومحفورة في جدار الذاكرة لا يمحوها كر الجديدين، وكنت أنا ورفيق عمري الراحل: محمد بن عبد العزيز المشعل نأتي إلى نخل أخوالنا وخالاتنا بصحبه والداتنا بين آونة وأخرى، فنجدها فرصه لمزاولة السباحة بالبرك جميعا، ونتسلق فسائل النخيل القصيرة، ثم نجمع بعض العسب وننزل متزحلقين عده مرات، فهي تشبه إلى حد ما الألعاب الحديثة الآن، ومثل ذلك تسابقنا على ركوب الحمير كأننا خياله في امتطائها فنجد في ذلك متعه لا يضاهيها شيء من متع الدنيا "آنذاك" فمزاولة تلك الأشياء تجدد نشاطنا الجسمي والذهني معا، وستبقى ذكريات أيام وليالي تلك الحقبة الزمنية التي قضيناها  في لهو ومرح ماثلة في مخيلتي حتى ارحل إلى العالم الباقي. رحم الله أبا عبدالعزيز، واسكنه فسيح جناته والهم ذويه وأبنائه وبناته وإخوته ومحبيه الصبر والسلوان.

 (إنا لله وإنا إليه راجعون).

 

 

 

 

 

 

 

 

أبو طارق المهيزع إلى رحمة الله(<!--)

 

margin-left:
mager22

فقد ورثاء ( عبد العزيز بن عبد الرحمن الخريف )

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 245 مشاهدة
نشرت فى 30 سبتمبر 2013 بواسطة mager22

الشيخ د /صالح الأطرم عالم فقدناه(<!--)

 

وإذا الكريم مضى وولى عمره  
<!--

 

كُفِــل الثـناء له بعـمرٍ ثان
<!--

من طبيعة الإنسان السّوي في هذا الوجود الميل إلى صحبة الأخيار والاستئناس بهم وبأحاديثهم، وبالأخذ والعطاء معهم، وتبادل المصالح والمنافع حسب طبيعة كل إنسان، والتعاون فيما بينهم في شؤون الحياة عامة وفي سائر المجالات الأخرى ..، فحلاوة الدنيا ومسراتها تَعْذبُ وتحلُو بتعدد معارف الإنسان من الأصدقاء ورفاق العمر، ولكن شَعوباً ينغصها ويكدر صفوها برحيل الواحد تلو الآخر من أولئك الأحبة ..

ففي يوم الجمعة 26/12/1428هـ فُجعنا برحيل ومغادرة الحياة الزميل الفاضل الشيخ د/ صالح بن عبد الرحمن الأطرم عضو هيئة كبار العلماء زميلي في تلقي مبادئ العلم لدى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم مفتي الديار السعودية ـ آنذاك ـ وفضيلة الشيخ عبد اللطيف بن إبراهيم بمسجد الشيخ محمد بن إبراهيم بدخنة عامي 69/ 1370هـ رحمهم الله جميعاً ـ وزميل الدراسة بالمعهد العلمي عامي 73/1374هـ بعد عودتنا من دار التوحيد بالطائف ..

والحقيقة أن توالي رحيل الزملاء أمثال الشيخ صالح محزن جداً ومحدث فراغاً موحشاً وموجعاً لنفسي فأنا كلما أخلو بنفسي تجول بخاطري أطياف أحبتي ورفاق دربي، وأحس بوحشة الفراق والغربة في هذا الوجود:

إذا ما مضى الجيل الذي أنت منهم    
<!--

 

وعمرت في جيل فأنت غريب!
<!--

ولقد ترعرع فضيلة الشيخ في أكناف مدينة الزلفي المعروفة برجالها الذين يغلب عليهم طابع الجد والحرص على اقتناص العلم، والصلابة في الرأي والتفاني في النهوض ببلادهم ..، ثم شخص إلى الرياض مبكراً لطلب العلم هناك لدى المشايخ على يدي سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم وأخيه الشيخ عبد اللطيف بمسـجد الشيخ محمد وفي منزله أيضاً.. وبعد افتتاح المعهد العلمي عام 1371هـ ألتحق به حتى نال الشهادة الثانوية عام 1374هـ ثم واصل الدراسة بكلية الشريعة وحصل على الشهادة العالية بتفوق عام 1378هـ، ثم عين مدرساً وعضواً في هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية وأخيراً عضوا بارزاً في هيئة كبار العلماء وفي اللجنة الدائمة للإفتاء إلى أن أدركته بعض الأمراض وظلت مصاحبة له سنوات عّدة حتى أختاره المولى جواره يوم الجمعة 26/12/1428هـ ـ كما أسلفنا ـ وصلى عليه بعد صلاة العصر آلاف المصلين يؤمهم سماحة المفتي الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ، بمسجد الراجحي .. ثم تبعه إلى مراقد الراحلين بمقابر حي النسيم خلق كثير من محبيه وتلامذته والمشيعين، ولم أر كثافة مثل ذاك المشهد المحزن الذي تبودلت فيه التعازي والدعاء له بالمغفرة وطيب الإقامة في جدثه إلى أن يأذن الله للخلائق بالنهوض والوقوف أما م الموازين القسط، والسير على الصراط المستقيم إلى دار النعيم لمن كسب خيراً في الدنيا وشملته رحمة المولى، ونرجو لأبي عبد الرحمن أن يكون من الذين يؤتون أجورهم مرتين جزاء ما تركه من آثار طيبة وأعمال جليلة، .. فهو محبوب لدى مجتمعه وأسرته وتلاميذه، ولقد أحسن الشاعر عبد الغفار الأخرس حيث يقول:

ولفقده في كل قلب لوعة   
<!--

 

ولذكره في حمده ترديد
<!--

فزوال ذاك الطّود بعد ثباته    
<!--

 

ينبيك أن الراسيات تبيد
<!--

وكان أثناء تلقيه العلم عامي 69/1370هـ يسكن في أحد البيوت التي خصصها جلالة الملك عبد العزيز ـ رحمه الله ـ لطلبة العلم هو وبعض الزملاء أمثال فضيلة الشيخ محمد بن ردن البداح يتدارسون في العلم وحفظ المتون مثل كتاب التوحيد والعقيدة الواسطية وكشف الشبهات وغير ذلك من الكتب المفيدة في الحديث والفقه ..، وينظم إليهم الزميل الوفي محمد بن علي بن خميس في استذكار الدروس والتسميع لهم في القراءة لأنهما فاقدي البصر، ويستعينان به دائماً حيث يقضون جل أوقاتهم ولياليهم في الحفظ وتداول الأمثلة في النحو وإعرابها فوقتهم في تلك الحقبة الزمنية وقت جد كله خير وبركة في التحصيل العلمي وتخزينه في بنك الذاكرة، وذلك لكثرة فاقدي الإضاءة البصرية، ولندرة الكتب والمراجع ..، ولقد أفرغ أبوعبد الرحمن في صدور وأعالي رؤوس تلامذته الكم الخالص من العلم وحلو رضابه، فكلامه ـ رحمه الله ـ وجيز وعلمه غزير خالي من حشو الكلام سريع تقبله واستقراره والتصاقه في جدران الذاكرة، وكأن بمن سعد بتلقي العلم على يديه حينما يتذكره بعد أن رحل إلى الدار الباقية يردد بين جوانحه هذا البيت:

تولى وأبقى بيننا طيب ذكره 
<!--

 

كباقي ضياء الشمس حين تغيب
<!--

ولئن غاب عنا أبو عبد الرحمن وأخفت الترب جثمانه الطاهر فإن علمه وذكراه العطرة باقية في نفوسنا ونفوس محبيه مدى الأيام.. والعزاء في ذلك كله أنه خلف ذرية صالحة تدعوا له وتجدد ذكره ممثلة في أبنه الأكبر عضو مجلس الشورى الشيخ د/ عبد الرحمن وبقية ذريته الكريمة...

رحم الله أبا عبد الرحمن وأسكنه فسيح جناته وألهم ذريته وأبنائه وبناته وشقيقه محمد ومحبيه الصبر والسلوان.

                   "إنا لله وإنا إليه راجعون.

رحمك الله يا أبا نبيل(<!--)

 

بدا لي أن الناس تفنى نفوسهم   
<!--

 

وأموالهم، ولا أرى الدهر فانيا
<!--

ما أكثر فجائع الليالي والأيام وتوالي الأحزان القريبة في هذا الزمان، حيث تتابع رحيل الكثير من الأهل والأحبة ورفاق العمر .. ، وهذه سنة الحياة فظاهر الأرض يستقبل الوافدين وباطنها يحتضن الراحلين إلى يوم النشور يوم يجمع الله الخلائق في صعيد واحد للجزاء والحساب، ففي صباح يوم الاثنين 23/3/1429هـ هاتفني الأستاذ الزميل/ ابراهيم بن عبدالعزيز العقيلي من جدة قائلا عظم الله أجركم في زميلنا الأستاذ الأديب/ عبدالله بن سليمان الحصين ـ أبو نبيل ـ أحد ابرز طلاب دار التوحيد بالطائف وبكلية الشريعة بمكة المكرمة حيث لبى داعي المولى مودعا آفاق مدينة جدة التي قضا فيها شطرا كبيرا من عمره، فقلت مسترجعا (إنا لله وإنا إليه راجعون) وفجأة طوح بي الخيال إلى أول لقاء به في فناء دار التوحيد عام 1371هـ ولقد تلقاني بكل ترحاب وهنئني بالقبول والانتظام بالدراسة هناك، وأخذ يملي علي بعض النصائح الأخوية باختيار الصحب الأخيار، وبالمثابرة في الجد والإنصات إلى شرح المعلمين والحرص على توسعة المدارك بكثرة الإطلاع على الكتب الأدبية والمجلات المفيدة وما تيسر من صحف، فالصحافة تكاد تكون معدومة أو قليلة جدا في تلك الأيام، وكان ـ رحمه الله ـ قدوة حميدة في حب القراءة والاطلاع على ما يجد في عالم الثقافة والمجلات التي تصل من القاهرة ولبنان إلى بعض مكتبات الطائف مثل: مكتبة الأستاذ/ محمد سعيد كمال العريقة، ومثلها مكتبة المؤيد بمحلة الشرقية ومكتبة الزايدي عند باب الريع، ومثله في حب القراءة ابن عمه الشيخ/ سعد بن عبدالرحمن الحصين بل معظم طلاب الدار يتنافسون في اقتناص العلوم والفوائد من عدة مصادر، فالأستاذ عبدالله شعلة في النشاط الثقافي والخطابي، وكان يرأس النادي ويشجعنا على علو منبره للتعود على الخطابة والارتجال، وطرح رداء الخجل والتهيب متمثل بهذا البيت:

بوركت يا عزم الشباب وقدست   
<!--

 

روح الشجاعة فيك والإقدام
<!--

وقد أكد علي أن ألقي كلمة أمام الجمهور ـ وهي الوحيدة ! فاستعنت بزميل الدراسة لا زميل فصل الشيخ الدكتور عبدالعزيز بن محمد العبدالمنعم آمين هيئة كبار العلماء بدار الإفتاء حاليا، فأعد الكلمة بعنوان (من وحي الغربة) فألقيتها وأنا مشدود الأعصاب أمام جموع غفيرة في مقدمتهم سعادة أمير الطائف عبدالعزيز بن فهد المعمر، وسعادة محمد بن صالح بن سلطان وكيل وزارة الدفاع – آنذاك ـ ، ومعالي الشيخ محمد سرور الصبان الذي كان يدعم مكتبة الدار بالمال ـ رحمهم الله جميعا ـ ، ولفيف من الضيوف والزوار والمعلمين، وكانت أيام و ليالي الطائف كلها نشاطات وتألف بين الزملاء ومعلميهم، ومعظمهم من فطاحل علماء الأزهر أمثال المشايخ: عبداللطيف سرحان وشقيقه عبدالسلام وعبدالرحمن النجار، وعبدالمنعم النمر، ومحمد الطيب النجار، والشيخ طه الساكت، ومحمد سليمان رشدي وغيرهم من أفذاذ العلماء الأجلاء ولقد أحسن أمير الشعراء أحمد شوقي حيث يقول:

قم في فم الدنيا وحي الأزهرا   
<!--

 

وانثر على سمع الزمان الجوهرا
<!--

رحمهم الله جميعا، وقد تعين الأستاذ عبدالله الحصين رحمه الله بالمديرية العامة للإذاعة والصحافة ... ، ثم تسنم عددا من المناصب الهامة منها: مدير عام التعليم بمنطقة الطائف، ثم مدير عام التعليم بمنطقة جدة، ثم مدير عام البعثات الخارجية بوزارة التعليم العالي، وكان عضوا بارزا في مجلس منطقة مكة المكرمة، وتولى رئاسة تحرير جريدة المدينة فترة من الزمن، وزاول الكثير من الأعمال المشرفة في خدمة الوطن وأهله ..، فهو صحفي وكاتب مجيد قلمه طيّع بين أنامله كثير الظمأ والرشف من بحيرات المحابرـ آنذاك ـ، ولقد أفنى الكثير من الأقلام التي تسيرها أفكاره النيرة التي تنحدر من هضاب قلبه، ومن أعالي رأسه ..، وكان يحثني دوما على البقاء بالطائف لإتمام الدراسة بالمرحلة الثانوية لطيب هواه واعتدال جوه، والابتعاد عن مشاغل الأهل والمحيط الأسري بحريملاء، مرددا قول أبي تمام حيث يقول:

وطول مقام المرء في الحي مخلق  
<!--

 

لد يباجتيه فاغترب تتجدد
<!--

ومذكرا بقول الإمام الشافعي ـ رحمه الله ـ

ما في المقام لذي عقل وذي أدب
<!--

 

من راحة فدع الأوطان واغترب
<!--

سافر تجد عوضا عن من تفارقه  
<!--

 

وانصب فإن لذيذ العيش في النصب
<!--

ولكن نظرا لرغبة الوالدين ـ رحمهما الله ـ لأكون على مقربة منهما انتقلت إلى المعهد العلمي بالرياض في بداية عام 1373هـ بالسنة الثالثة، أنا وبعض الزملاء أمثال الأستاذ عبدالله الحمد الحقيل، والدكتور محمد بن سعد الحسين والدكتور محمد بن عبدالرحمن المفدى، ومعالي الدكتور عبدالعزيز بن محمد العبدالمنعم، وغير هؤلاء الأخوة الكرام ..، ولنا مع (أبو نبيل) ذكريات جميلة لا تغيب صداها عن البال أبد الأيام ..، حيث كنا بالقسم الداخلي (المهجع) متجاوري الغرف فإذا تعبنا من استذكار الدروس روحنا عن أنفسنا بالمساجلات الشعرية وببعض الطرائف الأدبية الخفيفة .. كذلك ليالي الرحلات المتعددة نقضيها في مسامرات أدبية وتمثيليات هادفة منها رحلة وادي عشيرة الواقعة شمال الطائف فقد أصاب الأستاذ عبدالله في تلك الأمسية مرض مفاجئ يقال له ((الخاطر)) فقال الأخ إبراهيم الحمدان ـ متعه الله بالصحة ـ أحد العاملين في دار التوحيد متطببا أحمو الحديد بالنار نبطه ..، ! في باطن عرقوبة الأيسر لعل الله يشفيه وقد أمسكوا به فلما رأى احمرار الحديد رفع صوته منزعجا قائلا طبت طبت .. ؟. وقد شفي بحمد الله وهذه من طرائف الرحلات هناك ..، وكانت ليالينا كلها أنس ومسرات وهذا مما خفف عنا وحشة الغربة والبعد عن الأهل..،  ولا يسعنا في هذه العجالة المحزنة إلا أن نرفع أكف الضراعة داعين لأبي نبيل بالمغفرة وطيب الإقامة في جدثه إلى أن يبعث الله جميع الخلائق، وأن يلهم ذويه وأبنائه وزوجته ومحبيه الصبر والسلوان ملوحا بهذا البيت للشاعر الأديب محمد بن سليمان الشبل:

يا راحلا شرقت روحي بلوعته  
<!--

 

ورف لي منه أيام ومدكر!
<!--

(إنا لله وإنا إليه راجعون).

رحم الله الشيخ سعيد الجندول(<!--)

 

ما زال يلهج بالرحيل وذكره
<!--

 

حتى أناخ ببابه الجمالُ
<!--

بعض المفاجآت المؤلمة غير المتوقعة يكون نزولها على القلب موجع جداً، وأكثر إيلاماً وأطول مكثاً داخل النفس قد تبقى آثارها ساكنة سنين عديدة، يتعذر محوها أو طمسها من جدار الذاكرة، ويختلف وقوعها حسب قرب الأشخاص من القلب سواء قرابة رحم وأسرة أم قرابة محبة وصداقة، وعلى أي حال هي موجعة حتماً، ولاسيما الرحيل الأبدي لأقرب الناس وللأحبة، فقد هاتفني أحد أبناء الزميل الراحل الشيخ عبد العزيز بن عبد الله السحمان قائلا : عظم الله أجركم في  الخال الشيخ سعيد الجندول الذي لاقى ربه في يوم الأربعاء 18/3/1429هـ بعد حياة حافلة بالعطاء والكفاح المستمر في خدمة الوطن وأهله في كثير من مواقع العمل الوظيفي والتطوعي ـ غفر الله له ـ ولقد ولد في مدينة ليلى بالأفلاج سنة 1341هـ ، وترعرع في أكنافها بين أهله ورفاق عمره، وقد بدأ تعلمه في الكتاب حينما بلغ سن السابعة من عمره لحفظ القرآن الكريم، فلما أتمه قرآة وحفظاً لعدد من أجزائه رحل إلى الرياض، وتتلمذ على المشايخ : فضيلة الشيخ عبد اللطيف بن إبراهيم وعلى سماحة مفتي الديار السعودية ـ آنذاك ـ الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ بحلقات مسجده بدخنه، بعد ذلك شخص إلى مكة المكرمة وتلقى بعض الدروس على الشيخ عبد الله بن حسن وعلى الشيخ محمد بن مانع في أروقة المسجد الحرام ـ رحم الله الجميع ـ وحينما لحظ  الشيخ محمد بن مانع عليه مخايل الذكاء والنجابة، وسرعة الحفظ أشار عليه مؤكداً الالتحاق بدار التوحيد بالطائف، فلم يرى بداً من تلبية نصحه وحرصه علية فأتجه صوب الطائف ليلتحق بركب الدارسين هناك، ويعتبر الشيخ سعيد من خيرة طلبة دار التوحيد الذين تروو من رضاب العلوم والآداب على يدي نخبة منتقاة من العلماء، ومن فطاحل علماء الأزهر الذين اختارتهم مديرية المعارف العامة كمعارين ومنتدبين من إدارة الأزهر بالقاهرة بتوجيه من جلالة الملك عبد العزيز ـ طيب الله ثراه ـ ، فأولئك النخبة يعتبرون من الطراز الأول علماً وخلقاً، وثقافة واسعة، فقد فتقوا أذهان طلابهم من عمق علومهم وفيض ثقافاتهم العامة، وقد عين جلالته الشيخ محمد بهجت البيطار أول مدير لدار التوحيد، ثم خلفه فضيلة الشيخ محمد بن عبدالعزيز المانع معينناً شيخنا الفاضل عبد المالك طرابلسي مديراً لها مع إشرافه عليها إشرافاً تاماً بجانب عمله الأساسي، وبمتابعة الملك عبد العزيز حيث أولاها جل اهتماماته لحاجة البلاد إلى قضاة، ومعلمين ومرشدين، وأئمة مساجد ـ رحمهم الله جميعاً ـ وتعتبر دار التوحيد أول مؤسسة علمية فريدة تعنى بالعلوم الشرعية وباللغة العربية وفروعها ..، ولقد خرجت الكثير من الأفواج الذين تسنموا المناصب القضائية العالية والتعليمية، ومنهم الخطباء والأئمة في الجوامع وفي المسجد الحرام أمثال: الشيخ عبد الرحمن الشعلان، والشيخ سعيد الذين نتحدث عنه في هذه العجالة، وفي عام 1371هـ أمر جلالة الملك عبد العزيز وولي عهده الملك سعود ـ رحمهما الله ـ بافتتاح المعهد العلمي بالرياض وفي بعض المدن، ووكل الإشراف عليها إلى سماحة مفتي الديار السعودية وإلى أخيه فضيلة الشيخ عبد اللطيف ـ رحمهم الله جميعاً ـ ومن هذا المنطلق اتسعت رقعة التعليم عامة في جوانب المملكة تدريجياً حتى وصلنا إلى الذروة في مصاف الدول المتقدمة، كل ذلك بفضل من الله، ثم باهتمامات ولاة أمر هذا الوطن بدأ من المؤسس الملك عبد العزيز وحتى عصرنا الحاضر الزاهر الذي يرعاه بكل عناية خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله ابن عبد العزيز وولي عهده الأمين سلطان بن عبد العزيز، وجميع العاملين في حقل التربية والتعليم ـ وفقهم الله لكل ما يسعد المواطن والمقيم معاً، فالشيخ سعيد الجندول ـ رحمه الله ـ معروف بالاستقامة ودماثة الخلق والتواضع الجم منذ فجر حياته، ولقد سعدت بمعرفته عن قرب قبل انتقاله إلى كلية الشريعة بمكة المكرمة في آخر المرحلة الدراسية بالدار، وأنا بالصف الأول عام 1371هـ وكنا نلتقي به في بعض الأمسيات الحبيبة إلى قلوبنا في منزل زميلنا الراحل الشيخ عبد العزيز بن عبد الله السحمان الواقع في حي الشرقية بمدينة الطائف، فهو خال لأبناء الشيخ عبد العزيز، فنستفيد من بعض توجيهاته القيمة حيث يحثنا على حفظ الوقت واستثماره في استذكار الدروس وحفظ المتون والنصوص الأدبية، وجيد الشعر لإثراء الحصيلة العلمية واللغة العربية، قائلاً: من حفظ حجة على من لم يحفظ ـ تغمدهم الله بواسع رحمته ـ فنحن نغبطه حينما يعلو منصة النادي وهو يلقي الكلمات الجزلة الهادفة بكل طلاقة وشجاعة الذي يقام في ليالي الجمع برئاسة عبد العزيز بن عبد المنعم بالتناوب مع بعض الطلبة لوجود التنافس والرغبة في التفوق الخطابي فمنبر نادي دار التوحيد مدرسة للخطباء والشعراء فكم توالى على اعتلائه من أفواج أصبحوا أعلاماً في الخطابة والارتجال في المحافل الكبيرة، فالتدريب للشباب في كل جانب من جوانب الحياة مطلب مُلح، ولقد أجاد الشاعر حيث يقول:

وتشقى حياة مالها من مدرب
<!--

 

وتشقى بلاد ليس فيها مدارس
<!--

وكان بجانب دراسته يقوم بمهام الإمامة والخطابة بمسجد الهادي في وسط الطائف مشنفاً ومؤنساً أسماع المصلين بصوته الجميل، وبالتوجيهات السديدة والوعظية المؤثرة في نفوس المأمومين من فوق ذاك المنبر العالي الذي تعاقب عليه عدد من طلاب الدار بعده، وبعد تخرج الشيخ سعيد من كلية الشريعة بمكة عين إماماً وخطيباً بالمسجد الحرام، علماً أنه بدأ الخدمة بعد تخرجه مباشرة مديراً للمعهد العلمي السعودي بمكة المكرمة، ثم مساعداً لمدير التعليم بمكة، بعد ذلك أنتقل إلى جهاز وزارة المعارف مساعداً لمدير عام التعليم .. ، بعد ذلك عين نائباً لرئيس هيئة التأديب وحتى عام 1403هـ ، ثم وكيلاً لرئيس ديوان المظالم ..، وبعد التقاعد أصبح مستشاراً شرعياً بوزارة الحج ولأوقاف ثم كلف بالإشراف على إنتاج مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة، ثم أخلد للراحلة وملازمة الجلوس بالمسجد المجاور لمنزله بعد أن أبلى بلاً حسناً عبر رحلة العمر الطويلة في عدد من المناصب كما أسلفنا .. ، وله مؤلفات عدة رحمه الله رحمة واسعة ..، ولأن خلا مكانه من شخصه فإن ذكراه الطيبة ستبقى في مضمر النفس مدى العمر ـ تغمده الله بواسع رحمته ـ وألهم ذويه وأبنائه وإخوته وزوجاته ومحبيه الصبر والسلوان ..

(إنا لله وإن إلية راجعون )

 


ورحل الدكتور صالح بن عبدالله المالك(<!--)

 

نبكي على الدنيا فما من معشر
<!--

 

جمعتهم الدنيا فلم يتفرقوا !
<!--

بينما المرء يعيش مغتبطا بين أهله ورفاقه، أو بين رئيسه ومرؤوسيه جذلا في عز ورفعة يسير كيف شاء يمنة أو يسرة جادا في طلب تحقيق أماله ومآربه، وطموحاته الحياتية المتلاحقة التي لا تنتهي ما دام حيا، ولم يدر بخلده وقوع أي شيء من منغصات صفو عيشه وملذاته، أو أي سبب لهلاكه وموته، ولا سيما من كان يتمتع بصحة جيدة، وبمكانة عالية في محيطه الأسري، والاجتماعي والعملي معا، وقد يفاجأ بمرض طارئ مارد ومخيف لا يتفاعل مع الكوابح الدوائية التي كثيرا ما يستعين بها مهرة الأطباء مع مرضاهم، فقد يأذن الله بشفائهم على أيديهم، وقد تعييهم الحيل، وحينما يعلم ويتأكد بحلول ذاك المرض داخل خلاياه الجسمانية ولم تجد فيه الأدواء الطبية فأنه قد يصاب بانهيار نفسي أو يستسلم للواقع ويحاول الأخذ بشتى الأسباب عله ينجو ويعطى فسحة من العمر، ولكن هيهات أن يتأتى له ذلك وقد سطر في عالي جبينه مقدار نصيبه من أيام الدنيا الفانية التي لا يتسنى التأخير ولا التقديم فيه أبدا، فها هو الأخ الدكتور صالح بن عبدالله المالك قد تزامن غيابه عن الدنيا مع غروب شمس يوم الاثنين 21/5/1429هـ وتوارى عن الوجود وعن أحبابه حميدة أيامه ولياليه الحافلة بالعطاء الوظيفي وتعدد المناصب العالية بدأ من تعيينه معيدا في جامعة الملك عبدالعزيز، ثم أستاذا بنفس الجامعة بعده عين مديرا عاما بجامعة الإمام محمد بن سعود، ثم وكيل لوزارة الشئون البلدية والقروية ووظائف أخرى، وأخيرا أمينا عاما في مجلس الشورى، وكان يتمتع بالحنكة والدراية، والمهارة في تذليل وتخطي العقبات بسهولة التي قد تعترض مسارات العمل الذي كان يرعاه في كثير من المواقع الهامة التي يرأسها ويشرف عليها، مع تنوير وتوجيه العاملين معه بكل لطف، وإيماءات خفيفة تجعلهم يتفاعلون ويتقبلون ذلك بنفوس طيبة، وصدور رحبة تدفعهم على الإخلاص والجد، والمسارعة في إنجاز ما يوكل إليهم من أعمال ونشاطات مختلفة، ولله در القائل:

والنفس إن دعيت العنف آبية
<!--

 

وهي ما أمرت بالرفق تأتمر
<!--

فالدكتور صالح - رحمه الله - محبوب لدى مجتمعه الأسري، ومع زملائه بل وجميع العاملين معه في جميع المناصب التي تسنمها لما يتمتع به من دماثة خلق ولين جانب، ولقد أكسبته التجارب وتلك الأعمال المنوطة به خبرة واسعة في حسن الأداء الوظيفي، والإداري مع رحابة أفقه ومعرفته بأحوال الناس على اختلاف طبقاتهم ومستوياتهم ..، فهو بفطرته وحنكته يستسهل كل الصعاب، وأذكر جيدا يوم كان طالبا بكلية الشريعة أنه على مستوى من الذكاء والفطنة، عالي الهمة يحاول الجمع بين الشهادتين في عام واحد فيسرع في كتابة الأجوبة في الدور الأول، ثم يخرج من صالة الاختبار مبكرا ليتمكن من أداء الاختبار من جامعة الملك سعود ـ رحمهما الله ـ الواقعة على شارع الملز ـ آنذاك - ، وقد يترك الفترة الثانية إن وجدت بالدور الثاني إذا رأى أنها تتعارض مع مصلحته الدراسية، وفي النهاية يحصل على شهادتين في عام واحد، وهذا يدل على ثقته في نفسه وعلو همته وكأن الشاعر العربي يملي عليه هذا البيت :

إذا كنت ترجوا كبار الأمور
<!--

 

فأعـدد لها همـة أكــبرا
<!--

وقد فعل – رحمه الله – فأبوا هشام صديق عزيز وزميل دراسة لا زميل فصل، وإنما زميل الفصل الأستاذ الشاعر صالح الحمد ـ متعه الله بالصحة والعافية ـ فاستمر في التحصيل العلمي والتربوي حتى نال الشهادات العالية..، ثم ابتعث إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وظل هناك بضع سنين حتى حصل على درجات علمية متخصصة في مجالات مختلفة منها: اللغة الإنجليزية من جامعة (إنديانا) ثم درجة الدكتوراه من جامعة متشجن الأمريكية مع مرتبة الشرف، ثم عاد إلى أرض الوطن مغتبطا مسرورا وكله ثقة بأن يجد ويخلص في أداء أي عمل يوكل إليه .. ، وهذا يدل على حذقه ومهارته ـ رحمه الله ـ وقد بدأ مشواره الوظيفي بجامعة الملك عبدالعزيز، وأخيرا أمينا لمجلس الشورى ـ كما أسلفنا آنفا - ، ولنا مع (أبو هشام) ذكريات جميلة لا تغيب عن خاطري أبد الدهر .. ، منها الرحلة إلى محافظة المجمعة منذ أعوام على متن حافلة فخمة ذات الطابقين لحضور حفل المجمع التعليمي الذي أقيم على نفقة معالي الشيخ عبدالعزيز بن عبدالمحسن التويجري رجاء المثوبة من المولى، ووفاء منه لموطن أبائه ومراتع صباه ـ رحمهما الله رحمة واسعة - ، برئاسة معالي الدكتور محمد بن احمد الرشيد وزير التربية والتعليم الأسبق التي ضمت كوكبة منتقاة من رجال التربية والتعليم والعلماء ورجال الأعمال ذهابا وإيابا، وقد أتحف أبو هشام الجميع في تلك الرحلة بأشعاره التي تمتاز بالرقة وعذوبة اللفظ، ولا غرابة فإن الدكتور صالح قد ولد في مدينة الشعراء مدينة الرس وترعرع في أكنافها بين والديه، وبين أترابه ولداته حتى حصل على الشهادة الابتدائية، ثم اتجه صوب مدينة الرياض ليلتحق بالمعهد العلمي مواصلا الدراسة بكلية الشريعة، وفي تلك الفترة حصل على الشهادة الثانوية من دار التوحيد بالطائف عام 1375هـ ، ثم اتجه إلى كلية الشريعة اللغة العربية بمكة المكرمة فهو قد ملأ وقته متنقلا بين مواقع كثر للتروي من ينابيع العلوم والمعرفة، ثم اختتم مساره العلمي بالحصول على درجة الدكتوراه في علم الاجتماع الحضري من الولايات المتحدة ـ كما أسلفنا أنفا - ، والآن وقد دفن ودفنت معه تلك المعلومات التي أفنى زهرة عمره في اقتناصها وتحويشها .. ، وذكرياته الجميلة في دار الغربة أيام الدراسة هناك، وكان يترنم بها ويرددها في خاطره دوما..! ، ولم يبقى منها بيننا سوى طيب ذكره، وما أودعه من معلومات في أذهان تلامذته، وبعض كتبه ومذكراته..، وديوانه صغير الحجم كبير المعنى الذي توجه بقصيدة حرى في رثاء والدته الحنون التي تعتبر واسطة العقد بين القصائد مؤثرة جدا أفرغها من عصارة فؤاده حزنا ولوعة على فراقها، يقول في مطلعها:

لموتك يا أماه ينفطر القلب
<!--

 

وتلتاع مني النفس والعين واللب
<!--

ولو كنت أدري أن حتفك عاجل
<!--

 

لما شغلتني عنك أرض ولا حب
<!--

وقد فاضت روحها وفارقت جسدها الطاهر وهو نائي المحل عنها بدار الغربة بمدينة (شيكاغو) الأمريكية لمرافقة ابنه عبدالله في مرضه، وحين ما علم بذلك النبأ الذي أفزعه وراعه سارع بالعودة إلى الوطن في أقرب رحلة ليسعد بالصلاة عليها وإنزالها باللحد، وقد كان له ذلك، فالحي مهما تباعدت به الأوطان يرجى إيابه، ولكن غائب القبر لا يعود أبدا:

والشرق نحو الغرب أقرب
<!--

 

شقة من بعد تلك الخمسة الأشبار
<!--

وكان ـ رحمه الله ـ ولوعا بالأسفار في جوانب الأرض وأقاصيها حيث طاف حول العالم، وأروى غلة نفسه وعواطفه، ومتع ناظريه من جمال الطبيعة في تلك الأماكن التي مر بها في حياته الدراسية الطويلة والسياحة معا، مما أثرى مخزون ذاكرته لأن العين تلتقط صورا من تلك الأماكن والبقاع النائية والدانية، فترسلها إلى مستودعات الذاكرة ليقتات منها في خلواته عندما يخلد إلى الراحة أو لإمتاع جلسائه بسرد بعضها، ولقد استقيت بعضا من المعلومات عنه بواسطة شريط سجلته عبر الإذاعة في 14/1/1405هـ في حوار معه ومع صديقه الدكتور عبدالله المصري وكيل مساعد للشئون الثقافية والآثار والمتاحف ـ آنذاك ـ ولا زلت محتفظا بذلك الحوار تذكارا طيبا لأيامنا الأول وما تخللها من رحلات متعددة ..، ومساجلات شعرية لم يبقى منها سوى رنين الذكريات، وحينما أحس بدون أجله بادر برصد بعض أشعاره وهو على السرير الأبيض سرير الرحيل الأخير، وقد سماه (إخوانيات) ليقرأه ويردده من بعده مترحما عليه، ولسان حاله في تلك اللحظات الحزينة يتمثل بهذه الأبيات اللطيفة المؤثرة التي رثا نفسه بها الشاعر الأبيوردي:

تبلى الأنامل تحت الأرض في جدث
<!--

 

وخطها في كتاب يؤنس البصرا
<!--

كم من كتاب كريم كان كاتبه
<!--

 

قد ألبس الترب والآجر والحجرا
<!--

يا من إذا نظرت عيناه كتبتنا
<!--

 

كن بالدعاء لنا والخير مدكرا
<!--

رحم الله أبا هشام، وألهم ذويه وذريته، وزوجتيه أم هشام وأم سلطان، ومحبيه بالصبر والسلوان " إنا لله وإنا إليه راجعون ".

<!--[if !supportFootnotes]-->

<!--[endif]-->

(<!--) نشرت في صحيفة الجزيرة، يوم الخميس، 2 محرم1429هـ.، الموافق 10 يناير 2008م.

(<!--) نشرت في صحيفة الجزيرة، يوم الخميس 26 ربيع الأول 1429هـ، الموافق 3 إبريل 2008م.

(<!--) نشرت في صحيفة الجزيرة، يوم الأحد 7 ربيع الآخر1429هـ، الموافق 13 إبريل 2008م.

(<!--) نشرت في صحيفة الجزيرة، يوم الأربعاء 23 جمادى الأولى1429هـ، الموافق 28 مايو 2008م. 

mager22

فقد ورثاء ( عبد العزيز بن عبد الرحمن الخريف )

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 337 مشاهدة
نشرت فى 30 سبتمبر 2013 بواسطة mager22

رحمك الله أبا عبد المحسن(<!--)

(معالي الشيخ عبد العزيز بن عبد المحسن التويجري رحمه الله)

 

مازلت تلهج بالتاريخ تكتبه  
<!--

 

حتى رأيناك في التاريخ مكتوبا!
<!--

حجبت عنا وما الدنيا بمظهرة  
<!--

 

شخصاً وإن جل إلآ عاد محجوبا!
<!--

كذلك الموت لا يبقي على أحد  
<!--

 

مدى الليالي من الأحباب محبوباً!
<!--

جبلت النفوس البشرية على حب وتقدير من كانت له مكانة وبصمات وآثار بنّاءه في وطنه ومجتمعه، حتى وإن لم تجمعهم به صلة قرابة أو زمالة في العمل أو أي شئ من المنافع الدنيوية، فيبقى ذكره طرياً تلذ له الأسماع عند ذكره..، وعندما تغرب شمسه عن الدنيا ويتوارى عن الأنظار يشعر الكثير من محبيه وعارفيه بفقد شئ ما تلقائياً كان يجول في خواطرهم حياله حباً وتقديراً، وأسفا أن خلت من شخصه داره...، وتجري هذه الحال عند فقد العظماء وكبار النفوس.

   ففي يوم الأحد 24/5/1428هـ طرق سمعي نبأ رحيل معالي الشيخ عبد العزيز بن عبد المحسن التويجري، وكان لذلك النبأ وقع مؤلم في نفسي حزناً على رحيله، فرحيل أفذاذ الرجال يحدث فجوة واسعة في منظومة الرجال المخلصين في خدمة أوطانهم، وملوكهم أمثال " أبو عبد المحسن " الذي عرف عنه التفاني في خدمة الوطن والإخلاص في العمل منذ فجر حياته، كما أنه يتحلى بنفاذ البصيرة، وصواب الرأي مع القوة الشخصية والحنكة في إدارة العمل بكل حزم وثقة ..، ولقد جمع بين سماحة الخلق ونزاهة الجيب، وكان ثبت الجنان حينما يعلو منابر المحافل والمنتديات الأدبية، فهذه من الصفات المحمودة التي تميز الرجال على أقرانهم...، ولقد اتجه إلى السلك الوظيفي مبكراً في عهد  المؤسس لكيان هذه الدولة الفتية الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود ـ طيب الله ثراه ـ ومن بعده أبنائه البررة حتى عصرنا الحالي عصر الازدهار والتوسع الهائل في كثر من المشاريع التنموية والمجالات الحيوية والوظيفية معاً..تحت قيادة ورعاية خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، وعضده الأيمن نائبه صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبد العزيز متعهما الله بالصحة والسعادة.

    ويعتبر " أبو عبد المحسن " أطول الرجال خدمة متواصلة تقارب الثمانين عاماً، ولقد تخطى تلك العقود رافع الرأس بكل نشاط وحيوية :

ثمانون حولاً بل ثمانون دُرة"  
<!--

 

بجيد الليالي ساطعات زواهيا
<!--

ولم تؤثر تلك السنون والليالي على نفسه وجهوده، فلقد منحه المولى الصحة وسلامة الحواس والذوق الرفيع، ورجاحة العقل، ولقد أجاد الشاعر حيث يقول :

إذا طال عمر المرء في غير آفة 
<!--

 

أفادت له الأيام في كرها عقلا!
<!--

ومما لفت نظري حينما قدمت من حريملاء لمواساة أبنائه ومحبيه كثافة المعزين الذين ضاق بهم القصر وساحاته بل وجميع الطرقات المحيطة به أفواج تلو أفواج لتقديم العزاء والمواساة لأبناء الراحل ـ رحمه الله ـ وكان في استقبالهم الشيخ عبد الله بن عبد المحسن، ومعالي الأستاذ عبد المحسن بن عبد العزيز التويجري مستشار خادم الحرمين الشريفين، ومعالي الأستاذ خالد بن عبد العزيز التويجري رئيس الديوان الملكي، بل جميع أبنائه الكرام .. وكان الحزن يعلو محيا الجميع ـ جبر الله مصابهم ـ وكان مهيباً عالي القامة في المحافل الدولية والمحلية:

إن العظيم وإن توسد في الثرى 
<!--

 

يبقى على مر الدهور مهيباً!
<!--

ولي مع الشيخ الراحل بعض الذكريات الجميلة في كثير من المناسبات السعيدة، ولازلت محتفظاً برسائله الخطية التي تتسم بمتانة الأسلوب وعمق الثقافة، وسعة الأفق ـ غفر الله لك أبا عبد المحسن وأسكنك عالي الجنان وألهم ذويك وأبنائك وحرمك ومحبيك الصبر والسلوان .

"إنا لله وإنا لله  راجعون ".

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الشيخ ناصر المنقور والذكر الحسن(<!--)

 

علمٌ من الأعلام غُيب في الثرى      
<!--

 

فثوى رهين جنادل و تراب
<!--

  لقد غربت شمس معالي الأستاذ / ناصر بن حمد المنقور طيب الذكر بمدينة الضّباب ـ لندن ـ يوم الأربعاء الموافق 10/7/1428 هـ بعيداً عن مهوى رأسه ومدارج صباه مع لداته وأترابه مدينة حوطة سدير وقد صدق الله العظيم في محكم كتابه العزيز ( وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير) سورة لقمان، آية 34.

لقد فوجئت بنبأ وفاته بقراءة تأبين صاحب  الوفاء والمبادرة الحميدة معالي الدكتور/عبدالعزيز بن عبدالله الخويطر بصحيفة الجزيرة صباح يوم الخميس 12/7/1428 هـ التي تحمل في ثناياها الحزن والوفاء لزميله " أبو أحمد " ، وعدّ مآثره وأعماله الجليلة عبر رحلة عمره الطويلة المشرفة في خدمة التعليم، وبالأعمال الدبلوماسية متعددة المواقع والمناصب العالية التي تَسنّمها بكل حنكة وجدارة، وكان لنبأ رحيله وقع مؤلم في نفسي لما يتصف به من مكانة عالية في نفوس ولاة الأمر، وتفانيه في خدمة وطنه وأهله، وقد جمع بين الحنكة وبعد النظر، وحسن السياسة، مع دماثة الخلق والتواضع الجم والكرم الفائق، مما جعل القلوب تميل إليه احتراماً وتقديراً حتى من لم يعرفه :

يثني عليك من لم توليه جميلاً    
<!--

 

لأنك بالثناء بــه جــديــر
<!--

وهكذا يكون الرجال العظماء ـ فأسرة المنقور بصفة عامة يستعذب الناس ذكرها ـ. ولقد وصفه الدكتور عبد العزيز بصفات جميلة شاملة بأوجز العبارات وأدقها، فلم يترك مجالاً لأحد بعده ـ إلا ما شاء الله ـ بدأ من دراستهما معاً بالمرحلة الابتدائية بمكة المكرمة مواصلاً نشاطه الدراسي والثقافي حتى أنهى المرحلة الثانوية بتفوق مما أهله للإبتعاث إلى مصر على حساب الدولة أسوة بأمثاله النجباء .، ثم التحق بكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول (القاهرة حالياً) وأنهى الدراسة في السنوات الأربع المقررة بتفوق وامتياز، ثم عاد إلى أرض الوطن، وعين بوزارة المعارف وتدرج في وظائفها حتى وصل درجة مدير عام الوزارة، ثم مدير إدارة جامعة الملك سعود ـ رحمهما الله جميعاًـ ثم انتقل من حقل التعليم إلى مرتبة وزير العمل في أوائل الثمانينيات، ووزير الدولة لشئون مجلس الوزراء، فأخذ يقفز من قمة إلى قمة، وآخر منصب تربع عليه سفيراً لجلالة الملك في لندن. وقد استقيت بعض هذه المعلومات والعبارات من كلمة الأخ الفاضل معالي د /عبد العزيز الخويطر ـ متعه الله بالصحة والعافية ـ ورحم الله أبا أحمد رحمة واسعة.

   ولقد عرف عنه المرونة في العمل والبشاشة وحسن التعامل مع المراجعين والعاملين معه مما أكسبه محبتهم وتقديرهم لجهوده المخلصة، وقد أجاد الشاعر محمد بن حازم حيث يقول:

وما أكسب المحامد طالبوها      
<!--

 

بمثل البشر و الوجه الطليق
<!--

  وكان طيلة اغترابه عن الوطن على صلة بأقاربه ومحبيه يُهاتفهم ويسأل عن أحوالهم وعن أسرهم ولسان حاله يقول:

وإن كانت الأجسام منا تباعدت     
<!--

 

فإن المدى بين القلوب قريبُ
<!--

  وأحياناً يستبد به الحنين إلى رؤية موطنه الأول: حوطة سدير ليجول بلحظه في أكنافه متذكراً ملاعب صباه في محلاتها وساحاتها، وإلى لقاء أصدقائه ومعارفه داخل مدينة الرياض وخارجها متذكراً هذا البيت:

ما من غريب وإن  أبدى تجلده      
<!--

 

إلا تذكر عند الغربة الوطنا
<!--

  وعلى أي حال فقد قضى زهرة عمره خارج وطنه في الدراسة بالقاهرة، ثم بالعمل سفيراً بالسويد، وأسبانيا، واليابان، ولندن، وكان ـ رحمه الله ـ سبباً في تعيني مديراً لمعهد المعلمين بحريملاء عام 1379هـ حيث قال لصديقه رفيق دربي الراحل: محمد بن عبدالعزيز المشعل نريد فتح معهد معلمين بحريملاء لسد حاجة المنطقة بالمعلمين المؤهلين، ونرغب أن يكون المدير جامعياً، فكتب لي الأخ محمد المشعل رسالة ـ مازلت محتفظ بها ـ بعث بها مع سائقه إليّ بحريملاء متضمنة رغبة الوزارة بترشيحي مديراً لمعهد المعلمين بحريملاء، فحضرت إلى الرياض ومررت على الأخ محمد في مكتبه ومتجره في قيصرية الصيارف بالصفاة الواقعة غربي قصر الحكم، فأخذني معه ـ رحمه الله ـ  بحكم القرابة والصداقة إلى منزله بالملز(حي الزهرة أو حي عرين) فبت عنده، وفي الصباح الباكر اتجهنا معاً إلى منزل الأستاذ ناصر بن حمد المنقور مدير عام الوزارة ـ آنذاك ـ فوجدنا عنده الأستاذ / عبد الرحمن التونسي والأستاذ/عبدالوهاب عبد الواسع  أحد البارزين بوزارة المعارف، فرحبوا بي جميعهاً ـ رحمهم الله جميعاً ـ فأجلسني الأستاذ ناصر بجواره والفرح باد على محياه قائلاً نرحب بك ونرغب افتتاح معهد معلمين ببلدكم حريملاء، ولا يحتاج إلى مقابلة ولا مفاضلة لأن الوظائف لدينا تربو على عدد الجامعين ـ آنذاك ـ لقلتهم، علماً أن فوجنا تسعة عشر متخرجاً من كلية اللغة العربية عام 1378هـ  ونعتبر ثاني دفعة على مستوى المملكة، ولكنه طلب مني إحضار إخلاء طرف من إدارة المعاهد والكليات، فطلبت من فضيلة الشيخ / عبد اللطيف بن إبراهيم ـ رحمه الله ـ إخلاء طرف فتمنع في البداية، فاستنجدت بالأخ / حمد بن عبدالرحمن المبارك مدير الإدارة في ذلك الزمن ـ رحمهم الله جميعاً ـ فأعطاني إخلاء الطرف واتجهت به صوب الشيخ ناصر بالوزارة ، فشرح عليه بتعجيل إصدار قرار تعيين، وتسليم ما تيسر من أثاث، ومقررات الطلاب ، وقد صدر القرار الوزاري بتعيني مديراً في 23/4/1379هـ ثم اتجهت إلى حريملاء وافتتحت المعهد مع الإشراف على المرحلة الابتدائية.  فرحم الله أبا أحمد، وأبا عبدالعزيز صديق العمر محمد بن عبد العزيز المشعل رحمة واسعة.     

   وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على حرص وإخلاص الأستاذ / ناصر بن حمد المنقور في تطوير الأرياف، وتنوير أهلها بمصابيح العلم والنهل من مواد الثقافة والعلوم المختلفة، والاكتفاء الذاتي بالمعلمين الوطنيين بالمرحلة الابتدائية، وقد تحقق ما تمناه ـ رحمه الله ـ حيث خرج أفواجاً من المعلمين نفع الله بهم في تلك الحقبة البعيدة، وأختتم هذه العجالة بهذين البيتين مخاطباً منهم الآن على مستوى المسئولية:

إن المناصب لا تـدوم لواحـد    
<!--

 

إن كنت تنكر ذا فأيـن الأول
<!--

فاغرس من الفعل الجميل فضائلاً   
<!--

 

فإذا ( رحلت ) فإنها لا ترحل
<!--

  رحم الله أبا أحمد وأسكنه فسيح جناته وألهم ذويه وإخوته  وأبناءه  وزوجته الصبر والسلوان.

(إنا لله وإنا إليه راجعون).

 

 

 

 

 

 

 

الأستاذ محمد  أبومعطي إلى دار الخلود(<!--)

 

وأرى لدات أبي توالى موتهم    
<!--

 

فمضوا وكر الموت نحو لداتي
<!--

بالأمس القريب وفي مستهل شهر محرم من هذا العام 1428هـ فُجعنا برحيل زميلنا د. حمد بن إبراهيم السلوم زميل الدراسة بدار التوحيد بالطائف، وفي يوم الأثنين15/8/1428هـ أنضم إلى منظومة قوافل الراحلين الزميل الأستاذ محمد بن إبراهيم أبو معطي ـ رحمه الله ـ ، بعد رحلة طويلة من العطاء والعمل المشرف في مواقع عدة..، فكان لنبأ وفاته وقع محزن ومؤلم في نفوسنا لما يتمتع به من خصال حميدة وكريم سجايا، فهو زميل فصل ورفيق عمرٍ، وسيمكث حبه وذكره الحسن طويلاً بين جوانحي مدى الأيام، ولقد عرف عنه الاستقامة والسماحة، وبر الوالدين وصلة الرحم، والإعراض عن مساوئ الناس منذ فجر حياته، وقد ترعرع بين أحضان والديه، وختم القرآن الكريم مجوداً على يد إمام مسجد محلتهم بمدينة الشعراء التي كثيراً ما يستبد به الحنين إلى مراتع صباه بها متذكراً أيامه الجميلة وأيام الطفولة التي عاشها في أكناف وربوع تلك المدينة الوادعة مع أقرانه ورفاق عمره، وما بها من مظاهر الطبيعة من أشجار ونباتات وجبال عالية يتسلقونها ويمرحون حولها مثل جبل ثهلان المشهور المتربع على هاتيك الأودية وتلك المساحات الرحبة الذي عناه بالخلود والمتانة الشاعر إسماعيل صبري باشا في أثناء وصفه للأهرامات وصمودها أمام عوامل التعرية حيث يقول:

قد مر دهر عليها وهي ساخرة
<!--

 

بما يضعضع من صرح وإيوان
<!--

لم يأخذ الليل منها والنهار سوى    
<!--

 

ما يأخذ النمل من أركان ثهلان
<!--

بعد ذلك شخص إلى الطائف وألتحق بدار التوحيد عام 1371هـ حتى أخذ الشهادة الثانوية عام 1375هـ، ثم واصل الدراسة بكلية الشريعة بمكة المكرمة فنال الشهادة العالية بها عام 1379هـ، ثم عين مدرساً فترة وجيزة من الزمن..، بعد ذلك أنتقل مديراً للتعليم المتوسط وظل بضع سنين، ثم عمل رئيساً لبلدية الخرج، وأخيراً عمل مسئولاً كبيراً للتأمينات الاجتماعية إلى أن تقاعد، كما كان عضواً بارزاً في مجلس منطقة الرياض لمدة ثمانية أعوام، بعده تفرغ للعبادة وتلاوة القرآن الكريم واستقبال من يؤمه من الزملاء والأصدقاء والأقارب، ولقد دار وساس تلك الأعمال المنوطة به بكل جد وإخلاص وتسهيل لأمور المراجعين ..، فهو على جانب من الخلق الكريم والأدب الجم الرفيع وسعة الأفق، إلى جانب ذلك كان من المولعين بالرحلات الداخلية وخاصة في مواسم الربيع ومساقط الأمطار وبالصيد والقنص والسير في البراري والفلوات..، وقديماً كان يشارك في الرحلات الطلابية أثناء الدراسة بدار التوحيد، أذكر أننا نقوم بها في جوانب مدينة الطائف، وأحياناً نذهب إلى شعيب عشيرة عامي 71/1372هـ الواقع شمال شرقي الطائف وحتى نصل إلى الأراضي المتاخمة لطريق الخرمة وجهاتها حيث تكاثر طيور الحبارى وبعض الطيور البرية هناك، ونجد في اصطيادها متع جمة وفرح شديدا وكان أبو إبراهيم والشيخ عبد الله بن محمد آل الشيخ ـ رحمهما الله ـ والأستاذ عبد اللطيف بن إسحاق ممن يملكون بنادق الصيد ـ آنذاك ـ فيصطادون ما ظفروا  باصطياده من الحبارى ، ولم يَعُـفّـوا عن إنزال تلك الحمائم التي تشدو فوق أشجار الطلح وأحياناً تبكي :

حمام الأيك مالك باكياً    
<!--

 

أفارقت خلاً أم جفاك حبيب
<!--

تذكرني ليلى على بعد دارها
<!--

 

وليلى خلوب للرجال طروب
<!--

فكانت أيام وليالي الطائف أيام فرح ومرح ومسرات، وكنا نعد أبا إبراهيم من الفتيان الأقوياء ونلقبه: " بأنهد فتى بدار التوحيد..! "  ونزداد خوفاً منه ـ رحمه الله ـ حينما نقوم بمزاولة التمرينات الرياضية الحبية بكرة القدم في ميادين "قروى" بقيادة الزميل عبد الرحمن بن عبد الله العبدان، فهو مُهاجم مَهِيب نخشاه..! وغالباً ما نفقد الصمود أمامه تاركين له الكرة في سبيلها ..، ولقد تحولت عنه تلك النضارة وعنفوان الشباب في أُُخريات حياته، ولسان حاله يتمنى عودتها ولكن هيهات ..!!  وصدق أبو الطيب المتنبي حيث يقول:

وما ماضي الشباب بمسترد    
<!--

 

ولا يوم يمر بمستعاد
<!--

ولقد رحل من صفنا بالسنة الأولى عام 1371هـ أكثر من ثلاثة أرباعنا الآن، ولم يبقى منا سوى القليل مابين عاجز ومتأهب للرحيل ولقد أكد الشاعر ذلك بقوله:

إذا ما المنايا أخطأتك وصادفت    
<!--

 

حميمك فأعلم أنها ستعود
<!--

ومن ناحية أخرى أن من عناية الملك عبد العزيز ـ طيب الله ثراه ـ بطلاب دار التوحيد أن أمر بتخصيص مكان لسكنى الطلبة المغتربين بجانب المدرسة "القسم الداخلي مهجع الطلاب" وتعيين خدم لهم مع صرف مكآفات سخية  شهرية، وتأمين سيارات لنقلهم من بلدانهم بنجد عند بداية الدراسة إلى الطائف، والعودة بهم إلى أوطانهم بعد الاختبارات السنوية: سيارة لنقل طلاب القصيم وأخرى لطلاب منطقة الرياض ـ شقراء ـ حريملاء ـ الشعراء ـ والدوادمي، ومرات وتنتهي بالرياض .. وهكذا عناية ملوك هذه البلاد بطلاب العلم منذ القدم، وكانت المسافة بين الطائف ومنطقة نجد قبل تمهيد الطرق مابين يومين إلى ثلاثة أيام، أذكر أننا أثناء عودتنا من الدراسة تناولنا طعام العشاء بمدينة الشعراء بضيافة إبراهيم أبو معطي والد الزميلين سعد ـ بكلية الشريعة بمكة ـ ومحمد معنا، والغداء لدى الشيخ إبراهيم الهويش قاضي مرات ـ في تلك الحقبة الزمنية ـ والد الشيخ محمد وأخيه عبد العزيزـ رحمه الله ـ وأحياناً نكون في ضيافة أهالي شقراء ، والحقيقة إننا نجد في ذلك سعة خاطر ومسرة رغم وعورة الطريق و وغثاء السفر وتعطل السيارة أحياناً .. فقوة الترابط والتآلف بين طلاب الدار عموما لا تكاد توصف كلها محبةً واحتراماً ولكنها الأيام تجمع وتفرق:

الدهر لاءم بين ألفتنا    
<!--

 

وكذاك فرق بيننا الدهر
<!--

ولنا مع أبي إبراهيم ذكريات جميلة متواصلة تربو على 57 عاما ً، وحتى قبيل وفاته.. كما لازلت محتفظاً ببعض رسائله الحبيبة إلى قلبي في عام 1371هـ التي تحمل في ثناياها خالص الود والتشوق إلى جمع الشمل بيننا في الدار عند استئناف الدراسة عام 1372هـ.. رحم الله أبا إبراهيم وأسكنه فسيح جناته، وألهم ذويه وأبنائه وبناته وأم إبراهيم ومحبيه الصبر والسلوان.

"إنا لله وإنا إليه راجعون "

ورحلت كريمة الشمائل(<!--)

(سارة بنت عبدالله ناصر العمراني رحمها الله)

 

وأحسن الحالات حال امرئ
<!--

 

تطيب بعد الموت أخباره
<!--

بينما كنت في مجلس أحد الأقارب مسرورا بتبادل التهاني بحلول عيد الفطر المبارك وعلامات الفرح والبهجة تعلو محيا كل واحد منا. إذ بالهاتف يتواصل رنينه حاملاً وموصلاً نبأ رحيل ابنة الخالة: سارة بنت عبد الله بن ناصر العمراني. والدة الأستاذ الفاضل : خليفة بن صالح العجاجي ـ رحمها الله ـ التي هي بمنزلة الأخت الشقيقة لي. حيث وافاها الأجل المحتوم فجر الاثنين الموافق 3/10/1428 هـ وصلي عليها بعد صلاة العصر بجامع الملك خالد بأم الحمام وقد اكتظ المسجد بالمصلين رجالاً و نساء داعين لها بالمغفرة و بطيب الإقامة في جدثها إلى أن يبعث الله الخلائق يوم النشور.

فلم أتمالك الوقوف لقوة الصدمة النفسية في تلك اللحظة الموجعة لقلبي، بل أخلدت إلى الأرض تالياً هذه الآية: ( إنا لله و إنا إليه راجعون ) وفجأة طوح بي الخيال محلقاً في أجوان فضاءات الطفولة والبراءة، ومتذكراً أيامنا الأول، وسيرتها العطرة معنا أثناء زياراتنا لهم الأسبوعية في نخلهم المسمى"الجزيع" بصحبة والدتي، حيث اعتادت زيارة شقيقاتها الثلاث والدات كل من الأخوة: عبد الرحمن بن عبد الله العمراني وناصر بن محمد العمراني بمقر نخلهم المشار إليه آنفاً ..، وبخالتي أم محمد عبد الله العمراني ـ رحمها الله ـ  بنخلهم المسمى"الخرجية" فزيارة الخالات غالبا ما تكون أسبوعاً بعد أسبوع..، فنحن معشر الصغار نفرح ونحسب لتلك الزيارات كل حساب..، لنلتقي بأطفالهن بنين وبنات لنلهو معهم، فالمزارع والنخيل بها مجال رحب للمرح والفرح، وبمزاولة الكثير من الألعاب والأنشطة مثل تسلق بعض فسائل النخيل والأشجار..، ومطاردة صغار الحيوانات والدواجن..، مما يدخل السرور والبهجة في نفوسنا وكانت ابنة الخالة والدة: خليفة ـ رحمها الله ـ تفرح بمجيئنا. وتبادرنا بما تجمعه لنا من حبات النبق "السدر" ومن بيض الدواجن وفي مواسم حمل النخيل تحتفظ لنا بما يتساقط من بلح النخيل قبل نضجه، ومن ثمار الرمان والعنب ..الخ، فهي تدخر ذلك قبل مجيئنا لهم حباً منها لإدخال السرور والترغيب في مواصلة حضورنا مع والدتنا ـ رحم الله الجميع ـ فهي تكبرنا بسنوات..، وأذكر جيداً أنها من شفقتها وخوفها علينا من الغرق أثناء مزاولتنا السباحة في البرك أنا والصديق محمد بن عبد العزيز المشعل ـ رحمة الله ـ الذي اعتاد الحضور مع والدته لأخوالها مثلنا..، فهي لا تبرح مكانها خوفاً علينا، وقد انتشلتني من الماء مرة قبل أن أجيد السباحة ـ غفر الله لها ولوالديها ـ  فلقد وهبها الله رحابة الصدر، وسماحة الخلق ولين الجانب منذ فجر حياتها، ودام التواصل معها طيلة العمر حتى قُبيل وفاتها، فكلما اتصل عليها تقابلني بوابل من الدعاء لي ولوالديّ  فهي تملك لساناً رطباً بالدعاء الذي يُؤنس السامع. والتحبب للأقارب والجيران، وأصدقاء والديها وإخوتها، وطلب المغفرة لمن غاب عن الوجود من والدين وأهل ومعارف. وتمتاز على لداتها وأترابها بدماثة الخلق ولين العريكة وطيب القلب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أحب الله عبداً  حببه للناس). وأجاد الشاعر حيث يقول مادحاً و واصفاً أمثالها:

وجه عليه من الحياء سكينة
<!--

 

ومحبة تجري مع الأنفاس
<!--

وإذا أحب الله يوماً عبده
<!--

 

ألقى عليه محبة في الناس
<!--

أجل إنها لمحبوبة لدى عشيرتها ومجتمعها الأسري بل ومع جميع من يعرفها ويسمع عنها..، وكان لسانها رطب بذكر الله وكثرة العبادة والصيام وصلوات النوافل، بارة بوالديها تشركهما في كل ما تبذله من عمل الخير والصدقات..، وافية مع أصدقائهما لعلمها أن البر بمحبي وأصدقاء الوالدين من أفضل الأعمال وأوفاها نحوهما..

نبادله الصداقة ما حيينا
<!--

 

وإن متنا سنورثها البنينا
<!--

ولقد وهبها المولى ابناً صالحاً باراً هو وحيدها من الأبناء: خليفة بن صالح العجاجي. وابنتين بارتين بها الأولى عقيلة الأستاذ: علي بن أحمد الشدي، أم الدكتور/ عادل بن علي الشدي. والأخرى الجوهرة أم الأستاذ عبد الرحمن بن سليمان العجاجي. كما لا ننسى أم صالح زوجة خليفة وأبنائها وبناتها على رعايتهن بها طيلة مكثها معهم، ومرافقتها أثناء تنويمها بالمستشفيات.. مدة مرضها. وهذا ضرب من البر والوفاء لا يستغرب على أمثالهن أبداً ..، ولقد حزن الجميع على رحيلها وخلو شخصها من دارها..، فكانت شمعة مضيئة في أرجاء البيت تحث على أداء الصلوات في أوقاتها وعلى تلاوة كتاب الله، وعلى صلة الأرحام والتواصل وفعل الخير، ولك أن تتصور ما بدا حال ابنها خليفة وهو ينزلها في قبرها وكله حزن وتفجع ونظرات تُتَابع رصف لبنات اللحد حتى أخفت جسمها الطاهر، وكأنه يردد بين جوانحه وداعاً يا أماه وداعاً أبدياً ..، ويزداد أواري الحزن ولوعات الفراق حين يعود إلى البيت وقد خلا منها ـ كان الله في عونه وجميع أسرته ـ ولي مع أختي ابنة الخالة  ذكريات جميلة لا تغيب عن خاطري مدى عمري ومهما أنسى من شيء تولى فإني ذاكر لك يا أم خليفة، وقبل وفاتها بحوالي عشرة أيام اتصلت عليها كالمعتاد مُسلماً ومطمئناً على حالتها الصحية فأحسست من نبرات صوتها الهادئ ومن تكرار دعائها الذي يُوحي بأنه دعاء مودع وراحل عن الدنيا  فقد أجرضتني غُصة فلم استطع سماع بقية دعائها فجال بخاطري مُسرعاً هذا البيت لأبي تمام:

لها منزلٌ تحت الثرى وعَهدتُها
<!--

 

لها منزلٌ بين الجوانح و القلب
<!--

رحم الله أم خليفة و أسكنها عالي الجنان و ألهم ذويها و ابنها خليفة و بنتيها و أخوتها و محبيها الصبر والسلوان (إنا لله و إنا إليه راجعون ).

 


ورحل سمح المحيا(<!--)

(الشيخ عبدالله بن عبد الرحمن الشثري رحمه الله)

 

جزى الله ذاك الوجه خير جزائه
<!--

 

وحيته عني الشمس في كل مطلع
<!--

في الآونة الأخيرة من هذا الزمن تتابع رحيل الكثير من الزملاء والأحبة إلى سبيل كل حي إلى الدار الباقية مما جدد أحزان نفسي وآلمها متذكراً من  مضوا وتركوا آثاراً طيبة في نفوسنا تُلزمنا باستعراض شريط الذكريات معهم، وخاصة زملاء الدراسة الذين لهم مكانة عالية في شعاب النفس يجددها مر الملوين مدى العمر كله ..، فرفوف الذاكرة محملة بأجمل الذكريات وأحلا ساعات العمر، وما يتخلل تلك السويعات والأيام من لحظات مرح وفرح ومداعبات خفيفة تدفع السآمة والملل وتجدد النشاط لاستذكار الدروس في تلك المساجد المتعددة الآهلة بأعداد كبيرة من الطلاب في شتى المراحل الدراسية لتوفر الإضاءة بها ـ آنذاك ـ حيث أن معظم البيوت خالية من  الكهرباء، وخاصة في تلك الحقبة الزمنية البعيدة ..! فأجواء الدراسة هناك أجواء جد ومثابرة، وتنافس في التحصيل العلمي وهضم المناهج، ولقد أجاد الشاعر حيث يقول:

غدا توفى النفوس ما عملت  
<!--

 

ويحصد الزارعون ما زرعوا
<!--[if

mager22

فقد ورثاء ( عبد العزيز بن عبد الرحمن الخريف )

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 178 مشاهدة
نشرت فى 30 سبتمبر 2013 بواسطة mager22

وغــــــــاب رفــــيـق العـــمر(<!--)

(الشيخ عبد الله بن إبراهيم بن خُميِّس رحمه الله)

 

هنيئاً له قد طاب حيا وميتا
<!--

 

فما كان مُحتاجاً لتطييب أكفاني
<!--

      الإنسان الصالح المستقيم المتمسك بكتاب الله وبهدي سيد المرسلين نبينا محمد إذا اختاره المولى إلى جواره هنأهُ محبوه وأقرانه، ودعوا له بطيب الإقامة في جدثه إلى أن يبعث الله جميع الخلائق يوم يجازى بما كسب، وإن طال حزنهم الشديد على فراقه وبعده عنهم.

     فها هو الشيخ الإمام الفاضل عبد الله بن إبراهيم بن خُميِّس قد أسلم روحه إلى بارئها في تمام الساعة التاسعة من صباح يوم الأحد 12/11/1427هـ على إثر حادث سير مؤلم عند مشارف محافظة حريملاء ـ تغمده الله بواسع رحمته ـ ويقال أنه بعد أن أمّ المصلين في صلاة فجر هذا اليوم الأحد بمسجده جامع الملك خالد بحي الشرفية بالرياض، وبعد أن صلى ركعتي الإشراق به اتجه صوب حريملاء قاصداً مزرعته الحبيبة إلى قلبه ليأنس بسقيها من مياه السّد الذي اعتاد فرع وزارة المياه على فتح بعض عباراته لريّ النخيل والمزارع، ولكن شَعُوباً حال بينه وبين استمتاعه بتلك الغروس والفسائل وهي تمتص من رضاب المزن التي تدفقت في حوض ـ نهر حريملاء ـ .

    ولقد نشأ في طاعة الله منذ نعومة أظفاره، أذكر جيداً أنه قد دخل مسجد محلتنا بحريملاء بعد طلوع الشمس وعمره لا يتجاوز الثانية عشر يريد صلاة الإشراق فقلت مستكثراً ومتعجباً ذلك منه: تصلي في مثل هذا الوقت !!، فقال: نعم، ألقاها عند الله . واستمر في التقرب إلى الله بعبادته والإكثار من النوافل، وفعل الخير ضارعاً للمولى أن يجعله في زمرة الصالحين والآمنين يوم لقائه فقد لقيه ـ رحمه الله ـ.

     وقد ولد في حريملاء وترعرع بين أحضان والديه، ثم درس في الكتّاب على يدي والده المُقرئ الشيخ إبراهيم بن محمد بن خُميِّس، وبعد أن تم كتاب الله حفظاً وقراءة أنضم إلى حلقة تلقي مبادئ في العلم لدى قاضي البلد فضيلة الشيخ عبدالرحمن بن سعد بجامع حريملاء فحفظ بعض المتون: من كتاب التوحيد، والعقيدة الواسطية، وكشف الشبهات، والآجرومية في النحو، ومتن الرحبية في علم الفرائض، وقد فاق أقرانه في علم الفرائض وقسمة المواريث..، كما أنه يستفيد من والدنا الشيخ عبدالرحمن بن محمد الخريف ـ رحمه الله ـ في بعض المسائل، وفي علم التجويد وتلاوة القران عليه.

     ثم خلف والده بعد وفاته في تحفيظ القرآن الكريم وكتابته على الألواح الخشبية، وكان لي شرف أن درست عنده في هذه المدرسة فترة وجيزة ولم يمنع تقارب السن بيننا ـ رحم الله الجميع رحمة واسعة ـ

     وعند افتتاح أول مدرسة ابتدائية بحريملاء عام 1369هـ أنضم إليها هو وتلامذته جمعاً، ومُيّز عليهم بقبوله في الصف الرابع تقديراً له ولعلمه، ولم يلبث طويلاً أن رحل إلى الرياض، وسكن معنا في أحد البيوت التي خصصها جلالة الملك عبدالعزيز ـ طيب الله ثراه ـ لطلاب العلم لدى الشيخ محمد بن إبراهيم مفتي الديار السعودية وأخيه الشيخ عبد اللطيف، ثم التحق بالمعهد العلمي عند افتتاحه عام1371هـ بعد ذلك تعين بوزارة الدفاع وظل بها مدة، ثم انتقل إلى الرئاسة العامة لتعليم البنات بطلب منها مديراً عاماً للمستودعات لما يتمتع به من أمانة وإخلاص حتى أنهى مدة الخدمة النظامية حميدة أيامه، وظل إماماً للمصلين سنين طويلة في مسجد والدة الأمير منصور بن سعود ـ رحمهما الله ـ الواقع غربي شارع العطايف بالرياض حتى جاء شق وتنفيذ طريق الملك فهد المقدر عرضه مائة متر تقريباً، فشملته التوسعة، فأخذ ـ رحمه الله ـ يُطالب الجهات المختصة مدة دامت ربع قرن مُلحاً في طلب صرف التعويض لمكان المسجد وبناء مسجد بدلاً من السابق حتى حصل على أكثر من مليوني ريال، وفعلا بُني المسجد بناءً حديثاً على جانب طريق الخدمة، ويا حبذا لوعملت البلدية مشكورة منفذا ومدخلا مع الرصيف لسيارات المصلين، وقطع قليل من الأشجار الحائلة لرؤية المسجد لكان جميلاً ومفيداً لمن يقصد الصلاة به.

    كما مكث إماماً لمسجد الملك خالد بحي الشرفية كما أسلفنا حتى فجر اليوم الذي لاقى ربه فيه فجملة إمامته واحد وخمسون عاماً ـ غفر الله له ـ ، وكأني بأبنائه وبمن أعتاد الصلاة في ذلك المسجد حينما يدخله ماداً نظره نحو محرابه متحسراً على غيابه الأبدي، ومتذكراً أحاديث الوعظ والإرشادات التي يتفوه بها ـ أبو إبراهيم ـ وذكرياته مع جماعة المسجد ولسان حال كل واحد في تلك اللحظات يردد في نفسه هذا البيت:

يَعزُّ علي حين أدير عيني  
<!--

 

أُفتش في مكانك لا أراكَ
<!--

كان الله في عونهم. ولقد عرف عنه التقى وطيب المعشر، ولين الجانب مع الصغير والكبير، والإخلاص في العمل وكأن الشاعر يعنيه بهذين البيتين:

وجه عليه من الحـياء سكينةٌ  
<!--

 

ومحبة تجري مع الأنفاسِ
<!--

وإذا أحــــب الله يومــــــاً عبده 
<!--

 

ألقى عليه محــبة في الناسِ
<!--

    وكان لنبأ وفاته المفاجئ وقع مؤلم ومحزن في نفوس أبنائه وأسرته وجميع مُحبيه، ولقد اكتظ جامع الملك خالد بأم الحمام بجموع غفيرة رجالاً ونساءً تضرعوا بالدعاء له بأن يتغمده المولى بواسع رحمته ورضوانه، وأن يفسح له في قبره وينور له فيه، ثم حمل على الأكتاف نحو مرقده في مقبرة أم الحمام والحزن بادٍ على محيا الجميع وعندما هموا بإنزاله في اللحد وإخفائه عن ناظريَ لم أتمالك فيضَ دموع حرَى جالت فتدفقت من محاجر عيني أسفاً على فراق حبيب قلبي:

فلست بمالكٍ عبرات عينٍ  
<!--

 

أبت بدموعها إلا انهما لا  !!
<!--

  وطار بي الخيال في تلك اللحظة المحزنة متصوراً أيامنا الأُول أيام الطفولة والمرح معه، ومع لداتنا وأترابنا في تلك المراتع مراتع الطفولة والصبا حيث كُنا نقضي معظم سحابة يومنا في الكتّاب لحفظ كلام الله وكتابته في الألواح لتعذر وجود الأوراق في تلك الحقبة  البعيدة.

    وكلما أمر بتلك الأزقة الضيقة، ومسارب السيول مسرح لهونا ومجال حركاتنا في مزاولة ألعابنا، أو الاستماع إلى بعض القصص والأحاجي ليلاً ممن يكبرنا فإن ذلك يشدنا إلى استحضار واستذكار تلك الأيام والليالي الجميلة، ولكنها الأيام وإن منحت سرورا تجمع وتفرق، ولقد أجاد الشاعر حيث يقول:

لكل اجتماع من خليلين فرقة
<!--

 

ولو بينهم قد طاب عيش ومشرب
<!--

   ولأن غاب شخصك عنا أبا إبراهيم فإن محبتك وذكرياتنا الجميلة معك لا تغيب عن خواطرنا ابد الليالي:

يواجهني في كل وقت خياله  
<!--

 

كما كنت ألقاه قديماً ويلقاني
<!--

غفر الله لك أيها الأخ الحبيب وأسكنك عالي الجنان وألهم أبنائك وشقيقك الشيخ عبد الرحمن وأم إبراهيم وجميع أسرتك ومحبيك الصبر والسلوان.

                       (إنا لله وإنا إليه راجعون).

 

رحمك الله أبا عبدالعزيز(<!--)

(الدكتور/ حمد بن إبراهيم السلوم رحمه الله)

 

فإن تكن الأيام فرقن بيننا
<!--

 

فكل امرئ يوم إلى الله صائر
<!--

نعم هي الأيام كما ترى من سره زمن ساءته أزمان تجمع وتفرق، وتفرح ويعقب أفراحها أحزان، فكأنها في تعاقبها حالت سِجال. فالإنسان في هذا الوجود مهما عاش في أُبهةٍ ورغد من العيش، وتربع على مناصب عاليه ومراكز مرموقة، وصال وجال في مشارق الأرض ومغاربها، ومتع ناظريه من آفاق هذا الكون العريض، واستمتع بأطايب الحياة وملذاتها بين أسرته ورفاق عمرة...، إلا أن نهايته أن يضطجع في لحد من الأرض وحيدا من الخلان بل ومن اقرب الناس إلى نفسه وقلبه, أمثال الزميل الحبيب الدكتور/ حمد بن إبراهيم السلوم الذي ودَع الحياة الفانية ورحل عنا إلى العالم الباقي على اثر مرض عضال لم يمهله طويلا، ولم يعطي فسحة من العمر، تاركا في نفوس محبيه وأفراد أسرته سحابة حزن كثيفة الطبقات غطت سماء منزله ومنازلهم حزناً طويلا فقد تأثرت كثيرا لرحيله المفاجئ العاجل ...، فهو زميل فصلٍ وفيَ وصديق ودٍَ جمعتنا به الدراسة في أم المدارس ـ آنذاك ـ دار التوحيد بالطائف عامي 71-1372هـ ولكنها الأقدار.

كفى حزنا أن التباعد بينا
<!--

 

وقد جمعتنا والأحبة دارُ !
<!--

  أي منذ أكثر من نصف قرن وقلوبنا متآلفة, والتواصل بيننا مستمر، وقد انطوت تلك السنون مسرعةَ، فما احلى ساعات العمر مع الأقران والأحبة:

خمسون عاما قد تولت كأنها
<!--

 

حُلومٌ تقضت أو بروقٌ خواطفُ
<!--

حيث عشنا في أحضان الدَار وفي تلك الربوع الجميلة نقضي جل أوقاتنا في استذكار دروسنا وما يتخلل ذلك من ساعات مرح ولهو بريء لتجدد النشاط، ولتخفيف وحشة الغربة عنا هناك...، فاستمر التواصل بيننا طيلة العقود والسنين المتعاقبة حتى وافاه الأجل المحتوم فجر يوم السبت 22/1/1428هـ بعد عودته من إحدى مصحات الولايات المتحدة  حيث اَلمَحَ الأطباء بأن جسمه الطاهر لا يستجيب لكل العلاجات فعاد متحسرا، وكانت زوجته الوفية أم بدر أبت إلا مرافقته وملازمته في تلك الرحلة العلاجية نائية المحل النهائية مُحاوله تسليته والتهدئة من روعه من المرض الطارئ الذي أفزعه وأنهى حياته، فكانت تقوم بتمريضه مُخفيةً ما بداخلها من توقعات للفراق المحتوم ولوعاته ..، ـ من غير تقصير من زوجته الكبرى أم عبدالعزيز متعها الله بصحة والعافية ـ التي عاشت معه ذروة شبابه، فكلهن مشفقات عليه، ومشغولات بآلامه وما يعانيه من مضاعفات وأمراضٍ عدة، ولقد أجاد الشاعر حيث يقول:

وأرى المنايا إن رأت بك "عِلَةً"
<!--

 

جعلتكَ مَرمى نبلها المتواتر!
<!--

ووصف الشاعر الآخر حالهن وهن يولولن حرقةً وألما على فراقه حيث يقول:

فكل قرينة لابد يوما
<!--

 

سَيشعبُ إلفها عنها شعُوب!
<!--

فهو رجل حبا الله رحابة الصدر وطيب المعشر ولين الجانب، والإخلاص في أداء الأعمال المنوطة به، وتصريفها بسهولة ومرونة، هو شخص محنََك تربوي تربع على عدد من المناصب العالية بكل ثقة وجداره ..، ولقد تلقى تعليمة في المرحلة الابتدائية بالمدرسة العزيزية بالطائف حيث تخرج منها عام 1370هـ، ثم التحق بدار التوحيد حتى نال الشهادة الثانوية بها عام 1375هـ فواصل الدراسة بكلية الشريعة بمكة المكرمة إلى أن منح الشهادة العالية عام 1379هـ ، ثم عيد مديراً لمتوسطة ضرما عام 1380هـ ـ مهوى رأسه ـ بعد ذلك انتقل مدير لمعهد المعلمين بالرياض عام 1383هـ، ونقل مدير لثانوية اليمامة العملاقة، ثم ابتعث إلى بريطانيا وحصل على درجة الماجستير بتفوق، بعد ذلك سافر إلى الولايات المتحدة وعاد منها حاملا درجة الدكتوراه بامتياز مع مرتبة الشرف، ثم عين مديراً للتعليم بمنطقة الرياض فترة من الزمن ...، فاختير وكيلا بوزارة المعارف لشؤون الطلبة آنذاك، وفي أواخر عام 1406هـ عُين رئيساً للملحقية الثقافية السعودية بالولايات المتحد الأمريكية أكبر دول العالم...، ومكث هناك حوالي عشرة أعوام رئيسا محترما ومحبوبا لدى الجميع، وقد كُرم وودع في حفل كبير بمقر الملحق الثقافي بواشنطن عندما هم بالعودة...، مع الترحيب بخلفه الدكتور مزيد بن إبراهيم المزيد الذي كان ملحقا ثقافيا بكندا، ثم غادر الولايات المتحدة متأسفا على فراق زملائه ورفاقه فرحا بالعودة إلى الوطن صَوب عمله الجديد مديراً عاماً لمعهد الإدارة العامة بالرياض، فهو يقفز من قمة إلى قمة حاملا بين جوانحه أجمل الذكريات وأحلاها فترت عمله مع زملائه موظفي الملحقية وأبنائه الطلبة المبتعثين، وما شاهد في تلك الأصقاع النائية عن بلاده من مظاهر الحياة الحضارية ومناظرها الطبيعية وأنماط من البشر هناك يستمتعُ باستذكارها في خلواته ..، واستمر في عمله حتى أنهى مشواره الوظيفي التربوي. وقد طبع على التواضع ودماثة الخلق، وحسن التعامل مع موظفيه وأبنائه الطلبة، فهو خير معين إلى أولئك يسهل أمورهم ويُذلل الصعاب التي قد تعترضهم، وهو دائم على اتصال بالمراكز والمكاتب الفرعية التابعة له في كل من واشنطن دي سي وهيوستن، وكاليفورنيا، ودنفر، وشيكاغو، ليطمئن على حسن السير بها، وأحيانا يقوم بالزيارة لها وأن بعدت مسافة مثل ولاية كاليفورنيا، حاثا الطلبة المبتعثين على التحلي بالأخلاق العالية، وعلى حفظ الوقت وحسن التعامل والسلوك الأمثل مع الغير، فهم سفراء بلادهم، وليعودوا حاملين مشعل المعرفة والتفوق العلمي لخدمة وطنهم الذي ينتظرهم...، كما انه يبذل جاهه لدى المسئولين في طلب تحقيق رغبات من يطلب شفاعته من غير الأضرار بمصلحة الآخرين، وهكذا انهى عمله المشرف تاركا ورائه سمعة حسنة وعمرا ثانياً معطرا بالثناء تٌردده الأجيال من بعدة، ولي معه ـ رحمه الله ـ بعض الذكريات وأحلى أيام العمر بالطائف، وبالرحلات الداخلية والخارجية: رحلات الكويت والعراق وإيران عام 1383هـ برفقة الزميل الحبيب إلى قلوبنا الأستاذ عبدالرحمن بن عبدالله العبدان ـ زميل الدراسة بدار التوحيد ـ وما يتخلل تلك الرحلات من مواقف طريفة ومشاهدات لمناظر جميله تُؤنس الأبصار في تلك الديار والبقاع، وكان كثير الحضور للمؤتمرات الدولية في عدد من أنحاء العالم:

أطل على كل الآفاق حتى 
<!--

 

كأن الأرض في عينيه دار!
<!--

وظل التواصل والترابط بيني وبينهما حتى فصلته عنا يد المنون بالأمس القريب ـ كما أسلفنا ـ ولازلت مُحتفظا ببعض رسائله الخطية منذ عام 1380هـ ، ومن الطريف أنه كان يَحْتجُ على استمرار مُهاتفتي للزميل عبدالرحمن العبدان وإيقاظه في شهر رمضان لتناول طعام السحور، ثم الصلاة جماعة وقت إقامته منتدباً بالطائف ...، فانتهزت فرصة وجود الدكتور حمد ـ رحمه الله ـ بالولايات المتحدة في أشهر رمضان الماضيات زمن عمله ملحقا ثقافيا، فأخذت اتصل عليه قُبيل الفجر عدة مرات لإيقاظه لتناول طعام السحور هناك ..، ثم هاتفته مُباركا بحلول عيد الفطر المبارك، ومٌداعبا: أصحيك بَعد لِلسََت...؟ فالمداعبة الخفيفة مع الإخوة والأحبة تشع في النفوس البهجة والمسرات، ومن اهتماماته بي انه حينما علم بوجودي لدى نجلي الأكبر محمد بولاية إنديانا (إيفانزفيل) في أواخر عام 1406هـ اتصل وعرض علي زيارته في مقر عمله الجديد (بواشنطن) قائلا: التذكرة مدفوعة الثمن يا أبا محمد ترغيبا منه وتأكيدا في قبول دعوته الكريمة ـ غفر الله له ـ فمحبته دائمة يُجددها مر الليالي، واذكر جيدا أنه كان يقضي معظم أوقاته معنا بالقسم الداخلي: مهجع الطلبة المغتربين بدار التوحيد عامي 71/1372هـ لاستذكار بعض الدروس معنا ولأجل الاستئناس بالزملاء والأصدقاء رغم بٌعد سكن والديه في شرق مدينة الطائف الواقع على الشارع العام, وعلى مقربة من بيت (عرب) الشهير، بل إنه أحيانا يدعونا مع بعض الزملاء لتناول طعام العشاء أو الغداء في منزل والديه، فكله كرم ولطف ـ رحمه الله ـ فذكره الطيب وسيرته الحميدة والذكريات الجميلة معه ومع بعض الزملاء الذين غَيبهم هادم اللذات ومفرق الجماعات لا تبرح خاطري مدى العمر، وفي الآونة الأخيرة من هذا العام ومن الأعوام التي قبله رحل الكثير من الزملاء والأحبة، وقد ترك رحيلهم في نفوسنا بالغ الأثر والحزن الطويل:

فلم أر مثلهُمُ هلكوا جميعاً
<!--

 

ولم أر مثل هذا العام عاماً!
<!--

ولئن غالته يد المنون وأبعدته عنا بُعداً أبدياً فإن محبته مُقيمة في مُضمر النفس:

ختمت على ودادك في ضميري
<!--

 

وليس يزال مختوماً هناكا
<!--

رحمك الله أبا عبدالعزيز ونور مرقدك، والهم ذويك وأبنائك، وزوجاتك ومحبيك الصبر والسلوان.

(إنا لله وإنا إليه لراجعون).


عبد الله الشقيحي إلى دار الخلود(<!--)
<!--

الإنسان في هذه الحياة يعيش على طول الأمل، وقد يستبعد مرور شعوب عليه وقت ذهابه ومجيئه على هذا الكوكب الأرضي، وإنْ كان يعلم جيداً أنّ الرحيل لكلِّ حيٍّ لا مناص منه أبداً، ولكنها الآمال..! ومن نِعَم الله على عباده إخفاء الآجال في ضمير الغيب، قال الله في محكم كتابه العزيز: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (34) سورة لقمان.

ويقول الشاعر:

أعلل النفس بالآمال أرقبها       
<!--

 

ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل
<!--

   ففي صباح يوم السبت 2-5-1428هـ انسلت روح الصديق زميل العمل الأخ الحبيب/عبد الله بن عبد الرحمن الشقيحي إلى بارئها، بعد معاناة طويلة مع المرض الذي كان يعاوده بين حين وآخر إلى أن أنهك قواه كلّها..، ولقد خيَّم الحزن على منزله وعلى منازل إخوته وأحبّته، لما عُرِف عنه من استقامة، وحسن تعامل مع زملائه ومحيطه الأُسري، بل وجميع معارفه.

ولقد ترعرع وتربّى بين أحضان والديه في بيت كرام، بيت كان يقصده الكثير ممن يمرُّ عبر حريملاء صوب مدينة الرياض من البلدان المجاورة وغيرها..، ومن قوافل البوادي، وذلك قبل توفُّر المواصلات الحديثة .. وشق الطرق، ولا سيما في العقود الفارطة، وكانت وسائل التنقُّل آنذاك بواسطة الحيوانات من الجمال وغيرها من الدواب .. بل الأكثر من أولئك سيراً على الأقدام، لما يجده من إكرام وإعلاف لمواشيهم ومطاياهم، وهذا شأن الموسرين من أهالي حريملاء وأمثالهم من أبناء هذا الوطن الذين يأنسون بقراء الضيف حسب إمكانياتهم المادية، بل إنّ البعض منهم يؤثر الضيف على أُسرته وأطفاله، رجاء المثوبة من المولى وطيب الذِّكر..، كما أنّ أُسرة آل شقيحي تتمتع بسمعة طيبة، وبمكانة عالية لدى ولاة الأمر، ولا سيما الرجل الشهم عبد العزيز بن إبراهيم الشقيحي الذي كان يحظى بثقة الملك عبد العزيز ـ طيَّب الله ثراه ـ وتكليفه بمهمات ومناصب عالية في كثير من جوانب المملكة، لما يتمتع به من حنكة وشجاعة وكرم .. كان آخرها أميراً في منطقة نجران بأمر الملك عبد العزيز ـ رحمه الله ـ، وحتى أبناء الملك عبد العزيز حفظوا له مكانته حتى توفّاه الله، وهذا الوفاء من مكارم الأُسرة المالكة في تكريم أُسر مَنْ كان لآبائهم تضحيةٌ ودورٌ فاعلٌ في خدمة الوطن وأهله. ولقد عمل معنا أبو عبد الرحمن ـ رحمه الله ـ أكثر من عشرين عاماً أثناء عملي مديراً لمتوسطة وثانوية حريملاء، حيث تم تعيينه كاتباً في أواخر القرن الماضي في 27- 10-1397هـ، واستمر في عمله حتى توقَّفت نبضات قلبه صباح يوم السبت 2-5- 1428هـ كما أسلفنا ذكره آنفاً ..، وكان مخلصاً ومواظباً في أداء عمله وطيب المعشر لدى الجميع، كما أنّه يقوم بقضاء بعض حوائج الأرامل والأيتام بل وجميع من يحتاج إليه من زملاء وغيرهم من الرياض وخارجها بدون مقابل، فهو يمتاز بالصراحة والصدق في التعامل مع الناس عموماً - تغمَّده الله بواسع رحمته - ولقد أمضى تلك السنين حميدة أيامه معنا ومع زملائه ورفاق عمره في أجواء جميلة تحفُّها أجنحة الود والوئام، والتعاون التام، وما يتخلّلها من رحلات في مواسم الربيع والأمسيات المقمرة في كثير من المناسبات.

فما أحسن الأيام إلا أنها   
<!--

 

يا صاحبي إذا مضت لا تعود
<!--

كما أنّه ندي الكف هو وأخوه الأكبر الأستاذ محمد، حيث ينتهزان مواسم الفواكه وجذاذ النخيل فينفحان أصدقاءهما بإهدائهم من تلك المحاصيل والثمار، ولا ينسيان بيوت الفقراء والمساكين بإمدادهم في كلِّ المناسبات - رحم الله الراحلين وأسعد الأحياء - فسمعتهم معطرة بالثناء دائماً، وكان لرحيل أبي عبد الرحمن المفاجئ وقعٌ موجعٌ ومؤلمٌ في نفوس أبنائه وأُسرته ومحبِّيه، ولا سيما أم عبد الرحمن التي حزنت على فراق الفها ورفيق عمرها، وكأنّ الشاعر يعنيها بهذا البيت المؤثر:

فكل قرينة لا بد يوماً  
<!--

 

سيشعب الفها عنها شعوب!
<!--

وعزاؤنا فيه سير أبنائه على نهجه وسيرته الحميدة .. غفر الله لك أبا عبد الرحمن وأسكنك عالي الجنان، وإنّا على فراقك لمحزونون، وألهم ذويك وأبناءك ومحبيك وأم عبد الرحمن الصبر والسلوان.

{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}

<!--[if !supportFootnotes]-->

<!--[endif]-->

(<!--) نشرت في صحيفة الجزيرة، يوم الأحد 19 ذوالقعدة 1427هـ، الموافق 10 ديسمبر 2006م.

(<!--) نشرت في صحيفة الجزيرة، يوم الثلاثاء، 25/1/1428هـ ، الموافق 13 فبراير 2007م.

(<!--) تشرت في صحيفة الجزيرة ، يوم الأثنين 11 جمادى الأول 1428هـ، الموافق 28 مايو 2007م.

mager22

فقد ورثاء ( عبد العزيز بن عبد الرحمن الخريف )

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 247 مشاهدة
نشرت فى 30 سبتمبر 2013 بواسطة mager22

رحمك الله أبا عبد الرحمن(<!--)

(الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل إبراهيم رحمه الله)

 

وما نحن إلا ركْبُ موتٍ إلى البلى
<!--

 

تُسيِّرُنا أيامنا كالرَّواحِلِ
<!--

الآجال ومقدار الأعمار مخفية في ضمير الغيب لا يعلمها إلا رب الخلائق ـ جلّتْ قدرته ـ قال تعالى : (إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ٌ ماذا تكسب غداً وما تدري نفسٌ بأي أرض تموت إن الله عليم خبير ) سورة لقمان، آية 34.

فهاهو الشيخ الفاضل محمد بن عبد الرحمن آل إبراهيم يرقد مع الراحلين في مقبرة (الُلّقَيم أو الْقَيَم) بالطائف بعيدا عن مسقط رأسه ومدارج صباه ، ومضاجع والديه وأجداده بحريملاء حيث لبىَّ داعي المولى بمستشفى الهدا في تمام الساعة الثانية بعد صلاة ظهر يوم الاثنين 30/5/1427هـ وصلي علية في مسجد عبد الله بن عباس بعد حياة حافلة بالنشاط والكفاح والتنقل من مدينة وأخرى.

  ولقد نشأ بين أحضان والديه ،وختم القران الكريم بإحدى الكُتَّاب على يد الشيخ المقرئ محمد بن عبد الله الحرقان مع ملازمته والده ليسمع منه التلاوة مُجودةً هو وشقيقهِ الشيخ إبراهيم...،ولاسيما صباح أيام الجُمع بالمسجد الجامع الكبير بحريملاء، فتوسم فيه النجابة وسرعة الحفظ فأرسله إلى الرياض مع أحد أقربائه لتلقي مبادئ في العلم لدى مفتي الديار السعودية ـ آنذاك ـ الشيخ محمد بن إبراهيم وعلى أخيه الشيخ عبد اللطيف فوجد التشجيع منهما ـ رحمهما الله جميعا ـ وسكن بإحدى غرف رباط الإخوان المعروف بحي دخنه المجاور لمسجد الشيخ محمد الذي خصصهْ جلالة الملك عبد العزيز ـ طيب الله ثراه ـ لطلاب العلم ترغيباً لهم مع تخصيص مكافآت تعينهم على مواصلة تلقي العلوم ... بعد ذلك سافر إلى الطائف وألتحق بدار التوحيد عام1366/1367هـ ونال الشهادة الثانوية عام1372هـ فواصل الدارسة بكلية الشريعة بمكة المكرمة حتى نال الشهادة العالية عام 1376هـ. وعُيّن ملازماً بمحكمة مكة المكرمة ثم عُيّن قاضياً بمدينة جيزان، بعد ذلك نُقل قاضيا بمحكمة الطائف ثم مساعدا لرئيس المحكمة حتى عام1388هـ ، وأمَّ المصلين في مسجد أبن النفيسة في حي الشرقية  سنوات عدة....، ومنذ انتهاء عمله في المحكمة باشر عمله للاستشارات الشرعية وعقود الأنكحة، وظل يزاول عمله هذا حتى بداية مرضه منذ عشر سنوات، وكان ـ رحمه الله ـ يتمتع بالحنكة والمران في العمل، وحسن التعامل مع الغير، والحرص على لَمّ شمل الأسر وإصلاح ذات البين، ولقد قضى ربيع عمره بل بقية العمر كله في أكناف مدينة الطائف بدءاً من الدراسة بدار التوحيد، وحتى الرَّحيل النهائي إلى دار المقام ـ رحمه الله ـ  وكان واسع الأفق مُحباً للقراءة ولوعاً بحفظ جيد الأشعار والتّرنم بها في ساحات الدّار وفي صالة "المهجع" القسم الداخلي لسكن الطلاب المغتربين، مما حبب إلينا القراءة وحفظ الكثير من أقوال الشعراء، وأذكر أني قد استعرت منه دفتره الخاص الذي يجمع فيه ما أستحسن من أساليب أدبيه وأشعار منتقاة عام1372هـ وأنا بالصف الثاني فنقلت بعض القصائد للإمام الشافعي ـ رحمه الله ـ يحث فيها على الاغتراب لأجل اقتناص العلوم من مواردها العذبة، ولطلب المعيشة، منها :

ما في المقام لذي عقل وذي أدب 
<!--

 

من راحة فدع الأوطان واغترب
<!--

سافر تجد عوضاً عمن تفارقه   
<!--

 

وانصب فإن لذيذ العيش في النّصبِ
<!--

ويقول في مجال العلاقات الإنسانية  والإخوانية حينما يَعْتَرِيها فُتور ومجاملات متكلفة:

إذا المرءُ لا يرعاك إلا تكلفا    
<!--

 

فدعه ولا تكثر علية التّأسفا
<!--

ففي الناس أبدالٌ وفي الترك راحة   
<!--

 

وفي القلب صبر للحبيب ولو جفا
<!--

ومن مزاياه الكرم وطيب المعشر، والحرص على تقوية أواصر المحبة بين الأصدقاء والتواصل بين الزملاء، والميل إلى المرح ـ أحيانا ـ وتبادل الأحاديث الشيقة بين أقرانه وأترابه، والرغبة في الإطلاع على كل جديد في عالم الكتب والصحافة معاً.

وكُنّا نتسابق على مكتبه الزائدي الواقعة شرقي باب الريع لشراء بعض الكتب والمجلات التي تصل إليها من القاهرة مثل مجلة الرسالة لأحمد الزيات وروايات الهلال، وكتاب الهلال، وبعض المجلات الثقافية مما أثرى حصيلة الشيخ ومخزونه الأدبي ـ رحمه الله ـ مع مُرورنا على مكتبتي محمد سعيد المؤيد بالشرقية، والأستاذ محمد سعيد كمال المشهورتين، وإن كانت أسعارهما مُكلفة لنا معشر طلاب الدار ...

ولي معه ذكريات جميلة لا تغيب عن خاطري، كنا نذهب في الأصائل وأطراف النهار لاستذكار الدروس جماعات ووحدانا فنجلس على مقربة من بساتين المثناة الغناء الحافلة بأنواع الأشجار والثمار اليانعة التي تَعُجُّ بأسراب الطيور فنسمع فيها شدو البلابل، وهديل الحمائم وسجعها، فتبعث فينا البهجة والمسرات :

تَخالَ طائرها نشوان من طرب  
<!--

 

والغصن من هَزّ عطفيه نشوانا
<!--

ومرات تثير الشجن ويهيج الغريب بُكاؤُها:

حمام الأيك، مالك باكيا
<!--

 

أفارقت خلاً، أم جفاك حبيب؟!
<!--

تذكرني ليلى على بعد دارها 
<!--

 

وليلى خلوب للرجال طروبُ
<!--

فهو ـ رحمه الله ـ كثيرا ما يُنْشد أمثال هذه الأبيات في خَلَواته ليجد فيها متعة ومتنفسا وسلوة تُخفف عنه وحشة الغربة وبعده عن مراتع صباه في حريملاء..، فكأني به مشدودا بحب الطائف ورفاق عمره، وبحنينه إلى مسقط رأسه ولداتهِ هناك ...، وكنت أنا والزميل  الأستاذ عبد الرحمن العبدان على تواصل معه، نزوره في منزله كلما نحضر صيفاً لتجديد سالف الذكريات بهاتيك المراتع وتلك الميادين ميادين قروى مقر دار التوحيد في تلك الحقبة البعيدة!..حتى أُنزل في جدثه بالمقبرة المشار إليها آنفاً ..، ومن أقرب الزملاء إلى قلبه أيضاً فضيلة الشيخ غنيم المبارك  ـ متعه الله بالصحة ـ والشيخ الراحل محمد بن عبد الرحمن الدخيل "أبو عزام" والأستاذ محمد العلي المبارك ـ رحمهما الله جميعا ـ ولم يبقى من تلك الأيام والسويعات الجميلة التي قضيناها في ربوع الطائف سوى رنين الذكريات :

ومهما أنسَ من شيء تولى   
<!--

 

فإني ذاكرٌ"دار التوحيدِ" !!
<!--

رحمك الله أبا عبد الرحمن وأسكنك فسيح جناته وألهم ذويك ،وذريتك ، وأم عبد الرحمن، ومحبيك الصبر والسلوان .

(إنا لله وإنا إليه راجعون)

                                         

وغاب بدر المحافل(<!--)

(خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز رحمه الله)

 

حُجبت عنا وما الدنيا بمظهرةٍ
<!--

 

شخصاً وإن جل إلا عاد محجوباً
<!--

  الكواكب السماوية تطلع وتغيب ، وتتعاقب في إضاءة وإنارة هذا الكون العريض ، ولكننا قد لا نحس بفقد وغروب شيء منها مثل إحساسنا بفقد بدر المحافل وأنس المجالس الملك فهد بن عبدالعزيز حيث شاءت قدرة المولى أن يكون يوم الاثنين 26/6/1426هـ هو أخر يوم من أيام الدنيا لجلالته بعد حياة طويلة حافلة بالعطاء وبالمشاريع الهامة الجبارة التي يصعب عدُّها وحصرها لكثرتها وتنوعها ..، منها على سبيل المثال لا الحصر: ازدهار التعليم في جميع مراحله المختلفة منذ تربعه على وزارة المعارف عام 1373هـ إذ أخذ في التوسع شيئاً فشيئاً بقفزات ملحوظة ..، كما شجع ـ رحمه الله ـ على إبتعاث الآلاف من الشباب عدة المستقبل إلى خارج المملكة للتزود بالمعارف الجديدة الحديثة في شتى الفنون والتخصصات الدقيقة والعامة معاً ، في هذا العصر الزاهر بالعلوم والتقنيات المتطورة  والثقافات عالية المستوى، والتّقدم الصحي الذي شمل أنحاء هذا الوطن سُهُوله وهِضابه وبعد أن تولى مقاليد الحكم أمر باستثمار المال في تَرْسية وتقوية البنية التحتية:

والبيت لا يبتنى إلا له عمد
<!--

 

ولا عماد إذا لم ترسَ أوتاد
<!--

فَمدّت الطرق الطويلة والجسور العملاقة ، وشقت الأنفاق الكثيرة من تحت الجبال المواكِثِ لربط جوانب المملكة ببعضها ببعض مما ساعد على اختصار المسافات البعيدة وانسياب الحركة المرورية ، وتشييد مباني الجامعات والمستشفيات الفخمة ..، ومدينتي الجبيل وينبع الصناعيتين  والجسر العملاق الذي ربط المملكة بالبحرين ..، وبناء سائر المجمعات الحكومية .. مما جعل بلادنا تضاهي، وتضارع البلدان المتقدمة حضارياً في شتى الميادين..، كما أن التاريخ لن ينسى فهداً أبداً لما قدمه للأمة الإسلامية من خدمات جليلة  ومآثر عظيمة لخدمة دين الله ، فالتوسعة الهائلة التي لم يسبق لها مثيل للحرمين الشريفين مع جَلْب أفخر أنواع الرخام ضد حرارة الشمس التي غطت أسطح ومساحاتهما الواسعة جداً مما جعل الحجاج والعمار يسيرون في عز سطوع أشعة الشمس وهم مرتاحون لبرودة ذاك البساط الرخامي فضلاً عما يقدم لضيوف الرحمن من ملايين العبوات المبردة من ماء زمزم طيلة أيام الحج في منى وعرفات .. على نفقته الخاصة وإهداء كل حاج عند عودته نسخة من المصحف الشريف الذي تم طبعه في مجمع الملك فهد بن عبدالعزيز بالمدينة المنورة الذي عم نفعه أرجاء المعمورة وليبقى أجره وثوابه، بحول الله،  وذكرى خالدة له وللشعب السعودي:

فعاجوا  فاثنوا بالذي أنت أهلهُ
<!--

 

ولو سكتوا أثنت عليك ( المصاحفُ ) ..!
<!--

كما طبع ـ رحمه الله ـ على حب العمل الإنساني الخيري منذ فجر حياته ، وتلمس حاجات المواطنين الأرامل والأيتام ، ونفح الكثير من الجمعيات التي تعنى بالفقراء والمساكين في مواسم الخير مثل شهر رمضان المبارك ، وفصل الشتاء لعلمه بشدة الحاجة في تلك الظروف، ولا غرو فقد ترعرع وتربى هو وإخوته الكرام في مدرسة الملك عبدالعزيز ـ طيب الله ثراه ورحمهم جميعاً ـ لذا فقد عم الحزن أرجاء البلاد وخارجها ، وما تلك الجموع الغفيرة التي حضرت من مدن وأرياف المملكة لأداء الصلاة عليه بجامع الإمام تركي بالرياض ، والمواساة في رحيله وغيابه عن الوجود غياباً أبدياً إلا دليل قاطع على علو مكانته في القلوب، ولأن أضمرت الأرض جسد أبي فيصل فإن ذكره سيظل حياً عالياً ملوحاً بمآثره العظام مدى تعاقب المَلَوين ، كما أن أعداد الطائرات العالمية العملاقة القادمة من أنحاء كثيرةٍ متفرقةٍ من العالم تتسابق هُوياً على مدرجات مطار قاعدة الرياض الجوية لأجل تقديم العزاء لخادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن العزيز وولي العهد الأمير سلطان بن عبدالعزيز، ولأبناء الملك فهد والأسرة المالكة .

        ومما خفف مصاب الأمة الإسلامية أن تولى زمام الحكم الملك عبد الله بن عبد العزيز المعروف بالحنكة وبعد النظر والتواضع الجمّ ، فهو خير خلف لخير سلف .

        وفي هذه العجالة أعزي خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز وولي العهد الأمير سلطان ابن عبدالعزيز ، وإخوته الكرام ، وأبناء الملك فهد، والأسرة المالكة وجميع المواطنين راجين من المولى أن يتغمد الفقيد بواسع فضله ، ويسبغ عليه شآبيب رحمته ، إنه سميع مجيب .

        وأخيراً أهنئ خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله ابن عبدالعزيز بتوليه زمام الحكم وولي عهده الأمير سلطان ابن عبدالعزيز راجين من الله العلي العظيم أن يمتعهما بلباس الصحة ودوام التوفيق مردداَ هذا البيت :

ودم سالماً من كل سوء مهنئًا
<!--

 

بما نلته دهراً وما أنت نائله
<!--

رحمك الله أبا محمد(<!--)

(الأستاذ سليمان بن عبد العزيز المهيزع رحمه الله)

 

وما المال والاهلون الا ودائع      
<!--

 

ولا بد يوما أن ترد الودائع
<!--

في يوم الأربعاء 15/7/1427هـ توالى انخفاض دقات قلب الأستاذ سليمان بن عبد العزيز المهيزع مسرعة معلنة انتهاء ساعات عمره وأيامه بعد رحلة طويلة وحياة مديدة حافلة بالعطاء والنشاط المستمر في خدمة التعليم وفي جوانبه التربوية والتفاني في مطالبات الجهات المعنية لتطوير بلده ومسقط رأسه حريملاء حيث انه كان عضوا في اللجنة الأهلية بها، فهو لحوح في المطالبة حتى يحقق ما يصبو إليه من مشاريع تنموية ومصالح حكومية آخذا بقول الشاعر :

اخلق بذي الصبر ان يحظى بحاجته      
<!--

 

ومدمن القرع للأبواب أن يلجا
<!--

وقد تحقق الكثير منها بحمد الله .. وذلك بفضل من الله ثم بفضل من حكومتنا الرشيدة التي لا تألوا جهدا في إسعاد المواطن وبتطوير الأرياف والقرى كما هو مشاهد الآن .. ولقد درس علم الهجاء في الكتاب على بعض المطاوعة المشايخ محمد بن حرقان وأخيه إبراهيم وإبراهيم بن خميس، وختم القرآن الكريم على المقرئ الشيخ عبد الرحمن بن حمد بن داود رحمهم الله جميعاً، ولقد عانى في أول حياته مرارة الحرمان ومن حنان الأمومة والأبوة حيث باكره اليتم بفقد والديه الواحد تلو الآخر وهو لا يزال في طور الطفولة، فأظلمت الدنيا في عينيه وضاقت حيلته مما جعل بعض جيران والديه وأقربائه يعطفون عليه، ويحاولون تخفيف وحشة وحدته وغربته في الحياة وتجرعه غصص الحرمان من عطف وحنو الوالدين، ومكابدة الأحزان التي لا تبرح وجدانه ومشاعره، وعندما عبر الثانية عشر من عمره أخذت الأفكار تعتمل وتعتلج في نفسه وبين جوانحه محاولا النهوض من وكره إلى أي جهة عًله يجد سلوة في مجاهيل الحياة أو أي ناحية من نواحي الأرض بعيدا عن أترابه ولداته الذين ينعمون بحنان العطف بين أحضان والديهم وهو ينظر إليهم صباح مساء نظرة غبطة وغيرة .. ! وكأنه قد اضطلع على قول الإمام الشافعي الذي يحث على السير في مناكب الأرض حيث يقول :

تغرب عن الأوطان في طلب العلا    
<!--

 

وسافر ففي الأسفار خمس فوائد
<!--

ولقد لحظ بعض أقربائه اليقظة ومخايل الذكاء في أعطافه، والطموح إلى معالي الأمور رغم صغر سنه وضآلة جسمه :

تراه من الذكاء نحيل جسم     
<!--

 

عليه من توقده دليل
<!--

فلم ير بدا من الذهاب به إلى الرياض وإلحاقه بحلقات العلم بمسجد الشيخ محمد بن إبراهيم بدخنة وتلقيه مبادئ في اللغة العربية وبعض المتون في التوحيد والعقيدة (رحمهما الله)، ثم هيأ الله له من أخذ بيده صَوب مكة المكرمة ليلحقه بحلقات تعلم الخط والحساب والإملاء بأروقة المسجد الحرام عند باب الزيادة لدى الشيخ الحلواني رحمه الله، وبعد ما أخذ نصيباً من العلم ومن هذه المواد عاد إلى الرياض ودرس بالمدرسة الابتدائية السعودية الواقعة بحي الفوطة بالرياض، فواصل الدراسة حتى حصل على الشهادة الثانوية من المعهد العلمي السعودي بالرياض، فبدأ العمل مدرسا في غرة محرم عام 1368هـ بالمدرسة السعودية وفي عام 1369هـ افتتحت مدرسة حريملاء الابتدائية ونٌدب للعمل بها، ويٌعتبر أول مدرس من الرعيل الأول بحريملاء ثم رجع إلى الرياض للمدرسة السعودية ودرس في معهد الملك سعود للتربية والصناعة 1377هـ ثم انتقل إلى المدرسة النموذجية الابتدائية بشارع الشميسي عام 1378هـ التي تحول اسمها إلى بلال بن رباح رضي الله عنه، كما درس بمعهد الأنجال فترة من الزمن ثم أُعيرت خدماته إلى مكتب رعاية الشباب في إدارة التعليم سكرتيرا للمكتب، بعد ذلك عٌين مديرا بمدرسة حذيفة بن اليمان الابتدائية في الناصرية، إضافة إلى الإشراف على القسم المتوسط والقسم الليلي في المدرسة نفسها. وفي عام 1408هـ ودع العمل الرسمي حميدة أيامه (رحمه الله)، وله مشاركات في عدد من المؤتمرات والندوات التربوية داخل المملكة وخارجها وحضور لدورات ولحلقات التدريب في مجال الإدارة التربوية وطرق التدريس والمناهج في كل من مصر وسوريا واسبانيا ..، وله مساهمات وأراء حول التعليم نشر بعضها ...، كما صدر له كتاب عام 1416هـ (خواطر وذكريات عن التعليم في المملكة) وله كتاب آخر تحت الطبع مماثل لسابقه، فهو بحق رجل عصامي كافح في هذه الحياة بكل جد وإخلاص في خدمة التعليم وخدمة وطنه، اذكر انه يطرح بعض الأفكار في تلك الحقبة الزمنية البعيدة على اللجنة الأهلية مٌطالبا بالرفع للجهات العليا بإيجاد بعض المشاريع في حريملاء فنقابل ذلك بالاستغراب والاستحالة فوقع وتحقق ما كان ينظر إليه بمنظار بعيد المدى، وقد خلف ذرية صالحة تدعو له وتجدد ذكره الحسن على مدى الأيام .. غفر الله لك أبا محمد وأسكنك فسيح جناته والهم ذويك وذريتك وأم محمد الصبر والسلوان (إنا لله وإنا إليه راجعون).

زمـــيل رحـــــل إلى دار الخـــلود(<!--)

(الشيخ صالح بن عبد الله الصالح رحمه الله)

 

حسب الخليلين أن الأرض بينهما   
<!--

 

هذا عليها وهذا تحتها باقِ
<!--

الدوام لله الواحد القهار، والإنسان ليس له مجال في مدّ عمره أو تأخير موعد شخوصه ومغادرته من الدنيا التي كتب رب الخلائق على أهلها الفناء، فنرى البعض حينما يشعرون بدنو أجل واحتضار مريضهم يولولون ويبذلون ما في وسعهم باستدعاء الطبيب علّه يعمل شيئاً ما بدفع ما أحسوا به وأضمروه بين جوانحهم حياله، ولكن مهما حاولوا الأخذ بشيء من الأسباب لتمنحه فسحة من العمر الذي قدّر وسجل في جبينه منذ الأزل، فإن تلك الأسباب لا تجديه أبداً : قال الله في محكم كتابه :} إذا جاء أجلهم  فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ...الآية{ سورة يونس، آية 49.

ويقول الشاعر :

وإذا المنية أنشبت أظفارها  
<!--

 

ألفيت كل تميمة لا تنفع
<!--

فهذه الصورة وتلك المواقف الحرجة المحزنة التي تحمل في ثناياها الإشفاق والخوف من رحيل من يعز عليهم فراقه مماثلة لملازمة أبناء الشيخ صالح بن عبد الله الصالح بالمستشفى حينما تدهورت حالته الصحية ميمماً صوب الدار الآخرة حيث توفي يوم الخميس 21/8/1427هـ تاركاً وراءه ذكراً حسنا وأثرا ًطيباً وذرية صالحة تدعو له على مر الأيام والليالي، ولقد بدأت حياته كسابقيه من الرعيل الأول بالدراسة بالكتاب حيث تعلم الكتابة وحفظ القرآن الكريم على يد المقرئين الشيخين: حمد بن داود، ومحمد بن عبد الله الحرقان مع مساعدته لوالده في أعمال الفلاحة والزراعة في نخله بحريملاء، ولما أنس والده مخائل الذكاء فيه واستعداده الفطري لتلقي مبادئ في العلم بعثه إلى الرياض مع أحد أقربائه والتحق بحلقات العلم في مسجد الشيخ محمد بن إبراهيم بدخنة ودرس في علم النحو على فضيلة الشيخ عبد اللطيف ابن إبراهيم، وعلى مفتي الديار السعودية ـ آنذاك ـ سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم في بعض المتون مثل كتاب التوحيد والعقيدة الواسطية ومتن الأربعين النووية ...الخ، بجانب عمله في اللاسلكي وقسم البرقيات ...

وقد سكنا معاً بحي دخنه في أحد البيوت التي خصصها جلالة الملك عبد العزيز ـ طيب الله ثراه ـ لطلاب العلم المغتربين مع تخصيص مكافأة لهم ترغيباً في المواصلة لتلقي العلم ...، وذلك قبل انتشار المدارس النظامية في أنحاء المملكة ..، وكنا في ذلك السكن كالأسرة الواحدة في تآلفنا وتعاطفنا..، كل ثلاثة أو أربعة في غرفة، فالشيخ صالح ـ رحمه الله ـ يتصف بالكرم وسماحة الخلق.

ودائما نشرب الشاي والزنجبيل عنده  لأن الشاي له مذاق خاص في تلك الأيام، فهو موظف أدسم منا وله راتب، أما سائر طلاب العلم فليس لهم سوى اثنا عشر ريالاً مكافأة في تلك الحقبة الزمنية، وخاصة المبتدئين أمثالنا وإنما نعيش عيشة كفاف وبساطة وعلى ما يبعثه أهالينا من طعام وتمر وقليل من العيش ...، فكلما يتقدم طالب العلم يزاد في مكافأته ومخصصاته الغذائية ..،

كما أن الزميل صالح همزة وصل بيننا وبين الشيخ محمد ابن صالح بن سلطان ـ رحمه الله ـ أيام كان رئيساً في ديوان ولي العهد الملك سعود ـ رحمه الله ـ بأن نحضر إلى منزله الكائن في محلة الحنبلي بالرياض وخاصة في شهر رمضان حيث نتناول طعام الإفطار والعشاء معه على فترات متقاربة، فالشيخ محمد مطبوع على الكرم مبكرا والبذل في أوجه الخير، والعطف على طلاب العلم وخاصة المغتربين من خارج الرياض أمثالنا رغم قلة المادة لديه وعدم استقرار المال براحتيه، وكأن لسان حاله يَرُدّ على من يُحبب إليه  ادخار المال وقبض اليدين ـ آنذاك ـ بقول الشاعر :

نصيبك مما تجمع الدهر كَّلّه    
<!--

 

رداءان تُلْوَى فيهما وحنوط
<!--

ثم التحق بدار التوحيد بالطائف عام 71/1372هـ ، وسكنا سويا بالقسم الداخلي هناك، وواصل الدراسة حتى نال الشهادة العالية من كلية الشريعة بمكة المكرمة، وكان أثناء دراسته بكلية الشريعة يؤم المصلين بمسجد خالد بن الوليد بمحلة الشبيكة مع إشرافه على عمال مشروع التوسعة للمسجد الحرام المكي في الإجازات الرسمية وفي أوقات فراغه بتوصية من معالي وزير المالية ـ سابقاً ـ الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن العدوان، لما يتمتع به من حنكة ودراية في تلك المجالات، وكان السيد المهندس بن لادن المعني بتنفيذ المشروع يقدره ويمنحه جوائز تشجيعية على إخلاصه ومتابعته للعمال ..، وبعد التخرج عين مدرساًً فترة من الزمن بمعهد النور الذي كان يرأسه د/ عبد الله الغانم..، ثم أنتقل إلى قسم المناهج بوزارة المعارف والشئون المالية المتعلقة برواتب الموظفين ..، واستمر حتى تقاعده ـ رحمه الله ـ وكان لنا معه ذكريات جميلة في كثير من المواقع في بيوت الإخوان في مدينة الرياض أثناء تلقينا العلم على المشايخ، ثم بالقسم الداخلي بدار التوحيد بالطائف.. وأستمر هذا التواصل بيننا طيلة العمر المديد حتى قبيل رحيله، وستبقى هذه الذكريات الجميلة ماكثةً ومضيئة في طوايا النفس مدى عمري، ومن صفاته الحميدة هدوء الطبع، واحترام الغير، وترك ما لا يعنيه جانبا، مع الكرم وسماحة النفوس وطيب المعشر، وقد يٌطعِم أحاديثه ببعض الحكم والطرائف التي تؤنس السامع وتدخل البهجة والسرور.

فرحيلك أبا عبدالرحمن وتتابع قوافل الراحلين من أحبابنا وزملائنا في الآونة الأخيرة  يزيد من تراكم وكثافة الحزن في نفوسنا:

وكل مصيبات الزمان وجدتها       
<!--

 

سوى فرقة الأحباب هينة الخطب
<!--

رحمك الله ابا عبدالرحمن وأسكنك فسيح جناته والهم ذويك وذريتك ومحبك وأم عبد الرحمن الصبر والسلوان.

"إنا لله وإنا إليه راجعون "

 

<!--[if !supportFootnotes]-->

<!--[endif]-->

(<!--) نشرت في صحيفة الجزيرة، يوم الأحد 20 جمادى الآخرة 1427هـ، 16 يوليه 2006م.

(<!--) نشرت في صحيفة الجزيرة  يوم السبت 1 رجب 1427هـ الموافق 6 أغسطس 2005م.

(<!--) نشرت في صحيفة الجزيرة، يوم الأثنين 20 رجب 1427هـ، الموافق 14 أغسطس 2006م.

(<!--) نشرت في صحيفة الجزيرة، يوم الأثنين 10 رمضان 1427هـ، الموافق 14 أكتوبر 2006م. 

mager22

فقد ورثاء ( عبد العزيز بن عبد الرحمن الخريف )

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 268 مشاهدة
نشرت فى 30 سبتمبر 2013 بواسطة mager22

الزميل الذي رحل(<!--)

(الشيخ محمد بن عبدالله الصغير رحمه الله)

 

وكيف تلذ طعم العيش نفس   
<!--

 

غدت أترابها تحت التراب
<!--

        قبل وفاة الزميل الشيخ محمد بن عبدالله الصغير بيومين اتصلت عليه مسلماً ومخبراً له بأني قد ـ كتبت كلمة تأبين ـ عن وفاة زميلنا الشيخ إبراهيم بن محمد المحيميد فطلب صورة من تلك الكلمة الوجيزة، ولو علم بما في ضمير الغيب لما طلبها.. فبادرت ببعثها عبر اللاقط (الفاكس) بواسطة فضيلة رئيس محكمة الرس الشيخ عبد العزيز بن حمين الحمين وما لبث أن هاتفني فضيلته قائلا: عظم الله أجرك في زميلكم الشيخ محمد بن عبدالله الصغير.

        وقد سبق القدر وصول الكلمة إليه حيث انتقل إلى جوار ربه بعدما صلى الفجر في المسجد المجاور لمنزله يوم الاثنين 9/10/1425هـ وصلى عليه عقب صلاة العصر في جامع الشايع بالرس الذي اكتظ وساحته بجموع غفيرة من الرجال والنساء وبحضور أعداد هائلة من المحافظات والبلدان المجاورة.

        وقد تبعه إلى المقابر خلق كثير داعين المولى له بالمغفرة وطيب الإقامة في جدثه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وكان لهذا النبا وقع مؤلم في نفسي، كيف لا وهو من رفاق عمري وزميلي في الدراسة بدار التوحيد بالطائف عامي 71/1372هـ . ثم بالمعهد العلمي في الرياض حتى نال الشهادة العالية بكلية الشريعة عام1378هـ ، ثم عين قاضياً في محافظة الرس عام 1379هـ فرئيساً لنفس المحكمة حتى تقاعد في عام 1416هـ ، فكل يوم نودع راحلاً يغيب ولا يؤوب (من الزملاء والأحبة) حملتهم قوارب الرحيل النهائي في الآونة الأخيرة مسرعة بهم إلى ملتقى الراحلين، وهذه سنة الله في خلقه:

لعمرك ما أدري وإني لأوجل   
<!--

 

على أينا تعدو المنية أول
<!--

        ولقد خيم الحزن على أجواء محافظة الرس لفقده ورحيله وبعده عن أهله وأسرته ومحبيه، وعن طلبة العلم الذين يتلقون عليه الدروس داخل المسجد المجاور لمنزله في كتاب المستقنع، وفي النحو والفرائض وغير ذلك من المتون المفيدة، فهو غزير في علمه واسع الأفق كثير الاطلاع.

        وقد كان رئيساً لجمعية تحفيظ القرآن الكريم بمحافظة الرس، كما كان له دور بارز في الفتوى وإصلاح ذات البين في مجتمعه ... ومن سماته الحميدة الكرم ورحابة الصدر وهدوء الطبع وطيب المعشر. قليل الكلام كثير الفوائد. وأملنا في الله ثم في فضيلة الشيخ عبدالعزيز بن حمين الذي خلفه في رئاسة المحكمة الشرعية بألا ينسى تلك البراعم، وطلاب العلم الذين حزنوا على فراق شيخهم محمد بأن يكون خير خلف لخير سلف بدفعهم بحكمته إلى تلقي العلوم وتبصيرهم بما يخفى عليهم ـ وقد فعل أثابه الله ـ ولسان حاله يردد هذا البيت:

نبني كما كانت أوائلنا   
<!--

 

تبني ونفعل (فوق) ما فعلوا
<!--

        ولي معه ذكريات لا تغيب عن خاطري ولا أزال أتذكر تلك الأيام الجميلة والأمسيات المشرقة بدار التوحيد بالطائف وسويعات الآصال في أفياء هاتيك الجبال المتربعة على ميادين (قروي) غربي المدينة التي نزاول فيها بعض الأنشطة ونستذكر بها الدروس حتى قبيل غروب الشمس مدة أيام الدراسة هناك.

        وأتذكر جيداً مكان جلوس الشيخ محمد تحت تلك الصخرات منذ أكثر من نصف قرن هو وزميلنا الذي رحل منذ سنوات طوال : صالح السمنان رحمهما الله جميعاً.

فطلاب دار التوحيد لهم مكانة عالية باقية في شعاب نفسي، ولعل الغربة التي جمعتنا بالدار. وبالقسم الداخلي الذي يحتضن الطلبة المغتربين أمثالنا من أسباب تقوية أواصر المحبة والألفة، فما أجملها من أيام والشمل جامع لنا.

بلد صحبت به الشبيبة والصبا
<!--

 

ولبست ثوب العمر وهو جديد
<!--

        والعزاء في رحيله أنه ترك أثاراً طيبة، وخلف ذرية صالحة تدعو له وتجدد ذكره بالأعمال الجليلة والإخلاص في خدمة الوطن وأهله..

        وإنا لفراقك يا أبا عبد الله لمحزونون، غفر الله لك وأسكنك عالي الجنان، وألهم ذريتك ومحبيك الصبر والسلوان(إنا لله وإنا إليه راجعون).

 

رحمك الله أبا هشام(<!--)

(الشيخ صالح بن عبدالرحمن القاضي رحمه الله)

 

حبيب عن الأحباب شطت به النوى    
<!--

 

وأي حبيب ما أتي دونه البعد
<!--

شاءت قدرة المولى أن تنتهي أيام الشيخ المربي صالح بن عبد الرحمن القاضي من الدنيا صباح يوم الأربعاء 1/5/1426هـ حيث هوى من أعالى مبنى منزله، وقد هاتفني صديقه وعديله جاره الأخ الأديب حمد بن محمد الدريهم قائلا وقلبه يعتصر حزنا وأسفا على فراق رفيق دربه، مفيدا أن الشيخ صالح أبو هشام قد انتقل إلى دار الخلود تاركا فينا حزنا مقيما، وكان لوقع هذا الخبر المؤلم بالغ الأسى والحزن في نفسي، فلم املك في تلك اللحظة الموجعة لقلبي سوى الاسترجاع، (إنا لله وإنا إليه راجعون) والدعاء له بأن يسبغ المولى على جدثه شأبيب رحمته، فلقد عاش حياة ملؤها النفع والبذل في أوجه الخير والإحسان، وتلمس حوائج المساكين وذوي الاحتياجات الخاصة، وهو بجانب ذلك يحرص على إصلاح ذات البين ولم شمل الأسر المتصدعة رجاء المثوبة عند واضع الموازين يوم الحساب يوم يجازى كل بما قدم، كما إن عمله الوظيفي لم يعقه عن الدعوة إلى الله في المساجد وفي المحافل وعلى منابر المدارس داخل الرياض وخارجها حيث كان يملك أسلوبا تربويا مبسطا ذا جاذبية فريدة تلزم الطلاب وسائر السامعين إلى عطف أعناقهم نحوه منصتين بدون ملل أو تثاؤب لحلاوة حديثه وطراوته، وما يتخلله أحيانا من طرائف تنشط انتباههم، فكم من شاب غير مساره إلى المسار الأمثل بسبب قوة تأثيره وتوجيهه الأبوي في نفوسهم، وحثهم عن الابتعاد عن قرناء السوء واختيار من يتصف بالصفات الحميدة المثلى، وكثيرا ما يتمثل بمثل هذا البيت قائلا :

ولا تركن إلى أهل الدنايا     
<!--

 

فان خلائق السفهاء تُعدي
<!--

  فحديثه وإرشاداته دائما تتصف بالحث على الرفق والترغيب في الاستقامة واحترام الوالدين والمعلمين، وحسن التعامل مع جميع البشر.. ، ودائما يلجأ إلى الاستشهاد بالأمثال والحكم مستحضرا معنى هذا البيت:

والنفس إن دعيت بالعنف آبية     
<!--

 

وهي ما أمرت بالرفق تأتمر
<!--

فرحمك الله أبا هشام فلقد وقفت حياتك في استثمار الوقت موجها تربويا وناصحا أبويا وداعيا لأقوم السبل عبر بر الأمان عن الانحرافات والتجمعات المشبوهة التي تهوي بصاحبها وتورده موارد المذلة وسوء المصير، ولقد سعدت بمعرفته حين تشريفه مدارس محافظة حريملاء للتوجيه والإرشاد واجتماعه بالمعلمين هناك وحثهم على الاستقامة والقدوة الحسنة والإخلاص في أداء أعمالهم واعتبار الطلبة أمانة في أعناقهم كي ينالوا الأجر والرضى من المولى، وليتركوا أثرا طيبا وذكرا عطرا في نفوس أبنائهم حينما يكبرون ويتذكرون مدى حرص معلميهم وإخلاصهم نحوهم فيثنون على أحيائهم ويترحمون على من أضمرتهم الأرض:

فارفع لنفسك قبل موتك ذكرها    
<!--

 

فالذكر للإنسان عمر ثاني
<!--

كما لا أنسى زيارته لنا ورفيق دربه الأستاذ حمد الدريهم عدة مرات حين مرورهما عبر طريق حريملاء العام صوب مدينة ثادق مسقط رأس الأخ حمد.. وتجاذب أطراف الأحاديث الشيقة معهما وتبادل هدايا الكتب المفيدة.. وسيحدث الغياب المفاجئ فراغا واسعا في نفوس أبنائه المفجوعين وأسرته ومحبيه وصديقه وجاره الأستاذ حمد وكأني بأبي محمد حينما يخلو بنفسه ويتذكر السويعات الطوال التي قضياها سويا يردد قول سيبويه حينما فتح عينه وهو يحتضر في حجر أخيه بقوله:

أُخيين كُنا فرق الدهر بيننا   
<!--

 

إلى الأمد الأقصى، ومن يأمن الدهرا
<!--

وفي هذه العجالة أعزي مسئولي ومنسوبي وزارة التربية والتعليم في فقد مثل هذا الرجل الناصح والموجه التربوي الناجح، كما أعزي كافة أسرة القاضي.

غفر الله لك أبا هشام وأسكنك عالي الجنان والهم ذويك وزوجتك ومحبيك الصبر والسلوان. 

( إنا لله وإنا إليه راجعون ) .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

رحمك الله أبا عبد الرحمن(<!--)

(الشيخ سعود بن عبدالعزيز آل دغيثر رحمه الله)

 

تولى وأبقى بيننا طيب ذكره
<!--

 

كباقي ضياء الشمس حين تغيب
<!--

الإنسان في هذه الحياة مهما طال به الزمن وتخطى عشرات العقود متنقلاً على ظهر هذه الأرض حيث تسير به قدماه ومراكبه لابد أن يصل للنهاية الحتمية وأن ينزل في صدع بباطنها، فيظل بها وحيداً مقيماً بعيداً عن أحبته ورفاق عمره، إلى يوم النشور يوم يبعث الله الخلائق، وتنصب الموازين القسط ليوم القيامة، فما أسعد من يرحل بزاد من التقوى والعمل الصالح رجاء المثوبة من المولى عند لقائه. ففي صباح يوم الخميس 22/10/ 1426هـ هاتفني أحد الإخوة والحزن باد عليه قائلاً : إن أبا عبد الرحمن  الشيخ سعود بن عبدالعزيز آل دغيثر قد رحل إلى دار البقاء ملبياً داعي الله وأن علاقته بالدنيا قد انتهت تماما، فحزنت لهذا النبأ حزناً عظيماً داعياً المولى أن يسكنه عالي الجنان جزاء ما قدم من أعمال جليلة صالحة، ولقد توالى الحزن على أجواء محافظة حريملاء التي فقدته وافتقدت سابقيه أمثال الشيخ محمد بن صالح ابن سلطان، ومعالي الشيخ عبدالله العمار، ومعالي الشيخ عبدالله بن عدوان، والشيخ حمد بن علي المبارك ـ رحمهم الله جميعاً ـ وغيرهم من أبنائها البررة الذين ساهموا بالبذل السخي في كثير من المشاريع الخيرية وبالجاه والجهد في تطويرها، وإظهارها بالمظهر الحضاري في ظل حكومتنا الرشيدة التي لا تألوا جهداً في إسعاد المواطنين، وتطوير البلدان عامة مما جعل المدن الصغيرة أمثال محافظة حريملاء تضاهي كبريات المدن، وقد ترعرع الشيخ سعود في أكناف حريملاء، ودرس في إحدى الكتاتيب بها حتى أكمل كتاب الله وحفظ أجزاء منه، مع إتقان خط الكتابة، ودرس على بعض العلماء واستفاد من مجالسهم خبرةً وأدباً، ثم شخص إلى الرياض وصحب بعض أقاربه في الأسفار مدة من الزمن مما أكسبه حنكةً ودراية بشئون الحياة أهلته بأن يُختار رئيساً لديوان ولي العهد ـ أنذاك ـ الملك سعود بن عبدالعزيز ـرحمه الله ـ مدة طويلة، ثم عين وكيلاً لوزارة المالية بالمنطقة الشرقية خلفاً لمعالي الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن العدوان، ثم خلفهما على هذا المنصب الشيخ الراحل حمد بن علي المبارك (رحمهما الله جميعاً)، وهؤلاء الثلاثة الأفذاذ كلهم كانوا محل التقدير والثقة التامة من قبل ولاة أمر هذه البلاد، وكانوا خير معين لمن يؤم المنطقة من الشباب لطلب العمل لدى شركة أرامكو وبعض الدوائر الحكومية، يقوموا بمساعدتهم وتسهيل أمورهم، وترغيبهم في الحضور إلى منازلهم في كثير من المناسبات لإكرامهم وتخفيف وحشة الغربة عنهم،  بعد ذلك عين سفيراً في لبنان ومكث هنالك بعض السنين، ثم طلب الإعفاء وأخلد للراحة، وقضى شطراً من الوقت بين الرياض والبلاد المقدسة حتى أدركه المرض أخيراً، فرحل مأسوفاً على فراقه وبعده عن محبيه وأسرته، علماً أنه منذ بدء حياته كان يتمتع بالصحة والعافية ورحابة الصدر وطراوة البشرة وبشاشة المحيا التي لم يفقدها رغم عبوره الهنيدة بثلاثة أعوام ـ تغمده الله بواسع رحمته ـ متذكراً هذين البيتين للشاعر الأيوبي بهاء الدين زهير:

فيا أسفي لجسمك كيف يبلى       
<!--

 

ويذهب بعد بهجته سناكا
<!--

ختمت على ودادك في ضميري   وليس يزال مختوماً هناكا

وله بعض الآثار الحميدة في مسقط رأسه حريملاء منها على سبيل المثال : تبنيه أول مشروع لسقيا المواطنين، وببلدة القرينة المجاورة لها ..، مع عمل خزانات لضخ المياه للمنازل .. ، كما قام بفتح أول شارع داخل البلد للربط بين محلتين على نفقته الخاصة وتوسعة بعض الطرق والمنافذ... ، وكان عطوفاً على الأرامل والمحتاجين يمدهم بالصدقات والإعانات، وفي دعم بعض المشاريع الخيرية داخل البلاد وخارجها، فهو سهل العريكة لين الجانب ومحب للأخيار ومجالس الأدب، وأذكر جيداً صلته الوثيقة بوالدنا الشيخ عبد الرحمن بن محمد الخريف رفيق والده عبد العزيز بن حسن الدغيثر ـ رحمهم الله جميعاً ـ  وكان كُلما استبد به الحنين إلى زيارة مراتع صباه يمر على والدنا تواصلاً وبراً وتكريماً لحب أبيه، مع طرح بعض الأسئلة في الفقه وغيرها على الوالد ليأنس بالأجوبة الصحيحة، وظل تواصلي معه قائماً ولازلت محتفظاً ببعض رسائله وبرقياته في المناسبات والأعياد التي تردنا منه من المنطقة الشرقية ومن السفارة بلبنان، ونجيبه على ذلك :

نبادله الصداقة ماحيينا
<!--

 

وإن متنا سنورثها البنينا
<!--

فما أجمل التواصل بين الإخوة والأحباب، وسيرته كلها عطرة بالثناء والذكر الحسن، وكأني بمن أعتاد السمر معه والحضور إلى قصره والجلوس بالخيمة الرحبة المتربعة على مرتفع في وسط نخله وبستانه الواقع بحي سلطانة بالرياض، والسكون قد ساد ذاك المكان الذي ألفوه فلا يسع من يجول بطرفه إلا أن تذرف عيناه وتفرغ ماءها تحسراً وتفجعاً على غائب لا يؤوب مرددين هذا البيت :

يعز علي حين أدير عيني   
<!--

 

أفتش في مكانك لا أراك
<!--

رحمك الله أبا عبد الرحمن وأسكنك فسيح جناته وألهم ذويك وأبنائك ومحبيك الصبر والسلوان.

إنا لله وإنا إليه راجعون

الشيخ محمد الشدي إلى رحمة الله(<!--)

 

هو الموت مامنه ملاذٌ ومهرب
<!--

 

متى حط ذا عن نعشه ذاك يركب
<!--

   بالأمس القريب افتقدت محافظة حريملاء أحد رجال الدولة المخلصين سعادة الشيخ سعود بن عبد العزيز الدغيثر  ـ رحمه الله ـ ، وفي عصر يوم الثلاثاء 27/10/1426هـ فجعت حريملاء برحيل عالم بارز من علمائها الأفاضل الشيخ محمد بن عبدالعزيز الشدي بعد حياة حافلة بأعماله الجليلة في التعليم والدعوة والإرشاد، واعتلاء المنابر في الخطابة والتوجيه، ولقد اكتض الجامع الكبير بالحي الجديد في محافظة حريملاء بمئات المصلين منها ومن مدينة الرياض والبلدان المجاورة لها حيث صلي عليه بعد صلاة العشاء ، وتبعه إلى مضجعه ومثواه أرتال هائلة من السيارات ضاقت بها الطرقات وهي تحمل أعداداً كثيرة من المشيعين له حتى أنزلوه جدثه بإحدى مقابر حريملاء والحزن بادٍ على محيا كل منهم ، داعين المولى أن يتغمده بواسع رحمته ، ثم انصرفت عنه أحبته وتلك الجموع الغفيرة فأمسى ثاوياً وحيداً لم يبق معه سوى ما قدمه وادخره من حسنات وعمل صالح ـ راجين له الثبات والمغفرة ـ ولقد هون الله ميتته، يقال: أنه بعدما أدى صلاة الظهر بالمسجد المجاور لمنزله أخذ بيده أحد جيرانه وسارا يتجاذبان أطراف الحديث حتى دخل منزله، ثم آوى إلى فراشه كعادته، وعندما أراد أحد أفراد أسرته إيقاظه لتناول طعام الغداء ولصلاة العصر وجده قد فارق الحياة بهدوء. ويعتبر أبو خالد من زملاء الدراسة منذ بدئها بالكٌتاب، ولدى المشايخ : الشيخ محمد بن إبراهيم مفتي الديار السعودية ـ آنذاك ـ وأخيه الشيخ عبد اللطيف ـ رحم الله الجميع ـ حيث تلقينا عليهما مبادئ في العلم وحتى الدراسة النظامية بالمعهد العلمي بالرياض وبدار التوحيد بالطائف حيث أتم دراسته العليا بكلية الشريعة بمكة المكرمة عام 82/1383 هـ ثم عين بمدرسة القراءات بالمدينة المنورة في 10/6/1383هـ ثم انتقل إلى متوسطة حريملاء عام 1385هـ وعشنا سويا بالمتوسطة والثانوية حتى تقاعد، وكان مخلصاً في أداء عمله ومحترماً لدى الجميع، وفي جزء من خدماته ’فرّغ مرشداً وواعظاً متنقلاً بين المدارس في عدد من مناطق المملكة، وملقياً الخطب فوق منابر الجوامع في كثير من مساجد المدن والأرياف، وكان مهيباً مؤثراً ومقبولاً لجزالة لفظه، وصدق نصحه.

إن العظيم وإن توسد في الثرى
<!--

 

يبقى على مر الدهور مهيبا
<!--

فهو ـ رحمه الله ـ يشد السامع حينما يتكلم بعباراته الجزلة التي تتصف بالبلاغة ومتانة الأسلوب، ولقد تروى من العلوم الشرعية واللغوية مبكراً مستغلاً أوقات فراغه في النهل من موارد العلوم العذبة حتى في الإجازات الصيفية، أذكر أني قد زرته في منزله بشعب عامر أيام دراسته بكلية الشريعة بمكة المكرمة أثناء الإجازة الصيفية هو وزميلنا الراحل الشيخ صالح الزغيبي وهما ينصتان لقراءة زميل لهما في أحد كتب المطولات خارجة عن منهج الدراسة للاستفادة وتنوير أذهانهما ـ وهما بصيران لا يبصران ـ ولقد وعيا قول الشاعر ابن هبيرة الذي يحث على حفظ الوقت :

والوقت أنفس ما عنيت بحفظه   
<!--

 

وأراه أسهل ما عليك يضيع
<!--

مما جعله صاحب رأي في كثير من الأحكام الشرعية والفقهية يقارع فيه بعض العلماء ويظل أحياناً صامداً وكأني به ينهي نقاشه معهم متمثلاً بقول الآخر:

نحن بما عندنا وأنت بما   
<!--

 

عندك راض والرأي مختلف
<!--

فهو يتمتع بشجاعة عامة، ويتمسك في آرائه العلمية مدعماً ذلك بالأدلة، ولقد وهبه الله جمال الصوت والحفظ لكتاب الله كاملاً مع الإلمام بتفسيره وإيضاح معانيه يختمه كل سنة في شهر رمضان أثناء صلاة التراويح والقيام وكان المسجد يزدحم بالمصلين لسماع تلاوة القرآن الكريم من فيه لما يجدونه من حلاوة وسلاسة في التلفظ به.

تبلى الحناجر تحت الأرض في جدث 
<!--

 

وصوتها يتلو الآيات و السورا
<!--

كما أنه خطيب مفوه لا يشق له غبار ينتهز المناسبات، وفي مواسم الحج والأعياد كل عام يذكر ويحذر من ارتكاب البدع والمحرمات، والابتعاد عن الأفكار المنحرفة، وتبصير العوام بأمور دينهم، ولقد صال وجال في الحياة وذاق حلوها ومرها، ولكن الذي آلمه كثيراً وهد كيانه أخيراً توالي الأحزان عليه: موت والده، ثم تلاه الحادث الذي أفقده ابنه خالد الواقع في 21/1/1400هـ وجعل حزنه يطول ، فرثاه بمنظومة شعرية مؤثرة نختار من ثناياها ثلاثة أبيات :

ففي جنة الخلد يا بني نلتقي        
<!--

 

قد استعر القلب من لوعاك استعارا
<!--

وكففت دموعاً لو سكبتها           
<!--

 

لمـلأت الشـعاب و الصحـــارا
<!--

ودفنت آمالاً كنت أؤملها
<!--

 

وعزفت عن الدنيا سرها والجهارا
<!--

غفر الله لك أبا خالد وأسكنك فسيح جناته وألهم ذويك وأبناءك وأم خالد وجميع محبيك الصبر والسلوان،

              (إنا لله وإنا إليه راجعون)


ورحـــل مربي الأنجال والأجيال(<!--)

(الشيخ عثمان بن ناصر الصالح رحمه الله)

 

كذلك الموت لا يبقي على أحد
<!--

 

مدى الليالي من الأحباب مَحْبُوباً
<!--

   إنه شيخنا الفاضل عثمان بن ناصر الصالح ـ رحمه الله ـ فبعد إجراء العملية الدقيقة "الملاصقة لجدار"بنك الذاكرة والمعلومات برأسه" أخذ أفواج الزوار من محبيه ومن تلامذته وعارفيه يتجهون صَوْبَ مستشفى الملك فيصل التخصصي للاطمئنان على صحته متفائلين بنجاح العملية في البداية، كما ظل رنين الهواتف لا يتوقف طيلة إقامته بالمستشفيين التخصصي ومدينة سلطان بن عبد العزيز الإنسانية للخدمات الطبية للاستفسار عن حالته الصحية مقرونة بالدعاء له، كما أفاض الكثير من الكتاب والشعراء بدورهم عبر الصحافة بالثناء عليه وعدّ مآثره الحسان، ونشاطاته الأدبية والثقافية، والتنويه بما يتمتع به من تواضع جمِّ وطيب معشر، وبحرصه الدائم على تلبية الدعوات وإن بعد مكانها داخل الوطن أو خارجه، فهو صديق وفي ومحب للجميع.

   وأذكر أنه قد بدأ في مراسلتي قبل أن اسعد بمعرفته ومقابلته أيام كان مديراً لمعهد الأنجال الواقع قُبالة الناصرية بالرياض عام 1380هـ وأنا مدير لمعهد المعلمين بحريملاء، ولازلت محتفظاً بتلك الرسائل القيمة التي أبدى فيها أغتباطه بثناء بعض الموجهين على حسن سير العمل لدينا بالمعهد، وقد حثنا ـ رحمه الله ـ على الاستمرار في مواصلة نشاطنا وتشجيع الطلبة على التحلي بالأخلاق الفاضلة، واحترام مُعلّميهم، وبالمثابرة في التحصيل العلمي والأدبي والخطابة معاً، فهم رجال الغد..

   كما قد سعدنا بالاجتماع به في المناسبات التي تقام في بعض المدن مثل مكة المكرمة، والطائف، ونجران، والغاط وروضة سدير، والمجمعة، وحريملاء، والقصيم، وكذلك بالصالونات الأدبية المنزلية وغير ذلك من المناسبات السعيدة ـ وكان جلوسه دائماً في صدر تلك المحافل ـ   لمكانته العالية في القلوب تكريماً وتقديرا ًلما يتمتع به من خلق كريم وأدب جمّ رفيع، وكثيرا ما كان يؤنس الحضور بأحاديثه الشيقة، وبنظمه الشعري المباشر الخفيف على القلوب والأسماع، وبتعليقاته ومداخلاته أحيانا في بعض المجالات، فهو بحق بدر المجالس والمنتديات الأدبية:

يتزين النادي بحسن حديثهم   
<!--

 

كتزين الهالات بالأقمار
<!--

ولكن شَعُوباً بعد ما أُدخل المستشفى ـ كما أسلفنا ـ كان ينتظر الأذن له من المولى بأن يرحل بشيخنا الحبيب إلى دار الخلود، فلما انتهى رصيده من أيام  الدنيا فرّت روحه الطاهرة إلى باريها في ليلة السبت 25/2/1427هـ وصلى عليه بعد صلاة العصر في جامع الملك خالد بأم الحمام بالرياض ، وقد ضاق ذلك المسجد وساحاته بالمصلين عليه رجالاً ونساء وبكاه كل من حوله من الأهل وأفراد أسرته، ومحبيه في تلك اللحظة الحرجة المحزنة راجين من المولى أن يحسن وفادته ويسكنه الفردوس الأعلى، ولقد أحدث غيابة فجوة واسعة في الميدان الثقافي، وفي المنتديات الأدبية كأثنينيته التي كانت تكتظ بالأدباء ورجال الفكر والعلم، وكان ينتقي ويستضيف فيها نخبة ممتازة من العلماء والأمراء، والأدباء وكثير من رجال الأعمال، فهي ملتقى ممتع ومفيد جداً للأدباء والمفكرين من رجال هذا الوطن، كما كان يحضرها الكثير من السفراء ورجال السلك الدبلوماسي من بعض الأقطار الشقيقة فهي نبع ثَري من المعرفة مما جعلها تُؤم وتقصد كمثيلاتها من الصوالين الأدبية ومجالس الوجهاء والمفكرين، وكأني بمن أعتاد الحضور إلى ذاك المكان الرحب (الاثنين) ـ وصدر صاحبها أرحب ـ يقول للشيخ عثمان قُبيل رحيله: "ومن اتخذت على الضيوف خليفة"؟!

والأمل معقود بأبنائه البررة ليعملوا شيئا ماّ ليدوم التواصل إلى ذلك المكان الذي ألفوه، ولتجدد الذكر والدعاء لمن وارته الترب ـ حميدة أيامه ـ ولئن بعد عنا أبو ناصر وأوغل في البعد فإن شخصه سيظل ماثلاً في ذاكرتي ومخيلتي ، وذكرياتي الجميلة معه لا تبرح خاطري مدى عمري، كمالا يفوتني التنويه والإشادة بعمله القيادي والتربوي أثناء عمله مديراً ناجحاً لمعهد الأنجال الذي ظل فيه أكثر من ثلاثين عاماً قائداً لمسيرته محترماً مهيباً:

ثلاثون عاماً بل ثلاثون درة    
<!--

 

بجيد الليالي ساطعات زواهيا
<!--

فقد تخرج على يديه عشرات الأفواج من أبناء الملوك والأمراء وكثير من أبناء هذا الوطن الذي تسنموا المناصب العالية، وكان ـ رحمه الله ـ محل التقدير والتكريم من ملوك هذا الوطن ومن تلامذته الأمراء وغيرهم، فهو خير مرب ومعين لما وصلوا إليه من علم وأدب رفيع وثقافات عالية، وقد كرمته الدولة ـ أعزها الله ـ ومنحته وسام الملك عبد العزيز من الدرجة الأولى، كما نال دروعاً عدة وشهادات تقديرية في مناسبات متكررة داخل الوطن وخارجه..، وقد ترك آثاراً طيبة وذكراً حسناً، ومكتبة ضخمة حاوية نفائس الكتب وسائر المراجع العامة والخاصة والمخطوطات النادرة، وقد أفنى عمره في جمعها وانتقائها من أشهر المكتبات والمعارض الدولية في الداخل والخارج، مع ما أنظم إلى أرففها من الكم الهائل من هدايا أصدقائه ومعارفه، وتلاميذه، وكأني به عندما أحس بدنو أجله أخذ يقضي الساعات الطوال داخل المكتبة يسرح طرفه في أرجائها، ويطيل النظر في تلك الرفوف المثقلة بأحمال الكتب الحبيبة إلي قلبه وبداخله ما به من تحسر على تركه إياها مُردداً في داخل نفسه هذين البيتين المشهورين:

أقلب كتباً طالما قد جمعتها
<!--

margin:

mager22

فقد ورثاء ( عبد العزيز بن عبد الرحمن الخريف )

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 235 مشاهدة
نشرت فى 30 سبتمبر 2013 بواسطة mager22

رحمـك الله أبـا يــوسـف(<!--)

(الشيخ محمد بن عبدالله آل الشيخ مبارك رحمه الله)

 

يـمــوت قـــوم فــلا يــأســى لهـم أحـد
<!--

 

وواحد موته حزن لأقوام
<!--

    شاءت قدرة المولى أن يكون يوم السبت 2/9/1425هـ هو آخر أيام الشيخ الفاضل محمد بن عبد الله بن عبد اللطيف آل الشيخ مبارك من أيام الدنيا الفانية إلى دار الخلود، بعد عمر مديد حافل بالأعمال الجليلة والذكر الحسن، فلقد خيّم الحزن على محافظة الأحساء لفقده وغيابه الطويل الأمد، وكان قد قضى الشطر الأول من حياته بين أحضان والديه ومع لداته وأترابه، وعند بلوغه السادسة من عمره ألحقه والده بإحدى مدارس الكُتاب لحفظ كلام الله وتعلّم الكتابة والقراءة، ثم واصل طلب العلم حتى نال الشهادة العالية من كلية اللغة العربية عام 1382هـ، ولقد تربى في بيت علم وأدب منذ نعومة أظافره، ومعلوم أن مدينة الأحساء تحتضن نخبة من العلماء والأدباء والشعراء معاً، فهي بيئة صالحة للنهل من موارد العلوم، وسائر روافد الثقافة العامة والخاصة، وقد بدأ العمل مديراً للمكتبة العامة بالهفوف وإماماً وخطيباً في جامع الإمام فيصل بن تركي بالأحساء وأخيراً عمل مستشاراً شرعياً ومأذوناً للأنكحة، وكم جمع بين رأسين، وأصلح بين فئات عدة من الأسر كادت أن تتباعد، فهو إنسان لبق ومحبوب موفق في إقناع الأطراف المتنافرة والمتخاصمة ولمّ الشمل بينهم، وكان له نشاط إذاعي ملحوظ عنوانه (تهادوا تحابوا) فكم أنصتت الأذن لذلك الصوت الأثيري المميز الذي يصب شلالاً في النفوس السليمة، ويلين هضاب القلوب القاسية فتنتفع بما يتفوه به من حكم وأمثال، ونصائح وإرشادات عامة معظمها يحث على استحضار عظمة الخالق والخشية من وعيده، والطمع فيما أعده لعباده الصالحين، عبارات سهلة وجزلة تحض على تقوية أواصر المحبة والتواصل بين الأسر وبر الوالدين، وإكرام صديقهما، وصلة الأرحام وحسن التعامل مع الغير، ورأب الصدع بين المتخالفين، ولقد تفضل ابنه د. محمود في إحدى زياراتنا لهم بالأحساء بإهدائي مجموعة من الأشرطة التي كانت تذاع صباحاً بصوت تلذ له الأسماع،  ويعلم الله أني حينما أسمع صوته وأنا على مقربة من منزلي أسرع لأجل تسجيله وذلك قبل الحصول على مجموعة الأشرطة كاملة، كما أن الشيخ يتصف بدماثة الخلق، وطيب المعشر، وبالكرم الحاتمي، وكانت لنا معه مداعبات لطيفة، وذكريات جميلة في طوايا النفس، لا يمحوها ماح على مر الليالي والأزمان، أذكر بعضاً منها، ونحن في طريقنا صوب الدمام لحضور حفل زواج أحد الأقارب هناك، وكان العزم بأن يكون غداؤنا لدى الشيخ حمد ابن علي المبارك ـ رحمه الله ـ لكون منزله أقرب إلى مقصدنا الذي حضرنا من أجله، وحيث أن طريقنا محاذٍ للأحساء وفي الوقت فسحة، ولما تحمله قلوبنا من محبة ومودة صادقة لأسرة آل مبارك أحببنا أن نعرج على الهفوف للسلام على الأحباب المشايخ، وخاصة الشيخ محمد للاطمئنان على صحته ـ رحمه الله ـ الذي كان يعاني من أمراض عدة، فقد ألحّ علينا بتناول طعام الغداء حينما أحس أن الوقت قد أدركنا بالأحساء، ورغم إلحاحه التمسنا بعض الأعذار الواهية التي اتصفت بالإيهام قائلين أنه سبق أن ارتبطنا مع ابن (دريهم) أحد الزملاء وكنا ننوي في قرارة نفوسنا الذهاب إلى بعض الفنادق أو المطاعم الراقية هناك، وكل ذلك تهرباً من تكرار المبالغة في تكريمه لنا عند زيارتنا له أثناء مرضه وعدم إعطائه الفرصة الكاملة للمشايخ الذين دائماً يغمروننا بأفضالهم وبهداياهم القيمة.. وبعد توديعنا لهم خشينا التأخر على الشيخ حمد بالدمام فاتصلنا عليه بالهاتف وأخرنا موعد الغداء ثم استجبنا لدعوة (ابن دريهم..!) الذي سبب الحرج لنا مع الشيخ حمد ومع الشيخ محمد ـ رحمهما الله جميعاً ـ وحينما علم بذلك ألحقنا عبر اللاقط ـ الفاكس ـ ببعض الأبيات اللطيفة التي تحمل في ثناياها بعض العتب علينا، وقد استعنت بابن أخي الشيخ الأديب ناصر بن محمد الخريف بالرد عليه والاعتذار له ـ تغمده الله بواسع رحمته ـ أذكر منها على سبيل المثال هذين البيتين:

يــا بــن الخــريـــف قـــد ذكــــرت
<!--

 

إن الغداء لدى حمــد
<!--

قــد كـــان عــــــذرك واهــيــــــاً
<!--

 

وابن الدريهم قد شهد
<!--

وجوابهما ما يـلي:

جــاء العـــتــــاب مــبــطــــــن
<!--

 

وفي النظم مكمن قد ورد
<!--

والــعـتــب يــــــأتــي نــظــمـــه
<!--

 

مثـل الأسنة بل أحـد
<!--

يــــا ابـــن المــبــارك لا تـــلــــــم
<!--

 

عذراً أتى أو قد يرد
<!--

        ورغم ما يكابده من متاعب جمة فإنه يلح على كل زائر ليدخل منزله، فهو منافس قوي لأسرة آل مبارك المشهورة بالكرم وبالأدب الجم الرفيع، كما أن الشيخ رغم مرضه يحاول أن لا يفوته الحضور إلى مجلسهم العام الذي يتصدره حالياً عميد أسرتهم الشيخ الأديب السفير أحمد بن علي المبارك ليأنس بهم قبل غيابه عن الوجود، وما يدور فيه من تجاذب أطراف الأحاديث الشيقة، والفكاهات والحكم والأمثال، والإطلاع على ما يجد في الساحة الأدبية من جيد الأشعار فهم يشغلون بها معظم أوقاتهم في بهجة وسرور، فوقتهم كله نشاط مستمر لا يتطرق إليهم ملل ولا فتور بل إن التثاؤب لا يجد إلى أفواههم سبيلاً، فكل واحد منهم يحاول اقتناص الفرصة وإحضار ما يلذ لخاطره ويؤنس الحضور من طرائف وحكم يقتات بها عقله ويمتع بها نفسه، ويسرح بها همه، ولسان حالهم مستحضر هذا البيـت :

وخـــذ مــا صــفــا مــن كــل دهـر فإنــما
<!--

 

غضارته غنم لنا ونهابُ
<!--

        فما أجمل مجالس العلم ومحادثة ذوي العقول والآداب محلاة بجيد الأشعار وأحلاها، فهي تُمرِر ساعات العمر وأيامه في هناء ومسرات بعيداً عن المنغصات وكدر الحياة. وهذا شأن آل مبارك بالأحساء شباباً وكباراً.. فأنا أتمثل بهذا البيت مودعاً لأبي يوسف ـ تغمده الله بواسع رحمته ـ وألهم ذويه وأسرته الصبر والسلوان، ومتذكراً من سبقه من علمائهم الكرماء إلى مراقد الراحليـن :

أمصــغــيـة أجـــداثــكم فــأزيــدهـــا
<!--

 

منـادب فيـها للدموع بــواعـث
<!--

{ إنا لله وإنـا إليــه راجـعــون } ..

ما أصعب فراق الأحبة(<!-- )

(الشيخ إبراهيم بن محمد المحيميد رحمه لله)

 

يُجدُّ النأي ذكركَ في فؤادي   
<!--

 

إذا وَهِلَتْ على النأي القلوبُ
<!--

فجائع الأيام تترى وأحزانها تتجدد فكلما يَخبُو أُوارُها نفاجأ برحيل غال لا يؤب، وبالأمس القريب ودّعنا صديقاً حميماً إلى مثواه في أحد مقابر الهفوف بالإحساء الشيخ محمد بن عبد الله آل الشيخ مبارك، وقبله الزميل الحبيب الأستاذ عبد العزيز بن عبد الله الخراشي، واليوم الخميس 14/9/1425هـ نودع الزميل العزيز الشيخ إبراهيم بن محمد المحيميد زميل الدراسة بدار التوحيد عامي 71/1372هـ وحينما رفعت سماعة الهاتف لأبارك له في هذا الشهر الكريم وفي دخول العشر الوسطى قائلاً: السلام عليك يا إبراهيم السلام عليك يا إبراهيم فلم يجبني هذه المرة:

أناديهم والأرض بيني وبينهم
<!--

 

ولو يسمعوا صوتي أجابوا فأسرعوا..!
<!--

بل أجابني أحد أبنائه وهو مُجهش بالبكاء والحزن العميق، فقال: زميلك والدنا قد انتهت أيامه من الدنيا ورحل عنا إلى دار المقام. فلم أملك في تلك اللحظة المحزنة سوى تلاوة الآية الكريمة ( إنا لله وإنا إليه راجعون ) والدعاء له من أعماق نفسي بأن يتغمده المولى بواسع رحمته ومغفرته، ولقد أرجعتني الذاكرة فجأة إلى أيامنا الأول الجميلة التي قضيناها معاً بالصف الأول والثاني بدار التوحيد بالطائف عامي 71/1372 هـ والتي كانت ترفرف على هاتيك الأجواء أجنحة الألفة والمسرات، وإلى ذلك القسم الداخلي الذي يحتضننا معشر الطلبة المغتربين بجوار مبنى الدار بحي (قروى) أيام لا تنسى أبداً، وكان ـ رحمه الله ـ يتمتع بالهدوء ودماثة الخلق، ورحابة الصدر، وكان ثبت الجنان حينما يطلب منه المعلم القيام والتحدث في موضوع إنشائي أو لإعادة شرح الأستاذ، وكنا نغبطه على قوة ملكته وطول ترسله في الحديث بعبارات سهلة منتقاة، فهو محترم لدى معلميه ومحبوب لدينا معشر الطلاب لما يتحلى به من صفات حميدة قل أن تتوفر في لداته وأقرانه، فهو مطبوع على الاستقامة ولين الجانب منذ فجر حياته، ومنذ عرفناه بالطائف وهو ذو خلق كريم يحثنا دائما على أداء الصلوات في أوقاتها، وعلى احترام المعلمين، وحسن اختيار الأصدقاء الأخيار، ومذاكرة الدروس أولاً بأول كي يسهل اجتياز الاختبارات النهائية بيسر وهدوء بال، ونشاط مستمر، ويرجع المغترب منا إلى أهله رافع الرأس وبيمناه شهاداته...، وفي عام 1373هـ انتقل مع لفيف من الزملاء إلى المعهد العلمي بالرياض، أما البعض منا (بعد الحصول على الشهادة الثانوية) واصل الدراسة بإحدى الكليتين الشريعة واللغة العربية.  وبعدما تخرج الشيخ إبراهيم عام 1378هـ عين مدرساً في مدرسة تحفيظ القرآن الكريم بالرياض التي كان يرأسها الشيخ الراحل: محمد بن سينان – رحمهما الله جميعاً – ثم نقله مفتي الديار السعودية – آنذاك - الشيخ محمد بن إبراهيم إلى سلك القضاء، فعمل قاضياً في حوطة بني تميم، وفي عدد من البلدان، وأخيراً قاضياً بمحكمة عيون الجواء بالقصيم حتى كبر وتقاعد، وقد عرف عنه الورع، والقوة في الحق بعيداً عن المجاملة والمداراة في ذلك..، مع ما يتصف به من لين العريكة وحسن التعامل والعدل مع الخصوم..، وكان يختم القرآن الكريم كل ثلاثة أيام..، وبجانب ذلك يجلس لبعض طلاب العلم في أوقات فراغه بعد صلاة العصر، وبعد صلاة المغرب – أحياناً – حتى أرقده المرض والشيخوخة، وعجز عن مواصلة هذا العمل الجليل، وقد خيم الحزن والأسى على أجواء منطقة القصيم لفقده وتوقف إنصاته لتلك البراعم ومحبي اقتناص العلوم النافعة، ومما زاد حزني تذكري لأيام الدراسة هناك ولزملائي بالصف الأول ـ والدّار جامعة لنا ـ والذي غيب معظمهم هادم اللذات ولم يبق من ذلك سوى رنين الذكريات في خواطرنا وقد بلغ عدد الراحلين منهم الأن ثلاثة عشر طالباً توالى رحيلهم الواحد تلوا الأخر:

يتساقطون على الدروب كأنهم
<!--

 

وراق الخريف يهزه الإعصار
<!--

تغمده الله بواسع رحمته وأنزل عليه شآبيب رحمته، وألهم ذويه وذريته و محبيه الصبر و السلوان ( إنا لله وإنا له راجعون ).


فـقدت حـريملاء عميد أسرة الحسين(<!--)

(سليمان بن محمد الحسين رحمه الله)

 

تعــز فــلا إلـفيـن بالعـيــش متـعـا
<!--

 

ولكن لو راد المنون تتابعا
<!--

        في اليوم السادس من العشر الأوائل من شهر رمضان المبارك غادر الحياة الدنيا إلى الباقية ناصر بن محمد المهوس أحد موظفي المتوسطة والثانوية بحريملاء، وفي يوم 28 من الشهر نفسه لحق به زميله: سليمان بن محمد الحسين وكلاهما زميلاي في العمل طيلة ثلاثين عاماً بل تزيد :

ثــلاثــون عــامـاً قــد تــولـت كأنــها
<!--

 

حلومُ تقضت أو بروق خواطفُ
<!--

        وكانا يعملان معاً في نفس المدرسة بكل جد وإخلاص في جو يسوده الود والتعاون، والمواظبة في أداء عملهما. فكان لنبأ وفاة أبي عبد الله سليمان وقع مؤلم في نفسي حرّك شريط الذكريات الجميلة معه في داخل المدرسة وخارجها حينما اُنتدب لرئاسة كثير من لجان الاختبارات خارج حريملاء بمدينة الرياض وبعض البلدان مثل مدينة القويعية، وضرما، وثادق، والبرة، وملهم..إلخ، وكان خير معين لي في حراسة الأسئلة، والقيام بما يلزمنا، وعمله بالمدرسة معقباً ومندوباً لجلب رواتب الموظفين ومكافأة الطلبة المغتربين لدينا ـ آنذاك ـ ومع ذلك كان يتمتع بالحكمة والرأي الصائب، والحرص على تطوير البلاد ووجود الخدمات العامة التي تفيد المواطن والمقيم معاً، يقول: ألحِّوا في الطلب على المسئولين في أجهزة الدولة ـ والدولة أعزها الله تفرح بذلك ـ والكلام موجه للجنة الأهلية بحريملاء التي حققت مشكورة المطالب الكثيرة من المشاريع الهامة مما جعل محافظة حريملاء تقف في مصاف المدن، ولسان حاله ـ رحمه الله ـ يتمثل بقول الشـاعر:

أخــلـق بــذي الصـبـر أن يــحــظى بحاجــتـه
<!--

 

ومدمن القرع للأبواب أن يلجا
<!--

    ومن صفاته الحميدة الكرم، فبابه مفتوح لمن يؤمه بدون إشعار الضيف أو الزائر بالكلفة، فهو يقدم باستمرار ما تيسر من طعام وقهوة في كل وقت ويؤنس الحضور بالأحاديث والقصص الشيقة وبالقصائد الهادفة التي تحث على الآداب ومكارم الأخلاق فهو راوية للأشعار، فمجلسه لا يمل ولا يضيق بصاحبه.. محبوب لدى مجتمعه وأسرته يحل مشاكلهم ويصلح ذات البين. وأذكر على سبيل المثال أنه قد طلب مني أكثر من مرة الذهاب معه إلى أحدى البلدان لأجل التوسط بإعادة امرأة إلى عش الزوجية بأسلوبه الجميل، وبرأيه السديد المقنع للطرفين، فحمدنا الله على تحقيق ذلك، وغيره من أعماله المحمودة، وبعد أن قضى شطراً من حياته الوظيفية بالمدرسة انتقل إلى أمارة حريملاء رئيساً للخويا بها، فذكرياتي معه ومع جميع الزملاء والمعارف في العمل أو الدراسة باقية تتزاحم في خاطري، استعرضها حينما أخلو بنفسي حامداً لله أنها ذكريات صداقة ومحبة لم يشبها كدر، ولا منغصات بل إنها تروي عروق فؤادي، وتمنح النفس بهجة وسروراً.

   فغيابه سيحدث فجوة واسعة في محيطه الأسري إذ هو عميدهم، وشفاعته لا ترد أبداً، ونحن على يقين أن أبناءه البررة سيحذون حذوه ولن يألوا جهداً في السير على نهجه وإكرام صديقه ومعارفه مع احترام صغيرهم لكبيرهم وعطف كبيرهم على صغيرهم. رحمك الله أبا عبد الله، وألهم ذويك ومحبيـك الصبر والسلـوان..

{ إنا لله وإنا إليه راجـعـون } ..

<!--[if !supportFootnotes]-->

<!--[endif]-->

( <!--) نشرت في صحيفة الجزيرة، يوم السبت 9 رمضان 1425هـ، الموافق 23 أكتوبر 2004م .

(<!--) نشرت في صحيفة الجزيرة ، يوم الثلاثاء 26 رمضان 1425هـ، الموافق 9 نوفمبر 2004م.

( <!--) نشرت في صحيفة الجزيرة، يوم الأثنين 3 شوال1425هـ ، الموافق 15 نوفمبر2004م. 

mager22

فقد ورثاء ( عبد العزيز بن عبد الرحمن الخريف )

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 235 مشاهدة
نشرت فى 30 سبتمبر 2013 بواسطة mager22

إلى جنان الخلد أبا ناصر(<!-- )

(أبن العم/ عبدالعزيز بن ناصر الخريف)

 

وكل أخٍ مفارقه أخوه
<!--

 

لعمر أبيك إلا الفرقدان!
<!--

    في صباح يوم الجمعة 9/4/1425هـ توقفت نبضات قلب ابن العم الشيخ/عبدالعزيز بن ناصر الخريف مُعلنة رحيله إلى دار المقام، وأن نصيبه من أيام الدنيا قد انتهى تماماً، وقد صُلي عليه بعد صلاة العصر في جامع الملك خالد بالرياض الذي غصّ بالمصلين رجالاً و نساءً،  دعوا الله أن يتغمده بواسع رحمته، ويحسن وفادته، ثم تبعه خلق كثير إلى محافظة حريملاء حيث وارته التُّرب بإحدى المقابر المجاورة لمزرعته ومَرتَع صباه..، وقد باكره اليُتم بفقد والديه وهو صغير، فعاش في الحياة وحيداً، وانتقل إلى الدار الباقية وحيداً، ولم يرزق ذرية هو وأرملته طيلة عمرهما المديد معاً، والتي بقيتْ الآن بعد رحيله وحيدة تُكابد وحشة الفراق والغربة في الحياة ومرارة العيش بفقد إلِفها وبُعد حليلها عنها ـ كان الله في عونها ـ وكأن لسان حال المعزيات لها يحاولن تسليتها وتخفيف ثقل المصيبة على قلبها متمثلات بهذا البيت:

فلا تبكين في أثر شيء ندامةً
<!--

 

إذا نزعته من يديِكِ النوازع !
<!--

هذا ونذكر بأن ما خفف عليه وطأة اليتم والحرمان في صغره احتضان شقيقه عبدالرحمن له، وأخذه معه في مزاولة بعض الأعمال التي تساعد على كسب الرزق ولقمة العيش حتى كبر واشتد ساعده على تحمل أعباء الحياة ومُعتركها، فأخذ ـ رحمه الله ـ يسير في مناكب الأرض يعمل هنا وهناك، ثم قضى شطراً من عمره موظفا في القطاع الحكومي بمدينة الرياض.. بعد ذلك شده الحنين إلى مسقط رأسه ومدارج صباه مع لداته في حريملاء فعاد إليها:

المرء يسرح في الآفاق مضطرباً
<!--

 

ونفسه أبداً تتوق إلى الوطن !
<!--

وفتح له محلاً للبيع والشراء مُدة من الزمن..، وبعد ما تقدمت به العمر رحل إلى الرياض ليكون على مقربة من شقيقه عبدالرحمن، وأبنائه البررة الذين لم يألوا جهداً في العطف عليه وإكرامه ورعايته رعاية تامة حتى أنزلوه في جدثه آسفين على فراقه والحزن باد عليهم وعلى جميع أسرته والمشيعين له معاً..

 وكان – رحمه الله- رغم قِلّة ذات اليد مُحباً للبذل في أوجه البر والإحسان إلى الأيتام، وإدخال السرور على الأطفال يمنحهم بعض الهدايا والأشياء المحببة إليهم، كما سعد ببناء مسجد من خالص ماله بحريملاء، طمعاً في مضاعفة حسناته يوم يلقى وجه ربه، وعندما تم بناؤه صلى به وحمد الله أن منّ عليه ويسر له ذلك ورجى من المولى أن يوضع أجره في ميزان حسناته وحسنات والديه، ولقد اتصف بالتواضع ولين العريكة، والاستقامة وحسن التعامل مع الغير، ومما عرف عن زهده أنه في عام من الأعوام السابقة قد أمر جلالة الملك سعود – رحمه الله – بتأمين عدد كبير من السيارات الكبيرة لكثير من مناطق المملكة لنقل العديد من ذوي الحاجات والعجزة إلى تلك الرحاب الطاهرة لأداء فريضة حجهم ذهاباً وإياباً كل ذلك على نفقة الدولة – أعزها الله - واقترح عليه ـ رحمه الله ـ بعض الأقارب بأن يصحب تلك الحملة ولكن أبى رغم عدم توفر النفقة لديه في تلك الحقب، واضطر لبيع جزء من مزرعته مُؤثِراً أن تكون نفقة حجه وحج زوجته من حرّ ماله، تغمده الله بواسع رحمته وأجزل له الأجر والقبول، ومما زاد حزني وتأثري ما سمعته عنه في آخر لقائه مع شريكة حياته حينما أحسّ بدنو أجله قوله:- بعد ما أطال النظر في محياها! وكأنه يستجمع شيئاً مآ في ذاكرته..!- لا تحزني على بُعدي ورحيلي المؤكد عنكِ، فهذه سنة الله في خلقه، والأقدار لا ترد..! ، ثم أغمض عينيه وبداخله ما به من تحسر وتفجع، ولك أن تتصور حاليهما في تلك اللحظة الحاسمة وما حوته جوانحهما من لوعات الفراق، ولقد أجاد الأستاذ عبد الله بن محمد بن خميس في تصوير مثل هذا الموقف المشحون بالأسى حيث يقول:

حناناً لكم فيما طويتم جوانحاً
<!--

 

عليه، وعطفي يا " وحيد " ورحمتي
<!--

غفر الله لك أبا ناصر و أسكنك عالي جناته، وألهم ذويك و أسرتك و أرملتك الصبر والسلوان " إنا لله و إنا إليه راجعون "

 

 

 

 


الغـنــام وحـسـن الخــتـام(<!--)

(حمد بن محمد الغنام رحمه الله)

 

تعــز فــلا إلـفيـن بالعـيــش متـعـا
<!--

 

ولكن لو راد المنون تتابعا
<!--

    بالأمس القريب أي في يوم 23/4/1425هـ ودَّع الشيخ غنام بن محمد الغنام الحياة مأسوفاً على فراقه، وفي يوم الاثنين 10/5/1425هـ لحق به شقيقه الشيخ حمد بن محمد الغنام، فسكنا باطن الأرض معاً بعد صحبة وتآلف حميم، وطول مكث على ظهرها، حيث لاقى وجه ربه في تمام الساعة الثالثة قبل صلاة الفجر من ذلك اليوم مُختتماً حياته المديدة بصلاة الوتر والنطق بالشهادة، والسجادة تحت ركبتيه، والمصحف عن يمينه، ومن كان آخر كلامه من الدنيا النطق بالشهادتين يرجى له دخول الجنة إنشاء الله. فقد انسلَت روحه بسهولة إلى باريها بعد (مُجاورتها جسمه) أكثر من تسعين حِجة من الزمن (فمفترق جاران دارهما العُمُرُ!) ولقد تربى هو وإخوته في أحضان والديهما الكريمين، واستفادا من سيرتهما الحسنة وتربيتهما وتوجيهاتهما لهم، وحثهم على الاستقامة وطاعة المولى، وعلى قوة الترابط والتلاحم، وصلة الأرحام، والتسابق في أعمال البر والإحسان، وإكرام الضيف الذي هو طابع والدهم محمد في تلك الحقبة الماضية زمن الحاجة هو وأمثاله من أبناء الرعيل الأول في كثير من بلدان هذا الوطن المتباعد الأطراف.(رحم الله الجميع) . ولقد اشتهر الشيخ حمد ـ أبو علي ـ في زماننا هذا بكرم الضيافة والبشاشة، وهدوء الطبع والتسامح وحسن التعامل مع الغير مواصلاً سيرة والده، ولسان حاله مُتمثلاً بقول الشاعر حيث يقـول:

نــبـنــي كـمــا كــانــــت أوائـلنــا
<!--

 

تبني ونفعل (فوق) ما فعلوا !
<!--

        وخاصة في هذا الزمن زمن الخير والرخاء، وإن كان البذل في زمن الحاجة أفضل.. ولقد قضى الشطر الأول من رصيده الزمني هو وأخوه غنام يكدحان ويجدان في طلب المعيشة والفلاحة بجانب والديهما في مزرعتهما المشهورة المسماة "بالرفيعة" بحريملاء. وأما الشق الثاني من سنوات عمره فكان إلى جانب الاستمرار في الزراعة والفلاحة العمل في مندوبية تعليم البنات بمحافظة حريملاء. وقد استنفد بقية مكثه في الحياة على المداومة في حفظ كتاب الله وتلاوته، ويقال أنه كان يختمه في كل أربعة أو خمسة أيام ـ غفر الله له، ونوّر به مضجعه في جدثه ـ وقد لازم إمامة مسجد حي العزيزية بحريملاء مدة ثلاثين عاماً ـ تقريباًـ واحتفظت له ببعض التسجيلات من قصار السور والآيات، فهو ذو صوت شجي جميل تلذُّ له الأسماع، وليبقى ذكرى خالدة لأبي علي على مدى عمـري:

تــبـلـى ( الحنـاجر ) تحــت الأرض فــي جــدث
<!--

 

وصوتها يتلو الآيات والسورا
<!--

    ولنا معه ومع أخيه غنام ذكريات جميلة، وطول عشرة لا يتسع المجال لذكرها، غفر الله لهما وأسكنهما فسيح جناته وألهم ذويهم وأسرهم ومحبيهم الصبر والسلوان:

وما المـــال والأهـــلــون إلا ودائــــع
<!--

 

ولابد يوماً أن ترد الودائع
<!--

 

{ إنا لله وإنا إليه راجعــون }

 

 

 

 

 

وغــاب سـمـح المـحـيـا (<!--)

(سليمان بن عبد العزيز الشعيبي رحمه الله)

 

يُـثـني عــليـك مـن لـم تـولــيـه جمــيلاً
<!--

 

لأنك بالثناء به جدير
<!--

   فقد الأخيار مؤلم لنفوس محبيهم وعارفيهم، فلقد فاجأتنا بعض الصحف المحلية بنبأ وفاة رجل من خيرة رجال الدولة، ومن الرجال المخلصين لهذا الوطن، إنه الشيخ الفاضل سليمان بن عبد العزيز الشعيبي الذي انتقل إلى رحمة الله ونحن محزونون على فراقه.. وقد صُليّ عليه عقب صلاة عصر يوم السبت 4/8/1425هـ في جامع الملك خالد بأم الحمام بمدينة الرياض، وقد اكتظ المسجد بالمصلين رجالاً ونساءً داعين المولى بأن يحسن وفادته ويسكنه عالي الجنان، ثم تبعه خلق كثير إلى مقبرة الدرعية حيث استقر جثمانه الطاهر هناك بعيداً عن أسرته ومحبيه إلى جنة الخلد بمشيئة الله ورحمته، وقد استوفى حقه من أيام الدنيا، حيث عبر الهنيدة(<!--) بخمس سنوات حميدة أيامه ولياليه، طوى هذا العمر المديد عزيزاً مكرماً في مجتمعه ولدى ملوك هذه البلاد، حيث قضى شطراً كبيراً من شبابه وزهرة عمره مشرفاً عاماً على كثير من مزارع الملك عبدالعزيز بحي الباطن في الرياض: بالمحطة والخديمي، وأم خشيم، ونخيل ولي العهد، لما يتمتع به من أمانة ودراية بشئون الفلاحة والزراعة.

   وقد طبع على السماحة والكرم، ولين الجانب، والتلذذ بالبذل وبالإحسان إلى مستحقيه، فهو لا يمل وجه الضيف، وكل الأخيار له أحبـاب:

حـبـيــب إلى الـزوار غشــيـان بيــتـه
<!--

 

جميل المحيا، شبّ وهو كريم
<!--

    وكان الملك عبدالعزيز يفرح ويسر، ويشكره حينما يعلم أنه يبذل بيد سخية لمن يؤمه في تلك المزارع والنخيل من ذوي الحاجات والمساكين، وكان الشيخ سليمان يساعد الجيران والمحتاجين بأخشاب الأثل وجريد النخل، ويأمر بنقل ذلك لهم لإقامة مساكنهم ودورهم، قبل وجود الأسمنت والحديد، بل إنه عند مواسم نضج الثمار والحصاد، وجذ النخيل يتفقد أحوال الأيتام والأرامل ومستوري الحال فيمدهم بالكثير من الأرزاق سنوياً بأمر ورضا جلالة الملك عبدالعزيز الذي يقول دائماً: رعيتنا في أعناقنا ـ رحمهما الله جميعاً ـ وكان نخيل ومزارع الملك عبدالعزيز، بل جميع نخيل الأمراء قي تلك العقود الماضية وقبل وجود الوظائف الحكومية بمنزله وزارة العمل والعمال حالياً.. حيث إن تلك النخيل الرحبة تستقبل، وتحتضن مئات أصحاب العمل والحرف الذين يفدون إلى الرياض من أماكن بعيدة متعددة طلباً لتأمين لقمة العيش، وما تحتاجه أسرهم من متطلبات الحياة آنذاك.. فالقادم من تلك الديار أول ما يدور بخلده الاتجاه صوب الشعيبي ـ رحمه الله ـ عله يجد عملاً لديه لعلمه أنه يستوعب الكثير من العمال وأصحاب الحرف المتنوعة.. ويُحسن التعامل مع العاملين، وإعطاءهم أجورهم فور الانتهاء من أعمالهم، فما أشبه أولئك بأفواج الطيور المهاجرة التي تختار الهبوط والوقوع على أعالي الشجر وارفة الظل، فأحب الناس إلى الله عز وجل أكثرهم تحبباً ونفعاً إلى الناس، وقال عليه الصلاة والسلام: (إذا أحب الله عبداً حببه إلى الناس).

وقال الشـاعـر:

وجـــه عــليــه مـن الحيــــاء ســكيـنة
<!--

 

ومحبة تجري مع الأنفاس
<!--

وإذا أحـــب الله يـــومــــاً عــبــــده
<!--

 

ألقى عليه محبة في الناس
<!--

    ومما يؤثر عنه كثيراً أنه ـ رحمه الله ـ كان يجوب تلك المزارع ليلاً، ويجد أحياناً بعض الأشخاص الذين تلجئهم الحاجات إلى أخذ شيء منها خفية ليلاً كالأعلاف لمواشيهم ودوابهم، أو قطع بعض القنوان من النخيل لسد جوع أطفالهم وعوائلهم فيمر مُسلماً عليه خشية إزعاجه، بل يحمل عليه ما يجده معه ويقول له : (اهرب لا يشوفك الشعيبي) حفاظاً على ماء وجه ذلك الرجل المتخفي، ورفقاً بحاله، فما أجمل هذا التعامل الفريد مع مثل أولئك الذين ألزمتهم ظروف المعيشة لهذا الفعل ، فكلما يمر ذكر الشيخ سليمان الشعيبي على الأسماع يتذكرون هذه المواقف الكريمة، ونرجو من المولى أن تشفع هذه المواقف النبيلة، وهذا العمل الطيب لأبي صالح، ويكون من الآمنين يوم يلقى ربه، وقد لقيه غفر الله له وأسكنه فسيح جناته وألهم ذريته وذويه ومحبيه الصبر والسلوان :

وإنــما المــرء حـــديـــث بــعــــده
<!--

 

فكن حديثاً حسناً لمن وعى
<!--

( إنا لله وإنا إليه راجعون ).

<!--[if !supportFootnotes]-->

<!--[endif]-->

(<!--) نشرت في صحيفة الجزيرة ، يوم الأحد 2 جماد الأولى 1425هـ ، الموافق 20 يونيه 2004م.

(<!--) نشرت في صحيفة الجزيرة، يوم الاثنين 17 جمادى الأولى 1425هـ، الموافق 5 يوليه 2004م.

( <!--) نشرت في صحيفة الجزيرة ، يوم الاثنين 13 شعبان1425هـ ، 27 سبتمبر 2004م.

( <!--) أي مئة عام. 

mager22

فقد ورثاء ( عبد العزيز بن عبد الرحمن الخريف )

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 242 مشاهدة
نشرت فى 30 سبتمبر 2013 بواسطة mager22

فقد الأخيار مُحزن(<!--)

(عبدالله بن سعد الجوهر رحمه الله)

 

تعزّ فلا إلفين بالعيش متعا
<!--

 

ولكن لوراد المنون تتابعا..!
<!--

في صباح يوم الاثنين 4/12/1424هـ هاتفني أحد الإخوة قائلا إن الأخ الكريم/عبدالله بن سعد الجوهر ـ أبو سامي ـ قد رحل إلى الدار الباقية على أثر عملية جراحية، فوقع هذا الخبر المفاجئ موقعاً محزناً دوّى في شعاب النفس لما له من مكانة عالية في قلوب محبيه ومعارفه، فقد نشأ في طاعة الله محبا لعمل الخير ومساعدة الغير ولا سيما مُدّة عمله في ديوان الخدمة المدنية، وكان محل التقدير والاحترام لدى مرؤسيه وزملائه، ثم انتقل إلى تعليم البنات، واستفيد من خبرته التنظيمية والإدارية، وزاول عمله فيها سنوات طويلة انتهت بتسنمه منصب مدير عام شئون الموظفين بها، ثم ألقى عصا التسيار عن العمل حميدة أيامه، وقد اكتظ الجامع الكبير بمحافظة حريملاء عصر يوم الاثنين 4/12/1424هـ للصلاة عليه، حيث صلى عليه جموع غفيرة من أهل حريملاء ومن البلدان المجاورة وعدد كثير من أصدقائه وزملائه من الرياض..، وتبعه خلق كثير حتى واروه في ثرى مقبرة (صُفَيّة) داعين المولى بأن يفسح له في جدثه وينور له فيه.

وكم طوق أعناق الرجال وشقائقهم بكثير من المساعدات وتسهيل أمورهم ولو لم يعرفهم، فهو من الرجال المثاليين المنصفين والمخلصين في أعمالهم بكل أمانة وإنجاز مُحاولاً أن لا يؤخر عمل يومه إلى غدٍ ـ وغد غيوب وأخبار..ـ ومقدراً ظروف من يأتي خارج مدينة الرياض فهو يحرص كل الحرص على إنجاز مهامهم وقضاء حوائجهم، وكأني به قد وعى تماما قول بن دُرَيد:

لا تلحقنّك ضَجْرةٌ من سائل
<!--

 

فدوام حظك أن تُرى مسئولا
<!--

وقول طرفة بن العبد:

لعمرك ما الأيام إلا مُعارة
<!--

 

فما اسطعت من معروفها فتزودِ
<!--

فدماثة خلقه واتصافه بالسجايا الحميدة، وطيب المعشر جعل القلوب تميل إليه، والأسماع تستعذب ذكره، والألسن تلهج بمآثره وبكرمه، وكان منزله ملتقى لكثير من أقاربه، وأصدقائه، ومعارفه، وجميع محبيه، ولا سيما في المناسبات والإجازات الأسبوعية، والعيدين معا.. لما يتصف به من كرم ورحابة صدر ولين جانب، ولي معه بعض الذكريات العابرة.. أيام كان يدرس في المعهد العلمي بالرياض في أوائل الثمانينات حيث يحضر إلى حريملاء رغم صعوبة المواصلات آنذاك ليشارك طلابنا بمعهد المعلمين والمدرسة الابتدائية في نشاطهم الأدبي الأسبوعي الذي يقام في قاعة المدرسة كل ليلة جمعة ـ غالب الأسابيع ـ ويحضره كثير من الأهالي ورؤساء الدوائر الحكومية هناك. وكان لي شرف افتتاح ذلك المعهد في 6/5/1379هـ الذي خرج نخبة طيبة من المعلمين في تلك الحقبة، مع إشرافي على المدرسة الابتدائية، والمكتبة العامة.(حتى انتهى تدريجيا في عام 1387هـ ، وحلت محله المرحلة المتوسطة ثم إلحاق الثانوية بجانبها عام 1401 هـ ) حتى تقاعدت عام 1418هـ، وكنا نشجع أبا سامي ـ رحمه الله ـ ونغتنم حماسه ونشاطه الأدبي بإلقاء كلماته باستمرار.. فهو قدوة حسنة في أخلاقه وتعامله وسجاياه الحسنة منذ فجر حياته، كما أنه راوية لبعض الأشعار الفصيح والنبطي معاً والمساجلات الشعرية في النادي وفي الرحلات البرية المحببة إليه والتي يقضي فيها جلّ وقت فراغه..، وقد حزن الجميع على فراقه وبعده عنهم والعزاء في ذلك كله أنه قد ترك أثارا طيبة في النفوس، وخلف ذرية صالحة تجدد ذكره الحسن.

   وفي صباح هذا اليوم الخامس من شهر ذي الحجة عام 1424هـ اختار هادم اللذات ومفرق الجماعات زميلاً سابقا له هو الأخ الكريم / عواد بن عبد الرحمن العواد اثر نوبة قلبية أسرعت برحيله إلى دار المقام، وهو من موظفي وزارة الشئون الإسلامية، وكان قبلها يعمل بكل إخلاص في تعليم البنات محل ثناء وتقدير بها..، وقد عرف عنه الاستقامة وغيرته الدينية وكرمه الحاتمي، مع التحلي بالصفات الحميدة بين أقرانه وأترابه. وقد خلف ذكراً حسناً وذرية صالحة تدعوا له ولئن غابا عن أنظار محبيهما وذويهما وأوغلا في البعد فإن ذكرهما باق في خواطرهم مدى الأيام.

وإنما المرء حديث بعدهُ
<!--

 

فكن حديثا حسناً لمن وعى
<!--

رحم الله الجميع رحمة واسعة وألهم ذريتهما ومحبيهما الصبر والسلوان (إنا لله وإنا إليه راجعون)


ورحل رفيق دربـي .. ! (<!--)

(الأستاذ عبد العزيز بن عبد الله الخراشي رحمه الله)

 

الدهــر لاءم بــــيـــن إلـــفــتــنــــا
<!--

 

وكذلك فرق بيننا الدهر
<!--

   في صباح يوم الجمعة 25/3/1425هـ فجعت أسرة الخراشي برحيل زميلي ورفيق عمري الأستاذ الحبيب عبد العزيز بن عبدالله الخراشي إلى الدار الباقية بعد طول معاناة مع أمراض عدة.. ولقد اتصف باستقامته والإخلاص في العمل، ونقاء السريرة، وطيب القلب، وكان لنبأ وفاته وفراقه وقع مؤلم جداً هزّ كيان نفسي، وجعلني أحس بأن الأرض تكاد تدور بي من شدة وطأة الخبر برحيله وبعده عنا بعداً لا تلاقيا بعده..! وذلك لعلو مكانته في قلبي، وتغلغل وده في شعاب نفسي، كيف لا وقد قضينا معاً زهرة شبابنا وذروة نشاطنا متآلفين ومتحابين في جو يسوده الصفاء والألفة في اقتناص العلوم، وفي استذكار دروسنا منذ تلقي العلم على يد سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم وعلى أخيه الشيخ عبد اللطيف قبيل افتتاح المعاهد العلمية ـ رحمهما الله جميعاً ـ واستمررنا على ذلك المنوال بعد افتتاح المعهد عام 1371هـ حتى نلنا الشهادة العالية من كلية اللغة العربية عام 1378هـ ـ الدفعة الثانية، وكنا نقضي الساعات الطوال ما بين الجامع الكبير جامع الإمام تركي، وبين مسجد بشارع العطايف في المذاكرة والنقاش فيما يصعب علينا فهمه.. وكان رحمه الله خير معين لي، فإذا سئمنا ذهبنا معاً إلى منزله لتناول القهوة والشاي، وما تيسير من طعام (تصبيرة الليل) .. ثم نعاود الكرة مرة ثانية، وخاصة أيام العطل والاختبارات، وفي كل صباح ـ تلك الفترة ـ يمر عليّ ونذهب سوياً إلى أقرب مسجد للتدارس في سائر المواد الدراسية، ويتخلل تلك السويعات التي لا تنسى تبادل بعض النكات والطرائف لتجديد نشاطنا ولدفع الملل والسآمة عنا، وهكذا نقضي سحابة يومنا ومسائه بكل جد ونشاط مستمر، والطريف في الأمر أن ترتيبنا في الشهادة النهاية جاء متوافقاً..! وكنت أثناء الحصص داخل الفصل وبعد خروج المدرس أقفل الباب وأحاول أن أداعب الزملاء ببعض الحركات الخفيفة للاستئناس وإظهار المرح تنشيطاً للأذهان قائلاً: هل من مبارز؟ هل من مصارع؟ وإذا لحظته ـ رحمه الله ـ يحاول النهوض نحوي لقمع حركاتي قلت: باستثناء الخراشي فيهدأ الفصل..! وبعد تخرجه عُيِن مفتشاً في المرحلة المتوسطة والابتدائية في وزارة المعارف.. مع تكليفه سنوياً برئاسة لجنة المراقبة (الكنترول) ولجان الاختبارات بمعاهد المعلمين ـ آنذاك ـ وكان جاداً في عمله لا يسأم طول مكثه فيه مع ما يتحلى به من خلق كريم ورحابة صدر.. كما لا ينسى التاريخ ولا طلاب أول مدرسة ليلية بالرياض تفانيه وتطوعه بالعمل بها قبل تخرجه، ومشاركته في تأسيسها (بغرب محلة دخنة) مقر المدرسة المحمدية النهارية هو ونخبة طيبة من المتطوعين بالتدريس وهم مازالوا طلاباً أمثال الزملاء محمد بن علي بن خميس، ومحمد بن سعد بن حسين البصير الذي لا يبصر، ومحمد بن سعود بن دغيثر ـ رحمه الله ـ وعبد الرحمن بن عبد الله الخراشي، وعبدالمحسن العباد، وحمود البدر، وعبد العزيز بن عبد الرحمن الخريف كاتب هذه الأسطر، ومحمد بن عبد الله بن حميد، وعلي بن حمد الفريح، وغيرهم من الزملاء الأفاضل، وقد نورت تلك المدارس الليلية المباركة مئات الأشخاص على اختلاف مستوياتهم وتفاوت أعمارهم، وخاصة أصحاب محلات البيع والشراء في وسط مدينة الرياض وما حولها من المحلات حتى إن كثيراً منهم قد نال مناصب عالية في الدولة، كما أصبح منهم رجال أعمال برزوا في الحياة التجارية بسبب تأسيسهم وتهيئتهم لمواصلة الدراسة النهائية أو الانتساب، وكل عمل هؤلاء كان عملاً تطوعياً بدون مكافآت رجاء المثوبة من المولى، وكسب الثناء والذكر الحسـن :

دقـــات قــلـب المــرء قــائــلة لـــه
<!--

 

إن الحياة دقائق وثوان
<!--

فــاحفــظ لـنـفســك قــبل مــوتك ذكــرها
<!--

 

فالذكر للإنسان عمر ثان
<!--

    وعلى أي حال فإن فراق أبي سعود محزن جداً وستبقى ذكرياتي معه باقية في طوايا نفسي مدى العمر:

فــلا جــزع إن فــــرق الدهــر بـيـنـــنا 
<!--

 

فكل امرئ يوماً به الدهر فاجع
<!--

    ومما زاد حزني وآلم نفسي عند زيارتي له الأخيرة بالمستشفى الجامعي وهو في حالة حرجة، وقد حاولت إدخال السرور عليه مداعباً مداعبة خفيفة مذكراً بليالينا وأيامنا الجميلة التي مضت ولن تؤوب أبداً، وما كان يتخللها من مسامرات ورحلات ممتعة تقادم عهدها، فلحظني بعينيه وهو يومئ برأسه وعيناه مغرورقتان بالدموع، وبداخله ما به من تحسر وتألم، وكأنه يقول ليس لديّ الآن متسع من الوقت في استذكار ذلك ولسان حاله يردد هذا البيت المحـزن :

لــك الله لا تــوقـــظ الــذكــــريـــات
<!--

 

وخلّ الأسى في الحنايا دفينا!
<!--

   ولك أن تتصور حالي في تلك اللحظات المشحونة بالحزن عند دنو رحيله من الدنيا وفراقه الأبـدي :

يــوم الـــوداع وهــل أبــقــيـــت فـي خـلدي
<!--

 

إلا الأسـى في حنايا القلب يستعر
<!--

 

     والعزاء في ذلك كله أنه ترك أثراً طيباً وذرية صالحة بنين وبنات تدعو له وتجدد ذكره الحسن.. غفر الله لك أبا سعود وأسكنك فسيح جناته، وألهم أبناءك وإخوتك وأم سعود، ومحبيك الصبر والسلوان..

      { إنا لله وإنا إليه راجعـون }

<!--[if !supportFootnotes]-->

<!--[endif]-->

(<!--) نشرت في صحيفة الجزيرة ، يوم االخميس 6 محرم 1425هـ، الموافق 26 فبراير 2004م.

( <!--) نشرت في صحيفة الجزيرة، يوم الجمعة 9 ربيع الآخر1425هـ ، الموافق 28 مايو2004م . 

mager22

فقد ورثاء ( عبد العزيز بن عبد الرحمن الخريف )

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 224 مشاهدة
نشرت فى 30 سبتمبر 2013 بواسطة mager22

قـريب فـقـدنــاه(<!--)

(أبن العم عبدالله بن محمد الخريف رحمه الله)

 

        هادم اللذات يفرق بيننا وبين من نحب اجتماعه، ففي يوم الخميس 15/10/1423هـ صعدت روح طيب القلب إلى باريها، إنه ابن العم عبد الله بن محمد الخريف الذي آلمنا وأحزننا فراقه وغيابه عنا وعن محبيه، بعد ملازمته الفراش سنوات مضت لهجوم جيوش الشيخوخة وآلامها المتعددة عليه.. فقد عاش ما يقارب التسعين حولاً قضى الجزء الأول منها تحت رعاية والده، أما والدته فقد باكرها الرحيل فحزن على فراقها حزناً مكث في خاطره طويلاً، وأخذ يعمل مع والده وأعمامه في الفلاحة مع دراسته بأحد الكتاب بحريملاء في أوقات فراغه حتى أكمل القرآن الكريم مع حفظ بعض أجزائه.. ولقد تربى في بيت علم وكرم، وكان منزلهم آنذاك مأوى للزوّار ولمن يؤمهم من الأضياف الذين يفضلون استضافة أصحاب الفلاحة والزراعة في حريملاء وما ماثلها من البلدان لتوفر الزاد والطعام لديهم، ولوجود أعلاف لمواشيهم ومطاياهم العابرة صوب الرياض في ذلك الزمن القديم. فإكرام الضيف من سمات أهل القرى والأرياف، وكان ابن العم الراحل – أبو محمد- دائماً في استقبال من يفد إليهم فيكرمهم، ويقوم بخدمتهم خير قيام أثناء غياب والده وغياب أعمامه عن المكان رغم صغر سنه في تلك الحقبة البعيدة، وبعد ما كبر أخذ بأسباب طلب المعيشة فرحل إلى الرياض مدة من الزمن، ثم عاد بعد ذلك إلى مسقط رأسه حريملاء، ولقد اتصف بالورع والزهد، وطيب المعشر، وحسن التعامل مع أسرته وجيرانه وغيرهم، فهو لين الجانب سمح الخلق، وبعد وفاة والده – رحمه الله- الذي كان يعمل عضواً في هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحريملاء عام 1383هـ أٌختير خلفاً له في عمله لما يتصف به من خلق كريم، واستقامة ولباقة مع الجميع، فظل عضواً نافعاً في مركز هيئة حريملاء مع قيامه بالأذان في أحد المساجد عدة سنوات متصفاً بالرفق والأناة في عمله .

ولقد أجاد الشاعر حيث قـال :

والـنـفس إن دعـيـت بالعــنــف آبــيـــة
<!--

 

وهي ما أمرت بالرفق تأتمر
<!--

        واستمر في هذا العمل حتى تقاعد، فلزم المسجد لمضاعفة العبادة وتلاوة القرآن الكريم، وظل لسانه دائماً رطباً بذكر الله حتى قُبيل وفاته، حيث ضعفت قواه وتعطلت بعض جوارحه:

ومــن عـاش فـي الدنـيـا أخـلـقـت الأيـام 
<!--

 

جِدته وخانه ثقتاه: السمعُ والبصرُ
<!--

        وعندما اجتمع عليه فقد بصره وضعف سمعه تكدر خاطره مع إيمانه القوي والصبر على أقدار الله، ولسان حاله يردد قول الشاعر الخريمي :

لله عــيــنــي التـي فـجــعــت بــــها
<!--

 

لو أن دهراً بها يواتيني
<!--

        فأعقب هذا البيت – بهذين البيتين وينسبان لغير الخريمي :

إذا مــا مــات بعـضـك فـأبـكِ بـعـضــاً
<!--

 

فإن البعض من بعض قريب
<!--

يـمنـيـني الــطـبيــب شــفــاء عـيـنــي
<!--

 

وما غير الإله لها طبيب
<!--

        فلما يئس من عدم نجاح العمليات بعينه رضي بما قدره المولى وعاش بقية عمره مرتاح البال خالي الهم حتى انتهت أيام حياته – رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فيسح جناته – وألهم ذريته وجميع أسرته ومحبيه الصبر والسلوان .

{ إنا لله وإنا إليه راجـعـون }..


ولكنها الأقدار(<!--)

(الشاب محمد بن عبدالعزيز البدر رحمه الله)

 

يَؤوب إلى أوطانه كل غائب 
<!--

 

ومحمد) في الغياب ليس يؤوبُ
<!--

في ليلة الخميس 5/12/1423هـ فُجعت أسرة آل بدر وآل عباد بل ومحافظة حريملاء بوفاة الشاب الأستاذ الفاضل محمد بن عبد العزيز البدر هو ونجله الأكبر عبد العزيز إثر حادث مؤلم جداً على طريق صلبوخ في ملتقى طريق سدير القصيم القديم ـ كثير الحوادث ـ مع الطريق العام المؤدى إلى محافظة حريملاء الممتد صوب شقراء وغيرها من البلدان.., حيث اصطدم بسيارة نقل كبيرة اعترضت طريقه وهي خالية من الأنوار الجانبية..! مما تسبب في وفاتهما فوراً ومخلفة إصابات بليغة في زوجته وابنته, وذلك بعد عودتهم من الرياض لشراء بعض ملابس الأطفال وحاجات أيام العيد المعتادة, وكأني به وبأم عبد العزيز قُبيل الحادث المروع بدقائق معدودة يتجولان في بعض محلات بيع الملابس الجاهزة ويتشاوران بهدوء في اختيار الألوان, ومقاسات الأحذية والملابس لطفليهما المصاحبين لهما, ولصغيريهما اللذين أودعا هناك عند جدتهما بحريملاء بعد تقبيلهما وتوديعهما على نية العودة لهما في المساء حاملين ما يفرحهم ويدخل البهجة والسرور, ولكنها الأقدار تجرى فلم تمهلهما , ولم يسعدا بفرحة العيد ولياليه, فكان الوداع وداعاً أبدياً ..!, ولقد عم الحزن في محافظة حريملاء وما جاورها من البلدان, وجميع زملائه وتلامذته بمعهد حريملاء العلمي بل جميع من يعرفه, ومعارفه كُثر لما يتصف به من دماثة الخلق ولين الجانب مع الصغير والكبير. كما انه كان على جانب من التقى والعلم والأدب الجمّ الرفيع, بشوش المحيا طلق الجبين, وندى الكف للمساكين والأيتام وغيرهم من ذوي الحاجات.., ولقد أحدث غيابه المفاجئ فجوة واسعة في المعهد العلمي بحريملاء لما يتصف به من تواضع وحسن تعامل مع التلاميذ وأسرة المعهد عموماً. كما كان باراً بوالدته التي توالت على مهجتها الأحزان بفقد والدها, وبشريك حياتها ورفيق دربها, وبابنها البار محمد وابنه الأكبر ـ كان الله في عونها ـ, ومحتضنا لإخوته الذين فقدوا والدهم على اثر حادث مؤلم وهم صغار في دور الطفولة, ومن مصادفات القدر أن موقع الحادث الذي سبق أن حصل لوالده منذ سنوات هو نفس ذلك الموقع أو ما يقارب منه ـ رحمهما الله جميعاً ـ, فسبحان مقدر الأعمار وكاتب الآجال, وكأني بأبي عبد العزيز قبل وفاته حينما يمر بمسرح حادث والده يتذكره دائماً فتخف قدمه تلقائياً عن ضغط محرك سرعة السيارة خوفاً من المصير المحتوم الذي لا محيد عنه !:

فَهُنّ المنايا أي واد سلكتُه
<!--

 

عليها طريقي أو علىّ طريقها
<!--

فربما كان هاجس الرحيل يُساوِرَهُ فيذكر قول الشاعر:

نروح ونغدو كل يوم وليلة
<!--

 

وعما قليل لا نروح ولا نغدُ
<!--

وللأستاذ نشاطات حميدة معروفة داخل المعهد وخارجه أو في مكتب الدعوة والإرشاد, وإصلاح ذات البين, ومما جدد حزن زملائه عند استئناف الدراسة بعد إجازة عيد الأضحى أنهم لَحَظُوا آخر توقيع له يوم الأربعاء 4/12/1423هـ مُحَاذيا لاسمه بخطه الجميل مستحضرين هذا البيت للأبيوردي :

تبلى الأنامل تحت الأرض في جدث
<!--

 

وخطها في كتاب يُؤْنِس البصرا
<!--

فلم يملكوا سوى إسبال الدموع والعبرات تختنق حناجرهم أسفاً وحزنا على غيابه وبعده عنهم بعداً لا يرجى إيابه, وستظل صورته وخياله ماثلين في مخيلات طلابه وزملائه ورفاقه أزمانا متتابعة لعمق حبهم له مُرددين هذا البيت في خواطرهم:

يُواجهني في كل وقت خياله
<!--

 

كما كنت ألقاه قديماً ويلقاني
<!--

تغمده الله بواسع رحمته والهم ذويه وذريته الصبر والسلوان {إنا لله وإنا إليه راجعون}

 


حبيب فقدناه(<!--)

(الشيخ عبد الله بن محمد بن الشيخ عبدالله بن عبداللطيف
آل الشيخ رحمه الله)

 

قال الله تعالى (وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون)، ويقول الشاعر داعياً لراحل مضى لسبيله:

يا غائباً في الثرى تبلى محاسنه
<!--

 

الله يوليك غفراناً وإحسانا
<!--

ما أكثر فجائع الأيام وأحزانها المتعاقبة، فكل يوم نودع قريبا أو صديقا إلى دار البقاء، فذلك كله من سنن الحياة وتقدير الآجال، فقد كتب الموت على جميع الخلائق ويبقى وجه ربنا ذو الجلال والإكرام. ففي غرة ربيع الثاني 1424هـ رحل زميلنا الكريم، زميل الدراسة بدار التوحيد، الشيخ عبدالله بن محمد بن الشيخ عبدالله بن عبداللطيف آل الشيخ الذي تخرج منها عام 1371هـ بعد حياة حافلة بالسمعة الحسنة وبالأعمال الجليلة المشرفة، والواقع أن رحيله وغيابه عنا محزن وموجع جداً يدق هضاب القلوب، ويهز أركان النفوس، ولكن الله وعد الصابرين بالأجر والثواب والعزاء في ذلك كله انه نشأ في طاعة الله محباً للخير وأهله، ومخلصاً في الأعمال العديدة التي قد أسندت إليه حتى انتهت مهمته الوظيفية بها.

وأحسن الحالات حال امرئ
<!--

 

تطيب بعد الموت أخباره
<!--

يفنى ويبقى ذكره بعده
<!--

 

إذا خلت من شخصه داره
<!--

ولقد كان لي معه ذكريات جميلة لا تبرح خاطري أثناء دراستنا بالطائف، وما يتخلل تلك الأيام المشرقة من رحلات طلابية معه، ومع نخبة من الزملاء أمثال صديقنا وزميله الخاص الذي يقضي جل أوقاته معه الأستاذ حسن بن عبد الله آل الشيخ ـ أبو عبد الرحمن ـ الذي رحل إلى دار المقام في آخر أيام اختباره بكلية الشريعة بمكة المكرمة عام 1375هـ، وقد حزن الجميع على فراقه ورحيله ـ تغمده الله بواسع رحمته ـ كما يتخلل تلك الرحلات الجميلة مسامرات أدبية ومساجلات شعرية وفي النهار مزاولة القنص فالشيخ عبدالله من هواة الصيد، صيد الطيور وخاصة طير الحبارى التي نجدها بكثرة في الجانب الشرقي الجنوبي من شعيب عشيرة آنذاك، وكنا نجد في ذلك متعا لذيذة لا يساويها شيء من متع الحياة، وكان طيب المعشر لين العريكة بشوش المحيا، حبيب إلى الزوار غشيان بيته، يدعونا إلى منزله لتناول القهوة والطعام بين حين وآخر، فرحمك الله يا أبا صالح، ولقد أجاد العلامة عبد الرحمن بن إسماعيل الخولاني في رثاء شيخه حيث يقول:

حجبت عنا وما الدنيا بمظهرة
<!--

 

شخصاً وان جل إلا عاد محجوباً
<!--

كذلك الموت لايبقي على احد
<!--

 

ـ مدى الليالي ـ من الأحباب محبوباً
<!--

وقد خلف وراءه ذرية صالحة تدعوا له وتجدد ذكره بالإعمال الخيرية وإسداء الجميل لمستحقيه، وهم الآن يعملون بإخلاص في ميادين الحياة خدمة للوطن وأهله، تغمده الله بواسع رحمته واسكنه فسيح جناته وألهم ذويه وجميع أسرته ومحبيه الصبر والسلوان . (إنا لله وإنا إليه راجعون).

 

 

 

 

مـع الأبـرار يا خـادم القـران  (<!--)

(الشيخ عبدالرحمن بن عبد الله الفريان رحمه الله)

 

وكـل مقــيـم فــي الحـيــاة وعـيشـــها
<!--

 

فلاشك يوماً أنه سوف يشخصُ
<!--

    في صباح يوم الخميس 7/7/1424هـ هاتفني بعض محبي فضيلة الشيخ عبدالرحمن بن عبد الله الفريان قائلاً: الشيخ التقي قد لبى داعي المولى إلى دار البقاء، فلم أملك سوى الدعاء له من قلبي بأن يتغمده الباري بواسع رحمته جزاء ما قدم طيلة عمره المديد الحافل بالعلم النافع، والنصح والإرشاد لسائر المسلمين وتذكيرهم بأيام الله، ولقد وهب نفسه ووقته خدمة لدين الله ونشر فضائل العلم والتوجيهات عبر المنابر والمحافل في كثير من المدن والأرياف والهجر في معظم جوانب المملكة المترامية الأطراف ابتغاء مرضاة الله، وباهتمامه بتربية النشء تربية إسلامية سمحة لا غلو فيها ولا تفريط، فقد تبنى الإشراف والرئاسة لمدارس تحفيظ القرآن الكريم بالمنطقة الوسطى، وبدعم كبير من حكومتنا الرشيدة السخية لعلمهم أن القرآن الكريم حينما يسكن صدور الناشئة (بنين وبنات) يُضيئها ويمنحها الخشية والطمأنينة والبعد عن العنف، وعن الإساءة للغير، فحامل القرآن تلمح على محياه البشر والبشاشة، ولين الجانب، والإعراض عما يشين سمعته وسمعة بلاده، والاتصاف بهذه السمات الحميدة، شجّع الكثير من أولياء الأمور على إلحاق بنيهم بتلك المدارس والجمعيات المباركة التي خرجت مئات الأفواج من المقرئين ومن حفظة كتاب الله العزيز، الذي أصبح الكثير منهم أئمة للمساجد سواء أبناء الوطن أو أبناء الوافدين من سائر الأقطار الإسلامية، فالمستفيد من أولئك حينما يعود إلى بلاده يعود بأجمل الذكريات وأحلاها عن هذا الوطن وأهله الذي احتضنهم وغذاهم برحيق القرآن الكريم، وبصافي العقيدة السمحة والسنة المطهرة ذاكرين توجيهات ونصح من رعاهم وشجعهم على النهل من رضاب العلم الخالص (شيخنا عبد الرحمن رحمه الله) مما جعلهم مميزين على سواهم بالصفات الحميدة والسكينة:

فـعــاجــوا فأثـنــوا بـالـذي أنـــت أهــلـه
<!--

 

ولو سكتوا أثنت عليك (الملامحُ)..!
<!--

        نعم رحل الشيخ عنا وعن تلك البراعم التي كان يرعاها ويدفعها ـ مشجعاً ـ إلى بر الأمان وميادين السعادة والفلاح. ولقد خيّم الحزن على أجوائهم وآلمهم فراقه ورحيله الطويل الأبدي.. كما ظهر الألم على الجميع عند الصلاة عليه بالجامع الذي غصّ بالمصلين وبساحاته الفسيحة وتدافعهم عند حمله على الأكتاف صوب مثواه بين الراحلين:

مُـجــاور قـــوم لا تـــزاور بــيـنــهـم
<!--

 

ومن زارهم في دارهم زار همدا
<!--

    كان ـ رحمه الله ـ أباً للصغير، وأخاً للكبير عطوفاً على الفقراء والأيتام، والعزاء في ذلك كله أن خلفه ابنه البار الشيخ عبد الله ممسكاً بالراية التي كان يحملها والده الراحل ـ راية القرآن الحكيم، والسنة المحمدية ـ فهو خير خلف لخير سلف.

        كما عُرِف عنه رحمه الله التفاني في مساعدة المحتاجين أو من لهم ظروف تحتاج إلى شفاعة لدى ولاة الأمور ومحبي بذل الخير من المحسنين، مستحضراً قول الله تعالى: {من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها} [النساء: الآية 85]، فشفاعته لا ترد أبداً. ومن كانت هذه صفته أحبه الناس، وانطبق عليه وعلى أمثاله من العلماء الأفاضل قول الشاعر العربي:

جــمـال ذي الأرض كــانـوا في الحـيـاة وهـم 
<!--

 

بعد الممات جمال الكتب والسير
<!--

    وكان لي شرف التعرف عليه عندما قدمت من حريملاء لتلقي مبادئ العلم على يد سماحة مفتي الديار السعودية – آنذاك- الشيخ محمد بن إبراهيم ـ رحمهما الله جميعاً ـ عامي 1369-1370هـ في مسجده بدخنة وفي منزله المجاور للمسجد.. قبل ذهابي إلى دار التوحيد بالطائف.. فعرفت فيه حب اقتناص العلم مع لين الجانب، وملازمته حضور الدروس في المواد المتوالية.. راجين له المغفرة والدرجة العالية، وطيب الإقامة في جدثه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها مردداً هذا البيت:

خـتـمـتُ عــلى ودادك فـــي ضـمـيــري
<!--

 

وليس يزال مختوماً هناكا
<!--

    كما أرجو المولى أن يلهم ذويه ومحبيه الصبر والسلوان..

{ إنا لله وإنا إليه راجعـون }.

 

 

رحمـك الله أبا سـلطان(<!--)

(الشيخ محمد بن صالح بن سلطان رحمه الله)

 

مضــى غيـــر مــذمـــوم وأصـبح ذكــره
<!--

 

حلي القوافي بين راث ومادح
<!--

      فجعت محافظة حريملاء والوطن بوفاة ابن بار وعلم بارز من أفذاذ الرجال، إنه الشيخ الفاضل محمد بن صالح بن سلطان الذي تزامن غيابه عن الدنيا مع غروب شمس يوم الجمعة الموافق 15/7/1424هـ فهما كوكبان فضائي يعاود إضاءة هذا الكون العريض إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وكوكب أرضي أفل ولن يعود أبداً، وكان ينفح من حوله كرماً وعطاءً.

   ولقد طبع الشيخ منذ فجر حياته على البذل السخي في أوجه البر والإحسان وصلة الرحم، وبعدما أفأ الله عليه من المال الوفير زاد بذلاً ملتمساً أسنى الطرق وأجداها نفعاً له، ففي عام 1382هـ عندما علم بحاجة أهالي حريملاء إلى مد شبكة مياه للشرب ولعلمه بجزيل أجر ذلك المشروع، اشترى ملكاً عالي الثمن وحفر به بئراً ومد الشبكة لكل منزل واستمر ذلك العطاء أكثر من خمسة وثلاثين عاماً بدون انقطاع رجاء المثوبة من المولى، وبعد اتساع المدينة وترامي أطرافها بالحي الجديد قام بحفر بئر أخرى وتشييد خزان لسقيا الحي الجديد، ثم تولت البلدية مدة شبكة جديدة شملت جميع أرجاء حريملاء.

   وفي عام 1400-1401هـ نمى في نفسه حب التزود من أعمال الخير والبذل فلم ير أفضل   من خدمة كتاب الله العزيز وتنوير صدور الناشئة من أضوائه، وسقايتهم من رحيقه المختوم حيث شيّد مبنى ضخماً أسماه (المدرسة الصالحية لتحفيظ القرآن الكريم بحريملاء)،   وفي عام 1408هـ فتح مدرسة للبنات تتكون من طابقين وصالات واسعة مع تأمين حافلات لنقل الطلاب والطالبات، وخصص مكافآت شهرية لكلا الجنسين ترغيباً لهم في حفظ كلام الله.

وأعد لذلك ميزانية ضخمة تقدر بالملايين سنوياً (تتراوح ما بين ستة إلى سبعة مليون ريال) فأتت ثمارها وخرجت عشرات الأفواج من حفظة القرآن الكريم حتى إن عدداً منهم أصبح يدرس مادة القرآن في هذين الصرحين وفي المدارس الأخرى التابعة لوزارة التربية والتعليم، وفي أواخر كل عام يعد حفلاً كبيراً لتكريم المتفوقين والحافظين، فالحافظ لكامل القرآن يمنح مكافأة قدرها ستة آلاف ريال مع جوائز أخرى لهم ولأولياء أمورهم، وتتفاوت جوائز بقية المتفوقين حسب عدد حفظ الأجزاء ، يسلم أبو سلطان بيده الندية لكل متفوق نصيبه مع شكره ودعائه لهم بالصلاح، ولك أن تتصور فرحة تلك البراعم وهم يتدافعون فرحاً على تلك المنصة ليتسلموا تلك الجوائز على مشهد من زملائهم والحضور وذهابهم إلى أهليهم فرحين مسرورين وداعين الله لأبي سلطان بأن يمد في عمره ويضاعف له الأجر عند ملاقاته.

        وللبنات مثل هذا الحفل والتكريم يقام على شرف حرمه أم سلطان، وإدارة ابنته جواهر المشرفة على المدارس بحريملاء والرياض معاً، وتقدر جوائز البنات بمليون ريال سنوياً فهن أكثر تفوقاً على البنين دائماً، وضماناً لاستمرار هذا العطاء يقول أبو سلطان قبل وفاته بعامين أنه قد أوقف من خالص ماله عدداً كبيراً من العقارات والفلل يصرف ريعها على المدارس الصالحية والمدارس الأخرى خارج مدينة حريملاء ليطمئن على استمرارها حينما يرحل بعيداً عنها تحت الثرى، ولسان حال جميع من أسدى إليهم شيئاً من الحسنات يردد هذا البيت قائلاً:

ســتـلـقى الـذي قــدمـــت للـنـفس حـاضــراً
<!--

 

فأنت بما تأتي من الخير أسعد
<!--

     كما أنه كان لا يفوته يوم فيه شرف حيث يبادر في الاشتراك في تأسيس الجمعيات الخيرية ورعاية الأيتام التي يرأسها أمير منطقة الرياض صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبد العزيز، ويدعمها دعماً قوياً باستمرار، كما تبرع بقطع كبيرة جداً من الأراضي تقدر بعشرات الألوف من الأمتار لتقام عليها مشروعات خيرية.

        فأفضاله كثيرة لا تحصى، كما أنه يدعم مشروعات حريملاء الخيرية والأهلية بمال كثر يصعب حصره، ويسدد قيمة فواتير الكهرباء لكثير من المحتاجين هناك كما قام بتوسعة الجامع القديم وبنائه على حسابه الخاص إلى جانب مصلى العيد بالحي القديم، ولقد عاش منذ صغره محترماً ومحبوباً لدى مجتمعه الكبير ولدى ولاة الأمور فهو محل الثقة والإكبار فلقد تقلب في عدد من الوظائف مبكراً وتسنم المناصب العالية، منها عمله وكيلاً لوزارة الدفاع والطيران وقت الأمير الراحل منصور بن عبد العزيز ـ رحمه الله ـ واستمر طويلاً مع صاحب السمو الملكي الأمير مشعل بن عبد العزيز، وكان على جانب كبير من الثقافة والدراية والحنكة له أسلوب مميز يتسم بحسن السبك مع السهولة والترسل وانتقاؤه العبارات الجزلة أثناء الحديث والارتجال فوق المنصات والمنابر، ويحب حضور المنتديات الأدبية والشعرية، أذكر أنه كان لا يفوته حضور نادينا الأدبي بدار التوحيد عامي 1371-1372هـ هو وأمير الطائف الراحل عبدالعزيز بن فهد المعمر ومساعده ناصر المعمر ـ رحمهم الله جميعاً ـ كما أن الشيخ قد ترأس المجلس البلدي بالرياض عدة سنوات وترأس عدداً من الشركات والمؤسسات والجمعيات الأخرى فهو عضو بارز في جميع المحافل والمنتديات:

ولــيـس عــلــى الله بـمــســتنــكــر
<!--

 

أن يجــمـــــع العـالم فــي واحــــد
<!--

     وقد نال وسام الملك عبد العزيز (طيّب الله ثراه) من الدرجة الأولى وفي أثناء إعداد حفل تكريمه في محافظة حريملاء عاجله المرض فأدخل المستشفى ونرجو أن يكون تكريمه عند المولى جزاء ما قدمه ولئن بعد شخصه عنا وعن محبيه فإن ذكره العطر سيمكث في خواطرنا مدى الأيام، والعزاء في ذلك كله أنه خلف ذرية صالحة بنين وبنات على درجة كبيرة من الوعي وإدراك الأمور جديرة بأن تحرص على تنفيذ ما أومأ إليه والدهم من تواصل العطاء في أوجه الخير وإكرام قاصدهم لئلا يقال : (ولابد يوماً أن يهجر الباب حاجبه).

        رحمك الله أبـا سـلطان وأسـكنـك عالي جناته، وألهم ذويـك وذريتك ومحبيك الصبر والسلوان ..

{ إنا لله وإنا إليه راجعـون } ...

وغاب طيب المعشر(<!--)   

(محمد بن عمر بن عبدالرزاق رحمه الله)

 

يا راقد الليل مَسروراً بأوله
<!--

 

إن الحوادث قد يطرقن أسحارا
<!--

بعد الإفطار من صيام يوم عرفة لهذا العام 1424هـ اجتمعت أسرة آل عبد الرزاق بنين وبنات في منزل والدهم الأخ الكريم/ محمد بن عمر بن عبد الرزاق في جو عائلي تحفه أجنحة الفرح والمسرات بحلول عيد الأضحى المبارك، وقد جرى بينهم في تلك الليلة تبادل أطراف الأحاديث الودََّية، وتَذَكُّرِ أُمسيات أعياد السنين المواضي وما يجري فيها من تبادل الزيارات بين الأسر والجيران..،  والتخطيط لقضاء بعض أيام العيد في ربوع حريملاء، وفي شعيبها الرحب الحافل بكثير من الغابات وبالمساحات الخضراء الشاسعة التي تغطي جُزءًا كبيرا من الأراضي والأودية، وسفوح الجبال والآكام، واستمرت تلك الجلسة العائلية إلى قبيل منتصف الليل، ثم انصرف كل من الأبناء والبنات إلى مضاجعهم غير والدتهم زوجته الوفية أم عمر فإنها ظلت بجانبه تداعبه وتحاول إدخال السرور عليه حيث لمحت على محياه آثار الشحوب والإعياء فظلت تسليه علّه يخلد إلى النوم رغم ما تعانيه هي من بعض الأمراض المزمنة مؤثرةً إياه على نفسها، وهو لا يقل شفقة عنها فهو يبادلها بما يؤنسها ويفرحها، ولم يعلما ما تضمره الأيام والأقدار وأن هذه الليلة هي آخر لقاء ودٍ بينهما ثم تفرقً إلى الأبد بعد اجتماع وطول زمان ساده الود والاحترام. وما هي إلا سويعات قلائل حتى لاحت بوادر وعلامات قدوم شعوب مفرق الأحباب و الجماعات فاتصل هو بالهلال الأحمر على عجل علّه يجد سببا يدفع عنه ما تراءى له..، فحضر الطبيب إليه ولكن القدر المحتوم عاجله.. قال تعالى: (فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون) فقد وقع هذا الخبر المفاجئ المحزن في نفوس أبنائه ومحبيه كالصاعقة القوية المدوية في حنايا الضلوع، فكانت تلك ليلة أولها سرور وآخرها حزن طويل وبمثابة التوديع النهائي له، فخيم الحزن على ذلك البيت الحبيب إلى الزوار غشيانه، ثم توالت جموع المعزين والمواسين فيه بعد الصلاة عليه و دفنه بمقابر محافظة حريملاء بجانب صديقه الوفي عبد الله بن سعد الجوهر الذي سبقه منذ ستة أيام إلى مضاجع الراحلين، وقد سبق أن عزانا في هذا الصديق، ولم يدر بخلده أن شعوبا سيرقده محاذيا لجدثه (رحمهما الله جمعاً)، والواقع أن أبا عمر يُعد من الرجال الأوفياء المخلصين المحافظين على توطيد عُرى المحبة والتواصل بين الأسر والأصدقاء والمعارف، فهو كثير الاتصال بأصدقائه وزملائه بين الحين والآخر على فترات متقاربة. ولا ينس التهاني في مواسم الأعياد، والمواسات لمن تمر بهم فجائع الأيام والليالي، ولا تزال ترنُّ في أُذني كلماته الختامية لكل محادثاته الحبيبة إلى قلبي بقوله " فيه عازة فيه حاجة " وهو مشهور بالكرم والسخاء، وإقراض ذوي الحاجات..، فلا أملك في تلك اللحظات سوى شكره والدعاء له بأن يصلح الله عقبه ويسعده في كلا الدارين، ولقد اكتسب كثيرا من أسباب الحنكة والصفات الحميدة من بيئته الاجتماعية، والإقليمية، وملازمته أفذاذ الرجال كأمثال الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن العدوان ـ رحمه الله ـ الذي كان يعمل ممثلاً للحكومة لدى شركة أرامكو بالمنطقة الشرقية. ومسئولا عن الأشياء المالية والجمارك هناك..، وقد تربى كاتباً خاصا في مدرسة بن عدوان وتحت إشرافه، وبجانب الشيخ الراحل حمد بن على المبارك الموصوف بدماثة الخلق والأدب الجم الرفيع فكل هذه العوامل أكسبت الأخ محمد بن عمر أشياء كثيرة من المعرفة وتقدير بني الإنسان، كما أنه قد انتقل مع معالي الشيخ عبد الله حينما عين وزيراً للمالية بالرياض واستمر في عمله حتى عام 1405هـ حيث طلب الإحالة على التقاعد مبكرا ليتفرغ وليكن بجانب والدته أثناء مرضها لأكثر من ثمانية شهور حتى أنزلها في جدثها آسفا على فراقها. وكان في أثناء عمله يساعد الغير ويسهل أمورهم فيما يقدر عليه طِيلَةَ مكثه في الأعمال الحكومية سواء بالمنطقة الشرقية أو الوسطى . ولذا كان محل تقدير ومحبة لرؤسائه وزملائه ومعارفه، وجميع من أسدى إليه معروفا..، فحياته كلها حياة عز وسعادة ومحبة..، وكان لسان حال كل من أسدى إليه معروفا أو حفاوة ودٍ يُردد هذا البيت قائلا:

هذا ثنائي بما أوليتَ من حسن 
<!--[if !supportLineBreakNewLine]-->

mager22

فقد ورثاء ( عبد العزيز بن عبد الرحمن الخريف )

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 261 مشاهدة
نشرت فى 30 سبتمبر 2013 بواسطة mager22

الشيخ الجاسر إلى رحمه الله(<!--)

(الشيخ عبدالرحمن بن عثمان الجاسر رحمه الله)

 

   قال تعالى : {وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعـون} [سورة البقرة : الآية 156].

   في يوم الاثنين 8 من شعبان 1423هـ ودعت مدينة الدلم علماً من علمائها الأفاضل هو الشيخ عبد الرحمن بن عثمان الجاسر إمام الجامع الكبير بالدلم ومدير المعهد العلمي بالدلم ـ سابقا ـ بعد معاناة مع المرض فقد ظل وقتاً طويلاً متنقلاً بين مستشفى القوات المسلحة وبيته، وكنت أثناء مرضه أتصل به عبر الهاتف وأزوره أحياناً على فترات متباعدة للاطمئنان على صحته، ولقد أجاد الشاعر حيث يقول:

فــإن كــانـت الأجســـام مــنــا تبــاعـدت

 

فإن المدى بين القلوب قريب
<!--

   وحينما نسأله عن حاله يُبدي تجلده ورضاه بما قدّره الخالق محتسباً الأجر والمثوبة عند الله غير متضجّر، ولا متسخِّط راجياً اللطف به وحسن الختام، وعندما اتصلت بأحد الأصدقاء المجاورين له بالدلم للسؤال عنه، أفاد والحزن بادٍ عليه بأن الشيخ عبد الرحمن قد رحل إلى الدار الباقية مأسوفاً على فراقه وغيابه، وقد ضاق المسجد الجامع الكبير الذي كان يؤمه وساحاته بالمصلين الذين توافدوا من جميع أنحاء منطقة الخرج والمحافظات الأخرى.. ومن مدينة الرياض وفدت جموع غفيرة من تلاميذه ومحبيه، وقد ضجّوا جميعاً بالدعاء والمغفرة له ونور الجدث، فخيم الحزن على أجواء تلك المنطقة رجالاً ونساءً لما له من مكانة عالية في نفوسهم، وكنت قد سعدت بالتعرف عليه وبصداقته منذ بداية عام 1373هـ بعد عودتي من دار التوحيد بالطائف لمواصلة الدراسة الثانوية بالمعهد العلمي بالرياض ثم بكلية اللغة العربية.. حيث ضمنا أحد القصور بمحلة (جبرة) جنوب دخنة بالرياض التي أمر جلالة الملك عبد العزيز ـ طيب الله ثراه ـ بتهيئتها لطلاب العلم المغتربين عن أهلهم مع تخصيص مكافآت سخية لهم، وقد خُصص لكل ثلاثة أو أربعة من الطلاب غرفة ليسكنوا فيها، وكان ـ رحمه الله ـ خير معين لنا بإبداء النصح والإرشاد والمحافظة على أداء الصلوات في أوقاتها وحسن التعامل مع الغير، واستغلال سـاعات الفـراغ في استذكار الدروس والعلوم النافعة، ممّا أضفى على ذلك المسكن جواً من التآلف والتحابّ فيما بيننا كأسرة واحدة، والتخفيف من وحشة الغربة وفراق الأهل، .. ولنا معه ذكريات جميلة باقية في نفوسنا مدى العمر لا يتسع المجال لذكرها ولا لعدِّ محاسنه في هذه العجالة. ومما يدل على عمق محبته وصدق وده أنه حينما علم بالوعكة الصحية التي ألمت بي وتمثلت في التهاب الأذن الداخلية في أثناء عام 1420هـ ، أن بعث بأبيات شعرية ضمّنها بالدعاء لنا بالشفاء العاجل نختار منها ما يـلي :

لا بــأس نــوراً وطـهــوراً زال ذا الأثـــر

 

قد ساءني ما جرى إذ منكم الخبر
<!--

نــرجـو لك الأجــر عـنـد الله عــاقــبــة

 

وصحة لكم ما شابها كدر
<!--

فـاســلمْ وُقـيت مـــن الآفــــات قـاطـبـة

 

لا يشتكي منكم سمع ولا بصر
<!--

   ثم نظم الشيخ ناصر ابن الأخ محمد الخريف بعض الأبيات معارضة لتلكم القصيدة المعبّرة عن الوفاء والودّ الصادق
– نيابة عني – نختار منها الأبيات التالية :

أهــلاً بـكــم يــا أخـاً فــي الله أرقــــه

 

منا التوجُّع لا سخْطٌ ولا غيرُ
<!--

مــن رام أجــراً بـغــيــر الصــبر جـانبـه

 

صوابه وابتدى في دينه الغيرُ
<!--

عــش يا أخــي ســالمـاً مـن كـل داهــيــة

 

فللوفا أنتـم رمزٌ ومعتبرُ
<!--

   كنت أزوره كلما سنحت لي الفرصة تكريماً وحباً خالصاً له، كما أتذكر حضوره إلى حريملاء رئيساً للجنة اختبار طلاب المعهد العلمي، وقد شرفنا بمنزلنا فاغتبطنا به كثيراً وسيبقى صدى تلك الزيارة في طوايا نفسي مقيماً.. ولقد أمضى زهرة عمره مديراً ناجحاً بمعهد الدلم ومربياً لأجيال وأفواج عدّة حتى بلغ سن التقاعد تاركاً أثراً طيباً وذكرى عطرة في نفوس زملائه وطلابه، واستمر عطاؤه العلمي والأدبي حتى أضعفه المرض قُبيل وفاته، ومن توجيهاته السديدة التي تنفعهم في قابل حياتهم، ومن كانت هذه صفاته استـعـذب الناس ذكره دائماً ـ غفر الله له ـ وينطبق عليه وعلى أمثاله من العلماء الأفاضل قول الشاعر العربي :

جــمــال ذي الأرض كـانــوا فــي الحـياة وهم

 

بعد الممات جمال الكتب والسير
<!--

   والعزاء أنه نشأ في عبادة الله منذ فجر حياته الحافلة بالعلم الغزير، وبتربية النشء وبالتسامح والعطاء في مجالات رحبة وقد ترك وراءه ذرية صالحة تدعو له. تغمده الله بواسع رحمته وأنزل عليه شآبيب رحمته، وتالياً هذا البيت :

يـا غـائبـاً فـي الثــرى تـبــلى محــاسـنه

 

الله يوليك غفراناً وإحسانا
<!--

عظّم الله أجر جميع أسرته وألهمهم الصبر والسلوان ..

{ إنا لله وإنا إليه راجعون}


المـوسى إلى دار المقــام (<!--)

(الشيخ سليمان بن حمد الموسى رحمه الله)

 

        شاءت إرادة الله وقدرته أن تكون ليلة الاثنين الموافق 6/9/1423هـ آخر نصيب الشيخ الفاضل سليمان بن حمد الموسى من ليالي الدنيا حيث غاب عنها عن عمر يناهز 75 عاماً بعد رحلة طويلة حافلة بالعطاء وكرم الضيافة، والخدمة الإنسانية للضعفاء والمساكين معطرة بالثناء الجميل والذكر الحسن، فقد نشأ في طاعة الله منذ فجر حياته مُحباً للخير وصنائع المعروف:

فـأرفــع لـنـفســك قــبل مــوتـك ذكــرها

 

فالذكر للإنسان عمر ثانِ
<!--

    وقد صُلِّي عليه في جامع الملك خالد بأم الحمام بالرياض بعد صلاة العشاء وضاق بجماعات المصلين وبالذين قدموا من خارج مدينة الرياض.. ثم تبعه خلق كثير إلى بلدة القرينة التابعة لمحافظة حريملاء ليوارى جثمانه الثرى بالمقابر هناك.. وعند وصوله إلى تلك البلدة حملوه إلى المقبرة على الأكتاف مشياً على الأقدام رغم بُعد المسافة تكريماً وحباً له، وطمعاً في الأجر والمثوبة من المولى، وقد لهج المشيعون بالدعاء له بالمغفرة وطيب الإقامة في جدثه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها (وهو خير الوارثين)، ولأن أضمرت الحفر جثمانه فإن ذكره العاطر ستردده أجيال محيطه ومحبيه مدى الأيام.. ولقد اشتهر بتفانيه في خدمة الأرامل والمساكين، وقضاء حوائجهم وإن كثرت.. يقوم بتسديد فواتير الهواتف والكهرباء وغير ذلك من احتياجاتهم، وجلب ماء الشرب لهم بسيارته، وكل عمله هذا بدون مقابل من بني البشر وإنما يرجو ادخاره عند وضع الموازين يوم القيامة، كذلك يقوم بزيارة المرضى في منازلهم، وفي بعض المصحات للاطمئنان على صحتهم وإدخال السرور في نفوسهم، والنفث عليهم تطوعاً، بالدعاء لهم بما تيسر من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، والأدعية الشرعية مما يؤنس المريض ويفرحه، ويبعد عنه الوسواس والأوهام:

وعــلـلـوهم بــآمـــال مــفــرحـــة

 

فطالما سرت الآمال محزونا
<!--

لولا الأمــانــي فــاضـت روحـهم جــزعـاً

 

من الهموم وأمسى عيشهم هونا
<!--

   فهو يشبه إلى حد ما بعض السلف الصالح في قيامه على خدمة الضعفة والأرامل، فالمشاهد لتلك الجموع الهائلة أثناء تشييعه وتوديعه يدل على عمق محبة الناس له على اختلاف فئاتهم، والعزاء في ذلك أنه ترك ذرية صالحة وذكراً حسناً:

وأحـسـن الحـــالات حـــــال امـــرئ

 

تطيب بعـد الموت أخباره
<!--

يـفــنــى ويـبــقـى ذكــره بــعـــده
<!--

 

إذا خلت من شخصه داره
<!--

    نسأل الله أن يتغمده بواسع رحمته ويسكنه فسيح جناته وأن يلهم أبناءه وذويه الصبر والســلوان ...

{ إنا لله وإنا إليه راجـعـون }

 

 

 

 

 

 

 

 

 

رجعت يدي من تربه غبراء(<!--)

(عبدالعزيز بن ابراهيم الحرقان رحمه الله)

 

قال الله تعالى {.. وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون}الآية 156ـ من سورة البقرة ـ ومع إيماننا الجازم الذي لا ريب فيه أن الموت حق, وهو نهاية كل حيّ, إلا أنه ما أقسى لحظات فراق الأحبة وأمرها.

وكيف تلذّ طعم العيش نفس  
<!--

 

غدت أترابها تحت الثرى
<!--

   فقد هاتفني بعض الإخوة فجر يوم الأحد 1/8/1423هـ معزيا و قائلاً إن الأخ الحبيب عبد العزيز بن إبراهيم الحرقان قد انتهت أيام حياته ولياليه مُنْتقلاً إلى الدار الباقية ـ رحمه الله ـ، و كان لهذا النبأ المفاجئ وقع مؤلم في نفسي، كيف لا وهو صديق ود حميم، و قد عشنا معه سويا منذ صغرنا متآلفين، و متخطين مراحل العمر في أجواء تحفها أجنحة الود والاحترام، وما يتخللها عند اللقاءات من تبادل الطرائف والفكاهات استذكاراً لبعض الذكريات الجميلة، والمواقف الطريفة التي تمر بنا في تلك الأيام والعقود التي مضت ولن تعود أبدا. فهو طيب المعشر حلو الحديث لا يتفوه إلا بلطيف العبارة, محب للبذل في أوجه الخير والإحسان، والبر في أسرته ومع أخوته, ومقدر لأصدقاء والديه.ولاغرو فقد نشأ في بيت علم، وتربى بين أحضان والديه، فوالده من طلاب العلم الأفاضل علّم القرآن الكريم في الكتّاب, في أول حياته بحريملاء قبل انتقاله إلى الرياض..، ووالدة عبدالعزيز الفاضلة من معلمات الكتّاب، ومن حفظة القرآن الكريم وقد تخرج على يدها عدد من الفتيات في حفظ القرآن الكريم، ثم زاولت مهنة التدريس النظامي عندما تأسست رئاسة تعليم البنات فترة من الزمن ـ رحمهما الله جميعاً ـ وقد حضرت من حريملاء إلى منزل الراحل بالرياض بحكم القرابة التي تربطني به وبالصداقة المتينة لمساعدة أبنائه في تجهيزه حيث عرضوا علي الذهاب معهم إلى مغسلة الأموات المجاورة لجامع الراجحي فسرنا على بركة الله والحزن مخيم على نفوسنا، وعندما جرد من حلل الدنيا وأُلبس حلّة القبر في مغسلة الموتى دخلنا عليه مع بعض فلذات كبده لنقله إلى المسجد, و قد أدرج في الأكفان ولم يبق سوى محياه الذي يبدو عليه النور والطّراوة نرجو أن يكون علامة خير له عند ملاقاة ربه، ولقد أجاد أبو يعقوب الخريمي في وصف مثله حيث قال:

تخال بقايا الروح فيه لقربه
<!--

 

بعهد الحياة و هو ميت مُقنّع
<!--

  فألقيت عليه نظرة وداع أبدية وتحسُّرٍ وقُبلة أخيرة مُمطرة بالدموع، ولك أن تتصور حالي وحال بنيه في تلك اللحظة المحزنة، ولئن رحل عنا أبو مازن وأرغل في بعده.. ‍ فستظل تلك الصورة المؤثرة ماثلة في خاطري مدى عمري..، و لسان حال بنيه يرددون قول الأستاذ محمد بن سلمان الشبل:

يوم الوداع وهل أبقيت في خلدي  
<!--

 

إلا الأسى في حنايا القلب يستعر
<!--

ومما ضاعف حزني وحزن دافنيه ما شاهدوه أثناء حثو التراب على قبره من بعض أبنائه ومحبيه من بكاء مُرٍّ، وزفرات محزنةً جداً رقَّت لها القلوب وذرفت من أجلها العيون. ولسان حالهم يرددون قول الشاعر:

كم راحل و ليت عنه ومّيت  
<!--

 

رجعت يدي من تربه غبراء
<!--

والعزاء في ذلك كله أنه خلف ذرية صالحة من بنين وبنات، نرجو لهم دوام التآلف وجمع الشمل، واحترام صغيرهم لكبيرهم، وعطف كبيرهم على صغيرهم كي تسود المحبة بينهم دائماً على ما رباهم عليه والدهم ـ رحمه الله ـ، واستمرار الدعاء لوالدهم والنية الصادقة في إشراكه في أجر ما يبذلون من مال أو جاه وغير ذلك من أوجه البر و الإحسان. تغمده الله بواسع رحمته و الهم أهله و ذويه الصبر و السلوان. {إنا لله و إنا إليه راجعون}


أرى الأرض تبقى والأخلاء تذهب(<!--)

(الشيخ حمد بن علي المبارك رحمه الله)

 

حـبيــب عــن الأحــبـاب شــطـت بـه النـوى
<!--

 

وأي حبيب ما أتى دونه البعد
ج

     في يوم الاثنين 26/10/1423هـ ودعت المنطقة الشرقية علماً بارزاً من رجالات هذا الوطن المخلصين، كما خيّم الحزن على أجواء محافظة حريملاء لفقدها إياه إنه الشيخ الفاضل والابن البار حمد بن علي المبارك الذي غادر الحياة الدنيا إلى الدار الباقية مأسوفاً على فراقه، وقد غابت رفاته تحت أطباق ثرى الأرض بعد أن كان يسير فوق متنها ملء السمع والبصر تسير به أقدامه ومراكبه حيث شاء، فهذه سنة الله في خلقه: حياة فموت ثم بعث ونشور، وقد اكتظ جامع الإمام فيصل بن تركي الواقع بحي الجلوية في الدمام بأعداد غفيرة من المصلين عليه من المنطقة الشرقية وممن قدموا من الرياض وحريملاء وملهم، والقرينة وسدوس وغير ذلك من البلدان الأخرى محبة له والتماساً للأجر والمثوبة من المولى.. وبعد الصلاة عليه تبعه خلق كثير إلى مضجعه بين القبور والحزن باد عليهم داعين الله أن يحسن وفادته، ويؤنس وحشته في جدثه. ولقد ولد في حريملاء وترعرع في أكنافها، وعندما بلغ السابعة من عمره ألحقه والده في إحدى مدارس الكتاب لتحفيظ القرآن الكريم وتعلم الخط لدى المقرئ (المطوع) المشهور: محمد بن عبد الله الحرقان – رحمهما الله جميعاً- بعد ذلك عين الملك عبد العزيز – طيب الله ثراه- والده علي بن عبد الله أميراً في مدينة الوجه، فرحل معه، وبعد وفاة والده انتقل مع إخوته ووالدته إلى مكة المكرمة فمكث فيها فترة من الزمن، وتشرف بالسلام على الملك عبد العزيز بمكة بأعجب به وبذكائه وأراد تعيينه مكان والده الراحل في مدينة الوجه، ولكنه اعتذر لصغر سنة.. ثم انتقل إلى المنطقة الشرقية لدى خاله الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن العدوان مدير المالية وممثل الحكومة لدى شركة أرامكو آنذاك، وظل يزاول بعض الأعمال فلما أنس فيه النباهة والحذق، وتحمل المسؤولية عينه رئيساً لمكتبه الخاص، وبعد ما انتقل الشيخ عبد الله بن عدوان إلى الرياض حل محله الشيخ سعود بن عبد العزيز الدغيثر واستمر الأستاذ حمد المبارك في عمله رافع الرأس مُنصتاً للتوجيهات ومنتجاً في عمله، وقد استفاد من حنكتهما وتجاربهما في الحياة مما صقل مواهبه وأهله إلى تسلم المناصب العالية حيث عُين خلفاً للشيخ سعود رئيساً للمالية وأميناً عاماً للجمارك هناك، وقد صدق الشاعر حيث يقول :

عليك بــأربـــاب الصــدور فــمــن غــدا
<!--

 

مضافاً لأرباب الصدور تصدرا
<!--

   ولا غرابة في ذلك فقد ترعرع وتربى في مدرسة الشيخين الفاضلين عبد الله بن عدوان وسعود الدغيثر، واستمر في ذلك العمل مع رئاسة مجلس إدارة دار اليوم للصحافة والنشر وغير ذلك من اللجان المتعددة، فقد عاش محترماً ومحبوباً لدى قيادتنا الرشيدة، وفي مجتمعه الأسري، والاجتماعي بصفة عامة. كما كانت أياديه بيضاء منذ تعيينه وحضوره المبكر هناك في المنطقة الشرقية، فهو بمنزلة الأب والأخ الكريم لمن يؤم المنطقة من مدن المملكة لطلب المعيشة والعمل لدى شركة أرامكو السعودية أو القطاع الحكومي آنذاك، فهو يساعدهم ويسهل أمورهم بل ويقرض البعض منهم، مع نصحه الأبوي لأجل صيانة غربتهم بالتحلي بالأخلاق الفاضلة وبالأمانة، والجد في الأعمال التي تسند إليهم، كما يقوم بدعوتهم إلى تناول طعام الغداء أو العشاء بين حين وآخر، ويؤكد عليهم جميعاً الحضور في مناسبات الأعياد وخاصة القادمين من حريملاء وما جاورها من البلدان، ويخلط الحديث معهم بشيء من المداعبة ولإيناسهم وإبعاد الهيبة والخجل، وتشجيعهم على مواصلة زياراته، كما يقوم بمتابعة سلوكيات بعض حديثي السن بزياراته المفاجئة لهم في مساكنهم للاطمئنان على استقامتهم فهو بحق يعتبر بمنزلة الوالد للشباب المغتربين لديهم، ويمتد هذا الإكرام لمن يفد إلى المنطقة من المدرسين حالياً بالبحث عنهم ودعوته إياهم بالاستمرار في زيارته في قصره العامر ملتقى أحبته ومن يؤمه من الزوّار حتى قُبيل وفاته – تغمده الله بواسع رحمته ـ

حــبيــب إلــى الــزوار غـشيــان بيــتـه
<!--

 

جميل المحيا شبّ وهو كريم
<!--

    فلقد طوّق أعناق الرجال بأفضاله وبكرمه وبجاهه المبذول لكل محتاج فشفاعته لدى المسؤولين لا ترد أبداً، ومن كانت هذه صفاته استعذب الناس ذكره ولم يغب عن بالهم أبداً، فأعماله الجليلة لا تحصى، فقد توج إحسانه بتبرعه السخي بتأمين مناظير متطورة لمستشفى حريملاء العام مسقط رأسه بقيمة تقدر بنصف مليون ريال، وبناء مقر للهلال الأحمر مع تأثيثاً حديثاً بتكلفة سبعمائة ألف ريال، وكأني بأبي خالد ـ وإن كان مطبوعاً على حب فعل الخيرـ  قد سمع همس الشريف الرضي في أذن ممدوحه قائلاً:

خــذ مــن تــراثــك مـا استـطعــت فـإنـما
<!--

 

شركاؤك الأيام والوراث
<!--

     وفي الآونة الأخيرة حدا به الشوق والحنين إلى حريملاء قادماً من الدمام بعد عودته من مكة المكرمة ومن المدينة المشرفة رغم ما يعانيه من أمراض متعددة ليلتقي ببعض المواطنين ومحبيه فهو يأنس بهم وبالتحدث معهم في منازلهم، وفي مزرعته.. مع تفقد أحوال بعض المحتاجين لينفحهم مما أفاء الله عليه من النعم سراً، كما أن معظم إنتاج نخيله يهديه على بعض أصدقائه ومعارفه، وعلى بعض الأسر المحتاجة.. ولما أدركه شهر رمضان المبارك وهو في حريملاء، وهمّ بالرجوع إلى مقر إقامته هناك بالدمام وكأنه قد أحس بقرب دنو أجله وأفوله عن الدنيا فحاول أن يملأ عينيه بالنظر من مراتع صباه ومدارج طفولته قبل أن تغمضا فأمر قائد سيارته بأن يتجول به على مهل في الحارات والمحلات القديمة التي قد امتدت إليها يد البلى فتهدم معظمها فقد قضى أيامه الأولى بها ومشى بأزقتها ودرج في ساحاتها مع أترابه ولداته فأخذ يسرح طرفه الحزين ويطيل النظر في بعض الأماكن التي كان يلهو بها وكأنه يستجمع شيئاً من ذاكرته نظرات وداع وتحسر، وبداخله ما به من لوعة الفراق، ومما زاد أوار الحزن في نفسي أنه عندما حاذى أسوار نخله متجهاً صوب الدمام أدار لحظه نحوه والدموع تملأ محاجر عينيه ولسان حاله في تلك اللحظة الحرجة يقول وداعاً وداعاً أبدياً لا أراك بعد اليوم، ثم ذرفت عيناه فأطرق برأسه. فرحمك الله يا أبا خالد وألهم ذويك ومحبيك وأسرتك الصبر والسلوان فلقد أبكيتنا كثيراً، وتركت أثراً طيباً وذكراً عاطراً في النفوس، وخلفت ذرية صالحة تدعو لك وتخلفك في مكانك مع الاستمرار في عمل الخير والإحسان وإكرام العاني والقاصد، ولقد أجاد القاضي التنوخي وكأنه يعنيك بقوله:

كــأنــك مــن كــل النــفـوس مــركـب
<!--

 

فأنت إلى كل الأنام حبيب
<!--

    فالحمد لله على قضائه وقدره.. { إنا لله وإنا إليه راجعون }.

<!--[if !supportFootnotes]-->

<!--[endif]-->

(<!--) نشرت في صحيفة الرياض، الاثنين 6 رمضان1423هـ، الموافق 11 نوفمبر 2002م.

( <!--) نشرت في صحيفة الجزيرة، يوم الاثنين 27 رمضان1423هـ،الموافق 2 نوفمبر 2002م.

(<!--) نشرت في صحيفة الرياض، يوم الجمعة 16 شوال 1423هـ.، الموافق 20 ديسمبر 2002م.

( <!--) نشرت في صحيفة الرياض، الجمعة 30/10/1423هـ.، الموافق 3 يناير 2003م. 

mager22

فقد ورثاء ( عبد العزيز بن عبد الرحمن الخريف )

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 283 مشاهدة
نشرت فى 30 سبتمبر 2013 بواسطة mager22

ذكرياتي مع صديق ودٍ(<!--)

(الشيخ عبدالله بن محمد الزاحم رحمه الله)

 

    إنه الزميل الحبيب الراحل الشيخ عبد الله بن محمد الزاحم الذي لاقى وجه ربه في 3/11/1423هـ بالمدينة المنورة، وقد أحزنني فراقه وغيابه غياباً أبدياً بعد صحبة وطول عشرة، وقد ارتوى من مناهل العلم على أيدي علمائنا الأفاضل..، وعلى نخبة من فطاحل علماء الأزهر..، وقد تخرج من كلية الشريعة بالرياض عام 1378هـ، ثم عين قاضيا في مدينة حائل عام 1379 هـ مع تكليفه بالقيام بعمل موجه قضائي في بعض المناطق، لما يتمتع به من حنكة ودراية..، ثم انتقل إلى المدينة المنورة قاضيا ثم رئيساً للمحاكم الشرعية بها وإماماً للمسجد النبوي حتى أقعده المرض..، ولي معه ذكريات جميلة:  ففي غرة عام 1373هـ سعدت بالتعرف على مجموعة خيرةً من الزملاء طلاب المعهد العلمي بالرياض بعد انتقالي إليه من دار التوحيد الثانوية بالطائف، وكان من ضمن تلك النخبة الكريمة فضيلة الشيخ عبد الله الذي عرف بالرزانة ورجاحة العقل وبعد النظر، فأخذ كل منا يقترب من الآخر شيئاً فشيئاً حتى نمت تلك الصداقة وقويت أواصر المحبة بيننا، فبدأنا في استذكار الدروس معاً في المساجد بحي الوسيطا ومحلة جبرة الواقعة في جنوبي شرقي دخنة بالرياض نقضي بها الليالي والسويعات الطوال في استذكار دروسنا في جو تحفه أجنحة الِبشر والمسرات، والتنافس في التحصيل العلمي..، وقد اخترنا المذاكرة في تلك المساجد المتاخمة لمساكننا لوجود إضاءة الكهرباء بها ولعدم توفرها في كل المنازل آنذاك، ثم واصلنا الدراسة العليا، فاتجه الشيخ لكلية الشريعة وأنا صوب كلية اللغة العربية حتى عام 1378هـ وحمدنا الله على تخطي تلك المراحل الدراسية بكل جد ونشاط..، وكان من حرصنا على حفظ الوقت واستثماره وخاصة قرب الاختبارات ننام مبكرين ونستيقظ قبل الفجر بساعتين تقريباً، فأمر على الشيخ عبدالله وعلى الشيخ عبد الله بن فنتوخ في البيت المعد لسكن الطلاب المغتربين الذي أمر به جلالة الملك عبد العزيز – طيب الله ثراه – ضمن عدد كبير من البيوت لطلاب العلم..، وقد هيأنا الشاي والزنجبيل لتنشيطنا، ثم نذهب سوياً إلى المسجد لاستذكار الدرس حتى بعد صلاة الفجر، وهكذا أمضينا تلك السويعات والأيام السعيدة بترتيب ونشاط مستمر، ولم يبق منها الآن سوى رنين الذكريات في خواطرنا..!. وكان – رحمه الله – شغوفاً بحب القراءة و الإطلاع على الكتب المفيدة معتبراً إياها رافداً قوياً للمناهج الدراسية، وتوسعةً لأفاق المعرفة والثقافة العامة..، وأذكر أنه كان يستعير مني بعض الكتب النفيسة مثل سلسلة كتاب "الحديقة1-13"، (جمع وترتيب محب الدين الخطيب) ثم يعيدها مغلفة حرصا منه على سلامتها..، ولا زالت تلك الأغلفة رغم تقادم عهدها مُحيطة بجوانب الكتب النادرة المنتقاة من مصادر عدة..، وكان حريصاً على الاستفادة من وقته فهو أحيانا يبقى داخل الفصل في الفسح الطويلة يطيل التأمل في الشرح السابق للحصص، ويحاول رصد بعض العبارات المفيدة التي تفوه المعلم بها خارج إطار الكتاب المقرر ليثري بها حصيلته العلمية، وليستفيد منها في قابل أيامه..، وقد وعى قول أبن هبيرة حيث يقول:

والوقت أنفس ما عنيت بحفظه

 

وأراه أسهل ما عليك يضيعُ
<!--

متناسيا قول المتنبي الذي يحث على إرخاء العنان للنفس لتأخذ حظها من المرح ومن مآربها المباحة حيث يقول:

ذَرِ النفس تأخذ وسعها قبل بينها
<!--

 

فمفترق جاران داراهما العمر!
<!--

كان طابعه – رحمه الله – الجد والغيرة على الدين، ومن سماته قلة الحديث وإطالة السكوت وإعراضه عن فضول الكلام إلا ما يراه مفيداً ومناسباً لمقتضى الحال، وكان بيننا وبينه زيارات متبادلة على فترات متباعدة..، وتواصلاً عبر الهاتف بين حين وآخر قبل رحيله، وسيظل التواصل والترابط بيننا وبين أبنائه البررة مستمراً مدى العمر:

نبادله الصداقة ما حيينا

 

وأن متنا سنورثها البنينا
<!--

ولئن غاب أبو محمد وأخفته التُرب فإن ذكره العطر سيبقى ماثلاً في خاطري مدى الحياة، ولله قول البهاء زهير حيث يقول:

يواجهني في كل وقت خياله

 

كما كانت ألقاه قديماً ويلقاني
<!--

رحمه الله رحمة واسعة و ألهم ذويه الصبر و السلوان و أسبغ عليه شأبيب رحمته ( إنا لله وإنا إليه راجعون)

 


خاطـــــرة من وهــــــج المحـــــبة(<!--)

(الأستاذ محمد العبدالسلام رحمه الله)

 

قال الله تعالى )وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير( سورة لقمان: آية 34.

لقد مات الزميل الحبيب الأستاذ محمد بن إبراهيم العبدالسلام الملحق الثقافي بالمغرب ـ سابقاً ـ يوم السبت 20/3/1423هـ في مدينة المغرب حيث قضى شطراً كبيراً من أيام حياته بين الجزائر والمغرب مغترباً عن وطنه وأهله وأحبته، بل وعن أحب الناس إلى قلبه: والدته الحنون وبعض أولاده...، وكان كثيراً ما يسوف ويعلل نفسه بالعودة إلى أرض الوطن بعدما أنهى الخدمة الوظيفية هناك...فإذا به يفاجئه مقصر الآمال ومفرق الجماعات ،هادم اللذات:

يُعلل والأيام ينقصن عمره

 

كما تنقص النيرات من طرف الزِنْد
<!--

وعندما غادرت روحه جسده حضر جثمانه فقط!! فماذا يغني ، وقد كان بإمكانه أن يقضي بقية عمره بين أبنائه وأخوته ومحبيه، ويكون على مقربة من والدته قبل رحيلها إلى دار المقام، وقد رحلت وهو نائي المحل بعيداً عنها ..! و لك أن تتصور ما بداخله من ندم وتحسر ظل يعتمل ويجول في خاطره حتى لحق بها، ولكنها الأقدار ـ رحمهما الله جميعاً.

    وقد حصل على الشهادة العالية بكلية اللغة العربية بالرياض عام 1377هـ ويعتبر من الدفعة الأولى على مستوى المملكة، وكان على جانب من الخلق الرفيع وسعة الأفق في الأدب والبلاغة قضى جل وقته في التحصيل العلمي وتسريح النظر في بطون أمهات الكتب الأدبية والثقافية مثل كتاب: العقد الفريد لأبن عبد ربه، والبيان والتبيين للجاحظ، والكامل للمبرد، والنوادر لأبي علي القالي..، وغير ذلك من الكتب الدسمة التي أثرت حصيلته العلمية والأدبية معاً، مما جعل أسلوبه يعذب ويشد السامع طراوة وسهولة..، فمخزونه الأدبي عميق يفيض حِكماً وطرافة تؤنس الحضور ..، ولقد شغل عدداً من المناصب في كثير من المواقع منها: إدارة المعهد العلمي بعنيزة قبل التخرج لكفاءته ولعلو مكانته لدى الرئيس العام للمعاهد وكليتي الشريعة واللغة العربية، سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم وأخيه الشيخ عبد اللطيف بن إبراهيم آل الشيخ، وبعد التخرج عين مديراً للمتوسطة الثانية، ثم بإدارة تعليم الرياض فترة وجيزة، بعد ذلك انتقل إلى جهاز الوزارة ثم عين عضواً مع هيئة التدريس بالجزائر مع تكليفه رئيساً للبعثة.. وأخيراً عين ملحقاً تعليمياً بالمغرب حتى استوفى حقه من الزمن الوظيفي..

   ولنا معه ومع بعض الزملاء ذكريات جميلة لا تبرح خاطري تخللها كثير من الرحلات في ربوع الخرج..، وفي كثير من البساتين والأودية المتاخمة لمدينة الرياض غرباً..، وفي الخلوات البرية، ولاسيما في مواسم الربيع التي نحييها في مسامرات أدبية ومساجلات شعرية، وطرائف ترويحية تجدد نشاطنا الدراسي .. فما أجمل تلك الليالي وسويعات الآصال التي نستمع فيها معاً، لقد مضت ولن تعود أبداً:

ويا ظل الشباب وكنت تندى

 

على أفياء سرحتك السلام
<!--

وعندما يحضر إلى الرياض في بعض فترات إجازاته يتلقاه الزملاء والمعارف بكل حفاوة وتكريم، فيفيض عليهم بأحاديثه الشيقة واصفاً انطباعاته الجميلة عن تلك الديار والأقطار، وعن عادات أهلها، واحترامهم لأعضاء البعثة التعليمية، مع شكرهم المتواصل لمقام حكومتنا الجليلة على ما تولية من اهتمامات ومشاركات في دفع عجلة التقدم العلمي والثقافي لتلك الشعوب والأقطار الشقيقة، وبترسيخ العقيدة السمحة وتوحيد الإله في نفوس تلك البراعم الصاعدة بواسطة النخبة المختارة من المعلمين السعوديين.

ولقد أعطاني ـ مشكوراً ـ أخوه وشقيقه عبد الله ـ أبو عصام ـ بعض المعلومات عن تدرجه في السلم الوظيفي الذي أشرنا إليه آنفاً..، كما أشار الأخ عبد الله إلى أن أخاه محمد ـ أبو خالد ـ قد حرص على إلحاقه بالمعهد العلمي ـ بالقسم التمهيدي ـ لعلمه  بمتانة مناهج المعاهد العلمية التي تركز على العلوم الدينية واللغة العربية وفروعها، وليخدم وطنه بعد التخرج بكل أمانة وإخلاص، فقد قُبل ـ رغم صغر سنه ـ بعد إلحاح مع الشيخ عبد اللطيف بن إبراهيم رحمهما الله جميعاً.

و لئن غاب شخص أبي خالد عن ناظري وعن محبيه فإن ذكره الحسن باق في مخيلتي أبد العمر، والعزاء في ذلك أنه خلف ذرية صالحة تخدم الوطن وأهله..، وتدعو له بأن يفسح له في قبره، ويتغمده الله بواسع رحمته.

 " إنا لله و إنا إليه راجعون "

 

 

وغـاب حـمــيـد المـكـارم (<!--)

(الشيخ عبدالله بن ناصر بن عمار رحمه الله)

 

وما النـــاس إلا راحـــل بعــد راحــــل

 

إلى العالم الباقي من العالم الفاني
<!--

   في صباح يوم الثلاثاء 20/5/1423هـ توقفت نبضات ودقات قلب حميد السجايا معالي الأخ الفاضل عبد الله بن ناصر بن عمار معلنة أن ساعات ودقائق عمره قد انتهت تماماً، وأن على الأطباء المرافقين له الانصراف لشأنهم مودعين له وداعين المولى بأن يغفر له، ويحسن وفادته، والواقع أن رحيل هذا الشيخ الكريم وبُعده عنا مؤسف للغاية، بل إن غيابه أحدث فجوة واسعة من الحزن العميق في نفوس محبيه وعارفيه، فقد كان سمحاً في تعامله سخياً وجزلاً في عطاياه، وبحكم طبيعة عمله واختياره رئيساً للشؤون الخاصة لما يتمتع به من حنكة، وأمانة وخلق رفيع ظل منصتاً ومنفذاً لتوجهات وإيماءات ولاة أمور الدولة لتحقيق مطالب وحوائج الضعفاء التي تقدم لهم عبر مكتبه وغيرهم من ذوي الحاجات وسائر المراجعين، ومن لا تمكنهم ظروفهم الوصول إلى أبواب ومجالس الملوك، فهو محل ثقتهم لإخلاصه وأمانته يفرحون كل الفرح بتحقيق مطالب من يؤمهم من أبناء الشعب وغيرهم.. سواء المطالب الفردية أو الجماعية، إنه قليل الكلام مفيد للأنام، يعمل بصمت وحكمة، محب لصنع المعروف لعلمه أن صنائع المعروف تقي مصارع السوء، وأن خير الناس أنفعهم للناس، وشفاعته لا ترد لدى المسؤولين.. ولقد ولد وترعرع بين أحضان والديه في (بوتقة) العلماء والرجال المخلصين بمحافظة حريملاء، وبعد بلوغه السابعة من عمره ألحقه والده بإحدى مدارس تحفيظ القرآن الكريم وتعلم الكتابة والخط لدى المقرئ المطوع محمد بن عبد الله الحرقان ـ رحمه الله ـ فتوسم فيه الذكاء والنجابة لسرعة حفظه وفطنته، ومواظبته رغم صغر سنه حتى أكمل القرآن الكريم في وفترة وجيزة، ولم تخطئ فراسة المطوع فيه، وهو يذكرنا بقول المتنبي ـ على سبيل التقرب والتوسع ـ حينما قُدم له صبي في المهد لأحد الولاة ليقول فيه شعراً فقال متفائلاً:

بـمــولـودهــم صـمــت اللســان كـغيــره

 

ولكن في أعطافه منطق الفضل
<!--

   فالشاعر الحاذق سريع البديهة لا يقف محرجاً بل يجد له مخرجاً حيث انتزع صفة طيبة ميّز بها ممدوحه. وعندما بلغ أبو ناصر سن الرشد غادر العش الذي احتضنه ودرج منه للأخذ بأسباب المعيشة والحياة الكريمة، وإن كان بيت والده بيت عز وثراء إلا أن قول الشاعر ألزمه بالاعتماد على الله ثم على نفسه حيث قال:

وإنــمـا رجـــل الدنــيـــا وواحـــــدها

 

من لا يعول في الدنيا على أحد
<!--

    وظل ردحاً من الزمن يسير في مناكب الأرض معتمداً على الله في طلب الرزق، وكأني بوالده بعد ذلك يحبب إليه العمل الوظيفي الحكومي، لما لمح وتوسم فيه الاستعداد الفطري لتحمل المسؤوليات، وبشخصه الجذب وحسن خطه.. فنصحه باعتلاء المواقع الرفيعة لسهولة التربع عليها لكفاءته وندرة المؤهلين آنذاك.. وملازمته الرجال ذوي العقول والآداب، وقد فعل أبو ناصر – رحمه الله- وصدق الشاعر حيث يقول:

عــلـيـك بـأربــاب الصــدور فـمـن غــدا

 

مضافاً لأرباب الصدور تصدرا
<!--

   فلم ير بداً من الاتجاه إلى العمل الوظيفي في بلدية الرياض حيث عين مساعداً لرئيسها ثم رئيساً لها فترة وجيزة.. بعدها انتقل إلى الديوان الملكي في عهد الملك عبد العزيز والملك سعود ـ رحمهما الله ـ ثم عمل في إدارة العمل والشؤون الاجتماعية بمكتب الوزير عبد الرحمن أبا الخيل، بعد ذلك عمل مديراً للشؤون الخاصة في عهد الملك خالد ـ طيب الله ثراه ـ واستمر رئيساً للشؤون الخاصة في هذا العهد الزاهر عهد خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز حتى رحل مأسوفاً عليه إلى الدار الباقية، وكان رحمه الله لا يفوته يوم فيه شرف الإستمتاع بالبذل السخي في أوجه الخير والعطف على الأرامل والمساكين، ومساعدة الغير، والدعم القوي المادي والمعنوي لتطوير المرافق العامة والخاصة في مسقط رأسه (حريملاء) محتسباً الأجر والمثوبة من الله سبحانه غير منصت للثناء ولا المديح فله أيادٍ بيضاء لا يغفلها التاريخ ولا ينساها أبداً، منها بناء عدد كبير من المساجد بناءً فخماً مع تأمين مساكن للأئمة والمؤذنين، وسقاية أجزاء كبيرة من مزارع ونخيل محافظة حريملاء، وكذلك تأمين المياه لمنازل المواطنين والمقيمين وقت شح مياه الأمطار وندرة وجود المياه الجوفية كما هو الحال الآن.. راجين من المولى أن يرفعه بها للدرجات العلا تالين هذا البيت:

ســتـلقـى الـذي قــدمــت لنـفسك محـضـراً

 

فأنت بما تأتي من الخير أسعد
<!--

  وجدير بأبنائه الكرام أن يستفيدوا من سيرته العطرة ببذل الخير ومساعدة الغير والترحيب بمن يؤمهم من ذوي الحاجات وغيرهم من معارف والدهم، ولئلا يقال: (ولابد يوماً أن يهجر الباب حاجبه.. ). وأن لا ينسوا مساقط رؤوس آبائهم وأجدادهم، والاستمرار في الدعم المالي والمعنوي لها وفاءً بحق من هم الآن تحت أطباق الثرى، ورجاء المثوبة والذكر الحـسن:

وحــبب أوطـــان الـرجـــال إليـــهــم

 

مآرب قضاها الشباب هنالك
<!--

    ولي معه بعض المواقف الطريفة وذكريات بعيدة الزمن التي تدل على حلمه ولطافته ورحابة صدره، منذ فجر حياته، أذكر واحدة منها واحتفظ بالأخرى لنفسي لأن الإفصاح بها ليس في صالحي..! كنت من هواة الصيد منذ صغري والأداة التي أملكها آنذاك (نباطة) جئت مرة إلى نخل والده – رحمه الله- المجاور لنخل أخوالي آل عمران الواقع شمال شرق حريملاء المشهور بكثافة النخيل والفسائل، وأشجار السدر فأخذت أنبط ثمار السدرة كي تساقط عليّ حبات النبق مع محاولتي اصطياد بعض الطيور الصغيرة، فلحظته يُطل عليّ من نافذة المنزل والابتسامة تعلو محياه الوضاء الذي لم يعرف العبوس في حياته ، فبدأ عليّ الخوف والخجل فقال لي: أملأ مخباتك يا ولد الشيخ عبد الرحمن، فلو كان غيره لنالني بعض العقاب وصُودر ما معي، واستمر تقديره لي بعدما كبرت، ولازلت محتفظاً ببعض رسائله لي في  المناسبات وخاصة رسالته المتضمنة تعزيتي بوفاة والدي بخطه الجميل في مستهل العام 1383هـ ( رحمهما الله جميعاً).

   وكان من المحبين لوالدي الشيخ عبد الرحمن يمر عليه في منزله كلما مرّ على حريملاء ضمن عدد من محبيه للسلام عليه والاستفادة من توجيهاته وإيماءاته النافعة العلمية والاجتماعية. وفي الآونة الأخيرة زرته في مستشفى الملك فيصل التخصصي قبل وفاته بقليل وهو في حالة إعياء ومكابدة لأنواع المرض، وهو مغمض عينيه فقلت مسلماً عليه وداعياً له بالصحة والعافية: أنا محبكم عبد العزيز ابن الشيخ عبد الرحمن الخريف فلما سمع ذكر والدي رحمه الله استيقظت ذاكرته ونسي ما به من متاعب جمة فرد عليّ السلام وهو يتمتم بكلمات فهمت منها أنه يتذكر والدنا ويترحم عليه لما له من مكانة عالية في نفسه، وعندما نهضت مودعاً له سألني: هل أتى حريملاء سيل؟ فأجبته: قريباً بحول الله، وهذا يدل دلالة واضحة على حب الخير وتعلقه بحريملاء وبأملاكه بها رغم ما يعانيه من آلام ومن غيبوبة تعتريه أحياناً، فرحمك الله يا أبا ناصر وأسكنك فسيح جناته، وألهم ذويك ومحبيك الصبر والسلوان:

ومــا المـــال والأهــــلـون إلا ودائــــع

 

ولابد يوماً أن تُـرد الودائع
<!--

 

<!--[if !supportFootnotes]-->

<!--[endif]-->

(<!--) نشرت في صحيفة الجزيرة ، يوم الأثنين 22 صفر 1423هـ ، الموافق 12 ابريل 2004م.

(<!--) كتبت يوم الثلاثاء 23 ربيع الأول 1423هـ، الموافق 4 يونيه 2003م.

( <!--) نشرت في صحيفة الرياض، يوم الجمعة 23 جماد الأولى1423هـ، الموافق 2أغسطس2002م. 

mager22

فقد ورثاء ( عبد العزيز بن عبد الرحمن الخريف )

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 229 مشاهدة
نشرت فى 30 سبتمبر 2013 بواسطة mager22

فـراق الأبنـاء يصدع القلوب (<!--)

(الأمير فهد بن سلمان بن عبدالعزيز رحمه الله)

 

        حقاً إن فقد الأبناء وفقد الرجال المخلصين موجع للقلوب ومؤلم للنفوس غاية الإيلام. ففي يوم الأربعاء الموافق 4/5/1422هـ نعى الديوان الملكي نبأ وفاة ابنٍ بارٍ من أبناء هذا الوطن المخلصين وعلمٍ بارزٍ من رجالات الدولة.. إنه الشاب الأديب صاحب السمو الملكي الأمير فهد نجل سلمان بن عبدالعزيز بعدما استوفى نصيبه القليل المقدر له من أيام حياته قادماً على ربٍ كريم وتاركاً أثراً طيباً وذكرى معطرة بالدعاء والذكر الحسن:

وأحســن الحـــالات حـــال امــــــرئ
<!--

 

تطيب بعد الموت أخباره
<!--

يـفـنــى ويــبــقـى ذكــــره بــعـــده
<!--

 

إذا خـــلـــــــت مـــن بــعـــده داره
<!--

    وكان لهذا النبأ المفاجئ بالغ الحزن في نفوس أبناء الشعب السعودي وسائر الشعوب العربية والإسلامية لما عُرِف عنه من تواضع جم وتضحية وبذل سخي في أوجه الخير والعطاء..

        كما أن هذا النبأ قد أفزع والده المحبوب خارج البلاد ونزل عليه كالصاعقة - كان الله في عونه - وأرجو من الله أن يمده وجميع أسرته بالصبر واحتساب الأجر من المولى وأن يحسن عزاءهم ويجبر مصيبتهم فالله سبحانه وتعالى قد وعد الصابرين على أقدار الله بقوله: {وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون}..

ويقول الشاعر منقذ الهلالي في الحث على الصبر عند وقوع المصائب:

ولخـيـر حــظــــك فــي المصــيــبـة أن
<!--

 

يلقاك عند نزولها الصبر
ج

    وكأني بالشاعر يشير إلى معنى الحديث المتضمن مضاعفة أجر الصابرين عند الصدمة الأولى. ومما زاد تأثري وحزني الشديد مشاهدتي لوالده الأمير سلمان وهو على حافة القبر يودع فلذة كبده الوداع الأبدي حتى أخفت اللبنات جثمانه باللحد شيئاً فشيئاً بنظرات ملؤها الحزن والأسى تهمي دموعاً حرى. كما أن صوره التي علت الصفحات تنبئ عن بالغ التأثر، وتلزم المشاهد لها بمشاركته في حزنه العميق وكأني به ولسان حاله يردد ما قاله الشاعر الأديب محمد بن سليمان الشبل في موقف مؤثر كهذا مصوراً الوداع ومرارته المؤلمة حيث يقول :

يـــوم الـوداع وهـــل أبــقــيــت فـي خـلدي
<!--

 

إلا الأسى في حنايا القلب يستعر
<!--

     كما لفت نظري أثناء حضوري بعد صلاة المغرب مباشرة للتعزية والمواساة ما شاهدته داخل وخارج قصر الأمير سلمان من أعداد هائلة وأفواج قادمة تقدر بالآلاف من مختلف الطبقات والجنسيات تتدافع في طريقها لتقديم العزاء، والدعاء للراحل بأن يحسن الله وفادته ويجعله في زمرة المحسنين.. ولقد ضاقت تلك الساحات الواسعة والشوارع المحيطة بالقصر بأرتال كثيفة جداً من السيارات. ولقد حاولت الوصول إليه في تلك اللحظات بل الساعات لتقديم العزاء ـ لمن لا تفوته مواساة الأيتام والمسح على رؤوسهم .. والتعزية لسائر أبناء الوطن حينما يعلم بذلك ـ فلم أظفر بذلك لشدة الزحام.. وما حضور هذه الأعداد والجموع الغفيرة الخالية من المجاملات إلا دليل على علو مكانة ومحبة صاحب القصر وحزن الجميع على فهد.. وعلى قوة الترابط بين الحاكم والمواطن، ولأجل الدعاء له بالرحمة والمغفرة لمن غاب عنا ووارته الترب ذلك الشاب الراحل الذي اشتهر بدماثة الخلق وطيب المعشر والتلذذ بالبذل والعطاء في أوجه الخير. فهو بتواضعه قد ملك القلوب ومن نبله ولطفه أنه حينما علم بتعليقي على الحوار الشيّق الذي أجراه مع سموه الأستاذ مساعد بن خميس في أول هذا العام 1422هـ بالقناة التلفزيونية (art) وعلق الأستاذ الأديب حمد بن عبد الله القاضي على إجاباته السديدة أثناء المحاورة التي تدل على نضجه وفرحه بالخير لإسعاد الآخرين.. أن فاجأني مهاتفاً وشاكراً لي، فلم أملك سوى شكره والتمثيل بهذا البيت :

وأحــســن أخـــلاق الـفــتـــى وأجـلـها
<!--

 

تواضعه للناس وهو رفيـع
<!--

    والعزاء في ذلك كله أنه قد ترك ونقش في جبين الزمن صفحات مشرقة تجدد ذكره على مر الليالي والأيام ونبراساً هادياً ومضيئاً لدروب الخير لمن بعده من الأجيال الصاعدة.. وأختتم هذه العجالة معزياً لوالده المحبوب ووالدته الحنون وإخوانه وأبنائه وجميع الأسرة المالكة ومحبيه – تغمد الله الفقيد بواسع رحمته وأسكنه فسيح جناته ـ {إنا لله وإنا إليه راجـعـون }.. وبـيت من الشـعـر يــقـول :

فــلا تـبــكـيــن فـي أثــر شــيء نـدامـة
<!--

 

إذا نزعته من يديك النوازع
<!--

وهكـذا تسـيـر قـوافل الأخيــار(<!--)

(الأخ محمد بن سليمان الباتلي رحمه الله)

 

يـا غـائبــاً فــي الثــرى تبــلى محـاسـنه
<!--

 

الله يوليك غفراناً وإحسانا
<!--

   في صباح يوم السبت الموافق 14/5/1422هـ هاتفني صديق يحمل نبأ وفاة أخٍ عزيز علينا رحيله، اتصف بلين الجانب والسماحة والكرم، إنه الأخ الفاضل محمد بن سليمان الباتلي، بعد عمر مديد نيف على التسعين عاماً قضاه في طاعة الله، وحب الخير للمساكين، والتوسعة على من يقصده لإقراضه، وإقراض من تضيق عليهم سبل الحياة بنفس سامحة غير ملح في استرجاع حقه، مستحضراً الحديث الشريف: ( من نفّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة.. ) الحديث رواه مسلم. .. والشـاعر يقـول:

وأشــكـر فـضــائـل صـنع الله إذ جُـعـلت
<!--

 

إليك لا لك عند الناس حاجات
<!--

   وقد ساهم ـ رحمه الله ـ مع نخبة من رجالات حريملاء مع جلالة الملك عبد العزيز ـ طيب الله ثراه ـ في توطيد أركان البلاد آنذاك.. وكان لسفره عام 1352هـ مع الأمير عبدالرحمن بن إبراهيم المبارك أمير مدينة ظبا المطلة على البحر الأحمر.. ومروره بمكة المكرمة وتلقيه مبادئ العلوم الشرعية، وتحسين الخطوط.. أكبر الأثر والفائدة في تنويره وتثقيفه، وتهيئته للعمل مع الأمير في مدينة ضبا التي طال مكثه فيها يعلم أبناء الأمير، ويؤمهم للصلاة، ويقوم ببعض المهام المنوطة به، فلما طالت إقامته هناك استبد به الحنين إلى مسقط رأسه حريملاء فعاد إليها رغم تمسك الأمير به وترغيبه في البقاء لديه لما يتمتع به من سجايا حميدة وأمانة وإخلاص في عمله ـ رحمهما الله جميعاً ـ ولكنه اعتذر وغلبه الشوق إلى مرتع صباه فعاد.. ولقد أجاد الشاعر في تصوير حال أمثاله حيث يقول :

مـا مــن غــريـب وإن أبـــدى تـجــلـده
<!--

 

إلا تذكر عند الغربة الوطنا
<!--

   وبعد عودته من غيابه الطويل عمل ببلدية حريملاء عملاً إدارياً فترة من الوقت. والواقع أني قد تأثرت وحزنت كثيراً على رحيله وغيابه لما له من مكانة عالية في شعاب نفسي، وكانت تربطني به علاقة ود ومحبة صادقة رغم فارق العمر..! فالتواصل والتزاور بيننا مستمر منذ تعييني مديراً لمعهد المعلمين ومشرفاً على المدرسة الابتدائية بحريملاء عام 1379هـ فهو على صلة بنا وبالمدرسة للاطمئنان على سير دراسة ومستويات أنجاله النجباء الذين هم في قمة من الذكاء والانضباط، والتمتع بالأخلاق الحميدة، وكنت أزوره ـ رحمه الله ـ عندما بدأت علامات الكبر تنزل بساحته فينفحني ببعض النصائح والطرائف والحكم، ولكن بعدما اقتربت نهايته بعد مشوار حياته الحافلة بطاعة المولى، والسمعة المعطرة بالثناء عليه والذكر الحسن، توقفت لغة الكلام بيننا فاكتفيت بالسؤال عنه، والدعاء له بحسن الختام.

   لقد قضى ـ رحمه الله ـ شطراً من حياته إماماً لأحد المساجد بحريملاء وكان من الحفاظ الأفذاذ يمتاز بحسن الصوت في تلاوة القرآن الكريم، ويفيد المصلين أعقاب الصلوات بقراءة بعض الكتب المفيدة كرياض الصالحين، ووظائف رمضان، وغير ذلك من الفوائد والأدعية، كما كان يقضي الساعات الطوال في تلاوة القرآن المجيد الذي قد حفظه منذ نعومة أظافره في إحدى مدارس تحفيظ القرآن المنتشرة في حريملاء، لذا كان لوفاته الحزن العميق في النفوس، ولقد حضر للصلاة عليه جموع غفيرة معظمهم من محافظة حريملاء ازدحمت بهم أبواب جامع الملك خالد ـ طيب الله ثراه ـ بالرياض لما له من مكانة في قلوب الجميع، أخذت تلهج بالترحم عليه والتضرع بالدعاء له بالمغفرة وطيب الإقامة في جدثه، ومما زاد حزني وأشجاني ما رأيته من أحد أبنائه والحزن بادٍ على محياه وهو يُدمْدم التُربَ على جوانب قبر أبيه وفي نفسه ما فيها من لوعة الفراق، وعيناه تجودان بدمع غزير، وفي إحدى يديه قطعة من الحجارة يضعها بجانب إحدى نصائب القبر لتكون علامة يهتدي بها عند زيارته له.. وهذا يدل دلالة واضحة على تعلق الأبناء بوالدهم حتى بعد الممات.. ولقد أجاد الشاعر الذي يقول:

لـولا معــالـيـم رؤوســـهـم لمــا اهـــتـدى
<!--

 

لحميمه بين القبور حميم
<!--

  والعزاء في ذلك أنه نشأ في عبادة الله منذ فجر حياته حافظاً لكلام الله، وقد استنفد عمره المكتوب له عزيزاً مكرماً، وقدم على رب كريم يغفر الذنوب، وقد ترك وراءه ذرية صالحة تدعو له، تغمده الله بواسع رحمته وأنزل عليه شآبيب رحمته:

وكـل مقـيـم فـــي الحــيــاة وعـيشــها
<!--

 

فلاشك يوماً أنه سوف يشخصُ
<!--

عظّم الله أجر جميع أسرته وألهمهم الصبر والسلوان.

{إنا لله وإنا إليه راجعون}.

وغــاب حـمـيد السـجـايا(<!--)

(الشيخ عبدالله بن قضيب القضيب رحمه الله)

 

حـبيب عــن الأحــباب شــطت بـه النــوى
<!--

 

وأي حبيب ما أتى دونه البعد!
ج

   في صباح يوم الجمعة 5/6/1422هـ ودعت محافظة حريملاء أحد أعيانها البارزين عَلم تطفح على محياه البشاشة والبشر وطلاقة الحاجبين والتقى، وكان لنبأ وفاته دويً من الحزن في أعماق نفسي لما له من مكانة عالية وعلاقة قربى ومحبة صادقة، إنه الشيخ الفاضل عبدالله بن قضيب بن عبدالرحمن آل قضيب، ولقد خيّم الحزن العميق على سماء محافظة حريملاء لرحيله وفقده لما له من مكانة عالية في قلوب محبيه وعارفيه.

   ولقد اكتظ المسجد وساحاته بمجموع غفيرة حضرت من الرياض ومن البلدان المجاورة للصلاة عليه والدعاء له بالمغفرة والمنزل الرفيع العالي في الجنة، وبعد الصلاة عليه تبعته جموع هائلة ـ تتضرع له بالدعاء ـ وكذا أرتال من السيارات إلى مثواه الأخير بمقابر حريملاء لما عرف عنه من صلاح وحسن طوية.. فرغم تربعه على ظهر "الهنيدة" بسنوات.. ظل سليم الحواس معافى ومحتفظاً بذاكرته وببصيرته، وجميع حواسه، ولم يجد التخريف منفذاً للخزانة البيضاء في رأسه ولا إلى طوايا نفسه تكريماً له من الله العزيز، فالذي يسكن القرآن الكريم فؤاده يسلم من كثير من الآفات والهذيان ويحسن الله له الختام ـ إن شاء الله ـ لهذا فإن رحيله وبُعده عنا إلى دار البقاء أحدث فجوة واسعة من الحزن والألم في محيطه الأسري ولدى جميع محبيه ومخالطيه.

تخــالــف النـــاس إلا فـــي مـحـبــتــه
<!--

 

كأنما بينهم في وده رحم
<!--

   ولقد ترعرع في أحضان والديه محبي الخير والنفع للمسلمين.. ونشأ في طاعة الله منذ فجر حياته محباً للبذل السخي في أوجه البر والعطف على الأرامل والأيتام الذين أخفت الترب عائلهم، والإحسان إلى المساكين والضعفاء، وإقراء الضيف والزائر الذي لا يبرح مكانه ليلاً ونهاراً ولقد أجاد وصدق الشاعر الغنوي في وصف أمثاله حيث يقول :

حـبيــب إلــى الــزوّار غـشــيان بيــتـه
<!--

 

جــميــل المحــيا شــب وهـو كـريم
<!--

   وخاصة في مقتبل ـ وقت الحاجةـ أثناء عمله في الفلاحة والزراعة فهو من أكبر الزرّاع في تلك الحقبة البعيدة، ومن أفضلهم وأكثرهم نفعاً.. ومع كرمه يعمل بيده كثيراً من الأعمال الحرفية التي يحتاج إليها سائر الناس من بدو وحاضرة في تلك الأيام الفارطة ويقوم بقضاء حوائجهم بصدر رحب ونفس مطيعة فكانت القوافل تمر عبر حريملاء آنذاك قادمة من القرى المجاورة، ومن بلدان بعيدة متجهة صوب الرياض لطلب المعيشة وقضاء الحوائج هناك وحينما يصلون حريملاء يتوزعون أو يوزعون.. على عدد من أصحاب الفلاحة والزراعة هم ومطاياهم ودوابهم فيكون لأبي عبد الرحمن النصيب الأوفر في استضافتهم عنده لما يجدونه من رحابة صدر وسماحة بال وإكرام لهم ولمواشيهم التي تنقلهم.. فالضيف دائماً يختار أصحاب الفلاحة في كل بلد يمر بها لوفرة الزاد عندهم وأنواع الأطعمة، والحصول على أعلاف لمواشيهم التي هي بمثابة الوقود لسير مطاياهم ولسائر مراكبهم في تلك الحقبة من الزمن.. فالضيف لا يرتاح حتى تكرم دابته، وهذا الكرم وحسن الوفادة موجود لدى أهالي حريملاء وأمثالهم من سائر القرى والأرياف، فالكثير منهم يؤثر على نفسه لأجل إكرام الوافد إليه، فالشيخ الراحل ـ ابن عمتي ـ من أبر الرجال بخاله والدنا الشيخ عبد الرحمن بن محمد الخريف ـ رحمهما الله جميعاًـ عاصره ولازمه منذ مستهل حياته يتلو عليه القرآن الكريم في فترات فراغه، ويقوم بخدمته عند الحاجة خير قيام وخاصة وقت صغرنا، وفي فترات غيابنا لتلقي مبادئ العلم لدى المشايخ بالرياض وفي أثناء دراستي الأولى بدار التوحيد بالطائف عامي 1371 و 1373هـ بل حتى انتهت الدراسة بكلية اللغة العربية عام 1378هـ.

   واستمرت صحبته وخدمته له حتى أنزله مضجعه في اللحد بمقابر حريملاء عام 1383هـ فودعه :

مُجــاور قــــوم لا تــزاور بـيــنــهم
<!--

 

ومن زارهم في دارهم زار همدا
<!--

   ولئن أخفت الأرض جسم أبي عبد الرحمن فإن ذكره فوقها يظل غضاً طرياً تتناقله الأجيال ملوحة له بالثناء العطر، والدعاء الصادق، والعزاء في ذلك كله أنه قد استوفى حقه من الدنيا كاملاً معموراً بطاعة المولى، وتاركاً ذكراً حسناً، ومخلفاً ذرية صالحة تجدد ذكره بعلمها الخيّر. راجياً من المولى أن يتغمده بواسع رحمته وأن يلهم ذويه ومحبيه الصبر والسلوان ... { إنا لله وإنا إليه راجعـون } .

يقول القاضي التنوخي مثـنيـاً :

كــأنـــك مــن كــل النــفــوس مـركـب
<!--

 

فأنت إلى كل الأنام حبيب
<!--

وفرقتنا الليالي(<!--)

(الشقيقة منيرة بنت عبدالرحمن الخريف رحمها الله)

 

الدهر لاءم بين أُلفتنا

 

وكذاك فرق بيننا الدهر
<!--

إي والله فرق بيننا هادم اللذات , ومفرق الجماعات بعد طول اجتماع وتآلف، ففي مساء يوم الأربعاء ليلة الخميس 10/7/1422هـ دبَّ شعوب على غرة لأخذ أحب الناس إلى قلبي ورفيقة عمري شقيقتي منيرة أم عبد العزيز بن ابراهيم القضيب، وكان لنبأ رحيلها المفاجئ العاجل في نفسي وفي نفوس بنيها المفجوعين, وجميع أفراد أسرتها وقع مؤلم وموجع جداً , ستبقى أثاره في نفوسنا مدى العمر كيف لا وهي شقيقتي وجزء مهم في حياتي , فلقد ترعرعنا وعشنا سويا في أحضان والدينا ـ رحمهما الله ـ حتى كبرنا ثم استقل كل واحد منا في مكان آخر مع استمرار التعاطف والتواصل بيننا. ومن هول المصيبة أحسست كأن الدنيا تدور بي, وتعذرت لغة الكلام في تلك اللحظات فجرت دموع العين حَرى حزناً علي سرعة رحيلها وغيابها عنا...., وكنت قُبيل وفاتها بأيام قلائل قد زرتها في منزلها فرأيت أثار الإعياء والشحوب بادٍ على محياها, فسألتها عن حالها وعن صحتها فأجابتني أنها بخير وهي تحاول إخفاء ما تحس به في داخل نفسها , وكأنها تشعر بأن أيام حياتها قد أوشكت علي النهاية .., ولم أعلم بما في ضمير الغيب وأنها الزيارة الأخيرة ! , وعندما نهضت مودعاً لها ومقبلاً رأسها. لحظتني بعينها لحظة مودع ثم أطرقت برأسها وكأنها تجتر أغلى ذكرياتنا معاً و تقول وداعاً يا أبا محمد وداعا أبديا!ً ولم اشعر بما تعنيه تلك النظرات إلا بعد مغادرتها إلى دار البقاء - رحمها الله - رحمة واسعة. وكنا في عهد الطفولة عهد البراءة نظن انه لا تَفرُق بيننا, وان أيام سعادتنا ستدوم, ولم يدر بخلدي قول الشاعر:

وكل أخ مفارقه أخوه     
<!--

 

لعمر أبيك إلا الفرقدان
<!--

كانت امرأة صالحة محبوبة لدى عشيرتها وجيرانها. حفظت القرآن الكريم وبعض الأحاديث النبوية حيث عاشت في بيت علم وأدب في كنف والدنا الشيخ العالم الجليل عبد الرحمن بن محمد الخريف, وبرعاية والدتنا الحنون ـ رحمها الله ـ التي اعتنت بتربيتها مع شقيقتي الأخرى والدة د/ محمد ابن عبدالعزيز العقيلي وتشجيعهما على مواصلة تلاوة القرآن الكريم وحفظه لدى المعلمة طرفه بنت العم محمد بن عبدالله الخريف والدة عبد العزيز الحرقان ـ رحمهم الله جميعاً ومد في عمر أختي أم محمد, ولطف بأختي الكبرى أم صالح بن عبد الله العجاجى التي تعاني من مرض مزمن ألزمها الفراش منذ سنوات والتي لا أنسى عطفها وفضلها عليَ منذ فجر حياتي, فهي أختي الكبرى ومحل التقدير والمحبة في محيطها الأسري ولدى عارفيها فأم صالح معروفة وغنية عن التعريف نرجو لها الشفاء العاجل وحسن الختام لنا ولها.

والعزاء في وفاة شقيقتي منيرة أنها نشأت في طاعة الله محبة الخير للجميع وتاركة أثر حميداً وذكرى طيبة معطرة بالثناء والدعاء لها، و خاتمة حسنة حيث وافاها الآجل المحتوم بانطفاء نبضات قلبها بسهولة بعد ما تهيأت لصلاة المغرب من ليلة الخميس الموافق 10/7/1422هـ مخلفة ذرية صالحة من بنين وبنات، فأبناؤها كلهم مؤهلون بتربية إسلامية و ثقافة عامة، فهم الآن يعملون في حقل التدريس و تربية النشء، ويعلم الله أنني كلما تناولت القلم قُبيل وفاتها لأكتب شيئا عنها مترحما وداعياً لها بالمغفرة أجهش بالبكاء فلم استطع أن أكتب شيئاً من المواساة لأبنائها البررة وزوجها الوفي..، ومما زاد حزني وشجني ما سمعته من أحد أحفادي الصغار (طفل لم يبلغ السابعة من عمره) وهو يوجه هذا السؤال وهذا الاستفهام التقريري لخادمة البيت استغراباً من رحيلها المفاجئ بدون مقدمات..، و الله سبحانه هو المقدر للأعمار وهو أحكم الحاكمين ـ سؤال كله تفجع و تحسر قائلاً:  أماتت عمتي منيرة ؟! أماتت عمتي كررها مرات وكأنه لا يصدق برحيلها، وأنا أسمع ذلك على مقربة منه بدون أن يراني فلزمت الخادمة الصمت ولم تملك سوى مشاركة هذا الطفل الصغير في عمره الكبير في عقله في مصابه فأذنت لعينها أن تفرغ ما بها من دموع مخزونة وظلت تلك الدموع تهمي على خدها، ثم خرج من المطبخ نحو فناء البيت و بداخله ما به من حسرات ولوعات الفراق والحزن، وهو يردد هذا العبارة: ( يا خسارة عمتي ماتت ولن تعود إلى بيتنا أبدا !)، فهي رحمها الله محبوبة لدى الأطفال ولدى عارفيها فهي تنفح الأطفال الصغار بالهدايا وبما يفرحهم ويؤنسهم. وستظل صورة وصوت هذا الطفل الحزين على رحيلها مدوياً في أعماق نفسي لا يتوقف رنينه، وذكراً لها دائماً لأن إحساسه النابع من طوايا نفسه زاد حزننا كثافة وعمقا. ولإن غيبها الثرى عنا فإن ذكراها وخيالها لا يغيب عن خاطري مدى عمري, كما أن المكان الذي اعتادت الجلوس فيه في منزلنا يذكرنا بها كل لحظة عين مستحضرين ومرددين هذا البيت:

يعز علي حين أدير عيني

 

أفتش في مكانك لا أراك
<!--

داعيا المولى أن يسكنها في أعلي الجنان ويلهمنا وذريتها وزوجها ومحبيها الصبر والسلوان{أنا لله وأنا أليه راجعون} وبيت الشعر يقول:

إذا ما المنايا أخطأتك وصادفت

 

حميمك فاعلم أنها ستعود
<!--

ورحل ذو الرئاسات(<!--)

(الشيخ ناصر بن حمد الراشد رحمه الله)

 

وكل مقيم في الحياة وعيشها

 

فلا شك يوماً أنه سوف يشخص
<!--

جبلت النفوس البشرية منذ القدم على ذكر محاسن من غاب عنها غيابا أبديا إلى الدار الباقية معرضة عما سوى ذلك..، نرى الناس يتسابقون في تأبين موتاهم وخاصة من لهم دور في الحياة يذكر ومكانة بارزه في مجتمعهم..،  نراهم يسكبون غُرر القصائد من عُصارات مهجهم، وفيض مشاعرهم، وتجري أقلام الكتاب محررة كلمات التأبين من نفوس حرّى حزناً وتأسفا على فقد ورحيل غاليهم..، فالرثاء أصدق مقولةً وأبلغ تعبيراً عما تضمره الصدور، وتكنه النفوس، حيث يأذنون لشريط ذكرياتهم معهم باستعراض مآثرهم، ومواقفهم الحسنة وما غرسوه وقدموه من فعل جميل قبل رحيلهم.

فاغرس من الفعل الجميل فضائلا
<!--

 

فإذا رحلت فإنها لا ترحل
<!--

ففي يوم الاثنين 2/10/1422هـ رحل عالم بارز من علمائنا من أبناء محافظة حريملاء ورجل فاضل من رجالات الدولة المخلصين بعد عمر يناهز الثمانين عاما إنه الشيخ الجليل ناصر بن حمد الراشد فمنذ مقتبل عمره وهو يتقلب في مناصب عالية يقفز من قمة إلى قمة، فلقد عينه الملك عبدالعزيز وهو في ريعان شبابه قاضيا في بلدة ( المويه ) إحدى محطات الحجاج التابعة الآن إلى محافظة الطائف وبعد ذلك عين رئيسا لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمكة المكرمة ثم انتقل إلى رئاسة القضاء بمكة مساعدا لرئيس القضاء. بعد هذا عين رئيسا لمحاكم منطقة عسير.  وفي عام 1380هـ اختاره مفتي الديار السعودية الشيخ محمد بن إبراهيم - رحمه الله - ليكون رئيسا لتعليم البنات بعد اعتذاره عن رئاسة محاكم منطقة الرياض حيث أصدر الملك سعود ـ رحمة الله ـ أمره بتعيينه رئيسا لتعليم البنات ثم في عام 1397هـ صدر قرار بتعيينه رئيساَ لشئون المسجد الحرام والمسجد النبوي، وفي عام 1412 هـ  صدر الأمر الملكي السامي بتعيينه رئيسا لديوان المظالم حتى طلب الإعفاء في الآونة الأخيرة نظراً لظروفه الصحية عام 1421هـ وكان عضوا في هيئة كبار العلماء، وقد تدرج في تلك المناصب العالية بكل جدارة وكفاءة عالية، فسمعته حميدة تبقى معطرة بالثناء علية يتبعه أريجها في جدثه لنزاهته، و إخلاصه، وقوة شخصيته المعروفة بكل ثقة ورزانة، وقد حظي رحمه الله بمكانة سامقة ومنزلة رفيعة لدى ولاة الأمر لما يتصف به من علم ومكانه وهذه سيرة ولاة أمرنا حفظهم الله في تقدير العلماء ومكانتهم ومما دل على ذلك زيارة صاحب السمو الملكي الأمير عبد الله بن عبد العزيز ولي العهد له في مستشفي الملك فيصل التخصصي قبل رحيله بيوم لما له من مكانة عالية لدى ولاة أمور هذه البلاد، فهم يقدرون العلماء أمثال الشيخ ناصر، والرجال المخلصين في خدمة وطنهم..، فله مآثر ومحاسن جمة لا يفرط التاريخ فيها ولا ينساها مدى الأيام.. منها ما تحقق أثناء عمله رئيسا لشئون المسجد الحرام والمسجد النبوي، بدعم قوي لا حدود له من لدن حكومتنا الرشيدة في مجال التوسعة الهائلة الجبارة للحرمين الشريفين.. فلقد أنصت لتوجيهات خادم الحرمين المتضمنة حثه على المتابعة وسرعة التنفيذ في عمل التوسعة، والمشاركة في اختيار أجود أنواع الرخام الممتاز ضد حرارة الشمس وقد قال لي الشيخ ناصر في مناسبة من المناسبات إن الدولة ـ اعزها الله بالطاعة- جادة في جلب رخام ضد حرارة الشمس من جزر البحر الأبيض المتوسط أو قال من اليونان.. لوضعه في المطاف وفي ساحات الحرمين الشريفين، وقد عملت نماذج صغيرة حول الكعبة المشرفة من أنواع الرخام للمقارنة والمفاضلة بين تلك العروض المقدمة من بعض الشركات العالمية، بحضور مسئول رفيع المقام في الدولة ـ ولعله خادم الحرمين الشريفين أمد لله في عمره، وقال الشيخ جئنا قبل صلاة الظهر لنضع أقدامنا حول الكعبة المشرفة على تلك العينات: قدم: على نوع، والأخر على النوع الذي تم اختياره لامتيازه علي سائر العينات، وقد أبدت وأيدت المختبرات صحة ذلك، ويقول أيضاً أن الشركة عليها ضغوط والتزامات في ذلك الحين ، ومع ذلك قدمت الموعد بشهرين تقديراً وتكريماً لخادم الحرمين ولتلك البقاع الطاهرة مما جعل الحجاج والعمار يطوفون ، ويسيرون في راحة تامة واطمئنان في عز الصيف وسطوع الشمس مرتاحين لبرودة البلاط الرخامي ، ولسان حالهم وحال الجميع يرددون الدعوات للمتسببين في ذلك  فجزا الله ولاة أمورنا ، وشيخنا الأجر الوفير عندما يلقون ربهم . و ستلوح وتشهد لهم ساحات وأسطح المسجدين بما خلدوه من مآثر جليلة تبقى على مر الدهور و العصور. فالشيخ ناصر ـ رحمه الله ـ لا يجامل في عمله علي حساب ذمته ومسئولياته والمصالح الشخصية فعملة دائماً يتصف بالأمانة وبالإخلاص والجد، فمن فيض محاسنه عنايته رحمه الله بالحشمة والعفاف للمرأة ذلك ما حرص عليه رحمه الله من إلزام النساء والفتيات بارتداء لباس الحشمة الساتر لمفاتن الفتيات حديثات السن في المسجد الحرام، وخاصة في أيام الأعياد التي يكون فيها بعض التساهل من بعض أولياء أمورهن في تلك الأعياد، وغير ذلك من صفات الانضباط للأطفال ليتم الهدوء والاطمئنان للمصلين في سائر الفروض والأوقات.كما تحقق في ذلك الوقت استبدال الدوارق وأواني الفخار بالترامس الصحية الحالية لماء زمزم المبّرد، وغير ذلك من الترتيبات والتنظيمات. وله في أثناء رئاسة تعليم البنات نشاط منقطع النظير فقد شُيد العديد من المباني العملاقة المدرسية في وقت قياسي، وكثير من المنشات، والتوسع الهائل في افتتاح المدارس الكثيرة، وتأثيثها بالأثاث الفاخر مع تأمين احتياجاتها من المعلمات والمواد الدراسية... الخ، فالدولة - اعزها الله ـ قد أعطته الصلاحية الكاملة فيما يتعلق بتعليم وتثقيف شقائق الرجال، ورغم ما يضطلع به من أعمال جسام فإن كرسي العمل لم يعقه عن الجولات المفاجئة حول أبواب المدارس، وخاصة حينما يعلم عن بعض المعاكسات والمضايقات للطالبات وحراس المدارس التي قد تحدث أمام بعض بوابات المدارس، فهو يأتي متنكرا داخل سيارة عاديه فإذا رأى شيئاً من هذا القبيل وتأكد خلع مشلحه عن منكبية ثم أمسك بالشخص المعاكس بكل شجاعة وقوة فيلقيه أرضاً على مشهد ممن حوله، ثم يسلمه إلى الجهات المختصة لتأديبه وإيداعه السجن ردعاً له ولأمثاله، وغير ذلك من المواقف المشرفة، وقد شهد له مسئول كبير في الدولة بأنه من أقوى الرجال شخصية وصرامة، وثباتاً ومهابةً. فالمجال لا يتسع للاسترسال في عد المزيد من مآثر أبي عبد اللطيف متمثلين بهذين البيتين، ومتأسفين على رحيله:

حجبـت عنا وما ا لدنيا بمظـهرة 
<!--

 

شخصاً وإن جلّ إلا عاد محجوبا
<!--

كذلك الموت لا يبقي على أحد

 

مدى الليالي - من الأحباب محبوباً
<!--

رحمه الله رحمة واسعة، واسكنه فسيح جناته، والهم ذوبه و أبنائه بنين وبنات وزوجاته، وأخيه الأستاذ عبدالله، ومحبيه الصبر والسلوان. (( إنا لله وإنا إليه راجعون))

<!--[if !supportFootnotes]-->

<!--[endif]-->

( <!--) نشرت في صحيفة الجزيرة، يوم الثلاثاء 17 جماد الأولى 1422 هـ،الموافق 7 أغسطس 2001م. 

( <!--) نشرت في صحيفة الجـزيرة، الأربعاء 18/5/1422هـ، الموافق 8 أغسطس 2001م.

(<!--) نشرت في صحيفة الجزيرة، يوم الثلاثاء 9 جماد الآخرة 1422هـ، الموافق 28 أغسطس 2001م.

(<!--) نشرت في صحيفة الجزيرة يوم الجمعة 17 شعبان 1422هـ، الموافق 2 نوفمبر 2001م.

(<!--) نشرت في صحيفة الرياض، يوم الثلاثاء 10 شوال1422هـ.، الموافق 25 ديسمبر 2001م.

mager22

فقد ورثاء ( عبد العزيز بن عبد الرحمن الخريف )

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 297 مشاهدة
نشرت فى 30 سبتمبر 2013 بواسطة mager22

في ذات يوم ليس بالبعيد وعلى مقربة من الحي الذي أسكنه مررت بدار أحد أبناء محافظة حريملاء(<!--) فوجدت الباب موصداً والشارع المحيط بالدار خالياً من المراكب والعربات فأطرقت مومياً برأسي نحو الأرض تحسراً وتذكراً لصاحبي الدار التي كانت أبوابها مفتحة وآهلة بأهلها وبأبنائها، وبالزوار هذا يستقبل وذاك يودع.. وتسمع في أرجاء ذلك البيت بعض أصوات الصبية والأطفال كالطيور المغردة، منهم من يتلو القرآن ببعض الآيات والسور القرآنية، والبعض يتغنى بأنشودته ويلهو بلعبته نشوان من فرح يحسون بدفء المحبة بين والديهم وبين جداتهم الحانيات، وإخوتهم الكبار، جو عائلي يتصف بالترابط والهدوء والطمأنينة، ولكنها الأيام لا يدوم لها سرور تجمع وتفرق، وتخفي الأصوات وتضفي السكون على الديار بعد رحيل ساكنيها..

        وقد توفي رب الأسرة فازداد اقتراب الأبناء والبنات من والدتهم لعظم حقها ومحبتهم إياها محبة ود وجبلة أزلية، ولتخفيف وحشتها لفقد الغائب شريك حياتها ورفيق عمرها، ولكنها ما لبثت أن لحقت به منذ بضع ليال خلون. فلقد وصفت ـ رحمها الله ـ بصفات حميدة، وصفت بالعفاف والعطف على المساكين وطيب المعشر مع جيرانها، وإكرام بعلها والقيام على خدمته بكل عناية وعطف، ولم تتخل عنه طيلة سنوات إعاقته التي تربو على سبعة أعوام حتى توفاه الله ـ رحمهما الله رحمة واسعةـ فأصبح البيت خالياً يسود أرجاؤه السكون، وخفتت الأصوات وانطفأت تلك الشموع.. فهجره مرتادوه وتفرق الأبناء والبنات ومضى كل في سبيله، كأسراب طير أفزعهم رام فتباعدوا!. وهذه الحال تذكرنا بمضمون شطر بيت من الشعر حينما مر شاعر بمنزل آهل بساكنيه وهم في دعة وسعة من العيش فقال متيقناً ومتحسراً "ولابد يوماً أن يهجر الباب حاجبه".

   ذهبوا وهم يحملون بين جوانحهم لوعات الفراق المر، فراق أقرب الناس وأحبهم إليهم، ولك أن تتصور حال كل منهم وما يعتلج في خواطرهم من أحزان مقيمة في طوايا نفوسهم مدى العمر إذا ما مروا بذاك الحصن الذي جمع شملهم ودرجوا في ساحته واحتضنهم أركانه وهو خالٍ يلزم النواظر أن تهمي دمعاً، ولاسيما البُنيات فعلاقتهن بالأمومة ألصق وأقرب لأنهن دائماً يلجأن إلى الوالدة أكثر للتشاور وإفضاء همومهن ـ إن وجدت ـ وحل بعض الموضوعات التي تهمهن .. وعزاؤهم في ذلك كله أنهما مضيا طاهري الأثواب معطرة سمعتهما بالثناء الحسن، وطلب المغفرة لهما من العلي القدر، وقد خلّفا ذرية صالحة من خيرة رجال العلم والمعرفة بنين وبنات متحلين بفعل الخير والإحسان..

وما المــال والأهــلون إلا ودائــع  
<!--

 

ولابد يوماً أن ترد الودائع
<!--

 

 


كـوكب غـاب وبـقـي سـنــاؤه (<!--)

(فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله)

 

ومــا المـرء إلا كـالـشــهــاب وضــوئــه
<!--

 

يحور (أُفولا) بعد إذ هو ساطع
<!--

   في مساء يوم الأربعاء الموافق 15/10/1421هـ طرق أسماعنا نبأ رحيل علم بارز من علماء هذه البلاد الأفاضل إلى دار البقاء بعد معاناة طويلة الأمد مع المرض، ومع ذلك كله استمر في نشر رسالته رغم نصح الأطباء له بالراحة وما يعانيه ويكابده من الآلام والمتاعب الجمة، بل وبعد أن أضاء صدور تلامذته علماً نافعاً، والمنصتين لعلمه الفياض عبر وسائل الإعلام العامة والخاصة، بمؤلفات عديدة، إنه الشيخ الفاضل محمد بن صالح العثيمين – تغمده الله بواسع رحمته- فغيابه أحدث فجوة واسعة في ضمير الزمن، ضمير الإفتاء والإرشاد، والتفقه في الدين الخالص، فلقد عُرِف عنه الجد وحفظ الوقت منذ فجر حياته واستثماره في اقتناص فوائد العلوم من بطون الكتب وحواشيها، ومن أفواه العلماء، وكان لي شرف الزمالة معه عام 1373هـ أو عام 1374هـ فترة قصيرة في المعهد العلمي بالرياض، وبعد تخرجه عُيّن مدرساً بمعهد عنيزة العلمي قبل حصوله على الشهادة الجامعية لما يتمتع به من قدرة وكفاءة، ثم لازم فطاحل العلماء في تلك الحقبة من الزمن وخاصة شيخه العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي – رحمه الله- وأكبّ على النهل من موارد العلوم الشرعية والفقهية واللغة العربية وفروعها حتى وصل إلى ما وصل إليه من بحور العلوم والفنون فأصبح يذري علماً وإضاءة شملت ساحات واسعة من هذا الكون..! فصار محل احترام وعناية فائقة من ولاة أمور هذه البلاد وعلى رأسهم خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز ، وسمو ولي عهده الأمين عبد الله بن عبد العزيز بل وجميع المواطنين، كما أنه له محبة خاصة في قلوب المسلمين خارج البلاد لما يتصف به من سعة علم ورحابة صدر، وتأليف وترغيب للطلبة المغتربين من خارج عنيزة، بل ومن الوافدين من شتى الجنسيات في النهل من موارد العلوم الصافية، وإسكانهم في أروقة المسجد الذي يتلقون فيه العلم والدرس على يديه، والبعض منهم في المساكن المجاورة للجامع.. فالجامع الكبير هناك كأنه خلية نحل يعج بالمصلين وتؤمه مجموعات كبيرة من طلاب العلم لما يلقونه من تشجيع مادي ومعنوي، للاستعانة بذلك على مواصلة تلقي العلوم، ومن أخذ نصيباً وافراً من ذلك عاد إلى بلاده معلماً وداعية إسلامياً ينشر العلم ويُرسخ عقيدة السلف الصالح في ربوع تلك البلاد.. وكأني بلسان حال من يمر من تلامذته بالجامع الكبير بمحافظة عنيزة الذي كانوا يتلقون فيه دروس العلم والمعرفة على يديه من المغتربين وغيرهم، تدور في مخيلاتهم ذكرياتهم الجميلة تحسراً عليه بعد رحيله وتفجعاً على غيابه وربما يستحضر البعض منهم هذا البيت مردداً :

يعــز عــلي ّ حــيـن أديــــر عــيـنــيّ
<!--

 

أفتش في مكانك لا أراك
<!--

  وفقده وفقد من سبقوه في الآونة الأخيرة إلى الأجداث من كبار العلماء والمشايخ كسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز – رحمه الله- الذي لم يزل حزنه ساكناً في أغوار النفوس يعتبر فجوة وثلمة في مجال الفتوى ونشر العلم وتبصير العامة والخاصة مع الاحتفاظ بحقوق ومنزلة من هم الآن على ظهرها الذين لا يألون جهداً في إنارة الطرق المثلى وتنوير المجتمعات الإسلامية عبر وسائل الإعلام المختلفة والدروس العامة – أثابهم الله- وغفر لشيخنا الراحل وجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خيراً وأسبغ عليه شآبيب رحمته وألهم ذويه وتلامذته الصبر والسلـوان ..

 

وغــــاب الطـبـيــب(<!--)

(الشيخ محمد بن ناصر العمراني رحمه الله)

 

مضى غير مذموم، وأصبح ذكره
<!--

 

حلي القوافي بين راث ومادح
<!--

جُبلت النفوس على التأثر المؤلم حينما يغيب عنها غال أو عَلم من الأخيار غياباً أبدياً لاسيما رحيل العلماء وأفذاذ الرجال الكرماء، والأطباء البارزين أوغيرهم من الأعضاء المخلصين العاملين في أوطانهم أو الممثلين لبلدانهم خارجها، وفي مجالات إصلاح ذات البين.. ففي عصر يوم الثلاثاء 12/11/1421هـ ودعت محافظة حريملاء علماً بارزاً من أعلام الطب الشعبي المشهور بالإخلاص والنجاح في هذا المجال إنه الخال: الشيخ محمد بن ناصر العمراني الذي رحل عنا إلى دار المقام بعد أن استوفى نصيبه من أيام الحياة المسطرة بجبينه قبل خروجه إلى الدنيا، وكان هو وأسرته منذ أحقاب السنين مشهورين بكرم الضيافة، وكفالة الأيتام، والإحسان إلى المساكين، وقد ترعرع في أحضان والده ناصر الذي تولى الإمارة في حريملاء آنذاك المشهور بالحنكة وقوة الشخصية، وفي آخر حياته استغل جل وقته في تلاوة القرآن الكريم، والنظر في الكتب المفيدة من كتب السنة المطهرة وكتب السير، وقد ساعد على ذلك ما وهبه الله من سلامة العيون وحدة البصر رغم تقادمه في العمر الذي تخطى "الهنيدة" ببضع سنوات، وقد اشتهر بالمهارة في الطب الشعبي، وقوة الفراسة والتبصر في تشخيص كثير من الأمراض وخاصة أمراض العيون، وعرق النَسا، وبعض الأمراض الباطنية التي تبدو باصفرار وبياض العيون، وتلون البول باللون الأحمر ـ كإنذار مبكرـ وكذلك ما يسمى بالعنكبوت، وما يسمى أيضاً " بالنفرة أو الحبة" فهو يبادر بالكي في بعض مواضع جسم الإنسان في ضوء تشخيصه للمرض (مع وصفه وتأكيده بالحمية وتحديد وقت لها).. لأن التراخي في مثل ما ذكر قد يسبب الوفاة للشخص المصاب فوراً، وبالذات "النفرة" التي غالباً ما تكون في داخل الجيوب الأنفية أو في الحنجرة، ويستدل على كشف ذلك بإعطاء المريض قبل الكي كأساً من المر يشربه، فإن تورم وجهه وانتفخ في الحال بادر بتسخين الحديد المخصص لذلك حتى يحمر ويميل لونه إلى البياض من شدة نضجه، ثم يقوم بالكي في مؤخرة الرأس لمجموع عروق الرقبة والرأس، وبعد الكي تبدو آثار النجاح، وتقوى معنوية المريض وتطمئن نفسه مع الالتزام بضبط الحمية المذكورة. ومن الطريف في الأمر أنه قد اُستدعي بالذهاب إلى الولايات المتحدة الأمريكية منذ سنوات قليلة بعدما حار بعض أطباء " بوسطن " في تشخيص مرض شخص معروف، فكواه هناك فحسنت حاله ـ حسبما سمعناه ـ كذلك قال لي أحد أبنائه أن والدي قد استدعي للنظر في حالة مريض داخل أحد المستشفيات البارزة هنا.. حيث استمر هذا المريض برفع صوته بشهيق دون توقف فكواه حتى فصل التيار الكلامي المسبب لذلك فعاد لحالته الطبيعية بإذن الله. فقد كان ـ رحمه الله ـ مشهوراً بالطب الشعبي الناجح على مستوى المنطقة الوسطى وبعض المناطق الأخرى.. يأتون إليه من مدن وبلدان نائية من مختلف الطبقات.. لما يجدونه من علاج صائب، ومهارة وإرشاد، وكرم ضيافة، فالذي ينصت إليه حينما يتحدث عن بعض الأمراض وأجزاء الجسم يخيل إليه أنه قد اشترك مع أطباء تشريح الجثث لبني الإنسان، فقوة حدسه وطول تجاربه في هذا المجال أكسبه خبرة واسعة، فغياب مثله يحدث فجوة واسعة في عدم سرعة شفاء بعض الأمراض التي ألمحنا إليها، والتي قد لا يعيرها اهتماماً ولا يؤمن بها معظم الأطباء الحاليين. فعلى سبيل المثال مرض ما يسمي " بالعنكبوت" والتي غالباً ما تصيب أطراف أصابع اليد فإن الكي يعجل شفائها ـ بإذن الله ـ في حين أن الطب الحديث يقوم بتغيير وتعقيم وتقشير مواضع الألم عدة مرات قد يصل إلى العظم، ويطول أمد الشفاء، فالكي يوقف الألم ويعجل بالشفاء ـ بحول الله ـ وقد أصيب أحد أصابع يدي منذ سنوات مضت بما يسمى " بالعنكبوت " وحاول الأطباء معالجته فلم يفلحوا..!! واضطررت كارهاً للذهاب إليه، بصحبة شخصين للإمساك بي عندما يحين الكي في عضدي، وبعد ما رفع آلة الكي سكن الألم في الحال واستمريت مُحتمياً وقتاً وجيزاً حسب توجيهه وإرشاده وقد شفيت بحمد الله، وكذلك مرض العيون فإن له كياً خاصاً في مواضع من الرأس والوجه أحياناً، وكي مرض عرق النَساء غالباً ما يكون في الورك معمقاً.. ونرجو أن يخلفه في هذا المضمار أحد أبنائه وبالذات ابنه عمران الذي لازمه في أخريات حياته، واستفاد من بعض توجيهاته، وكذلك بعض بناته اللاتي يقُمن الآن بمعالجة بعض النساء، ولقد أجاد الشاعر أمير الدين المحلي أو الحلي حيث يقول:

عــليــك بـأربــاب الصـــدور فـمـن غــدا
<!--

 

مضافاً لأرباب الصدور تصدرا
<!--

        هذا وقد كان الرجل محباً لطلاب العلم ومشجعاً لهم يحثهم على التمسك بالأخلاق الفاضلة والنهل من موارد العلوم العذبة ومن أفضاله عليّ التي لا تنسى حينما كنت طالباً أدرس بثانوية دار التوحيد بالطائف عامي 1371 و 1372هـ وذلك لقلة وجود مدارس بالرياض آنذاك، أن تعهدني بالنصح والحث على مراعاة واجبات الغربة والتحلي بالسمعة الحسنة المشرفة، واختيار الأقران الأخيار والحرص على الإنصات إلى شرح أساتذتي واحترامهم، وحسن التعامل مع الزملاء والرفاق لتخفيف وحشة الغربة في تلك البلاد، .. وعند عودتي من الطائف كان كثيراً ما يقوم بإكرامي ويدعونني لتناول طعام العشاء ـ بعد صلاة العصر آنذاك ـ مع والدي الذي هو بمثابة الوالد له ـ رحمهما الله جميعاً ـ فالصغير دائماً لا ينسى أفضال من أحسن إليه، فأنا مدين له حتى بعد انتقالي إلى المعهد العلمي بالرياض وتخرجي من كلية اللغة العربية عام 1378هـ، كلما أعود إلى مسقط الرأس بحريملاء يجدد الدعوة لي ويكرمني ومن كانت هذه صفته يظل ذكره طرياً على الألسن والأسماع معاً، ولقد أجاد الإمام الشافعي ـرحمه الله ـ في الثناء على الأخيار أمثاله حيث يـقول:

ومـن يــقـض حــق الجـــار بـعد ابن عمـه
<!--

 

وصاحبه الأدنى على القرب والبعد
<!--

يعـيـش ســيـداً يـستعــذب النـــاس ذكـــره
<!--

 

وإن نابه حق أتوه على قصد
<!--

   كما لا يفوتني التنويه بمحاسن ابن أخيه ـ ابن خالتي ـ عبد الرحمن بن عبد الله العمراني الذي سبقه إلى مراقد الراحلين منذ وقت مضى، البار بوالديه وبوالدتي والمشهود له بالكرم المتناهي والتفاني في خدمة بلده ومطالبة المسؤولين في الدولة بتطوير حريملاء وملحقاتها ضمن اللجنة الأهلية بها غفر الله لهم جميعاً وأسعد الأحياء منهم.

   وحقاً إن فراق الأحبة والأقارب مؤلم جداً وكلما مر ذكرهم تتجدد الأحزان على فراقهم وغيابهم عن من آلفهم، وعاش معهم ردحاً من الزمن، مرددين الدعاء لهم بالمغفرة وحسن المآب، والعزاء الملزم في ذلك أنها سنة الحياة في تتابع الأجيال والرحيل إلى دار البقاء، واستقبال وفود جدد على ظهر هذه الأرض، وتلك سنن الله في الكون إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، { ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام } غفر الله له وأسكنه فسيح جناته وألهم آله وذويه وجميع محبيه الصبر والسلوان، {إنا لله وإنا إليه راجعون} وقبل ختام هذه العجالة يحسن بنا ذكر قول العلامة عبد الرحمن بن إسماعيل الخولاني في رثاء شيخه:

حُـجـبــت عــنا وما الدنــيــا بـمــظهــره
<!--

 

شخصاً وإن جل إلا عاد محجوبا
<!--

كذلك المــوت لا يــبـــقي عــلـى أحـــــد
<!--

 

مدى الليالي من الأحباب محبوبا
<!--

عــالم جـليـل رحــل (<!--)

(الشيخ حمود بن عبد العزيز بن سبيّل رحمه الله)

 

وكـل مصـيـبــات الــزمــان وجـــدتـــها
<!--

 

سوى فرقة الأحباب هينة الخطب
<!--

      في صباح يوم الأحد 30/12/1421هـ أومأ مخلي الديار من أهلها برحيل فضيلة العالم الجليل والأديب اللطيف إلى دار البقاء الشيخ حمود بن عبد العزيز بن سبيّل بعد عمر مديد قضاه في طاعة المولى وعبادته، وفي نشر العلم ومدارسته، وإنارة المسترشدين، وصُلِّي عليه في جامع الراجحي بعد صلاة الظهر من يوم الاثنين 1/1/1422هـ ووري جثمانه في مقابر حي النسيم بالرياض وقد قضى جل حياته قاضياً ومتنقلاً في عدد من البلدان والمدن آخرها في محافظة الخرج، وكان من خيرة تلامذة الشيخ محمد بن إبراهيم مفتي الديار السعودية آنذاك، وبعد إنشاء المعاهد العلمية وكليتي الشريعة واللغة العربية واصل الدراسة بالمعهد العلمي حتى نال الشهادة العالية من كلية الشريعة عام 77هـ في ثاني فوج، وكان لي شرف التواصل معه أثناء تلقي العلم لدى الشيخ محمد بن إبراهيم وأخيه الشيخ عبد اللطيف (رحمهم الله جميعاً) واستمر التواصل حتى قبيل وفاته حيث كان التزاور بيننا متصلاً.. ولازلت أذكر عبارته اللطيفة حينما أكدت عليه مرة بتشريفنا في حريملاء قال: (سنهجم عليك هجوماً غير مسلح) فما أجمل هذه العبارة وأعذبها، وستبقى هذه ذكرى خالدة ترن في طوايا نفسي مدى عمري، فالشيخ رحمه الله كان يتمتع بدماثة الخلق وبصفات حميدة وأدب جم رفيع، لذا كان منزله عامراً يعج بالزوار ومحبيه لما يلقونه من فوائد علمية وأدبية وإكرام.. وبعدما انتهى من سلك القضاء تفرغ للجلوس لبعض طلاب العلم يرشدهم ويلقنهم من معينه العذب في المسجد وأحياناً في مجلسه العامر بحضور نخبة من الأخيار على مختلف طبقاتهم ومستوياتهم، وبجانب ذلك هاتفه الذي لا يتوقف رنينه من طالبي الفتوى أو حل بعض المشكلات وإصلاح ذات البين من رجال ونساء وأحياناً يشفع لدى بعض المحسنين ويعرف بأحوال المساكين والمحتاجين، ولسان حالنا يقول له:

ســتـلـقى الـذي قــدمـــت للـنـفس حـاضــراً
<!--

 

فأنت بما تأتي من الخير أسعد
<!--

        ففقد مثله من العلماء يترك فراغاً واسعاً في محيطه الأسري وفي المجتمعات عموماً، والعزاء في ذلك كله أنه ترك أثراً طيباً وخلَّف ذرية صالحة من بنين وبنات ـ تغمده الله بواسع رحمته وأسكنه فسيح جناته وألهم ذويه وجميع محبيه الصبر والسلوان { إنا لله وإنا إليه راجعون } مختتماً هذه العجالة بهذين البيتين :

وأحســن الحـــالات حـــال امــــــرئ
<!--

 

تطيب بعد الموت أخباره
<!--

يـفـنــى ويــبــقـى ذكــــره بــعـــده
<!--

 

إذا خـــلـــــــت مـــن بــعـــده داره
<!--

 

<!--[if !supportFootnotes]-->

<!--[endif]-->

(<!--) المقصود في هذا المقال هو سليمان بن جماز وزوجته رحمهما الله.

( <!--) نشرت في صحيفة الجزيرة يوم السبت 18 شوال 1421هـ الموافق 13 يناير 2001م .

( <!--) نشرت في صحيفة الجزيرة، يوم الجمعة 15 ذوالقعدة1421هـ الموافق 9 فبراير2001م.

(<!--) نشرت في صحيفة الجزيرة، يوم الأربعاء 10 محرم 1422هـ، الموافق 4 ابريل 2001م.

mager22

فقد ورثاء ( عبد العزيز بن عبد الرحمن الخريف )

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 211 مشاهدة
نشرت فى 30 سبتمبر 2013 بواسطة mager22

وداعاً أم الفقراء(<!--)

(والدة أبناء العم عبدالله إبراهيم الخريف

هيا بنت عبدالله المبارك رحمها الله)

 

   ما من شك أن غياب الأخيار عن الوجود، وعن نواظر محبيهم يحدث فجوة وفراغاً واسعاً في نفوس أسرهم ومجتمعهم، ولاسيما إذا كانت لهم أيادي ندية بيضاء تسدي المعروف، وترعى أحوال الضعفة والمساكين، وتصل الأرحام وذوي القربى، ولقد أجاد الشاعر حيث يقول حاثاً على البذل في أوجه البر والإحسان:

وإذا رزقت من النوافل ثروة
<!--

 

فأمنح عشيرتك القريبين نوالها
<!--

وهذه السجايا الحميدة  تتمثل في وصف أم عبد الرحمن ابن العم الشيخ الراحل عبد الله البراهيم الخريف رحمهما الله التي فجع أبناؤها برحيل ومغادرتها منزلها إلى دار الخلود في صباح يوم الاثنين الموافق 12/12/1419هـ مأسوفاً على فراقها وبعدها بعداً نهائياً إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.. ، ولقد خيم الحزن على منزلها وانطفأت شموعه برحيلها، حيث كان ذاك المنزل ملتقىً لأبنائها وبناتها البررة الذين اعتادوا أن يسعدوا برؤيتها فيه جماعات وفرادى هم وأنجالهم صغاراً وكباراً، منصتين لأحاديثها الشيقة، وسرد بعض ذكرياتها الجميلة ذكريات الطفولة بين أحضان والديها بمكة المكرمة ومع أخوتها حيث ولدت هناك، وعاشت شطراً من طفولتها وشبابها حتى اقترنت بالعم عبد الله ـ أبو إبراهيم ـ تغمدهما الله بواسع رحمته، وكانت تحث أبنائها وأسرتها على الاستقامة، وعلى أداء الصلوات في أوقاتها، والتمسك بأهداب الشريعة السمحة كي يسعدوا في كلا الدارين :

ولا خير في الدنيا لمن لم يكن له
<!--

 

من الله في دار المقام نصيب
<!--

وبحول الله تلقى حسن الوفادة من ربنا الرحيم الودود، وطيب الإقامة في جنات النعيم، وكان وقع ذاك النبأ عن رحيلها العاجل وقعا مؤلما كالصاعقة على نفوسهم، ونفوس عارفيها ـ وما أقساها وأمرها من لحظات وداع !! ولقد أحسن الشاعر محمد بن سليمان الشبل حيث أجاد في تصوير لحظات الوداع:

يوم الوداع وهل أبقيت في خلدي
<!--

 

إلا الأسى في حنايا القلب يستعر
<!--

حقا إن فقد الغالي وفقد الأحبة يظل هاجساً مريراً في طوايا النفوس مدى العمر..

وكل مصيبات الزمان وجدتها
<!--

 

سوى فرقة الأحباب هينة الخطب
<!--

ولقد عرفت ـ يرحمها الله ـ بالسماحة وحسن الخلق ولين الجانب للقريب والبعيد، أما كفها فهو ندي للأرامل والأيتام، وذوي الحاجات والمساكين.

كما أنها على جانب عظيم من الصلاح والتقى، وقد ظهر ذلك جلياً في حسن تربيتها لأبنائها وبناتها الذين لم يأتوا جهداً في خدمتها وإرضائها وإكرام محبيها، فقد كانت كثيرا ما تحثهم على الاستقامة وبذل الخير والتواضع، وتفقد أحوال الأقارب والمستضعفين، وفتح أبوابهم لمن يقصدهم ويتحرى نوالهم. وكأني بها تملي عليهم هذا البيت للدكتور أحمد اللهيب.

وأعجز الناس في دنياه مقتدر
<!--

 

لم يصنع العرف في أهل وخلان
<!--

وتذكرهم بقول طرفه بن العبد:

لعمرك ما الأيام إلا معارة
ج

 

فما اسطعت من معروفها فتزود
ج

ولسان حالها أنه يعز عليها أن تنطفي شموع منازل أبنائها وأسرتها بعد رحيلها محذرة أن يتمثل بهذا البيت الذي ينسب لعلي بن أبي طالب (رضي الله عنه):

إذا ما رأس أهل البيت ولى
<!--

 

بدا لهم من الناس الجفاءُ
<!--

وأنا على يقين تام أن أبوابهم وصدورهم ستظل مفتوحة، وأن بناتها وزوجات أبنائها اللواتي تخرجن من مدرستها سيخلفنها ويكنّ خير خلف لخير سلف بحول الله وقوته.

  ولقد كانت هي وزوجها العم عبدالله ـ يرحمهما الله ـ بمنزلة الوالدين لي عند قدومي من حريملاء لطلب العلم على المشايخ آنذاك فلقد وجدت منهما الرعاية التامة والعطف والإكرام، ولا زلت أتذكر حرصهم وتأكيدهم على بزيارتهم طيلة مدة إقامتي بالرياض. فجزاهما الله عنى كل خير وأنزل عليهما وابل رحمته إنه سميع مجيب. والهم ذويها وذريتها ومحبيها الصبر والسلوان(إنا لله وإنا إليه راجعون).

 


وغــاب بــدر الـدجـــى(<!--)

(سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله)

 

   ماذا أقول وقد غاب كوكب منير من كواكب الدنيا: لقد أجرضتني غصة، وفاضت عيني بدمعة حرّي حينما سمعت نبأ انتقال والدنا وشيخنا الفاضل إلى دار البقاء إنه الشيخ والعالم الجليل عبد العزيز بن عبد الله بن باز الذي وقف حياته وجاهه وماله خدمة للعلم وتنويراً لطلابه وتبصيراً للعامة والخاصة وعوناً فيما يعتريهم من حيرة وحل مشاكلهم الدينية أو الاجتماعية أو المادية، فهو كل وقته نهر جار يغترف منه القاصي والداني،أو غيمة ضافية تهمي على السهول والآكام :

كــالـبــدر مــن حــيــث التـفـــت رأيــته
<!--

 

وضوؤه للعصبة السارين جدُ قريب
<!--

   ومجلسه رحمه الله معمور بذكر الله وتلاوة ما ينفع المسلمين مع إفادة المسلمين والسائلين منهم من فتاوى وإرشادات دينية ومسلكية، لا تسمع تمجيداً للدنيا ولا لشيء من زخارفها في حضرته، فهو قمة في حفظ الوقت والزهد في الحطام الفاني، بيته مأوى للأضياف والفقراء ولطلاب العلم يشاركهم في تناول طعام الغداء والعشاء وخاصة من الذين يفدون إلى هذه البلاد من أواسط وأطراف المعمورة، ولاسيما في مواسم الحج والعمرة يحدوهم الأمل في الالتقاء به ليزيدهم تبصراً في دينهم وتصحيحاً لمعتقداتهم فأبوابه مفتوحة دائماً سواء على المستوى الرسمي أو الشخصي :

إذا جـئــتــه لــم تــلـق من دون بـــابــه
<!--

 

حجاباً ولم تدخل عليه بشافع!
ج

   والبعض يأتون إليه طمعاً في رفده وعطفه ومساعدتهم والتعريف بحالهم لدى المحسنين وولاة الأمور الذين لا يردون طلباً ولا شفاعة من سماحة الشيخ عبد العزيز لهؤلاء المساكين بل إنهم يفرحون ويبذلون بيد سخية رغبة في المثوبة والأجر من المولى وكأني بلسان حال الشيخ يخاطب الوالي بترديد هذين البيتين :

وأفــضـل النـاس ما بـيـن الـــورى رجـــل
<!--

 

تقـضى على يـده للناس حاجــــات
<!--

وأشــكـر فـضــائـل صـنـع الله إذا جعـــلت
<!--

 

إليك لا لك عند الناس حاجات
<!--

فالشيخ له مكانة عالية ومحبة صادقة في قلوبنا بل المسلمين عموماً وقل أن يجمع على محبة شخص، فنرجو أن يكون ذلك علامة رضا ومحبة من الله له:

تـخـــالـف النــاس إلا فــي محــبــتـه
<!--

 

كأنما بينهم في وده رحم
<!--

   ونحن نغبط على مثل هذا العالم الفذ – تغمده الله بواسع رحمته- ويحسن بنا أن نذكر هذا البيت كتهنئة لتلاميذه ومن تتلمذ عليهم :

ســعـــدت أعــيــن رأتــك وقـــرت
<!--

 

والعيون التي رأت من رأكا
<!--

   فتعدد محاسنه وفضائله ومكارم أخلاقه لا يسهل حصرها على مثلي: ولقد أحسن الشاعر ابن دريد حيث يقول :

لا يــأمــن العــجـز والتـقصـيـر مــادحــه
<!--

 

ولا يخاف على الإطناب تكذيبا
<!--

ودت بـــقــاع بــلاد الله لــو جــعـــلــت
<!--

 

قبراً له فحباها جسمه طيبا
<!--

كــانــت حــيــاتـك للدنــيــا وسـاكـنـها
<!--

 

نوراً فأصبح عنها النور محجوبا
<!--

   وسيظل النور ـ نور العلم والمعرفة ساطعاً ـ بحول الله وقدرته على تعاقب الدهور والأزمان وعزاؤنا في ذلك كله أنه خلّف ذرية صالحة، وتلاميذ بررة من خيرة العلماء الأفاضل، ونحن على يقين أنهم سيحذون حذوه برحابة الصدر والصبر على ثقل المسؤولية المنوطة بهم، والتضحية بالوقت وبالمال لمن يستحقه من أبناء المسلمين في الداخل والخارج ونذكرهم بقول طرفة بن العـبد:

لعــمـرك مــا الأيــــام إلا مــعـــارة
ج

 

فما سطعت من معروفها فتزود
<!--

   ونختم هذه الأسطر التي معظمها شواهد شعرية تنطبق على مثل شيخنا بهذين البيتين:

فــرب ضــريــر قــاد جــيــلا إلى العــلا
<!--

 

وقائده في السير عود من الشجر
<!--

وكــم مـن كـفــيـف فــي الزمــان مشـهـر
<!--

 

لياليه أوضاح وأيامه غرر
<!--

        تغمده الله برحمته وأسبغ عليه شآبيب مغفرته وألهم ذويه الصبر والسلوان..

{إنا لله وإنا إليه راجعـون }..

 


ورحل الصديق الغالي محمد المشعـل(<!--)

 

وأرى أحبائي يساقطها الردى
<!--

 

من بيننا كتساقط الأوراقِِِِِ
<!--

فجائع الأيام والليالي لاتنيئ، فكل يوم نُهِيلُ التُّربَ على عزيز غالي وأكثرها إيلاماً وأعمقها جرحاً فقد الصديق ورفيق الطفولة:

وكل مصيبات الزمان وجدتها
<!--

 

سوى فرقة الأحباب هينة الخطبِ
<!--

ففي يوم الأحد20/12/1420هـ ترجل فارس الأسفار والرَّوحات   وممتطي سفائن الأجواء الأخ الكريم والصديق الوفي محمد بن عبدالعزيز المشعل الذي أمضى ثلثى عمره في الترحال عبر أجواز الفضاء الرحب لاكتساب المعيشة ورعاية مصالحه التجارية ـ في كثير من بقاع الدنيا ـ مُتعددة الأصناف والمصادر، ولقد أجاد الشاعر حيث يقول:

أطل على كل الأفاق حتى
<!--

 

كأن الأرض في عينيه دار!!
<!--

ولقد تأثرت كثيراً لرحيله عنا فأحدث ذلك الغياب فجوة عميقة في خاطري كيف لا وهو رفيق عمري ودربي منذ عصر الطفولة، فحزني عليه أثار شجوني وحلق بي الخيال إلى تذكري أيام الصبا والطفولة بحريملاء، ومسارح لهونا مع لداتنا وأقراننا، ومزاولتنا ألعابنا المفضلة في كثير من ساعات النهار، وفي أوائل الليالي المقمرة وذلك لعدم وجود مصابيح كهربائية في تلك الحقبة الزمنية البعيدة، ولقد تحلى بالكرم وبالصدق، وبالشجاعة في القول ومقارعة خصومه وشركائه في المحافل التجارية، وإيضاح حقه بالحجج الواضحة، وخاصة في شركة الكهرباء وما ماثلها من الشركات الأخرى في العقود الماضيات، فهو معروف لديهم بقوة العارضة والمثالية في التعامل معهم ومع الغير ولا يرضى أن يغمر في حقه..، ولقد عركته الحياة وتجاربها مبكراً حيث سافر إلى الكويت مع شقيقه عبد الرحمن ..، وهو في مقتبل عمره، وقد درس هناك بعض الوقت وأخذ مبادئ في اللغة الإنجليزية وذلك لقلة وندرة المدارس بالرياض ـ آنذاك ـ مع مزاولة في البيع والشراء بجانب شقيقه عبد الرحمن وبعض الشركاء..، ثم عاد إلى أرض الوطن وقد حذق فن التجارة وأساليب مزاولتها، بعد ذلك أستقل بأمواله وتجارته إلى أن غاب عن الدنيا ـ رحمه الله ـ كما أنه سبق أن استفاد من تجارب والده الراحل عبدالعزيز الذي يعتبر من تجار حريملاء ـ آنذاك ـ رغم صغر سنه، ومن صفات والدته الحنون ـ أم عبد الرحمن ـ المعروفة بقوة الشخصية وتقدير القاصد إليهم، وبالكرم وحب المساكين وصلة القريب، والعطف على الأرامل والأيتام كما لا أنسى فضله حيث كان يقرضني بعض المال، ولقد قضيت معه أحلى أيام عمري، فكنا نفرح فرحاً شديداً بالذهاب مع أمهاتنا في أواخر أيام الأسبوع إلى أخوالنا آل عمران في نخيلهم ومزارعهم بحريملاء: أسبوع لدى الأخوال آل محمد بنخلهم المسمى"الخرجية"، وأسبوع لدى آل ناصر بنخلهم "الجزيع" لنلهو ونلعب مع أطفال وبنات أخوالنا وخالاتنا، فنستمتع باصطياد صغار "الدباء" بأيدينا، وبعض الطيور"بالنباطه"! مع ما يتخلل ذلك من سباحة في البرك، ورقي فسائل النخل والتلذذ بمطاردة صغار الأبقار والأغنام والدواجن، فنجد في ذلك متعاً جميلة تفرحنا كثيرا وتدفع عنا السآمة والملل، وتجديد نشاطنا حينما نعود إلى الدراسة بالكتاب لأن دوام الدراسة بها طويل: أي من أول النهار وفي الأصال، ولذا نفرح ونسر بيومي الخميس والجمع من كل أسبوع  كما أن أبا عبدالعزيز قد زاملنا فترة وجيزة لدى الشيخ إبراهيم أبن سليمان الراشد الذي كان يجلس بعد صلاة المغرب في المسجد الجامع الكبير بالرياض لبعض طلبة العلم فنعرب سوياً في اللغة العربية رحمهما الله جميعاً، فهي أيام أنس ومسرات لا تنسى ولا تغيب عن خواطرنا أبد العمر، ولكنها الأيام لا يدوم صفائها تجمع وتفرق :

فما أحسن الأيام إلا أنها
<!--

 

يا صاحبي إذا مضت لا تعود!!
<!--

 ولقد مضت تلك السنون والأيام الجميلة ولن تؤب أبداً ، فلم يبقى منها في نفوسنا سوى الصدى ورنين الذكريات ..، وعزاؤنا  في ذلك كله أنه قد خلفّ ذرية صالحة تجدد ذكره بالأعمال الخيرية ممثلة في أبنه البار عبد العزيز وأبنته عبير أم خالد، فالابن عبد العزيز رغم صغر سنه قد وهبه الله رحابة صدر وسعة أفق وحسن التعامل مع القريب وسائر أفراد المجتمع، فهو يتمتع بأخلاق عالية وحنكة مجرب ينظر إلى الأمور نظرة فاهم مع ما يتصف به من كرم وبذل سخي في أوجه الخير والإحسان والصلة لأسرته ... مما جعل القلوب تميل إليه، والألسن تلهج بذكره، ولقد أحسن الشاعر حيث يقول:

وإنما المرء حديث بعده
<!--

 

فكن حديثاً حسناً لمن وعى
<!--

رحم الله أبا عبد العزيز وأسكنه عالي الجنان وألهم ذويه وأبنائه وأشقائه وشقيقاته ، ومحبيه الصبر والسلوان . 

"إنا لله وإنا إليه راجعون"

 

مضى لسبيله علامة الجـزيرة(<!--)

(الشيح حمد الجاسر رحمه الله)

 

كيــف البـــقاء وبـــاب الـمــوت منـفـتح
<!--

 

وليس يغلق حتى ينفذ البشر
<!--

    في فجر يوم الخميس 16/6/1421هـ ودع شيخنا الفاضل حمد بن محمد الجاسر – رحمه الله- الدنيا الفانية إلى دار البقاء بعد أن استوفى نصيبه من الدنيا عبر السنين الماضيات المسطرة في اللوح المحفوظ قال تعالى : { إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون } [سورة يونس: الآية 49] .

        لقد رغب رحمه الله- أو رغب من سافر به إلى الولايات المتحدة الأمريكية للاستشفاء والعلاج هناك أملاً أن يمد الله في حبل أجله وإعطائه فسحة من العمر، ولكن رصيده من سنيّ عمره قد انتهى تماماً وشاء الله تعالى أن يموت بعيداً عن أهله وأحبته، وصدق الله العظيم حيث يقول في محكم كتابه العزيز في آخر سورة لقمان : {وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير} مات علامة الجزيرة بعد أن أثرى المكتبات العربية بأعداد كبيرة من مؤلفاته القيمة وملأ الصحائف والمجلات من البحوث والإيضاحات، وأفرغ ما في خاطره من ذكريات جميلة وبعض المواقف الطريفة والغريبة معاً في تلك الصحائف وبعد أن نال تكريم الدولة له والجوائز العلمية والدولية والمحلية وبرز في المحافل الدولية بروز البدر الصافي، ولقد حفظ وقته ووقف حياته منذ فجرها في الكفاح واقتناص العلم ورصده من موارد عدة.. ومصادر متنوعة، فهو محيط عام في كل فـن :

لــيــس عــلـى الله بـمـسـتـنــكـر
<!--

 

إن يجمع العالم في واحد
<!--

   ولبراعته في مجال التاريخ ولطول باعه فيه وفي غيره يحسن بنا الاستشهاد بهذه الأبيات الثلاثة من قول العلامة عبدالرحمن بن إسماعيل الخولاني النحوي، في رثاء شيخه.

مــا زلت تـلـهــج بـالتــاريــخ تكــتــبــه
<!--

 

حتى رأيناك في التاريخ مكتوبا!
<!--

حُـجـبــت عــنا وما الدنــيــا بـمــظهــره
<!--

 

شخصاً وإن جل إلا عاد محجوبا
<!--

كذلك المــوت لا يــبـــقي عــلـى أحـــــد
<!--

 

مدى الليالي من الأحباب محبوبا
<!--

   فشيخنا علمٌ عالٍ من أعلام الجزيرة العربية بل العالم العربي والإسلامي، وقد منحه الله مواهب جمة منذ نعومة أظافره قلّ أن تتحقق لغيره من مواهب فطرية وملكات قوية، وبعد نظر، فهو مربٍ فاضل يتمتع بمكانة عالية وبشخصية مهيبة قوية، ولي الشرف أن كنت أحد تلاميذه أيام كان مديراً لكليتي الشريعة واللغة العربية، وكانت لي معه مواقف تربوية أبوية لا يتسع المجال لذكرها في هذه العجالة، فما أجمل تلك الكلمات التي أختتم بها رسالته الموجهة لي منذ حوالي شهرين – تغمده الله بواسع رحمته- تعقيباً على كلمة سبق أن ذُكرت بهذه الصحيفة يوم الأربعاء الموافق 3/4/1421هـ (هوامش كلمة الوفاء) متضمنة الثناء عليه.. ونص ختام كلمته ما يلي: (مُحبكم لا يعجبه الثناء وقد بلغ حالة تستدعي سؤال الله له بحسن الخاتمة، هذا هو الذي يتطلع إليه من أحبابه وإخوانه والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أخوكم حمد الجاسر) وهذه تنم عن تقدير ومودة، إضافة إلى زهده في الثناء، وتوجيه نظر إخواني إلى الدعاء في أغلب المواقف خير من الثناء، ولئن رحل شيخنا – يرحمه الله- بجسده فإن آثاره ومآثره باقية لا تبلى على مر الملوين، وإني لأرجو وآمل من كل من يطلع على سفر من أسفاره التي خلدها شاهدة بأفضاله وبعلمه الضافي ألا ينساه من خالص الدعاء:

يــا مـن إذا نــظــرت عــينــاه كــتبـته
<!--

 

كـــن بالــدعاء له والخــير مُــدكــرا
<!--

ثــم تـفـرقــوا(<!--)

(سليمان بن جماز وزوجته رحمهما الله)

<!--[if !supportFootnotes]-->

<!--[endif]-->

(<!-- ) نشرت في صحيفة الرياض يوم السبت 1 محرم 1420هـ ، الموافق 17 ابريل 1999م.

( <!-- ) نشرت في صحيفة الرياض يوم الاثنين 2 صفر 1420هـ الموافق 17 مايو 1999م .

(<!--) كتبت يوم الأحد 27 ذوالحجة 1420هـ، الموافق 2 إبريل 2000م.

(<!--) نشرت في صحيفة الجزيرة يوم الخميس 23 جماد الأخرة1421هـ.، الموافق 21 سبتمبر 2000م.

( <!--) نشرت في صحيفة الرياض، يوم السبت 17 رجب1421هـ الموافق 14 أكتوبر2000م. 

mager22

فقد ورثاء ( عبد العزيز بن عبد الرحمن الخريف )

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 232 مشاهدة
نشرت فى 30 سبتمبر 2013 بواسطة mager22

     في هجعة وسكون من ليلة الأربعاء السابع من شهر شوال لعام ثمانية عشر وأربعمائة وألف من الهجرة النبوية لوح وأومأ شعوب بأن أيام وساعات عمر ابنة العم طرفة بنت محمد الخريف قد انتهت من عالم الأحياء، وبالرحيل إلى الآخرة بجوار باريها وخالقها ومع إيماننا الجازم الذي لا ريب فيه أن الموت حق وهو نهاية كل حي إلا أنه ما أقسى لحظات الوداع وأمرها وخاصة الوداع الأبدي..

        وها قد رحلت حميدة السجايا ندية الأكف وبطون الراحي، وغابت من كانت تلتمس حوائج المساكين واليتامى وفعل الخيرات وبناء المساجد وشتى أوجه البر بصمت واحتساب ورجاء المثوبة من المولى تعالى.

        نشأت رحمها الله يتيمة الأبوين منذ فجر حياتها حيث توفي والدها ووالدتها وعمرها لا يتجاوز السنتين، فتربت في بيت جدتها لأمها، ثم درست القرآن الكريم عند موضي بنت حمد بن محمد، وبعدما ختمت القرآن، وقرأت مبادئ العلوم الدينية على زوجها الشيخ إبراهيم الحرقان، بدأت في تدريس القرآن للفتيات عام 1362هـ، حيث جلست لتدريسه في جانب من بيت زوجها بحريملاء وكان عدد الطالبات آنذاك في حلقتها لا ينقص عن أربعين طالبة، واستمرت في التدريس حتى عام 1375هـ حيث انتقلت إلى الرياض وفتحت مدرسة في بيتها ودرست لمدة ثلاث سنوات إلى عام 1380هـ حيث فتحت المدارس الحكومية للبنات، وفي أثناء عملها رغبة في الحصول على مؤهل علمي، فاجتازت الاختبار وحصلت على الشهادة الابتدائية عام 1381هـ وهكذا تكون هذه المدرسة قد ساهمت في التعليم القديم والحديث، فقد درست سبعة عشر عاماً في مدرستها الخاصة، ودرست في المدارس الحكومية سبعة وعشرين عاماً وقد وصفها مشكوراً الدكتور عبدالعزيز بن عبد الرحمن الثنيان وكيل وزارة المعارف في تقديمه لكتاب ( عن التعليم في حريملاء قديماً وحديثاً) تأليف الأستاذ إبراهيم بن عبد العزيز السليم بأنها عصامية تستحق المثوبة والأجر من المولى، وقد تخرج على يدها عشرات الأفواج والمجيدات لتلاوته كل ذلك كان تطوعاً منها بدون مقابل.

        وكنت أنا وإخوتي منذ صغرنا قريبين من قلبها حباً وعطفاً فهي دائماً تخصنا بما يفرحنا ويسرنا من هدايا ومزايا خاصة، كما تتحفنا بأشياء محببة لدينا قد لا نحظى بها في بيتنا ولا غيره من البيوت الأخرى، وقد حباها المولى عفة النفس والزهد عما في أيدي الناس، ولم يشغلها فعل الخير ورعاية المحتاجين عن تربية أولادها، فلقد اعتنت بتوجيههم وتربيتهم التربية الصالحة، وتعويدهم على احترام الغير وفعل الخير ولقد أنجبت أربعة من الأولاد ابنين هما: عبد العزيز وحمد، وبنتين هما: نورة وجواهر وحظيت بالتقدير والاحترام لدى زميلاتها، والحب والإجلال من تلميذاتها لما تتحلى به من كريم السجايا والأخلاق الفاضلة حتى أنهت الخدمة التعليـمـيـة تاركة آثاراً طيبة وذكـرى حـسـنة.

        هكذا كانت حياتها – رحمها الله – مليئة بالخير وحب المساكين والإحسان للفقراء والمسابقة في فعل الخيرات، لقد نالت بمشيئة الله الخيرية التي بشّر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: (( خيركم من تعلم القـرآن وعلمه )) .

        ولما كانت لها هذه المنزلة الكريمة، فقد صار حقها علينا أن نشيد بمآثرها رحمها الله.. إذ تركت من نفسها القدوة لبني جنسها من بنات هذه البلاد المباركة في صلاحها وحبها للخير وتمسكها بكتاب ربها، فرحمك الله يا أم عبدالعزيز رحمة واسعة وأسبغ عليك شآبيب رحمته وغفرانه وألهم ذويك ومحبيك الصبر والسـلوان..

{ إنا لله وإنا إليه راجعـون }


وغاب حبيب القلب(<!--)

(الشيخ/عبدالرحمن بن عبدالله بن ناصر العمراني رحمه الله)

 

 

كأن لم نعش يوماً "بأكناف حرملا
<!--

 

بأرض بها أنشا شبيبتنا الدهرُ
<!--

بلى إن هذا الدهر فرق بيننا
<!--

 

وأي جميع لايفرقه الدهر
<!--

ما أكثر أحزان الدنيا وأمضّها على القلوب، فمعظمها يطول مكثه بين الجوانح وحنايا الصدور، وكل ما توالت الأسباب زاد تراكمها على النفس مما يصعب تحملها ونسيانها أو تناسيها، بل وحتى محاولة تخفيف ثقلها!، فمن عاش في هذه الحياة لا بد أن يتعاقب عليه حلوها ومرها، بل وصفوها وكدرها، وهكذا  طبع الليالي والأيام، فالسعيد من تصفو له الحياة، ولكن كيف يدوم صفاؤها وحلوها وهادم اللذات موكل برحيل كل كائن حي في هذا الوجود، وأصعب ذلك وأكثره إيلاما فقد ورحيل من غيابه يحزن ويحز في النفوس ألما ولوعة، ففي يوم 24/2/1419هـ انتقل إلى رحمة الله الأخ الفاضل الذي اتصف بالكرم وبالصدق في جميع أعماله وتعامله مع الغير، إنه ابن الخالة/عبدالرحمن بن عبدالله بن ناصر العمراني، الذي رحل عنا إلى دار البقاء بعد معاناة طويلة مع كثير من الأمراض المزمنة الزمته البقاء بالمنزل مدة طويلة، والذهاب إلى المستشفى بين حين وآخر إلى أن أتاه يومه الموعود ليخلو مكانه الذي كان يحفل بالزوار والأضياف، وسكن بعد ذلك باطن الأرض وحيدا بعيدا عن محبيه إلى أن يأذن الله بنهوض جميع الخلائق من أجداثهم، وقد أحدث رحيله فجوة واسعة في محيطه الأسري، وبين محبيه لكونه محباً للبذل بسخاء للمحتاجين، وبصلة الأرحام والأقارب وبإكرام الضيوف كرما حاتميا وقد عرف عنه ذلك ...، بل والوفاء مع جميع من يتعامل معه، ولقد قضى معظم حياته موظفا بصحبة القضاة والعلماء، حيث عمل في المحكمة الكبرى بالرياض مدة طويلة، ثم انتقل إلى المجلس الأعلى للقضاء حتى أنهى الخدمة النظامية، وكان نشطا في إنجاز الأعمال المنوطة به لا يؤخر عمله إلى غد، لذا كانت له مكانة عالية وسمعة معطرة بالثناء والذكر الحسن لدى مرؤوسيه وعارفيه، ومن أبرز صفاته إخلاص العبادة لله والصدق والكرم وحب إدخال السرور على المساكين، وإفراح الأطفال بما يقدمه من يده الندية من عطايا تفرحهم، كما لا ننسى بره وصلته المتواصلة بوالدتنا ـ خالته ـ رحمهما الله رحمة واسعة. أذكر جيدا أنه كلما يزورنا للسلام عليها يقبل رأسها ويقدم لها هدايا من الطيب ـ العود ـ الفاخر زكي الرائحة حينما يوضع بالمدخنة، وأحيانا بعض النقود فإذا اعتذرت لعدم حاجتها قال: تصدقي بها وأجرها لكِ، حقا إن هذا هو صادق البر والوفاء، بل إنها إذا مرضت يعطي الأخوات نقودا بسخاء ليتصدقن عنها لشدة حبه لوالدتنا أخذاً بـحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم (داووا مرضاكم بالصدقة) كما لا ننسى تفضله بأخذنا للعمرة بصحبة والدته خالتنا ووالدتي وبعض الأخوات مع قيامه بمصروفاتنا بمكة المكرمة حتى الإياب إلى الرياض ـ أكثر الله من أمثال هذا الابن البار وضاعف أجره يوم الحساب ـ كما أنه يعد من الرجال المخلصين والمتفانين في حب حريملاء مهوى رأسه ورؤوس آبائه، فقد كان عضوا بارزا في اللجنة الأهلية التي قد تأسست منذ أكثر من أربعين عاما لتطوير مدينة حريملاء حيث تحقق الكثير من مطالبهم على أيديهم بإلحاحهم على المسؤلين .. بل البعض منهم قد قابل جلالة الملك فيصل ـ تغمده الله بواسع رحمته ـ فالأخ عبدالرحمن في طليعتهم أثناء المطالبة بتوصيل الطريق إلى صوب حريملاء، وحينما بالغوا في المطالبة ملحين بالإسراع في تنفيذه أجابهم بكل تواضع ـ رحمه الله ـ وهو مكترب ..، وممسك بطرف ـ مشلحه ـ قائلا يا أبنائي لو أن أحد طالبني بهذا البشت شرعا لذهبت معه، فهذا راجع للمهندسين ومساحي الطرق وهذا بلا شك يدل على تواضع ولاة أمورنا، وحرصهم على تحقيق مطالب المواطنين وتطوير بلدانهم .. وجعلها في مصاف المدن الحضارية .. ، وماهي إلا سنوات قلائل حتى وصل الطريق إلى حريملاء قبل كثير من البلدان ..، وكان الشاعر قد أملا هذا البيت على أعضاء اللجنة الأهلية حيث يقول:

أخلق بذى الصبر أن يحضى بحاجته 
<!--

 

ومدمن القرع للأبواب أن يلجا
<!--

فقد حضيت مدينة حريملاء مبكرا بتحقيق وجود جميع الدوائر والمصالح الحكومية فأصبحت مضرب المثل في نشاط أهلها .. رغم صغر حجمها ـ آنذاك ـ فمن أبرز مشاريعها افتتاح أول مدرسة إبتدائية عام 1369هـ ، ومعهد للمعلمين للمرحلة الابتدائية عام 1379هـ لسد حاجة إقليم الشعيب من المدرسين وما حوله من البلدان في تلك الحقبة الزمنية، كما تحقق وجود مستشفى عام منذ عقود..، فمحافظة حريملاء كاملة التشكيل في ظل حكومتنا السنية، وبتكاتف اللجنة الأهلية المستمر في المطالبة بتطوير المحافظة، ولي مع الشيخ عبدالرحمن ذكريات جميلة منذ الصغر لا يتطرق لها النسيان أبد العمر فقد كنت أنا والصديق محمد بن عبدالعزيز المشعل نحضر مع أمهاتنا في أواخر كل أسبوع تقريبا لزيارة خالاتنا في نخلهم المسمى ـ  بالجزيع ـ فنجدها فرصة للتجول في نواحي نخيلهم فرحين مرحين نلعب مع أطفالهم بنين وبُنيات، ونتسلق بعض فسائل النخيل ونأكل من رطبها في مواسمه، مع ما نزاوله من مطاردة صغار الأغنام والأبقار والدواجن، فنجد في ذلك متعة ورياضة نفسية وجسمانية:

(زمن) صحبة به الشبيبة والصبا

 

ولبست ثوب اللهو وهو جديد
<!--

وكان عبدالرحمن يكبرنا بأعوام قلائل لكنه لا يشاركنا في المرح واللعب، فعقله عقل كبير يتصف بالرزانة والرجولة مبكراً، وإنما يكتفي بمشاهدتنا في مزاولة تلك الرياضة والابتسامة تعلو محياه ـ رحمه الله ورحم أخوالنا وخالاتنا ـ وكان يحبنا حباً صادقا:

ما ودني أحد إلا بذلت له
<!--

 

صفو المودة مني آخر الأبدِ
<!--

وكنا نزاول صيد بعض الطيور (بالنباطة) وعبدالرحمن بالبندقية (المقمع) التي تستخدم بالبارود مع وضع أحجار صغيرة لاصطياد الطيور مثل: الصفارى والبط والغرانيق والحمام، وغير ذلك من الطيور المهاجرة فقد انتهزت فرصة غفلته وخلو بندقيته من الذخيرة، فما كان مني إلا أن زدت في الكيلة زيادة أكثر من المعتادة أوقعتني في حرج مع عبدالرحمن ـ رحمه الله ـ حينما ضغط على زناد البندق لاصطياد طير الصفارى فوق نخلة ثارة ورجفته في صدره رجفة قوية آلمته محدثة صوتاً مدوياً...، فما كان منه إلا أن قال: الله يهديك كررها مرتين، فأصبت بالخجل الشديد والندم على سوء عملي لعدم معرفتي لمقياس (الكيلة) ولازال ذاك الموقف باقياً في ذاكرتي ـ تغمده الله بواسع رحمته ـ فذكريات الصغر ذكريات جميلة لاصقة في جوانب النفس مدى الأيام...، وعندما كبرنا كان من سعادتي أن يكون منزلي مجاوراً لمنزل والديه الذي تُنوره خالتنا (منيرة) والدته، الواقع في حي الثميرية غربي شارع العطايف بالرياض، مدة دراستي بكلية اللغة العربية أي من 1375هـ 1378هـ مضت كحلوم أو بروق خواطف، وكان الضيف والزائر يطيب له طرق باب منزلهم لعلمه بفرح من يقصدهم رحم الله الجميع، ولأن غاب عنا شخص (أبو عبد العزيز) فإن أعماله الجليلة وسيرته الحسنه ستبقى في مضمر النفس ذكرى خالدة مدى الأزمان، رحمه الله وأسكنه فسيح جناته وألهم ذويه وأسرته وبنتيه وعقيلته ومحبيه الصبر والسلوان.(إنا لله وإنا إليه راجعون)

كلمة محبة ووفاء(<!--)

(الشيخ/عبد العزيز بن عبد الله بن سحمان و د/ عبد الله ابن
عبد الرحمن الرشيد ـ رحمهم الله)

 

الإنسان كثيراً ما يجد سلوة وتعويضاً عما قد يفتقده من راحة بال بين أهله ومجتمعه حينما يغادر بلده ـ مسقط رأسه ـ مغترباً لكسب معيشة أو لطلب علم مثلاً فيوفقه المولى بصحبة أخيار يأنس بهم ويأنسوا به، ولا سيما زملاء الدراسة وطلاب العلم؛ فصحبتهم أمتع وأطول أمداً، وأعمق صداقة، لأن دُور العلم تحتضنهم جميعاً، وخاصة السكن بالأقسام الداخلية المخصصة للمغتربين الذين بعدوا عن أهليهم، فتسود بينهم المحبة والألفة (وكل غريب للغريب نسيبُ) فيقضوا أيام الدراسة في فرح ومرح، وتمر بهم ساعات العمر مسرعة، ولكنها الأيام لا تخلو من الأكدار مهما صفت.

طبعت على كدر وأنت تُريدها
<!--

 

صفواً من الأقذاء والأكدار
<!--

فهي صهوات ومراكب إلى الآخرة وخُروج نهائي بدون عودة إلى الدنيا، فمن مُتزودٍ بزاد التقوى يقتات به حتى يصل الجسر المعهود للمحطة الكبرى للخلائق، فيعبره برحمة الله إلى دار الخلود، فيقال لهم (سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين)

ولا خير في الدنيا لمن لم يكن له
<!--

 

من الله في المقام نصيب
<!--

وفي ليلة الجمعة الموافق 3/11/1419هـ فقدت أسرة آل سحمان رجلاً عزيزاًً عليها وعلى جميع زملائه ومحبيه، فحزنت عليه حزناً شديداً، إنه الشيخ الفاضل عبد العزيز بن عبد الله بن سحمان ـ رحمه الله ـ هو أحد الزملاء الكرام؛ زملاء الدراسة بدار التوحيد بالطائف عام 1371 و1372هـ، وقد كان عوناً لي في استذكار بعض المواد الدراسية بميادين (قروى) غرب مدينة الطائف تحت هاتيك الصخيرات من جبال "أم الآدم" وأحياناً نتفيأ ظل أشجار السدر بالمثناة الواقعة بسفوح جبل وادي (وج) على مقربة من المسجد الأثري المسمى مسجد المدهون، ذو المنارة العالية المحكمة البناء التي ما زالت صامدة أمام عوامل التعرية رغم تقادمها ولم يؤثر فيها هوج الرياح ولا هطول الغوادي.

لم يأخذ الليل منها والنهار
<!--

 

سوى ما يأخذ النمل من أركان ثهلان!
ج

فما أجمل أيام الدراسة بدار التوحيد وأحلى لياليها والدار جامعة لنا؛ فدار التوحيد منار علم وثقافة، ومن أقدم المدارس الثانوية التي أسسها جلالة الملك عبد العزيز ـ طيب الله ثراه ـ عام 1364هـ واعتنى بها، وجلب لها خيرة المعلمين من فطاحل علماء الأزهر، ومن بلاد الشام ومن علمائنا. واختار الطائف مقراً لها لاعتدال جوه، ولإبعاد الطلاب عن مشاغل أهلهم بنجد، فآتت ثمارها بتخريج أفواج عديدة من العلماء والأدباء والشعراء وأعداداً من صفوة الرعيل الأول الذين اعتلوا المناصب العالية بأجهزة الدولة ـ أعزها الله ـ ومن الذكريات الجميلة حرص واهتمام مدير الدار ـ آنذاك ـ شيخنا الفاضل عبدالملك طرابلسي ـ رحمه الله ـ عليَ وعلى الزميل عبد العزيز حينما علم برداءة خطنا، وعدم إلمامنا بأبسط قواعد الإملاء ، لأننا لم ندرس بالمدارس الابتدائية بل درسنا لدى المشايخ بالرياض بمحلة دخنة حفظاً وتلقيناً شفوياً!، وكان يأخذنا في حصة الإملاء ويصعد بنا في سطح المدرسة فيملي علينا بعض القطع القصيرة لكي نستطيع مسايرة زملائنا، وهذه اللفتة الأبوية من شيخنا لازلتُ محتفظاً بها محبة له في طوايا نفسي ـ رحمه الله رحمة واسعة.

وكان منزل الزميل عبد العزيز في محلة الشرقية مأوى لنا وللزميل الراحل سعود بن محمد المسعري ـ رحمهما الله ـ وخاصة ليالي الجُمع نقضيها في ضيافته، ونتجاذب فيها أحاديث السمر وأطراف الحديث معاً، ويقدم لنا القهوة والطعام الذي ألفناه في نجد، لأن الإعاشة المخصصة لنا بالقسم الداخلي تخلو من ذلك...

ولقد خفف عنا وطأة ووحشة الغربة وفراق الأهل والبعد عنهم، واستمر هذا التواصل بيننا بعد انتقالنا إلى معهد الرياض العلمي عام 1373هـ، بل وحتى قبيل وفاته..

لقد شب الراحل الكريم في بيت علم وطاعة لله منذُ فجر حياته مواصلاً التقرب إلى ربه، والتحلي بفضائل الأخلاق وسماحة النفس وكرمها، وقضى شطراً من حياته في حقل التربية والتعليم مدرساً في معهد العاصمة وأخيراً في مدارس تحفيظ القرآن الكريم حتى أنهى الخدمة العلمية عام 1410هـ مواصلاً تلاوة كتاب الله العزيز، ويقال أنه يختمه كل ثلاثة أيام أو أربعة  حتى قُبيل وفاته ـ رحمه الله ـ وقد خلف ذرية صالحة وذكراً حسناً.

وإنما المرء حديث بعده
<!--

 

فكن حديثاً حسناً لمن وعى
<!--

رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه عالي جناته.

كما أن شعوباً قد أرقد زميلنا الحبيب زميل الدراسة بالمعهد العلمي بالرياض د/ عبد الله بن عبد الرحمن الرشيد بمقابر حي النسيم شرقي الرياض، في يوم الأربعاء الموافق 1/11/1419هـ، وكان لنا معه ذكريات جميلة لا تبرح خاطري، ولقد سكنا متجاورين في محلة حوطة خالد عام 1374هـ، المتاخمة لشارع الوزير من الناحية الغربية، آخر المرحلة الثانوية، نقضي جزءً من الليل في استذكار الدروس مطعمين تلك السويعات بتبادل الطرائف والمداعبات الخفيفة لدفع السآمة والملل، ثم نعود إلى المذاكرة وحفظ ما يلزم من النصوص، ويشترك معنا في المذاكرة بعض الزملاء، أمثال الأستاذ عبد الله المحمد الرشيد، والأستاذ عبد الله المحمد العقل وغيرهما من الزملاء،وهكذا نقضي مراحل الدراسة في التآلف، وحفظ للوقت، وتبادل الهدايا التذكارية التي تصل من أهالينا وظل التواصل مع الزملاء بعد التخرج على فترات متباعد.

فإن كانت الأجساد منا تباعدت
<!--

 

فإن المدى بين القلوب قريب
<!--

ويعتبر الدكتور عبد الله ـ رحمه الله ـ  من رجال التربية والتعليم الأوائل المخلصين، والمعروف بالسماحة، والحنكة، وسهولة أداء العمل لديه كنائب للرئاسة العامة لتعليم البنات ـ سابقاً ـ ولقد أحسن الشاعر محمد السنبسي حيث يقول وكأنه يعنيه:

إذا جئته لم تلق من دون بابه
<!--

 

حِجاباً ولم تدخل عليه بشافع!
<!--

وفراق الأحبة محزن ومؤلم للنفوس:

وكل مصيبات الزمان وجدتها
<!--

 

سوى فرقة الأحباب هنية الخطب
<!--

وتقارب وفاتهما يذكرنا بهذا البيت:

تعز فلا إلفين بالعيش متعا
<!--

 

ولكن لو راد المنون تتبعا
<!--

اسكنها الله فسيح جناته وأنزل عليهما شآبيب رحمته إنه سميع مجيب، والهم ذويهما الصبر والسلوان.

(إنا لله وإنا إليه راجعون)

<!--[if !supportFootnotes]-->

<!--[endif]-->

(<!--) كتبت يوم الأثنين 27 صفر 1419هـ، الموافق 22 يونيه 1998م.

(<!--) نشرت في صحيفة الرياض، يوم الخميس 9 ذو القعدة 1419هـ، الموافق 25 فبراير 1999م.

mager22

فقد ورثاء ( عبد العزيز بن عبد الرحمن الخريف )

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 191 مشاهدة
نشرت فى 30 سبتمبر 2013 بواسطة mager22

رحماك يا رب بوالدتي(<!--)

 

وكل مصيبات الزمان وجدتها

 

سوى فرقة الأحباب هينة الخطب
<!--

فراق الآباء والأمهات مؤلم يدك هضاب القلوب ويصدع أركانها..! وليس أصعب ولا أوجع على النفس من فقدهما أو أحدهما بل جميع ذرية الإنسان وإخوته ومحبيه، فرحيل مثل أولئك تبقى آثاره هاجس النفس دوماً، ففقد الأم لا كفقد غيرها من ذوي القربى ومن الأحبة لأنها أقرب شيء لدى الإنسان في هذا الوجود لشدة تعلقه بها منذ أن أطل على الدنيا وأهل صارخاً  لالتصاقه بأحشائها وبقلبها من أول وهلة، ولاستقرار حبه لها في وجدانه إلى أن يغيب عن هذا الكون، كما أن حبها له ولسائر أبنائها أضعاف ذلك عطفاً وحناناً، وهذه فطرة المولى في خلقه.. كما أنها تنظر إليه نظرة صغير وإكباراً لقربه من قلبها حتى وإن كبر، فنداؤها له: يا وليدي نداء بالتصغير ولو بلغ سن الكهولة والهرم..، على حين أن الوالد ينادي إبنه بدون ياء الوسط..! ياولدي" فالوالدة تغذيه في صغره من حنانها، ومن در ثديها أما الأب فمن عرق جبينه وكسب يمينه.. حتى يكبر ويشتد ساعده مع توجيه التوجيه الصحيح وحثه على الاستقامة وحسن التعامل مع الغير..، فسبحان من أودع المحبة والألفة في نفوس الكثير من مخلوقاته البشرية بل ومن سائر الكائنات الحية.

   ففي منتصف ليلة الأحد 18/2/1416هـ انطفأت شمعة مضيئة في أغوار نفوسنا كانت تنير أرجاء بيتنا بل بيتها هي.. أنها والدتي الحنون لطيفة بنت عبد الرحمن العمراني، حيث فرت روحها إلى بارئها بعد رحلة طويلة معطرة بالثناء وبالسمعة الحميدة والذكر الحسن، وبالأخص في طاعة المولى، وحب بذل الخير في أوجه البر والإحسان إلى الأرامل والأيتام، وحسن التعامل مع جميع أسرتها ومحيطاه الإنساني..، وقد توفى والدها ـ جدي ـ وهي في مرحلة الطفولة في عامها الخامس، فعاشت في كنف والدتها جدتنا نورة بنت عبد الله المطرود، فربتها تربية حسنة حتى كبرت فتزوجها والدنا الشيخ عبدالرحمن بن محمد الخريف رحمهم الله جميعاً.

        وقد أنجبت ثلاثة من الذكور وابنتين، وعاشت مع الوالد حياة سعيدة تحفها أجنحة المودة والوئام حتى توفاه المولى ليلة الجمعة 8/محرم/1383هـ فحزنت عليه حزناً طويلاً، وقد استفادت من علمه وسيرته التي تتصف بالتعفف والزهد بما في أيدي الناس، والأعراض عن مساوئهم والحرص على إصلاح ذات البين..، وكانت امرأة صالحة عطوفة على الفقراء والمساكين والجيران، ودائماً تحثنا على صلة الرحم والاستقامة، وعزة النفس، وعلى تلاوة القرآن الكريم، وإيداعه في الصدور، وحفظ ما تيسر من الأحاديث النبوية، والتروي من العلوم النافعة، وعلى صلة الأقارب وحسن التعايش مع إخواننا ومع أقراننا وسائر الناس..

        ولقد بكيناها وبكاها الكبير والصغير ـ تغمدها الله بواسع رحمته ـ كما أنها تحرص على إفراح الأطفال والصغار وإيناسهم، وإدخال السرور والطمأنينة في نفوسهم مما جعلهم يتقربون منها، ويتقبلون نصحها وتوجيهاتها السديدة لهم، ولغيرهم من أفراد الأسرة بأن يكونوا مثاليين في تصرفاتهم ومعاملاتهم مع الغير:

الأم مدرسة إذا أعددتها

 

أعددت شعباً طيب الأعراق
<!--

فظهر ذلك السلوك الحميد جلياً على أبنائها وبناتها بل وجميع أسرتها..، ذكوراً وإناثاً متحلين بالأخلاق العالية، ومستعذبين البذل في أوجه البر والإحسان وحب مساعدة الآخرين مساعدة حسية ومعنوية حسب مقتضى الحال، وكانت بارة بوالديها اللذين سبقاها إلى مراقد الراحلين منذ عقود طويلة الأمد.. فهي تستغفر الله لهما وتترحم عليهما دائماً، وتتصدق عنهما، وتحج نيابة عنهما..، كما أن لها مكانة محبة لدى جيرانها وجميع من يعرفها، فهي سهلة الجانب دمثة الخلق محبة للبذل وإسعاد الآخرين حسب إمكانياتها المادية المحدودة.

        وقد سعدت ببناء مسجد من خالص مالها على الشارع العام بمدينة حريملاء راجية من المولى أكرم الأكرمين بأن يسكنها الفردوس الأعلى، فأفعالها وأعمالها الخيرة جمة نرجو أنها تشفع لها عند وضع الموازين القسط يوم الحساب يوم يجازي كل بما قدم، كما أنها دائماً تحثنا على أداء الصلوات في أوقاتها، وعلى الإحسان وصلة الرحم، وأن لا ننساها من صالح الدعاء بعدما تغيب وتخفيها الحفر بعيدة عناـ وقد أخفتها ـ:

لعمرك ما واري التراب فعالها  
<!--

 

ولكنه وارى ثياباً واعظما
<!--

وكأنها تردد هذا الشطر من البيت: "كن بالدعاء لنا والخير مدكرا ". ومن بوادر الخير لها ـ بحمد الله ـ كثرة المصلين عليها بالجامع الكبير بالحي الجديد بمدينة حريملاء رجالاً ونساء معظمهم قد حضر من الرياض ومن البلدان المجاورة لحريملاء، فقد امتلأ المسجد الجامع وضاقت ساحاته بجموع غفيرة ضجت بالدعاء لها بالمغفرة وطيب الإقامة في جدثها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وذلك بعد صلاة الظهر من يوم الأحد 18/2/1416هـ ثم تبعها خلق كثير إلى ملتقى الراحلين مودعين لها ورافعين أكف الضراعة بأن يسكنها أعلى الجنان، كما أن البيت قد غص بأفواج من المعزين والمعزيات طيلة الأيام الثلاثة وهواتف البيت لم يتوقف رنينها ـ جزاهم الله خيراً وأجزل لهم المثوبة ـ ومما زاد حزني سؤال مجموعة الأطفال الصغار صباح يوم وفاتها أين ماما لطيفة؟!.. الذين اعتادوا الالتفاف حولها كل صباح ومساء لتقص عليهم بعض القصص المشوقة المفيدة.. ليستفيدوا منها في قابل حياتهم..، ولأجل منحهم شيء من الحلوى أو النقود..، فكرروا السؤال أين ماما فلم أملك سوى تذارف الدموع، وقد أجرضتني غصة منعتني من التماس جواب مؤقت لإقناعهم ـ غفر الله لك يا أماه ـ ولقد منحتينا قبله كل الود والحنان، ولا زلت أتذكر التفافا حول موقد النار بمنزلنا في حريملا بعد صلاة الفجر مباشرة وخاصة في أوقات الشتاء وإعدادها طعام الفطور لنا نحن الصغار، وانتظارنا نضج تلك الوجبة بفارغ الصبر.. التي يتخللها دروس تلقينية شفوية تدار بيننا مثل: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ وتسابقنا إلى حفظ سورة الفاتحة والمعوذتين مثلا التحيات والصلاة على النبي محمد، وأحيانا يقوم أحدنا بتمثيل كيفية الصلاة عملياً، وهكذا الآباء الأوائل في استثمار الوقت لصالح أبنائهم وتوجيه فلذات أكبادهم ببداية سهلة وميسرة تجعلهم يفهمون ويحفظون تلقائياً بطريقة مشوقة غير ملزمة، ولقد أحسن الشاعر حيث يقول:

والنفس إن دعيت بالعنف آبية

 

وهي ما أمرت بالرفق تأتمر
<!--

فالرعيل الأول يقدر الوقت ويستثمره سواء على مستوى التحصيل العلمي أو المعيشي لعلمهم أن الفرص تمر سراعاً إذا لم تنتهب انتهاباً:

فربما فات قوماً بعض أمرهم

 

من التأني وكان الحزم لو عجلوا
<!--

وهذه عين التربية منذ الصغر..، وعودا على صورة التفافنا بنين وبنات حول موقد التدفئة وإعداد الطعام كل صباح شتوي ونظرات والدتنا وهي توزعنا بيننا نحن أبنائنا الأطفال وفي داخلها ما به من العطف والشفقة والخوف ـ أحياناً ـ من مستقبل مجهول لا تدري ما الله صانع فيه ببنيها وبنياتها ـ بعد رحيلها والأعمار بيد الله سبحانه ـ وليعلمها أننا سنكبر وتفرقنا الليالي والأيام، وكل فرد منا يسير تحت نجم كما يقول مع تفاؤلها وآمالها بأن ترى فينا ما يسرها في قابل الأزمان، ولكن حنوها وشفقتها على البنيات أكثر لحاجتهن الشديدة لعطفها، ووقوفها بجانبهن، وإفضاء إسرارهن لها، وحل ما قد يعترضهن من مشكلات..، وخاصة في بداية الحياة الزوجية، وبواكر الإنجاب، واكتساب المهارات والخبرة في تربية الأطفال وكيفية إرضاعهم، وتغذيتهم، وحنانها بقربهم، كما أن أي والد لا يقل أهمية في العناية بأبنائه، وتربيتهم التربية الصالحة، وتوجيههم التوجه السليم الأمثل، فهو من جانبه يكد ويكدح، ويركب الأهوال، يستحلي الصعاب في سبيل تأمين ما يسعد بنيه من مأكل وملبس، وتعليم وغير ذلك من متطلبات الحياة، وكأن عملية تربية الأبناء موزعة بينهما وإن كانا مجتمعين:

وينشأ ناشئ الفتيان فينا

 

على ما كان عوده "أبوه"
<!--

فجزا الله والدينا خير جزاء ، وأسكنك يا والدتي في الفردوس الأعلى، ولأن غبت عن ناظري فإن مسكنك بين جوانحي وفي سويداء قلبي مدى عمري.

" إنا لله وإنا إليه راجعون "

ابنك الحزين على فراقك

عبد العزيز بن عبد الرحمن الخريف

معـلمة الأجيــال(<!--)

(طرفة بنت محمد الخريف رحمها الله)

<!--[if !supportFootnotes]-->

<!--[endif]-->

(<!--)  كتبت بتاريخ 20 صفر1416هـ، الموافق 18 يوليه 1995م.

( <!-- ) نشرت في صحيفة الرياض يوم السبت 17 شـوال 1418هـ ، الموافق 14 فبراير 1998م

mager22

فقد ورثاء ( عبد العزيز بن عبد الرحمن الخريف )

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 209 مشاهدة
نشرت فى 30 سبتمبر 2013 بواسطة mager22

رحمــك الله أبا إبراهــيـــــم (<!--)

(الشيخ عبدالله بن إبراهيم الدحيم رحمه الله)

 

والمرء كالظل ولابد أن  
<!--

 

يزول ذاك الظل بعد امتداده
<!--

انتقل إلى الدار الباقية الشيخ / عبد الله بن ابراهيم الدحيم بعد عمر مديد حافل بالذكر الحسن وطيب المعشر، وبالكفاح والاغتراب في أفاق هذا الوطن لاكتساب العيش وعزة النفس، فهو رجل وصف بأنه عصامي ذاق حلو العيش ومره عبر السنوات الماضية مصرا على أن يقف على قدميه رافعا الرأس معززا مكرما، ولقد خيم الحزن على أجواء حريملاء لما له من محبة ومكانة عالية في قلوب محبيه وعارفيه؛ إذ كان رجلاً بشوش المحيا سمح التعامل لين الجانب، كانت ولادته بحريملاء عام 1337 هـ ثم التحق بإحدى الكتاتيب بها مبكرا وتوفي والده وهو في الثامنة من عمره، بعد ذلك تزوجت والدته وعاش وحيداً يكابد وحشة اليتم والحرمان من حنان الأمومة في كفالة أعمامه، ورغم إكرامهم وعطفهم عليه إلا انه عندما بلغ السنة الخامسة عشر تقريبا أخذ يفكر في مخرج من الدائرة التي تحيطه ينشد الحنان وملء فراغ النفس فلم ير بدا من الشخوص إلى مكة المكرمة حيث استقر به قدمه لدى خالته زوجة الشيخ ناصر بن إبراهيم المبارك علّه يجد راحة الخاطر هنالك ـ رحمهم الله جميعا ـ تاركا وكره الأول .. ولسان حاله يردد في نفسه هذا البيت :

نقل ركابك عن ربع ظمئت به

 

إلى الجناب الذي يهمي به المطر
<!--

وكأنه قد قرأ هذين البيتين للإمام الشافعي حيث يقول :

مافي المقام لذي عقل وذي أدب

 

من راحة فدع الأوطان واغترب
<!--

سافر تجد عوضا عمن تفارقه

 

وانصب فان لذيذ العيش في النصب
<!--

وفعلا وجد حسن الاستقبال والرعاية الكريمة عندهما بمكة مما أخمد الأوار الذي كان يعتلج في طوايا نفسه. فالتحق بمدارس الفلاح بمكة المكرمة، وحصل على الشهادة الابتدائية فمستوى التعليم الابتدائي في تلك الحقبة يقارب مستوى الكفاءة أو أعلى لمتانة المناهج ولكبر سنه ونضجه العقلي.. ثم انتقل إلى مدينة الوجه المطلة على البحر الأحمر وعمل بالإمارة هنالك عند الأمير علي بن عبد الله المبارك ـ آنذاك ـ مدة اثني عشر عاما، فلما طالت إقامته هناك استبد به الحنين إلى مسقط رأسه حريملاء، فعاد إليها وكأني به وقد أقبل على مشارف البلاد ـ قبل أن تمتد إليها يد النهضة العمرانيةـ يتذكر وفاة والده فلا يملك سوى أن يردد بين جوانحه قول الشاعر لهذين البيتين :

<!--[if !supportMisalignedColumns]--> <!--[endif]-->

إذ زرت أرضا بعد طول اجتنابها
<!--

 

فقدت صديقي والبلاد كما هيا
<!--

فاكرم أخاك الدهر مادمتما معا

 

كفى بالممات فرقة وتنائيا
<!--

         

ولسان حال الغير يقول له :

المرء يسرح في الآفاق مضطربا

 

ونفسه أبدا تهفو إلى الوطن
<!--

ويقول الأخر:

ما من غريب وان أبدى تجلده

 

إلا تذكر عند الغربة الوطنا
<!--

وفي عام 1367هـ عمل مشرفا على قوافل من السيارات لجلب بعض المؤن من موانئ الكويت إلى الرياض لصالح الحكومة آنذاك، بعد ذلك عمل مدرسا في المدرسة السعودية الابتدائية بحريملاء منذ افتتاحها في 20/4/1369هـ ، ثم انتقل إلى المحكمة الشرعية وظل يعمل بها كاتب ضبط لمدة خمسة وعشرين عاما حتى نهاية 1396هـ معاصرا للشيخين الراحلين القاضين :عبدا لرحمن بن سعد آل الشيخ وعبدا لرحمن ابن إبراهيم اليحيى ـ رحمهم الله جميعاـ وبعد أن أحيل على التقاعد عين مديرا لشركة الكهرباء بحريملاء، ويعتبر من المؤسسين لها، ومكث بها حتى عام 1404 هـ.

   وبعد ما انتهى رصيده من دنياه الحافلة بالإخلاص والكفاح، وبالسمعة الحسنة والسجايا الحميدة لبى داعيا المولى في يوم الخميس 8/3/1411هـ رحمه الله.

ولقد عرف عنه حسن التعامل والصدق في المعاملات ونفع ذوي الحاجات يقرض من ماله المعسرين ولا يلح في طلبه، ومما يؤثر عنه أنه قُبيل وفاته طلب الأوراق التي تحتوي على مداينات وقروض لدى بعض المعسرين وأمر بتمزيقها متنازلا عن الحقوق التي عليهم فيها طمعا في الأجر من الله، كما كان يكرم الضيف ويقضي حوائج من يقصده وهو لين العريكة في تربية أبنائه وتوجيههم التوجيه السليم ، كما أنه يقوم ببعض الكتابة للمواطنين من رسائل خاصة ووثائق في المبايعات فخطه معروف ومعتبر لدى المحاكم الشرعية وفي الأوساط الاجتماعية لثقتهم به ولجمال خطه الذي يؤنس الأبصار فكل من يرى خطه في الصكوك التي سجلها بالمحكمة أو خلافها يدعو له وكأني به يطلب المزيد من الدعاء ويرثي نفسه بهذه الأبيات التي رثي الشاعر نفسه بها قبل وفاته:

تبلى الأنامل تحت الأرض في جدث
<!--

 

وخطها في كتاب يؤنس البصرا
<!--

كم من كتاب كريـم كان كاتبـه 
<!--

 

قد ألبس الترب والآجر والحجرا
<!--

يا من إذا نظرت عـيناه كِتْبتـنا
<!--

 

كن بالدعاء لنا والخير مُدَّكرا
<!--

ونختتم بهذه العجالة بهذين البيتين :

وما من كاتب إلا سيبلى

 

ويبقى الدهر ما كتبت يداه
<!--

فلا تكتب بكفك غير شيء

 

يسرك في القيامة أن تراه
<!--

غفر الله لك أبا إبراهيم وأسكنك فسيح جناته وألهم ذويك وذريتك وأم إبراهيم ومحبيك الصبر والسلوان. )إنا لله وإنا إليه راجعون(.

 

<!--[if !supportFootnotes]-->

<!--[endif]-->

(<!--) كتبت يوم السبت، 10 ربيع الأول 1411هـ، الموافق 29 سبتمبر 1990م.

mager22

فقد ورثاء ( عبد العزيز بن عبد الرحمن الخريف )

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 219 مشاهدة
نشرت فى 30 سبتمبر 2013 بواسطة mager22

أسفـــاً عـليــك يـا أخــــي(<!--)

 

أُخيين كنا فـــــــرق الدهر بيننا

 

إلى الأمد الأقصى ، ومن يأمن الدهر!
<!--

الإنسان في هذا الوجود غالباً ما يمر به أيام أفراح ومسرات وساعات هناء وغبطة قد يطول مداها،وفي لحظة من لحظاتها يفاجأ بما يكدر صفوها من أحزان ومصائب جمة،أو فقد حبيب:

طبعت على كدر وأنت تريدها
<!--

 

صفوا من الأقذاء والأكدار
<!--

فبينما كنت مغتبطاً بجانب شقيقي عبدالله بن عبد الرحمن الخريف بتماثل صحته بالشفاء في المستشفى المركزي بالرياض وبعد خروجي من عنده مودعاً مسروراً بقوة حركته ومعنويته مُتجهاً صوب مدينة حريملاء بعد صلاة عصر يوم الأربعاء 14/7/1403هـ وكلي فرح واطمئنان على تحسن صحته، فإذا بالشيخ ناصر بن الأخ محمد، والابن عبدالرحمن،  والأستاذ حمد بن إبراهيم الدهمش يشيرون إليّ بالتوقف وأنا على مشارف مدينة حريملاء ولم يدر بخلدي ما يكدر خاطري في تلك اللحظة، فطلبوا مني تسليم مفتاح سيارتي والركوب مع أحدهم للعودة نحو الرياض، حيث أفادوا أن الأخ عبد الله في حالة حرجة فلم أصدق الخبر بادئ الأمر قائلاً أنا عنده منذ ساعة فقط وهو في حالة جيدة ولم ألحظ عليه بوادر تعب أو تضجر، فأكدوا لي أنه قد لاقى ربه، فقلت مندهشاً: (إنا لله وإنا إليه راجعون).. وكان لهذا النبأ وقع مؤلم وموجع جداً لقلبي..، ستترك آثار هذا النبأ حزناً وأخاديد عميقة في صحراء نفسي لا تطمرها سافيات الزمن ولا تتابع السنين.. كيف لا وهو شقيقي شقيق روحي ورفيق عمري منذ طفولتنا، وسيرنا على أديم هذه الأرض بكل غبطة ومسرات وتعاطف، حتى آخر لحظة من حياته، ومع شقيقنا الأخ ناصر ـ أبو عبد الرحمن ـ وشقيقتي: أم الأستاذ عبدالعزيز بن ابراهيم القضيب، وأم د/ محمد بن عبدالعزيز العقيلي، أسعدهم الله ومتعهم بمديد العمر، ولكن صفو الحياة لا يدوم على حال: تجمع وتفرق ..

   ولقد تأثرت جداً لرحيله المفاجئ رحيلٌ غطّى سماء نفسي حزناً طويلاً ! فأحسست بفقد جزء كبير من حياتي ومن سعادتي وظل خياله يساورني في كل لحظة من خلواتي فحنيني إليك يا أبا محمد يطول:

بكيت ـ على أخي ـ بدمع عيني

 

فلم يغني البكاء ولا النحيب !
<!--

  أجل بكيناك وبكتك الوالده وذرفت عينا أبناءك كبارا وصغارا وحزنت لفقدك رفيقة دربك وشريكة حياتك أم محمد حزناً شديداً يطول مداه كلما نظرت أطفالها الصغار وهم يرددون أين بابا عبدالله بين آونة وأخرى، وهذا مما يزيد تفجعها وتجدد حزنها وتحسرها على غياب إلفها وبعلها الوفي، فرحيلك العاجل ترك في نفوسنا ونفوس محبيك حزناً وأسى عميقاً.. ولقد طبع على السخاء والتحبب للقريب والبعيد وبذل ما في وسعه من أعمال الخير، وإدخال الفرح والسرور على الأطفال بما يقدمه لهم من هدايا وبعض الحلوى والمكسرات. كما أني لم أذكر أنه قد كدر خاطري منذ صغرنا وحتى آخر لحظة من أيام حياته بل إن التآلف والتحابب، والاحترام المتبادل بيننا هو واقعنا الحقيقي، كما أن شراكة المال فيما نملكه ظلت إلى قُبيل وفاته، وكأن المال لشخص واحد، كل يصرف من قبله على أسرته بدون تسجيل أو حساب، وسارت أمورنا على ما يرام تآلفاً وتسامحاً طيلة العقود الثلاثة الماضية. وخشية أن يحصل بين من يخلفنا من الورثة ما يكدر الخواطر بينهم تمت القسمة، علماً أنه لا يوجد لدينا شئ يذكر سوى رواتبنا الشهرية وقليل من العقارات المحدودة..، والمهم في ذلك صفاء النفوس وهذا حاصل بحمد الله.

   ولقد بدأنا حياتنا بالكُتابِ معاً لقراءة القران الكريم وحفظه وتعلم الخط بنسخه في الألواح الخشبية، وكلما نتقن قراءته وتلاوته على مسمع من المعلم ـ المطوع ـ يأمرنا بغسل اللوح، ثم كتابة سور أو آيات وهكذا حتى نختم القرآن تلاوة، ثم يعقب ذلك المطالبة بالحفظ إن أمكن. وبعد حصوله على الشهادة الابتدائية من المدرسة السعودية بحريملاء عام 1372هـ شخص إلى الطائف والتحق بدار التوحيد فترة من الوقت ثم عاد ودرس بالمعهد العلمي بالرياض، بعد ذلك التحق بعدد من الوظائف منها مصلحة البرق والبريد، و الجمارك بالمنطقة الشرقية، إلى أن استقر بدار الإفتاء معظم حياته الوظيفية مُتدرجاً في سلَم العمل حتى أصبح مديراًً خاصاً في مكتب سماحة المفتي الشيخ عبد العزيز بن باز ـ متعه الله بالصحة والسعادة ـ ورحم أخانا عبد الله ـ وقد ودع العمل حميدة أيامه بقوة الموت، وكان جاداً في عمله عارفاً وملماً بأنظمة وبأساليب وظيفته المالية والإدارية مما جعل سماحته يعتمد عليه في كثير من الأعمال الخاصة والعامة، وكان نقي الجيب دقيقاً في تعامله مع المراجعين محبوبا لدى زملائه ومعارفه فقد جمع بين الهيبة ودماثة الخلق، فسمعته معطرة بالثناء والذكر الحسن لما يتمتع به من حنكة، وصراحة وحسن التعامل مع الصغير والكبير، والعطف على الفقراء والمساكين سواء من قبله أو عن طريق الشيخ عبدالعزيز ابن باز، الذي فوض الأمر إليه في التماس أحوال أصحاب الحاجات لبعض الأسر والأيتام بل ومن يفد إلى الشيخ من بعض البلدان الشقيقة فهو محل الثقة التامة.

    ولقد طوح بي الخيال في تلك اللحظة المفجعة إلى استعراض شريط ذكريات الطفولة معه بل العمر كله، وإلى أيامنا الأول والشمل جامع لنا بين أحضان والدينا وإلى مراتع صبانا وملاعبنا مع لداتنا ورفاقنا، وما يتخلل تلك الأيام الجميلة من لهو ومرح، ومزاولة الكثير من أنواع الألعاب الشعبية التي نلهو بها في سحابة يومنا، وفي بعض الليالي المقمرة قبل وجود المصابيح الكهربائية في تلك الحقبة الزمنية ..، فما أحلى أيام الطفولة وأماسييها :

وليست عشيات الحمى برواجع

 

عليك ولكن خّل عيناك تدمعا!
<!--

ويقول آخر :

<!--[if !supportMisalignedColumns]--> <!--[endif]-->

كأن لم نعش يوماً بأجراع "حرملا"

 

بأرض بها أنشا شبيبتنا الدهر
<!--

بَلى إن هذا الدهر فرق بينـنـا

 

وأي جميع لا يفرقه الدهر!
<!--

         

غفر الله لك يا أخي عبد الله وجمعنا بك في عالي الجنان، وجبر مصيبتنا فيك، والهم والدتنا وأبناءك وعقيلتك أم محمد ومحبيك الصبر والسلوان " إنا لله وإنا إليه راجعون"

                                                  شقيقك الحزين..

  عبد العزيز بن عبد الرحمن الخريف


إلى جنة النعيم يا أبا بندر(<!--)

(إبراهيم بن عبد الله البراهيم الخريف رحمه الله)

 

لا يأمن العجز والتقصير مادحه

 

ولا يخاف على الإطناب تكذيبا
<!--

قال الله في محكم كتابه العزيز " كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون"، فالموت حق لا محيص ولا مناص منه أبداً، يتساوى في ورد حوضه الصغير والكبير، والرضيع والكهل.

الموت مشتركٌ بين الخلق

 

لا سوقة تبقى ولا ملك
<!--

فمن كتبت له المغادرة والرحيل عن هذا الوجود أسلم روحه إلى بارئها فور انقضاء مدة إقامته على ظهر هذا الكوكب الأرضي بدون تريث ولا تقدم، وصدق الله العظيم حيث قال " إذا جاء اجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون"، فحينئذ تنقطع الأسباب وتعجز الحيل عن دفعه وعن مقاومة الأمراض إن وجدت..، ففي يوم السبت 25|3|1406هـ فجعت أسرة آل خريف بوفاة الشاب الأديب إبراهيم بن عبد الله البراهيم الخريف والانتقال إلى دار الخلود بعد معاناة مع المرض الذي لم يمهله طويلاً قضى شطراً منها بعيداً عن أهله ومحبيه في إحدى مصحات الولايات المتحدة الأمريكية عله ينجو مما حل به من أمراض وأسقام ..، وكانت عقيلته الوفية أم بندر ملازمة له في غربته، وفي خدمته محاولة تسليته وتقوية معنويته مخفية ما بداخلها  ومابين جوانحها من لوعات، ومن توقعات قد تفاجأ بها معلنة رحيل شريك حياتها ورفيق دربها، وهي في دار الغربة بعيدة عن أطفالها وأحبابها، كما أن أخوته الكرام لا تقل عنايتهم واهتمامهم به، فهم يتناوبون ويتعاقبون على زيارته والمكث بجانبه هناك رغم بعد المسافات، مع ما يبذلون من أموال طائلة رجاء شفائه، والعودة به سالماً معافا ولكنها الأقدار المسطرة في اللوح المحفوظ لا محيد عنها، فقضاء الله سبحانه لا يرد، فلما طال مكثه في تلك الديار النائية مع تدهور حالته الصحية وتحول عافيته .. أومأ بعض الأطباء المشرفين على علاجه وملاحظته بأن جسمه الطاهر أصبح لا يستجيب للدواء المخصص له ولأمثاله ..، فنزلت تلك الإمائة نزلة عنيفة كالصاعقة الملتهبة على قلب زوجته أم بندر وعلى إخوته ـ كان الله في عونهم جميعاً ـ فنُقِل على جناح السرعة إلى مستشفى الملك فيصل التخصصي بالرياض، وما هي إلا أيام معدودات  حتى فارق الحياة حميدة أيامه ولياليه، ومأسوفاً على رحيله المبكر، وقد أجهش الجميع بالبكاء على فقده وغيابه الطويل عن الدنيا، وخيم الحزن على منازل أسرته وإخوته، وعلى أجواء محافظة حريملاء لموته، ولعلو مكانته في قلوبهم، حيث لم يعط مهلة بمديد العمر، ولقد أجاد الشاعر حيث يقول متعجباً ومتأسفاً على غياب أمثاله عن الدنيا بهذا العمر القصير:

لله در الدافنيك عشية

 

أما راعهم مثواك في القبر أمردا
<!--

مجاور قوم لا تزاود بينهم

 

ومن زارهم في دارهم زار همدا!
<!--

ولقد نشأ في طاعة الله محباً لبذل الخير ، وفي بيئة تسودها الألفة والمحبة والتسامح، ولا غرور فإن والده العم أبو إبراهيم يُعتبر مدرسة تربوية صالحة، فمن عاش بين أحضانه وفي كنفه أحب فعل الخير، وحث على حسن التعامل، وعلى قوة الترابط بين الأسر والبذل السخي في أوجه البر والإحسان، وصلة الأرحام، وتلمس أحوال ذوي الحاجات والمساكين، فسار على نهج ما تحلى به والده من صفات حميدة قل أن تتوفر لأمثاله فأبو بندر يملك سجايا ومكانة عالية القمة يوشك أن ينفرد بها وحده على أقرانه ونظرائه من سماحة خلق ولين جانب، وسعة أفق وكرم ـ من غير تناسي حقوق إخوته الأعزاء ـ فهم يعلمون جيداً مكانته في قلوبهم،  وفي نفوس جميع عارفيه والمتعاملين معه، فبوادر هذه الصفات الحميدة معروفة عنه منذ صغره لدى معلميه وزملائه لأن طبعه الميل إلى كسب الأخيار والتحبب إلى من تجمعه بهم الأيام، إلى جانب التغاضي والتناسي عن بعض الهفوات التي قد تصدر من أحد مما جعل القلوب تميل إليه محبة واحتراما، وبعد رحيل عمنا والده الشيخ عبد الله بن إبراهيم الخريف في 2/2/1395هـ  رحمهم الله جميعاً ـ لم يكن مفاجئاً إجماع إخوته وأختيه، وأم عبدالرحمن زوجة والده التي هي بمنزلة الوالدة له في اختياره رئيساً مفوضاً لشركتهم التجارية متعددة الفروع والأقسام مع ترشيح أخيه عبد الرحمن مساعداً ونائباً عنه، وبقيت الأخوة على رأس كل فرع من فروع الشركات ...، وهذه الثقة التامة والتعاضد فيما بينهم جعل الشركة تقف عالية القامة في مصاف الشركات الداخلية والعالمية معاً، وهذا التضامن والتآلف لا يستغرب على من تخرج من المدرسة الأبوية مدرسة والدهم الحبيب إلى قلوبنا، وفي مجال ذكر بعض مآثره قال أحد المسنين الكبار موغلاً في حبه ومثنيا عليه " أبو يسوى عدد شعر رأسه رجاجيل!!" فما أجمل هذه العبارة الصادرة من قلب صافي، فالحمد لله على قضائه وقدره، فلقد خلف أبو بندر ذرية صغار بنين وبنات تتصف بالصلاح والنجابة في ظل والدتهم المفجوعة على فقد بعلها، وفي رعاية أعمامهم، نرجو أن يعوضهم المولى عن فقد والدهم بالصلاح والفلاح، والاستقامة  وسعة الرزق كي يسيروا في هذه الحياة متحابين متآلفين فيما بينهم، ومحترمين أعمامهم وسائر أسرهم ومعارفهم، و أن يكونوا لبنة صالحة في خدمة وطنهم وأهله، وكان الشيخ إبراهيم ـ رحمه الله حينما يحضر الجلسات ممثلا شركتهم العملاقة ـ رغم حداثة سنه ـ يملأ العين احتراما لما يتمتع به من أخلاق عالية، وحنكة وأراء صائبة أهلته بأن يقف متحدثا في المحافل التجارية وأمام ممثلي الشركات العالمية عالي الهامة، ولاويا  أعناق الرجال نحوه مصغية أذانهم لإرائه ومقترحاته السديدة التي غالبا ما تقبل وينهى النقاش بها لنفاذ بصيرته وبعد نظره، وقوة إقناعه للحضور المشاركة بما يضمن الفائدة والربح لجميع الأطراف، ولي مع أبي بندر بعض الذكريات الجميلة التي لا تفرط فيها الذاكرة أثناء إقامتي بالرياض لتلقي مبادئ في العلم لدى سماحة الشيخ محمد بن ابراهيم وأخيه فضيلة الشيخ عبداللطيف بمسجد الشيخ محمد بحي دخنه قبل افتتاح المعاهد العلمية وندرة المدارس ـ آنذاك ـ ، حيث أكد علي والده العم عبدالله بأن أكون في ضيافته مدة إقامتي لدى المشائخ ... لعلمه بقلة المادة لدي في تلك الفترة الزمنية ..، وكان الأخ إبراهيم وأخوه عبدالرحمن يترقبا مجيئي إليهما في أوقات تناول طعام الغداء والعشاء لنتناوله معا، حيث أني أسكن في حجرة مع بعض طلاب العلم التي خصصها جلالة الملك عبدالعزيز ـ رحمه الله ـ للطلبة المغتربين أمثالي ..، فهما يأنسآني بحضوري وأنا أسعد بالحديث  معهما، وأقص عليهما بعض القصص الشيقة التي تؤنسهما ويستفيد منها الإنسان في قابل حياته ..، فأوصي إبراهيم أن يضاعف البر بوالده العم عبدالله إذا كبر  ِبرَّ ابنٍ لوالديه ووفاء بحقهما على حسن رعايته له وبذل ما في وسعه من أموال أثناء مرضه القديم، وقد استمر معه ذلك المرض وقتا طويلا حتى اقلع عنه بفضل الله، ثم بفضل والده الذي كان يتردد به على عيادة الدكتور المشهور بالطباع ـ آنذاك ـ  لمعاينته ووصف الدواء المناسب لحالته المرضية فيبذل له مبالغ نقدية بيد سامحة من الجنيهات السعودية، ومن الريالات الفضية قبل وجود العملة الورقية، كما أن وجود الأطباء في تلك الحقبة نادر جدا، .. ومما يريح النفس ويشرق في أرجائها ويعزيها أن إخوة إبراهيم بنين وبنات يتمتعون بسمعة طيبة وعالية في مجالات عدة، وفي نفوس ولاة أمر هذه البلاد بل و بالشعب السعودي لما يقدموه من خدمات جليلة ومن أمن غذائي لوطنهم امتداداً لبداية عمل والدهم وعمهم محمد المشرف بجلب مضخات ومكائن لري المحاصيل الزراعية وسقي النخيل فلهم السبق في ذلك، والتوسع في زراعة المسطحات الخضراء المتباعدة الأطراف حيث أن تلك المكائن أراحت الحيوانات التي كانت تستخدم في نزح المياه من الآبار بطريقة بدائية آنذاك رحمهما الله جميعا ووفق أبنائهما لعمل الخير، وعلى أي حال فإن الأخ إبراهيم كله أدب وذوق ونفع، وستبقى ذكراه خالدة في مستودعات الصدور لتغلغل حبه في القلوب راجيا من المولى أن يصلح عقبه وأن يتغمده بواسع رحمته، ويجبر مصيبتنا فيه ومصيبة إخوته وأبنائه وزوجته أم بندر وجميع محبيه إنه سميع مجيب" إنا لله وإنا إليه راجعون".

 

<!--[if !supportFootnotes]-->

<!--[endif]-->

(<!--) كتبت بتاريخ 17 رجب 1403هـ، الموافق 29 ابريل 1983م .

(<!--) كتبت يوم الثلاثاء، 28 ربيع الأول 1406هـ، الموافق 10 ديسمبر 1985م. 

mager22

فقد ورثاء ( عبد العزيز بن عبد الرحمن الخريف )

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 233 مشاهدة
نشرت فى 30 سبتمبر 2013 بواسطة mager22

حمد بن سلمان خلت من شخصه داره(<!--)

 

أظلمت بعده الديار وقد كا

 

ن سراجاً بها وبدراً منيراً
<!--

كان اليوم 15 من جمادى الأول عام 1399هـ يوم حزن وتفجع، لا كالأيام لدى أسرة ومحبي الأخ الكريم حمد بن عبد العزيز السلمان حيث أعلن أطباء المستشفى المركزي بالرياض أن جسمه الطاهر قد تعذر عن قبول الترياق الذي كان يمده ويغذيه عله يكون سبباً ومحاولة في مد حبل عمره، ولكن الحيل أعيتهم في إنقاذ حياته!! ، وما لبثوا أن قدموا التعزية والمواساة لأبنائه الذين فجعوا بوفاته وغيابه الأبدي(تغمده الله بواسع رحمته). قال الله في محكم كتابه العزيز: (فإذا جاء اجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون) سورة النحل 61 .. ويقول الشاعر:

وإذا المنية أنشبت أظفارها

 

ألفيت كل (وسيلة) لا تنفع
<!--

وكان لنبأ وفاته وقع مؤلم ومحزن جداً لدى أسرته وعارفيه، ولقد بكاه الصغار قبل الكبار، وخيم الحزن على أجواء مساكنهم، وأسفت لفقده الأرامل والأيتام حيث كان بمنزلة الأب لهم، يطالب الجهات الحكومية المختصة بتحقيق ما يلزمهم من حوائج الدنيا كالضمان الاجتماعي وعوائد المناخ السنوية، بل وبما تحتاجه البلاد من مشاريع عامة، ولقد حزن الجميع على فراقه وغيابه عن ذاك المنزل العالي الذي ألفه الكثير ممن مر عليه أثناء حياته من ضيوف وعابري سبيل، وكأني بمن يزور تلك الواحات بعد رحيل (أبو عبد الله) يدير لحظ عينيه نحو ذاك البيت المتواضع مومياً بمقدمة رأسه متحسراً ومتأسفاً، وكأنه يستجمع شيئاً من ذكرياته مع صاحبه الذي رحل عنه، وقد خلف بعده عمراً ثانياً وذكراً حسناً تردده الأجيال على تعاقب الليالي والأيام:

دقات قلب المرء قائلة له

 

إن الحياة دقائق وثوان
<!--

فأحفظ لنفسك قبل موتك ذكرها

 

فالذكر للإنسان عمر ثاني
<!--

ومن الأشياء الجميلة المعهودة عن ـ أبوعبد الله ـ التفاني في حب بلده (الصفرات) مهوى رأسه ورؤوس آبائه وأجداده، فهو الكل في البلد بالمطالبات بإيجاد المشاريع والمصالح الحكومية، والتعريف بمن يحتاج إليه ليعمل في السلك الوظيفي الحكومي غير مكتفي بذلك بل يزور المسؤلين في مكاتبهم ملحاً في تحقيق وساطته المحمودة التي تنفع ولا تحرم أحداً من حقه، ومن الطريف الذي يؤثر عنه أنه كتب تعريفاً وتزكية مع شخص يرغب بتعيينه سائقاً بتعليم البنات إلى الشيخ ناصر بن حمد الراشد الرئيس العام لتعليم البنات المعروف عنه الحرص على التمسك بالنظام وستر الفتيات ..، فأعتذر في بادئ الأمر ولم يقبل شفاعة الأخ حمد بن سلمان بحجة أن المتقدم للوظيفة فاقد لأحدى عينيه، فما كان من حمد (أبو عبد الله) إلا أن شخص من بلده صوب الرئاسة لمقابلة الرئيس شخصياً بمكتبه قائلاً: وهو مبتسماً لو تمنينا مثل هذا الرجل ما وجدناه: أعور العين ليس له إلا عين واحده وأنف كبير عالي مستطيل يحجب رؤية العين السليمة عن البنات، فلم يتمالك الشيخ ناصر الابتسامة العريضة بعد سماع هذا الوصف اللطيف فوافق على تعيينه فوراً، فأبو عبدالله ماهر في دغدغة عواطف المسئولين حينما يصمم ويجد في طلب تحقيق ما يشفع فيه شفاعة حسنه لا تضر بالآخرين ـ رحمه الله ـ فهو بأسلوبه هذا يفتح الصدور لتلبية مطالبه الكثيرة سواء الفردية أو العمومية كالمطالبة بتذليل العقبات وتسهيل الطرق الجبلية للوصول إلى بلده وللقرى المجاورة بيسر وسهوله، والسعي في جلب الماء لأماكن التجمع السكاني لديهم .. ، والإلحاح في تحسن أوضاع المحتاجين والتخفيف من معاناتهم ، فهوـ رحمه الله ـ كمجموعة رجال في النفع وإن كان واحدا.

فليس على الله بمستنكر

 

أن يجمع العالم في واحد
<!--

ولقد أجاد الشاعر ابن دريد حيث يقول:

والناس ألف منهمُ كواحد

 

وواحد كالألف إن أمر عنى
<!--

وكان من هواياته في صغره الولع بتربية الأغنام والعمل على تناميها وتكاثرها، وعندما كبر تحول حبه إلى إبادتها وذبح صغارها وكبارها لتقديمها للضيوف ولمن يؤمهم في ديارهم، وقد اشتهر بذلك يرحمه الله، ومن الذكريات الجميلة معه أنه قد مر علينا الأستاذ / راشد بن عبدالله المبارك في جولة تفتيشية توجيهيه في مادة التربية الإسلامية واللغة العربية من قبل وزارة المعارف، فاقترح علي أن أصحبه وأرشده إلى المدرسة الابتدائية ببلد الصفرات، فما كان مني إلا أن قلت: توكلنا على الله، وحينما وصلنا إلى المدرسة قابلنا الأستاذ المدير بالترحيب وبجانبه الأخ الفاضل/ حمد (أبو عبدالله) أحد الموظفين بالمدرسة وهو ساعد المدير الأيمن وتكاد سمعته أن تغطي سمعة مدير المدرسة لما يتمتع به من هيبة وحنكة وقوة شخصية، فهو يقوم دائما بعمل المدير وبالمراسلة والمطالبة في تسديد عجز المدرسين ونواقص المقررات المدرسية، وجميع ما ينهض بالمدرسة ويكسب البلد السمعة المثلى، وفي لحظتها أشار أبو عبدالله إلى أحد المستخدمين إشارة خاصة ولم ندرك كنهها في تلك اللحظة ...، وعندما أنهى الأستاذ راشد ـ المفتش ـ مهمته استأذن ثم هممنا بركوب السيارة للاتجاه إلى مدينة حريملاء لتناول طعام الغداء بمنزلنا، فبادرنا الأخ حمد ابن سلمان قائلا تفضلوا فنجانا من القهوة، فلما دخلنا مكانه فاجأنا بمد سفرة الغداء وعليها ذبيحة غضة صغيرة متربعة على ذاك الصحن الذي ينوء بأحماله من الطعام الشهي، وهذا شأنه رحمه الله في التحايل على من يمر بديارهم. ويقال أنه قد مر عليهم أحد مديري التعليم بالرياض في جولة خاطفة على مدارس المنطقة التابعة للرياض، فما كان منه إلى أن أمر بذبح خروف سمين جزل قدم شقا منه على غداء سعادة المدير ورفاقه، والشق الأخر سلمه لهم عندما تناولوا طعام الغداء الذي تم بقوة الحيلة منه ليكون عشاء لهم، حيث يكون مبيتهم خارج الرياض وذلك لصعوبة التردد ووعورة الطرق، وكان من تحايله على من يظفر به من الزوار أن يأتي بهم إلى منزله مع طريق رملي يصعب على السيارة تجاوزه إلا بكل صعوبة ومعاناة .! ، وهذا هو ما يتمناه في اصطيادهم، وبعد تناولهم طعام الغداء أو العشاء يساعدهم على إخراج سيارتهم من الكثبان الرملية المحاذية لبيته، فكله طيب وكرم وتلذذا بما يبذله من مال وجاه، ولي مع (أبو عبدالله) ذكريات جميلة لا تغيب عن خاطري مدى الأيام، ولا يتسع المجال لذكرها، ولله در القائل:

ثناء الفتى يبقاء ويفنى ثراؤه

 

فلا تكتسب بالمال شيئا سوى الذكر
<!--

فقد أبلت الأيام كعبا وحاتما

 

وذكرهما غض جديد إلى الحشر
<!--

رحم الله أبا عبدالله رحمة واسعة، واسكنه فسيح جناته وألهم ذويه وأبنائه وبناته وزوجته ـ أم عبدالله ـ ومحبيه الصبر والسلوان "إنا لله وإنا إليه لراجعون".

 

<!--[if !supportFootnotes]-->

<!--[endif]-->

(<!--) كتبت بتاريخ 18 جمادى الآولى1399هـ، الموافق 15 ابريل 1979م.

mager22

فقد ورثاء ( عبد العزيز بن عبد الرحمن الخريف )

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 391 مشاهدة
نشرت فى 30 سبتمبر 2013 بواسطة mager22

عبد العزيز بن عبد الرحمن الخريف

mager22
عبد العزيز بن عبد الرحمن الخريف **** ولد ونشأ في حريملاء , 80كم شمال غربي مدينة الرياض . درس في حلقات العلم على المشايخ بالرياض . بدأ الدراسة النظامية بدار التوحيد بالطائف 1371 - 1372 هـ . أنهى التعليم الثانوي بالمعهد العلمي بالرياض عام 1374 هـ . كلية اللغة العربية »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

30,370