عبد العزيز بن عبد الرحمن الخريف ( فقد ورثاء )

فقد ورثاء

الجزء الثاني

edit

الصديق محمد المشعل إلى رحمه الله (<!--)

 

حبيب عن الأحباب شطت به النوى *** وأي حبيب ما أتى دونه البعد

بعض بني البشر يسير في هذه الحياة دالهاً مغتبطاً ومسروراً بمن حوله من أهل وأبناء وبنات ورفاق درب وجيران كرام ، وقد يطري عليه ما يكدر خاطره، ويعكر صفو حياته، ومثل أولئك صديقي وحبيبي محمد بن إبراهيم المشعل (أبو عبدالعزيز) الذي عانى من بعض الأمراض بعد أن تمتع بصحة عامة... ، ففي البداية أحس وشعر بشيء ما بداخله يدب ببطء يصاحبه بعض الوخزات، فظل ذاك الهاجس في نفسه يساوره منغصاً صفو عيشه وراحته، ولم يطلع أحداً على ذاك تهاوناً ومترقباً حضور المختبئ في ضمير الغيب:

لا طيب للعيش ما دامت منغصة *** لذاته بادكار الموت والهرم

ثم رحل عنا حيث تزامن طلوع شمس يوم الأربعاء
24/9/1432هـ من خدرها مع خروج روحه من جسده الطاهر إيذاناً بأنه قد استوفى نصيبه من أيام الدنيا ولياليها تاركاً وراءه ذكرا حسناً وسمعة طيبة عطرة لما يتحلى به من خصال حميدة ولطف ودماثة خلق، وصدق مع الأخرين، وقد عرف عنه ذلك، فهو محبوب لدى جلسائه وعارفيه، وبحبه للبذل في أوجه البر والإحسان للمحتاجين من أرامل وأيتام، والمساهمة في بناء المساجد في محافظة حريملاء، وغالباً ما يكون البذل محاطاً بسرية لعلمه بمضاعفة الأجر في مثل ذلك.. ، ومن صفاته الحميدة التسامح مع من يتعامل معه، حيث كان هو وشقيقه حمد يعدان من كبار رجال الأعمال والمقاولات المعمارية، وتأمين الكثير من مواد البناء لبعض الشركات العملاقة في مدينة الرياض وغيرها....، فهما يملكان أسطولاً مميزاً من المعدات الثقيلة الفخمة متعددة الأحجام، ولم يعهد عنه أي خلاف مع عملائه وعماله طيلة حياته الحافلة بالصدق والإخلاص في أداء ما يوكل إليه من إنجاز الأشياء العامة والخاصة، وبالتودد والتحبب إلى الناس وإدخال البهجة والسرور في نفوسهم، وما يتفوه به من أحاديث شائقة وطرائف تؤنس صحبه، كما أنه لا  يتردد في إقراض من يؤمه من المحتاجين من أصدقاء وأقارب، بل قد يتنازل عن سداد الكثير من المال إذا علم بإعسار ا لقريب من أسرته وأبناء عمومته.. احتساباً لمضاعفة أجره ومراعاة لظروفه القاسية، متذكراً قول الشاعر:

وإذا رزقت من النوافل ثروة *** فامنح عشيرتك الأداني فضلها

فهو (يرحمه الله) قد عاش في بيئة تراحم وتواصل بين أسرة آل مشعل، وحبهم للبذل لذوي الأرحام والقرباء رجالاً ونساء، ولقد ولد (أبو عبدالعزيز) في مدينة حريملاء هو وشقيقه حمد وشقيقتهما منيرة (يرحمها الله) فباكرهم اليتم برحيل والدتهم وهم صغار، وعاشوا في طفولتهم يكابدون وحشة الفراق والحرمان من حنان الأمومة وعطفها عليهم، وعندما كبروا رحلوا إلى مدينة الرياض فحسنت حالهم (كما أسلفنا آنفاً) فالله سبحانه خير خلف عن كل فائت، كما أن والدة الشيخ حمد بن إبراهيم المشعل (أبو إبراهيم إمام الملك سعود يرحمه الله) قد خففت عنهم وطأه الحزن والحرمان برعايتهم واحتضان شقيقتهم منيرة حتى كبرت وانتقلت إلى عش الزوجية. ولي مع (أبو عبدالعزيز) ذكريات جميلة ما تزال ماثلة وباقية في طوايا نفسي، حيث جمعتنا به رحلة حج في أوائل الثمانينات على متن حافلة كبيرة مع عدد من الحجاج يربو عددهم على أربعين حاجاً، وكلنا في صندوق السيارة متلاصقين فرحين رغم ضيق الصندوق ووعورة الطريق وبعد المسافة ما بين نجد والحجاز ومكة المكرمة -آنذاك -لعدم وجود طرق ممهدة ومسفلته، فكان محمد المشعل (أبوعبدالعزيز) يتصف بالشهامة والنشاط المستمر في خدمة رفاق الرحلة  المباركة، وعند توقف السيارة يهب إلى الاحتطاب وجمع ما يكفي لإعداد وجبات الطعام والقهوة، ثم يتجه إلى موارد  الماء ويشارك في نزحه بالدلاء حتى تملأ القرب بالماء من الآبار التي أمر جلالة الملك عبدالعزيز (طيب الله ثراه) بحفرها في عدد من المحطات والهجر التي كان يمر بها سنوياً صوب الحجاز ومكة المكرمة، فينتفع بها جميع من يمر بها من المسافرين والحجاج بدءاً من مدينة مرات مروراً بالدوادمي ثم (عفيف) (الدفينة) (المويه)....، كما أن شقيقته منيره (رحمها الله) التي تطوع هو بالحج بها محل احترام رفيقاتها لقيامها بخدمة ومساعدة الكبيرات منهن، والواقع أننا قد أوشكنا أن نخرج عن الموضوع بالاسترسال في عد محاسنه.. ولكن ذكريات أيام الحج لها نكهة ومكانه خاصة في النفوس، ولكن الذي حز في نفسي وأبكاني ما ذكر عن صديقه ابن عمه الشيخ مشعل بن عبدالرحمن البصير الذي لا يبصر حينما خرج من العناية المركزة وهو في حالة من الإعياء والتعب قائلاً: اذهبوا بي لزيارة ابن عمي محمد الذي يعيش في حالة شبه حرجه... ، وعندما وصل إليه أخذ بيده يتحسس جبينه ليلقي عليه قبله كانت هي الوداع الأخير, فلما أبصره وعرفه أجهش بالبكاء مقدراُ مجيئه له ومتحسراُ على فراقه بل كلاهما بكى بكاء مراً فأبكوا من حولهما فلم يمض على ذاك الموقف المشحون بالحزن والأسى سوى ثلاثة أيام أو أقل، ثم رحل إلى دار البقاء، ولقد أجاد الشاعر الشيخ عبدالله بن خميس -رحمه الله -في تصوير مثل هذا الموقف المشحون بالأسى حيث يقول:

حناناً لكما فيما طويتم جوانحاً *** عليه وعطفي يا وحيد ورحمتي

تغمده الله بواسع رحمته ، والهم أسرته وأخويه حمد وعبدالرحمن وأبناءه وبناته وعقيلته أم عبدالعزيز ومحبيه الصبر والسلوان.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 


الشيخ عبدالله بن عقيل أفل نجمه (<!--)

 

خلـــفت في الدنيــا بيانا خالدا ***   وتركت أجيالا مــــن الأبنــاء

وغدا سيذكرك الزمان ، ولم يزل ***  للدهر إنصاف وحسن جزاء

غياب العلماء والأدباء يحدث فراغا وفجوة واسعة في الساحة العلمية والأدبية، ففي هذا الزمن توالت قوافل الكثير من كبار العلماء الأجلاء إلى مضاجع الراحلين المعروفين بسعة الأفق والتروي من حياض العلوم النافعة عذبة المصادر، فمن أولئك فضيلة الشيخ عبدالله بن عبدالعزيز بن عقيل العقيل الذي غادر الحياة الدنيا بمدينة الرياض يوم الثلاثاء 8/10/1432هـ -رحمه الله -، وقد أديت عليه صلاة الميت بعد صلاة عصر يوم الأربعاء 9/10/1432هـ  بجامع الملك خالد بأم الحمام، ولقد حزن عليه الكثير من تلاميذه وأسرته ومحبيه، بعد حياة طويلة حافلة بالعلم وتعليمه، وبالأعمال المشرفة في عدد من المواقع..، ولقد ولد بمدينة عنيزة إحدى كبريات مدن القصيم عام 1335هـ تقريبا، حيث قارب عبور -الهنيده-أو هو قد تربع عليها، سليم الحواس، قوي الذاكرة سلس المنطق حتى قبيل رحيله من الدنيا، فالله سبحانه يحمي حامل القرآن في صدره من الخرف والهذيان تكريما له، وذلك بمشيئة الله جلت قدرته، ولقد أحسن الشاعر حيث يقول:

إذا طال عمر المرء في غير آفة *** أفادت له الأيام في كرها عقلا

وقبيل إلحاقه بإحدى الكتاب بمهوى رأسه بدت عليه ملامح ومخايل الذكاء والفطنة رغم صغر سنه مما أفرح والديه وجعلهما يتفاءلان له بالخير والسعادة في قابل عمره:

بمولودهم صمت اللسان كغيره *** ولكن في أعطافه منطق الفصل!

ولذا استعجلوا في إلحاقه لتعلم الكتابة والقراءة وحفظ كلام الله، فلم يمض عليه سوى سنوات قصيرة حتى حفظ القرآن الكريم كاملا مجودا، علما أنه تربى في بيت علم وأدب فأخذ مبادئه على يد والده وعلى عمه عبدالرحمن قاضي جازان – آنذاك -حيث شخص له في مقر عمله هناك رغم بعد المسافة الشاسعة ووعورة الطريق وندرة المواصلات، ولكن ذلك لم يفت في عزمه ليحقق آماله وطموحاته المشرفة:

بوركت يا عزم الشباب وقدست *** روح الشجاعة فيك والإقدام

فمكث عنده فترة طويلة يتلقى العلم، وحفظ مجموعة من المتون في التوحيد والفقه والحديث وعلم الفرائض والنحو، وبعد عودته من رحلته العلمية المباركة أخذ يحضر مجالس علماء بلده أمثال الشيخ العلامة عبدالرحمن السعدي وغيره من علماء القصيم - رحمهم الله جميعا- ثم شخص إلى مدينة الرياض فقرأ على أشهر العلماء بها – آنذاك -بتوسع أهله أن يعمل في سلك القضاء مبكرا، حيث عين قاضيا في مدينة عنيزة بعد الشيخ عبدالرحمن بن علي العودان في الفترة من 1370/1375هـ ثم عاد إلى مدينة الرياض مرة ثانية وعين عضوا بدار الإفتاء، فتدرج في عمله، وأخيرا رئيسا للهيئة الدائمة لمجلس القضاء الأعلى – رحمه الله -، فحياته كلها علم وعمل مشرف:

وأحسن الحالات حال امرئ *** تطيب بعد الموت أخباره

يفنــــى ويبقى ذكره بعده *** إذا خلـــت مــن شخصه داره

ولقد سعدت بمعرفته عن قرب في أثناء زيارتي لشقيقي الراحل عبدالله بدار الإفتاء وهو في ذروة عمره وصحته يملأ العين هيئة ولطفا، حيث كان الشيخ عبدالله عضوا بارزا بها -كما أسلفنا آنفا -وقبل وفاته بعامين تقريبا تجدد اللقاء به في مزرعة فضيلة الشيخ إبراهيم بن عبدالله العجلان قاضي تمييز بالرياض سابقا، وكان ضيفا عنده فما كان من الشيخ عبدالله -يرحمه الله -إلا أن دعا الحضور لتناول طعام الغداء بعد أسبوع أو أسبوعين في نفس مزرعة الشيخ إبراهيم بالقرينة مراعيا ظروف الحضور ولأجل الاستمتاع بالخضرة وفسائل النخيل المغطية مساحات واسعة من الأرض، فهو كله كرم ولطف وأدب جم رفيع يحفظ جيد الأشعار ويفيض على صحبه من جيد الحكم والأمثال ليؤنسهم ويشحذ هممهم للمشاركة، وعلى أي حال فإن هذه الأسطر القليلة لا تفي بالتنويه عن ذكر سيرة -أبو عبدالرحمن - العطرة بحسن الثناء:

ثناء الفتى يبقى ويفنى ثراؤه *** فلا تكتسب بالمال شيئا سوى الذكر

فقــد أبلت الأيـــام كعبا وحاتما *** وذكرهمــا غض جـــديد إلى الحشر

رحمه الله رحمة واسعة، وألهم ذويه، وأبناءه، وبناته، وزوجاته، ومحبيه الصبر والسلوان.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

أبو دلامة الثاني إلى رحمة الله (<!--)

(الفاضل / محمد بن ضيف الله الوقداني رحمه الله)

 

إلى الله أشكو لا إلى الناس فقده  **  ولوعة حزن أوجع القلب داخله

جميل جدا أن يعيش المرء في هذه الدنيا محبا ومحبوبا لدى إخوته وأقرانه، ومع أسرته ومحبيه متصفا باحترامهم، ومتمتعا بالآداب الحسنة، ولين الجانب طيب المعشر، فإن الأذان تطرب لسماع حديثه أو التحدث عنه، والألسن تستعذب ذكره في كل مناسبة..، فإن خطر على البال خياله وشخصه سر وإن بعد مكانه، وهذا من نعم المولى على كل إنسان يتصف بهذه الصفات الحميدة، ونحمد الله أن هذه الصفات مجتمعة من سمات الصديق الشاعر الفكه الأستاذ الفاضل / محمد بن ضيف الله الوقداني (أبو عادل) وشهرته أبو دلامة، الذي رحل عنا يوم عيد الفطر المبارك لهذا العام 1432هـ ، فبينما كنت مسرورا بحلول العيد السعيد مع مجموعة من الأصدقاء والمعارف نتبادل التهاني والتبريكات إذا برنين الهاتف يحمل نبأ وفاة علم عال من أعلام الشعر الفصيح بمدينة الطائف أولى المصائف الجميلة، حيث تكرر إعلامي وتعزيتي في وفاة صديقنا الأستاذ / محمد بن ضيف الله الوقداني من قبل الزملاء الأفاضل: محمد وصل الله الثبيتي، عبدالله بن عبدالرحمن السلامة، عبدالرحمن بن سعود العجاجي، وكل أولئك الأحباب من زملاء الدراسة بدار التوحيد وقد حزنت على رحيله وبعده عن أحبابه وزملائه حيث كان علماً  بارزا بالساحة الأدبية، وكان دوما يتغنى بمحضنه -أم المدارس  دار التوحيد – متذكرا أيام الدراسة الحلوة بها والشمل جامع له مع زملائه في تلقي العلم وحلو رضابه على أيدي مشايخه النخبة المختارة من فطاحل علماء الأزهر الذي عنى الشاعر أمثالهم بقوله:

قم في فم الدنيا وحيي الأزهرا **  وأنثر على سمع الزمان الجوهرا

ويحسن بي أن أذكر بعض أبيات القصيدة التي قالها بمناسبة الحفل بمرور خمسين عاما على إنشاء دار التوحيد بالطائف قالها متحسرا على إنهاء الدراسة بها، وإسدال ستار النسيان عليها:

الدار قد ودعت عهدا به افتخرت ** ودق في نعشها المحمول مسمار

في ما مضى كنت لا أحصي محاسنها ** ويشرح الصدر آداب وأسمار

خمســـون عاما مضت والدار زاخرة ** تفيض علما ونبع العلم زخار

ويقول الآخر:

خمســـون عاما قد تولت كأنها ** حلوم تقضت أو بروق خواطــف

ولقد ولد الأستاذ الكبير / محمد بن ضيف الله الوقداني (أبو دلامة) بمدينة الطائف وعاش في ربوعها بين أحضان والديه ورفاق دربه من أطفال جيله، ولقد أثرت في حياته الشعرية هاتيك المناظر الجميلة مناظر الطبيعة الخلابة والبساتين الحافلة بأزهار الورود الفواحة، وأنواع الفواكه لذيذة الطعم والمأكل الذي عاش على مقربة منها، ومن أبرز البساتين بساتين المثناة  -آنذاك – المتربعة على حافات وادي وج قبالة مسجد (عداس أو المدهون) الأثري ومنارته العالية التي تعتبر من المعالم البارزة هناك فلم تؤثر فيها عوامل التعرية ولا هوج الرياح حتى زمننا الحاضر، ولقد تلقى تعليمه بالمرحلة الابتدائية بالمدرسة السعودية الواقعة عند باب الريع ثم أكملها بالمدرسة العزيزية  بنفس المدينة بعد ذلك واصل الدراسة بدار التوحيد حتى حصل على الشهادة الثانوية بها فهو يعتبر من أعمدة النادي الأدبي العملاق خلال فترة دراسته بالدار 1377/1381/1382هـ كما ذكر ذلك لي سكرتير النادي الأستاذ / عبدالرحمن بن سعود العجاجي ومحمد بن وصل الله الثبيتي، علما أن أول من أسس  نادي دار التوحيد الشيخ / عبدالله بن محمد بن خميس – رحمه الله – عام 1366هـ هو وزملاؤه الأفاضل الذين رحل معظمهم إلى -رحمة الله -، والحقيقة أن منبر نادي الدار تعاقب  على إحيائه واستمراره أفواج متتابعة من الطلاب والمبدعين حتى انطوى فيء الدار، فقد خرج العشرات من العلماء والأدباء والخطباء، وطيب الله ثرى الملك عبدالعزيز المؤسس لدار التوحيد عام   1364هـ، ورعاية أبنائه البررة لها من بعده -تغمدهم الله بواسع
رحمته -، ثم اتجه أبو عادل إلى كلية الشريعة واللغة العربية في مكة المكرمة حتى نال الشهادة العالية من كلية اللغة العربية بها  1385/1386هـ  فعمل مدرسا بالمرحلتين المتوسطة والثانوية، ثم رشح للعمل موجها و مشرفاً تربوياً مدة تزيد عن عشرين عاماً حتى تقاعد، وكان متمكناً من زمام الفصاحة في مادته مرناً في تعامله مع المدرسين مخلصا في توجيههم يشعرهم أنه معين لهم لا مفتشا لإبعاد الرهبة عن بعضهم وخاصة الجدد حديثي التدريس، وهذا يدل على نضجه وحنكته – يرحمه الله – وله من المؤلفات ديوان شعر صدر من النادي الأدبي بالطائف عام 1418هـ بعنوان  (صدى الأيام) يحتضن بين دفتيه مجموعة من القصائد جزلة الأسلوب، ومجموعات من الشعر الفكاهي فهو متفانيا في حب دار التوحيد تفانيا ملحوظ، كما هو واضح في هذين البيتين مخاطباً للدار:

يا دار إن دارت الأيام دورتها  **   إنا على العهد في صدق المواعيد

فكل من عاش منا سوف يذكرها **  ولن نبالي بأشباه الجلاميد!!

ولسان حالي يردد هذا البيت :

ومهما أنسى من شيء تولى **  فإني ذاكرا(دار التوحيد)

 وكان لنا معه بعض الذكريات الجميلة وتبادل الزيارات بيننا وبينه وزميله الأستاذ / محمد بن وصل الله الثبيتي، كما جرى بيننا وبينهما مداعبة خفيفة تخيلية حيث هاتفاني وهما قادمان من الطائف، وعلى مقربة من حريملاء قائلين سنتناول طعام الغداء عندك، ثم نواصل السير إلى الرياض لحضور مأدبة العشاء التي يقيمها الأستاذ / عبدالرحمن بن سعود العجاجي بأحد المتنزهات الرحبة شمال الرياض لجميع الطلاب الذين درسوا بدار التوحيد، وبعده بعام الأستاذ / موسى بن محمد السليم ثم الأستاذ / صبحي الحارثي.. ، فقلت أهلا وسهلا سأذبح لكما جملاً سميناً، فما كان مني إلى أن ذهبت لأحد الجزارين حول منزلنا فاستعرت منه رأس جمل مؤقتاً فوضعته على عتبت الباب الخارجي كي يرياه عند حضورهما، فقد ساورهما الشك في البداية! وهكذا تجري بعض المداعبات الخفيفة مع الزملاء، فالذكريات مع (أبو عادل) ومع طلاب الدار لا يمحها ماحي مدى عمري-رحمه الله رحمة واسعة -وألهم ذويه وابنه عادل وشقيقاته وأم عادل ومحبيه الصبر والسلوان.

ورحلت طيبة الذكر ( أم حمد الثاقب ) (<!--)

 

لها منزل تحت الثرى وعهدتها  ***  لها منزل بين الجوانح والقلب

شاء المولى أن يتزامن غروب شمس يوم الإثنين 5/11/1432هـ -وتتوارى خلف الأفق البعيد بعد رحلتها اليومية المتكررة سابحة في أجواز الفضاء الرحب إلى ما شاء الله – مع الغروب النهائي عن الدنيا لروح الأخت الفاضلة سارة بنت الخال عبدالعزيز المطرود – أم الأستاذ حمد بن سعد الثاقب رحمها الله -، وقد بلغني النبأ المحزن عن رحيلها عبر رسائل الجوال، والواقع أني تأثرت وحزنت كثيرا على فراقها، وبعدها عنا بعدا لا يرجى إيابه، فهي امرأة صالحة بارة بوالديها ووافية مع زوجها سعد بن عبدالعزيز الثاقب، ولا سيما عندما علته كبرة وطال به المرض، واشتدت حاجته إلى معين ومسل يدفع عنه هموم الشيخوخة، ويفسح له باب الأمل وسعة الخاطر، ولقد أحسن الشاعر حفني بك حيث يقول:

وعللوهــــــم بآمـــــــال مفرحـــة  ***  فطالما ســــــرت الآمــــــال محزونا

لولا الأماني فاضت روحهم جزعا *** من الهموم وأمسى عيشهم هونا

ولقد قامت بخدمة زوجها وبتمريضه خير قيام حتى خُلعت عن جسمه الطاهر ملابس الدنيا، وأدرج بالأكفان في حلة الراحلين، واستمرت في الدعاء له بالمغفرة كلما جال بخاطرها ذكره، وهذا هو عين الوفاء منها – رحمها الله – وكانت عطوفة على الضعفة والمساكين، وذات صلة مع القربى، ومع معارفها تبارك لهم وتهنئهم في مناسبات الأعياد وفي أفراحهم، كما تواسيهم في أتراحهم وأحزانهم، فكلها وفاء وحب للآخرين:

وما كنت إلى كوكبا كان بيننا  *** فبان وأمسى بين أشكاله نجم

ولقد اكتظ جامع الملك خالد بالمصلين رجالا ونساء عقب صلاة عصر يوم الثلاثاء 6/11/1432هـ، ثم حملت على الأكتاف حبا واحتراما لها إلى مقبرة أم الحمام بالرياض والحزن بادٍ على أبنائها وأحفادها ومحبيها، ثم انصرفوا مودعين لها ولوعات الفراق ساكنة بين أضلعهم داعين لها بالثبات عند السؤال والمغفرة – تغمدها المولى بواسع مغفرته-:

كم راحل وليت عنه وميت ***   رجعت يدي من تربه غبراء

وكانت على صلة بنا على فترات متقاربة عبر الهاتف، تسأل عن الصغير والكبير من أسرتنا مكررة الترحم على والدتي ابنة عمتها جدتنا طيبة الذكر نورة بنت عبدالرحمن المطرود, وشهرتها-أم العمران رحمها الله -وآخر محادثة مع أم حمد معي قُبيل رحيلها عن الدنيا بحولي عشرة أيام أو تزيد بقليل، رغم ما تكابده من أمراض متعددة وتجاذب أنفاس، فأمطرتني وابلاً من الأدعية الصادقة, وكأنها قد أحست بدنو اجلها فأبت إلا أن تودعنا وداعاً أبدياً راجية من المولي أن يجمعنا بها في دار الخلود والنعيم المقيم. وعندما وارتها الترب تذكرت اللحظات المبطنة بالحزن وتلك الأدعية التي استمدتها من نهر حبها لي ولوالدتي فازداد طوفان الحزن ولوعاته بداخلي. ومن ذكريات طفولتي التي لاتنسى ترددي على منزل ولديها بحكم القرابة, وفي مواسم الأعياد حيث تمنحنا والدتها لطيفه بنت سعد الداود العيديه التي هي عبارة عن أقراص الفتيت أو السهو الذي هو من حبات القمح تنقع بالماء ثم تحمس ليسهل قرضها، وهو جهد المقلين في تلك الحقب البعيدة. وفي ذات  مرة من المرات تناولت طعام العشاء معهم الذي يقدم بعد صلاة العصر ولا انسى حلاوته حيث إنه يطعم بشيء من الكمأة الطرية (الفقع)، وقليل من الجراد المملح، فهو طعام لذيذ وشهي، وأذكر جيدا أن أم حمد التي تكبرني بسنوات تدفع بيدها بعض حبات الجراد والكمأة تقديرا لضيفهم, فهي منذ فجر حياتها جبلت على حب البذل وإيناس من يزورهم, ولا أملك الآن سوى الدعاء لها من أعماق قلبي مردداً قول شاعر النيل حافظ إبراهيم:

قضيت حياة ملؤها البر والتقى*** فأنت  بأجر المتقين جدير

-رحمها الله رحمة واسعة -وأسكنها فسيح جناته, وألهم ذويها وأبناءها وبناتها وشقيقها اللواء عبدالله ومحبيها الصبر والسلوان.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 


الشيخ / سعد المبارك توارى عن الوجود

 وبقي ذكره الطيب (<!--)

 

طوتك يا سعد أيام طوت أمما *** كانوا فبانوا وفي الماضين معتبر

الإنسان الذي له مكانة عالية في نفوس أسرته ومجتمعه إذا خلت من شخصه داره، وغاب جسمه عن الوجود، فإن ذكره الطيب وأصداء نبرات صوته ترن في الأذان التي كانت تسمع منه في حياته، وتبقى مجلجلة بين الجوانح والأضلاع مدى الأيام، فما أجمل التحلي بالأخلاق وهدوء الطبع ولين الجانب، وهذه الصفات الحميدة لا تكلف من مَنّ الله عليه بها، فهي حلة لا تبلى تُميل النفوس إلى حب صاحبها واحترامه، وتجعل بعضهم يقتدي به وبفعاله الحسنة، فالله جل ذكره قد أثنى على سيد الخلق بالتواضع وحسن الخلق في أول سورة القلم (وإنك لعلى خلق عظيم) الآية 4، وهذه منة من المولى يمنحها من يشاء من عباده الصالحين، ومن أولئك الرجال المعروف عنهم الصلاح والتواضع الجم العالم الورع فضيلة الشيخ / سعد بن محمد بن فيصل المبارك، وقد ولد في موطنه حريملاء عام 1327 تقريباً في بيت علم وشرف ودين، فأبوه عالم جليل رباه وأحسن تربيته وقرأ القرآن مجوداً ثم حفظه عن ظهر قلب على أبيه، وكان يدارسه إياه، ثم شرع في طلب العلم بهمة عالية ونشاط ومثابرة فقرأ على علماء بلده حريملاء ولازمهم زمنا، ومن أشهر مشايخه فيها أبوه الشيخ / محمد بن فيصل، وأبناء عمه الشيخ / فيصل بن عبدالعزيز و الشيخ / إبراهيم بن سليمان المبارك الراشد، وعلى الشيخ / سعد بن عبدالعزيز الملهمي، كما رحل إلى المجمعة فقرأ على العلامة الشيخ / عبدالله العنقري ولازمه وقتاً من الزمن، ثم رحل إلى الرياض فقرأ على علمائه في الأصول والفروع وعلوم اللغة العربية، ومن أشهر مشايخه مفتي الديار السعودية الشيخ / محمد بن إبراهيم وأخوه الشيخ/ عبداللطيف آل الشيخ، ثم جد في الطلب والمثابرة مع ما وهبه الله من قوة في الحفظ وسرعة الفهم، فنبغ في فنون عديدة أهلته إلى القضاء فتولى القضاء في مدن كثيرة منها: مرات، و وادي الدواسر، وقرية العليا، والرياض، وشقراء فكان في قضاياه مثالاً في العدالة حازماً محبوباً عندهم، وله المكانة المرموقة والكلمة المسموعة وكان الشيخ / محمد بن إبراهيم يأنس به وبقضائه، وقد درس سنين وتخرج على يديه طلبه كثيرون، وكان على جانب كبير من الأخلاق العالية والإخلاص في أداء عمله وميله إلى الصلح بين المتخاصمين في بعض الحالات التي يسهل حلها والرضى بين الطرفين، واستمر في عمله حتى وافاه أجله المحتوم، فلبى نداء الحق في مدينة شقراء ليلة الخميس 24 رجب 1398هــ وصلى عليه جموع غفيرة رجالاً ونساءً بعد صلاة ظهر الخميس... ، وقد حزن الكثير على رحيله، والعزاء في ذلك أنه قد خلف ذرية صالحة من الأبناء والبنات معظمهم قد تسنم مناصب مرموقة ومشرفة متحلين بصفات حميدة، وقد رثاه أخوه الشيخ الأديب فيصل بمرثية قوية مطلعها:

بكيت أخــــــي سعـــــداً ولا مثله سعــد *** ولا مثلــــه ابن وليــس لــه نـــد

موطــــأ أكناف مــــع النــاس كلهــم *** يذكـــرنا بالصالحـــين إذا عــــدوا

لئن كانت الأمجاد تبنى على الحجى *** فأوفر حظ في العلا لك يا سعد

ولي مع الشيخ (أبو مبارك) بعض ذكريات الطفولة وعمري يقارب الخامسة حيث ذهبت إلى محلة الوسيطا (مجمع سكني أسرة آل مبارك أمراء حريملاء) – آنذاك -لأشاهد أول سيارة في حياتي متوقفة على مقربة من منزل الشيخ / محمد بن فيصل والد الشيخ / سعد، وإذا به يخرج من بيت والده ويدخل في البيت المقابل له، وعليه مشلح وملابس جديدة لفت نظري في أناقته فبهرني ذلك المنظر، فما كان مني في تلك اللحظة إلا أن ذهبت مهرولاً إلى المحلة (الحارة) المجاورة لأبلغ بعض رفاقي قائلاً بكل براءة وبساطة: (شفت الرسول وتعالوا لتروه)، فالشيخ / سعد -يرحمه الله -طبع على الأناقة وجمال المظهر مبكراً حتى غادر الحياة مأسوفاً على رحيله؛ لأن سكان الأرياف والقرى أصحاب حرف وفلاحه قل أن ترى عليهم ملابس جديدة إلا في أيام الجمع والأعياد، ولقد ظلت صورة الشيخ ماثلة في مخيلتي حتى الآن، فهذه الأسطر مجرد خاطرة من وهج الذاكرة:

وإنما المرء حديث بعده *** فكن حديثاً حسنا لمن وعى

             - تغمده الله بواسع رحمته -

 


رحم الله الزميل محمد بن أحمد العثيمين -  أبوأحمد(<!--)

 

وما أحدٌ كان المنايا وراءَهُ  ***  ولوعاش أياما طوالا بسالم

المفاجآت المحزنة غير المتوقعة التي تحمل في ثناياها نبأ فقد غال ضربها علي القلوب موجع جدا ولاسيما اذا كان الراحل قريبا، أوصديقا حميما، فبينما كنت متناولا جهاز الهاتف متصلا على منزل الصديق الأستاذ الحبيب محمد بن أحمد العثيمين أحد زملاء الدراسه بدار التوحيد بالطائف للسؤال عن صحته وصحة أسرته فلم يجبني هذه المرة:

أناديهم والأرض بيني وبينهم  ***  ولو يسمعوا صوتي أجابوا فأسرعوا

بل أجابني ابنه الفاضل الأستاذ وليد محيياً لي، وفي أثناء الحديث معه قلت: الوالد قريب أُسلم عليه؟ فتغيرت نغمة صوته فجأة قائلا: إنه بعيد جداً فعلمت أنه قد لاقي وجه ربه، وأنه ليس بإمكانه أن يرد علي بصوته المعتاد بقوله: كيف حالك يا (أبوعبدالرحمن) ثم ما يلبث أن يذكرنا بأيامنا الجميلة أيام الدراسة بدار التوحيد عام 71/1372هـ، أيام الجد والتنافس في التحصيل العلمي، ولقد حزنت حزنا شديداً علي رحيله وبعده عنا حيث انتقل الي دار الخلود -رحمه الله -بعد صلاة فجر يوم الجمعة 15/12/1432هـ فتزامن طلوع الشمس المشرقة على مساحات شائعة من هذا الكون العريض..، مع خروج روحه المصاحبة لجسده الطاهر(فمفترق جاران دارهما العمر).

وقد أديت عليه صلاة الميت بعد صلاة عصر يوم الجمعة، ودفن بمقابر حي النسيم شرقي مدينة الرياض، فشيع جثمانه الطاهر خلق كثير من محبيه من زملائه ومعارفه حتى أنزل في مرقده تحت الأرض داعين له بالمغفرة والثبات عند السؤال، وطيب الاقامة إلي أن يأذن الله بنهوض جميع الخلائق ليوم الحساب.

ولقد ولد وترعرع في مدينة عنيزة إحدى كبريات مدن  القصيم، وكان يوصف بالهدوء ودماثة الخلق مع زملائه وأترابه حتى أكمل المرحلة الابتدائية هناك، ثم شخص الى مدينة الطائف فالتحق بدار التوحيد حتى نال الشهادة الثانوية عام 1373هـ؛ فواصل الدراسة بكلية الشريعة واللغة العربية بمكة المكرمة حتى حصل على الشهادة العالية بها عام 1378هـ، أما أنا فقد أكملت دراستي بالرياض حتى نلت الشهادة العالية بكلية اللغة العربية عام 1378هـ.

وقد تم تعينه -رحمه الله -موجها بإدارة التعليم بالرياض، ثم اتجه إلى الجزائر رئيسا للبعثة التعليمية عام 1383هـ ، بعد ذلك عين مديراً عاماً للتعليم بمنطقة نجد – آنذاك – ولقد حصل على دبلوم عالٍ في الإدارة التعليمية من جامعة أوكلاهما في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1394هـ ، ثم عين ملحقاً تعليمياً في دولة البحرين من عام 1396هـ حتى عام 1408هـ ، بعد ذلك عاد وعين مديراً لإدارة البعثات بوزارة التعليم العالي الى أن تقاعد حميدة سيرته وأعماله - رحمه الله -وكان أثناء عمله موجها ادارياً يقوم بجولات على المدارس التابعة لإدارة التعليم خارج الرياض فيؤدي عمله على خير ما يرام معيناً للموظفين الإداريين أثناء النقاش مهم حول تنظيم أعمالهم المنوطة بهم التي تتعلق برصد العهد بالسجلات من أثاث ومقررات دراسية وإحصائيات دورية عامة، فكل عمله يتصف بالإخلاص وبالسهولة، وحسن التعامل مع الجميع، بل انه لايكتفي بالمشافهة حيث يدون بعض ملاحظاته والنقاط المطلوب تنفيذها من قبل الموظف الإداري ليسير بموجبها، فلا يحس الموظف بصلف أو بتعالٍ منه، بل يجد منه اللطف وإدخال السرور عليه وشكره وتشجيعه، ليزداد نشاطه وتنظيمه، فهو حبيب لمن يلتقي به، ولقد عثرت منذ سنوات قريبة علي ورقة مستقلة قد دون فيها بعض ملاحظاته ليستنير بها الموظف المختص، فدعوت الله له بالسعادة وصلاح العَقب، فاعتبرت تلك القصاصة من الآثار الحميدة ومن الذكريات الجميلة التي لا تنسي مع (أبو احمد) تغمده الله بواسع رحمته:

وإنما المرء حديث بعده   ***   فكن حديثاً حسناً لمن وعى

ولنا معه أحلى الذكريات الحبيبة الى قلوبنا أثناء دراستنا بالطائف:

بلاد بها كنا ونحن من أهلها    ***   إذ الناس ناس والزمان زمان

منها استذكار الدروس حيث كنا معشر الطلاب نذهب جماعات ووحدانا الى بعض الأماكن التي تتصف بالهدوء وبجمال الطبيعة في أطراف النهار والآصال، فنتفيء الظل في جوانب جبل (أم الآدم) الواقع غربي مدينة الطائف المتربع علي هاتيك الميادين، والمطل على بساتين المثناة – آنذاك -الحافلة بالأشجار الظليلة، وبأنواع الفواكه حلوة المذاق من رمان وكروم وتين وغير ذلك من الفواكه، وقد تطربنا او تبكينا أصوات بعض الطيور من فوق أشجارها مثل البلابل وهي تشدو وهديل الحمام ونوحها وبكائها -أحيانا -فتذكرنا بأهالينا كمغتربين حالت بيننا وبينهم طوال البيد والفلوات.

حمـــــــام الأيك مالك باكيا  ***  أفارقت خلا أم جفاك حبيب

تجاوب ورقاً قد أصخن لصوتها ***  فكلٌ لكل مسعد ومجــيب

وعندما تدنو الشمس لمغيبها عنا في خدرها نرجع، وقد استفدنا من وقتنا حفظا وقراءة ومدارسة فيما بيننا..، وهكذا يكون استثمار الأوقات في استذكار الدروس، وقد اشتهر طلاب الدار منذ تأسيسها علي يد جلالة الملك عبدالعزيز (طيب الله ثراه) عام 1364هـ بالجد والمثابرة في التحصيل العلمي والنشاطات الثقافية والخطابية والشعرية معاً عبر منبر ناديها الأدبي على تعاقب أفواج الطلاب في تلك السنين الماضيات حتى انطوى فيئها وظلها مُعلنا نهايتها...!!  ولم يبق منها سوى رنين الذكريات لأيامها ولياليها المقمرة التي تقاوم عهدها... وعلى أي حال فإن الأستاذ الحبيب محمد بن أحمد العثيمين قد غادر الحياة الدنيا إلى العالم الباقي مأسوفاً على فراقه بعد حياة حافلة بالأعمال المشرفة والسمعة المعطرة بالثناء طيلة تربعه على المناصب المرموقة وحسن التعامل مع الأخرين داخلياً وخارجياً..، وقد ملأ عينيه وأمتعهما قبل إغماضهما وانطفائهما عبر رحلاته المتعددة العملية والسياحية، والعزاء في ذلك كله أنه خلّف ذرية صالحة تدعو له، وتجدد ذكره الطيب بالأعمال المشرفة وإخلاصهم في خدمة وطنهم وأهله وإكرام محبيه (رحمه الله رحمة واسعة  وألهم ذويه وابناءه وابنته وزوجته -أم أحمد -وإخوته وأخواته الصبر والسلون).


ورحل طيب السجايا(<!--)

 (الفاضل/ عبدالله بن الشيخ محمد بن فيصل آل مبارك)

 

فتى عاش يبني المجد تسعين حِجةً **  وكان إلى الخيرات والمجد يَرْتقي

ففي الصباح الباكر بعد صلاة الفجر من يوم الأحد 2/1/1433هـ هاتفني الأخ الصديق الوفي منصور بن الشيخ محمد بن صالح بن سلطان قائلاً إن العم الفاضل/ عبدالله بن الشيخ محمد بن فيصل آل مبارك عميد أسرة آل مبارك والد اللواء محمد قد انتقل الى جوار ربه في ليلة الأحد، وكان لذاك النبأ وقع محزن في نفسي مُتذكراً أفضاله وسيرته الحسنة بعد حياة طويلة حافلة بالإخلاص في أعماله الوظيفية، وحسن تعامله مع الغير، وقد صلي عليه بعد صلاة العصر بجامع الملك خالد بأم الحمام ثم وري الثرى جثمانه بمقبرة مشرفة بمحافظة حريملاء، ولقد ولد في حريملاء عام 1326هـ تقريباً، وختم القرآن الكريم بأحدى الكتّاب لتحفيظ القرآن الكريم، وعاش طفولته بين أحضان والديه وتربى في بيئة علم وكرم في بيت والده الشيخ الجليل محمد بن فيصل آل مبارك، مع أخوته المشايخ القضاة: فيصل وسعد رحمهم الله، وعبدالعزيز متعه الله بالصحة والعافية، وبعدما كُبر انتقل مع عمه الأمير علي بن عبدالله إلى مدينة الوجه، ثم أنتقل الى مكة المكرمة وعمل بالحسبة مع شقيقه فيصل بن محمد، بعد ذلك انتقل الى مدينة الرياض وعمل في هيئة النظر بأمانة بلدية الرياض في زمن رئاسة الأمير فهد الفيصل حتى تقاعد، وكان بشوش المحيا مع المراجعين يسهّل أمورهم ويبصرهم بالأساليب النظامية ليستفيدوا منها في تلك الحقبة البعيدة، وخاصة الفقراء والمساكين والأرامل فيحثهم على تقديم طلباتهم لتمنحهم الدولة ممثلة في أمين العاصمة قطعاً من الأراضي لسكْناهم وأسرهم، فكله نصح وإخلاص، وكان من ضمن المكرمين في حفل بهيج بالأمانة لتكريم المتقاعدين ومنحهم الشهادات التقديرية، ولقد لازم والده وقتاً طويلاً استفاد منه علماً وأدباً وحنكة أكسبته الصفات الحميدة سعة في الأفق ودماثة خلق ومرونة في الأعمال وحسن التصرف والتحبب للأخيار، والمبالغة في إكرام الأسرة وأصدقائه ومحبيه، فوجهه (يرحمه الله) لا يمل إكرام الزوار وإيناسهم بالأحاديث الشائقة والقصص الهادفة والطرائف التي تنحدر من مخزون ذاكرته فتلوي أعناق الحضور منصتين إليه، فأسلوبه سلس يتصف بالسهولة، فهو رجل اجتماعي ومحبوب يقضي الكثير من الأمسيات في قصر صديقه الشيخ محمد بن صالح بن سلطان (رحمه الله) هو وبعض الأصدقاء أمثال الأستاذ مبارك بن عبدالله المبارك وشقيقه الراحل راشد (رحمه الله) يقضون الساعات الطوال في تجاذب أطراف الأحاديث الشائقة والمطارحات الأدبية، ومايتخللها من طرائف ومداعبات تؤنس الحضور، ولكنها الأيام تجمع وتفرق بعد طول عشرة ووئام، ولسان حال من بقي من أولئك الصحب الذين غابوا عنا يرددون قول الشاعر:

حالت لفقــدكم أيامنــا فغـــدت ** سوداً وكانت بكم بيضاً ليالينا

لِيُســــقَ عهدكــــم عهد السرور فما ** كنت لأرواحنا إلا رياحــــينا

وكان أبو محمد (رحمه الله) لا يفوته يوماً فيه أجر وصلة وبر، يواسي الأسر في أتراحهم ويصلي على موتاهم حتى في اُخريات حياته رغم عدم قدرته على المشي لتقادم عهده بأيام الشباب والفتوة، كما يحضر أفراحهم ومناسباتهم الجميلة، فكلا الحالتين من طبعه وسجاياه الحسنة. ومن صفاته الحميدة التي لم يسبق إليها استمرار عيد أسرته في منزله أكثر من أربعين عاماً بدون انقطاع، وبعد صلاة الجمعة من كل أسبوع يتزاحم الزوار في منزله من أقارب وأصدقاء حتى رحل إلى دار النعيم المقيم -تغمده الله بواسع رحمته -مخلفاً ذرية صالحة تدعو له وتجدد ذكره بأعمالهم المشرفة "أجزل الله له الأجر والمثوبة". وكان من محبي الحضور إلى المنتديات الأدبية والثقافية؛ أذكر أنه حضر الى حريملاء منذ عقود من الزمن لزيارة أخيه الشيخ الأديب فيصل الذي حضر من جده ليستمتع بالإجازة ويأنس بأصحابه وبالجلوس في مزارعهم ونخيلهم المسماة (بالعضيبية) وفي تلك الأثناء حضر هو وأخوه الشيخ فيصل إلى نادينا بمعهد المعلمين -آنذاك -كما أنه يحضر باستمرار الحفل السنوي لتكريم حفظة القرآن الكريم بالمدرسة الصالحية التي أسسها ويمولها الشيخ محمد بن صالح بن سلطان – رحمه الله – وعلى أي حال فإن الأخ الفاضل عبدالله بن محمد الفيصل من الرجال الذين يألفون الحضور الى مجالس الذكر والمنتديات الثقافية..، كما أنه قد طُبع على الكرم وصلة الرحم هو وزوجته الطيبة ابنة الخالة لطيفة بنت عبدالعزيز بن محمد العجاجي؛ أذكر جيداً أنها إذا زارت خالها -خال والدتها -والدنا الشيخ عبدالرحمن بن محمد الخريف – رحمه الله – تهدي إلية كسوة: ثوب وغترة شماغ، وكانت لتلك الكسوة بالغ الأثر والسرور في نفس والدي -رحمهم الله جميعاً -وأسكن الراحل -أبو محمد -فيسح جناته وألهم ذويه وابناءه وبناته، واخاه الشيخ عبدالعزيز وجميع أسرة آل مبارك ومحبيه  الصبر والسلوان. ولقد أجاد الشاعر طَرَفَة بن العبد حيث يقول:

لعمرك ما الأيام إلا معارة **  فما أسطعت من معروفها فتزود


رحم الله معالي الشيخ صالح الحصين(<!--)

          

تولى وأبقى بيننا طيب ذكره  ***  كباقي ضياء الشمس حين تغيب

ففي مساء يوم السبت 24/6/1434هـ  فقد الوطن علماً من أعلام الفكر ورجلاً محنكاً من رجالات الدولة المخلصين المميزين البارزين، حيث وافاه أجله المحتوم وقد أديت عليه صلاة الميت بعد صلاة عصر يوم الحد 25/6/1434هـ بجامع الراجحي، وقد ضاق المسجد بجموع غفيرة يتقدمهم صاحب السمو الملكي الأمير مقرن بن عبدالعزيز النائب الثاني، وصاحب السمو الملكي أمير منطقة الرياض الأمير خالد بن بندر بن عبدالعزيز وعدد من الأمراء والوزراء، وكان لغيابه بالغ الحزن والأسى في النفوس على كافة المستويات لما يتمتع به من تواضع وأدب جم رفيع، وسعة أفق في بحور العلوم العامة والخاصة مع إلمامه ببعض اللغات الأجنبية، فهو قامة عالية في المحافل الداخلية والدولية، ولقد ولد في مدينة شقراء مدينة العلم والعلماء في أوائل الخمسينيات..، في بيت علم وأدب، وعاش طفولته بين أترابه وأقرانه محبوباً لديهم لسماحة محياه وهدوء طبعه مبتعداً عما يشينه، وقد ألحقه والده بإحدى الكتاب لتحفيظ القرآن الكريم وتعلم الخط، ولفرط ذكائه حفظ القرآن الكريم عن ظهر قلب في سن مبكرة، كما تلقى مبادئ العلم كغيرة من أقرانه على علماء بلده، حيث حفظ عدداً من المتون المعروفة من نحو وتوحيد وفقه وحديث....الخ، مما أهله ذلك إلى الالتحاق بدار التوحيد بالطائف – أم المدارس آنذاك – حتى حصل على الشهادة الثانوية بها عام 1370هـ مواصلاً الدراسة بكلية الشريعة واللغة العربية بمكة المكرمة حتى نال الشهادة العالية عام 1374هـ، بعد ذلك حصل على درجة الماجستير1960 م،  من مصر في الدراسات القانونية، ثم عين مستشارا بوزارة المالية في عهد صاحب السمو الأمير مساعد بن عبدالرحمن المشهود له بالحزم والترشيد، وبعد ذلك اختير وزير دولة وعضو مجلس الوزراء، ففضيلته كان عضواً في هيئة كبار العلماء، ورئيسا لمركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني. كما تولى عددا من المناصب العالية الحكومية، منها مشرفاً على هيئة الخبراء بمجلس الوزراء، ورئيسا لهيئة التأديب ورئيس عاماً لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي عام 1422هـ، فكلها قمم عالية – رحمه الله رحمة واسعة – وكان محبوباً لدى العامة والخاصة لإخلاصه المتناهي في أداء جميع الأعمال المشرفة التي أسندت إلية ولتواضعه الجم وزهده في �

mager22

فقد ورثاء ( عبد العزيز بن عبد الرحمن الخريف )

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 300 مشاهدة
نشرت فى 30 سبتمبر 2013 بواسطة mager22

وغابت ندية الكف (<!--)

(هيا بنت ابراهيم العمراني رحمها الله)

 

لها منزل تحت الثرى وعهدتها **  لها منزل بين الجوانح والقلب!

وما من شك أن فقد الغالي من أسرة الإنسان من آباء وإخوة أو أقارب وجيران له بالغ الأثر في النفوس يظل أُوار الحزن يعتلج داخل أضلاع المرء المفجوع بغاليه زمنا يطول مداه، فيتجدد كلما تذكره وجال بخاطره بعض من محاسنه ومواقفه المشرفة، وما جرى بينهما من تآلف وأحاديث ودية جميلة ماتعة في ساحة البيئة التي عاشوها، فبينما كنت مضطجعا منتظرا وافد النوم ليلة السبت 26/5/1432هـ إذا بالرنين من هاتف الأخ الشيخ (أبو سليمان) عبدالعزيز بن سليمان الباتلي مخبرا برحيل عقيلته شريكة حياته ورفيقة دربه هيا بنت إبراهيم العمراني أم إبراهيم بنت أخي بالرضاعة إبراهيم بن محمد العمراني -رحمهما الله -قائلا لقد انطفأت مصابيح منزلنا وأظلمت أرجاؤه وسادت الوحشة أجواءه:

ووحشته حتى كأن لم يكن به ** أنيس ولم تحسن لعين مناظره !!

فكان لذاك النبأ وقع كبير من الأسى في نفسي لما كانت تتحلى به من أخلاق عالية، ولصلتي بها حيث كنت عماً لها من الرضاعة وقد خيَّم الحزن على أجواء أسرتها وأبنائها وبعلها وجميع محبيها -تغمدها المولى بواسع رحمته -ولقد عانت ابنة أخي من الأمراض المتعددة ما الله عالم بها، متنقلة من مصح وآخر من مستشفيات مدينة الرياض طلبا للشفاء والعافية، وخوفا من (شعوب) الموكل برحيل جميع الخلائق، وبعد انتهاء مدة إقامتها على متن الأرض أنزل أبناؤها جثمانها الطاهر في باطنها، ونظراتهم في تلك اللحظة الموجعة لقلوبهم تتابع وضع اللبنات على حافة اللحد حتى اختفت عن عيونهم اختفاء نهائيا، وقد رطبت دموعهم جوانب قبرها..، ولك أن تتصور حالهم ولوعات الفراق وهي تغلي بين جوانحهم - كان الله في عونهم -ولقد وصفت -يرحمها الله -بحسن الخلق ورحابة الصدر مع القريب والبعيد، وحبها للخير والبذل في أوجه البر والإحسان للأيتام والأرامل والمساكين، ويقال أن بيتها بمنزلة المستودع الخيري لشهرتها لدى جيرانها في العطف على المحتاجين، فهي تستقبل ما يصل إليها منهم ومن غيرهم من أموال وأرزاق وأثاث وملابس، فتقوم بتلمس أحوال بعض الضعفة والمحتاجين فتمدهم بما يتيسر من ذلك، فشهرتها وتفانيها في حب العمل الخيري جعلها محل الاحترام والتقدير في محيطها الأسري والاجتماعي.. ، فجزاها الله وجزى جميع المحسنين خيرا.

ولقد نشأت يتيمة حيث باكرها اليتم، وقد حرمت من رؤية والدها وحنانه في صغرها، فلذا من الله عليها بالحس الإنساني وشعورها بآلام الأيتام والمساكين، فحبب إليها العمل الخيري حتى قبيل وفاتها، كما لاتنسى نفسها من تلاوة القرآن الكريم بصفة دائمة، فقد انضمت إلى دار التلاوة للأمهات بعد صلاة العصر كل يوم عددا من السنين فسهل عليها حفظ أجزاء من القرآن الكريم وتلاوته، ومما زاد تأثري وحزني مشاهدتي لشقيقها الوحيد الأستاذ محمد بن إبراهيم العمراني جالساً على مقعد قرب قبرها بمقبرة أم الحمام بالرياض، ولم يتمالك الوقوف والمشاركة في دفنها لشدة حزنه على رحيلها، وعيناه تذرفان دموعاً حرى، فحاولت التهدئة من روعه وحزنه والرضى بقدر الله مكررا قول الشاعر:

فلا تبكين في إثر شيء ندامة  **  إذا نزعته من يديك النوازع

غفر الله لها وأسكنها عالي الجنان، وألهم ذويها ومحبيها الصبر والسلوان.

 

 

 

 

 

 


 


 

الشيخ عبدالله بن خميس نجم أفل (<!--)

(المقالة الأولى)

 

علم من الأعلام غيب في الثرى **  فثوى رهين جنادل وتراب

حينما يتوالى أفول الكثير من الأعلام ومن رموز المجتمع السعودي عن الدنيا وساكنيها من علماء وأدباء ورجالات أعمال خيار، فإن ساعات الأنس يقل سرورها لدى مجتمعهم، وعارفيهم لفقدهم، وفقد من كان يملأ العين بهجة وسروراً، ولاسيما من كان لهم دور إيجابي في الحياة علماً وأدباً وكرماً، فإن غيابهم يحدث فراغاً وفجوة واسعة في محيطهم الأسري، وفي قلوب محبيهم لما أسدوه من نعم وأعمال جليلة، وما تركوه من آثار علمية وأدبية ثرة المعرفة أمثال الشيخ عبدالله بن محمد بن خميس لكي تتوارثها الأجيال المتتابعة على مر الدهور والأعصر فيستنير منها القارئ والباحث والمتعلم، وقد رحل عنا -رحمه الله-إلى دار الخلود صباح يوم الأربعاء 15/6/1432هـ حميدة أيامه ولياليه بعد حياة طويلة حافلة بأعمال مشرفة، وطول باع في مجال اللغة العربية وآدابها، وبجيد الأشعار فصيحها وشعبيها، حيث بلغت مؤلفاته أكثر من أربعة وعشرين مؤلفا يتكون بعضها من أجزاء عدة.. ولسان حاله يردد قول الأستاذ الشاعر علي الجندي -رحمه الله-:

يفنى الذي تركوه من ذخائرهم **  وما تركنا على الأيام مدخر

ولقد حزن الكثير على غياب ذاك العلامة الكبير عالي القامة في المنتديات والمحافل الدولية، حيث بعد عن نواظر أحبته - تغمده الله بواسع رحمته -وكانت ولادته في قرية (الملقى) من ضواحي الدرعية عام 1339هـ فحياته كلها علم وأدب بدأ من تلقيه مبادئ القراءة والكتابة في كتَاب الدرعية لحفظ كلام الله، ثم أخذ مبادئ من العلم على يد والده العالم الجليل؛ حيث قرأ عليه عدة كتب من أهمها كتب شيخ الإسلام ابن تيمية، وكتب الشيخ محمد بن عبدالوهاب وبعض كتب التاريخ واللغة العربية وآدابها، مما أثرى حصيلته العلمية والأدبية التي أهلته وشجعته إلى الشخوص نحو الحجاز ليقابل فضيلة مدير المعارف –آنذاك -الشيخ العلامة محمد بن عبدالعزيز بن مانع بمبنى مديرية المعارف المطل على المسعى بمكة المكرمة مبدياً رغبته بالالتحاق بدار التوحيد (أم المدارس)، وبعد أن طرح عليه بعض الأسئلة أعجب بحسن إجابته، وباستعداده الفطري فوجهه إلى الطائف لينضم إلى طلاب الدار هناك، وذلك في بداية عام 1366هـ، وكان الأستاذ عبدالله بن خميس مثالا يحتذى به بين الطلاب، ولاسيما في النشاط الثقافي فهو يزاحم زملاءه بالمناكب ليعلو منبر ذاك النادي الأدبي الذي خرج أفواجا من الأدباء والشعراء، والخطباء وأئمة المساجد، بل إن بعضاً منهم أمَ المصلين بالمسجد الحرام وبعض مساجد الطائف أمثال الشيخين الجليلين: عبدالرحمن الشعلان، وسعيد الجندول وغيرهما -رحم الله الجميع -وبعد أن نال الشيخ عبدالله الشهادة الثانوية بالدار عام 1369هـ واصل الدراسة بكلية الشريعة واللغة العربية بمكة المشرفة حتى حصل على الشهادة العالية بتفوق عام 1373هـ، بعد ذلك تم تعيينه مديراً لمعهد الأحساء العلمي، ثم تسنم مناصب عدة كان آخرها -كما يقال -رئيسا لمصلحة مياه الرياض، ثم طلب التفرغ بعد رحلته الطويلة في العمل للبحث والتأليف والنشر، وقد أثرى الساحة الأدبية والعلمية والتاريخية بعدد كبير من مؤلفاته التي حفلت المكتبة العربية بنصيب وافر منها، كما حاز على جوائز الدولة التقديرية في الأدب، ومنح وسام الملك عبدالعزيز من الدرجة الأولى في مهرجان الجنادرية السابع عشر وذلك في عام 1422هـ، كما حصل على عدد من الأوسمة والشهادات التقديرية الدولية.. فهو عضو فاعل في عدد كبير من المواقع الهامة، والجمعيات الخيرية والإنسانية -فالمجال الآن لا يتسع لإيضاحها وعدها -وكان معنيا بمعرفة تضاريس الجزيرة سهولها وجبالها وآكامها..، وقد أصدر كتابا يتكون من خمسة أجزاء بمسميات تلك الجبال المواكث التي قد علا معظمها وجال بنظره في سفوحها وهضابها:

وكم من جبال قد علا شرفاتها ** رجال فزالوا والجبال جبال

والجدير بالذكر أني قد زودته بهذا البيت قبل إصداره فأنس به ثم وضعه في مقدمة كتابه (معجم جبال الجزيرة) كما سبق أن زودته ببعض قصائده التي كانت تنشر في صحيفة (البلاد) أيام دراسته بمكة المكرمة، فأضافها في الطبعة الثانية بديوانه "على ربى اليمامة" ، فالذكريات مع (أبو عبدالعزيز يرحمه الله) طويلة تخللها الكثير من المواقف الجميلة والطريفة، وتبادل إهداء الكتب المتعددة، كذلك تشريفه منزلي أيام دراستي بكلية اللغة العربية في العام الذي تولى فيه رئاسة الكليتين الشريعة واللغة عام 1376هـ، وزيارته المتكررة هو والشيخ عمر بن حسن آل الشيخ لوالدنا الشيخ عبدالرحمن بحريملاء، ومن تلك الذكريات التي لا تنسى صحبته بسيارته من الطائف عام 1416هـ بعد انقضاء الحفل الكبير المقام بالطائف بمناسبة مضي خمسين عاما على تأسيس الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه -دار التوحيد، عام 1364هـ، وعند وصولنا الرياض تناولنا طعام العشاء في مزرعته ومنتجعه (عمورية) الحبيبة إلى قلبه وملتقى صحبه وأحبته، وقد تخلل تلك الرحلة بعض الأحاديث الشائقة وتداول بعض الشواهد الشعرية، فهو -يرحمه الله-مطبوع على الكرم، وموسوعة شعرية وأدبية وجغرافية محب للقراءة، ومن مآثره الحسان أنه أول من أسس صحيفة الجزيرة الغراء عام 1379هـ المحبوبة لدى كتابها وقرائها، فهي الآن واسعة الانتشار، ولازلت محتفظا بالعدد الأول منها، فأخذ يمدها بالموضوعات الهادفة ويطعمها ببعض قصائده التي تتصف بجزالة اللفظ ومتانة الأسلوب فشعره يحاكي شعر فحول الشعراء، فمن أروع قصائده وأضفاها خيالا قصيدته في وصف الرحلة التاريخية لصاحب السمو الملكي الأمير المحبوب -سلطان بن سلمان بن عبدالعزيز حيث يقول منها :

يـا رائداً نفذ الطباق و جالها **  مالسبق إلا ما شهدت خلالها

صورا من الكون العريض كشفتها **  وسبرت منها كنهها وجلالها

وشهدت شخص الأرض يمعن بعده ** لا تستبين سهولها وجبالها

كما أجاد في وصف رحلته الأخيرة في الولايات المتحدة وكندا وخاصة غرب أمريكا الشمالية بدءا من ولاية كاليفورنيا حتى شرقها مسجلا بعض مشاهداته وذكرياته في هاتيك الأماكن النائية، ومن أحلاها في نفسه تسريح النظر في أبرز متنزهاتها (يوسمتي) الذي يعتبر من أجمل المتنزهات وأطولها مدى، التي تحتضنها تلك الجبال السمر الشاهقات علوا بشلالاتها التي تصب في ذاك الوادي الحافل بكثافات الأشجار، فقد أثارت شجونه تلك المشاهد الطبيعية فجادت قريحته ببعض قصائد الوصف ضافية الخيال منها :

قف بي على النهر يفري الغاب مجراه ** أواه من صوته المأنوس أواه

بين الهضـــاب تعــــالى الله سامقه ** ما أن يرى مثلها في الكون أشباه

فقد طوف في أنحاء تلك القارة الواسعة وملأ عينيه من أبرز معالمها مثل شلالات (نياغرا) الشهيرة، وصعود ناطحات السحاب في نيويورك مرورا بمصانع البوينج في سياتل، و بالسير فوق الجسر الذهبي بسان فرانسيسكو، والسير في جوانبها وغير ذلك من المعالم في تلك البقاع مختتماً هذه العجالة بهذا البيت:

تولى و أبقى بيننا طيب ذكره **  كباقي ضياء الشمس حين تغيبُ

رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته وألهم ذويه وأبناءه وبناته وأحفاده ومحبيه الصبر والسلوان.

 



 

 

 

 

الشيخ عبدالله ابن خميس والذكريات الجميلة(<!--)

(المقالة الثانية)

 

طبعت النفوس على استذكار ما يمر بها من ذكريات ومواقف طريفة وجميلة، وخلاف ذلك عبر السنين المتلاحقة، وخاصة حينما يخلو المرء بنفسه أو ببعض جلسائه ورفاقه، فيحلو له سرد بعض ما علق بذاكرته من أشياء مفيدة ومسلية تؤنس السامعين، وقد تكون سببا في تداعي أفكار الحضور ومشاركاتهم، وإدرار الذاكرة لديهم من مخزونها العذب "مثلا" وتختلف مستودعاتها باختلاف حجم ما يوضع بها ويلصق بجدرانها ورفوفها من معلومات قيمه وقصص تاريخية تستوجب الحفظ والتداول بين أفراد المجتمعات ، فإن عمرها يطول ويحيا مع تعاقب الأجيال جيلا بعد جيل..، وهكذا يحفظ التاريخ وما يتعلق بالتراث، فتلاقح الأفكار وتمازج الحضارات والمشاركات في إيراد ما تُجنه الذاكرة من معلومات، وأخبار قد لا تكون كلها سارة وجيدة، وإنما تذكر للعبرة والاتعاظ، وربما تكون مجرد أحاديث عابرة يتذكر فيها الإنسان ما جرى بينه  وبين شخص عز عليه غيابه وفراقه..، مثل تذكري لشيخي وصديقي الشيخ عبدالله بن محمد بن خميس الذي حزنت على فراقه ورحيله، وعلى خلو الساحة الأدبية والتاريخية من شخصه الغالي التي أثراها بعدد كبير من نفائس كتبه، فبالأمس القريب كان معنا، واليوم وقد شطت به النوى عن أهله وأسرته وأحبته:

حبيب عن الأحباب شطت به النوى **  وأي حبيب ما أتى دونه البعد

-تغمده المولى بواسع رحمته -فذكرياتي معه متعددة المواقف والمواقع والمناسبات..، فمن أقربها إلى قلبي -رغم تقادم عهدها -حضوره من مكة المكرمة إلى نادي دار التوحيد عام 1371هـ أيام كان طالبا بكلية الشريعة واللغة هو ونخبة من زملائه لمشاركتنا وتشجيعنا بنادي طلاب الدار، أذكر منهم على سبيل المثال: عبدالعزيز المسند، عبدالعزيز العبدان، عبدالعزيز الربيعة، صالح العلي الناصر، عبدالله الفالح، سليمان الشلاش، صالح الحصين، محمد المرشد وغير أولئك الطلاب – آنذاك – رحم الله من رحل منهم، وأسعد الباقين إلى يومهم الموعود..، ولا زلت ذاكرا وقوف الشيخ عبدالله أمام باب القسم الداخلي -مهجع الطلبة المغتربين -، الواقع بحي قروى بالطائف، وهو ممسك بيدي مسلما قائلا: طيبون؟، وكانت هذه العبارة هي أول كلمة فصيحة سمعتها منه، لأن معظم كلامنا -آنذاك -تغلب عليه العامية في غالب الأحيان، فهو يرحمه الله مطبوع على الفصاحة واختيار جيد الألفاظ اللغوية باختصار..، وحاثا على الجد والمثابرة في التحصيل العلمي والثقافي كي نعود إلى أهلينا بنجد حاملين المؤهلات المشرفة، فهو بمنزلة الزميل مع فارق العمر بسنوات طويلة، وبمرحلة الدراسة! ، كما لا ننسى الرحلة الميمونة إلى منطقة نجران عام 1411هـ حيث تلقينا دعوة كريمة من أمير نجران -سابقا -الأمير فهد بن خالد السديري وأخوته الكرام لحضور حفل جائزة والدهم الراحل الأمير خالد بن احمد السديري -رحمه الله -للتفوق العلمي برعاية صاحب السمو الملكي الأمير المحبوب أحمد بن عبدالعزيز نائب وزير الداخلية والتي ضمت كوكبة من المشايخ ولفيف من كبار الأدباء والمثقفين، أمثال الشيخ عثمان الصالح والشيخ عبدالله بن خميس -رحمهما الله -، والزميل الأستاذ عبدالله الحقيل والأستاذ محمد بن عبدالله الحميد رئيس نادي أبها الأدبي..، والدكتور زاهر عواض الألمعي، والعميد إبراهيم بن علي الألمعي، والشيخ عبدالله عواض الألمعي والأستاذ الصحفي عبدالله بن علي المليص، وعدد كبير لم تسعفنا الذاكرة بذكر أسمائهم، وبعد انقضاء الحفل أخذ الأمير الفاضل أحمد بن عبدالعزيز القيام بجولة تفقدية لبعض المصالح الحكومية، وعدد من القرى والمدن مُنصتاً لمطالبهم، وما تحتاجه بلدانهم من تطور ومشاريع تنموية، ومنح بعض الفقراء شيئا من المال – جزاه الله خيرا -، مع المرور على بعض المواقع الأثرية مثل منطقة الأخدود الموغلة في القدم التي جرى ذكرها في القرآن الكريم، ومشاهدة المدينة التاريخية والمتحف التراثي الأثري، وغير ذلك من المواقع والمعالم القديمة..، فأخذ الشيخ عبدالله بن خميس يدون أسماء بعض المواقع التاريخية والأثرية شارحا لنا من ذاكرته بعض ما خفي على الحضور عن تلك المعالم، وبعد وفاته قريبة العهد أي في صباح يوم الأربعاء 15/6/1432هـ تذكرت العبارات التي تفوه بها أمام هاتيك المواقع التاريخية بمنطقة نجران، ثم شخص لذهني قول الشاعر:

ما زلت تلهج بالتاريخ تكتبه  **   حتى رأيناك في التاريخ مكتوبا

حجبت عنا وما الدنيا بمظهرة  **  شخصا وإن جل إلا عاد محجوبا

كذلك الموت لا يبقي على أحد  **  مدى الليالي من الأحباب محبوبا

وقد بالغت أسرة آل السديري في إكرام الجميع مع منحهم جميعا أسنى الهدايا وأثمنها وأبقاها أثاراً في نفوسهم -جزاهم الله خيرا ورحم والدهم -، ومن الذكريات التي مازال رنينها باقي صداه بين أضلعي زيارتي المتكررة لمنزل الشيخ عبدالله بحي الفوطة عام 1379هـ في أثناء تأسيسه لصحيفة الجزيرة ، وحرصه على استقطاب بعض الكتاب المميزين -وهم قلة آنذاك -ليضمن نجاح صدورها واستمرارها، وبحمد الله تم له ذلك بمعاضدة المخلصين معه، ولقد عرض علي المشاركة فاعتذرت لعدم استطاعة قلمي لمجاراة أولئك الكتاب الأفاضل في تلك الفترة البعيدة، فذكرياتنا الجميلة معه لا يمحها ماحٍ، ومن أثاره الخالدة مؤلفاته متنوعة الأصناف والمشارب، وصوته الجميل الجهوري الشائق عبر الإذاعة في برنامجه (من القائل) الذي أفرغها في أربعة مجلدات،  وفي أشرطة منذ ثلاثة عقود من الزمن سيظل مدويا في الوجود بعده مؤنسا سامعيه ومحبيه وذكراً باقياً:

تبلى الحناجر تحت الأرض في جدث ** وصوتها يتلو الأشعار والسيرا

وعلى أي حال فإن إعداد هذه الكلمة الوجيزة تلذذا بذكراه وضربا من الوفاء رغم قرب تأبيني له بهذه الصحيفة الغراء يوم الإثنين 20/6/1432هـ

مختتما بهذين البيتين للشاعر أحمد شوقي في رثاء صديقه حافظ إبراهيم:

خلفـــت بالدنيا بيانا خــالدا  **  وتركت أجـــيــالا من الأبنــاء

وغدا سيذكرك الزمان، ولم يزل **  للدهر إنصاف وحسن جزاء

 رحمه الله رحمة واسعة

 

 


سلوى آل الشيخ إلى رحمة الله(<!--)

 

قال الله في محكم كتابه العزيز: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} آخر سورة لقمان.

شاء المولى أن تموت الأخت الفاضلة سلوى بنت محمد بن عبدالله آل الشيخ - رحمها الله -بإحدى مصحات المدن البريطانية، بعد أن استكملت رزقها وأجلها بعيدة عن أهلها ومراتع صباها، فبينما كنت أسرح طرفي في صفحات بعض الكتب -وإن كنت مقلاً في القراءة -إذا برنين هاتف الشاب الأديب عبدالعزيز بن محمد المشعل -أحد رجال الأعمال الأخيار -قائلاً بصوت حزين وهو مجهش بالبكاء: إن يد المنون قد أرقلت(<!--) بوالدتي الحنون إلى مضاجع الراحلين على إثر عملية جراحية بإحدى ركبتيها فتأثرت كثيراً لتأثره -ودعوت الله لها بالرحمة -وله بالصبر والرضى بما قدّر له المولى سبحانه، فالآجال مخفية في ضمير الغيب لا يعلمها سوى الله -جلَّ ذكره، فمن اهتمام نجلها البار عبدالعزيز أن ذهب بها إلى أرقى المصحات خارج الوطن عله يسعد برؤيتها ماشية على قدميها، ولكن المقدر كائن لا مناص منه ولا محيد عنه حيث عادت محمولة على أعناق الرجال صوب مرقدها تحت طيات الثرى بمقبرة أم الحمام بالرياض، بعد أداء صلاة الميت عليها عصر يوم الخميس 9/6/1432هـ بجامع الملك خالد بأم الحمام، وقد اكتظ بالمصلين رجالاً ونساء -تغمدها الله بواسع رحمته -. وقد حزن الكثير من أسرتها ومحبيها على رحيلها المفاجئ الذي نزل على قلب ابنها المفجوع نزولاً موجعاً يطول مكثه بين جوانحه، والذي أعيا مَهرة الأطباء لإبعاد المكروه عنها، ولقد أجاد الشاعر أبو العتاهية حيث يقول:

إن الخلائق في الدنيا لو اجتهدوا *** أن يحبسوا عنك الموتَ ما حبسوا

ولقد نشأت في طاعة الله وفي بيئة علم وأدب محبة للبذل في أوجه البر والإحسان والعطف على الأيتام والأرامل، وقد زاد من إحسانها أن وضع ابنها البار وحيدها من الذكور ماله بين يديها تنفق منه ما تشاء في أوجه الخير -وكانت تقضي شهر رمضان المبارك بمكة المكرمة - فيختار لها السكن الممتاز المناسب على مقربة من المسجد الحرام مع تأمين ما تحتاجه من نفقات جزلة، بل إنه يسلمها شطراً من المال زكاة وصدقات تقوم بتوزيعها على     الفقراء والمساكين، ومنح بعض أسرهم المحتاجة كصدقات وهبات، فهو وحيدها من الرجال وقد أنزل الله فيه البركة وفي ماله الذي أخذ يتلذذ بالبذل منه في أوجه كثيرة من المشاريع وإمداد الجمعيات الخيرية التي تعنى بالمساكين وذوي الحاجات، ولله در ابن دريد حيث يقول:

الناس ألف منهم كواحد*** وواحد كالألف إن أمرٌ عنا

ومن أفضاله على أسرته: أسرة آل مشعل أن شيد قصراً فخماً متربعاً على مساحات واسعة على الشارع العام المتجه نحو منطقة الوشم ليكون ملتقى لهم في المناسبات وفي مواسم الأعياد والزواجات وإجازات الربيع، بتكلفة تقدر بملايين الريالات، علماً أنه لا يرغب في ذكر شيء مما أشرنا إليه البتة، فكل أعماله جزلة تحاط بالسرية في غالب الأحوال، ولكنني ذكرت ذلك تنويهاً بأفضاله ولأجل أن يقتدي به من أفاء الله عليه بنعمه، كما أنه يشيد بعض المساجد سراً ويسهم في دعم الجمعيات التي تعنى بالأيتام والأرامل كما أسلفنا، لعلمه أن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا، والواقع أن رحيل والدته الحنون وقبلها بسنوات قلائل رحيل والده الشيخ محمد بن عبدالعزيز المشعل قد يحدث فجوة وفراغاً واسعاً في حياته حينما يخلد للراحة ويخلو بنفسه..، ولقد زاد بكاؤه وهو ينزلها برفق في قبرها وعيناه تهيمان بدموع حرّى على أكفانها قبل أن يغيبها الثرى غياباً أبدياً إلى يوم النشور، والعزاء في ذلك أنها بارة بوالديها ومحبة لجيرانها وعاطفة على المساكين مخلصة العبادة لرب العالمين راجية عفوه ورضاه -تغمدها الله بواسع رحمته -وأسكنها فسيح جناته وألهم أهلها وذويها وابنها عبدالعزيز وأخواتها الصبر والسلوان.


محمد بن ناصر المبارك رائد الحركة العلمية بحريملاء (<!--)

 

وبارك الله في الأرض التي ضمِنت ***  أوصاله  وسقاها باكر الديم

تختلف درجات العلماء في تحصيلهم العلمي والأدبي، ومثابرتهم في اقتناص شوارده ونوادره من مظانه، وإن نأت موارده، سواء من أفواه الأئمة الأفاضل وإيماءاتهم، أو من بطون الكتب النفيسة المستمدة من كتاب الله العزيز وسنة رسوله المطهرة، فإنه حري بأن يحقق آماله وطموحاته ،  وهذه الصفات الحميدة مجتمعة تتجلى في شخص العالم الجليل فضيلة الشيخ محمد بن ناصر المبارك رائد الحركة العلمية في إقليم الشعيب بحريملاء والمحمل – آنذاك -ولقد ولد في مدينة حريملاء 1270هـ ونشأ في كنف والده ورباه أحسن تربية، فتعلم القراءة والكتابة في إحدى المدارس الأهلية بحريملاء، وختم القرآن الكريم وعمره لم يتجاوز العاشرة بعد، واهتم بحفظه فلم يمض ستة أشهر حتى حفظه عن ظهر قلب،  بعد ذلك جد في طلب العلم فقرأ على الشيخ عبدالعزيز بن حسن الفضلي، وكان وقتئذ  قاضي الشعيب والمحمل وإقامته في حريملاء، ويجلس لطلاب العلم إلى جانب توليه القضاء، وقد أعجب شيخه به وتوسم فيه الخير والمستقبل المشرق حيث حفظ كثيراً من المتون رغم حداثة سنه، وكان والده يسافر للتجارة وطلب الرزق فأقام في الأحساء مدة طويلة مما اضطر إبنه للسفر إلى والده هناك، فسافر إليه برفقة الإمام عبدالله بن فيصل بن تركي آل سعود -رحمه الله -الذي رحب به وجعله إماماً لهم في الصلاة مدة سفرهم حتى وصلوا الأحساء وكان الإمام عبدالله يأمره بأن يقرأ عليه شيئا من القرآن إذا سروا في الليل لتنشيطهم ولطرد النعاس عنهم، فإذا قرأ التف حوله الجيش لجمال صوته وحسن تلاوته فأعجب به الإمام وأكرمه غاية الإكرام، ثم استأذن من الإمام وذهب إلى والده وأقام عنده قرابة ثلاثة أشهر، ثم سافر إلى قطر ونزل ضيفاً على أميرها الشيخ قاسم بن ثاني -رحمه الله – وكان يكرم الوافدين إليه من كل مكان، وإذا كان الوافد من نجد ومن طلبة العلم فلابد أن يكون له منزلة خاصة تفوق غيرة فلذلك رحب الشيخ بضيفه الشاب القادم من نجد مهد آبائه وأجداده، وعرض عليه الإقامة بقطر فأقام بها ما يقرب من ثلاثة أعوام فتح خلالها مدرسة لتحفيظ القرآن الكريم، وكان في طليعة الطلبة أبناء الشيخ قاسم وحاشيته فحفظ عليه جمع غفير من مدينة قطر إلى جانب أبناء الشيخ، بعد ذلك شرع في تدريسهم ثلاثة الأصول وفي عدد من المتون وكان في أثناء إقامته في ذاك البلد المضياف محل حفاوة وتكريم من أهالي قطر وأميرهم الشيخ قاسم..، بعد ذلك استأذن من الشيخ ورجع إلى بلده حريملاء فأقام لدى أهله فترة قصيرة، مواصلا طلب العلم لدى مشايخ بلده، فزادت طموحاته ورغبته في التروي من رضاب العلوم والفنون الأخرى، وأدرك أنه لايتحقق له ذلك إلا بالسفر لطلب العلم من ينابيعه الصافية حتى لوكان السفر لبلاد بعيدة لايصلها إلا بشق الأنفس، وكأن الشاعر العربي قد أوحى إليه بمعنى هذا البيت:

إذا كنت ترجو كبار الأمور **  فأعدد لها همة أكبرا

فأتجه صوب صنعاء والتقى ببعض مشائخها وقرأ عليهم في الفروع والنحو والصرف والتفسير فلم تطل مدته في صنعاء بل سافر إلى الهند للتزود والتخصص في علم الحديث وغير ذلك من العلوم الدينية النافعة، وكانت رحلته على فترتين: الأولى بدأها في عام 1299هـ وبرفقته الشيخ سعد بن حمد بن عتيق - رحمهما الله - ومكث خلالها سبع سنين، أما الرحلة الثانية بدأها في عام 1306هـ حتى عام 1309هـ، فقرأ على محدث الهند العلامة الشيخ نذير حسين الدهلوي المسمى عالم الدنيا في وقته...، وعلى عدد من المشايخ المحققين من أصحاب العقيدة الصحيحة منهم، الشيخ محمد بشير السندي والشيخ سلامة الله الهندي، وقد أجازه الشيخ نذير حسين، وكان رحمه الله عالي الهمة رغم بعد المسافات وتكبد مشاق السفر وأهواله وأخطار الطريق حيث مشى جزءاً منه راجلاً، فإن ذلك كله لم يعقه عن تحقيق ما يصبو إليه في توسع  آفاق المعرفة لديه وقد تحقق له ذلك:

في سفر عمرك مكتوب لك السفر ** في الهند والسند من آثاركم أثر

ويقول الأخر:

أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته ** ومدمن القرع للأبواب أن يلجأ

وبعد ان تروى من معين العلوم استقر في مهوى رأسه في حريملاء، ثم أخذ يجلس لطلبة العلم في المسجد المجاور لمنزله المسمى مسجد (قراشة) وفي منزله بعد الظهر، فاشتهر وذاع صيته، فأخذ عدد من طلاب العلم يفدون إلى حريملاء من البلدان المجاورة لها ومن بلدان بعيدة مثل مدينة  الزلفي، المجمعة، القصيم بل ومن بلاد فارس أمثال عبيدالله وعبدالكريم الدرويش، لينهلوا من علمه الغزير الصافي، وكان المسجد الأثري سالف الذكر مقر تلقيهم الدروس والتدارس فيما بينهم فهو كخلية نحل في الكثافة والمثابرة في التحصيل العلمي، وكان الأهالي بحريملاء يقدرونهم ويشجعونهم على المكث طويلاً في ربوع البلد كي يرجعوا إلى أوطانهم وأماكن إقامة أسرهم وقد اخذوا نصيباً وافرا من العلم حيث يلقون منهم كل الإكرام ويتوازعونهم لتناول طعام الغداء والعشاء رغم قلة ذات اليد لدى أكثرهم لأجل أن ينالوا الأجر من الحي القيوم بإذنه سبحانه، كما أنه قد بنى في جانبي المسجد المذكور (جصتين) لتخزين كميات كثيرة من التمور ترغيباً لطلبة العلم، ولا زالت أثار إحداهن موجودة في الجانب الشمالي منه، ففي مواسم جذاذ النخيل يتقاطر الكثير من أصحاب الفلاحة ليلاً خشية الرياء فيضعون تلك الكميات الكبيرة من جيد التمور ويرصونها ببعض الأحجار (كالمكابس) لئلا تصاب بالتسوس والتلف فيؤخذ منها كل يوم مقدار الحاجة ليتغذى منها طلاب العلم المغتربين، كما أن أسرة آل ثاني المقيمة بقطر حين علمت بنشاط الشيخ/ محمد بن ناصر المبارك - رحمه الله -وكثرة طلابه اشتروا نخلين كثيري الفسائل، فأوقفوا ريعهما على طلاب العلم، وعلى أئمة ومؤذني بعض المساجد ليستعينوا بها لسد حاجاتهم من تلك التمور ولا زالت أوقافهم ريعاً حتى الآن فجزى الله المحسنين من أسرة آل ثاني خير الجزاء. ولقد تخرج على يديه؛ (أي الشيخ محمد) عدد كبير من القضاة والمرشدين وجههم جلالة الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه -إلى كثير من المدن والهجر، فالقضاة إلى المدن الكبرى مثل: الرياض ـ الجوف ـ الزلفي ـ الخرمة ـ أبها ـ بلاد بلسمر وبلحمر ـ وقرية العليا ـ وبلدة سنام ـ وغير تلك المدن، أما طلاب العلم فإلى الهجر والأرياف مثل: بلد عروى -المشاش-الرويضة-وغيرها من الهجر والأرياف لتبصيرهم بأمور دينهم والإمامة بمساجدهم آنذاك، فحريملاء تعتبر في تلك الحقبة منارة علم وبمنزلة الجامعة، فهي (بوتقة) رجال خدموا الدولة في مواقع هامة منذ تولي جلالته الحكم يرحمه الله، ولا زال عطاء البلاد مستمراً بحول الله، فالموجب لإعداد هذه الكلمة المقتضبة عن سيرة رائد الحركة العلمية بحريملاء التنويه بأعماله الجليلة وكفاحه الطويل المتواصل في التضلع من حياض العلوم العذبة حتى وافاه الأجل المحتوم يوم جمعة عام 1333هـ وقد استقيت بعض هذه المعلومات من حفيده الشيخ/ عبدالعزيز بن عبدالرحمن المبارك متعه الله بالصحة والعافية فهذه سيرة الشيخ المتضمنة صبره وكفاحه الذي حقق ما يصبو إليه ولله در الشاعر حيث يقول:

وقل من جد في أمر يحاوله *** و استصحب الصبر إلا فاز بالظفر

رحمه الله وجزاه عن تلامذته وعن المسلمين خيرا.

 


رحم الله الصديق عبدالله الخريجي (<!--)

 

وكيف تلذ طعم العيش نفس ** غدت أترابها تحت التراب

في صباح يوم الاثنين 3/8/1432هـ بينما كنت أتناول طعام الإفطار في جو يسوده الهدوء والاطمئنان النفسي أعقبه غفوة منامية قصيرة تخللها بعض الرؤيا، فأخذ يجول في خاطري شيء ما مترقبا إيضاح ما قد خفي في ضمير الغيب، فدرت لحظي نحو هاتفي فإذا برسالة تحمل في ثناياه نبأ رحيل الصديق الأخ / عبدالله بن سعد الخريجي -أبو محمد-وأن الصلاة عليه بجامع الحي الجديد بحريملاء بعد صلاة الظهر، وكان لذاك النبأ وقع محزن في نفسي، فلم أملك سوى الترحم عليه وتلاوة هذه الآية الكريمة (إنا لله وإنا إليه راجعون) -وكان من أسباب مرضه حادث سيارة قصم ظهره فألزمه الفراش مدة طويلة ثم سافر إلى دولة (التشيك) للعلاج الطبيعي على نفقة الدولة – أعزها الله - وظل هناك شهورا طوالا فلم تتحسن حالته الصحية فرجع خائب الأمل متجرعا غصص الحرمان من الحياة الطبيعية إلى أن جاءه أجله المحتوم -رحمه الله - فأخذت أشحذ الذاكرة في استذكار أيامنا الأول أيام الدراسة بالكتاب لتحفيظ القرآن الكريم لدى المقرئ –المطوع -الشيخ محمد بن فهد المقرن - رحمه الله - في مسجد حي الشهواني، وعلى المراكي الطينية بالأرض المجاورة له أرض آل الدحيم المحيطة بها بعض الأسوار والقلاع القديمة نتفيأ ظلالها في الصباح وفي الآصال خلف منزل الشيخ علي بن إبراهيم بن داوود - رحمه الله- وكان هو وشقيقه عبدالعزيز ضمن زملائي في تلك الحقبة البعيدة مع فارق العمر بيننا، فطابعهما الحيوية والميل إلى الفكاهة والمرح وعدم الاستمرار في الدراسة، وكانت حصيلتهما متوسطة نسبيا، وكنا نأنس بمزاولتهما لبعض الحركات البهلوانية لتخفيف عناء رتابة الدوام الدراسي الممل الذي نقضي فيه معظم سحابة يومنا..، فأخذ والدهما يشجعهما على العمل لدى بعض أصحاب الفلاحة رغم صغرهما في أعمال تتناسب مع أجسامهما لأسباب معيشية وقلة ذات اليد لدى والدهما -رحم الله الجميع -، فاستمر عبدالله في مزاولة حركاته رغم المخاطر في بعضها بعدما كبر واشتد ساعداه، أذكر أنه كان يجري ركضا فوق جذع نخل معروض على (منحاة) سواني النخل الذي يعمل فيه بطول ثمانية أمتار وارتفاع ما يقارب ثلاثة أمتار، وأعظم من ذلك مخاطرة لا يجرؤ على مزاولتها أي إنسان إلا نادرا جدا حيث كان يتعلق برجليه مخالفا بينهما ولويهما على خشبة (السماح) الموضوع على حافة البئر متدليا برأسه نحو فوهة البئر كأنه ذبيحة معلقة للسلخ، والعجب كيف صمدت رجلاه فنجا من موت محقق، فلو كنت في تلك اللحظة الرهيبة حفظت قول الشاعر لأسمعته إياه:

إذا كان رأس المال عمرك فاحترس ** عليه من التضييع في غير واجب

 بعد ذلك فكر أن يغادر محضنه بحريملاء لطلب المعيشة فلم ير بداً من التوجه إلى المنطقة الشرقية ملفياً على معالي الشيخ عبدالله بن عدوان مديرا للمالية وممثلا للمملكة لدى شركة آرامكو -آنذاك -في أوائل السبعينيات، فالشيخ عبدالله بن عدوان -يرحمه الله-بمنزلة الوالد لمن يقصد المنطقة من أبناء المملكة لأجل العمل من غير تمييز بينهم، وذلك لشح الوظائف في جوانب المملكة في تلك الحقبة الزمنية، فوجه مدير مكتبه الشيخ حمد بن علي المبارك على تعيين عبدالله  سائقاً في المالية، واستمر في عمله مدة من الزمن في عصري الشيخين عبدالله بن عدوان وسعود الدغيثر، ثم عاد إلى مدينة حريملاء وعين بفرع الزراعة مهندساً مكنيكياً للسيارات واستمر حتى تقاعد، وكان يتمتع بالإخلاص في أداء عمله محبوب لدى زملائه وجميع المواطنين لخفة ظله ومرحه المقبول، وكنت أحرص على حضوره في نادي معهد المعلمين والمدرسة الابتدائية الذي نقيمه في أواخر كل أسبوع في غالب الأحوال أيام كنت مديراً للمعهد مع الإشراف على المدرسة في أوائل الثمانينيات فهو يملح ويعطر برنامج الحفل بمزاولته بعض التمثيليات والحركات اللطيفة مما يكون سبباً في كثافة حضور الأهالي وأولياء أمور الطلبة:

يتزين النادي (بحسن حركاته) **  كتزين الهالات بالأقمار

 ولي معه ذكريات جميلة يطول مداها ويتعذر سردها كلها منها على سبيل المثال كثرة الرحلات في غابات شعيب حريملاء وفي أودية الحيسية العملاقة المتاخمة لسدوس الأهلة بكثافة الغابات التي كنا نزاول فيهما قنص الأرانب ليلاً قبل المنع، فنحن نستأجر سيارته لذاك الغرض، فهو ملاح حاذق في القيادة وسرعة الانتباه في اللحاق بالصيد، فمرة رأينا حيواناً ضخماً يسمى (نيصاً) مدججاً بأشواك طويلة جداً يربو طولها على عشر سنتيات يستخدمها لمهاجمة من يقترب منه فسألنا أحد الأساتذة السودانيين في أثناء مطاردتنا له: هل هو حلال أم حرام أكله فقال بإباحته فبادرناه بعدد من طلقات (الشوزن) فوقف متأثراً بإصابته، فما كان من الأخ عبدالله الخريجي إلا أن قفز بكل جرأة وشجاعة ونط بحلقه فوضعه أرضاً وذبحه، ثم طبخ مع عدد من الأرانب وأكلناه كله وكل واحد منا يقول ما أكلت إلا من لحم الأرنب. وفي ليلة أخرى من الليالي قتلنا ذئباً كبيراً في أحد شعاب حريملاء من مفترسي الأغنام فشكرنا أصحاب تلك الأغنام الذين طالهم أذاه.. ّ!! ، وهذه لمحة خفيفة من ذكرياتنا مع (أبو محمد) عبدالله الخريجي-تغمده الله بواسع رحمته وألهم ذريته بنين وبنات وشقيقه ناصر وعقيلته أم محمد وجميع محبيه الصبر والسلوان.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 


الشيخ الغانم أناخت به ركابه في ملتقى الراحلين (<!--)

 

فرب ضرير قاد جيلاً إلى العلا  **  وقائده في السير عود من الشجر

وكــــم مــــن كفيف فـــي الزمان مشهر **  لياليه اوضاحُ وأيامه غرر

بينما كنت أسرح طرفي في صفحات صحيفة الجزيرة الغراء بعد صلاة فجر يوم الثلاثاء 4/8/1432هـ، إذ فوجئت بنبأ رحيل الشيخ الأستاذ عبدالله بن محمد الغانم الى الدار الباقية رحمه الله-فتأثرت كثيراً، وفي تلك اللحظة طوح بي الخيال الى تصوره وتذكره يمشي متأبطاً كتاباً يحمل في ثناياه طريقة (برايل) وهو على  مقربة من مسجد الحنبلي المجاور للقصر الطيني للملك فهد بن عبدالعزيز -آنذاك -رحمه الله-وقال لي أحد الزملاء ترى هذا الكفيف يعرف لغتين، فعجبت منه رغم صغر سنه..، ولقد ولد رحمه الله في عام 1353هـ في مدينة جلاجل بمنطقة سدير وكف بصره وعمره ست سنوات، وتلقى تعليمه الأول في الكتّاب في جلاجل على يد الشيخ فوزان القديري – رحمه الله -، ثم شخص الى الرياض مبكراً وهو بعامه العاشر لإكمال تعليمه حيث درس مبادئ العلم على يد فضيلة الشيخ عبداللطيف بن إبراهيم، وعلى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم مفتي الديار السعودية آنذاك – رحمهما الله – وفي عام 1372هـ التحق بالمعهد العلمي إلى أن تخرج من كلية الشريعة سنة 1380هـ، وفي تلك الفترة تعلم طريقة (برايل) -أي قبل الحصول على الشهادة العالية – حتى حذقها ثم قام بتعليم وتدريب مجموعة من المكفوفين في أثناء الإجازة الصيفية عام 1377هـ تطوعاً واحتساباً للأجر من رب العالمين، وذلك في مقر معهد إمام الدعوة حيث تكرمت الإدارة بإعارته فترة الإجازة...، فتعلم على يده عدد كبير من المكفوفين في مدة لاتتجاوز الشهور الثلاثة، وكانت نواة مباركة لتعلم المكفوفين للقرآءة والكتابة بطريقة (برايل) وفي عام 1378هـ وافقت وزارة المعارف -آنذاك -على فتح فصول مسائية في مدرسة جبرة الإبتدائية بالرياض لتعليم المكفوفين تلك الطريقة بإشراف الأستاذ عبدالله الغانم، وخلال هذه الفترة تفضل جلالة الملك سعود -يرحمه الله -بزيارة تلك الفصول:

وأحسن أخلاق الفتى وأجلها  **  تواضعه للناس وهو رفيع

وهذا التواضع لايستغرب على ولاة أمر هذه البلاد وحبهم للتشجيع للنهل من موارد العلوم العذبة والمفيدة، وقد تبرع جلالته يرحمه الله بمقر لها في حي الظهيرة الواقع شمال جامع الإمام تركي بمدينة الرياض، وبمبلغ كبير من المال للاستعانة به في تطويرها ومد الضعفة من الطلاب بشئ منه..، كما تبرع بمطابع خاصة لطباعة (برايل) -تغمده الله بواسع رحمته -، وكان لهذه الزيارة الأبوية صدى إعلامياً كبيراً على مستوى المملكة، فالشيخ الغانم يعتبر المؤسس الأول لمعهد النور لتعليم المكفوفين بالمملكة عام 1380هـ وقد تولى إدارتها، ثم أسس إدارة التعليم الخاص بوزارة المعارف عام 1382هـ، وقد تسنم عدة مناصب ورأس الكثير من اللجان على المستوى العالمي لرعاية المكفوفين بالمملكة، فهو قامة عالية في المحافل الداخلية والدولية، كما انه أول كفيف عربي مثل حكومة خادم الحرمين الشريفين في الأمم المتحدة لمدة عشر أعوام مابين 1402-1412هـ ، وخطب في الجمعية العامة للأمم المتحدة عدة مرات مشيداً بخدمات حكومة خادم الحرمين الشريفين والعناية بجميع طبقات المعوقين، ويعتبر من أبرز الموهوبين في تلك الحقبة البعيدة، ويمتاز بقوة الذاكرة وسرعة الحفظ، وكان يفرح بمحادثة من يجيد اللغة الإنجليزية ليهيء نفسه لقابل الأيام لعلمه بأهمية حفظ اللغات، وكم هو جميل قول الشاعر:

بقدر لغــات المرء يكثر نفعه   **  وتلك له عند الشدائد أعــــوان

فبادر الى حفظ اللغات مسارعاً  **  فكل لسان في الحقيقة إنسان

ولقد كافح (أبو مساعد) وأضاء دروب المعرفة والثقافة لمن حرموا نعمة الإبصار، وجعلهم يسيرون في مواكب الحياة مع نظائرهم المبصرين جنباً الى جنب، يحدوهم الأمل الآن بأن تتقدم الوسائل الحديثة فتفتح لهم أبواباً جديدة تخدم عالم المكفوفين خدمة أوسع في عصر خلفه الدكتور الفاضل ناصر بن علي الموسى الذي وقف حياته خدمة لذوي الإعاقات عامة، وجلب كل حديث في تطوير مسيرة تعليم أولئك تطويراً عصرياً – وفقه الله -وأعانه على مواصلة دوره القيادي البناء في إسعادهم وإسعاد الأجيال اللاحقة المتتابعة في ظل حكومتنا الحبيبة إلى قلوبنا.

فالشيخ الغانم قد أنهى دوره في الحياة بكل جد وإخلاص وأمانة تاركاً ذكراً جميلاً في شعاب نفوس تلامذته وزملائه ومحبيه، ومما حز في نفسه فقد بصره وعمره لم يتجاوز السادسة، ورغم ذلك كله شق طريقه بكل عزم ومثابرة حتى تربع على مناصب هامة وعالية نفع الله به أجيالاً من ذوي الإعاقة البصرية والسمعية

mager22

فقد ورثاء ( عبد العزيز بن عبد الرحمن الخريف )

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 226 مشاهدة
نشرت فى 30 سبتمبر 2013 بواسطة mager22

الأستاذ عصام بن عبدالله بن خميس إلى رحمة الله (<!--)

 

فيا أسفي لجسمك كيف يبلى *** ويذهب بعد بهجته سناكا

لقد غاب عن أسرته ومحبيه سمح المحيا طري البشرة مبكرا، قال الله تعالى في محكم كتابه العزيز في آخر سورة لقمان (وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير) ولم يدر بخلد الأستاذ الفاضل عصام ابن عبدالله أنه سيموت نائي المحل بعيدا عن أهله ووطنه، وهو يصعد على قدميه سلم ابنة الجو عابرة المحيطات متجها صوب الولايات المتحدة الأمريكية لتلقي العلاج في إحدى مصحات مدينة لوس أنجلس بولاية كاليفورنيا فلم يخطر بباله أنه سيعود إلى منزله محمولا على أكتاف الرجال حيث توفي فجر يوم الثلاثاء 12/3/1432هـ هناك، فكل إنسان في هذا الوجود لا يعلم ما في ضمير الغيب ولا ما الله صانع فيه، فكل ذلك بتدبير العزيز الحكيم جلت قدرته، وقد أديت عليه صلاة الميت بجامع الإمام تركي بن عبدالله بالرياض بعد صلاة ظهر يوم الأحد الموافق 17/3/1432هـ يتقدمهم أمير منطقة الرياض الوفي صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبدالعزيز، وأمّ المصلين سماحة مفتي عام المملكة ورئيس هيئة كبار العلماء الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ، وقد اكتظ المسجد بجموع غفيرة من المصلين داعين له بالمغفرة ورحمة الخالق، ثم تبعه عدد كثير من المشيعين إلى مواراة جثمانه في ثرى مقبرة الشعيبة بالدرعية وهذا يدل على علو مكانة الراحل وأسرته – تغمده الله بواسع رحمته – وعند حضوري لتعزية أسرته وإخوته وأبنائه في قصر والده الشيخ عبدالله – شفاه الله – هالني كثرة المعزين رجالا ونساء وقد ضاقت الطرقات والمساحات المحيطة بالقصر لعمق محبة الراحل وأسرته في نفوس من حضر، وقد سبق أن هاتفت الأستاذ عصام قبل رحيله إلى الدار الباقية للاطمئنان على صحته فأفاد أنه بخير رغم ما يكابده من آلام، وأنه سيعود إلى أرض الوطن بعد شهر تقريبا، ولكن شعُوبا لم يمهله، ولقد تأثرت كثيرا وأنا أقرأ كلمة ابنته الأستاذة الأديبة لبنى في تأبين والدها، فقرأتها حرفا حرفا وهي تفيض حزنا ولوعة على سرعة رحيل غاليها، وغيابه عن ناظريها – كان الله في عونها وعون أسرتها - مستحضرا هذا البيت:

فلا تبكين في إثر شيء ندامــــــة *** إذا نزعــــته من يديـــــك النوازع

ولسان حالها تُردد قول الشاعر الأديب محمد بن سليمان الشبل :

يوم الوداع وهل أبقيت في خلدي *** إلا الأسى في حنايا القلب يستعر!

ولقد ترعرع بين أحضان والديه وبين إخوته ونشأ في بيئة علم وأدب متأثرا بثقافة والده الشيخ عبدالله وبسيرته العطرة مما أكسبته حنكة ورؤية من موارد العلوم العذبة ومصادر الثقافة عموما وواصل دراسته النظامية حتى نال شهادة البكالوريوس في التربية البدنية من جامعة الملك سعود - يرحمه الله - ثم عين معلما في وزارة التربية والتعليم، وأخيرا عين مديرا عاما للنشاط الطلابي بوزارة التربية والتعليم واستمر في أداء عمله بكل جد ونشاط إلى أن توفاه الله تغمده بواسع رحمته، وكان ملازما لوالده في غالب الأوقات وحضور المناسبات داخليا وخارجيا، وكان آخر لقائي بالأستاذ الشهم عصام في حفل تكريم الأخوين الكريمين بامحسون وباحمدان لشيخنا الفاضل والده الشيخ عبدالله بن خميس في مركز الملك فهد الثقافي بالرياض منذ شهور مضت، فما كان من الشيخ إلا شكر المحتفين به وكان ابنه البار واقفا بجانبه -كعادته - وهو يلقي بعض القصائد أمام جمهور الحضور وإذا توقف ذكره بأول البيت وهكذا استمر وفاؤه لوالده الشيخ. ولقد أجاد القائل المتلمس حيث يقول:

لذي الحلم قبل اليوم ما تقرع العصا  ***   وما علم الإنسان إلا ليعلما

وكان الأستاذ عصام في تلك الليلة ليلة وفاء المحتفين بوالده في كامل صحته ونضارة محياه وثغره الباسم، ولكن ما لبث أن أحس بالمرض الذي لم يمهله طويلا، فتعجل السفر إلى ما أشرت إليه آنفا، فقد أعيا الأطباء كبح جماح ما حل به – رحمه الله وتغمده بواسع رحمته وأسكنه فسيح جناته وألهم ذويه وأبناءه  وإخوته وعقيلته -أم عبدالله -وجميع محبيه الصبر والسلوان.

                               

 

 

 

 

 

 

 

 


رحم الله الصديق الشيخ حمد بن محمد الداوود (<!--)

 

أقول وقد فاضت دموعي غزيرة *** أرى الأرض تبقى والأخلاء تذهب!

ما أصعب توالي ضربات الأحزان على مهج الإنسان، وأكثرها إيلاما وتحسرا فقد أحبته من والدين أو أحدهما أو بعض أفراد أسرته بل وسائر أصدقائه ورفاق دربه، وهذه سنة المولى في خلقه حياة وموتا، فبالأمس القريب أي في يوم الجمعة 3/2/1432هـ ودعت محافظة حريملاء الشيخ سعد بن محمد الداوود، وبعد صلاة ظهر يوم الأربعاء 20/3/1432هـ لحق به شقيقه الشيخ حمد بن محمد الداوود – رحمهما الله – وقد خيم الحزن على أجواء محافظة حريملاء وعلى منازل أسرة آل داوود فتضاعف الحزن عليهم وعلى شقيقه ورفيق دربه الشيخ عبدالعزيز خاصة الذي بقي وحيدا بعد رحيلهما يكابد وحشة الفراق والحزن العميق الذي سيظل مكثه طويلا في نفسه وكأن قائلا يحاول تسليته والتهدئة من روعه ومن سورة الفجيعة متمثلا بقول الشاعر:

تعز فلا إلفين بالعيش متعا *** ولكن لوراد المنون تتابعا

ولاشك أن آثار الموت تحفر في شعاب النفوس وفي وديان الذاكرة أخاديد عميقة يتعذر ردمها ومحيها مدى عمر المصاب المفجوع بفقد أغلى قريب له، وقد يخف وقع تلك المصائب عند البعض بتدرج مع تطاول مرور الزمن حسب موقع الراحل ومكانته في النفوس، (كان الله في عون أبنائه وبناته وعون ذاك الشيخ الذي بقي في هذه الحياة منفردا بعد غياب شقيقيه)! ولايملك سوى الصبر وتكرار الترحم عليهما، والاستعداد ليومه الموعود بعد عمر مديد بحول الله، وكأني به يردد في خاطره هذا البيت بكل تحسر وأسى:

تتابع إخوتي ومضوا لأمر *** عليه تتابع القوم الخيار

كما تزامن مع رحيلهما رحيل صهرهم ناصر بن بدر البدر – رحمه الله – والد الشيخ الدكتور بدر. ولقد ولد الشيخ حمد في محافظة حريملاء، وترعرع في أكنافها بين أحضان والديه وإخوته، وعندما بلغ السابعة من عمره ألحقه والده بإحدى الكتاب كأمثاله من الصغار لدى المقريء محمد بن عبدالله الحرقان -رحمه الله -، ثم التحق بالمعهد العلمي مواصلا دراسته بكل جد ونشاط حتى حصل على شهادة كلية الشريعة بتفوق عام 1385هـ ، كما نال الشيخ درجة الماجستير من المعهد العالي للقضاء 1395هـ في أثناء عمله معلما بوزارة المعارف
– أنذاك -بإحدى المتوسطات بمدينة الرياض، ثم انتقل الى ثانوية الرياض، ثم عين مشرفا تربويا بإدارة التعليم بمنطقة الرياض إلى أن تقاعد، بعد ذلك عمل في مدارس منارات الرياض مديرا للإشراف التربوي بها إلى أن أقعده المرض، وكان على مستوى من الحنكة والخلق الكريم وحسن التعامل وطيب المعشر والدراية بالأساليب التربوية في جميع المجالات، وكان يرحمه الله بارا بوالديه واصلا رحمه من إخوته ذكورا وإناثا، ومحبوبا لدى مجتمعه الأسري وعارفيه من جيران وغيرهم، وظل هو وأخواه يقضون جل أوقاتهم وفراغهم داخل المسجد يتلون كلام الله ويتناقشون في كثير من المسائل الفقهية والأصولية وسائر الفنون والعلوم الأخرى، ولم أر مثلهم في التعبد وحفظ أوقاتهم بما ينفعهم ويصلح أنجالهم صغارا وكبارا متصفين بالهدوء والاطمئنان النفسي، ولقد أحسن الشاعر ابن هبيرة حاثا على الإستفادة من الوقت قبل ضياعه حيث يقول:

والوقت أنفس ما عنيت بحفظه *** وأراه أسهل ما عليك يضيع !

فبيئة أسرة آل داوود بصفة عامة بيئة علم صالحة وثقافة واسعة؛ فاالشيخ حمد -أبو عبدالرحمن-عضد قوي لشقيقه البصير الذي لا يبصر الشيخ سعد دوما، وفي مزاولته التدريس يقرأ عليه في بعض المراجع التي تتعلق بمواد المنهج الدراسي، كما لاينسى اطلاعه على الأخبار اليومية عبر الصحافة ووسائل الإعلام الأخرى لتزداد معرفته وثقافته عما يدور في الساحة العلمية والأدبية؛ فهو أخ مخلص ولايستغرب منه ولا من يماثله من الأخيار -تغمدهما الله بواسع رحمته - كما أن الشيخ حمد يعتبر عضوا بارزاً في اللجنة الأهلية بحريملاء ومسؤولا عن المتابعات والمطالبات الموجهة إلى الجهات العليا والمصالح الحكومية لأجل تطوير مدينة حريملاء منذ أكثر من أربعين عاما، وقد تحقق الكثير من مطالبات هاتيك اللجنة المباركة، فأصبحت محافظة حريملاء تضاهي المدن الكبرى رغم صغرها، وعلى أي حال فإن - أبو عبدالرحمن - يرحمه الله وجميع أعضاء اللجنة يستحقون الشكر، والدعاء لمن رحل منهم إلى الدار الباقية بالرحمة والمغفرة، وكان لرحيله وغيابه عن أسرته ومحبيه بالغ الحزن ولاسيما -أم عبدالرحمن-التي حزنت على فراق إلفها ورفيق عمرها، وكأن الشاعر يعنيها بقوله:

فكل قرينة لابد يوما  ***  سيشعب إلفها عنها شعوب !

ولنا مع -أبو عبدالرحمن-وشقيقيه ذكريات جميلة لاتنسى أبد الأيام تغمده الله بواسع رحمته وألهم ذويه وأبناءه وبناته وعقيلته وشقيقه الشيخ عبدالعزيز وشقيقاته ومحبيه الصبر والسلوان (إنا لله وإنا إليه راجعون).


رحم الله الأستاذ عبدالرحمن العميري (<!--)

 

مازالت ولا تزال جموع الراحلين تسير إلى أرماسهم ومضاجعهم إلى أن ينفد البشر.

كيف البقاء وباب الموت منفتح *** وليس يغلق حتى ينفد البشر !

فكل يوم نودع فيه غاديا ورائحا من الأحبة ومن رجالات هذا الوطن المخلصين الذين تركوا في نفوسنا ونفوس أحبتهم صافي ودهم وحسن ذكرهم، مع ما نعانيه من وحشة فراقهم وموت خيارهم من أهل وصحب، فحبهم باق لا ينسى أبد الليالي، فبينما كنت أسرح طرفي وأجول به بين صفحات صحيفة الجزيرة الغراء بعد صلاة فجر يوم الثلاثاء 10/4/1432هـ إذ فوجئت بنبأ رحيل أستاذ فاضل قد انقطعت أخباره عنا أزمانا طوالا نظرا لتراكم مشاغل الحياة بين الطرفين وبعد المسافة نسبيا، مع احتفاظي بوده وبذكره الطيب، إنه الأستاذ الكريم/ عبدالرحمن بن عبدالله العميري التميمي الذي ولد بمدينة الدلم وترعرع فيها وفي جنباتها بين أحضان والديه وإخوته وبعد ما قرأ القرآن الكريم وحفظ أجزاء منه انتظم في الدراسة النظامية، ونال الشهادة بمعهد المعلمين بالدلم بتفوق، ويعتبر من الدفعة الأولى، ثم طمحت نفسه فواصل الدراسة بجامعة الملك سعود -يرحمه الله-حتى نال البكالوريوس في الرياضيات والعلوم، ثم عين مدرسا، فمديرا لمدرسة ابن القيم الابتدائية بضواحي الدلم، وظل بها فترة من الزمن ثم انتقل إلى الخرج مديرا لمدرسة ابتدائية بحي الراشدية، واستمر بها حتى تقاعد تاركا أثرا طيبا وذكرا حسنا، وقد سعدت بمعرفته في أثناء حضوري رئيسا للجان الاختبارات -آنذاك -بمبنى مدرسة ابن عباس بالدلم وبمدرسة الهياثم وذلك في أوائل التسعينيات، ويعتبر الأستاذ عبدالرحمن – أبو فهد – من خيرة الأعضاء المخلصين في أداء أعمالهم المنوطة به بكل أمانة وتعاون، وقد عرض علينا تناول طعام العشاء في منزله كما هي عادة أهالي الدلم وما حولها الذين غمرونا بأخلاقهم وبكرمهم الحاتمي، وحينما شاهدت بعض التحف والمقتنيات بمجلسه -يرحمه الله -استهواني منظر قارورة زجاجية بداخلها سلم خشبي أدخل بكل مهارة وإتقان يصعب على الكثير عمل مثله فطلبت منه أخذ صورة لها فما كان منه إلا أن قدمها لي هدية مؤكدا قبولها -ولازلت محتفظا بها ذكرى خالدة -، وعند عودتي إلى حريملاء عرضتها على زملائي بالمدرسة، فأعجبوا بمهارة ودقة وضعه بداخلها، فقال الأستاذ ناصر بن محمد المشعل وكيل المدرسة سأحاول أن أعمل عملا مماثلا لها، وعمل واحدة كانت سببا في فوز مدرستنا في معرض الفنون والأشغال اليدوية المقام بثانوية العارض بالرياض على شرف الدكتور عبدالعزيز بن عبدالله الخويطر وزير المعارف – آنذاك – وبحضور مدير التعليم الزميل الراحل الدكتور حمد السلوم – يرحمه الله – فنالت إعجاب الوزير، فقلت الأستاذ ناصر يستحق الجائزة فقال وهو يبتسم هذا ساحر يستحق السجن ! فأبو محمد – متعه الله بالصحة والعافية – سريع البديهة حلو الطرفة. والحقيقة أن الأستاذ عبدالرحمن يعتبر من الرعيل الأول المربين الأفاضل فهو سمح المحيا هادئ الطبع طيب المعشر ومحبوبا لدى زملائه وأبنائه الطلبة:

وجه عليه من الحياء سكينة *** ومحبة تجري مع الأنفاس

وإذا أحـــــب الله يومــــا عبده *** ألقى عليه محبة في الناس

وقد طوح بي الخيال إلى تلك الأيام والليالي التي قضيناها في ربوع الخرج وفي مدينة الدلم وما جاورها بصحبة كوكبة من أولئك الأساتذة، ولفيف من المواطنين الأخيار، وما يتخلل تلك الجلسات والمسامرات الأدبية والشعرية من تبادل الطرائف والنكات الخفيفة على قلوبنا فإنه يحلو ويعذب السمر بحضورهم:

يا حــــبذا أزمُنٌ في ظلهم سلفت *** ما كان أقصرها عمرا وأحلاها

أوقات أنس قضيناها فما ذكرت *** إلا وقطع قلب الصب ذكراها

كما كنا نستمتع بشرب حليب الخلفات عند بعض أصحاب الفلاحة الكرماء أمثال أسرة الهذالا، وعند الأخوين عثمان وعبدالله السماري، فهو مشروبنا المفضل، أكثر الله من أمثال الجميع، ورحم من غابوا عن نواظرنا، وكان الأستاذ الفاضل عبدالرحمن أحد أنجال عثمان السماري إذا استبطأ حضورنا إلى منزلهم يأتي إلينا ليلا في مدرسة ابن عباس ليسمر معنا ويؤنسنا ببعض الطرائف والقصص مصطحبا معه إناء مملوءا من حليب الخلفات، ويقال إن الأستاذ الراحل عبدالرحمن العميري بعد ما تقاعد عن عمله المشرف أخلد إلى الراحة، وأخذ يقضي معظم أوقاته في البراري وفي نواحي الدلم وضواحيها ليستمتع بالهواء الطلق في أجواء نظيفة، وفي مواسم هجرة الطيور يستمتع باقتناص ما يحلو له صيده من هاتيك الأسراب الهاربة من جحيم مواسم أجوائها واستمر حتى أقعده المرض إلى أن توفاه الله يوم الإثنين الموافق 9/4/1432هـ وأديت عليه الصلاة بعد صلاة عصر يوم الثلاثاء 10/4 بجامع الباز بالدلم، تغمده الله بواسع رحمته وألهم ذويه وأبناءه وبناته وإخوته وعقيلتيه ومحبيه الصبر والسلوان.


الشيخ عبدالله بن شلاش الشلاش (<!--)

 

قال الله تعالى (ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لايستأخرون ساعة ولايستقدمون) الأية 34 من سورة الأعراف.

إلى جنة الفردوس والعفو والرضى ** وفي رحمة الرحمن أصبحت ثاويا

فمن انتهت مدة أيامه وساعات عمره من على هذا الكوكب الأرضي فرت روحه إلى بارئها، ثم انقطعت صلته عن الدنيا وساكنيها إلا ما تركه من صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له، ويظل جثمانه في باطن الأرض - مجاورا قوما لا تزاور بينهم - إلى أن يأذن الله بخروجهم من أجداثهم في اليوم الموعود يوم العرض الأكبر على رب العباد جل ذكره، فمنهم آخذ كتابه بيمينه وآخر من وراء ظهره ، فالسعيد من تطفح على محياه علامات البشر والرضى لدخول دار النعيم المقيم، فكل محسن ومخلص في العبادة لله يطمع ويرجو رحمة الباري ومغفرته، فمن أولئك الأخيار الشيخ الفاضل /عبدالله بن شلاش بن عبدالله الشلاش رحمه الله الذي لاقى وجه ربه يوم الخميس 10/5/1432هـ وأديت عليه صلاة الميت بعد صلاة يوم الجمعة 11/5/1432هـ بجامع الراجحي بحي الجزيرة ودفن بمقابر حي النسيم، وقد تبعه خلق كثير داعين له بالمغفرة وطيب الإقامة في مرقده إلى أن يأذن بنهوض جميع الخلائق ليوم الحساب، وكان الحزن باديا على محيا جميع أبنائه وأقربائه ومحبيه، - تغمده الله بواسع رحمته -، ثم انصرفوا عنه بعد مواراة جسمه الطاهر في باطن الأرض، ولك أن تتصور ما بداخل أنجاله ومحبيه من لوعات الفراق الأبدي وخاصة عند عودتهم وقد خلت من شخصه داره!! - كان الله في عونهم وجبر مصيبتهم فيه - ولقد عاش يرحمه الله سني طفولته بين أحضان والديه ورفاق دربه، وعند بلوغ سن التمييز ألحقه والده بإحدى مدارس الكتاب الواقعة على مقربة من منزل والديه بمدينة بريدة في منطقة القصيم، وبعدما ختم القرآن الكريم مجودا على يد معلمه المطوع استمر في تلاوته أناء الليل وأطراف النهار، وكان يحضر مجالس الذكر في المساجد، وفي مجالس بعض العلماء مما أثرى حصيلته العلمية، واتساع أفاق المعرفة لديه فهو على جانب من الذكاء موصوف بهدوء الطبع والسلوك الحسن ولين العريكة وطيب المعشر، وقد رشح للتدريس بالمدرسة الفيصلية الابتدائية قبل الدراسة النظامية وظل بها فترة من الزمن، وكان محبوبا لدى طلابه لما يتمتع به من خلق كريم وحثهم على حفظ كلام الله، وسائر المواد الدراسية، وفي ذلك الوقت جاءت فكرة جلالة الملك عبدالعزيز - طيب الله ثراه - في تأسيس مدرسة علمية أدبية تعنى بالأساليب الأدبية والمواد الشرعية ليكون مقرها مدينة الطائف عام 1364هـ أسماها (دار التوحيد) لحاجة البلاد في تلك الحقبة البعيدة إلى عدد من العلماء والقضاة والخطباء، وكان الشيخ عبدالله الشلاش (أبو محمد) ضمن الطلاب الذين أخذوا من أهليهم بالقوة في باديء الأمر رغم تمنع والديهم خشية تعيينهم في بلدان بعيدة عنهم.. فهو يرحمه الله يعتبر من الدفعة الأولى الذين تخرجوا من دار التوحيد الثانوية عام 1368هـ ثم اتجهوا إلى مكة المكرمة لمواصلة دراستهم الجامعية، كما أنه الآن يعتبر من بقايا زملائه الذين طوتهم يد المنون، وقد حصل على الشهادة العالية من كلية الشريعة واللغة العربية بمكة المكرمة عام 1372هـ ثم عين في سلك القضاء فترة وجيزة بعدها انتقل إلى ميدان التدريس حيث عمل مدرسا بمعهد شقراء العلمي، وفي مواقع أخرى، وأخيرا استقر به المطاف موجها بوزارة المعارف ورئيسا لقسم الثقافة الإسلامية، وكان في أثناء عمله يقوم بجولات تفقدية وتوجيهيه على المدارس في مراحلها الثلاث في كثير من مناطق المملكة فيستغل الفسح الطويلة للالتقاء بالمدرسين وخاصة مدرسي المواد الدينية فيناقشهم في بعض الموضوعات ويحثهم على الإخلاص في أداء أعمالهم وواجباتهم، ثم يخص الطلبة بالنصح والإرشاد والتحلي بالأخلاق الفاضلة واحترام معلميهم كي يخلصوا في أداء أعمالهم نحوهم:

إن الطبيب والمعلم كلاهما ** لا ينصحان إذا هما لم يكرما

ولي مع الشيخ عبدالله بعض الذكريات التي لا تنسى وقت الانتداب من حريملاء للعمل معه في لجان الاختبارات في أوساط الثمانينيات الهجرية ومع شقيقه الأستاذ سليمان الذي سبقه إلى مراقد الراحلين بحوالي خمسة عشر عاما حيث توفي في 15/12/1417هـ وكان مديرا للتعليم بمنطقة القصيم -رحمهما الله -فذكرياتنا مع الأستاذ -أبو خالد -قديمة في أثناء دراسته بكلية الشريعة بمكة المكرمة، ودراستي بدار التوحيد عامي 71-72 هـ ، وكانت مديرية المعارف آنذاك تؤمن سيارات لنقل طلاب دار التوحيد بأمر من جلالة الملك عبدالعزيز ذهابا وإيابا عند بداية الدراسة، وبعد الانتهاء من الاختبارات وهذا في منتهى الحفاوة والترغيب من لدن جلالته بطلاب دار التوحيد -يرحمه الله -فذكرياتنا مع الأستاذ سليمان لها طعم خاص حيث تخللها في أثناء سيرنا نحو الطائف تجاذب أطراف الحديث وبعض الطرائف الأدبية والمساجلات الشعرية وكانت رحلة ممتعة جدا معه ومع الزملاء، وكأني به يفتتح المساجلات بهذا البيت:

ألا ساجل دموعي ياغمام ** وطارحني بشجوك ياحمام

فأنا أعتبر الأخوين الكريمين بمنزلة الزملاء رغم فارق العمر والمستوى الدراسي، وقد عرف عنهما دماثة الخلق وطيب المعشر والعطف على الأيتام  والأرامل والمساكين، قال الله تعالى في محكم التنزيل (إنا لانضيع أجر من أحسن عملا). تغمدهما الله بواسع رحمته وأسكنهما فسيح جناته.

<!--[if !supportFootnotes]-->

<!--[endif]-->

(<!--)  نشرت في صحيفة الجزيرة، يوم الإثنين 25 ربيع الأول 1432هـ الموافق 28 فبراير 2011م.

(<!--) نشرت في صحيفة الجزيرة، يوم الإربعاء 27 ربيع الأول 1432هـ الموافق 2 مارس 2011م.

(<!--)  نشرت في صحيفة الجزيرة، يوم الجمعة 13 ربيع الآخر 1432هـ الموافق 18 مارس 2011م.

(<!--) نشرت في صحيفة الجزيرة، يوم الإربعاء 23 جمادى الأولى 1432هـ الموافق 27 إبريل 2011م.

mager22

فقد ورثاء ( عبد العزيز بن عبد الرحمن الخريف )

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 241 مشاهدة
نشرت فى 30 سبتمبر 2013 بواسطة mager22

الشيخ سعد بن داوود غاب عن أحبابه(<!--)

 

كم من جميع أشت الدهر شملهم *** وكل شمل جميع سوف ينتثر !

كل صفاء في هذا الوجود لاشك أن يعقبه كدر وحزن قد يطول مكثه بين جوانح من يفجع في غال أوفقد حبيب، فسير قوافل الراحلين عن الدنيا في استمرار إلى أن ينفد البشر ويخلو أديم الأرض منهم قاطبة، وهذه سنة المولى في خلقه إلى يوم النشور، فيجازى كل إنسان بما عمل، فالسعيد من يرحل بزاد من التقى ليسهل عليه العبور على متن صراط المتقين إلى دار النعيم المقيم، فجدير بالمسلم أن يستعد للسؤال في ذاك الموقف الرهيب الذي تشخص فيه الأبصار، وتذهل كل مرضعة عما أرضعت لهول يوم الحساب الذي لاينفع فيه مال ولابنون إلا من أتى الله بقلب سليم، فمن سعادة المرء أن يحبب الله له الإخلاص في العبادة منذ فجر حياته، وإطالة المكث داخل مساجد الله يتلو كلامه بتدبر وخشوع آناء الليل وأطراف النهار، والإكثار من النوافل، والمدارسة في اقتناص العلوم النافعة..، وهذا هو شأن الشيخ سعد بن محمد بن داوود الذي تزامن غروبه ورحيله عن الدنيا مع غروب شمس يوم الجمعة 3/2/1432هـ بعد حياة حافلة بالعلم النافع والعمل الصالح، حيث قضى زهرة شبابه في اقتناص العلوم والآداب، والتدريس، وكان محبوبا لدى زملائه وتلامذته الذين حزنوا عليه حزنا شديدا على غيابه عن نواظرهم، فطبيعته – يرحمه الله – الهدوء ولين الجانب، وتبسيط شرح المواد التي تولى تدريسها وتثبيتها في أذهانهم.

ولقد ولد -رحمه الله -في محافظة حريملاء وعاش في أكنافها بين أحضان والديه هو وشقيقاه فضيلة الشيخ عبدالعزيز، والاستاذ حمد -متعهما الله بالصحة والعافية - ورغم فقد بصره مبكرا إلا أنه عاش مطمئنا وراضيا بأقدار الله، فلم يعقه ذلك عن شق طريقه في الحياة، حيث وهبه المولى نفاذ البصيرة، وسرعة الحفظ لكلام الله الذي تلقاه في حريملاء لدى المقريء الشيخ محمد بن عبدالله الحرقان -رحمه الله-حيث حفظ القرآن كاملا في زمن وجيز، وفي العقد الثاني من عمره شرع في طلب العلم بجانب أخيه عبدالعزيز على قاضي البلد -آنذاك -الشيخ عبدالرحمن بن سعد -رحمه الله -وحفظ شطراً من المتون المعروفة مثل كتاب التوحيد، وثلاثة الأصول، والعقيدة الواسطية، ومتن الرحبية في علم الفرائض والمواريث، مع الإعراب في مباديء اللغة العربية على ضوء متن الأجرومية، وعند افتتاح المعهد العلمي بالرياض شخص مع أخويه فالتحق بالمعهد، واستمر في الدراسة حتى نال الشهادة العالية بكلية الشريعة عام 1379هـ، ثم عين مدرسا بمعهد شقراء وقتاً من الزمن، وكان بصحبته شقيقه الأستاذ حمد الطالب بالمعهد -آنذاك – وبعد ذلك تم نقله إلى معهد الرياض العلمي، وأخيرا مدرسا بمعهد إمام الدعوة، واستمر حتى أنهى الخدمة النظامية تاركا أثرا طيبا في نفوس تلامذته، وذكراً حسناً مع زملائه ورفاق دربه.

وإنما المرء حديث بعده *** فكن حديثا حسنا لمن وعى

وكان هو وشقيقيه فضيلة الشيخ عبدالعزيز والأستاذ حمد متآلفين ومتلازمين منذ طفولتهم لايفرقهم إلا ظروف العمل وأوقات راحتهم..، وأخيراً فرقهم هادم اللذات ومفرق الجماعات.. !

وكل أخ مفارقه أخوه *** لعمر أبيك إلا الفرقدان

وكان رحمه الله مواظبا على الصلوات الخمس ومكانه دوما خلف الإمام، ويختم القرآن في كل أسبوع، ولايبرح المسجد بعد صلاة الفجر حتى يصلي ركعتي الإشراق ومعه شقيقيه عبدالعزيز وحمد، وصديقهم الأخ الفاضل عبدالله بن إبراهيم الخميس الذي رحل أخيرا، كما أنه يجلس لبعض الطلاب للقراءة عليه في كتاب التوحيد والفقه، وقد عرف عنه حب الإنفاق في أي مشروع خيري يعرض عليه فلا يتردد في ذلك أبدا، ومن صفاته الحميدة أنه واسع الصدر ذو دعابة مقبولة يؤنس بها محدثه، ولنا مع الشيخ سعد (أبو سليمان) ذكريات جميلة لايمحها ماح، فهو يعتبر صديق وزميل دراسة لا زميل فصل لتقارب مراحل الدراسة - تغمده الله بواسع رحمته وأسكنه فسيح جناته وألهم ذويه وأبناءه وبناته وإخوته وعقيلته الصبر والسلوان -(إنا لله وإنا إليه راجعون) وختاما بيت من الشعر:

فاسعد ودم في نعيم لانفاد له *** ياتابعاً ما أتى عن سيد البشر

 

 

 

 

 

 

 

 

 


الشيخ عبدالرحمن بن محمد المبارك وأريج ذكره الطيب (<!--)

 

لعمرك ماللناس في الموت حيلة *** ولا لقضاء الله في الخلق مدفع

كثير من بني البشر ممن لهم دور إيجابي في الحياة سواء أكان علمياً أم أدبياً، أم مادياً يستفيد منهم مجتمعهم فيما يقدمونه من أعمال إنسانية وصلة لإرحامهم، أو نشاطات تجارية تنفع الجميع، فإن ذكرهم يبقى طريا على تعاقب الأيام والليالي، بل ويعتبر العلماء بمنزلة المدرسة في إضاءة الصدور من معينهم العلمي الصافي، فهم قدوة حسنة لمعاصريهم ولاحقيهم من الأمم المتتابعة لما يفيضونه عليهم من علوم نافعة وتوجيهات سديدة، فمن أولئك العلماء الأجلاء شيخنا الفاضل عبدالرحمن بن محمد بن ناصر المبارك – رفيق درب والدنا الشيخ عبدالرحمن بن محمد الخريف رحمهما الله – الذي ولد في حريملاء عام 1318هـ ونشأ في كنف والده الشيخ العالم الجليل محمد بن ناصر المبارك رائد الحركة العلمية في حريملاء -آنذاك -المتوفى عام 1333هـ تقريبا الذي تخرج على يديه عدد كبير من العلماء والقضاة والمرشدين في زمن يفتقر إلى العلماء والقضاة، وكان مسجده كخلية نحل من طلاب العلم الذين يفدون إلى حريملاء من البلدان المجاورة ومن سدير والزلفي والقصيم، وحتى من بعض بلاد فارس، وقد وجه جلالة الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه -نخبة منهم إلى عدد من المدن والبلدان للقضاء ونشر العلم في أوساط البلاد وأطرافها، بل وأمد بلدان الخليج ببعض القضاة، وعمر الشيخ عبدالرحمن حينئذ ثلاثة عشرعاما، وقد حفظ القرآن الكريم على يديه قبل وفاته -يرحمهما الله -وقد تأثر به في علمه وحبه للقراءة وإجالة النظر في بطون الكتب، وحفظ بعض المتون مثل ثلاثة الأصول، وجزء من كتاب التوحيد، ومتن العقيدة الواسطية ومباديء في العربية -متن الأجرومية -رغم صغر سنه، وبعد وفاة والده الشيخ محمد رغب في التزود من فيض العلوم فرحل إلى مدينة الرياض ودرس على علمائها ومن أبرزهم الشيخ عبدالله بن عبداللطيف بن عبدالرحمن آل الشيخ، والشيخ سعد بن حمد بن عتيق، الشيخ محمد بن عبداللطيف بن عبدالرحمن آل الشيخ، والشيخ حمد بن فارس في العربية والنحو وغيرهم -حمهم الله جميعا -، وبعد ذلك تم اختياره من قبل الملك عبدالعزيز ليذهب مع شويش بن ضويحي المعرقب مدير جيش الحكومة ليكون كاتبا وإماما ومرشدا، ثم بعد ذلك اختير ليذهب إلى هجرة عرجاء ليكون قاضيا وإماما لهم، وبعد ذلك تم تعيينه من قبل الملك عبدالعزيز أميرا لحريملاء مسقط رأسه وموطنه الأصلي، ثم عين في عرجاء مرة أخرى بناءً على إلحاح من الأهالي ومكث فيها الى أن تم تعيينه أميرا وقاضيا للدرعية عام1361هـ، ومكث فيها قرابة عشر سنين حتى طلب الإقالة من الملك سعود -رحمه الله – وفي أثناء مكثه في الدرعية جلس للتعليم ونشر العلم، وقد قرأ عليه عدد من الطلبة من أشهرهم عبدالرحمن بن محمد الحصان، وسليمان بن عبدالله الطويل، وحمود الحمود، وعلي بن عبدالعزيز العليان، وعبدالله بن علي المقحم، وناصر بن عبدالله بن دخيل وأخيه فهد -رحم الله الجميع -والشيخ عبدالعزيز بن عبدالله السالم وغيرهم، ثم اختير من قبل الشيخ عمر بن حسن آل الشيخ ليعمل في رئاسة هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مديرا للشئون الدينية بها ومكث بها الى أن بلغ سن التقاعد، وقد توفي صباح يوم الأربعاء الموافق 15/6/1400هـ، وقد كان طول حياته محبا للخير آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر لا تأخذه في الله لومة لائم -رحمه الله رحمة واسعة-وله من الأبناء ابن واحد هو الشيخ عبدالعزيز وعدد من البنات، وكان -رحمه الله-من خواص وأصفياء والدنا العالم الزاهد الشيخ عبدالرحمن بن محمد الخريف، وقد ظلا أكثر من أربعة عقود من الزمن متحابين ومتآلفين قلّ أن يفترقا سوى فترة من الزمن تخللها عملهما في السلك القضائي في بعض المواقع، حيث أن الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه -قد عين والدنا قاضيا في (قرية العليا) الواقعة في الجاني الشمالي الشرقي من المملكة عام 1347هـ ثم نقله الى (سنام) بمنطقة القويعية، وبعد ذلك طلب الإعفاء من الملك عبدالعزيز لظروفه العائلية فأعفاه بعد إلحاح وإقناع، أما الشيخ عبدالرحمن بن محمد المبارك فقد عينه قاضيا وإماما في هجرة (عرجاء) كما أسلفنا آنفا، واستمر بها وقتا من الزمن معززا ومكرما لدى أهلها لما يتمتع به من هيبة وسماحة خلق، فهو يرى والدنا مرجعا له ولبعض قضاة حريملاء وطلاب العلم بها وما جاورها من البلدان -آنذاك - لغزارة علمه وسعة أفقه، وطول باعه في المسائل الفقهية والعقيدة السمحة وعلوم الحديث بل وإلمامه بجميع العلوم عموما لغة وشرعا، ولقد استفاد الشيخ (أبو عبدالعزيز) منه فوائد جمة لطول ملازمته له وإنصاته لما يتفوه به من حكم وأمثال، وسماعه له أثناء قراءته في بعض كتب المطولات والسير بالمسجد قبل صلاة العشاء من كل ليلة، والتعليق على بعض الموضوعات وإيضاحها للعامة والخاصة، المسترشدين، حيث إن المسجد يحفل بحضور كثيف من أصحاب الفلاحة وسائر العمال يأتون من نواحي عدة من أطراف البلاد للاستفادة وللمعرفة بأمور دينهم والاستئناس بسماع قصص الأوائل وماجرى بينهم في تلك العصور والحقب البعيدة، رغم متاعبهم الجسمانية في حقولهم ومزارعهم، وظل التواصل بينهما إلى أن فرقتهما الأيام والليالي، ولنا مع الشيخ (أبو عبدالعزيز) ذكريات جميلة راسخة ومقيمة في طوايا النفس مدى الأيام، وكنت أنا ونجله الشيخ عبدالعزيز في صغرنا نصحبهما -أي والدينا -إذا دعيا إلى القهوة ليلا أو لتناول الريوق وفك الريق -أي الفطور حاليا -بعد طلوع الشمس ونسعد بشرب الحليب والزنجبيل، أما الشاي فلم يتوفر في تلك العصور، بل إنه يندر، أو أكل ما تيسر من الأطعمة الشعبية في ذلك الزمن المتباعد، وقد يحصل علينا بعض الملاحظات والتوجيهات الأبوية للالتزام بالأدب إذا لاحظا علينا بعض التصرفات والحركات ورفع الصوت والقهقهة التي قد تخرج منا بأدنى سبب شأننا في ذلك شأن الأطفال، وقد تحمر العين علينا للكف عن الضحك فنتوقف مؤقتا أو نستمر فيه غير قادرين على كبحه ثم نضطر إلى مغادرة المجلس لإفراغ شحنات الضحك فيكون ذلك سببا في حرماننا من تناول ما تيسر من شراب أو طعام، وقد استفدنا من بعض الأحاديث، والقصص التي تجري بينهما في المجالس، وفي المسجد ولم نعي معانيها وأهدافها، وظلت أصداء أصواتهما لاصقة في جدار الذاكرة حتى كبرنا فأدركنا بعضا منها، منها على سبيل المثال أن الشيخ - آبا عبدالعزيز- قد سأل شخصا عن شيء مّا فقال لاطال عمرك فنهره قائلا: اسكت سكتة لطيفة ثم قل لا طال عمرك أو لا وأطال الله عمرك، وذلك يدل على رهافة حس الشيخ وإدراكه للأساليب البلاغية بفطرته قبل رؤيته مصنفات كتب البلاغة، وفي مجال آخر انتقد أحد الشباب في تسرعه وتعجله وعدم تدبره فيما أقدم عليه مجانبا الصواب، فما كان من الشيخ -يرحمه الله -إلا أن هز رأسه متمثلا بقول الشاعر أبي يعقوب الخريمي:

إن الأمور اذا الأحداث دبرها *** دون الشيوخ ترى في بعضها خللا

إن الشبــــاب لهــم في الأمر معجلة *** وللشــيوخ أناة تدفع الزللا

وهذه العجالة القصيرة نبذه عن حياته وسيرته العطرة، فالذكريات الجميلة مع شيخنا الشيخ (أبو عبدالعزيز) يطول مداها، غفر الله له وأسكنه فسيح جناته.

 

 


رحم الله أبا ناصر العجلان (<!--)

 

هو الموت ما منه ملاذ ومهرب *** متى حط ذا عن نعشه ذاك يركب !

قال الله في محكم كتابه العزيز "كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون" الآية (57) العنكبوت، وهذه سنة الله في خلقه: حياة ثم موت فبعث ليوم الحساب يوم يجازى كل بما عمل، فالسعيد من يرحل بزاد من التقى، سليم الصدر راجيا عفو ربه ومغفرته ورضوانه، هذه الدعوات كثيرا ما يكررها الصديق الكريم محمد بن عبدالله العجلان الذي سبقنا إلى مراقد الراحلين حيث فاضت روحه الطاهرة الساعة الثانية قبل صلاة فجر يوم السبت 9/3/1432هـ رحمه الله وأديت عليه الصلاة بعد صلاة عصر يوم السبت بجامع الملك خالد بأم الحمام بالرياض، وقد اكتظ بجموع غفيرة من المصلين رجالا ونساء راجين له المغفرة وطيب الإقامة بجدثه إلى أن يأذن الله لجميع الخلائق بالنهوض في اليوم الموعود لإحصاء ما سطره الملكان لكل إنسان من حسنات وسيئات، ثم يفترقان فريق في الجنة وفريق في السعير، فنرجو من المولى أن يكون (أبو ناصر في زمرة المغفور لهم الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) ولقد ولد ببلده (القرينة) بمحافظة حريملاء ودرس في الكتاب لدى المقرئ حمد بن سعد المقرن، وعمل في صغره مع والده في مزرعته بأم السلم، ولقد نشأ في طاعة الله منذ فجر حياته ولسانه دوما رطبا بذكر الله، محبا للعمل الخيري ومعرضا عن مساوئ الناس واصلا رحمه طيب المعشر مع أسرته وجيرانه، وكثيرا ما ينفح جلسائه من أشعاره المشتملة على الحكم والأمثال والعظات، واتسم شعره بسهولة اللفظ وعمق المعنى والحث على الإستقامه والاستعداد لما بعد الموت، فقد احتفظت ببعض تلك القصائد في شريط للاستئناس بسماعها، وعاش محبوبا لدى مجتمعه ومحبيه، وقد رزقه الله من الذرية الصالحة ثلاثة أبناء: (ناصر -رحمه الله -ومنصور وسليمان، وست بنات) متع الله الجميع بالصحة والعافية، ومن وفائه الحضور من مقر إقامته  في مدينة الهياثم بالخرج إلى مزرعة شقيقه فضيلة الشيخ إبراهيم بن عبدالله العجلان قاضي التمييز -سابقا -ليأنس برؤية أخيه الشيخ إبراهيم ويتلذذ بتذكر أيام طفولتهما بين أحضان والديهما رغم ما يعانيه من بعد المسافة بين البلدين، فمزرعة الشيخ إبراهيم ملتقى لأقربائه وأصحابه وزملائه في أواخر كل أسبوع في غالب الأيام، ولا يخلو ذاك الملتقى من فوائد جمه شرعية وأدبية، كما أن أبا ناصر يتحف الحضور ببعض قصائده ومنظوماته المؤثرة التي تؤنس الحضور وتذكرهم بأيام الله ليغتنموا الاستفادة من مواسمها قبل الرحيل عن الوجود:

ولا خير في الدنيا لمن لم يكن له *** من الله في دار القرار نصيب

  فهو أنس المجالس حلو الطرفة والفكاهة، وكثيرا ما يأخذه الأستاذ الفاضل عبدالله بن محمد الشدي – أبو أحمد – لصلة القرابة بينهما وليأنس به وبقصصه الشائقة في رحلاته الداخلية وأسفاره لمزارعه الكثيرة في وادي الدواسر وفي حريملاء، والحمادة قرب محافظة شقراء وغيرها من النخيل والمزارع، وقد عمل أبو ناصر -رحمه الله -ببلدية الهياثم وقتا من الزمن وإماما بمسجد في حيهم -آنذاك -كما قام بالإشراف على مزارع صاحب السمو الملكي الأمير مشعل بن عبدالعزيز بالمنيصف قرب الهياثم، لما توسم فيه من صلاح وأمانة بشؤون الفلاحة، فالأسرة المالكة – يحفظها الله – تعنى بالزراعة وبغرس فسائل النخيل بصفة عامة بدءا من الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه -ليستفيد منها أبناء الوطن وعابري السبيل لعلمهم بمضاعفة أجر أصحاب الفلاحة وغرس النخيل، ومما يؤثر عن الملك عبدالعزيز أنه في أثناء مروره  بحريملاء مع طريق محاذيا لنخل والدنا الشيخ -رحمه الله -وهو ممتطيا صهوة حصانه قبيل جذاذ ثمار النخيل فشاهد قنوان التمر في منظر جميل وهي متربعة على عسب النخيل تنوء بأحمالها، فقال لمن حوله قفوا (صاحب هذا النخل لا يجوع أبدا)  وهذه الشهادة تعتز بها منطقة حريملاء من ملك أحب رعيته فتفانوا في حبه والدعاء له – تغمده الله بواسع رحمته ورضائه. ولنا مع (أبو ناصر) ذكريات جميلة ومواقف طريفه لا تنسى مدى العمر، ولا ننسى أفضاله وإكرامه لنا أثناء حضورنا لرئاسة لجان الاختبارات بالدلم والهياثم في بداية التسعينات الهجرية بصحبة العم عبدالله القضيب – رحمه الله – فقد دعانا لتناول طعام الغداء في منزله واشترطنا عليه ألا يتكلف، ولكنه أبا إلا أن يفاجئنا بكبش سمين، ولئن غاب عن نواظرنا فإن ذكره الطيب يعبق في أرجاء نفوسنا – رحمه الله – وأسكنه فسيح جناته وألهم ذويه وأهله ومحبيه الصبر والسلوان.

 

 

 

 

 


الشيخ صالح الراجحي لاقى وجه ربه(<!--)

 

والناس ألف منهم كواحد *** وواحد كالألف إن أمر عنا

جادة الموت عامرة بمرور الملايين من البشر وقوافل الراحلين على اختلاف أديانهم وأجناسهم، بل وأعمارهم صغارا وكبارا بدون تميز في ذاك المضمار مضمار الموتى، وإنما التفاضل والذكر الحسن فيمن يرحل بزاد من التقى، وقد ترك آثارا طيبة محمودة يدوم أجرها له، ونفعها للمسلمين على تعاقب الملوين مثل تشييد المساجد والمساكن للضعفة والمساكين، والتوسع في غرس فسائل النخيل التي تعتبر من أركان الأمن الغذائي الطويل الأمد.. ينتفع بها الحاضر والبادي، مع ما يؤمن من عقارات عدة في كثير من المواقع يصرف ريعها على المؤسسات الخيرية والجمعيات التي تعنى برعاية الأيتام والمساكين، ومساعدة الشباب في زواجهم وأحوالهم المادية، بل ومن يحتاج من الأقربين – وهم أحق بالمعروف - ولقد أحسن الشاعر المقنع الكندي حيث يقول:

وإذا رزقت من النوافل ثروة *** فامنح عشيرتك الأداني فضلها

وما ذكرناه في هذه الأسطر ينطبق تماما على الشيخ الفاضل الراحل/ صالح بن عبدالعزيز الراجحي الذي غادر الحياة مأسوفا على فراقه يوم السبت 9/3/1432هـ، وصلي عليه بعد صلاة عصر يوم الأحد 10/3/1432هـ بجامع الراجحي الكبير المتربع على حافة الطريق الدائري الشرقي بمدينة الرياض، وقد اكتظ بألاف المصلين رجالا ونساء بعد حياة طويلة حافلة بالكفاح وبالأعمال الجليلة المشرفة في كثير من مناحي الحياة، فالشيخ الراجحي – يرحمه الله – لا يضارعه ولا يماثله أحد من المحسنين في البذل السخي في أوجه البر والإحسان وبناء المساجد وتشييدها تشييدا حضاريا يصعب عدها وحصرها في كثير من المدن والأرياف داخليا وخارجيا، وكل أعماله الخيرية تتسم بالجزالة والمثالية: -كالبدر من حيث التفت رأيته -! ، وهذه السجية والأريحية مِنٌة من الله عليه، فهو محظوظ ومغبوط، ونرجو من المولى مضاعفة حسناته والبركة في ذريته وأسرته، ولقد وعى حقيقة قول الشاعر:

خذ من تراثك ما استطعت  ***  فإنما شركاؤك الأيام والوراث

ويقول الأخر مثنيا :

تقاسم الناس حسن الذكر فيك كما *** تركت مالك بين الناس مقتسما

فقد قدم الكثير وأبقى الأكثر – تغمده الله بواسع رحمته ومغفرته – وقد عاش متواضعا في هندامه وملبسه ومركبه واثقا من نفسه وشاكرا المولى على نعمائه وأفضاله، ومن الشواهد الحميدة على تبسطه في شؤونه الخاصة في المأكل والمشرب وحفظ النعم بدون سرف ولا تقتير:

لا خير في الإفراط والتفريط *** كلاهما عندي من التقصير

ولقد حضرت يوما حفل زواج إحدى كريماته منذ عقود من الزمن على الشاب الأديب/ سعود بن عبدالله العمران في قصره الواقع على شارع الأمير أحمد بن عبدالعزيز بحي الملك فهد شمال مدينة الرياض، وكان الحفل متواضعا جدا، وكان بإمكان الشيخ صالح أن يضع على كل صينية (جملا) ولكن تقديره لنعمة الخالق جعلها وليمة متواضعة في صحون صغيرة وفوق كل واحد منها مقدار كيلو لحم وشطر دجاجة وشيء من الفواكه، فأنس الحضور بما قدم ودعوا له بالبركة في أسرته وماله، فيا ليت كل صاحب مناسبة أن يقتصد كي يكون قدوة للجميع، فمحبة الشيخ ساكنة في قلوب محبيه وعارفيه ، ولقد أجاد الشاعر التنوخي حيث يقول:

كأنك من كل النفوس مركب *** فأنت إلى كل الأنام حبيب

 فعلى أي حال فإن أعماله الخيرية الجبارة واهتمامه بغرس النخيل جيدة النوعية التي يربو على عدها أكثر من مائة ألف نخلة بمنطقة القصيم ومزارع القمح رحبة المساحات التي يعود نفعها على الجميع فتعد من محاسنه وإخلاصه لوطنه وبنيه:

وغدا توفى النفوس ما عملت *** ويحصد الزارعون ما زرعوا

والشكر موصول لإخوته الكرام ولأبنائه البررة وأسرة الراجحي عموما، لما يبذلونه لصالح البشرية جزاهم الله خيرا، وتغمد الراحل بواسع رحمته وأسكنه فسيح جناته وألهم ذويه وأسرته ومحبيه الصبر والسلوان.

<!--[if !supportFootnotes]-->

<!--[endif]-->

(<!--) نشرت في صحيفة الجزيرة، يوم السبت 11 صفر 1432هـ الموافق 15 يناير 2011م.

(<!--) نشرت في صحيفة الجزيرة، يوم السبت 9 ربيع الأول 1432هـ الموافق 12 فبراير 2011م.

(<!--) نشرت في صحيفة الجزيرة، يوم الخميس 14 ربيع الأول 1432هـ الموافق 17 فبراير 2011م.

(<!--) نشرت في صحيفة الجزيرة، يوم الثلاثاء 19 ربيع الأول 1432هـ الموافق 22 فبراير 2011م.

mager22

فقد ورثاء ( عبد العزيز بن عبد الرحمن الخريف )

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 245 مشاهدة
نشرت فى 30 سبتمبر 2013 بواسطة mager22

أنجال الزميل الخليوي أهاجوا لي الذكريات (<!--)

 

لك الله لا توقظ الذكريات  ***   وخل الأسى في الحنايا دفينا

قد تكون بعض ذكريات الإنسان مع أحبته وأصدقائه ساكنة ومقيمة في طوايا نفسه لا حراك لها، وفجأة يجيء لها باعث فتنهض منتبهة لأي سبب ما، وخاصة التي تقادم عهد رصدها وإيداعها في مستودعات الذاكرة، فبمجرد زيارة أبناء زميلي وصديقي الأستاذ الراحل عبدالله بن علي الخليوي ـ رحمه الله ـ ورؤيتي لهم مباركين لي بحلول عيد الفطر المبارك، فقد طوح بي الخيال إلى تصور شخصه في محيا كل واحد منهم وفي طليعتهم أبنه الشاب الدكتور/ خالد الشيخ الداعية الإسلامي المعروف عبر برنامج التلفاز...، فلم أتمالك دفع عبراتي فرحاً بوفائهم لي، ومتذكراً أيامنا الجميلة مع والدهم الذي رحل وطوته يد المنون عنا!! ، فما أحلى وفائهم لوالدهم بتواصلهم مع زملائه وأحبته، وكأنه يرحمه الله قد أوصاهم بالوفاء معهم حين أحس بدنو أجله بأن لا ينسوا أحبته متمثلاً بهذا البيت:

نبادله الصداقة ماحيينا  ***   وإن متنا سنورثها البنينا

ولقد سعدت برؤيتهم بمنزلي ، فكان كل واحد منهم يسارق النظر نحو محياي مستحضرين صورة والدهم وكأنه بجانبي في ذاك المجلس والشمل جامع لنا...!!

إن القلوب إذا صفت مرآتها  ***  وإن حجبت ترى بها منظورا

وكانت هواتفهم لا تني متواصلة معي طيلة الأعوام السالفة، وخاصة في مواسم الأعياد، وفي بعض المناسبات ـ فجزاهم الله عني خيرا ـ ورحم الله والدهم  ووالدتهم التي لحقت به في هذا العام منذ شهور قلائل فأمسى منزلهما مظلما بعد ما خلا من شخصيهما، وهكذا طبع الليالي والأيام: 

طبعت على كدر وأنت تريدها  ***  صفواً من الأقذاء و الأكدار

فلقد عشنا معاً متحابين ومتجاورين في المقاعد الدراسية بعد عودتي من دار التوحيد بالطائف، بداً من عام 1373هـ بالمعهد العلمي بالرياض حتى نلنا الشهادة العالية بكلية اللغة العربية عام 1378هـ، ونعتبر ثاني دفعة من الكلية، فلا نفترق إلا بعد انتهاء الحصص الدراسية اليومية، ومع ذلك يحصل التواصل في منازلنا وخاصة في أواخر الأسبوع في غالب الأيام..، وبعد التخرج تفرقت أجسامنا، وكل واحد من الزملاء أمسى تحت نجم كما يقال ممتطياً سفينة عمله في كثير من المواقع خارج مدينة الرياض، ومشتغلا بما وكل إليه من أعمال، فانقطع التواصل بيننا نسبياً وذلك لتباعد المواقع ووعورة الطرق - آنذاك -وقلة وسائل التواصل من هواتف ومراكب أرضية أي قبل أن تشرق شمس الحضارة المادية على ربوع هذا الوطن الرحب المناكب الحبيب إلى قلوبنا مرددين هذا البيت:

الدهر لائم بين ألفتنا  ***  وكذاك فرق بيننا الدهر

وبعد إنعام المولى على هذه البلاد بوفرة الخيرات والتوسع الحضاري في جميع جوانب الحياة والرفاهية أخذ يسهل التواصل والتقارب بين الناس وبين الزملاء والأصدقاء، وهذا من نعم الله ثم بجهود ولاة أمر هذه البلاد التي تنعم بالأمن والرخاء، ولقد ولد الزميل عبدالله الخليوي ـ أبو عبدالعزيزـ بمدينة الرس إحدى كبريات مدن القصيم وترعرع في أكنافها بين لداته وأقرانه حتى أكمل المرحلة الابتدائية فيها بتفوق، ثم شخص إلى مدينة الرياض عام 1371هـ للالتحاق بالمعهد العلمي مع لفيف من زملائنا أبناء مدينة الرس أمثال الأخوة: محمد بن صالح العميل، وعبدالله المحمد العقل، وعبدالله العبدالرحمن الرشيد، وعبدالعزيز المحمد الفواز (رحمهما الله ) وصالح الحمد المالك ، ومنصور البراهيم المالك، وناصر بن صالح العمري، وعبدالعزيز الصالح الرشيد،  وعبدالله المحمد الرشيد، وغير من لم نستحضر اسمه الآن، وكل هؤلاء الزملاء الفضلاء من مدينة الرس، رحم الله الراحلين منهم وأسعد الباقين الحاضرين على قائمة الانتظار منا..! ، وبعد  حصول الأستاذ عبدالله العلي على الشهادة العالية عام 1378هـ -كما أسلفنا -صدر قرار تعيينه مدرسا بالمعهد العلمي بالأحساء وظل هناك فترة من الزمن..، ثم انتقل إلى وزارة البترول المتربعة على شارع المطار القديم (شارع الملك عبدالعزيز بالرياض) واستمر في عمله حتى أنهى الخدمة النظامية بها ومكث بمدينة الرياض حتى توفاه الله في 30/5/1418هـ  -رحمه الله -وكان محبوبا لدى زملائه ومعارفه لما يتحلى به من دماثة الخلق ولين الجانب، والتفاني في حبه للعمل، وإنجاز المعاملات التي تحال إليه، فطابعه المرونة والفهم للأنظمة المالية والإدارية مما كان سببا في نجاحه بتسيير أعماله بيسر وسهولة، ولنا مع (أبو عبدالعزيز) رتل من الذكريات الحبيبة إلى نفوسنا لا تغيب عن خاطري، ولا يمحوها تعاقب الملوين، فالمجال لا يتسع لذكرها كلها  مثل جلساتنا لاستذكار الدروس في عدد من المساجد، وفي بعض الرحلات البرية وليالي السمر بها وما يتخللها من مساجلات شعرية، وتبادل الطرائف وأحاديث الفكاهة، وفي تسلق الجبال والآكام (أحياناً):

ويا ظل الشباب وكنت تندى  ***   على أفياء سرحتك السلام

ومما حز في نفسي وأبكاني رؤيتي له بالمستشفى المركزي بالرياض وهو في العناية المركزة وفي حالة حرجة، فوقفت عليه بعد إلحاح على حارس القسم بأن ألقي عليه نظرة وأدعو له، فقلت له وهو في شبه غيبوبة يصارع سكرات الموت: أنا زميلك عبدالعزيز الخريف فما كان منه إلا أن أومأ برأسه إيماءة مودع وتحسر، وكأنه يخاطبني من شدة حبه لي بهذا البيت الذي كله وفاء:

سأصفيك ودي في الحياة فإن أمت  ***  يودك عظمٌ في التراب دفين

 رحمك الله أبا عبدالعزيز وتغمدك بواسع رحمته ومغفرته.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 


الأستاذ المبارك (أبو هشام ) ذكرى باقية (<!--)

 

رحلوا فأية عبرة لم تسكب *** أسفا، وأي عزيمة لم تغلب

كم هو مؤلم ومحزن فقد رفاق الصبا والصغر، وتواريهم عن أنظار أحبتهم في باطن الأرض!، فكلما فكر الإنسان في تلك الأيام الفارطة، والسويعات الجميلة التي قضاها أيام طفولته مع أولئك الزملاء ورفاق العمر فإنه قد يجهش بالبكاء، ولاسيما من كان ذا صلة بهم: قرابة أو جوارا، فحزنه يطول بتذكرهم كلما خلا بنفسه، ثم يأذن لشريط ذكرياته معهم وما قد جرى بينهم من تآلف وتواصل في تلك الحقب بعيدة المدى، وما يتخللها من مرح ومزاولة للألعاب المحببة إليهم ولأمثالهم في مسارح لهوهم ومراتع صباهم، ولاسيما في أوقات الآصال وفي أوائل الليالي المقمرة – أي قبل وجود المصابيح الكهربائية– وتعتبر تلك الفترة العمرية من أحلى أيامهم وأبقاها صدى بين جوانحهم ومسارب خواطرهم:

أيام كنت أناغي الطير في جذل  ***  لا أعرف الدنيا وبلواها

فمن أولئك الزملاء زميل الصغر الأستاذ الفاضل/ راشد بن عبدالله المبارك الذي سبقنا إلى مراقد الراحلين في 24/7/1420هـ -تغمده الله بواسع رحمته – فقد ظل فقده هاجس النفس منذ أن رحل عنا إلى الدار الباقية هو ومن سار على دربه من أحبه ورفاق درب، فغيابه أحدث فجوة واسعة وفاصلة في منظومة الزملاء والأصدقاء الذين سعدنا بصحبتهم ورؤيتهم بين حين وآخر، ولقد بدأ حياته الدراسية في إحدى مدارس الكتاب لتحفيظ القرآن الكريم وتعلم الخط بحريملاء لدى المقريء (المطوع) الشيخ محمد بن عبدالله الحرقان – رحمه الله – وفي أثناء تلك الفترة توفي والده عبدالله أحد أمراء حريملاء الأخيار، ومما هو جدير بالذكر أن والدنا الشيخ عبدالرحمن بن خريف – رحمه الله – قد رآه في المنام بعد وفاته – أي عبدالله- وكأنه في بستان نخل بحريملاء يسمى (سعادة) محتضنا قنوان تمر بأعلى النخلة فأثنى عليه فقال هذه الرؤيا بشرى خير له – يرحمه الله-، ثم طلب خاله الشيخ ناصر بن حمد الراشد الرئيس العام لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمكة المكرمة – آنذاك -حضوره هو وشقيقه مبارك فاحتضنهما داخل بيته واهتم برعايتهما – يرحمه الله – فألحقهما بالمدرسة الرحمانية حتى نالا الشهادة الابتدائية عام 1369هـ بعد ذلك ألحقهما بدار التوحيد بمدينة الطائف عام 1370هـ لعلمه بمتانة مناهجها في المواد الدينية واللغة العربية، ثم انتقلا إلى الرياض بعد افتتاح المعهد العلمي 1371هـ مع لفيف من الزملاء أمثال: سعد بن عبدالعزيز الصفيان، وعبدالعزيز بن صالح أبو حيمد، صالح بن سليمان الحميدى، وغير أولئك من الشباب، حتى نال الشهادة العالية بكلية اللغة العربية عام 1377هـ ويعتبر من الدفعة الأولى بها..، وقد حظي هو وزملاؤه بتكريمهم في حفل بهيج أقامه الرئيس العام لكليتي الشريعة واللغة العربية سماحة الشيخ المفتي محمد بن ابراهيم آل الشيخ وأخوه فضيلة الشيخ عبداللطيف برعاية جلالة الملك سعود -رحمهم الله جميعا -فاستلموا الجوائز من يد جلالته وهي عبارة عن ساعات يدوية ثمينة احتفظ كل واحد منهم بهديته تذكارا خالدا لذلك الحفل المميز الذي يدل على عناية ولاة أمر هذه البلاد بطلاب العلم وتشجيعهم، والفرح بتفوقهم حيث شد على أيديهم قائلا أنتم رجال الغد..، ثم عين مدرسا بالمعهد العملي بالرياض لمدة عامين، وبعد ذلك انتقل إلى جهاز وزارة المعارف موجها، ثم أعير مدرسا ضمن البعثة السعودية للجزائر عامي 1385-1386هـ، وبعد انتهاء مدة الإعارة عاد إلى نفس عمله بالوزارة، وأخيرا عين مديرا عاما للتعليم الأهلي – تعليم الكبار-حتى تقاعد وأخلد للراحة إلى أن توفاه الله – رحمه الله – كما كان عضوا فاعلا من أعضاء اللجنة الأهلية القدامى الذين تحقق الشيء الكثير من مطالباتهم الجهات العليا لتطوير مدينة حريملاء: مثل افتتاح المستشفى العام مبكرا وعدد من المدارس، والمعهد العلمي، والسد العملاق، والضمان الاجتماعي، والإسراع بمد الطريق صوب حريملاء بل وجميع متطلبات البلاد وما جاورها..، كل ذلك تحقق في ظل حكومتنا الجليلة الحريصة على تطوير المدن الصغيرة والأرياف لتقل الهجرة إلى أوساط المدن وتخفيف الزحام عنها ولقد أجاد الشاعر حيث يقول:

إذا الحمل الثقيل توزعته   ***   أكف القوم خف على الرقاب

كما كان – أبو هشام يرحمه الله– من المشجعين والمشوقين لي على الالتحاق بدار التوحيد بالطائف التي تعتبر أول مؤسسة علمية أسسها جلالة الملك عبدالعزيز واعتنى بطلابها – طيب الله ثراه – وأمله أن تخرج أفواجا متتابعة من العلماء والقضاة والخطباء في المساجد في كبريات المدن والأرياف، وقد اختار مدينة الطائف أن تكون مقرا لها رغم بعدها عن منطقة نجد لاعتدال جوها وطيب مناخها، ولأجل أن يبتعد الطلاب عن مشاغل أهليهم ليتفرغوا في النهل من حياض العلوم النافعة على أيدي نخبة مختارة من فطاحل علماء الأزهر، وبعض العلماء الأجلاء من الداخل..، كما أن طلابها يحظون برعاية خاصة واهتمام بالغ من جلالته، ولقد كان لنا مع الأستاذ الراحل راشد وشقيقه الأستاذ مبارك أجمل الذكريات وأمتعها حيث يتخلل تلك الفترة الزمنية رحلات متعددة ومسامرات أدبية تبهج النفوس وتصقل المواهب، فجونا في تلك الأزمان جو علم وثقافة، كما أن أبا هشام له باع طويلة في الخطابة والارتجال، أذكر جيدا اختياره لإلقاء كلمته أمام جلالة الملك سعود -يرحمه الله – في أثناء تشريفه لمدينة حريملاء عام 1374هـ، كما ألقى في تلك المناسبة السعيدة الشيخ محمد بن صالح بن سلطان وكيل وزارة الدفاع -آنذاك -كلمة ترحيبية ارتجالية ضافية نالت إعجاب الحضور – رحم الله الجميع –، كما عرف عن الأستاذ راشد الإخلاص والتفاني في أداء جميع الأعمال التي زاولها بكل جد ونشاط، فهو موصوف ببشاشة المحيا ولين الجانب وحب العمل الخيري.. ولئن غاب عنا أبو هشام فإن ذكره العاطر باقٍ في نفسي:

فإن تكن الأيام فرقن بيننا  ***  فلقد بان محمودا أخي ، يوم ودعا

 

 

 


رحمك الله أبا اسماعيل (<!--)

(الأخ ابراهيم بن عبدالله الزريعي رحمه الله)

 

وما المرء الا كالهلال وضوئه *** يوفي تمام الشهر ثم يغيب

الإنسان حينما تغرب شمسه عن الدنيا قد يحس بفقده، وغيابه الطويل الأبدي فيذكر، وينظر إليه من جوانب عدة، إما لعلمه أو لكرمه وإحسانه، أو لبذل جاهه ونفع من حوله نفعا لايضر بأحد..، فإن حبه وذكره الحسن يبقى في النفوس طويلا، "فأبو إسماعيل" إبراهيم بن عبدالله الزريعي الذي انتقل الى دار النعيم بعد منتصف ليلة الخميس 27/11/1431هـ -رحمه الله -قد وصف بالكرم وسماحة الخلق منذ فجر حياته، يألفه أقرانه، وأترابه، وجيرانه، وجميع من له صلة به..، وأذكر جيدا أنه لايجبن أمام كثرة من يؤم حريملاء "آنذاك" من زوار وضيوف وخاصة في مناسبات الأعراس والحضور برفقة المتزوجين رغم أنه متوسط الحال ماديا، ومع ضيق مجلسه إلا أن صدره أرحب، فالمنازل في سالف الأيام كلها طينية ومحدودة المساحة، فيقل من يستقبلهم لتناول القهوة لضيق مجالسهم، وعدم توفر لوازم القهوة، فأبو إسماعيل "يرحمه الله" يتشجع ويدعوهم لدخول مجلسه وإذا ضاق فرش ما تيسر من بسط وحصر أمام منزله، فهو بعمله هذا المشرف يمتص جزءا من وقتهم ريثما يحين وقت العشاء أو الغداء، فيعطي سمعة طيبة عنه وعن أهالي بلده، ولله در الشاعر حيث يقول:

وما الخصب للأضياف أن يكثر القرى *** ولكنما وجه الكريم خصيب

 ولن تجود يد إلا بما تجد، وكرم النفس متأصل في شعاب نفسه حتى قبيل وفاته فإن مجلسه الداخل في مزرعته ـ دوما ـ عامر بحضور صحبه ورفاقه ومن يمر به..، وخاصة في أطراف النهار، وأوائل الليل، فيتخلل  تلك السويعات سويعات الآصال والأماسي مسامرات وأحاديث مرحة وقصص طريفة، وكأن الذي يمر محاذيا تلك الخيمة ذات العماد، وقد خلت من صاحبها ومن جلسائه يتأوه حزنا موميا بمقدمة رأسه متمنيا رجوع تلك الليالي الجميلة، ولكن هيهات له رجوع من مضى لسبيله:

وليست عشيات الحمى برواجع *** عليك ولكن خل عيناك تدمعا!!

فحال الدنيا تجمع وتفرق وسرور يعقبه كدر وهكذا طبع الليالي..، ولقد درس في صغره القرآن الكريم وتعلم الخط والأملاء بإحدى مدارس الكتاب، وبعد ما كبر التحق بالمدرسة الليلية بحريملاء مسقط رأسه، بعد ذلك شخص إلى المنطقة الشرقية لطلب المعيشة فألفى على معالي الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن بن عدوان مدير المالية وممثل الحكومة لدى شركة أرامكو – آنذاك – فتوسم فيه الحيوية والنباهه فوجهه للعمل بخفر السواحل فأدى عمله بكل نشاط وإخلاص فترة من الزمن، ثم عاد الى مدينة الرياض فاشتغل في بعض المهن التي تدر عليه الخير الوفير، بعد ذلك استبد به الحنين الى مهوى رأسه حريملاء ثم عاد إليها فعمل بالبلدية وقتا من الزمن ثم انتقل الى فرع الزراعة حتى تقاعد، وكان محبوبا لدى زملائه في العمل لطيب عشرته، وحسن تعامله، وسلوكه مع الجميع، ومن طيب نفسه وحبه لعمل الخير أنه كان يلوح بالتبرع ببعض أعضاء جسمه..، عندما يدنو أجله المحتوم، ولكن تدهور حالته الصحية وتعدد أمراضه بعد وفاة شريكة حياته ورفيقة دربه أم أولاده التي رحلت عنه منذ عام تقريبا، فأصبح بعدها في عزلة يعاني وحشة الفراق، فلم يتسن له ذلك، فربنا كريم يجازيه بما نوى، فالأعمال بالنيات، وكنا نحاول تسليته لتخفيف ما بداخله وبين جوانحه من لوعات الفراق مكررين على مسمعه هذا البيت:

فلاتبكين في إثر شيء ندامة *** اذا نزعته من يديك النوازع !

ولنا معه ذكريات لاتنسى وأجملها صحبتنا له في مواسم القنص والصيد، وكان ولوعا بحب الرحلات والصيد ليلا للأرانب قبل صدور قرار المنع..، فكنت أذهب معه لنشاركه متعة الصيد في غابات شعيب حريملاء وفي شعيب الحيسية المتاخم له، فهو ملاح حاذق في طرد الأرانب، فأشفق عليه لتخفيف السرعة مذكرا له بقول الشاعر العربي:

إذا كان رأس المال عمرك فاحترز *** عليه من الإنفاق في غير واجب

ولقد حزن الكثير من رفاقه ومحبيه على فراقه وإضجاعه بعيدا عنهم في باطن الأرض إلى نهوض جميع الخلائق ليوم الحساب، والعزاء في ذلك أنه قد خلف ذرية صالحة وذكرا حسنا:

وإنما المرء حديث بعده *** فكن حديثا حسنا لمن وعى

رحم الله أبا إسماعيل وألهم ذويه وأبناءه وبناته ومحبيه الصبر والسلوان. (إنا لله وإنا إليه راجعون).

 

 

 

 

 

 


الى رحمة الله: أيها الجليس الأنيس(<!--)

(الأخ / إبراهيم بن عبدالله الشبانات رحمه الله)

 

ذهب الذين تكملوا أجالهم *** ومضوا ، وحان من أخرين ورود

الإنسان السوي في هذه الحياة مدني بالطبع لا تتم سعادته إلا بمحادثة ذوي العقول الراسخة، وبصحاب ورفاق درب يأنس بهم ويأنسون به، فبينما كنت منسجما في حديث مع أحد الزملاء إذا برنين هاتف الأخ الفاضل/ عبدالله بن صالح الخنيني معزيا في صديقنا وحبيبنا الأخ الكريم/ إبراهيم بن عبدالله الشبانات (أبو عبدالعزيز) الذي لبى داعي المولى يوم الأحد 16/11/1431هـ، وكان لذاك البنأ وقع مؤلم ومحزن في نفسي لما له من مكانة عالية في قلبي وفي قلوب محبيه، ولقد أحدث غيابه عن ساحة مجالس رفاقه وجيرانه فراغا واسعا لما يتمتع به من طلاقة محيا، ولطافة في إيراد الأحاديث الشائقة والقصص الطريفة التي تعمر المجالس والمنتديات الادبية التي تثري حصيلة سامعيها، وخاصة الناشئة من الشباب لما يطرح فيها من قصص وعظات وعبر عن الأقدمين، وما جرى في تلك الحقب البعيدة من أحداث وأهوال ترسم صورا في مخيلاتهم لأولئك، وكأنهم قد عاشوا بينهم، فالأحاديث اللطيفة تقرب للأذهان ما بعد...، ولقد ولد-أبو عبدالعزيز يرحمه الله -في بلده روضة سدير، وترعرع في أكنافها بين أحضان والديه، وعند بلوغه السابعة من عمره ألحقه والده بأحد الكتاب، ومشاطرا لوالديه في مزاولة بعض الأعمال التي تهمهم ماديا وتكسبه الخبرة، والتعود على تحمل المسئولية في قابل الأيام، وبعد برهة من الزمن شخص إلى مدينة الرياض وعمل فنيا بشركة الكهرباء بكل جد ومهارة وإخلاص حتى تقاعد، وكان لبقا ولطيفا في تعامله مع الأخرين، محبوبا لدى جيرانه وعارفيه..، وكان لي معه بعض الذكريات في كثير من المناسبات وخاصة ما يدور بيننا من مداعبات خفيفة حول ما بداخل مكتبة نجله الأكبر الأستاذ/عبدالعزيز (دار عالم الكتب للطباعة والنشر) التي تحتضن الكثير من نفائس الكتب قائلا له سأقوم بهجوم غير مسلح عليها ولا أستغني عنك في الحصول على مفاتيحها إذا نام وعلق ثوبه فقال لك ذلك، فهو لين العريكة سمح المحيا، ومما حز في نفسه أن فاجأه المرض قبل وفاته بشهور فأقعده رهن منزله فعز عليه مفارقة مجالس صحبه وجيرانه وجماعة مسجده، فحينما علم أصحابه وجيرانه بما حل به تأثروا كثيرا، فأخذوا يتقاطرون على منزله للاطمئنان على صحته فوجدوه صابرا محتسبا راضيا بقضاء الله وقدره فيأنس بحضورهم متناسيا ما يكابده من آلام ومتاعب جمة موغلة في جسمه، وبداخل طوايا نفسه، فإذا هموا بالانصراف عنه أخذ يتابعهم بنظرات ملؤها الحزن واليأس، وكأنها نظرات مودع...؛ لأنه يتوقع حضور شعوب إليه في كل لحظة لما يحس به من آلام شديدة تجنها أضلاعه، ولايدري ما الله صانع فيه حينما ينزله أحبابه وأبناؤه في لحد من الأرض، ثم يتركونه وحيدا بعيدا عنهم وعن أسرته ورفاقه، وكان آخر لقائي به في ليلة الأحد 16/10/1431هـ، أي قبل وفاته بشهر بقصر الرياض للاحتفالات في مناسبة زواج إحدى كريمات الدكتور/ وليد بن محمد الشباني على الشاب عبدالعزيز بن محمد العجاجي، وقد حضره مشاركا في أفراحهم (وهو جد للعروس) تجملا ووفاء، ولقد حاولت أن أملأ عيني من محياه البشوش خشية أن لا أراه بعد تلك الليلة مستحضرا هذا البيت:

خذا الزاد ياعيني من نور "وجهه" *** فما لكما فيه سوى اليوم منظر!

تغمده الله بواسع رحمته، وألهم ذويه وأبناءه وبناته وإخوته وزوجته(أم عبدالعزيز) وجميع محبيه الصبر والسلوان(إنا لله وإنا اليه راجعون).


الصديق حمد بن عبدالرحمن المبارك  وسيرته الحسنه(<!--)

 

حبيبٌ عن الأحباب شطت به النوى *** وأي حبيب ما أتى دونه البعدُ !

إن الإنسان بطبيعته حينما يخلد إلى الراحة بعيدا عن الهموم وعن مشاغل الحياة، قد يخطر بباله ذكر محاسن بعض أحبابه ورفاقه، وما يتبع ذلك من مواقف طريفة، وذكريات حبيبة إلى قلبه، فيحلو له أن يمررها بخاطره  تلذذاً بذكر الماضي البعيد التي رصدت فيه وتصورت في مُخيلته، فهي تعتبر من ساعات العمر التي يضئ سناها أغوار النفس سطوعا وإشراقا، ويتمنى لو عادت تلك الأيام ولياليها، ولكن عودُها متعذر حتما...، فيحسن بالمرء أن يعزي النفس عزاء جميلا، فمن أولئك الأحبة الذين غابوا عنا وأضمرتهم الأرض وسكنوا باطنها الأخ الحبيب إلى قلوبنا حمد بن عبدالرحمن المبارك – أبو عبدالله – الذي رحل عن الدنيا إلى الدار الباقية في 12 ربيع الأول عام 1408 هـ رحمه الله.

فلقد كان لفقده بالغ الحزن والأسى في نفسي، وفي نفوس أسرته وأهله أسفا على بعده عنهم، فهادم اللذات لا يني في انتزاع من تناهت مدته في الدنيا، وهذه سنة المولى في خلقه ، ولكن النفوس جبلت على إسبال العبرات حزنا على فقد غاليها من والدين وأبناء و أخوة...، فمنذ سنوات ليست بعيدة كان (أبو عبدالله) دالهاً مغتبطاً بصحبة أحبته ورفقته، يقضون ساعات فراغهم في تجاذب أطراف الأحاديث الشائقة، وفي المطارحات والمساجلات الشعرية، وتعتبر تلك الجلسات الممتعة من أجمل ساعات العمر وأيامه المشرقة في نفوسهم، ففاجأه مرض قطع آماله في الحياة..، وقد فارقهم فراقا أبديا مقيما وحيدا في لحد من الأرض مجاورا قوما رقوداً لا حراك بهم ولا تزاور بينهم.

وقد درس – أبو عبدالله – كأمثاله بالكتاب مبكرا بمهوى رأسه بمدينة حريملاء، فلما ختم القرآن الكريم على يد المقرئ الشيخ محمد بن عبدالله الحرقان، فكر في طلب المعيشة رغم حداثة سنه فلم ير بداً من السفر إلى مكة المكرمة في طريقه صوب مدينة الوجه المطلة على ساحل البحر الأحمر، فعمل بالإمارة هناك عام1360 هـ  عند أحد أعمامه الأمير علي بن عبدالله المبارك فلما لمس في أعطافه الذكاء والفطنة عينه كاتبا في مكتبه الخاص فاستفاد من توجيهات الأمير وإيماءاته مما أكسبه حذقا وحنكة ومرونة..، ثم تنقل في عدة مناصب و إمارت منها: أملج عام 1362هـ ثم في ضبا و القنفذه، ثم إمارة نجران بعد ذلك عاد إلى الرياض فالتحق بالمعهد العلمي حيث نال شهادة الكفاءة بتفوق صادق عليها سماحة المفتي الشيخ محمد بن إبراهيم، ثم ابتعث للدراسة في جمهورية مصر العربية، وتخرج من معهد الإدارة بالقاهرة بمستوى مرتفع مما عزز حصيلته العلمية، واتساع أفاق المعرفة والثقافة لديه...، ثم عمل بوزارة المالية، ثم إدارة المراقبة المالية، وانتقل بعد ذلك مديرا عاما لإدارة المعاهد والكليات العلمية تحت رئاسة سماحة مفتي الديار السعودية الشيخ محمد بن إبراهيم ونائبه الشيخ عبداللطيف بن إبراهيم آل الشيخ – رحمهم الله جميعا – وكان محل الثقة لديهما لحسن تسيير العمل، وتذليل ما قد يعترضه من عقبات، وما قد يحصل بين الطلاب ومعلميهم، فيحل ذلك بسهولة ورضى الجميع..، فهو رجل محنك عركته الحياة عبر المناصب التي تربع عليها في مواقع كثيرة بجدارة، وحسن تعامله مع الأخرين، وكأني بلسان حال كل أصحاب المدن التي عمل بها حينما رحل عنهم إلى مواقع أخرى، يتمنون طول إقامته بينهم لطيب عشرته وإخلاصه في أعماله المنوطة به، وتواضعه الجم واحترامه للصغير والكبير...، فمن يمر بموقع عمله وقد رحل عنه يردد في خاطره معنى هذا البيت:

يعزُ علي حين أدير عيني *** أَفتش في مكانك لا أراكا

كل ذلك حبا له وأسفا على مفارقته ذاك المكتب الذي ألفوا رؤيته فيه وهو ينجز أعمال المراجعين بكل مرونة وبوجه بشوش، ثم تم نقله إلى إمارة منطقة الرياض بموافقة صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبدالعزيز – حفظه الله -وذلك بعد موافقة سماحة المفتي -آنذاك -الشيخ محمد بن إبراهيم – رحمه الله – وذلك في غرة ربيع أول عام 1382 هـ مديرا لمكتب سموه، ثم مديرا عاما لديوان الإمارة.  وأخيرا صدر أمر من وزير الداخلية  بتعيينه رئيسا لبلدية حائل رغبة في تطوير المدينة وما حولها إلى أن تقاعد عام 1399هـ وفعلا كان له أثر مشرف ونشاط ملحوظ في ارض الجبلين (أجا وسلمى).

فقد بدأت آثار التطور في أنحاء المدينة بتدرج، وإيجاد بعض المشاريع الهامة في تلك الفترة الوجيزة التي قضاها في ربوع منطقة حائل، كما أن له بصمات خير وبركة في تلك المواقع التي سعد بالخدمة فيها، وعلى سبيل المثال لا الحصر مشاركته في تأسيس جمعية البر بجانب رجل البر والإحسان صاحب السمو الملكي أمير منطقة الرياض الأمير المحبوب سلمان بن عبدالعزيز متعه الله بالصحة ولباس العافية.  كما لا أنسى تفضله عليّ بتحرير إخلاء طرفي من إدارة المعاهد والكليات بعد إقناع فضيلة الشيخ عبداللطيف بن ابراهيم  -يرحمه الله -حيث رشحت مديرا لمعهد المعلمين بحريملاء وافتتاحه عام 1379هـ بطلب من الأستاذ الراحل ناصر بن حمد المنقور (رحمه الله) مدير عام وزارة المعارف -آنذاك -لندرة الجامعيين في تلك الأعوام، ولي مع (أبو عبدالله) ذكريات جميلة باقية في مضمر النفس مدى الأيام، ومع بعض أصدقائه الأستاذ راشد بن عبدالله المبارك (يرحمه الله) وشقيقه الأستاذ مبارك، والأستاذ ناصر بن محمد العمراني، والأخ عبدالعزيز بن مهيزع (أبو عبدالقادر) ولفيف من الصحب، وكنا نقضي شطرا من أوقات فراغنا في تبادل الزيارات، والأخذ بأطراف الحديث في موضوعات شتى، وأحيانا نقوم ببعض الرحلات القصيرة في أحد جوانب مدينة الرياض أو في شعيب حريملاء الحافل بأشجار الطلح الظليلة للترويح والاستجمام وراحة البال في أثناء دراستنا بالمعهد العلمي وكليتي الشريعة واللغة العربية، فجونا في ذاك الزمن جو فرح ومرح:

(زمن) صحبت به الشبيبة والصبا  *** ولبست ثوب العمر وهو جديد

والموجب لكتابة هذه الكلمة الوجيزة اطلاعي على ما كتب عن سيرته العطرة الذاتية بمجلة إمارة الرياض في العدد 10 / رمضان وشوال عام 1431هـ  فقد أهاجت لي الذكريات معه وتذكر أيامنا الجميلة بصحبته (غفر الله له).

<!--[if !supportFootnotes]-->

<!--[endif]-->

(<!--) نشرت في صحيفة الجزيرة، يوم الأربعاء 27 شوال 1431هـ الموافق 6 أكتوبر 2010م.

(<!--) نشرت في صحيفة الجزيرة، يوم السبت 22 ذوالقعدة 1431هـ الموافق 30 أكتوبر 2010م.

(<!--) نشرت في صحيفة الجزيرة، يوم الأحد 8 ذوالحجة 1431هـ الموافق 14 نوفمبر 2010م.

(<!--) نشرت في صحيفة الجزيرة، يوم الثلاثاء 24 ذوالحجة 1431هـ الموافق 30 نوفمبر 2010م.

(<!--) أرسلت للنشر في صحيفة الجزيرة، يوم الجمعة 20 ذوالحجة 1431هـ الموافق 26 نوفمبر 2010م.

mager22

فقد ورثاء ( عبد العزيز بن عبد الرحمن الخريف )

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 235 مشاهدة
نشرت فى 30 سبتمبر 2013 بواسطة mager22

كان الله في عونك أيها الصبي المفجوع(<!--)

(الصبي خالد بن وليد الهويشل)

 

عندما هممت بدخول جامع الملك خالد بأم الحمام في الرياض قادماً من محافظة حريملاء لأداء صلاة الميت على أحد الراحلين بعد صلاة عصر يوم السبت الموافق 5/8/1431هـ إذ وقع نظري على عدد من المعزين في ناحية من أرجاء المسجد، فقربت منهم فإذا برجل يحتضن صبياً لم يتجاوز عمره العاشرة خشية سقوطه على الأرض من شدة وقع مصيبته، وهو مجهش بالبكاء المر على فقد أحب الناس إليه والده الذي عجلت عليه يد المنون وهو ما زال  في مقتبل العمر وريعان الشباب، وكل واحد من أولئك يقبله ويمسح على رأسه مواسياً له، ومحاولاً التهدئة من روعه  وإطفاء سورة الحزن التي يشتعل أوارها بين أضلاعه وفي أرجاء نفسه من هول مصيبته فهو منظر مؤثر جداً ذرفت منه أعين الكثير من جماعة المسجد رأفة ورحمة بذلك الصبي الذي أمطرت جفونه خديه وجيب ثوبه بوابل من دموع حرىّ – كان الله في عونه وجبر مصيبته – و يقال إنه وحيد والده من الذكور، وله شقيقة صغرى، ولقد أجاد الشيخ الأستاذ/عبدالله بن خميس حيث قال في موقف مثل هذا:

حناناً لكم فيما طويتم جوانحاً ***  عليه وعطفي يا ( وحيد ) ورحمتي ..!

ويعلم الله أني قد تأثرت كثيراً وكفكفت عبرة مستكنة في خاطري وبين جوانحي متصوراً حاله، وما بداخله من براكين لوعات الفراق، ومن ثم وقوفه على حافات قبر والده قبل أن يهال التراب عليه، وهو يتابع ذاك المشهد بنظرات ملؤها الحزن والأسى، فيلحظ رصف لبنات اللحد التي سرعان ما أخفت جثمانه عن ناظريه إلى المدى الأقصى، ولسان حاله  في تلك اللحظات الحرجة الحاسمة الموجعة لقلبه يردد قول الشاعر الأديب الأستاذ / محمد بن سليمان الشبل الذي كثيراً ما أستشهد به في بعض المواقف المؤثرة في نفسي:

يوم الوداع وهل أبقيت في خلدي ***  إلا الأسى في حنايا القلب يستعر

فما أقسى لحظات الوداع وأمرها على النفوس البشرية بصفة عامة، ولا سيما الوداع النهائي، وهذا حال الدنيا مع ساكنيها إلى اليوم الموعود وقيام الساعة، ونهوض جميع الخلائق من أجداثهم سراعاً ليوم الحساب و نصب الموازين القسط  ليجازى كل بما كسب.. فريق في الجنة وفريق في السعير، فالأجمل بالمسلم عندما يفقد حبيباً له أو صديقاً حميماً أن يسترجع ويترحم عليه، ويصبر ويحتسب الأجر من الله قال الله في محكم كتابه العزيز (الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون). وما من شك  أن الطفل السوي عندما يصاب بشيء من مصائب الدنيا كفقد والديه أو أحدهما، أو أية إساءة إليه من أحد فإنه لا يقوى على تحمل ذلك، فسلاحه البكاء وإسبال العبرات تعبيراً عما يجيش بخاطره، ويفوح بقلبه، وليس له حيلة  في الغالب أن يدافع عن نفسه ما حل بها، فالواجب الإنساني نحو الأطفال، والضعفة حسن معاملتهم والرفق بهم، وإدخال السرور عليهم، وتحقيق مطالبهم – إن أمكن – ولا سيما الأيتام الذين فقدوا أباءهم أو أحدهما..، كما أوصى النبي صلى الله عليه وسلم باليتيم في قوله (أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين) فإن الأجر مضاعف لمن يرعاهم ويجبر خواطرهم، ويراقب سلوكهم في صغرهم، ويساويهم بأبنائه إن كانوا جيرانا لهم..، قال الله سبحانه وتعالى "إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا.." الآية. سورة الكهف. ولك أيها القارئ الكريم أن تتصور حال ذلك الصبي اليتيم الذي ودع جثمان والده بنظراته عندما يعود إلى البيت وقد خلا من صاحبه، ولم يبق سوى والدته المفجوعة بإلفها وشريك حياتها، وشقيقته الصغيرة الذين سيكابدون لوعات الفراق الأبدي متذكرين شخص أبيهم في كل زاوية من جوانب البيت الذي أظلم بعد رحيل راعيه مضمرين هذا البيت:

يعز علي حين أدير عيني    ***    أفتش في مكانك لا أراك

فهذه الكلمة الوجيزة وليدة تأثري الشديد في ذلك المشهد المحزن  الذي جرت فيه أقدار الله برحيل والد ذلك الصبي، فالله سبحانه خلف عن كل فائت – تغمد الله الفقيد بواسع رحمته، وألهم ذويه و ذريته وزوجته أم خالد الصبر والسلوان. "إنا لله وإنا إليه راجعون"

 

 

 

 

 

 

 

 

 


الفايع : أهاج لي الذكريات مع زميلي محمد الفواز (<!--)

 

جميل منك أيها الأستاذ الفاضل الوفي محمد بن ابراهيم فايع، فبينما كنت أتصفح صحيفة الجزيرة بالصفحة رقم 43 الصادرة يوم الأربعاء 9/8/1431هـ شدني عنوان الكلمة التي أفاض الكاتب في ثناياها ثناء عطرا معددا بعض مناقب زميلي وصديقي الراحل الأستاذ الفاضل محمد بن صالح الفواز مدير عام منطقة الجنوب التعليمية – آنذاك -رحمه الله، الذي سبق أن رحل عنا إلى جوار ربنا علام الغيوب جل ذكره في عام 1403هـ فسرعان ما تحرك شريط ذكريات الدراسة معه، والشمل جامع لنا معشر طلاب كلية اللغة العربية بالرياض حتى تخرجنا وودعنا ذاك المحضن فصلنا الدراسي 1378هـ، ونعتبر الدفعة الثانية من تلك الكلية، ثم مضى كل منا لسبيله ليكون عضوا عاملا في  خدمة وطنه والنهوض بشبابه إلى بر الفلاح، وليكونوا قدوة حسنة للأجيال الصاعدة التي تنهل من حلو رضاب العلوم تحت إشرافهم وتوجيهاتهم الأبوية التربوية كي يصبحوا لبنات صالحة في بناء مجتمعهم الذي ينتظرهم، وهو الهدف الأسمى لولاة أمر هذا الوطن -أعزهم الله بطاعته -ولقد تسنم الزميل محمد (أبو ابراهيم) أول عمل له مدرسا بالمعهد العلمي بالرياض عام 1379هـ، ثم مديرا للمعهد العلمي بأبها بضع سنين، وفي عام 1385هـ عين مديرا عاما لمنطقة الجنوب التعليمية – آنذاك -حتى انتقل إلى جوار ربه 1403هـ إثر مرض لم يمهله -رحمه الله -، ولقد أشرت إلى ذكر بعض الذكريات معه على ظهر إحدى صفحات هذه الجريدة في مقال سابق تحت عنوان: (أبها قبلة المصطافين) في يوم الجمعة 5 شعبان 1426هـ وتحته هذا البيت من الشعر:

إذا زرت أرضا بعد طول اجتنابها *** فقدت صديقي والبلاد كما هي

متأسفا على رحيله مبكراً، ومتذكراً أيام الدراسة الجميلة التي عشناها معاً تحت سقف واحد متآلفين ومنصتين لما تتلفظ به أفواه مشايخنا الأجلاء، فمعظمهم من أبناء النيل ومن فطاحل علماء الأزهر الذين أفاضوا علينا من رحيق علومهم النافعة ومن حياض ثقافاتهم الأدبية واللغوية، فهم نخبة ممتازة من الرعيل الأول أمثال: المشايخ/عبداللطيف سرحان وأخويه محمد وعبدالسلام، وعبدالمنعم النمر، ومحمود العقدة، ومحمد رفعت ومحمد نائل، وغير هؤلاء العلماء الأفاضل:

قم في فم الدنيا وحي الأزهرا *** وانثر على سمع الزمان الجوهرا

فذكرياتنا مع (أبو ابراهيم) ومن رحل من الزملاء، ومع أساتذتنا الأجلاء الذين غابوا عن الوجود جميعهم فأضمرتهم الأرض - رحمهم الله - وجزاهم عنا خير الجزاء، فإن ذكراهم باقية وخالدة في طوايا نفوسنا أبد الليالي والأيام، فهي أجمل مراحل العمر وأقربها إلى قلوبنا، ولكنها الأيام حبل سرورها قصير، وعوادي الزمن تفرق منا من نحب اجتماعه وهذه سنة الحياة، وكأن قائلا يذكر بقول المتنبي:

نحن بنو الموتى فما بالنا *** نعاف ما لابد من شربه

فزميلنا محمد يرحمه الله منذ كان طالبا يتصف بصفات حميدة، وبالرزانة ورحابة الصدر ودماثة الخلق، لا تسمع منه إلا ما تلذ له الأسماع من جيد الأسلوب والحكم والأمثال، فهو ثبت الجنان، قوي الملكة حينما يطلب منه معلمنا التحدث في حصة التعبير فإنه يستوعب شطرا منها في ترسل مركز عن الموضوع مما يدل أن لديه مخزونا جما من الثقافة الواسعة حيث إنه كثير تسريح النظر في بطون الكتب المفيدة التي تثري حصيلة طالب العلم، وتجعل العبارات العذبة تفيض بيسر عبر شفتيه، وأما عن حياته الوظيفية فقد وصف بالحنكة وبالجد وتسيير أعماله بكل دقة وإخلاص، وتفاني في خدمة وطنه واحترام من تحت يديه من موظفين وطلاب، وقد يقوم ببعض الأعمال المشرفة التي تتطلب السرعة وكسب الوقت لصالح الطلاب، منها ما ذكره الأستاذ الأديب/ محمد فايع أثناء كلمته عن زميلنا الراحل سعادة الأستاذ/ محمد بن صالح الفواز الذي ضرب المثل الأعلى في التواضع الجم وما يثلج الصدر حيث عمل عملا إنسانيا لن ينساه طلابه، ولم يسبق على مثله في عصرنا الحاضر؛ يقال إنه قد حضر إلى إحدى مدراس القرى متواضعة البنيان ليطمئن على حسن سير الاختبارات بها ففوجيء أن فصولها تعيش في ظلام دامس في ذاك البيت الشعبي المتهالك فلم يقل شيئا سوى أن غادر المكان على عجل ليأتي بعد ذلك بوقت وجيز وهو يحمل فوق كتفه محركا كهربائيا – ماطور- مشيا على قدميه مع أحد الأودية حتى وصل إلى مبنى المدرسة، فأمر مديرها بتشغيله لينير فصول الطلبة -أنار الله جدثه -وهكذا يعمل العظماء المخلصين، فعمله هذا يذكرنا بعمل عمر بن الخطاب -رضي الله عنه -مع العجوز المسكينة الضعيفة حيث اكتشف حاجتها إلى طعام يسد رمقها في أثناء تفقده أحوال رعيته في إحدى الليالي، فما كان منه إلا أن ذهب إلى منزله ثم عاد إلى تلك المرأة وهو يحمل معه كيسا من دقيق الحنطة، فأخذ يوقد النار وينفخ بفيه الطاهر تحت القدر ليقدم لها الطعام إذا نضج، فما كان منها إلا أن قالت وهي لا تعرف من هو: أنت خير لي من عمر  فبكى رضي الله عنه بكاء شديدا لعلمه أنه ملزم بتفقد أحوال رعيته وأنهم في عنقه، فالذكريات مع الزميل الكريم يطول مداها أذكر أنه أثناء الدراسة بالمرحلة الثانوية بالمعهد قد وجه لنا دعوة عشاء بالخرج مهوى رأسه يرحمه الله شملت مجموعة من الزملاء منهم على سبيل المثال: عبدالعزيز الرويس، صالح القاضي، عبدالله بن حمد الحقيل ، عبدالرحمن بن شعيل ، عبدالعزيز الخراشي - رحمه الله -  وغيرهم من الزملاء، وكانت تلك الرحلة في ليلة جميلة مقمرة زاولنا فيها بعض الألعاب، وتبادل النكات والطرائف التي أتحفنا بها الزميل اللطيف عبدالعزيز الرويس (أبو محمد) وبالمساجلات الشعرية فوق هاتيك الكثبان الرملية التي ظلت حلاوة أصدائها أزمانا في خواطرنا، هذا ولا يفوتني إلا أن أكرر شكري للأستاذ الأديب/ محمد إبراهيم فايع الذي أتاح لي فرصة التطرق إلى سيرة زميلي العطرة وأعماله المشرفة مرددا هذا البيت:

هذا ثنائي بما أوليت من حسن  ***  لازلت عَوْضََ قرير العين محمودا

 

 


ورحل ذو الوزارات وفارس القوافي(<!--)

(الدكتور غازي بن عبدالرحمن القصيبي رحمه الله)

 

مضى غير مذموم وأصبح ذكره *** حلي القوافي بين راث ومادح

إن بعض الناس إذا شعر بدنو أجله ونزوحه عن الدنيا الفانية إلى عالم البقاء دار المقام، فإنه يحاول أن يترك شيئا ما، فإن كان ذا مال رغب وجد في بذل شطر منه لمن حوله من أقارب ومساكين، أو عمل بعض المشاريع الخيرية كبناء مساجد ودور علم ومساكن أخرى يصرف ريعها على ما يوصي به في أوجه البر والإحسان، ولرعاية الأيتام والأرامل ((مثلا)) ليبقى أجر ذلك زادا له ليوم الحساب والمناقشات، وبعضهم الآخر يودع أحبابه ومعارفه بقصيدة أو بديوان شعر يترنم به من بعده من الأجيال داعين له بطيب الإقامة في مرقده الى أن يأذن الله لجميع الخلائق بالنهوض من مراقدهم ليوم الحساب، وقد رثى نفسه الكثير من القدماء قبل موتهم ورحيلهم أمثال مالك بن الريب بقصيدته المشهوره والشاعر الإبيوردي بثلاثة أبيات مؤثرة، وحديثا الأستاذ الراحل/ عبدالعزيز الرفاعي بقصيدة طويلة، والزميل الفاضل الدكتور صالح بن عبدالله المالك (أبوهشام) نظم له ديوانا وهو على السرير الأبيض قبل رحيله عن أسرته وأحبابه (رحم الله) الجميع. ففي يوم الأحد 5/9/1431هـ فجعنا برحيل علم بارز من رجال الدولة له مكانة عالية في المجتمع السعودي والعربي عموما، إنه ابن الوطن المخلص الدكتور غازي بن عبدالرحمن القصيبي (أبو سهيل) بعد طول معاناة مع المرض الذي أعي مهرة الأطباء ، فأجله مقدره علام الغيوب قبل طلوعه على نور شمس الدنيا، قال سبحانه وتعالى (فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون) "الآية 61 سورة النحل". ولقد حرص أبو سهيل قبل رحيله وهو يكابد المرض أن يفرغ بعض ما يجول بخاطره من لوعات الفراق الأبدي، والتحسر على بعده عن أحبابه ومعارفه، وقد ترك ثلاثة دواوين حديثة وهو على سرير الموت لتبقى ذكرى خالدة له بعدما يتوارى عن الوجود، مع ما تركه من أعمال جليلة يحفظها له التأريح، ولقد تسنم عددا من المناصب الحكومية العالية ورأس الكثير من المؤسسات والجمعيات وساسها بحكمة ودراية، ونال إعجاب الدولة -أعزها الله -فعين وزيرا للصناعة والكهرباء خلال الفترة 1975-1982م، وقد تطورت الكهرباء بشكل سريع بتشجيع ودعم سخي من الدولة -وفقها الله -والشاهد على ذلك زراعة سهول وآكام وجبال وطننا الحبيب إلى قلوبنا بآلاف الأبراج وأعمدة الكهرباء العملاقة التي غطت مساحات شاسعة. ثم عين وزيرا للصحة خلال 1982-1984م فاشتهر بالإخلاص والنشاط المستمر في ظل حكومتنا الجليلة التي أعطته كامل الصلاحيات في تطوير المصحات على مستوى المملكة مدنا وأريافا، وقد جمع (يرحمه الله) بين قوة الشخصية والهيبة لدى موظفي وزارته، فهو يقوم بجولات تفقدية وبزيارات مفاجئة في أي وقت يشاء وخاصة في أواخر الليل أو بعد صلاة الفجر مثلا، فيذكر في أول الليل بجدة ثم يفاجىء أطباء القصيم ببريدة فجرا أو بوادي الدواسر في منتصف الليل، وهكذا يكون الحزم والإخلاص منه (رحمه الله)ـ ولذا ترى جميع المصحات على أتم اليقظة والنشاط المستمر والترقب:

كأن بلاد الله وهي عريضة *** على الخائف المذعور كفة حابل

فقرار إلغاء عقد المهمل فورا ولا هوادة فيه، ولذا سارت الأمور على ما يرام، ومن ضمن أعماله الجليلة أن قام بافتتاح الكثير من المستشفيات في أنحاء البلاد كما قام بافتتاح  مستشفى حريملاء العام في حفل بهيج بمقره بالحي الجديد في مبانٍ مستأجرة أو متبرع بها، ثم صرح باعتماد مبنى المستشفى الجديد بسعة مائة سرير، وها هو الآن قائم كأحد الصروح بالمحافظة، وبعد الانتهاء من الحفل وتناول طعام الغداء اتجه إلى الحي القديم بالبلد ليلقي نظرة على منزل آبائه وأجداده، وقد أثرت فيه عوامل التعرية وتهدمت بعض شرفاته وأركانه فوقف هنيهة متأملا موميا بمقدمة رأسه متذكرا من أقاموا فيه ردحا من الزمن من أجداده، ثم هجروه إلى حيث صاروا... ففاضت عيناه بدموع حرى وكأنه يردد في خاطره قول أبي الطيب المتنبي:

تتخلف الآثار عن أصحابها *** حينا ويدركها الفناء فتتبع

ثم انصرف وبخاطره ما به من تأثر وتذكر.. فعمله في كلا الوزارتين الكهرباء والصحة -خاصة -وسائر أعماله المشرفة محفوظة في ذاكرة أبناء الشعب السعودي مدى الأيام، كما أن له أعمالا جليلة يشكر عليها، فأثناء عمله سفيرا في بريطانيا، وسفيرا في البحرين ظل هناك يكافح ويقارع خصومه ضد بلادنا وينافح عن وطنه عبر وسائل الإعلام والصحف الغربية وفي بعض المحافل الدولية والعالمية لإعطاء الرأي العام صورة واضحة مشرفة عن المملكة العربية السعودية؛ لأنها دولة معتدلة محبة للسلام وأنها مهبط الوحي وتدعو إلى التحابب والتآلف بين شعوب الأرض، فهو رجل محنك لطيف ومحبوب لدى الكثير داخلياً وخارجياً، كما ان له باعاً طويلاً في الأدب والثقافة والشعر الرصين المؤثر، وله قلم طيع أنامله يمج ما توحي به خواطره ووجدانه ليمتع قراءه عبر الصحف، وبكتبه كثيرة العدد الذي عز عليهم بعده وغيابه.. وآخر عمله وزيراً للعمل، ومما يعرف عنه – يرحمه الله – حبه للبذل  في أوجه البر والإحسان، ويقال أنه يحول معظم راتبه لجمعيات الأيتام ودور الرعاية للمحتاجين، وكما إنه أول من أسس الجمعية السعودية لرعاية الأطفال المعاقين عام 1980م فأعماله المشرفة يصعب حصرها وعدها (يرحمه الله)؛ ولئن توارت تلك القامة العالية عن نواظر أحبابه فإن ذكره الجميل لا يبرح خواطرهم مختتما هذه العجالة بقول بن دريد:

وإنما المرء حديث بعده *** فكن حديثا حسناً لمن وعى

تغمدة الله بواسع رحمته وألهم ذوية وأسرته وأبناءه، وأبنته يارا، وزوجته، ومحبيه الصبر والسلوان "إنا لله وإنا إليه راجعون".

<!--[if !supportFootnotes]-->

<!--[endif]-->

(<!--) المقصود في هذه الكلمة  الصبي خالد بن وليد الهويشل، ونشرت في صحيفة الجزيرة، يوم الأحد 13 شعبان 1431هـ الموافق 25 يوليه 2010م.

(<!--) نشرت في صحيفة الجزيرة، يوم الجمعة 25 شعبان 1431هـ الموافق 6 أغسطس 2010م.

(<!--) نشرت في صحيفة الجزيرة، يوم الاربعاء 8 رمضان 1431هـ الموافق 18 أغسطس 2010م.

mager22

فقد ورثاء ( عبد العزيز بن عبد الرحمن الخريف )

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 188 مشاهدة
نشرت فى 30 سبتمبر 2013 بواسطة mager22

ذكرياتي مع عبدالله بن سعيدان باقية في ضميري(<!--)

 

سلام على الدنيا سلامُ مودع *** وارحل فقد نوديت بالترحال

الموت يفرق من نحب اجتماعه، ومن نأنس بوجوده وحضوره، ولكنها الدنيا لا يدوم لها سرور، تنقضي أيام ساكنيها ما بين أفراح وأتراح، وحلاوة ومرارة حتى يؤذن لأصحابها بالرحيل الأبدي إلى الدار الآخرة، فمنذ فترة من الزمن أي في 10/5/1415هـ انتقل إلى جوار ربه الرجل العصامي عبدالله بن ابراهيم بن سعيدان بعد أن قضى شطراً من عمره مكافحا في طلب المعيشة والكسب الحلال، محاولا سد حاجاته وإبعاد شبح الفقر عنه وعن أسرته، واستمر يكد ويكدح ليلاً ونهاراً في طلب الرزق مرورا بالعمل الوظيفي كمراسل بأول مدرسة ابتدائية افتتحت بحريملاء عام 1369هـ مع العمل خارج الدوام، وفي الإجازات بأعمال حرفية في تشييد المباني بالطين والحجارة، وطلاء الغرف داخل البيوت بالجص والإسمنت، وقد اشتهر -رحمه الله – بالإخلاص وإتقان العمل والصدق في تعامله مع الاَخرين، فما كان من أبناء عمه وفي طليعتهم الشيخ حمد بن محمد بن سعيدان إلا أن كتب لي رسالة خطية – ما زلت محتفظاً بها – تتضمن طلب السماح له بأن يتوجه لهم بالرياض لمدة وجيزة – مع تأمين من يقوم بعمله في تلك الفترة القصيرة وقت طفرة البيع والشراء للأراضي في شمال الرياض لأجل أن يعمل ترسيما وتحديدا بالبلوك والإسمنت لتلك المخططات الواسعة العقارية التي تخص شركتهم مع الشيخيين الكريمين محمد بن ناصر الجماز، وعبدالله بن ابراهيم الراشد –  رحمه الله – المسماة "مؤسسة بدر العقارية" التي تعتبر من كبريات المؤسسات العقارية، فأعطوه أو أشركوه بدل أعماله وأتعابه قطعا كبيرة جدا من تلك الأراضي البعيدة عن وسط المدينة بمسافات شاسعة رخيصة الثمن، فكانوا سببا سريعا ومباركا في ثرائه، حيث تحسنت أسعارها في مدة قصيرة، فأصبح في مصاف الأثرياء عقاريا، فأبناء عمه وشريكاهما كلهم خير وبركة، ولله در قول  الشاعر حيث يقول:

مابين غمضة عين وانتباهتها  ***  يغير الله من حال إلى حال

 وكان -رحمه الله – كلما يقابلني يقبل ما بين عيني بالقوة قائلاً: أنت سبب تجارتي، فأرد عليه: هذا من فضل الله عليك ثم من أسباب صدقك وإخلاصك في أداء أعمالك. وكان محبوبا ومعرضا عن مساوئ الناس لا يتدخل في شؤون أحد منهم، ورغم أنه لم يأخذ قسطا من العلوم بالدراسة الليلية، فتعليمه محدود جدا إلا أنه سريع البديهة، ويحسن الرد السريع المسكت، يقال إن شخصاً قال له في جمع من الحضور بعدما تحسنت حاله المادية مستكثراً نعمة الله عليه: نسيت يا "عبيد" أيام كنت تشتغل بالطين، وبالأعمال الحرفية فقال على الفور: ما نسيت، ولا نسيتك وأنت تطوف  "بمخرفك" أي الزنبيل على بعض الفلاحين في مواسم جذاذ النخيل علهم يمنحوك شيئا من التمر يسد رمقك وجوعك، وكأنه يردد قول الأستاذ الشاعر علي الجندي:

وكن بلبلا تحلو الحياة بسجعه   *** ولا تك مثل البوم ينعب بالردى

فخجل ذاك الرجل، وعجب من سرعة بديهته ورده اللاذع الحار، ويقال إن أبا إبراهيم – رحمه الله – بعدما أفاء الله عليه بالخير العميم أخذ يمنح قطعا كثيرة من الأراضي في أحد الأرياف المتاخمة لمدينة الرياض بعض الأسر المحتاجه والمساكين، وذوي الحاجات، ابتغاء مرضاة الله المنعم عليه بفضله وكرمه، ورجاء المثوبة يوم الحساب، وكان – يرحمه الله – حسن السيرة والأخلاق أثناء عمله معنا ومع زملائه بالمدرسة، وكان من لطفه أثناء التعقيب على بعض التلاميذ في مزارعهم، وفي بيوتهم لإحضارهم إلى المدرسة أنه يردفهم ويحملهم على الدراجة "السيكل" الذي فرح بتأميننا له ليختصر المسافات بين المدرسة وبعض المزارع النائية فلم تلبث تلك الفرحة طويلاً حيث إن أحد المعلمين المكنى بأبي طارق – رحمه الله – استعاره منه ليذهب به في مشوار قصير فقضى عليه تماما في أثناء سيره بأرض رمليه لثقل جسمه، وعدم إتقانه القيادة ! ، فتأثر عبدالله لذلك كثيراً قائلاً: وما آفة إعارة الأشياء إلا خرابها، ولم يعد صالحاً للاستعمال حيث لا يوجد ورش لإصلاحه في تلك الحقبة الزمنية، وهذا جزء من الذكريات معه ومع (أبو طارق) رحمهما الله.  ومن الأشياء اللطيفة التي تدل على حسن تصرفه أنه في أثناء قيام بعض المعلمين برحلة في غابات شعيب حريملاء في ليلة من أبرد ليالي الشتاء، فما كان منه عندما فكر في النوم ولم يكن معه فراش ولا بطانيات يلتحف بها إلا أن عمد إلى مشب النار فأطفأ الجمر بالماء، وبقي مكانه دافئا، ثم أحضر قطعا من أكياس الخيش فوضعها مكان المشب ثم نام نوما هانئا ملتحفا بما تيسر له من لحاف، فتصرفه هذا وقاه من شدة البرد القارس، فالذكريات الجميلة مع (أبو ابراهيم) لا تنس أبد الليالي – رحمه الله – فالداعي لكتابة هذه الأسطر عن سيرته وعن أعماله الخيرية أن إحدى بناته الأستاذة جواهر (أم يزيد) ترغب في إعداد كتاب عن سيرة والدها الراحل، فهي تعلم أنه قد عمل معنا بالمدرسة وبمعهد المعلمين بحريملاء، وتود مشاركتنا لها في ذلك مع ذكر طرف من ذكرياته معنا، فهذه العجالة تعد ضربا من الوفاء معه  جعله الله من الآمنيين يوم القيامة.


عبدالله بن محمد المشعل وذكريات الطفولة(<!--)

 

وكل خليل يُخلِق النأي حبه *** وحبك مايزداد إلا تجددا

كل الذكريات قد تمكث في طوايا النفس وفي خلجاتها فترة من الزمن، ثم ما تلبث أن تنمحي من صفحاتها شيئا فشيئا إلا ذكريات الطفولة وأيامها ولياليها الجميلة، وما يتخللها من سويعات لهو ومرح، فإنها ستظل خالدة في أرجائها مدى العمر. فأبو مشعل:عبدالله بن محمد بن عبدالله المشعل صديق ود، وزميل صغر بإحدى مدارس الكتاب لتعلم الخط والإملاء وتلاوة القرآن الكريم وحفظ ماتيسر من سوره وآياته الكريمة عن ظهر قلب على يد المعلم (المطوع) ، فله مكانة غالية بأقصى قلبي وبين جوانحي، فكم عشنا متجاورين على تلك المقاعد الطينية، وأحيانا نفترش الأرض  بداخل المسجد المجاور لتلك الأرض الفضاء التي قضينا فيها أحلى أيامنا، التي تحيط بجوانبها أسوار عالية وبقايا قلاع وأبراج، وبعض الدور السكنية الواقعة على حافات ذاك المكان الذي نتفيأ ظلاله صيفا فننتقل من جانب لآخر اتقاء حرارة الشمس ووهج سمومها، والابتعاد عن صقيع الأرض ولوافح الهواء البارد، لأن معظم الطلاب في تلك الحقبة الزمنية لايملك ولايلبس سوى ثوب أو ثوبين في الغالب من الثياب السميكة تلبس صيفا وشتاءا يسمى ثوب (مريكاني) ولانسمع اسمًا للفنايل ولا السراويل إلا نادرا لشح الموارد وقلة العملة الفضية والذهبية آنذاك، ومع ذلك كله مشت أمورالناس وأحوالهم بيسر وسهولة ولم يحسوا بقسوة الحياة ومتاعبها، وكان التعاون بين المواطنين سائدا يتعاونون في إقامة مساكنهم وفي شؤون فلائحهم ومزارعهم بدون مقابل سوى مايقدم لهم من وجبات الطعام، فالحمد الله الذي غير من حال الفقر إلى حال غنى ورفاهية، فما أحلى أيام الصغر على أي حال والشمل جامع لنا، فحياتنا مع صديق العمر (أبو مشعل) استمرت حتى غيبته عنا أطباق الثرى حميدة أيامه ولياليه – رحمه الله -، وقد تخلل تلك الأيام والسنين رتل طويل من الذكريات الحبيبة إلى قلوبنا معه، فكنت أقضي معه الساعات الطوال في تلاوة القرآن الكريم والتنافس في الحفظ خارج مكان الدراسة، وإذا دب الملل في نفوسنا عمدنا إلى مزاولة بعض الألعاب الشعبية المألوفة لدينا من خامات البيئة، فإن لم يتيسر شيء من تلك الألعاب ملنا إلى المصارعة والمطارحات الحبيبة إلى نفوسنا لاختبار عضلاتنا الجسمية فنجد في ذلك متعة وحلاوة الانتصار، وهذه طبيعة جيلنا في ذاك الزمن، وعندما كبرنا استبدلناها بمزاولة أنواع من الهوايات الأخرى كالجري والتسابق مسافات معينة، كذلك نتمارى في إصابة الأهداف في الرماية مستخدمين البنادق القديمة مثل (المقمع والفتيل) ولاسيما في أيام الأعياد، وأنشطة أخرى كالسباحة في البرك وفي مواسم الأمطار بمسارب الأودية وبعض الحفر متوسطة العمق وهكذا نقضي ساعات الفراغ، أما الآن فقد ذهب بساعات الشباب وأوقاته ولم يبق منها سوى رنين الذكريات.

ألا ليت ريعان الشباب جديدُ *** ودهر تولى (يا صحابي) يعودُ !

وهكذا حياتنا الأولى نقضيها بين جد ومرح، وبعد ما بلغ (أبو مشعل) سن الخامسة عشرة تقريبا رحل إلى مدينة الرياض، ثم إلى ضرماء برفقة عمه سليمان بن عبدالعزيز المشعل المشرف على نخيل ومزارع أحد الأمراء هناك، حيث وكل إليه إحضار بعض متطلبات البيت اليومية من محلات البيع والشراء بسوق البلد لثقته التامة بأمانته وفهمه للأشياء رغم حداثة سنه، وبعد مضي سبع سنوات تقريبا طلبه العم عبدالرحمن بن سليمان المشعل المسؤول عن إدارة وقف الإمام عبدالرحمن بن فيصل آل سعود بالخرج في نخيل ومزارع السهباء رحبة الجوانب، ولجلب المياه عبر قنوات الري من عيون الخرج لسقايتها، فأعجب به العم عبدالرحمن على نشاطه وإتقانة العمل المستمر، فزوجه إحدى بناته طمعا في أخلاقه واستقامته وأمانته، وترغيبا ليستمر لديهم في إدارة أعماله فتم له الزواج المبارك، فمكث لديهم برهة من الزمن، ثم انتقل إلى الرياض ليكون على مقربة من والديه فعمل في متجر ابن عمه عبدالرحمن بن عبدالعزيز المشعل أحد تجار الرياض آنذاك، فاستغل فرصة وجود المدرسة الليلية فالتحق بها حتى نال الشهادة التي أهلته إلى تعيينه برئاسة تعليم البنات مدة طويلة حتى انتقل إلى دار المقام في 15/2/1418هـ، وكان محبا لتسريح النظر في بطون الكتب ودواوين الشعر مما أثرى حصيلته الأدبية والشعرية، ويعتبر من شعراء المناسبات – المقلين – ولكن شعره جيد ومؤثر ولاسيما في باب الرثاء، وخشية الإطالة في سرد شيء عن كفاحه وعن حياته نكتفي بما تيسر والعزاء في ذلك كله أنه ترك سمعة طيبة وذكرا حسنا، وخلف ذرية صالحة بنين وبنات منهم الدكتور مشعل استشاري القلب والباطنة والمهندسين عبدالإله وأحمد وشقيقاتهم الفضليات، ولئن غاب أبو مشعل عن نواظرنا فإن ذكره الطيب وذكرياتنا معه باقية وماكثة في خواطرنا مدى الأيام، تغمده الله بواسع رحمته.

 


رحمك الله يا أم عبدالرحمن(<!--)

(سارة بنت محمد بن ناصر العمراني رحمها الله)

 

تعز فلا إلفين بالعيش متعا  ***  ولكن لوراد المنون تتابعا

صفاء الدنيا قليل وأكدارها كثيرة، يتعاقبان على بني البشر، وهذه حال الدنيا وأهلها منذ أن خلقهم وأوجدهم رب العباد؛ يسيرون على أديم هذه الأرض والتقلب في مناكبها سعيا في طلب معايشهم، وقضاء حوائجهم، وتسريح نواظرهم في آفاقها، والتأمل في ملكوت السموات والارضين ليزداد إيمان من كتبت له الهداية وحسن الختام، وفي النهاية يتعقبهم هادم اللذات ليرحلوا إلى عالم الأموات جماعات وفرادى أجيال بعد أجيال إلى يوم النشور يوم يبعث الله جميع الخلائق للمناقشات والحساب، فمنهم شقي وسعيد، فآجالهم مغطاة في ضمير الغيب لا يعلمها إلا خالقهم خالق السموات والأرضين.

ففي الصباح الباكر من يوم الأربعاء 4/7/1431هـ لحقت أم عبدالرحمن  ببعلها شقيقي الأخ ناصر الذي سبقها إلى مراقد الراحلين منذ وقت قريب. رحمهما الله ليتزامن شروق وطلوع شمس ذاك اليوم على أرجاء الكون الفسيح مع طلوع روح زوجة أخي سارة بنت محمد بن ناصر العمراني، ومغادرتها جسمها الطاهر بعد معاناة طويلة الأمد مع عدد من الأمراض المتنوعة -تغمدها الله بواسع رحمته -ولقد انطفأت شمعة مضيئة في أرجاء منزلها، فعلت أصوات الأطفال حزنا وتأسفا على فراقها وبعدها عنهم، وعم الحزن والبكاء أبناءها وبناتها، وأخواتها وإخوانها، بل ومحبيها لمكانتها العالية في قلوبهم وبين جوانحهم، ولقد عاشت ابنة خالتي في بيئة صالحة تزرع الود والوئام بين الأسر والأقارب، والعطف على الأطفال والأيتام والأرامل، والتواصل بين الأرحام والأقارب والجيران، كما كان لرحيل زوجها وغيابه عن ناظريها بالغ الحزن والأسى ساورها طيلة فقدها له حتى لحقت به – كما أسلفنا – ولقد أجاد الشاعر حيث يقول:

فكل قرينة لابد يوما  *** سيشعب إلفها عنها شعوب

ولقد خلَّفت ذرية صالحة محبة للبذل في أوجه البر والإحسان، بنين وبنات تجدد ذكر والديهما بحسن التعامل مع أسرهم ومع بني وطنهم، وبإخلاص الأبناء في أداء رسالتهم العملية والوظيفية التي تسنَّموها عن مقدرة، وما من شك أن القدوة الحسنة والتربية الصالحة للأبناء والبنات تؤتي ثمارها يانعة وتأخذ بأيديهما الى بر الأمان والفلاح ليكونا لبنات صالحة في بناء مجتمعاتهم، كما لا أنسى أفضال أم عبدالرحمن ورعايتها لخالتها والدتي لطيفة بنت عبدالرحمن العمراني -رحمها الله -حيث استأذنت هي وشقيقي الأخ ناصر مني ومن عقيلتي أم محمد بأخذها إلى منزلهما بالرياض لتكون على مقربة من المصحات المتخصصة عند اللزوم، ولتقوم بخدمتها ورعايتها في آخر حياتها داخل المنزل، من غير تقصير من زوجتي أم محمد التي ظلت تخدمها منذ تربعها على عش الزوجية بمنزلنا في حريملاء أعواماً مديدة متعها الله بالصحة والعافية فهي بجانب رعايتها أي -أم عبدالرحمن – تقدم لها بعض الأدوية الشعبية مأمونة العاقبة، وقد اشتهرت -رحمها الله -في الأوساط العائلية ولدى جيرانها بالمهارة في الطب الشعبي الذي ورثته هي وبعض إخوتها وأخواتها من والدها الشيخ محمد بن ناصر العمراني الشهير بطب العيون وبعض الأمراض التي قد تستعصي على مهرة الأطباء! ، ومن الطريف أنه قد ذهب بـ (أبوناصر) الى الولايات المتحدة لكي يكوي بالنار شخصا من علية القوم حينما حار بعض أطباء ولاية بوستن الأمريكية، وعندما عاد ذاك الشخص الحبيب قابلته في مناسبة من المناسبات فسألته: هل استفدت من كي أبوناصر العمراني فأجاب : استفدت كثيرا، وعاش بعد ذلك مدة طويلة، رحم الله الجميع، ولقد جرنا الحديث الى التطرق للطب الشعبي ليعلم أنه رافد قوي للطب الحديث، ولاسيما في بعض الأمراض كمرض العيون، والعنكبوت، وما تسمى (الحبة أو النفرة) في عرف أهل نجد، وهي تنشأ في أحد أجزاء الرأس داخل الأذن أو الحنجرة أو الخياشيم، وتنتهي غالبا بالوفاة إذا لم يٌبادر بكي صاحبها في مجمع عروق الرقبة الملاصقة للرأس مع التقيد بالحمية التي ينصح ويوصي بها الطبيب الشعبي، ولقد عانت أم عبدالرحمن من الأمراض ما الله به عليم، حيث ترددت على كثير من المصحات والعيادات الطبية عل الله يمنحها فسحة في عمرها، ولكن المقدر لها في اللوح المحفوظ من أيام الدنيا قد انتهى تماما الساعة السادسة والنصف من صباح يوم الأربعاء 4/7/1431هـ حيث فرت روحها الطاهرة إلى بارئها، وقد أجاد الشاعر حيث يقول:

وإذا المنية أنشبت أظفارها *** ألفيت كل (وسيلة)  لاتنفع

ومما آلمني وزاد تراكم الأحزان في نفسي وعلى قلبي ماشهدته من تأثر شديد في أبنائها، وبكاء مر من بنياتها في أثناء تعزيتهن ومواساتهن، ولك أن تتصور حالهم جميعا وما بداخلهم من لوعات الفراق حينما يتوالى دخولهم ذلك المحضن الذي ألفوه وقضوا فيه أحلى أيامهم وذكرياتهم، وقد خلا من أنيسه ونوره (والديهم) كان الله في عونهم.

ووحشته حتى كأن لم يكن به *** أنيس ولم تحسن لعين مناظره

تغمدها الله بواسع رحمته وألهم ذويها وأبناءها وبناتها وإخوتها وأخواتها ومحبيها الصبر والسلوان  (إنا لله وإنا إليه راجعون).

<!--[if !supportFootnotes]-->

<!--[endif]-->

(<!--) نشرت في صحيفة الجزيرة، يوم الجمعة 13 رجب 1431هـ الموافق 25 يونيه 2010م.

(<!--) نشرت في صحيفة الجزيرة، يوم السبت 28 رجب 1431هـ الموافق 10 يوليه 2010م.

(<!--) نشرت في صحيفة الجزيرة، يوم الأربعاء 9 شعبان 1431هـ الموافق 21 يوليه 2010م.

mager22

فقد ورثاء ( عبد العزيز بن عبد الرحمن الخريف )

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 240 مشاهدة
نشرت فى 30 سبتمبر 2013 بواسطة mager22

(الشيخ / فيصل بن عبدالعزيز المبارك منارة علم) (<!--)

 

تخالف الناس إلا في محبته *** كأنما بينهم في وده رحم

إن الإنسان السوي والواسع الخيال حينما يخلو بنفسه في ساعات استرخاء وسعة بال ما تَلبثُ أطيافُ أحبته ومعارفه إلا أن تتحرك وتجول بخواطره أحياء وأمواتا تلقائياً، وبدون أن يطلبها فتطير به مسرعة في عوالم متموجة من الأخيلة فتلمع بعض صور أشخاص لهم دور في الحياة، ومكانة عالية في نفوس مجتمعهم، ومن أولئك الأعلام الذين مروا بخاطري فضيلة الشيخ الزاهد طيب الذكر فيصل بن عبدالعزيز المبارك (قاضي الجوف)؛ وقد ولد عام 1313هـ وتوفي في عام 1376هـ الذي وقف حياته خدمة للعلم وطلابه، فيطيب لي أن أتناول شيئاً من صفاته وسيرته العطرة وأعماله الجليلة، فقد بدأ حياته منذ صغره مهتماً بقراءة القرآن الكريم حيث ختمه مبكراً على يد المقرئ عبدالعزيز الخيال من المجمعة، وفي عام 1331هـ عاد إلى بلدة (حريملاء) ثم أخذ بحفظ بعض المتون مثل: ثلاثة الأصول، ومتن كتاب التوحيد، وكتب الفقه والحديث، وتدارسها مع نظرائه، وتلقى شروحها وإيضاح معانيها لدى مشايخه الأجلاء، ولقد بعثه الملك عبدالعزيز (يرحمه الله) واعظاً ومرشداً إلى بلدان الحجاز وتهامة: فنفع الله بعلمه وهدى الله به أمة منهم حيث أثرت فيهم دعوته وإرشاده، وبعد ما تروى من صافي العلوم وتهيأ للقضاء والإفتاء عينه الملك عبدالعزيز قاضياً بتثليث، فأبها، فبيشه وعدد من تلك البلدان الجنوبية، وفي ضرماء، وأخيراً في الجوف ابتداء من 1362هـ وبقي فيه حتى توفي في آخر عام 1376هـ (رحمه الله) فأول ما قدم إلى الجوف بدأ ببناء جامع كبير يعرف الآن باسمه وكان (رحمه الله) مُعرضاً عن زخارف الدنيا ولا يقيم لها وزناً، وكان يدير شؤونه الخاصة عبدالله بن عبدالوهاب الذي جاء معه مرافقا له فيستلم راتب الشيخ من المالية ويصرف على بيت الشيخ الحاجات الضرورية والبقية يصرف إعانة للطلبة المحتاجين والمغتربين فأخذ مسجده يعُجّ بطلبة العلم من نفس المدينة ومن نواحي أخرى، وكأنه خلية نحل، وظل الشيخ يتعاهدهم ويشجعهم بالمادة من مرتبه رغم قلته كما أسلفنا، ومن المالية بأمر من الملك عبدالعزيز ومن بعده الملك سعود (رحمهم الله) ، لأجل أن ينهلوا من صافي العلوم على يديه وقد استفاد الكثير منهم وخرّج نخبه من طلاب العلم ورجالا تسنموا المناصب العالية في خدمة الوطن وأهله، فكله خير وبركة لتلك المنطقة وأهلها...، وينظر له في هذا المجال العلمي من الأخيار: الشيخ / عبدالله ابن محمد القرعاوي شيخ الجنوب (رحمه الله) الذي كان سبباً مباركاً في تنوير منطقة الجنوب من ظلمة الجهل (آنذاك) بانتشار عدد كبير جداً من مدارسه لتحفيظ القرآن الكريم وتلقي مبادئ في العلم شملت جازان، ونجران، وأبها، وصامطة والقرى المنتشرة هناك بدعم قوي من الدولة -أعزها الله -وبمتابعة خاصة من جلالة الملك سعود (رحمه الله) حيث خصص رواتب للمعلمين ومكافآت للطلبة ثم ضمت تلك المدارس إلى المدارس الحكومية النظامية وكان الشيخ / فيصل والشيخ / القرعاوي سبباً في تنوير الجهتين الشمالية والجنوبية، وقبلهما الشيخ محمد ابن عبدالوهاب (تغمده الله بواسع رحمته) الذي عم نفعه بتصحيح المفاهيم الشرعية والمعتقدات الدينية، ومحاربة البدع والخرافات -جزاهم الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء -ثم امتدت يد الإصلاح والتوسع في تبصير الأمة بأمور الدين والإفتاء على أيدي العلماء والمشايخ الكثر مثل: رائد الحركة العلمية بحريملاء قديماً الشيخ / محمد بن ناصر المبارك، وسماحة مفتي الديار السعودية الشيخ / محمد بن إبراهيم وأخيه الشيخ/عبداللطيف، وبعدهما الشيخان الجليلان الشيخ/عبدالعزيز بن باز والشيخ/محمد بن عثيمين ومن ماثلهما من العلماء، فأعقب ذلك انتشار المعاهد العلمية والكليات والمدارس عموماً، حيث ازدهرت العلوم والثقافات عامة بهذا العصر الزاهر في ظل ملوك وولاة أمر هذا الوطن، فالشيخ فيصل المبارك (يرحمه الله) شمعة سطعت وأضاءت صدور الكثير من أبناء منطقة سكاكا والجوف وغيرهم من تلامذته بدروسه ومؤلفاته ومخطوطاته التي تربو على عشرين كتاباً، فقد حباه الله سعة في العلم ورحابة صدر وتواضعا جما حبب الناس إليه، ومن كانت هذه صفاته استعذب الناس ذكره وأحبوه وصدق الشاعر حيث يقول:

وجه عليه من الحياء سكينة ** ومحبة تجري مع الأنفاس

وإذا أحـــب الله  يومـــاً عبده ** ألقــى عليه محبة في الناس

وكانت مكتبة الشيخ فيصل ومخطوطاته العلمية ـ التي سحبت مكتبة الملك فهد أصولها ووعدت ببعث صور لتلك المخطوطات ولم تصل حتى الآن..! هي نواة لتأسيس المكتبة العامة بحريملاء التي بلغ مجمل محتوياتها الآن ما يقارب من اثنين وعشرين ألف كتاب، ولا زال المدد من قبل الوزارة يرد إليها بين وقت وآخر، وقد اقترحنا على الوزارة افتتحاها رسمياً فوافقت على افتتاحها فافتتحناها في عام 1388هـ وفرغنا لإدارتها الأستاذ الراحل محمد ابن عبدالعزيز الناصر (رحمه الله) أحد المعلمين لدينا في المتوسطة ومعه بعض المستخدمين، ولا زالت أبوابها مفتوحة على فترتين صباحية ومسائية، وكل ذلك من بركات الله ثم من الشيخ فيصل (يرحمه الله) وقبل نقل تلك الكتب إلى المبنى الذي كان يحتاج إلى ترميم وصيانة أبدينا للشيخ محمد بن صالح ابن سلطان أن المبنى يحتاج إلى صيانة فما كان منه (رحمه الله) إلا أن سلم لنا مبلغ خمسة آلاف ريال، والخمسة لها وزنها في تلك العقود الفارطة، فالشيخ فيصل يعتبر من نوادر العلماء الأفاضل علماًَ وسخاء وحرصاً على أن تخرّج مدرسته (المسجد) طلاب علم وقضاة ينفع الله بهم أذكر من أولئك أن الشيخ عبدالله بن عبدالوهاب الذي قدم معه إلى الجوف مرافقاً تخرج على يد الشيخ ثم تولى القضاء في عدد من البلدان.... إلى أن توفاه الله، ويقال إن الملك عبدالعزيز قد طلب من الشيخ فيصل بعد مدة من إقامته في الجوف أن يعينه في موقع آخر فأفاد الشيخ أن لديه غروسا ولا يرغب مغادرة الجوف حتى تؤتي تلك الغروس ثمارها فلما علم الملك (يرحمه الله) أنه يقصد بالغروس الطلبة الذين يهتم بتعليمهم وتهيئتهم للمستقبل أكبر الملك عبدالعزيز ذلك منه فعدل عن نقله لحرصه على نشر العلم وتنوير أفراد شعبه فاستمر الشيخ هناك حتى توفاه الله عام 1376هـ... ، ولنا مع الشيخ بعض الذكريات حيث جمعتنا به الأيام في مستشفى أرامكو بالظهران عام 1370هـ وكلانا يراجع المستشفى، وكان يدعوني لتناول طعام الغداء معه ويؤكد ذلك علي مرارا لعلمه باغترابي في تلك البلاد فجزاه الله عنا خيراً، فكرمه مستمر في حله وارتحاله وكأن طرفة ابن العبد يذكره بهذا البيت:

لعمرك مع الأيام إلا معارة ** فما استطعت من معروفها فتزود 

رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه عالي الجنان.

 

 

 

 

 

 

 

 

 


الأستاذ  عبدالله القعيد وحلاوة الأيام (<!--)

 

ما أحسن الأيام إلا أنها   ** يا صاحبي إذا مضت لا تعود !

مر بالإنسان في هذا الوجود فترات جميلة من الزمن يعيشها جذلا فرحا برفقة صحبه وأحبته ورفاق دربه، وكأنه يملك زمام السعادة واستمرارها وديمومتها. فلا يخطر بباله شيء من كدر العيش ومنغصات الحياة، ولكن سرعان ما يعقب ذاك الفرح والمرح أتراح وأحزان يطول مدى مكثها بين جوانحه وفي ذاكرته..، حيث يفاجأ بغياب ورحيل أحد أصفيائه، وأقرب الناس إلى قلبه من والدين وإخوة، أو صديق ود سكنت محبته في أغوار نفسه، فبينما كنت أودع صديقي وزميلي في العمل الأستاذ الكريم عبدالله بن عبدالعزيز القعيد -أبو خالد -وهو واقف في انتظار سيارة أجرة تنقله إلى مدينة الرياض قبل صلاة عصر يوم الخميس 8/5/1391هـ  وبعد ما استقر في مقعد السيارة الخلفي أومأ بيده اليمنى مودعا ثم ما لبث أن لوى عنقه نحوي بعد تحرك السيارة بأمتار قليلة وهو ينظر إلي نظرات خلتها نظرات مودع، وربما أنه قد استشعر أو أحس شيئا ما بداخله على خلفية رؤيا منامية أو إحساس باطني فكانت آخر نظرة! ولحظة منه أوجعت قلبي، حيث إنه لم يمض على تلك اللحظات سوى نصف ساعة فقط، فإذا هو في عالم الراحلين فجأة على إثر انقلاب السيارة وبصحبته رفيقه إبراهيم بن محمد الجريبة رحمهما الله، وكان وقع ذاك النبأ موجعا ومؤلما لنفسي، فما كان مني إلى أن استرجعت تاليا هذه الآية الكريمة "إنا لله وإنا إليه راجعون"، ومتذكرا قول الشاعر الأستاذ/محمد بن سليمان الشبل الذي سبق أن مر به ما مر بنا من أحزان ولوعات فراق :

يوم الوداع وهل أبقيت في خلدي ** إلا الأسى في حنايا القلب يستعر

ولقد آلمني رحيله وغيابه عن ناظري، وعن ساحة أحبائي ورفاقي..، هي الأيام ولياليها التي لا يدوم لها سرور وراحة بال، وقد طبعت على تفريق الجماعات والأحباب، ثم انطلقنا إلى موقع الحادث الذي وقع على مقربة من موقع كلية القيادة والأركان حاليا، فوجدنا من آثار الحادث قليلا من الشعيرات التي تساقطت من رأس -أبو خالد رحمه الله -لشدة ارتطامه على الأرض، فالتقطتها واحتفظت بها داخل ظرف للذكرى، كما أن صورته لم تغادر مفكرة تسجيل أرقام الهواتف لدي رغم مضي أكثر من أربعين عاما على وفاته؛ وذلك لشدة حبي له وقربه من نفسي، فذكراه لا تغيب عن خاطري مدى الأيام -تغمده الله بواسع رحمته -ولقد عرفته مُبكرا في أثناء قدومي إلى المنطقة الشرقية للعلاج بمستشفى أرامكو عام 1372هـ وهو (آنذاك) يقوم بأعمال خاصة داخل قصر معالي الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن بن عدوان الذي كان يمثل حكومتنا الحبيبة إلى قلوبنا لدى شركة أرامكو ومديرا للمالية، كما كان يقوم بخدمة وقضاء حوائج عمته -أم عبدالعزيز -متعها الله بالصحة والعافية عقيلة الشيخ عبدالله بن عدوان. وكان (يرحمه الله) يتصف بالحيوية والحذق، وبالترحيب بزوار وضيوف معالي الشيخ في أثناء غيابه عن القصر.. فهو شاب نبيه ووجيه، وفي عام 1379هـ عينته وزارة المعارف كاتبا وملاحظا للطلاب ليعمل معنا في إدارة معهد المعلمين بحريملاء والمدرسة الابتدائية -آنذاك -وظل التعاون والتآلف بيننا مستمرا، وعند استقلال المرحلة المتوسطة في مبنى خاص رشحناه مديرا للمرحلة الابتدائية فوافقت الوزارة على ذلك، واستمر في عمله القيادي المشرف حتى غالته يد المنون -كما أسلفنا -في 8/5/1391هـ. كما سعدت بمشاركته معنا في شراء وبيع قطع من الأراضي السكنية في حي أسميناه: (حي العزيزية بحريملاء) على الشارع العام حاليا فنقوم ببيع بعضها، والآخر نتقاسمه، ونعتبر في نظر الأهالي بحريملاء من أوائل العقاريين في بيع الأراضي، ومن الطريف أننا في أثناء قسمة الأراضي نقسمها بدون استعمال الأمتار ونكتفي بخطى الأقدام معتبرين كل خطوة مترا تقريبا، وعندما نمد الخيط لأجل وضع المرسام الذي نعتبره الحد الفاصل بين القطعتين يحصل بيننا تزاحم وتدافع وابتسامات الرضى تعلو محيا كل واحد منا لأجل تزويد نصيب الغالب منا بعدد قليل من السنتيمترات لا تتجاوز 30 سنتيمترا تقريبا فتنتهي القسمة برضى الطرفين دائما، كما أن ذكريات الرحلات المدرسية والقنص معه لا تنسى أبد الأيام، ولا ننسى والده -عبدالعزيز -الذي كنا نستفيد من أحاديثه الشائقة وأشعاره جيدة السبك وقصصه التاريخية عن الملك عبدالعزيز (رحمه الله) وعن غزواته الموفقة في أثناء زياراتنا له في نخله بحريملاء، فالزميل عبدالله  - أبو خالد -كله خير وبركة والعزاء في ذلك أنه ترك سمعة طيبة وذكرا حسنا وذرية صالحة تدعو له، وهذه الكلمة الوجيزة عبارة عن جزء يسير من سيرته الاجتماعية وحياته العملية الوظيفية، وما علينا إزاء الحادث الجلل الذي كان سببا في غيابه عنا إلا الصبر والإيمان بأقدار الله جل جلاله.

وإذا تصبك مصيبة فاصبر لها  ** عظمت بلية مبتلى لا يصبر

تغمده الله بواسع رحمته ومغفرته.

 

الأستاذ/ عبدالرحمن الناصر إلى دار المقام (<!--)

 

تولى وأبقى بيننا طيب ذكره ***  كباقي ضياء الشمس حين تغيب

يختلف وقع المصائب على النفوس من شخص لأخر قوة وضعفاً، منها ما ينزل على المهج هوياً كبعض الأجرام السماوية الملتهبة نزولاً بانحدار سريع صوب الكوكب الأرضي داكةً تلك الجبال المواكث والهضاب دكاً، فمصائب الدنيا لا تأتي متتابعةً وإن صفت يوماً أعقب صفوها كدر، فهي دار أحزان وأتراح، وسعيد من إذا انتهت مدة إقامته في الدنيا يرحل بزادٍ من التقوى يضيء له الدروب إلى دار المقام دار النعيم، وبذكرٍ جميل تردده الأجيال على تعاقب الملوين:

ولا خير في الدنيا لمن لم يكن له **  من الله في دار المقام نصيب

فبينما كنت مغتبطا أسير على متن حافلةٍ بصحبة بعض أفراد أسرتي بقيادة أحد أنجالي البررة متوجهين صوب المسجد النبوي بالمدينة المنورة مضجع ومحضن جسد سيد البشر محمد بن عبدالله عليه أفضل الصلاة والسلام، وقبر صاحبيه أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب عليهم رضوان الله يحدونا الشوق للصلاة في ذاك المسجد المتربع على أرض تلك البقاع الطاهرة التي يضاعف فيها الأجر والحسنات، والسلام على صفوة الخلق سيدنا محمد بن عبدالله، وعلى صاحبيه رضي الله عنهما حيث رن الهاتف المحمول رنةً أعقبها نبأ محزن بوفاة شابٍ نشأ في طاعة الله قل المماثل له خلقاً وأدباً وسماحة خلق، إنه الأستاذ الفاضل المربي عبدالرحمن بن عبدالله بن محمد الناصر على إثر مرضٍ عضال لم يمهله طويلاً  ولم يعطه فرصة للأخذ بالأسباب لصده وإبعاده عن جسده، وكأني بشعوب – على سبيل التوهم – قد اعتذر منه قائلاً: قد أمرني المولى بإنهاء عمرك، حيث سطر مقداره في اللوح المحفوظ منذ الأزل، ففاضت روحه الطاهرة بعد صلاة الظهر من يوم الثلاثاء 6/5/1431هـ بعد رحلة مشرفة في حقل التربية التعليم والتدريس في عددٍ من المواقع حتى ألقى عصا التسيار والترحال في مهوى رأسه ومهد طفولته – محافظة حريملاء – وقد بدأ مشواره التعليمي بالمرحلة الابتدائية في المدرسة السعودية بحريملاء، ثم بالمعهد العلمي بها مواصلاً دراسته بالمرحلة الجامعية بكل نشاط وتفوق علمياً وأدبياً وقد تخرج في كلية الشريعة بمدينة الرياض عام 98/ 1399هـ ثم عين مدرساً بالمعهد العلمي بحوطة سدير عام 1399هـ، وظل هناك على ملاك إدارة المعاهد والكليات مدة من الزمن، فلم يعقه ذلك عن مواصلة زيارته وبره بوالديه كبيري السن للاطمئنان على صحتهما، والقيام بخدمتهما في أواخر كل أسبوع حيث يحضر من حوطة سدير إلى حريملاء محاولاً طلب نقله إلى المعهد العلمي بحريملاء ليكون على مقربة منهما، ونظراً لتعذر تحقق أمنيته بحريملاء لكثرة عدد المعلمين بالمعهد العلمي طلب بإلحاح أن ينقل على ملاك وزارة المعارف – آنذاك – فتم له ذلك فنقل إلى متوسطة "رغبة" الواقعة غربي حريملاء على بعد 35 كيلو تقريباً ومكث فيها حوالي سبع سنوات وأخيراً وجه إلى متوسطة وثانوية حريملاء. وكان في أثناء وجودنا على رأس العمل يعمل بكل جد وإخلاص وأمانة، ويتقبل القيام بحصص الانتظار بصدر رحب فيستغلها فيما ينفع الطلاب ويجدد نشاطهم رغم كثافة عدد الحصص والمواد في جدوله ولم يعهد عنه – رحمه الله -تقطيب حاجبيه، وقد حباه المولى رحابة صدر ولين جانبٍ، وإخلاص في أداء عمله طيلة الفترة الزمنية التي عاشها محبوباً ومقدراً في حقل التدريس، وقد ظهر ذلك جلياً على تفوق أبنائه  الطلبة في جميع المواد التي كان يدرسها في كل المواقع وذلك من تأثيره النفسي عليهم وحبهم إياه، حيث ينفحهم بالنصائح والتوجيهات الأبوية التي تضيء لهم سبل النجاح والفلاح في قابل حياتهم العلمية والاجتماعية، وحسن التعامل مع الأخرين، فلسان حاله – يرحمه الله – يذكرهم بفضائل النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وما وهب من خلق عظيم بقوله {وإنك لعلى خلقٍ عظيم} من سورة (القلم). فالتحلي بالأخلاق والآداب العالية المستوى تحمي المرء المسلم -بحول الله وقدرته – من الزلل والجنوح، ولقد أجاد الشاعر المصري حاثاً على الاتصاف بجوهر الآداب والفضائل حيث يقول:

فإنما الأمم الأخلاق مابقيت ** فإن همُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا

فالأستاذ عبدالرحمن – أبوفهد – قمة في الأخلاق الحميدة والاستقامة وحسن التعايش مع الجميع، والحث على قوة الترابط والتآلف بين الأسر وسائر أفراد المجتمع، بل وبالبر وصلة الرحم حيث احتضن إخوته الصغار وقام برعايتهم بعد رحيل والده والدهم جميعاً حتى كبروا مع بره المتناهي بوالدته الحنون قبل أن يفجع برحيلها عنهم -رحم الله الجميع -، فهو محبوب لدى زملائه وأبنائه الطلبة لما يتحلى به من أدب رفيع، ومن دماثة خلق ولين جانب وثغر باسم. ولقد كان لرحيله بالغ الحزن العميق في نفوس أسرته وأبنائه وإخوته ومحبيه، حيث خيم الحزن على أجواء حريملاء وماحولها، وعلى ساكنيها لما له من مكانة عالية ومحبة صادقة في طوايا نفوسهم، وقد اكتظ المسجد الجامع بالحي الجديد وساحاته بحريملاء رغم رحابته واتساعه بجموعٍ غفيرة قدموا من عددٍ من المحافظات والبلدان المجاورة رجالاً ونساءً وأطفالاً رافعين أكف الضراعة للمولى بأن يحسن وفادته ويتغمده بواسع رحمته، ومما زاد حزن المشيعين له تدافع تلامذته وأبنائه الصغار على حافة القبر وهو ينزل برفقٍ وأعينهم تتابع النظر إلى جثمانه الطاهر قبل أن يغيب عنهم إلى الأبد، وقد أجهشوا بالبكاء المر المسموع فأبكوا من حولهم، وقد رطبوا حافات قبره بوابل من دموعهم الحرى، ولك أن تتصور مابداخلهم من لوعات الفراغ الأبدي عندما يعودون إلى منزله وقد خلا من شخصه، تغمده الله بواسع رحمته، وألهم ذويه وإخوته وأبناءه وبناته، وعقيلته – أم فهد – ومحبيه الصبر والسلوان. {إنا لله وإنا إليه راجعون}.

 

 

 

 

 

 

 


رحمك الله أبا عبدالرحمن (<!--)

(الفقيد عبدالله بن عبدالرحمن بن سعد الداود رحمه الله)

 

أمن المنون وريبها تتوجع ؟ ***     والدهر ليس بمعتب من يجزع

الإنسان مهما تطاول به الزمن على ظهر هذه الأرض يظل متعلقا بالبقاء فوقها باذلا ما في وسعه بأخذ الأسباب التي قد تكون سببا في مد أيام عمره – بإذن الله – فنجد بعضاً من البشر يشد الرحال يمنة ويسرة، بل فربما يشخص إلى أقصى وأبعد أطراف الدنيا عله يجد شفاء يبعد عنه شبح حضور شعوب الموكل بقبض أرواح جميع الخلائق، ولكن كل تلك المحاولات قد لا تجدي وقد أجاد الشاعر حيث يقول:

وإذا المنية أنشبت أظفارها ***   ألفيت كل (وسيلة) لا تنفع

وهكذا الدنيا حياة ثم موت، وهذه سنة الله في خلقه إلى يوم النشور، فبينما أبناء الفقيد عبدالله بن عبدالرحمن بن سعد الداود الذي رحل عنا إلى الدار الآخرة قبيل فجر يوم الأحد 2/6/1431هـ  يترددون على بعض المستشفيات الكبرى في مدينة الرياض وإجراء الفحوصات اللازمة له، ثم رجوعهم إلى منزلهم بحريملاء خائبة آمالهم لعدم وجود أسرة لتنويمه هو وبعض المرضى المماثلين لحالته من أهالي حريملاء وغيرهم، ولك أن تتصور حال المريض وحال أسرته، وقد دب اليأس في نفسه وبين جوانحه عند تعذر الجهات المختصة لعدم وجود سرير له، ولسان حاله يلقي اللوم على وزارة الصحة التي منحتها الدولة – أعزها الله – كل الصلاحيات وكل الإمكانيات المادية والبشرية للرعاية الصحية لكل مواطن ومقيم.. ، ومع ذلك كله لم توفر أعدادا من السرر والغرف، وكأنه يردد في خاطره قول أبي الطيب المتنبي:

ولم أر في عيوب الناس عيباً  ***  كنقص القادرين على التمام!

ومعلوم أن كثافة السكان المتزايدة، واستقبال المستشفيات الكم الهائل من المرضى، ومن الحوادث المستمرة قد تكون مبررة لها..، ولكن كما يقال (صاحب الحاجة أعمى لا يريد إلا قضاءها..!)،  والأمل معقود في الله ثم في وزيرها المخلص
 – الذي أصبح مفخرة للوطن في تخصصه النادر: فصل التوائم – في بذل المزيد واستثمار ما خصص لوزارته من أموال طائلة تفوق الخيال بالتوسع في إنشاء مبان عملاقة للمصحات في كبريات المدن والمحافظات مع تزويدها بأطباء متخصصين مهرة..، لسد الحاجة، وتقليل الهجرة إلى المدن، وهذا مدرك لدى المسؤولين ولكنها حاجة في النفس بالتذكير:

إذا الحمل الثقيل توزعته  *** أكف القوم خف على الرقاب

ولقد أوشكنا في الخروج عن موضوع التأبين للراحل، ويعلم الله أنه عين الإخلاص، والرأفة بالمرضى، والحرص التام على السمعة المشرفة لهذا الوطن وأهله..، والحقيقة أن أبا عبدالرحمن الذي انتقل إلى رحمة الله ولاقى وجه ربه من الذين نشؤوا في طاعة الله ومرضاته منذ صغره حيث ختم القرآن الكريم وحفظ معظمه على أيد المقرئين في الكتاب بحريملاء مع المحافظة على أداء الصلوات الخمس في أوقاتها، وكان يتعاهد حفظه وتلاوته ومدارسته مع شقيقه الأستاذ الفاضل محمد الذي سبقه إلى مضاجع الراحلين منذ عقود من الزمن – رحمهما الله -، وبعد ما كبر التحق بالأعمال الوظيفية بالضمان الاجتماعي في حريملاء فترة من الزمن، ثم انتقل إلى مندوبية تعليم البنات في نفس البلد حريملاء ومكث بها عددا من السنين حتى تقاعد بقوة النظام، مع إمامته المصلين مدة تقارب الثلاثين عاما..، وكان له صوت جميل في أثناء تلاوة القرآن الكريم تلذ له الأسماع، فهو موهوب في سرعة الحفظ والفهم، وله بعض الإلمامات بعلوم المواريث، وأحكام الصلوات رغم عدم دخوله المدارس النظامية، ولكن ملازمته الحضور إلى المساجد التي تلقى فيها الدروس والمواعظ أكسبته تفقها في أمر دينه، وأضفت عليه السكينة والاطمئنان النفسي وهدوء الطبع، وحسن التعامل مع الكبير والصغير، فهو – رحمه الله – مضرب المثل في البر وصلة والرحم، والإعراض عما في أيدي الناس، فهو كما يقال (عاف كاف) ، فلسانه رطب بذكر الله – جل جلاله -، كما أنه يحفظ كثيرا من أشعار الحكم والأمثال والنظم فدائما يترنم بها مع أصحابه وفي خلواته..، فيجد في ذلك سلوة ومتع لذيذة، ولقد كان لنبأ وفاته بالغ الحزن لدى أسرته وأبنائه وبناته، وإخوته وعارفيه.. لما يتصف به من سلامة صدر وحسن تعامل مع الجيران ومع أفراد مجتمعه، فمحبته متأصلة في نفوس الصغار والكبار، كما أنه يؤنس جلساءه ببعض الطرائف الخفيفة، والحث على التواصل وقوة الترابط بين الأسر والأحبة، مذكرا لهم أن العمر ليس فيه متسع للتجاف والتباعد، فهو مقبول الإشارة والإيماءة التي يتفوه بها لصالح الجميع ويقال إن آخر كلامه من الدنيا شهادة أن لا إله إلا الله – جلت قدرته - وقد اكتظ الجامع الكبير بالحي الجديد بمحافظة حريملاء بالمصلين عليه رجالا ونساء وأطفالاً داعين المولى بأن يتغمده بواسع رحمته ويفسح له في مرقده بين الراحلين قبله، وأن يلهم ذويه وأبناءه وبناته وأخاه وعقيلته أم عبدالرحمن الصبر والسلوان "إنا لله وإنا إليه راجعون".


مضى لسبيله بحر العلوم (<!--)

(الشيخ الزاهد عبدالله بن عبدالرحمن الغديان رحمه الله)

 

لقد عَظُمت في المسلمين رزيةُ  ***  غداة نعى الناعون (فينا الغديانا)

ما أكثر فجائع الدهور والأيام، فكل يوم نفجع برحيل غالٍ إلى دار الخلود، تلبية لداعي المولى -جل جلاله -، وقد يعقب ذاك حزنٌ يطول مكثه في نفوس أسرته ومحبيه، فما على المسلم إلا أن يسلم أمره إلى الله ويسترجع، ويصبر ويؤمن بقضاء الله وقدره قال الله تعالى {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}، فصفاء الحياة الدنيا لا يدوم وإن طال أمده حيناً من الزمن، فالمؤكد الذي لا مناص من حدوثه أن يعقب صفوها كدر، وهذه سنة الله في خلقه، فبينما كنت أسرح طرفي في قراءة بعض الكتب الحافلة بالحكم والأمثال، فإذا برنين الهاتف المتسارع يحمل نبأ رحيل عالم فذ إنه فضيلة الشيخ الزاهد عبدالله بن عبدالرحمن الغديان الذي كان من زملاء تلقي مبادئ العلم بحلقات المساجد بمدينة الرياض بحي دخنة لدى سماحة مفتي الديار السعودية الشيخ محمد بن إبراهيم، وأخيه فضيلة الشيخ عبداللطيف بعد صلاة الفجر، وعلى فضيلة قاضي المحكمة بالرياض الشيخ إبراهيم بن سليمان الراشد بعد مغرب كل يوم بجامع الرياض الكبير عامي 1369- 1370هـ أي قبيل افتتاح المعهد العلمي بالرياض، حيث كان افتتاحه في بداية عام 1371هـ، وقد أحزنني غيابه عنا وعن الدنيا حيث أبعد بعداً لا يرجى إيابه، ولقد سعدت بصحبته مبكراً بالسكن وفي أماكن تلقي العلم -مع البون الشاسع بيني وبينه في التحصيل العلمي، ولا مقارنة بيننا في اقتناص العلوم المفيدة -فهو عالم جاد ومثابر يعد من أبرز علماء الأصول والفقه، والإفتاء بالأدلة الصحيحة، فهو - يرحمه الله - علم بارز وعضو عالي القامة من هيئة كبار العلماء متمكن في علمه الغزير دقيق في إجاباته سهل عليه إيراد الدليل، وسيحدث غيابه فراغاً واسعاً في تبصير الأمة الإسلامية بدقائق المسائل الفقهية والأصولية، (فقيمة كل امرئ ما يحسنه) ولقد أجاد الشاعر وكأنه يعنيه بقوله:

ومن ذا الذي يُؤتى فيُسأل بعدهُ؟ **** إذا لم يكن للناس في العلم مُقنع

فنأمل أن يسعى تلاميذ الشيخ لملء الفراغ من بعده، فعلماء الإسلام يخلف بعضهم بعضا، ولقد عشنا معاً في أحد البيوت والأروقة المجاورة لمسجد الشيخ محمد بن إبراهيم بمحلة دخنه بالرياض التي قد خصصها جلالة الملك عبدالعزيز - طيب الله ثراه -لطلاب العلم المغتربين القادمين من أنحاء متعددة لطلب العلم على المشايخ في تلك الحقبة الزمنية البعيدة قبل وجود المدارس النظامية وانتشارها بنجد مع تخصيص مكافأة لأولئك، حيث كان يسكن هو والشيخ فهد بن عبدالرحمن بن حمين في غرفة بالدور العلوي مجاورين لغرفة الشيخ محمد السحيباني ونجله عبدالله، وأخوه الشيخ علي - رحمهم الله جميعاً -فكل ثلاثة أو أربعة من طلاب العلم يسكنون معاً في غرفة واحدة من تلك البيوت والأروقة، وقد تحقق لجلالة الملك عبدالعزيز ما أمله من نتائج طيبة حيث تخرج من ذاك المسجد الطاهر، ومن مجلس الشيخ الرحب بمنزله والمسجد معاً نخبة ممتازة من العلماء والقضاة والأئمة والخطباء، حيث إن الملك أعطى سماحة المفتي صلاحية لتعيين الكثير منهم قضاة ومرشدين في أنحاء مملكته المتباعدة الأطراف، بل وبإمداد بعض بلدان الخليج بعدد من العلماء والقضاة تعاوناً منه، واحتسابا للأجر من المولى في نشر العلم والإفتاء هناك، فموضوعنا الآن لا يعطينا فرصة التوسع في الحديث عن أفضال وأعمال الملك الجليلة فهو بعيد النظر ينظر إلى أبعاد الأمور كالاستشعار عن بعد - رحمه الله -، واذكر جيداً أن فضيلة الشيخ آل غديان يقضي الساعات الطوال قراءة وحفظاً لكلام الله داخل مسجد الشيخ محمد، وأنا على مقربة منه أحاول حفظ بعض المتون عن ظهر قلب مثل: متن كتاب التوحيد كاملاً، وثلاثة الأصول، ومتن العقيدة الواسطية، وجزء من متن زاد المستقنع كلها حفظاً آنذاك. وأما الآن فقد تبخرت تلك الكنوز الثمينة أدراج رياح النسيان، ولم يبقِ منها سوى رائحتها الزكية؛ لأن دراستنا النظامية شغلتنا عن الاستمرار في تثبيتها في الذاكرة وحفظها، ومن جهة أخرى كان العم عبدالله بن إبراهيم الخريف من رجال الأعمال توسم في الشيخ عبدالله آل غديان ملامح الذكاء والنجابة، وحسن الخط فطلب منه الحضور ليعمل لديه داخل منزله وقت فراغه ليستفيد منه في تدوين وتسجيل أعماله التجارية، فاعتبره أحد أبنائه لأمانته وحسن تنظيمه، وضبط حساباته مؤكداً عليه تناول طعام الغداء والعشاء معه طيلة مكثه لديهم، ولم يثنه هذا العمل الوظيفي عن طموحاته بالتروي من موارد العلوم العذبة وحلو رضابها التي هي هدفه الأسمى منذ بداية تلقيه مبادئ العلم، فأذكر أنه كان يهتم برصد بعض الفوائد العلمية والمتعلقة بالفتوى فيثبتها في ذاك الدفتر أسود الغلاف مستطيل الحجم الذي يشبه السجلات التجارية الرسمية، ولعله باق لدى أنجاله بعد رحيله، ولي معه ذكريات جميلة رحبة الجوانب في مستودعات ذاكرتي فهي باقية مدى عمري، منها الرحلة الشاقة لوعورة الطريق وكثرة الكثبان الرملية عبر الصحراء مروراً بالأحساء صوب مستشفى أرامكو بالظهران بأمر من ولي العهد الأمير سعود بن عبدالعزيز -رحمه الله -في عام 1370هـ وذلك لندرة المصحات بالرياض وعند وصولنا الدمام اتجه الشيخ عبدالله إلى ضيافة الأمير سعود بن جلوي، حيث إن برقية الأمر موجهة إليه، أما أنا فذهبت نحو قصر الشيخ عبدالله بن عدوان، حيث إن الأمر موجه إلى معاليه، وقد تفضل يرحمه الله فأخذني بسيارته الخاصة إلى مدير المستشفى (اسكندر) آنذاك، فاستقبل معالي الشيخ عبدالله العدوان الذي هو مدير المالية وممثل المملكة في شركة أرامكو في تلك الحقبة الزمنية وقال هذا من أبنائنا فاستوصوا به خيراً...، وظللنا هناك فترة من الزمن لتلقي العلاجات اللازمة حتى أُذن لنا بالعودة إلى الرياض، وقد صادف في أثناء مجيئنا ومبيتنا قبل وصولنا عبر الأحساء إلى الدمام وجود كمية من الجراد متأثراً ببرودة الجو فاصطدنا منه كمية يسيرة، فلما وصلنا الأحساء في الصباح أخذنا نبيع على بعض الشباب كل عشر جرادات بنصف ريال أو أقل حتى صفينا تلك البضاعة التي لم نتوقع امتلاكها فاستفدنا من قيمتها بعض الشيء، وهذه من المصادفات الجميلة الطريفة، فالشيخ رحمه الله قد وظف جل وقته منذ بداية حياته للتروي من حياض أنهر العلوم الصافية مما أهله للعمل في حقل التدريس والإفتاء حتى غادر الحياة مأسوفاً عليه، وقد غص جامع الملك خالد بأم الحمام بآلاف المصلين عليه بعد عصر يوم الأربعاء 19/6/1431هـ فحمل على أعناق أبنائه وتلامذته ومحبيه حتى أضجعوه برفق في جدثه:

       مُجاور قوم لاتزاور بينهم ****  ومن زارهم في دارهم زار هُمّدا

 راجين له طيب الإقامة -تغمده الله بواسع رحمته -، وكنت أحياناً أداعبه قائلاً: أنت يا أبا عبدالرحمن ما تهتم بمظهرك الخارجي فلو حاولت أن تظهر بمظهر لامع يتناسب مع مكانتك العلمية، فيرد علي: أنا في شغل عما تشير إليه فقلت: يرحمك الله، وكأنه يقول:

فإن كان في لبس الفتى شرف له **** فما السيف إلا غمده والحمائل

ولئن غاب شخص (أبو عبدالرحمن) عن نواظرنا فإن ذكره العطر سيمكث بين جوانحنا، وفي قلوب تلامذته وزملائه ومحبيه، حيث ترك علماً نافعاً يقتات منه طلاب العلم والمسترشدين على تعاقب الأجدَّين وهما الليل والنهار، ويطيب لي أن أختتم هذه العجالة بهذا البيت الذي ينطبق على أمثاله:

جمال ذي الأرض كانوا في الحياة وهم **  بعد الممات جمال الكتب والسير

تغمده الله بواسع رحمته، وأسكنه عالي الجنان، وألهم ذويه وأبناءه وبناته وأخاه عبدالرزاق، وعقيلاته وجميع محبيه الصبر والسلوان (إنا لله و إنا إليه راجعون).

<!--[if !supportFootnotes]-->

<!--[endif]-->

(<!--) كتبت للنشر في صحيفة الجزيرة، يوم الجمعة 26 ربيع الأول 1431هـ الموافق 12 مارس 2010م.

(<!--) كتبت للنشر في صحيفة الجزيرة، يوم الأربعاء1 ربيع الآخر 1431هـ الموافق 17 مارس 2010م.

(<!--) نشرت في صحيفة الجزيرة، يوم الجمعة 16 جمادى الأولى 1431هـ الموافق 30 إبريل 2010م.

(<!--) نشرت في صحيفة الجزيرة، يوم الأحد 23 جمادى الآخرة 1431هـ الموافق 6 يونيه 2010م.

(<!--) نشرت في صحيفة الجزيرة، يوم الأربعاء 11 رجب 1431هـ الموافق 23 يونيه 2010م.

mager22

فقد ورثاء ( عبد العزيز بن عبد الرحمن الخريف )

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 321 مشاهدة
نشرت فى 30 سبتمبر 2013 بواسطة mager22

إلى دار النعيم أبا علي الهديان (<!--)

 

رحلت وفي الجوانح نبض قلب  **   إلى رضوان ربك مستجيبا

الإنسان في هذه الحياة يسير بإرادة الله كيف يشاء، وكل ميسر لما خلق له. منهم من يتمتع بذكر حسن منذ فجر حياته، لما يتصف به من رحابة صدر وسعة بال وحسن تعامل مع أقرانه وجيرانه، بل وبجميع من تجمعه بهم الأيام، وبصدق الحديث والتغاضي عن هفوات الناس، وفي المجال التجاري (مثلا) في البيع والشراء بعيدا عن الغش والتحايل، فكلما تصفو سريرة المرء ويطيب قلبه ويخلص العبادة لرب العباد تزداد محبته في عشيرته وبين أفراد مجتمعه، وهذه الصفات الحميدة تذكرنا بحال الأخ الفاضل ناصر بن علي الهديان الذي رحل عنا بعد منتصف ليلة الإثنين 20/12/1430هـ على أثر مرض لم يمهله طويلا، وقبيل وفاته خرجت روحه الطاهرة وهو رافع أصبع سبابة يده اليمنى مشيراً بذكر الله، ومن كان آخر كلامه من الدنيا (لا إله إلا الله دخل الجنة) علماً بأنه قبل ذلك قد عفا عن عدد من المدينين له احتسابا لما عند الله، وقد أديت عليه صلاة الميت عقب صلاة العصر بجامع الحي الجديد بحريملاء، ثم تبعه خلق كثير من المشيعين إلى مرقدة بمقبرة(صفية) داعين المولى له بالمغفرة وطيب الإقامة في جدثه إلى أن يأذن الله بخروج جميع الخلائق ليوم الحساب. وقد خيم الحزن على بيته وعلى أسرته وعارفيه، ولقد نشأ وترعرع في مدينة حريملاء، وعند بلوغه سن السابعة ألحقه والده بإحدى الكتاب لتحفيظ القرآن الكريم، وبعد أن أكمل تلاوته وحفظ بعض قصار السور لم تمكنه الظروف المعيشية في مواصلة تعلمه، فأخذ يفكر في طلب الرزق له ولوالديه فلم ير بداً من الرحيل إلى مدينة الرياض رغم صغر سنه - آنذاك -فأخذ يزاول الأعمال الحرفية والبناء بالطين بأجور زهيدة يومية، فيوم يجد له شغلاً، ويوم لا يجد شيئا، ومع ذلك صبر وأطال الاغتراب عن أهله، وكأنه استحضر قول الإمام الشافعي رحمه الله، حيث يقول حاثاً على طلب الرزق في أي مكان يطيب له:

مــــــا في المقــام لذي عقل وذي أدب  **  من راحة فدع الأوطان واغترب

سافر تجد عوضا عمن تفارقه ** وانصب فإن لذيذ العيش في النصب

ويقول:

سأضرب في طول البلاد وعرضها ** أنال مرادي أو أموت غريبا

وبعد عقود من الزمن سعدت بصحبته فترة من الوقت في العمل بالمتوسطة والثانوية بحريملاء أيام كنت مديرا لهما.. وكان مخلصاً في أداء عمله الذي وكل إليه باستمرار، فهو محبوب لدى أسرة المدرسة وطلابها لما يتحلى به من صفات محمودة وبابتسامة رضى  لا تفارق محياه، بعد ذلك طلب التقاعد مبكراً، ثم فتح محلاً للبيع والشراء فأخذ يجلب البضائع التي يحتاج إليها أفراد المجتمع، وكان سمحاً في تعامله وأسعار بضاعته ميسرة ...، كما أنه يعطي مهلاً لذوي الدخل المحدود في تسديد القيمة غير ملح بالطلب رأفة بهم، فأخذ يسافر لتعزيز محلاته بالمواد والأصناف التي يكثر الطلب عليها رغم ما قد يحصل له من متاعب وأخطار كل ذلك من أجل زيادة الإثراء المادي ورضى عملائه، ولله در الشاعر عروة بن الورد الذي يحث على التزود بالمال ليغتني عن غيره:

خاطر بنفسك كي تصيب غنيمة **  إن القعود مع العيال قبيحُ

المــــال فيه مهــــابة وتجلــة  **   والفقـــر فيه مذلــــة وفضــــوحُ

فأبو علي رجل مكافح يستعذب المتاعب في تحقيق وجلب ما يغنيه عن سائر البشر، وقد منحه الله مالاً وفيرا، وتطورت أعماله التجارية حتى أوجد أسواقا مركزية شاملة لاحتياجات المواطنين والمقيمين معاً عرفت بـ  (مركز الهديان) ويعتبر من أبرز المراكز التجارية، كما أنه يوجد بمحافظة حريملاء أسواق أخرى مماثلة لذلك... ، ونحمد الله أن البلاد أصبحت تضاهي وتضارع بعض المدن... ، ولنا مع (أبو علي) ذكريات ومواقف طريفة وجميلة تذكرنا به بعد أن رحل وتوارى عن الوجود، ولئن غاب عنا بشخصه فإن ذكره العطر وسمعته الطيبة باقية في وجداننا وفي خواطرنا مدى الأيام، والعزاء في ذلك أن خلف ذرية صالحة تدعوا له وتجدد ذكره بالبذل في الأعمال الخيرية ورعاية المحتاجين ممثلة في نجله الأكبر الشيخ الأستاذ علي، والأستاذ اللطيف عبدالعزيز، وجميع أفراد أسرته بنين وبنات غفر الله له وأسكنه فسيح جناته، وألهم ذويه وأبناءه وبناته وزوجته (أم علي) ، وجميع محبيه الصبر والسلوان.

(إنا لله وإنا إليه راجعون).

 

 

 

 

 

 

 

 

 


رحم الله الشيخ سليمان الجناحي (<!--)

 

تبلى الحناجر تحت الأرض في جدث  ***   وصوتها يتلو الآيات والسورا

 بعض الأخبار وبعض رنات الهواتف تسمع وتحمل ما يحزن ويكدر الخواطر، ولا سيما في الآونة الأخيرة من هذا العصر الذي كثر تتابع الراحلين فيه من الأحبة والعلماء ورفاق العمر، ولا يكاد يمر أسبوعٌ أو شهرٌ إلا ونودع فيه غائبا قريباً من قلوبنا:

فلم أر مثلهُمُ هلكوا جميعا ***  ولم أر مثل هذا العام عاما !

فبينما كنت عائدا من رحلة قصيرة في زيارة أحد الأصحاب بعد صلاة عصر يوم الأحد 17/1/1431هـ بصحبة أحد أنجالي منسجمين في تبادل أطراف الحديث فإذا برنين هاتف أحد أبناء صديقنا وحبيبنا الراحل فضيلة الشيخ عبدالعزيز بن علي المساعد يحمل نبأ وفاة الأديب الشيخ سليمان بن محمد الجناحي الذي يعتبر من أقدم الحفاظ بمدينة عنيزة لكلام الله مجودا، وأطول أمدا في إمامة المصلين في أكثر من مسجد داخل محافظة عنيزة بل وفي بلدة الشرائع إحدى ضواحي مكة المكرمة حيث قضى زهرة عمرة في عمل إداري ، وإماما في أحد المساجد بها أكثر من ثلاثين عاما:

ثلاثون عاما بل ثلاثون درة   ***    بجيد الليالي ساطعات زواهيا

ولقد تأثرت وحزنت على رحيله لما تربطني به من معرفة وصداقة ود، ومع صديق الجميع فضيلة الشيخ الحبيب عبدالعزيز بن علي المساعد الذي سبقه إلى مراقد ومضاجع الراحلين منذ سنوات -رحمهما الله رحمة واسعة -ولقد كانت بيني وبينهما زيارات متبادلة، ومع بعض الأحبة مثل الشيخ عبدالله الجلالي والأستاذ الكريم محمد الحمد السليم (أبو سليم) والأستاذ عبدالله الحمادي وشقيقه الدكتور إبراهيم، والأستاذ المربي عبدالرحمن بن صالح العليان "أبو عبدالله" مدير التعليم بمحافظة عنيزة سابقا حيث بلغت خدماته أكثر من أربعين عاما، بل إن علاقتي الودية والدراسية مع أهالي القصيم بصفة عامة، ومحافظة عنيزة والرس خاصة لاحتضانهما الكثير من زملاء الدراسة والعمل معا، وفي طليعتهم فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين -رحمه الله -الذي سعدت بالدراسة معه بالمعهد العلمي فترة من الزمن عام 1373/1374هـ كما أن معظم زملائي في المرحلتين الثانوية بالمعهد العلمي، وبدار التوحيد عامي 1371/1372هـ، وبكلية اللغة العربية بالرياض من تلك المحافظتين..،

ويُعتبر الشيخ سليمان الجناحي من خيرة الحفاظ والمقرئين، ولقد كانت إذاعة جدة في السبعينيات تذيع القرآن الكريم بصوته الجميل، فكم ذرفت العيون عند سماع صوته الشجي وخاصة عندما يخشع عند تلاوة آيات الوعيد. وبعد عودته من الحجاز عينه مدير التعليم بعنيزة الأستاذ عبدالرحمن بن صالح العليان أمينا للمكتبة الثقافية التابعة لوزارة المعارف وظل بها مدة طويلة كما عمل بالمكتبة العسكرية بعنيزة مدة من الزمن، فاستفاد في تلك الحقبة بتسريح النظر في بطون الكتب مما أثرى حصيلته العلمية والأدبية فأصبح راوية في في مجال الشعر والأدب الجم الرفيع، كما كان الشيخ محمد بن عثيمين (رحمه الله) يُنيبه في أثناء غيابه للإمامة والخطابة بمسجده، فهو رجل ثبت الجنان قوي الملكة والترسل في الحديث وعلو المنابر.. كما أنه محبوب لدى عارفيه لما يتصف به من دماثة خلق واستقامة ولين عريكة في حديثه ومداعباته اللطيفة حيث يُطعمها ببعض الحكم والطرائف، وهو يميل إلى التبسط في الأمور والتفاني في خدمة المساكين وطلبة العلم.

كما لا ننسى مُلازمته وعنايته بالأستاذ عبدالله الفالح -الزاهد -الملازم لبيته لا يخرج منه إلا لأداء الصلوات، والذي يعتبر من الأذكياء ذكاء مفرطا، وهو من أوائل الدارسين بدار التوحيد بالطائف ثم تخرج من كلية الشريعة بمكة المكرمة بتفوق فهو مشهور وغني عن التعريف -شفاه الله -فحياة الشيخ الفالح كلها ما بين مكة المكرمة للتعبد بالمسجد الحرام، وبين مدينة عنيزة مهوى رأسه، والزائر لمدينة عنيزة ويرغب في السلام عليه لا بد أن يستعين بصديقه الخاص الشيخ سليمان الجناحي، فهو الوحيد الذي يستطيع إقناعه بالخروج من عزلته أو الدخول عليه في منزله المتواضع جدا.. وكان الله في عون الشيخ الفالح بعد أن رحل عنه صديقه سليمان عليه رحمة الله.

وقد أديت الصلاة عليه بعد صلاة عصر يوم الاثنين 18/1/1431هـ في جامع الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين بمحافظة عنيزة الذي غص بجموع غفيرة من المصلين رجالا ونساء حضر بعضهم من مدينة الرياض وكثير من محافظات القصيم ثم تبعه خلق كثير إلى مضاجع الراحلين، كما صلى عليه في المقبرة أضعاف من صلى عليه في المسجد داعين له بالمغفرة والرحمة وحسن الوفادة من المولى سبحانه، وطيب الإقامة إلى أن ينهض جميع الخلائق ليوم الحساب، تغمده الله بواسع رحمته وألهم ذويه وذريته وأبناءه وبناته وزوجته وجميع محبيه الصبر والسلوان.. (إنا لله وإنا إليه راجعون).


شيخ العطاء والإحسان مضى لسبيله (<!--)

(الشيخ صالح بن مطلق الحناكي رحمه الله)

 

أرى الناس طرا حامدين (لصالح) ** وما كلهم أفضت إليه صنائعه

سعيد من يتفق الناس أو جلهم على محبته واحترامه ولا يتسنى ذلك إلا عن علم ومعرفة بأحواله وأفعاله وأفضاله بل وحتى بالسماع وتناقل الرواة عن أخباره وإحسانه ، وعن تدفق وفيض كفيه بالأموال الوفيرة التي يسهل انسيابها صوب المشاريع الخيرية من بناء مساجد ودور للأيتام والمساكين، وتشجيع لدور العلم وحفظة القرآن الكريم وغير ذلك من الأشياء التي يعود نفعها على الوطن وأهله، فقد وهب الله الكثير من عباده الصالحين عقولا نيرة يميزون بها الأشياء المحيطة بهم وما يدور في مجتمعهم من أشياء نافعة محبب للنفوس تحقيقها من مشاريع خيرية يتلذذ بفعلها رجاء المثوبة من رب العباد عندما يلقاه. إن مثل هذه الصفات مجتمعة وملازمة لشيخ العطاء والإحسان الذي حبه استولى على عواطف الكثير من أهالي القصيم بصفة عامة، وأبناء مدينة الرس – مهوى رأسه – خاصة، إنه الشيخ الفاضل: صالح بن مطلق الحناكي "أبو مطلق" تغمده الله بواسع رحمته، الذي هالني غزارة هطول أقلام الكثيرين رجالا ونساء، وتدفقها على عدد كبير من أوراق الصحف المحلية متأسفين على رحيله وغيابه الأبدي عن نواظر محبيه، وعن من كان يرعى شؤونهم من أيتام وأرامل، ومن دعم سخي للجمعيات الخيرية التي تعنى بأحوال المساكين وباحتضان تلك البراعم حفظة كتاب الله الكريم ليضيء صدورهم ويحصنهم من الاقتراب من قرناء السوء الذين حذر الشاعر من الركون إليهم بقوله:

ولا تركن إلى أهل الدنايا  **  فإن خلائق السفهاء تعدي

فأبو مطلق غيمة ضافية من العطاء الباذخ المحمود تهمي على الآكام والسهول والشاهد على ذلك هو الكم الهائل من الثناء والإطراء العاطر الذي سطر وأفرغ على أديم تلك الصحف، وبالذكر الحسن في المجالس والمنتديات، فهو رجل خير وبركة قد مَنّ الله عليه بوافر من المال وسعة في الرزق فقد طبع على السخاء والكرم والتلذذ بالإنفاق لمستحقيه، لا يفوته يوم فيه شرف ورفعة بل يقل مثله في مثل هذا المضمار الإنساني، ويعلم جيدا أن المال عارية ينتقل من كف إلى أكف بعدما يرحل عنه صاحبه الأول ويصبح مقتسما بين الوراث فالإنفاق منه في الحياة أجدى وأنفع قبل أن تتزاحم الأقدام والأيدي على حمله والتعجيل به إلى مواراته تحت أديم الأرض بعيدا عن أهله ومدخراته وهذه سنة المولى في خلقه بتعاقب الأجيال جيلا بعد جيل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فالموجب للمشاركة بهذه الكلمة الوجيزة هو ما شاهدته من كثافة ما كتب عنه منوهين بأفضاله وراجين له المغفرة وطيب الإقامة في مضجعه إلى أن يأذن الله بخروج جميع الخلائق ليوم الحساب، فرأيت أن أسطر هذه العبارات ضربا من الوفاء لمثل ذاك الكريم ولقد أحسن الشاعر حيث يقول:

يثني عليك من لم توليه جميلا ** لأنك بالثناء به جدير

ويقال إنه يؤم المسجد الحرام ويزور المسجد النبوي بين حين وآخر ويصوم شهر رمضان كل عام بمكة المكرمة مصطحبا معه كمية من جيد تمور القصيم للمساهمة في تفطير صوام الحرم المكي مع ما يبذله من زكاة وصدقات للفقراء هناك، غفر الله له وأسكنه فسيح جناته وألهم أبناءه وذويه ومحبيه الصبر والسلوان إنا لله وإنا إليه راجعون.

 

 

 


الشيخ / عبدالعزيز المساعد والذكر الجميل (<!--)

 

إذا زرت أرضا بعد طول اجتنابها ** فقدت صديقي والبلاد كما هيا

فأكـــرم أخــاك الدهر ما دمتما معاً  *** كفى بالممات فرقة وتنائيا

الإنسان جبل على حب الارتحال والتنقل من مكان إلى آخر داخلياً وخارجياً للسعي في مناكب الأرض لكسب الرزق أو لقضاء حوائجه، وإما لمجرد التنزّه والترويح عن النفس، وطرد الملل ورتابة الجلوس والإقامة في المحيط الاجتماعي والأسري، ولأجل إمتاع العين بما يحلو من مناظر الطبيعة الخلابة الجميلة التي تضفي على النفس البهجة والمسرات. ففي يوم من الأيام استبد بي الحنين إلى زيارة بعض الأحبة والزملاء بمنطقة القصيم الآهلة بالكثير من الأصدقاء والمعارف، فوقع الاختيار في تلك الزيارة على الاتجاه صوب مدينة عنيزة، وذلك لتكرار توجيه الدعوة لحضور المناسبات الجميلة والمهرجانات التي تقام بين فترة وأخرى للترويح والتنشيط السياحي وإيناس الجمهور والحضور، وعند حضورنا هناك بصحبة قائد السيارة الزميل الأستاذ ناصر بن محمد المشعل، كان لزاما علينا أن نمر على أبناء الشيخ الفاضل عبدالعزيز بن علي المساعد -رحمه الله -زميل الدراسة لا زميل فصل كان في السنة الأولى بكلية الشريعة وأنا بالسنة الثالثة بكلية اللغة العربية بالرياض عام 1377هـ فالمبنى يضم كلا الكليتين (آنذاك) ، وكان في استقبالنا أحد أبناء الشيخ عبدالعزيز البررة، وفور دخولنا ذاك المنزل الذي ألفنا الجلوس فيه بجانب صاحبه،((وقد خلت من شخصه داره -تغمده الله بواسع رحمته)) فذرفت عيناي متذكرا تلك السويعات واللحظات الجميلة التي آنسنا فيها بتجاذب الحديث معه، وبإيراد بعض الطرائف الخفيفة على النفس، التي هي من سمات أهالي عنيزة، فأخذت أجيل لحظي في ذلك المجلس وبالذات في مكان جلوسه متصوراً شخصه معنا على سبيل التوهم.. !! حيث طوح بي الخيال، ولقد أجاد القائل بهذين البيتين :

فحسبت نفسي حاضراُ معكم ولا ** تعجب إذا كان الغياب حضورا

إن القلـــــــوب إذا صفـــت مرآتها   **    وإن حجبت ترى بها منظورا

ثم أخذنا نتحدث عن سيرته العطرة مترحمين عليه، ومعددي بعض صفاته الحميدة، وأعماله الخيرة.. ، بدأ من أيام طفولته حتى رحل وتوارى عن الوجود "رحمه الله". ولقد ولد في مدينة عنيزة ونشأ بها بين أحضان والديه، وافتقد بصره مبكراً بسبب آثار الجدري إلا أن ذلك لم يعقه، حيث وهبه الله نفاذ البصيرة، وقوت الحفظ فملامح الذكاء والنجابة تطفح على محياه الوضاء، وعلى حسن منطقه منذ نعومة أظفاره فقرأ القرآن حفظاً مجوداً، ثم شرع في طلب العلم واهتم بحفظ المتون، فحفظ كتاب التوحيد والعقيدة الواسطية، وكتاب كشف الشبهات وآداب المشي إلى الصلاة، ومتن الأجرومية في علم النحو، والرحبية في علم المواريث، فأخذ يتعاهدها بالاستذكار مراراً حتى رسخت في ذهنه، والتصقت بمستودع ذاكرته.. ، ثم أخذ يحضر مجالس الذكر ويقرأ على بعض المشايخ بمدينة عنيزة. وفي عام 1373هـ افتتح معهد عنيزة العلمي فالتحق به وتخرج منه عام 1376هـ، ثم سافر إلى الرياض فالتحق بكلية الشريعة، وتخرج فيها عام 1380هـ، وكان ترتيبه الرابع على دفعته رغم الإعاقة البصرية، وكان في أثناء فراغه ينظم إلى حلقات علماء الرياض "آنذاك"، ولا سيما الشيخين الفاضلين: سماحة المفتي محمد بن إبراهيم وفضيلة الشيخ عبداللطيف، فهو "رحمة الله" معني بحفظ الوقت، وقد وعى تماماً قول ابن هبيرة: والوقت أنفس ما عنيت بحفظه. وقد عين مدرساً بالمعهد العلمي بالرياض مدة سنة، ثم طلب النقل إلى معهد عنيزة العلمي عام 1381هـ، وذلك حرصاً منه ليكون قريباً من والده وظل مدرساً بالمعهد العلمي حتى تقاعد عام 1407هـ بعد ذلك تفرغ لنشر العلم، وكان له درس في مسجد هلالة الذي كان يؤمه حيث يجلس مع طلابه للدراسة والمناقشة، وفي شهر رمضان يجلس الساعات الطوال لسماع تلاوة القرآن الكريم مجوداً من بعض الشباب وطلاب العلم، وقد أفرغت بعض أحاديثه وكلماته في أشرطة يستفاد منها داخل منازل الأسر، بل وحتى المسافرين عبر الطرق الطويلة ليأنسوا سماع ما أودع بها من أحاديث شائقة بأسلوب سهل وسلس يشد السامع ويزيد من انتباهه وتركيزه في أثناء القيادة.. ، كما أن رنين هاتفه لا يتوقف لكثافة طالبي وطالبات الإفتاء والإرشاد، ولطلب التدخل في إصلاح ذات البين ولم شمل بعض الأسر الذي قد يحصل بين الزوجين من خلاف وجفوة قد تفضي إلى الطلاق أحياناً، فيعقب ذلك ضياع وتشرد لأبنائهم فهو "رحمه الله" يعمل جاهداً إلى لم الأسرة وإعادة مياه الحب إلى مجاريها الطبيعية، وغالباً ما يكون تدخله مقبولاً لدى الطرفين..، فحياته كلها حافلة بالعطاء وإسعاد من حوله.

فرب ضرير قاد جيلاً إلى العلا ** وقائده في السير عود من الشجر

ولنا مع (أبو مساعد) ذكريات جميلة طويلة الأمد يتخللها تبادل الزيارات وإن كانت قليلة من جانبه نحونا "غفر الله له" ومما حز في نفسي كلمته المؤثرة حينما هم بالخروج من منزلنا مودعاً قبيل سفره إلى الولايات المتحدة الأمريكية للاستشفاء بإحدى المصحات هناك..، وهو يردد كلمات حزينة يجتر بها من أعماق نفسه: الله يجمعنا بكم في دار النعيم رددها مرتين! ، وبداخله ما به من لوعات الفراق، ولا يعلم ما الله صانع فيه:

وكل مصيبات الزمان وجدتها** سوى فرقة الأحباب هينة الخطب !

فوقع تلك الأنات الصادرة من ذاك القلب الطاهر ما زال يرن في أذني وشاء الله أن يكون ذاك اليوم هو آخر لقاء مع ((أبو مساعد رحمه الله)) ثم عاد من رحلته العلاجية إلى مهوى رأسه مدينة عنيزة، ولعله قد أحس بدنو أجله، فلم ير بداً من الذهاب إلى مكة المكرمة، ليصلي بالمسجد الحرام، ويتضرع إلى المولى بالدعاء وحسن الختام، وما لبث أن لاقى وجه ربه يوم الخميس 14 / 8 / 1411هـ، ودفن في مقبرة العدل، وكان من أمنياته أن يموت في مكة المكرمة فحقق الله جل ذكره أمنيته، وقد كان لرحيله بالغ الحزن والأسى في نفوس أسرته وتلامذته وجميع محبيه وعارفيه، وقد رثاه جموع غفيره من العلماء والأدباء بغر القصائد والكلمات المعبرة عن بالغ حزنهم لرحيله عنهم وبعده بعداً أبدياً -غفر الله لك أبا مساعد وجمعنا بك في مستقر رحمته، ولقد أحسن الشاعر حيث يقول:

لعمرك ما وارى التراب فعاله ** ولكنما وارى ثياباً وأعظما

 

الخطاط العبدان إلى رحمة الله (<!--)

 

تبلى الأنامل تحت الأرض في جدث   **   وخطها في كتاب يؤنس البصرا

اعتدت مهاتفة بعض زملائي وأصدقائي بمنطقة القصيم، وغالبا ما يكون ذلك يوم الجمعة لتجديد التواصل والاطمئنان على صحتهم، والسؤال عن أحوالهم، وأدعو من تسنح له الظروف بزيارتي في محافظة حريملاء في أثناء قدومهم إلى الرياض، ومحاذاتهم أجواء حريملاء مذكرا لهم أن التواصل بين الأحبة محمدة لتقوية أواصر المحبة واستمرارها، فالأعمار ليس فيها متسع للتسويف والتباعد، فانتهاز فرص التزاور من أحلى ساعات العمر و أسناها:

وما بقيت من اللذات إلا  **   محادثة الرجال ذوي العقول

وحينما اتصلت على منزل الأخ الصديق احمد بن محمد العبدان بمدينة بريدة بالقصيم كالعادة صباح يوم الجمعة 21/2/1431هـ للسلام عليه والاطمئنان على صحته التي ساءت وتدهورت في الآونة الأخيرة، فردت علي إحدى حفيداته وهي مجهشة بالبكاء قائلة: والدنا الأكبر رحل وتركنا ملبيا داعي الله، وكان لذاك النبأ وقع محزن ومؤلم في نفسي، فلم أملك في تلك اللحظة الموجعة لقلبي سوى تلاوة الآية الكريمة "إنا لله وإنا إليه راجعون"، فلقد ولد ذاك الرجل الفنان فنان الرسم والنقش على البيض بمدينة بريدة عام 1341هـ وعاش طفولته في أكنافها، وبعد ما ختم القرآن الكريم وحسن خطه في إحدى مدارس الكتاب لتحفيظ القرآن العزيز، أخذ يحضر مجالس الذكر لدى العلماء وما يدور فيها من نقاش وتلاوة، وعن أخبار الأقدمين وسيرهم، وقد ساعد ذلك على اتساع آفاق المعرفة لديه وعلى السير في الحياة سيرا مرضيا، فبدأت عليه مخائل الذكاء والحذق والفطنة، فلما رأى بعض أقرانه وأصدقائه يذهبون إلى الرياض بصحبة آبائهم أو بعض أقاربهم ليأخذوا بأسباب المعيشة هناك، فلم ير بدا من التوجه إلى الرياض مع صاحب سيارة أجرة بأجر قدره خمسة ريالات مؤجلة..، لأنه لا يملك شيئا من المال، فألفى على أخيه عبدالله الذي كان يعمل بالمالية، ثم فكر في عمل يعيش به، وكان موهوبا في جمال الخط والإملاء، فاشترى قلما ومحبرة وقرطاسا، ثم جلس  في مكان تجمع الناس وشيوخ البوادي والقبائل وغيرهم ..، على مقربة من مكتب ديوان جلالة الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه -فأخذ يكتب الرسائل و(المعاريض) التي تقدم إلى الملك عبدالعزيز بطلب (شرهه) تستمر سنويا من المال وما يتبعها من المصاريف المتعارف عليها في تلك الحقبة ..، أو خطابات تظلمهم من خصم أو خلاف ذلك..، فكتابة كل معروض بقرش واحد..، فهو مميز الخط كما أسلفنا..، واستمر فترة وجيزة على هذا المنوال، بعد ذلك أخذه أخوه عبدالله إلى وزير المالية آنذاك (الشيخ عبدالله اللنجاوي) لأجل توظيفه بالمالية، فطلب منه أن يقدم معروضاً خطياً مبدياً رغبته في العمل الوظيفي، وهدف الشيخ اللنجاوي أن يطمئن على حسن خطه وإملائه، ثم عين براتب قدره أربعمئة وأربعون قرشاً تساوي أربعين ريالاً، وذلك في عام 1359هـ (رحم الله الجميع) فاستمر في عمله متدرجاً في سلم الرواتب حتى أنهى الخدمة النظامية مع  مدة التعاقد معه حيث طلب إعفاءه بعد رحلة طويلة مشرفة في الخدمة بلغت واحدا وخمسين عاماً، كما كان يستغل فراغه في مزاولة هوايته المحببة إليه: الرسم والنقش على البيض متوسط الحجم بالخط الجميل المميز، وقد بلغ عددها أكثر من مئة وخمسة وعشرين بيضة جمع صورها ملونة أخوه الراحل عبدالعزيز بن محمد العبدان في كتاب أسماه:

 فنان ) ينقش البيض) ، وقد طبع عام 1407هـ ثم أعيدت طباعته مرة ثانية عام 1416هـ بطباعة جيدة وتعتبر من أثمن التحف حيث يخط عليها بعض العبارات التي يكون لها علاقة ببعض الأحداث والمناسبات والذكر الجميلة فيهديها لعلية القوم من ملوك ووزراء وأصدقاء حسب كل مناسبة كلها بخط ورسوم تؤنس البصر فيردون عليه برسائل تحمل في ثناياها الشكر والإعجاب بموهبته الفريدة التي يندر مثلها ! ، وكأني به "رحمه الله" حين يفرغ من كل واحدة يتذكر ويردد في خاطرة الأبيات الثلاثة التي رثى بها نفسه الشاعر الأبيوردي حينما انتهى من كتابة ديوانه المكون من جزأين سنة 730هـ : حيث يقول

تبلى الأنامل تحت الأرض في جدث ** وخطها في كتاب يؤنس البصرا

كـــم مــن كتاب كريم كان كاتبه ** قد ألبس الترب والآجر و الحجرا

يا مـــن إذا نظـــرت عينـــاه كتبتنا ** كن بالدعاء لنا والخير مدكرا

وكان محل ثقة المسئولين بوزارة المالية حيث يكلفونه بالانتداب أشهراً طويلة لتسليم (الشرهات) العوائد السنوية التي سنها جلالة الملك عبدالعزيز ــ طيب الله ثراه ــ لكثير من المواطنين حاضرة وبادية تكرما منه لأبناء شعبه؛ فسمعت الشيخ أحمد عندهم معطرة بالثناء حيث إنه يتمتع بالأمانة والدقة في التعامل والحرص على تسليم المستحقات لأصحابها في وقتها، بل إنه إذا علم بمرض بعض الأشخاص أو لكبر سنهم فإنه يذهب إليهم بنفسه. ولقد شرفني في منزلي بحريملاء هو وبعض الشباب والزميل الوفي الأستاذ عبدالرحمن وأخوه الشيخ عبدالعزيز أبناء الشيخ عبدالله العبدان، وهو مصطحب معه هدية تعتبر من أثمن الهدايا وأحبها إلي، وهي عبارة عن بيضة كبيرة قد خطت عليها أنامله سورة (ن) كاملة بتاريخ 2/ 12 / 1405هـ حيث كساها بتلك الآيات الكريمة، كما وبرفقها لوحة صغيرة بارزة تتوسطها بيضة ملونة ومتوجة بسورة الكعبة المشرفة ومكتوب عليها بعض الآيات (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) لأجل تحلية طاولة مكتبنا آنذاك في أثناء عملنا مديراً للمتوسطة والثانوية بحريملاء، فجزاه الله عنا خيراً، وبعد أن تقاعد وأخلد إلى الراحة استبد به الحنين إلى مراتع طفولته ببريدة فقضى بقية أيام حياته هناك مع من بقي من رفاقه ليأنس بهم(رحمه الله):

المرء يسرح في الآفاق (مغتربا) **  ونفسه أبدا تتوق إلى الوطن

 فالذكريات الجميلة معه ومع أسرة آل عبدان يطول مداها وما يتخللها من تبادل الزيارات، وكانت كل كتاباته تحث على الوفاء ومكارم الأخلاق، والثناء على من يقدم خدمات لوطنه وعلى المحسنين في رعاية الأيتام والمساكين مستحضراً هذين البيتين:

ومــا من كاتب إلا سيبلى ** ويبقى الدهر ما كتبت يداه

فلا تكتب بكفك غير شيء ** يسرك في القيامة أن تراه

غفر الله له وأسكنه فسيح جناته، وألهم ذويه وأبناءه وبناته وعقيلتيه، ومحبيه الصبر والسلوان (إنا لله وإنا إليه راجعون).

 


القاضي / عبدالرحمن بن سعد -  مواقف لا تنسى (<!--)

 

لا يأمن العجز والتقصير مادحه ** ولا يخاف على الإطناب تكذيبا

كم هو جميل أن يذكر الإنسان بعد رحيله عن الدنيا، بعدّ شطر من مواقفه ومآثره الحسان، وتكرار ذكره، وذكر المماثلين له في المجالس الخاصة والعامة إذا جاء المجال في ذكر الكرماء والعلماء، ومن لهم دور مشرف في العطاء والإحسان، ومن كان له تأثير في تبصير الناس بأمور دينهم وحل مشاكلهم وفض المنازعات إن وجد شيء منها، سواء بالنصح والإرشاد، أو بالحكم الشرعي إذا كان الأمر يتعلق بالقضاء والمحاكم الشرعية التي يتجلى فيها العدل والإنصاف بين المتخاصمين مثلاً: وإصلاح ذات البين، بل وكل ما من شأنه إدخال السرور والألفة والتحاب في الله -جلت قدرته -لأن التنوير والتذكير بمآثر أولئك الذين لهم دور مشرق في الحياة يكون بمثابة إيقاظ مشاعر ذوي الهمم العالية ليحذوا حذو من سبقهم، وليواكبوهم في سائر المجالات الخيرية سواء في الميادين التجارية والبذل بسخاء في أوجه البر ورعاية الضعفة والمحتاجين لمد يد العون لهم، أو في الارتشاف من رحيق العلوم على أيدي المشايخ، والتشجيع على النشر ليستفاد منه وهكذا طريق الفضلاء ليبقى ذكرهم خالداً وساكناً في صدور الأجيال جيلا بعد جيل..، ومن أولئك الرجال علم بارز من فضلاء العلماء والقضاة الذين تعاقبوا القضاء في حريملاء بدأ من الشيخ عبدالوهاب بن سليمان في عام 1139هـ في تلك العقود الفارطة إنه الشيخ: الفاضل عبدالرحمن بن سعد بن عبدالعزيز ابن حسن الفضلي الذي سبق أن سعدت حريملاء بوجوده قاضياً لمدة عشرين عاماً منذ 1361هـ  ـــ 1381هـ بجانب جلوسه بجامع حريملاء لعدد كبير من الطلبة تلقوا العلم على يديه في مادة التوحيد والحديث والفقه، وعلم العربية، وفي علم الفرائض حفظاً وشرحاً. ولقد ولد الشيخ في عام 1325هـ في بلدة ملهم إحدى بلدان الشعيب "محافظة حريملاء حالياً" ونشأ بها وأخذ مبادئ القراءة والكتابة في الكتاب لحفظ القرآن الكريم مجوداً وكانت ملامح الذكاء والفطنة تلوح على محياه، والحيوية تتموج في أعطافه، وقد عاش وترعرع في بيئة علم وكرم، فأبوه وجده كلاهما عالمان كبيران، مما كان له أكبر الأثر في نفسه وتطلعه في طلب العلم والنهل من حياضه العذبة، ثم شرع في طلبه فقرأ على علماء الشعيب، وكان من أشهر مشايخه: أبوه الشيخ سعد بن عبدالعزيز بن حسن، والشيخ فيصل بن عبدالعزيز المبارك، والشيخ إبراهيم ابن سليمان الراشد قاضي حريملاء "آنذاك" ثم رحل إلى المجمعة فقرأ على قاضيها الشيخ عبدالله بن عبدالعزيز العنقري، فطمع في التزود والتروي من رضاب العلوم فشخص إلى الرياض، وقرأ على أعيان العلماء فيها، ومن أشهرهم سماحة الشيخ محمد ابن إبراهيم وأخوه الشيخ عبداللطيف بن إبراهيم، ولازمهما زمناً حتى نهل من معين العلوم وأصبح في مصاف العلماء الأجلاء.

بقدر الكد تكتسب المعالي ** ومن طلب العلا سهر الليالي

ثم عينه الملك عبدالعزيز-طيب الله ثراه -قاضيا بمدينة الزلفي بترشيح من الشيخ محمد بن إبراهيم مفتي الديار السعودية -آنذاك، وفي عام 1361 هــ نقله إلى قضاء الشعيب والمحمل، ومقر قضائه في حريملاء، ومكث في قضائها عشرين عاما، و كان موفقا في أقضيته، و كثيراً  ما يميل إلى الصلح بين الخصمين، وإذا اختلفا فيما يدعيان فيه مثل قسمة مجاري سيول نخيلهم ومزارعهم، أو في تحديد الأملاك المشتركة، وما أشبه ذلك، فإنه يذهب إلى تلك المواقع ليقف عليها بنفسه سرا أو جهرا، ثم يحكم بما يراه الأصوب ويكون ذاك الحكم حاسما ومرضيا لدى الطرفين في كثير  من القضايا لسلامة صدورهم، واقتناعهم بحكمه -رحم الله الجميع - وكان يوم الجمعة يخطب ارتجالا بصوت مؤثر، ولا زال ذاك الصوت الشجي يرن في أذني وهو يقول:  (الدنيا عرضٌ حاضرٌ يأكل منها البر و الفاجر إلخ...،  والصغير لا ينسى، فهو خطيب ثبت الجنان -رحمه الله -وكان ذا صلة وطيدة مع والدي العالم الزاهد الشيخ عبدالرحمن بن محمد الخريف الذي يعتبر من علماء عصره، فيقضيان تلك السويعات المتكررة الجميلة المفيدة بين آونة وأخرى في نقاش وتطرق لبعض مسائل الخلاف بين العلماء فيحاولان التوفيق والجمع بين أطرافها واختيار الأصوب و الأرجح بين الروايات، كما أنه يستشير والدنا في بعض القضايا التي يكون فيها إشكال عليه، فالوالد-رحمه الله -يتعامل معه كنظير له ويقول بتواضع لعل الأصوب كذا...،  فيفهم القاضي هذه الإيماءات فيعمل بها، وهذا شأن القضاة الورعين في التثبت قبل إصدار الأحكام، وفي عام 1381 هــ  نقل إلى القضاء في المحكمة الكبرى في الرياض، وكان يصلي إمامأً في مسجد ((الوسيطى)) الواقع شرقي محلة دخنة في الرياض، وله فيه حلقات لتدريس بعض طلاب العلم، ويصلي يوم الجمعة إماماً وخطيباً في مسجد الشيخ محمد بن إبراهيم في أثناء غيابه، وقد توفي في 15/12/1391هــ فعم حزنه أسرته وتلامذته ومحبيه، وكان -يرحمه الله-سمح المحيا طيب العشرة، حلو المفاكهة جم التواضع كريماً، وعطوفاً على المساكين، ومنزله لا يخلو من أمثالهم يقدم لهم القهوة وما تيسر من طعام ويأكل معهم، ويداعبهم لتذهب عنهم وحشة الهيبة ليأنسوا في مكانه، فهو رجلٌ مهيب في مجلس القضاء  لا تسمع الكلمة العوراء فيه، ليّن العريكة مع ضيوفه وجلسائه.

ومن الذكريات الجميلة تشريف الملك سعود بن عبدالعزيز -رحمه الله -في منزله المتواضع في أثناء زيارته لأهالي حريملاء عام 1374 هــ  وتجاذب أطراف الأحاديث الودية  بينهما، وهذا هو شأن ملوكنا الكرام بتقدير العلماء وزياراتهم في منازلهم:

وأحسن أخلاق الفتى وأجلها **  تواضعه للناس وهو رفيع

ومن المواقف التي لا تخلوا من طرافة أثناء بداية قيادة سيارته أن صادف أن تقابل مع سائق آخر داخل بلده بملهم في طريق ضيق لا يسع سوى سيارة واحدة، فأخذ السائق المقابل يوسع الشيخ صراخاً وشتماً، فما كان من الشيخ عبدالرحمن المعروف بالحلم وسعة البال إلا أن قال يا هذا أقصر من شتمك أنا سائق قدام لا سائق خلف، فلما علم أنه القاضي خجل ثم رجع بسيارته إلى الخلف، متندماً ومعتذراً على ما تفّوه به نحوه...، وهذا يدل على حلم الشيخ وتواضعه، وهذه طرفة أخرى تدل على فطنة الشيخ ودرايته باختلاس بعض الجزارين من أطراف أعضاء وأجزاء الذبيحة بدون أن يفطن الكثير من الزبائن لاختلاسهم لتلك (النتف من اللحم...!)  فذات يوم نزل ضيف على الشيخ عبدالرحمن -أبو عبدالعزيز -فأمر جزاراً أن يذبح خروفًا لغداء الضيف، فقال له أعطنا من لحم ((الجلد... !))  نُودّم به فطورنا، وفي نفس الوقت يشعر الجزار بطريقة لبقة انه لا يخفى عليه اختلاس بعض الجزارين ووضع ما يسرق في ثنايا الجلد، ثم يذهب به إلى منزله..، فالشيخ يرحمه الله على جانب من الفطنة والدراية بأحوال الناس دقيقها وجليلها:

ليس الغبي بسيد في قومه ** لكن سيد قومه المتغابي

وكان (رحمه الله) حريصاً على توطيد علاقته بالمعلمين والطلاب، فقد كان يدعو المعلمين بين فترة وأخرى لتناول الطعام في منزله، كما كان يحضر نادينا نادي معهد المعلمين بحريملاء باستمرار الذي يقام في ليالي الجمع في الفترة من عام 1379هـ -1381هـ، ويقوم بتشجيع وتوجيه الطلبة مبيناً لهم أهمية المسرح المدرسي، وإلقاء الخطب على منصته أمام الحضور والآباء، ففي ذلك تعويد على الخطابة والارتجال، وإبعاد شبح الهيبة وبناء الشخصية، مذكرا أنهم رجال المستقبل وعدة الوطن، وحاثاً على تقديم الجوائز الرمزية للمتفوقين، لعلمه أنها تقوي معنوية الطالب وتثير الحماس بين الطلاب مما جعلهم يتدافعون ويتنافسون على ذاك المنبر المدرسي الذي خرج أفواجا من الأدباء والخطباء في المساجد والمحافل.

يتزين النادي بحسن حديثهم  ** كتزين الهالاة بالأقمار

فسيرة الشيخ عبدالرحمن بن سعد معطرة بالثناء، وبالذكر الحسن فمحبته ساكنة في صدور أهالي حريملاء وجميع محبيه، وسيظل ذكره غضًا طرياً إلى الأبد، تغمده الله بواسع رحمته وأسكنه عالي الجنان إنه سميع مجيب.

<!--[if !supportFootnotes]-->

<!--[endif]-->

(<!--) نشرت في صحيفة الجزيرة، يوم الإثنين 27 ذوالحجة 1430هـ الموافق 14 ديسمبر2009م.

(<!--) نشرت في صحيفة الجزيرة، يوم الخميس 21 محرم 1431هـ الموافق 7 يناير2010م.

(<!--) نشرت في صحيفة الجزيرة، يوم الأحد 30 صفر 1431هـ الموافق 14 فبراير 2010م.

(<!--) نشرت في صحيفة الجزيرة، يوم الأحد 14 ربيع الأول 1431هـ الموافق 28 فبراير 2010م.

(<!--) نشرت في صحيفة الجزيرة، يوم الأحد 28 ربيع الأول 1431هـ الموافق 14 مارس 2010م.

(<!--) نشرت في صحيفة الجزيرة، يوم الأثنين 29 ربيع الأول 1431هـ الموافق 15 مارس 2010م.

mager22

فقد ورثاء ( عبد العزيز بن عبد الرحمن الخريف )

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 178 مشاهدة
نشرت فى 30 سبتمبر 2013 بواسطة mager22

معالي الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن حسن آل الشيخ

في ذاكرة الزمن(<!--)

 

وإذا كانت النفوس كباراً ** تعبت في مرادها الأجسام

كل إنسان له دور مُشَرِّف في الحياة يبقى ذكره طرياً خالداً تلذُّ له الأسماع على تتابع الأجيال جيلاً بعد جيل مدعماً بالدعاء له وبالذكر الحسن، وهذا من نعم المولى على من يتصف بالصفات الحميدة وبالأعمال الجليلة من عباده المخلصين الذين شرفوا مناصبهم بإخلاصهم في طاعة الله والتفاني في خدمة أوطانهم ورعاية شبابهم بتوجيههم التوجيه السليم، وحبهم لولاة الأمر الذين لم يألوا جهداً  في إسعاد أبناء شعبهم والسهر من أجل راحتهم وأمنهم، والأخذ بأيديهم إلى بر الأمان والفلاح.. ، ومثل هذه الصفات الكريمة تتجلى في شخص كريم وعلم بارز من العلماء الأفاضل من الرعيل الأول ومن رجال التربية والتعليم إنه معالي الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن حسن آل الشيخ الذي ولد في مدينة الرياض عام 1336هـ وشبَّ في كنف والديه، وعاش طفولته في أحضان والدته لانشغال والده بملازمة الملك عبدالعزيز إبان حروب توحيد شبه الجزيرة وتوطين البادية بالهجر والأرياف، وتزويدهم بعدد من طلاب العلم للإمامة بمساجدهم وتبصيرهم بأمور دينهم أثناء خطب الجمع وفي مجالس الذكر، فالملك عبدالعزيز مخلص لأبناء شعبه منذ توليه زمام حكم البلاد – طيب الله ثراه، ورحم جميع أعوانه المخلصين معه.. ، فوالده الشيخ عبدالله  من أبرز الشخصيات التي عُرفت يوم ذاك بالحنكة وبالاهتمام بالدعوة والإرشاد وبمعرفة أحوال الناس وطبائعهم، ولذا تمسك به الملك كمستشار ومزاولاً لبعض الأعمال الهامة.. ولقد التحق الشيخ عبدالعزيز في فترة مبكرة من طفولته بمدرسة: "عبدالرحمن بن مفيريج" إحدى الكتّاب المشهورة بمدينة الرياض- آنذاك -فحفظ القرآن الكريم وتعلم القراءة والكتابة، ثم انتقل مع والده إلى  مكة المكرمة-، حيث عين "الشيخ عبدالله " إماماً وخطيباً للمسجد الحرام بعد دخول الملك عبدالعزيز الحجاز، وذلك في عام 1345هـ وهناك استقر مع أسرته، فلازم الشيخ عبدالعزيز والده ملازمة دائمة، واستفاد كثيراً من علمه وفضله، وإيماءاته الهادفة، وعند افتتاح المعهد العلمي بمكة المكرمة ألحقه والده به، فنال شهادته وأصبح رجلاً مؤهلاً يعتمد عليه، فكان مثالاً للشاب الصالح الذي لاتعرف له صبوة، كما كان عالماً يفتي ويؤم المصلين بالمسجد الحرام، وظل دائماً حريصاً على الاستفادة من علم والده، ومن العلماء الذين يفدون إلى مكة المكرمة بغرض الحج أو المجاورة، ثم استأذن من والده للذهاب إلى الرياض لمواصلة دراسته لدى سماحة الشيخ محمد بن ابراهيم مفتي الديار السعودية، فانظم إلى حلق الدراسة بمسجد الشيخ، واستقبله الملك عبدالعزيز استقبالاً طيباً – طيب الله ثراه – وأكرم وفادته لما بينه وبين والده من صلة فخصص له داراً وسهل له أمر طلب العلم، فحقق بذلك ما يريد ،لكن نفسه الطموحة كانت تحدثه دوماً بنيل المزيد من صافي العلوم فسافر إلى مصر في بعثة دراسية والتحق بالجامعة الأزهرية ليرشف من حلو رضاب علماء الأزهر:

قم في فم الدنيا وحي الأزهرا  **  وانثر على سمع الزمان الجوهرا

وصار من طلاب كلية الشريعة، فنال الشهادة العالمية في الشريعة بتفوق، ثم عاد إلى مكة المكرمة، فعين عضواً في رئاسة القضاة وإماماً للمسجد الحرام، ثم معاوناً لوالده في إدارة شؤون القضاء. وعندما أنشئت أول وزارة للمعارف وكان الملك فهد أول وزير لها فأختار الشيخ ليكون وكيلاً للوزارة إضافة إلى مهامه الأخرى، فظل الساعد الأيمن والعنصر الأشد لوزير المعارف في لمّ شمل التعليم وتنظيمه وتحديثه وإصلاح مناهجه، والدفع بعجلة التعليم قدماً حتى عم أنحاء المملكة، ثم انتقل الملك فهد وزيراً للداخلية وعندما أعيد تشكيل مجلس الوزراء أصبح الشيخ وزيراً للمعارف – فترة وجيزة مع احتفاظه بالإمامة والخطابة في المسجد الحرام، والخطبة في مسجد نمرة في مواسم الحج..، وكان – رحمه الله – أثناء عمله وكيلاً للوزارة يقوم بجولات مفاجأة على كثير من المدارس رغم وعورة الطرق ومشاق السفر إلا أن إخلاصه وحبه للانضباط في سير الدراسة والاطمئنان على نتائج الطلاب ومستواهم الدراسي عن قرب دفعه لذلك.. جزاه المولى خير الجزاء، ولقد أجاد شاعر النيل حافظ إبراهيم حيث يقول:

قضيت حياة ملؤها البر والتقى **  فأنت بأجر المتقين جديرُ

وأذكر جيداً أنه قد زارنا بمعهد المعلمين الحصة السابعة بعد صلاة الظهر هو وصاحبيه معالي الشيخ عبدالله العلي النعيم مدير تعليم الرياض والأستاذ الفاضل الراحل عبدالله بن عبدالعزيز القاسم – رحمه الله – وذلك عام81/1382هـ ، وكنا في تلك اللحظة بالطابق الثاني نعد رواتب المدرسين ونسلمها لهم، فلما رأونا في تلك الحالة صعدوا مسرعين نحو فصول الطلاب، ومن حسن حظنا تواجد المدرسين داخل الفصول، وإلا كانت المساءلة شديدة جداً، فهو يرحمه الله معروف بالجد والحزم وإصدار القرار الفوري التأديبي حسب الحال والظرف..، فأخذ ينصت إلى شرح المدرسين في كل فصل، ثم يطرح بعض الأسئلة على طلاب المعهد ويشكر المجيد منهم حاثاً البقية على مواكبة النابهين منهم، وبعد انتهاء الحصص اتجه نحو الإدارة فأخذ يناقشنا عن ضعف بعض الطلبة في القراءة بحصة المطالعة، فأجبته قائلاً: لهيبتكم ورهبة الموقف فحصل ما أُشير إلية...! وعندما هم بالانصراف وترجل في مقعد السيارة أمسكت بكتفه قائلاً: تفضلوا لتناول طعام الغداء المتواضع فقال - رحمه الله – أحرجتنا، فقلت مؤكداً أنت الذي تحرجنا إن لم تجبنا الآن، فحلف جابراً لخاطري أنه سيعود إلينا لاحقاً...، وبعد أيام زارنا هو وعمه فضيلة الشيخ عمر بن حسن آل الشيخ وفاءً منه بوعده، وتقديراً لوالدنا الشيخ العالم الجليل المعروف لديهم عبدالرحمن بن محمد الخريف..، وهذه من الذكريات الجميلة التي لا تنسى ولا يمحوها من خاطري مرور الزمن وتقادم العهد، كما لا ننسى زيارتنا لوالده فضيلة الشيخ عبدالله بن حسن أنا وزميلي الأخ الفاضل عبدالله بن الشيخ ابراهيم بن سليمان الراشد في منزله الملاصق للمسجد الحرام بمحلة (الداودية) آنذاك في الناحية الغربية منذ عقود من الزمن..، فأهدانا مجموعة من كتب ورسائل الشيخ محمد بن عبدالوهاب – رحم الله الجميع رحمة واسعة - قبل التحاقنا بالمدارس النظامية فكلها ذكريات خالدة مدى عمري، ولقد استقيت بعض النصوص التي لامناص من ذكرها من سيرة معالي الشيخ عبدالعزيز من كتاب (علماء نجد خلال ثمانية قرون) لمؤلفه فضيلة الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن البسام، وقد توفي بالرياض عام 1410 هـ ، وهذه كلمة وجيزة جداً لا تفي بعدّ وسرد المناصب التي تسنمها وأعماله الجليلة المشرفة خشية الإطالة على القارئ الكريم، فهو في طليعة العلماء الأجلاء الذين أناروا بعلومهم النافعة صدور الناشئة ولله در القائل:

جمالَ ذي الأرض كانوا في الحياة وهُم **  بعد الممات جمال الكتب والسيرٍ

تغمد الله الشيخ بواسع رحمته.

 

 

 

 

 


الأستاذ حسن بن عبدالله آل الشيخ حبه باق بين جوانحي (<!--)

 

بلاد بها كنا ونحن من أهلها ** إذا الناس ناس والزمان زمان

نفوس ذوي الإحساس دوما تهفو لمواطن الطفولة ومراتع الصبا، ولأماكن الدراسة وما جرى فيها من ذكريات جميله يعبق أريجها مع صحبه ورفاقه داخل المدرسة وخارجها, وخاصة إذا نأى عنها وبعد زمانها، فإنه قد يستبد به الحنين إلى تذكّر أيامه مع زملائه ومعلميه، فيقتاتُ منها ما يريح خاطره في خلواته بنفسه, وهذا من طبائع البشر في اجترارهم تذكّر ماضيهم المشرق، فاتساع آفاق المعرفة وإرهاف الحس من نعم الله على من اتصف بذلك، فمن زملاء الدراسة بدار التوحيد بالطائف الذي تأثرت واستفدت منه ثقافياً رغم فارق العمر والمستوى الدراسي الشيخ الفاضل حسن بن عبدالله بن حسن بن إبراهيم بن عبدالملك بن حسن بن الشيخ محمد بن عبدالوهاب الذي ولد في حوطة بني تميم عام 1345هـ تقريباً وترعرع في أكنافها بين أحضان والديه، وعند ما بلغ السابعة من عمره ألحقه والده في أحد الكتاب لتحفيظ القرآن الكريم وكان سريع الحفظ، بعد ذلك انضم لحلق العلم التي تجرى في المساجد علي أيدي العلماء الأفاضل هناك حتى نال نصيباً من العلم -رحمه الله -ثم انتقل مع والده الشيخ إلى بيشة الذي عيّنه جلالة الملك عبدالعزيز قاضياً بها عام 1352هـ فاستمر في طلب العلم لدى بعض مشايخ بيشة مما أهله للالتحاق بدار التوحيد بالطائف، حيث التحق بها عام 1367هـ تقريباً فنال الشهادة الثانوية بها عام 1371هـ وفي عام 1375هـ حصل على الشهادة العالية بكلية الشريعة بمكة المكرمة، ولسان حاله يتمنى أن يعمل في مكان مناسب بجانب زميله ورفيق دربه منذ سارا على أرض محيطهما لشدة التآلف بينهما الشيخ عبدالله بن محمد آل الشيخ -رحمهما الله -ولم يدر بخلده أن شعوباً على مقربة منه، حيث فارق الحياة مأسوفاً على رحيله مبكراً، وقد ترك غيابه عن الوجود حزناً عميقاً في نفوس زملائه ومعلميه وبمحيطه الأسري، بل بأصدقائه في بيشة الذين قضى معهم أحلى أيام صباه -تغمده المولى بواسع رحمته -وكأن لسان حال بعض أقرانه ورفاقه ببيشة بلد الخير والنخيل يرددون هذين البيتين بكل تحسر ولوعة:

كأن لم نعش يوما بأجراع بيشةٍ ** بأرض بها أنشا شبيبتنا الدهر

بلــى إن هذا الدهـــر فــرق بيننا ** وأي جميع لا يفرقــــه الدهر !

أجل إنها فجائع الأيام مفرّقة الأحباب، فكان -رحمه الله -طيّب المعشر مع زملائه ومعلميه، جاداً في التحصيل العلمي والأدبي، كثيراً ما يتغنّى بجيد الأشعار ميّالاً للمرح والمساجلات الشعرية، ولا سيما في ليالي السمر والرحلات التي كثيراً ما يستمتع بها طلاب دار التوحيد في جنبات الطائف لتجديد نشاطهم ولتخفيف وحشة غربتهم عن أهليهم وأوطانهم، لأن معظم طلابها يعيشون كمغتربين بالقسم الداخلي وحوله من المساكن، ولقد سعدت بمعرفته وأحببته من أول وهلة حينما قدمت من حريملاء للدراسة في (محضن أم المدارس) دار التوحيد في أوائل عام 1371هـ وهو إذ ذاك بالسنة النهائية الثانوية، ولقد عشنا معشر طلاب الدار في تلك الحقبة الزمنية عيشة هناء وتآلف ومسرات، فجوها جو علم وتحصيل وتنافس في اقتناص العلوم المفيدة، وحفظ جيد الأشعار، فذكريات الدار لا تُنسى أبد الأيام:

ومهما أنسى من شيء تولى **  فاني ذاكر (دار التوحيد)

وكنا نقضي معظم أوقاتنا في المساجد المجاورة لمبنى الدار (بحي قروى) غربي مدينة الطائف، وفي هاتيك الميادين التي تقع على جنبات جبل (أم الآدم) الشامخ المطل على بساتين المثناة الشهيرة بحلو الفواكه ولاسيما الرمان والكروم والسفرجل والمشمش وسدرها دائم الخضرة:

تحـــية مـــن ربى نجد إلى بلد ** قضيت فيه من الأيام أحلاها

وما نسيت فلن أنسى مرابعها ** وسدرة كنت في المثناة أرقاها

ولم يخلف ذرية سوى ابنه البار الدكتور عبدالرحمن الذي كان يشغل منصب مساعد مدير عام الخطوط السعودية للإقليم الجنوبي بمحافظة الطائف سابقاً، وحالياً مستشار مجموعة الطيار للسفر والسياحة وعضو المجلس المحلي للطائف، ومدير عام الاستثمار والتطوير العقاري بشركة بنيان المدائن، وكان (أبو حسن) محبوباً لدى الجميع، متصفاً بالكرم وسماحة الخلق، وكان مكانه الرحب في وادي ذي غزال بشفاء بني سفيان المتاخم لحي الشفا ملتقى لأحبته ومنتدى يؤمه العلماء والأدباء ويحلو السمر فوق تلك القمم العالية وخاصة في أيام صيف الطائف الجميل:

حبيب إلى الزوار غشيان بيته ** جميل المحيا، شب وهو كريم

  فهذه الكلمة الوجيزة تذكار لأيامنا الجميلة مع والده بدار التوحيد -تغمده الله بواسع رحمته-وبارك الله في خلفه وفي عقيلته أم عبدالرحمن.

 


إلى جنة الخلد أبا محمد (<!--)

(الأخ عبدالله بن بدر البدر رحمه الله)

 

كل ابن أنثى وإن طالت سلامته *** يوماً على آلة حدباء محمول

الإنسان في هذا الوجود مهما مُدّ في أيام عمره، وسار وجال على متن هذه الأرض إلا أن نهايته أن يضجَعَ كارهاً في مراقد الراحلين مقيماً إلى يوم النشور يوم يبعث الله الخلائق، وتنصب الموازين القسط فيجازى كلٌّ بما كسب، وقال الله سبحانه وتعالى واصفاً ذلك الموقف العصيب {يَومَ تَبيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسوَدُّ وُجُوهٌ} الآية.. فالسعيد من يرحل بزاد من التقى تاركاً خلفه ذكراً حسناً، وذرية صالحة تدعو له، وتبذل من أجله حسنات وأعمال خير يلحقه أجرها في جدثه وفي اليوم الموعود.

ففي ليلة الخميس 17 محرم 1427هـ فجعت أسرة آل بدر في محافظة حريملاء برحيل عميدها الشيخ عبدالله بن بدر البدر بعد عمر مديد قارب عبور المائة عام استنفده واستوفاه في طاعة المولى، وبالعمل الجاد في طلب العيش، والكدح في الفلاحة ليعيش رافع الرأس غير محتاج إلى أحد، ومن إصراره على الكسب الحلال رغم المصاعب والمتاعب التي يعانيها في تحقيق مآربه أنه في مقتبل عمره وفي مواسم زراعة حبوب القمح.. يشد الرحال هو وشقيقه عبدالعزيز -رحمهما الله -مصطحبين مواشيهما ولوازم الزراعة إلى بلدة العُيينة التي تبعد عن حريملاء ما يقارب 50 كم ليزرعا هناك وذلك قبل وجود -المكائن -ووسائل الري التي تساعد على توصيل الماء إلى الأراضي البيضاء المكشوفة الصالحة لزراعة القمح وأنواع النباتات.. وعند الانتهاء من مواسم محاصيل القمح يعودان إلى حريملاء بما ذهبا به من مواشيهما الخاصة بنزح الماء من الآبار محملة بأدوات وعدة السواني -من بكرات وغروب وأرشية وغير ذلك من متطلبات الفلاحة وسقاية الماء -أما الفائض من المحصول الزراعي فهو ينقل بواسطة الجمال -آنذاك -إلى الرياض للبيع، وإلى بلدهما حريملاء لعدم توفر السيارات في تلك الحقبة الزمنية، كما أنه في وقت جذاذ النخيل لا ينسى حق المساكين فهو يتفقد أحوال ذوي الحاجات من أرامل، وأيتام وضعفاء فيمنحهم ما تيسر من منتوجاته الزراعية على قلتها احتساباً ورجاء المكافأة من رب العالمين، ويتعمد توصيلها لهم ليلاً خشية الرياء، ومن الأشياء الجميلة المحمودة التي يرويها عن الملك عبدالعزيز-طيب الله ثراه -عندما يمر بمزارع العيينة والجبيلة وهو في طريقه إلى الحجاز أو إلى أي جهة أخرى يقول لقائد سيارته خفف السرعة وامش الهوينَ لينفح من يراه على الطريق واقفاً من الزراع وغيرهم بما تهمي به كفاه النديتان من فضة وذهب، وذلك قبل وجود العملة الورقية، مشجعاً لهم على الاستمرار في الزراعة لعلمه أن الأمن الغذائي من مقومات الإنسان وحياة الشعوب، ومعروف لدى المواطنين الذين يمر بديارهم، والبوادي في فلواتهم ومسارح مواشيهم أنه ريف على من يراه -رحمه الله -هكذا رواه لنا الأخ الراحل عبدالله بن بدر.

ولقد اتصف الصديق بأعمال الخير والكرم وصلة الأرحام، وإكرام الضيف، وجمع الأسرة بين حين وآخر في منزله، وفي كل مناسبة عائلية على فترات متقاربة لعلمه أن صنائع المعروف تقي مصارع السوء، وأن الكرماء هم سادات الدنيا..، ولقد وعى تماماً قول الشريف الرضي وهو يهمس في أذن ممدوحه قائلاً:

خذ من تراثك ما استطعت فإنما*** شركاؤك الأيام والوراث

فهو عطوف على الصغار والأطفال يحرص على إدخال السرور عليهم ويفرحهم بما يقدمه لهم من هدايا وأشياء محببة لديهم.. ولأجل أن لا ينسوه من صالح دعائهم إذا كبروا وغاب عنهم موسداً تحت الثرى.. وكأني به يقول:يا من إذا ذكرتنا (كن بالدعاء لنا والخير مدّكراً).

وفي آخر حياته تفرغ للعبادة ولازم المسجد في كثير من الأوقات يتلو كلام الله حفظاً وقراءة إلى أن أطل عليه شعوب معلناً أن رصيده في الحياة قد انتهى، ففرت روحه إلى بارئها، غفر الله له وأسكنه فسيح جناته وألهمنا وذريته وذويه ومحبيه الصبر والسلوان.. {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيهِ رَاجِعونَ}.

<!--[if !supportFootnotes]-->

<!--[endif]-->

(<!--) أرسلت للنشر في صحيفة الجزيرة، يوم السبت 8 جمادى الأولى 1433هـ الموافق 31 مارس2012م.

(<!--) نشرت في صحيفة الجزيرة، يوم الأثنين 25 صفر 1434هـ الموافق 7 يناير 2013م.

<!--  نشرت بتصرف في صحيفة الجزيرة، يوم الخميس 2 صفر 1427هـ، الموافق 2 مارس 2006م.  

mager22

فقد ورثاء ( عبد العزيز بن عبد الرحمن الخريف )

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 151 مشاهدة
نشرت فى 30 سبتمبر 2013 بواسطة mager22

الشيخ عبدالله بن حُميد كوكب غاب عن الوجود! (<!--)

 

جمال ذي الأرض كانوا في الحياة وهم ** بعد الممات جمال الكتب والسير

لاشك أن رحيل وغياب جهابذة العلماء وعظماء الرجال محزن ومؤسف جداً يترك فراغاً واسعاً في الساحة العلمية والسياسية ونشر العلوم المفيدة والثقافات العامة، والآراء السديدة التي يستفاد منها، ويستنير بها ولاة الأمور في بعض المهام السياسية والاجتماعية، فالأخذ بالمشورات والآراء الصائبة تقي أصحابها من الزلل وخاصة الصادرة من الأوائل الذين عركتهم الحياة ومروا بتجاربها:

إن الأمور إذا الأحداث دبرها ** دون الشيوخ ترى في بعضها خللا

إن الشبــــاب لهم في الأمر معجلــــة ** وللشيوخ أناة تدفع الزللا

فمن أولئك العلماء الأجلاء علماء الرعيل الأول سماحة الشيخ العالم الجليل عبدالله بن محمد بن عبدالعزيز بن عبدالرحمن بن حُميد، الذي ولد في حي (معكال) أحد أحياء جنوب الرياض في شهر ذي الحجة عام 1329هـ، وقد كف بصره في طفولته، ولم يكن ذلك عائقا له عن طلب العلم، فحفظ القرآن الكريم في إحدى الكتاب وأخذ مبادئ العلوم الشرعية فحفظ متونها..، فأستمر في تلقيه على صفوة من العلماء الذين أختص كل واحد منهم في باب من أبواب العلم وهذا مما كان سبباً في سعة علمه وطول باعه في شتى فنونه، فأصبح مخزون ذاكرته يعج بدقائقه وجليله وعويص مسائله الفقهية وصفاء العقيدة وتوحيد العبادة لرب العباد..، فكان من مشايخه: الشيخ محمد بن عبداللطيف آل الشيخ، والشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، والشيخ سعد بن عتيق، والشيخ صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ، والشيخ حمد بن فارس،- رحمهم الله جميعاً -ومع ذلك كله لازم سماحة المفتي الشيخ محمد بن إبراهيم ملازمة تامة حتى صار له منه الفائدة الكبرى وتخرج على يديه، وقد أعجب الملك عبدالعزيز بفرط ذكائه وفهمه الجيد ورجاحة عقله والقوة في أعماله..، فقال: في حقه لو كنت جاعلاً القضاء والأمارة جميعاً في يد رجل واحد لكان ذلك هو الشيخ عبدالله بن حميد، فمن أعماله الجليلة متعددة المواقع: أن عينه الملك عبدالعزيز قاضياً في العاصمة الرياض وذلك في عام 1357هـ هذا وليس له من العمر إلا ثمان وعشرون سنة وبعد ذلك بسنوات نقل إلى القضاء في مدينة المجمعة، ثم إلى القضاء في مدينة بريدة، وصار في تلك المناطق هو المرجع في القضاء والإفتاء والتدريس والإمامة والخطابة:

ليس على الله بمستنكر ** أن يجمع العالم في واحدٍ

فكان له القبول التام بين أهل تلك البلدان..، وفي عام 1384هـ تأسست الرئاسة العامة للإشراف الديني على المسجد الحرام فأختاره الملك فيصل – رحمهما الله – ليكون رئيساً لها، ويعتبر أول رئيس لهذا العمل الهام المشرف، وفي عام 1395هـ عينه الملك خالد رئيساً لمجلس القضاء، فصار رئيس القضاء ومرجعهم في هذا المقام الكبير.. ، ولما تأسس مجلس هيئة كبار العلماء اختير ليكون من كبار أعضائه وبقي فيه حتى وفاته – رحمه الله – فأينما حل في بلد فهو المرجع للمكان الذي يحل فيه في التدريس والإفتاء والاستشارات وغير ذلك من أعمال الخير، فهو صاحب الإشارة والكلمة النافذة، وكان ولاة الأمور يجلونه ويعرفون قدره ويحترمونه غاية الاحترام لسعة علمه وبعد نظره، وقال بعضهم: الشيخ بن حُميد قد رزقه الله عقلاً راجحاً وسياسة ليس لها نظير ووصفه فضيلة الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن البسام المترجم عنه في كتابه (علماء نجد خلال ثمانية قرون) بالجزء الرابع، بأن صلته به وثيقة ومودة هي أقوى وأوثق من علاقة النسب، وأنه يشترك معه في كثير من الندوات ومناقشات رسائل ماجستير وغيرها في مجالات أخرى – رحمهما الله – وله رسائل تربو على خمس عشرة رسالة يرى أن الحاجة داعية إلى تحريرها، فهو من العلماء الأفاضل الذين يرون الاكتفاء بما سطره العلماء السابقون في أسفارهم، وله ذاكرة عجيبة وقوية في التقاط أصوات السائلين رغم طولها وإعادتها كما هي، ولاسيما في برنامج (نور على الدرب) الذي كان يرد فيه على أسئلة المستمعين منذ عقود من الزمن – تغمده الباري بواسع رحمته – ويعتبر فضيلته بمنزلة الزميل لوالدنا الشيخ عبدالرحمن بن محمد الخريف حيث كان كل منهما قد نهل من موارد العلوم لدى المشايخ بالرياض أمثال الشيخ سعد بن عتيق والشيخ حمد بن فارس والشيخ عبدالله بن عبداللطيف وغيرهم من المشايخ الفضلاء، وهو مضرب المثل لديه في التفقه في الدين وسعة الأفق في الأحكام الشرعية أسمع منه ذلك وأنا في مقتبل العمر، ولقد سعدت بلقائه والتحدث معه في الرياض والطائف، وسماع إجاباته السديدة الوافية في البرنامج الإذاعي سابق الذكر..، وحينما عرّفته باسمي أخذ يترحم على والدي الشيخ عبدالرحمن، فوصفه بأنه العالم الزاهد فشكرته وعرضت عليه الزيارة إلى حريملاء فأجاب - يرحمه الله - لعل الفرصة تسنح بذلك، وحينما سعدت برؤية فضيلته من أول لقاء تذكرت قول الشاعر:

كانت مساءلة الركبان تخبرني  **  عن جعفر بن فلاح أطيب الخبر

حتى التقينا فلا والله ما سمعت ** أُُذْنِي بأحسن مما قد رأى بصري

فاستمر في برنامجه الإذاعي، وفي بذل جاهه وعلمه في قضاء حوائج المسلمين حتى أصيب بمرض عضال حاول مهرة الأطباء في الولايات المتحدة وفي السعودية كبح جماحه، ولكن أعيتهم الحيلُ حيث وافاه أجله داخل مستشفى القوات المسلحة بالطائف يوم الأربعاء 20/11/1402هـ  وصلي عليه بالمسجد الحرام بعد صلاة العصر، ودفن بمقبرة العدل بمكة المكرمة، وحضر الصلاة وتشييعه خلق كثير يتقدمهم العلماء والأمراء والأعيان، شعر المواطنون بفراغ كبير بعده – رحمه الله رحمة واسعة-وقد ترك علما نافعا بعده، وخلف ذرية صالحة ذكورا وبنات صالحات، ومن الأبناء الدكتور الشيخ صالح مستشار خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز وإمام وخطيب المسجد الحرام ورئيس مجلس الشورى ورئيس مجلس القضاء الأعلى سابقا، والدكتور أحمد عميد كلية الشريعة ورئيس قسم الدراسات العليا فيها، والشيخ ابراهيم أحد مدرسي دار الحديث بمكة المكرمة، وبعد وفاته رثاه الكثير من العلماء ومن تلامذته بالكلمات الضافية وبغر القصائد، كما رثاه فضيلة الشيخ محمد بن عبدالله السبيل – رحمه الله -إمام وخطيب المسجد الحرام والرئيس العام لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي الشريف – آنذاك -بقصيدة طويلة تبلغ أكثر من 55 بيتاً نذكر منها:

على مثل هذا الخطب تهمي النواظر** وتَذري دماء مقلةٍ ومحاجرُ

ألا أيها الناعي لنا عَلم الهدى **  أصدقا تقول أم مصابا تحاذرُ

هو الشـــيخ عبدالله نجــــل محمــــد ** به أمة الإسلام حقاً تفاخرُ

تفـــــرد في علـــم وفقــــــه وفطنة ** تقــاصر عنها باحث ومذاكرُ

وهذه الكلمة الوجيزة التي استقيت معظمها من كتاب (علماء نجد خلال ثمانية قرون) لا تفي بحق سماحة والدنا العالم الجليل الشيخ عبدالله بن محمد بن حميد، وتعتبر هذه مجرد خاطرة وذكر حسن – تغمده المولى بواسع رحمته ومرضاته.

 

 

 

 

 

 


غربت شمس رائد من رواد الأدب والمعرفة (<!--)

(السفير/أحمد بن علي المبارك رحمه الله)

 

بلغ المكرمات طولا وعرضا **  وتناهت إليه عرضا وطولا

حينما يفاجأ بعض الأشخاص برحيل قريب أو صديق حميم، لا بد أن يترحم عليه، وربما يحاول أن يكتب عنه كلمة تأبين ورثاء، منوها بما يستحقه من صفات حميدة وثناء عاطر وترحم، فسرعان ما يأذن لشريط ذكرياته معه، ومع مواقفه المحمودة بأن يتحرك تحركا غير المعهود في سرعته ليمر بخاطره بعض المواقف الجميلة المشرفة، فينتقي ما يرى ذكره مناسبا للنشر عبر الصحافة اليومية ليعبر عن مآثره الحسان، وعن بعض الأعمال التي سبق أن زاولها – إن وجدت – ففي يوم السبت العاشر من شهر جمادى الأولى فوجئنا برحيل علم بارز من أعلام الأدب في الجزيرة العربية: إنه الشيخ الأديب والسفير/أحمد بن علي المبارك الذي غادر عرينه مأسوفا عليه بعد ظهر يوم الجمعة التاسع من شهر جمادى الأولى 1431هـ في الأحساء، وكان لوقع ذاك النبأ أثر عميق من الحزن في نفسي، فلم أملك في تلك اللحظة المؤلمة سوى الترحم عليه تاليا الآية الكريمة "إنا لله وإنا إليه راجعون" ولقد قفزت بي الذاكرة في تلك اللحظة إلى أول لقاء به في مجلسهم العام المعروف لأسرة آل مبارك بالهفوف بحي الصالحية عام 1412هـ تقريبا حيث تلقينا دعوة كريمة منهم بصحبة صديقهم الدكتور إبراهيم بن عبدالرحمن المديميغ، والزميل الراحل الدكتور حمد بن إبراهيم السلوم – رحمه الله – في أثناء حضوره من الولايات المتحدة الأمريكية في إجازة قصيرة ..، وكانت بداية طيبة للتعرف عليه – يرحمه الله -، وللتواصل مع أسرة آل مبارك المعروفين بالعلم والأدب الجم الرفيع، فأكرمونا واحتفوا بنا طيلة مكثنا لديهم، ودخلنا مجالسهم المعمورة بالعلم والآداب، وبتجاذب أطراف الأحاديث الشائقة، والمطارحات الشعرية والأدبية، ثم السكن ليلا في المنزل المعد للضيافة في جانب أحد البساتين الخضراء والنخيل التي تسر الناظرين، ثم أعقب ذلك تبادلا في الزيارات على فترات، وكانت رحلة ميمونة عرفنا فيها كوكبة خيرة من المشايخ وعدد من أنجالهم النجباء. ولقد ولد الشيخ الأديب أحمد بن علي آل مبارك بالأحساء عام 1337هـ تقريبا، ونشأ (أبو مازن) في صغره بين أحضان والديه ومع لداته وأترابه بحي الصالحية بالأحساء، وقد درس على أيدي مشايخ من أسرته، وعلى يد الشيخ عبدالعزيز بن صالح العلجي، ثم شخص إلى بغداد فدرس بمدرسة دار العلوم العربية والدينية، بعد ذلك التحق بكلية اللغة العربية بجامعة الأزهر بمصر عام 1356هـ حيث شق طريقه في الحياة الدراسية مبكرا متحملا مشاق السفر والغربة بعيدا عن أهله وأوطانه بأرض الكنانة بمصر لأجل تحقيق طموحاته في طلب العلم هناك منذ عام 1356هـ، فهو رجل عصامي بمعنى الكلمة، وقد لاقى الأمرين في تلك الفترة من جوع ومرض، وذلك لقلة المادة لديه، ولدى من يموله في تلك العصور الفارطة مادياً، وقد حكى عن نفسه عبر برنامج (أماكن في ذاكرتهم) الذي كان يقدمه الأستاذ الفاضل/ إبراهيم بن أحمد الصقعوب ــ آنذاك ــ أنه لم يخصص له في بادئ الأمر سوى جنيهين لا تفي بأبسط حاجاته، ومع ذلك قسا على نفسه، واستمر في مواصلة دراسته، ويقول في أثناء حديثه إنه ظل يتغذى بقليل من الفول فقط في الثلاث وجبات المعروفة، فنفسه تأبى أن يطلب شيئاً من أحد، وقد ساءت صحته نتيجة قلة الغذاء، ومع ذلك صبر في تلك السنوات "العجاف"، حتى عاد إلى أرض الوطن مسلحاً بسلاح العلم والأدب، ولله در الشاعر حيث يقول:

صبرتَ فنلتَ النصر بالصبر فالمنى** فما انقادت الآمال إلا لصابر

ويعتبر من أوائل الدارسين خارجياً.  وقد تسنم عدداً من المناصب نذكر منها بعضاً لضيق المجال حيث عين في عام 1371هـ مفتشاً عاماً في جميع مدارس المملكة،ثم عين مديراً للتعليم بجدة مدة أربعة أعوام، بعد ذلك عين في وزارة الخارجية مديراً للإدارة الثقافية والصحية، ثم مديراً للشؤون القنصلية بسفارة المملكة بالأردن عام 1381هـ، ثم إلى سفارة المملكة بالكويت، ثم قنصلاً في البصرة لمدة أربع سنوات، ومنها سفيراً إلى جمهورية غانا خمس سنوات، وبعد ذلك إلى الدوحة عاصمة قطر كأول سفير للمملكة فيها عام 1392هـ، وقد حضر لقاء القمة الخليجي الذي أقيم في كلية البترول في المملكة العربية السعودية بالمنطقة الشرقية عام 1395هـ، وقد حضر هذا اللقاء جلالة الملك فيصل بن عبدالعزيز ــرحمه الله ــ، وبعدها عاد إلى أرض الوطن مكرماً، وعمل مديراً عاماً لإدارة الشؤون الإسلامية بوزارة الخارجية حتى تقاعد عام 1415هـ، وله عدة إصدارات أدبية منها: الأمل والألم، عبقرية الملك عبدالعزيز، كما حظي بالتكريم داخلياً وخارجياً وأعلاه تكريمه في مهرجان الجنادرية بتاريخ 5/11/1423هـ بوسام الملك عبدالعزيز من الدرجة الأولى ـ طيب الله ثراه ـ بحضور الملك عبدالله ــ متعه الله بالصحة والعافية ــ وغير ذلك من الأوسمة والدروع، فهو بدر ساطع من بدور المحافل، وقد بدأ أحديته المشهورة في عام 1411هـ وكان الإقبال عليها منقطع النظير، كما كرم في (إثنينية) الشيخ عثمان الصالح ــ رحمه الله ــ، وجريدة اليوم، وفي النادي الأدبي بالشرقية، وفي منزل الأستاذ الوجيه الشيخ عبدالله بن عبدالمحسن الماضي، ورغم امتطائه أكثر من تسعة عقود مرقلا نحو عبور (الهنيدة) فإنه كان محتفظا بقواه الذهنية، وبذاكرته التي لم تصدأ بل تجلوها وتوقظها محادثة الرجال ذوي العقول والاداب، وقد لمست منه ذلك في آخر محادثه معه عبر الهاتف، ثم أحسست من نبرات صوته، وتكرار دعواته بأن يحسن له المولى الختام، فتضاءل صوته شيئا فشيئا، فعلمت أنها لحظات وداع إلى الأمد الأقصى، وكأني بالشاعر قد وجه مثل هذا البيت لأبي (مازن):

ألا إنما الدنيا كظل سحابة ** أظلتك يوما ثم عنك اضمحلت

رحمك الله -أبا مازن -وأسكنك فسيح جناته وألهم ذويه وأبناءه وبناته وعقيلته (أم مازن) ومحبيه الصبر والسلوان. {إنا لله وإنا إليه راجعون}.

 

 

 


وجيه من الأحساء غيب في الثرى(<!--)

(الشيخ محمد بن عبد اللطيف آل مبارك "أبو قيس" رحمه الله )

 

 

فراق أخ كان الحبيب فـفاتـني ** وولى به ريب المنون فـأسرعا

من سنن المولى في خلقه أن يتعاقب ويتتابع بنو البشر في عمارة هذا الكون  المتباعد الأرجاء والآفاق ليبلوهم أيهم أحسن عملاً، فكل ميسر لما خلق له ، فمنهم شقي وسعيد، فالسعيد من يوفقه المولى بإخلاص العبادة بأداء الشعائر الدينية، وحسن التعامل مع الآخرين وتختلف طبائع وسلوك الأمم المتعددة حسب هداية المولى لهم -جلّ ثناؤه -ثم التأثر بالبيئة التي تحيط بهم وتؤثر في نفوسهم واتجاهاتهم العامة والخاصة، فأفضلها وأنفعها أن يعيش المرء في محيط علمي وأدبي يُنير جوانب النفس ويكسوها هيبة وبهجة وسرورا وهذه الصفات الحميدة تذكرنا بمجالس أسرة آل مبارك بالاحساء التي هي بمثابة الصوالين الأدبية المستديمة يومياً ملتقى الأدباء والمشايخ من نفس الأسرة وغيرهم من محبي المطارحات الأدبية والمساجلات الشعرية ولكن هادم اللذات قد كدّر عليهم صفو تلك الجلسات بانتزاع عدد من مشايخهم وأدبائهم البارزين الأجلاء منذ سنوات قلائل مضت؛ منهم على سبيل المثال لا الحصر: الشيخ عبدالرحمن بن علي – أبو عبدالحميد – والشيخ محمد بن عبدالله – أبو يوسف – والشيخ السفير أحمد بن علي المبارك – أبو مازن – وغير هؤلاء الفضلاء ففي صباح يوم السبت 24/4/1433هـ لحق بقوافل الراحلين الشيخ الأديب محمد بن عبداللطيف بن إبراهيم آل مبارك -أبو قيس-رحمه الله رحمة واسعة، وقد اُديت عليه صلاة الميت بعد صلاة العصر بالمسجد المجاور لمقبرة الصالحية بالهفوف، ثم تبعه خلق كثير إلى مضجعه بالمقبرة داعين المولى له بالرحمة والمغفرة، وقد خيم الحزن العميق على مسكنه ومساكن أسرته ومحبيه، ولقد عرف عنه الصدق والوفاء والكرم، والإعراض عن مساوئ الناس، وكانت ولادته في عام 1337هـ بحي الهفوف بالأحساء،  وعند بلوغه السابعة من عمره ألحقه والده بإحدى الكتّاب في تلك الأزمان، ثم أخذ مبادئ في العلم على أيدي مشايخ أسرته، بعد ذلك سافر  إلى ( دبي)  مع خاله الشيخ / عبدالعزيز بن حمد آل مبارك  واستقر فيها مدّة من الزمن، ويعتبر أول دارس بالمدارس النظامية " بدبي" وقد اُشتهر بذاك السبق في حينه.. ، وهذا يدل على نبوغه وتطلعه إلى آفاق العلوم المختلفة والثقافات العامة مبكراً.. وقد تحقق له ما كان يطمح إلى نيله حيث مَلأ مخزون ذاكرته من حلو رضاب العلوم والثقافات الواسعة حتى دفن ودفنت معه تلك الذخائر – تغمده الله بواسع رحمته -، وقد عمل بالمحكمة الشرعية بالظهران فترة من الزمن مع عمه الشيخ عبدالله بن عبدالعزيز آل مبارك قاضي الظهران -آنذاك-،  وبعد عمله بالمحكمة تفرغ لأعماله الخاصة والأخذ بأسباب التجارة والتردد بين بلدان الخليج والهند.. ، ولم تشغـله أعماله عن طاعة الله وتلاوة القرآن آناء الليل وأطراف النهار، ويقال أنه لايخرج من المسجد إذا صلى الفجر حتى يصلي ركعتي الإشراق، وكان يذهب إلى أداء صلاة الجمعة مبكراً جداً كما كان مواظباً على صلاة الوتر واستمر على هذا المنوال طيلة حياته حتى في أسفاره ورحلاته، وكان ولوعاً بالاصطياف في بلاد الشام وخاصة بمنطقة "الزبداني"المشهورة بطيب أجوائها وجمال الطبيعة والهدوء بها، وأذكر أني قلت مداعباً له قبل رحيله بشهور قلائل:  ما ذهبتَ إلى جهة الشام؟َ فأجاب بمعنى هذا البيت للشاعر زهير بن أبي سلمى حيث يقول:

صحى القلب عن سلمى وأقصر باطله ** وعُرّيَ أفرَاسُ الصِبا وَرَوَاحِلُه

ولنا مع "أبو قيس" ذكريات جميلة لا يتسع المجال لسردها، وكان التواصل مع أسرة آل مبارك الكرماء على فترات متقاربة حضورياً، وهاتفياً -رحم الله من رحل منهم وأسعد الحاضرين -ولئن غاب "أبو قيس" عن ناظريَّ فإن ذكره الطيب باقٍ بين جوانحي -تغمده الله بواسع رحمته وألهم ذويه وأبناءه وبناته وعقيلته ومحبيه الصبر والسلوان.

<!--[if !supportFootnotes]-->

<!--[endif]-->

(<!--) أرسلت للنشر في صحيفة الجزيرة، يوم الثلاثاء 3 ربيع الأول 1434هـ الموافق 15 يناير 2013م.

(<!--)نشرت في صحيفة الجزيرة، يوم الأربعاء 21 جمادى الأولى 1431هـ الموافق 5 مايو 2010م.

(<!--) نشرت في صحيفة الجزيرة، يوم الثلاثاء 4 جمادى الأولى 1433هـ، الموافق 27 مارس 2012م.  

mager22

فقد ورثاء ( عبد العزيز بن عبد الرحمن الخريف )

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 202 مشاهدة
نشرت فى 30 سبتمبر 2013 بواسطة mager22

علي بن محمد الشدي والذكر الجميل (<!--)

 

عليك سلام الله مني تحية ً **  ومن كل غيث صادق البرق والرعد

من سعادة الإنسان في هذه الحياة أن يمنحه المولى رحابة الصدر، والاستئناس بمن حوله من أقارب وجيران ورفاق درب في مضمار حياته بدأ من لداته وأترابه في صغره فزمن الطفولة، من أحلى أيام عمر الإنسان وتعتبر من قواعد البنية الشخصية للإنسان والاستعداد للخوض في مسارات الحياة، فإذا استمر في التواصل مع أحبته وجميع الصحب من أفراد مجتمعه فإنه يسعد في حياته ويمضي سنوات عمره مرتاح البال فالإنسان كما يقال: مدني بالطبع يسعد بمن حوله من الأخيار والتحدث معهم وتبادل الزيارات فيما بينهم إن أمكن حسب ظروف كل منهم وموقعهم وعاداتهم، فمن الذين يألفون ويُؤلفون الصديق الكريم الشيخ علي بن محمد الشدي الذي رحل عنا إلى الدار الباقية في عام 1416هـ، وقد خيم الحزن على أسرته ومحبيه وعلى أجواء مدينة حريملاء فأقيمت صلاة الميت عليه في جامع الملك خالد بأم الحمام ثم تبعه خلق كثير من المشيعين داعين له بالمغفرة ـ تغمده الله بواسع رحمته ـ وقد ولد في مدينة حريملاء وترعرع في أكنافها بين أحضان والديه ودرس بالكتاب وتعلم الخط، فأكمل كتاب الله العزيز على المقرئ محمد بن عبدالله الحرقان، وكان يحضر مجالس العلماء ومجالس بعض القضاة الذين توالوا على حريملاء آنذاك فاستفاد فوائد كبرى من الإنصات وسماع شروحات المتون والمسائل الفقهية التي تقرأ في المساجد وفي مجالس بعض طلاب العلم، وقد حفظ بعض النصوص الشرعية تلقائياً مع ما يسمعه من كتب المطولات والسير، فالله سبحانه قد وهبه حدة في الذكاء وجودة في الحفظ مما أكسبه معرفة وحنكةً وفهماً استنار به في حياته، ولم يقتصر على ذلك بل إنه يناقش في بعض المسائل الفقهية والعلمية، فهو قوي العارضة والمجادلة المقنعة، وقد ذكر لي الشيخ محمد بن عبدالعزيز الشدي ـ رحمه الله ـ طرفاً من نقاشه معه ومع غيره من العلماء ليصل إلى الحقيقة، فقد ثقف ثقافة واسعة أهلته بأن يسير في الحياة بخطى ثابتة مكرماً ومحبوباً لدى محيطه الأسري والاجتماعي، وقد حظي بثقة بعض كبار المسؤولين في الدولة لإخلاصه ووقوفه بجانب أصحاب الفلاحة ومطالبة الدولة ـ أعزها الله ـ بمضاعفة ما يصرف لهم من قروض تعينهم على التوسع في الفلاحة والزراعة هو وصديقه الراحل عبدالعزيز الوعلان ـ رحمهما الله ـ دون مقابل لهما ، فلما علمت الدولة بإخلاصهما وحرصهما على التشجيع لأجل الأمن الغذائي عُينا للمحاماة عن أرباب الفلاحة والمزارعين تقديراً لنشاطهما، فما كان من الشيخ علي إلا أن قال لأحد المسؤولين الكبار ـ أحد أنجال الملك عبدالعزيز طيب الله ثراه ـ ولو عينتمونا سنستمر في المطالبة لتشجيع أصحاب الفلاحة ليزداد إنتاجهم الزراعي فرد عليه الأمير.. يحفظه الله مبتسماً قائلاً ما وظفناكم إلا لإخلاصكم وإلحاحكم فالدولة ـ يحفظها الله ـ تحرص كل الحرص على إقراض الفلاح وتشجيعه، وفي الغالب تعفيهم من تسديد الأقساط، ثم عمل أبو محمد وكيلاً لإدارة أوقاف آل سعود التي كان يرأسها الشيخ صالح بن عبدالرحمن الرويتع، كما عمل مشرفاً على مشروع مزارع الملك خالد ـ يرحمه الله ـ فأبو محمد يحضى بتقدير الملك خالد ويأنس بآرائه في شؤون الفلاحة حتى إنه في بعض الأحيان يقال إن الملك خالد يدنيه بجانبه على مائدته الخاصة لمكانته لديه وحسن اختياره لجيد أنواع النخيل والإشراف على غرسها فهو لطيف في حديثه وفي إيراد بعض القصص والطرائف الجميلة التي تؤنس الملوك ولله در القائل:

وما بقيت من اللذات إلا **  محادثة الرجال ذوي العقول

وكان يرد على من يغبطه في عمله بالديوان الملكي بقول الشاعر:

صفا لي العيش مخضرا جوانبه **  فما وجدتُ بحمد الله تكديراً

وكان رحمه الله يدعونا لزيارته بمزرعته بالوصيل أنا والعم عبدالله بن صالح العجاجي والأخ عبدالرحمن بن عبدالله العمراني، ولصلة القرابة مع والدته رحمها الله فيقوم بإكرامنا مؤكداً المبيت عنده، ولا يسمح لنا بالمغادرة إلا بعد تناول طعام الإفطار من الأكلات الشعبية الشهية، مع إهدائه لنا من جيد التمر في مواسم جذاذ النخيل، وحاثاً على التواصل وتكرار الزيارة له رحمه الله وكان يقضي معنا بعض الوقت قبل النوم فيحلو السمر معه بتنوع ما يتطرق إليه من مواضيع شائقة، فالذكريات الجميلة مع  (أبو محمد) رتلها ومداها يطول، أسكنه الله فسيح جناته وهذه الكلمة الوجيزة مجرد خاطرة وتلذذ بذكره العطر الذي لا يغيب عن خاطري مدى الأيام.

 

 

 


أخي محمد في ذاكرة الزمن (<!--)

 

نبكي على الدنيا وما من معشر **  جمعتهم الدنيا فلم يتفرقوا

ويقول الآخر:

وكل أخ مفارقه أخوه  **  لعمر أبيك إلا الفرقدان

شاءت قدرة المولى أن يكون يوم الخميس 12/5/1395هـ  هو آخر أيام إقامة أخي محمد في الدنيا -يرحمه الله -وقد عاش في طفولته كأمثاله بين أحضان والديه، وبين لداته ورفاق دربه، وعند بلوغه سن السابعة ألحقه الوالد بإحدى مدارس الكتاب بحريملاء ـ وكان على مستوى من الذكاء والفطنة، وسرعة الحفظ رغم صغر سنه حتى ختم القرآن الكريم كاملا مع حفظ بعض أجزائه، وحفظ بعض الآيات من أواخر السور التي يتكرر مرورها على سمعه أثناء تأدية الصلوات الجهرية، مما سهل عليه حفظها تلقائيا، ومعلوم أنه نشأ في بيت علم وأدب، وكان يصحب والدنا الشيخ عبدالرحمن إلى مجالس الذكر، وإلى المسجد الذي يصلي فيه فيسمع تلاوة القرآن الكريم وقراءة بعض الكتب المفيدة التي يتلوها بعض طلاب العلم على والدنا -رحمه الله -أمثال الشيخ أحمد بن علي الشدي، والشيخ عبدالعزيز بن محمد الداود، والأستاذ عبدالله بن سليمان الحميدي، وغير هؤلاء الأخيار، وذلك قبيل صلاة العشاء، وبعد صلاة العصر مباشرة من كل يوم ..، حيث يعلق في ذهنه حفظ الكثير من الأحاديث النبوية، وبعض القصص التاريخية ..، وغيرها من أخبار الماضين مما كون لدى أخي محمد حصيلة عامة من المعلومات وكانت سببا قويا في تربية ملكة الحفظ وسعة الأفق لديه ..، فالاستعداد الفطري من أقوى روافد المعرفة في تثبت ما يمر بخاطر الإنسان، وعلى سمعه وبصره كل هذه كونت لديه مخزونا ثرا من شتى المعارف، والمواد الأخرى ..، وعندما عين الملك عبدالعزيز والدنا قاضيا في قرية (العليا) عام 1347هـ الواقعة في الجانب الشمالي الشرقي من مملكتنا الحبيبة إلى قلوبنا كان من الضروري أن يحتاج إليه الوالد لمرافقته وملازمته طيلة مدة عمله فتوجها من حريملاء عبر الصحراء الشاسعة الشاقة مرقلين صوب مقر العمل الجديد (بقرية العليا) كما أسلفنا، حيث اختارا جملا من أقوى المطايا وأصبرها على حمل الأثقال وقطع الفيافي والقفار، فوضعا على ظهره بعض مستلزمات السفر والإقامة هناك من كتب ومراجع..، وكمية من الأرزاق والأطعمة، وما يحتاجون إليه من متطلبات السكن، فالجمل في تلك الحقبة يعتبر من سفن الصحراء لقطع المسافات الطويلة المحفوفة بمخاطر الطريق من متاهات وخوف من الهوام والسباع، ومن وحوش البراري والفلوات، فسارا أياما وليالي حتى وصلا هناك واستقرا في تلك الهجرة، ونزلا في حجرة أو حجرتين..، على ما فيهما من ضيق وقلة راحة ..! ، وقام الأخ محمد بخدمة الوالد خير قيام في شؤونه الخاصة، وفي استقبال الخصوم إن وجد أحد منهم..، لأن وجوده معه فيه إيناس، وتخفيف من وطأة وحشة الغربة، والبعد عن والدته -جدتي -وعن بنياته الصغار -آنذاك -وذلك قبل طلوعي على الدنيا، فالأخ محمد هو أكبر أنجال الوالد(رحمهم الله)، وفي وقت فراغه ينتهز الفرصة في البيع والشراء من حيوانات مثل الجمال والأغنام  وما تنتجه من السمن والأقط، بل ومن سائر البضائع المتنوعة، التي ترد من البلدان المتاخمة لمقر عملهما مثل الكويت وأطراف العراق.. الخ، وغير ذلك من متطلبات المجتمع في هاتيك الديار والبقاع ..، فهي تعتبر مصدر رزق وربح، وذلك لقلة المادة لدى الوالد، وشح الموارد المالية التي  يتكئ عليها الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه -في تمويل وتصريف أموره ومستلزمات الحياة لإسعاد رعيته من موظفين وقضاة وجنود وغير أولئك ..، وذلك قبل أن تشرق شمس الحياة المادية والحضارية على ربوع مملكتنا الحبيبة على قلوبنا، فعاش الوالد في تلك الحقبة القاسية عيشة كفاف وبساطة، وبعدما أمضى عاما تقريبا ألح على الملك عبدالعزيز ليعفيه من القضاء، فأمر بنقله إلى بلدة (سنام) بمنطقة القويعية فاستمر بها مدة من الزمن، ثم سافر الوالد إلى الرياض لمقابلة الملك عبدالعزيز شخصيا مبديا ظروفه العائلية أهمها حاجة والدته جدتنا ليكون على مقربة منها لكبر سنها، وكان في مجلس الملك الشيخ عبدالله بن عبداللطيف قاضي الرياض - آنذاك - فشفع له فأعفاه من القضاء، فعاد - رحمه الله -مغتبطا ليسعد بخدمة والدته ويرعى بُنياته، ويكون بجانب أسرته، وكان الأخ محمد هو ساعده الأيمن طيلة مدة عمله في كلا البلدين(رحم الله الجميع)، وكان ذاك الإعفاء سببا مباركا في زواج الأخ محمد-أبو عبدالعزيز -واستقراره في بلده حريملاء حيث استمر في الأخذ بالأسباب في طلب المعيشة من بيع وشراء معتمدا على الله غير معول على أحد فهو عصامي لا عظامي، ولقد أجاد الشاعر حيث يقول:

وإنما رجل الدنيا وواحدها  ** من لا يعول في الدنيا على رجل

 وبعد عقود من الزمن عمل فترة وجيزة في الفرع الزراعي بحريملاء حتى تقاعد..، واستمر في مزاولة الأعمال الحرة حتى توفاه الله ، مخلفا ذرية صالحة بنين وبنات، وهذه نبذة وجيزة عن مشواره في الحياة عبر السنين الماضيات.

غفر الله له ولوالديه وأصلح عقبه إنه سميع مجيب.


سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم

ذكراه ساكنة بين جوانحي (<!--)

 

لا يأمن العجز والتقصير مادحه ** ولا يخاف على الإطناب تكذيباً

ودت بقـــــــــــــــاع الله لــــو جعلــت **  قبراً له فحباها جِسْمُـــــهُ طيباً

 فبينما كنت أفتش بعض مقتنياتي ومدخراتي الحبيبة إلى قلبي داخل غرفة مكتبتي الخاصة إذا بي أعثر على نسخة من العدد 231 الاثنين 13 شوال عام 1389هـ من صحيفة (الدعوة) التي كانت تصدر أسبوعياً مؤقتاً – آنذاك - والذي يحمل في ثناياه نبأ وفاة ورحيل والدنا وشيخنا  العلامة سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبداللطيف آل الشيخ، ويضم داخله عدداً من كلمات التأبين وقصائد الرثاء المؤثرة من بعض تلامذته ومحبيه، وكان لزاماً علي أن أنوه بأفضاله وعنايته بي أثناء التلقي عليه مبادئ من العلم عامي  69/1370هـ  فقد أهاجت بي الذكريات، وطوح بي الخيال إلى تذكر هاتيك المجالس، مجالس الذكر وتلقي العلم على يديه، وعلى أخيه فضيلة الشيخ عبداللطيف في جهتي مسجد الشيخ عبدالله بن عبداللطيف الغربية لدى الشيخ عبداللطيف، والشرقية لدى سماحة الشيخ محمد – رحمهما الله – وبعد طلوع الشمس ينتقل معظم الطلاب إلى منزل الشيخ محمد لتلقي المزيد من العلوم، مثل كتاب التوحيد، والعقيدة الواسطية والحديث، وسماع بعض كتب المطولات مع التعليق على ما تدعو الحاجة إلى إيضاحه للطلبة والمستمعين..، وبقية مواد العلوم الأخرى موزعة على الأوقات وأفواج الطلبة حسب مستوى كل فوج إلى أذان العشاء، والمسجد كخلية نحل من طلاب العلم على مختلف أعمارهم وقدراتهم..، ولقد منحه المولى قوة جلد وصبر لا يتطرق إليه ملل ولا كلل، وعمق في علمه الواسع في جميع المواد العلمية، يقل من يماثله في حنكته وفهمه وقوة ذاكرته، ويحسن بي أن أذكر هذا البيت وكأنه يعنيه للبرهان القيراطي من قصيدة رثى فيها جمال الدين بن عبدالرحيم شيخ الشافعية حيث يقول:

فأعظم بحبر كان للعلم ساعياً ** بعزم صحيح ليس بالمتكاسل

فوقته - رحمه الله – كله مستوفى إلا ما يتخلله من أوقات خاصة ووجيزة يرتاح فيها قليلاً، ولقد بارك الله في عمره وفي وقته، وقد تخرج على يديه خلق كثير جداً وكوكبة خيرة أصبحوا من كبار العلماء وبحوراً في العلم والإفتاء أمثال: سماحة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز، وفضيلة الشيخ عبدالله بن محمد بن حميد، والشيخ عبدالرحمن بن قاسم – صاحب المؤلفات وجامع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، والشيخ عبدالله بن محمد القرعاوي، والشيخ عبدالعزيز بن ناصر الرشيد، وأخويه الشيخين عبداللطيف وعبدالملك بن إبراهيم آل الشيخ، والشيخ عبدالعزيز بن محمد آل الشيخ والد معالي وزير الشؤون الإسلامية الشيخ صالح، والشيخ ابراهيم بن محمد رئيس الدعوة والإرشاد والبحوث وهما أبناؤه وغير هؤلاء كثير من الأجيال المتتابعة يتعذر عدهم:

فرب ضرير قاد جيلاً إلى العلا  ** وقائده في السير عود من الشجر

تغمد الله الجميع بواسع رحمته – ومن آثاره الأخرى الجليلة تبنيه تأسيس المعاهد العلمية وكليتي الشريعة واللغة العربية بتأييد من جلالة الملك عبدالعزيز وجلالة الملك سعود ومعاضدة فضيلة الشيخ عبداللطيف له – رحمهم الله – وعوداً على ذكر بداية شطر من سيرته وحياته، ولقد ولد العلامة الكبير سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبداللطيف آل الشيخ في مدينة الرياض في 17 من شهر محرم عام 1311هـ فتربى في بيت علم وفضل محباً للعلم طموحاً في اقتناصه من مضانه وأفواه العلماء، ومن بطون الكتب النافعة، وكان والده العلامة الشيخ إبراهيم قاضي مدينة الرياض من أبرز علماء نجد ومشاهيرهم، فاحتذى الشيخ محمد حذو أبيه..، وعند بلوغه السابعة من عمره ألحقه في كتّاب المقري عبدالرحمن بن مفيريج فأعجب بسرعة فهمه وحفظه، فأهتم به حتى حفظ القران الكريم عن ظهر قلب، بعد ذلك شرع في طلب العلم فأخذ بالقراءة على أبيه، وعلى عمه علامة نجد في زمنه الشيخ عبدالله بن عبداللطيف، وقراءته الأولى في التوحيد، وأصول العقيدة حفظ وتفهم، ثم قرأ مختصرات كتب الشيخ محمد بن عبدالوهاب، ومختصرات كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم كالواسطية، والحموية، وكذلك عني بمختصرات النحو والفرائض كالأجرومية والرحبية، وقد كف بصره وهو في الرابعة عشرة أو السادسة عشرة من عمره فصبر واحتسب وصمم على النهل من موارد العلوم العذبة، فقرأ على علماء الرياض زيادة على القراءة على عمة وأبية، وعلى الشيخ سعد بن عتيق، والشيخ حمد بن فارس وعلى الشيخ عبدالله بن جلعود، فأدرك هذه العلوم إدراكاً جيداً وغزيراً أهله على أن يكون مفتياً عاماً للديار السعودية، مع ترؤسه لعدد من الدوائر والمصالح الحكومية فهو نهر عذب عميق اغترف منه وارتوى خلق كثير، ولله در الشاعر:

سعدت أعين رأتك وقرت **  والعيون التي رأت من رآكا

ولا أنسى أفضاله علي – رحمه الله – حيث كان يدعوني للإفطار معه ومع أبنائه في شهر رمضان عامي 69/ 1370هـ أنا والشيخ علي الضالع كل ذلك تقديرا منه وحب لوالدنا الشيخ العالم الجليل عبدالرحمن بن محمد الخريف الذي هو بمنزلة الزميل له، فهو كثير السؤال عنه، ويقول كان الإمام عبدالرحمن الفيصل والد جلالة الملك عبدالعزيز يدعوه في بعض الأحيان ليسمعه تلاوة القرآن الكريم بصوته الجميل أثناء مجيئه من حريملاء ليلتقي ببعض العلماء والمشايخ، فأعماله الجليلة متعددة لا حصر لها، فموته وغيابه أحدث فجوة واسعة يتعذر ردمها وملؤها بعده في الميدان العلمي والفقهي، كما أنه سياسياً محنك بعيد النظر يستأنس بآرائه  وأفكاره النيرة، ومن بعض الأمثلة على ذلك ما روي عنه في اختياره حجز مساحات شاسعة من الأرض بحي النسيم شرقي مدينة الرياض  ليكون موقعاً لمقابر ومضاجع الراحلين التي تبعد عن قلب المدينة – آنذاك – خمسين كيلو متر، الذي الآن أصبح داخل العمران والأحياء السكنية – فجراه المولى وافر الأجر - ، ووفق ولاة أمر هذا الوطن لما فيه الخير والبركة، وهذا يدل دلالة واضحة أن الله قد وهبه نفاذ البصيرة رغم فقد بصره، ولقد أجاد الأستاذ/ علي الجندي في مخاطبة بصير لا يبصر أثناء قصيدة جميلة المعاني حيث يقول:

عزاءك إن الله أعطاك فطنة  **  وأعطاك فكراً لم يشُب صفوه كدر

وأعطـــــــاك نوراً في فؤادك نبعه ** يريك وراء الغيب ما سطر القدر

وكان لي معه بعض الذكريات الخفيفة اللطيفة القصيرة.. ، فلما أثقله المرض في أخر حياته بذل الأطباء ما في وسعهم لكبحه ولكن الحيل أعيتهم، فانتقل إلى دار النعيم بعد ظهر يوم الأربعاء 24/9/1389هـ  وصلى عليه بعد صلاة العصر في جامع الرياض الكبير جموع غفيرة وزحام شديد حيث خرجت تلك الجموع لتشييع فقيد الأمة وكان على رأس المشيعين جلالة الملك فيصل وفيهم الأمراء والعلماء والوزراء والأعيان، ودفن في مقبرة الرياض المسماة (العود) داعين له بالمغفرة وقد حضر العزاء في بيت الفقيد صاحب الجلالة الملك فيصل بن عبدالعزيز – رحمه الله – وأبدى أسفه وحزنه الشديد على رحيله، وأثنى عليه وذكر خسارة البلاد بوفاته وواسى أفراد أسرته والحاضرين من العلماء.. ، وهذه الكلمة الوجيزة لا تفي بعد الكثير من مآثر ومحاسن شيخنا ووالدنا المتصف بالرزانة والهيبة وسعة الأفق، وسيضل ذكره خالداً على مر الدهور والأعصر، وإنما جاءت خاطرة في نفسي تعبيراً لما أكنه لسماحته من حب واحترام – تغمده المولى بواسع رحمته ومغفرته -

إن العظيم وإن توسد في الثرى** يبقى على مر الدهور مهيبا


الشيخ عبداللطيف بن إبراهيم نهر علم وسماحة خلق(<!--)

 

هو بحر العلوم والفقه فازدد ** منه قرباً تزدد من الجهل بعدا

الإنسان حينما ينفرد بنفسه تتداعى على خاطره أمواج كثيفة متعددة الاتجاهات، تحمل في ثناياها رتلاً طويلاً من الذكريات، منها ما يؤنس به، كأيام الطفولة والصبا بين أحضان والديه ومع أقرانه، وما يتخلل تلك الأيام من ساعات مرح ولهو بعيداً عن مشاغل الحياة وهمومها.

أيام كنت أناغي الطير في جذل ** لا أعرف الغم في الدنيا وبلواها

كما يحلو له استحضار وتذكر معلميه ومشايخه الأفاضل الذين قضى معهم من الأيام أحلاها و أجداها، وكأنه يسمع نبرات أصواتهم أثناء تلقيه دروس العلم والآداب - وإن كانوا قد أمسوا تحت طيات الثرى -مقروناً ذلك بالدعاء والترحم عليهم، جزاء  ما قدموه من إخلاص وإرشاد وتربية أبوية، وفي طليعة أولئك الآباء شيخنا ووالدنا فضيلة الشيخ عبداللطيف بن إبراهيم آل الشيخ أول معلم لنا في علم النحو والفرائض -جزاه المولى عنا خير الجزاء وأسكنه الفردوس الأعلى، ولقد ولد في مدينة الرياض عام 1315 هـ ولما تربع جلالة الملك عبدالعزيز على عرش البلاد عُين والده الشيخ إبراهيم قاضياً في الرياض، فنشأ -أبو عبدالله -في بيت علم وقضاء ودين وتربي تربية حسنة، وقرأ القرآن الكريم وحفظه عن ظهر قلب في احد الكتاب -آنذاك -ثم شرع في طلب العلم وأكب على حفظ المتون المعروفة لتربي لديه ملكة الفهم، وحفظ النصوص التي تثري حصيلته اللغوية والأدبية والشعرية  ليُطل على الأساليب البلاغية وأخْيلتها ومعانيها التي بها يعذب منطق الإنسان ويحلو كلامه..، وقد تجلى ذلك في حديث وأسلوب شيخنا المربي الفاضل عبداللطيف بن إبراهيم -رحمه الله -ولقد قرأ على علماء الرياض؛ ومن أبرز مشايخه عمه الشيخ عبدالله بن عبداللطيف، ومحمد بن عبداللطيف، وسعد بن بن حمد بن عتيق، فقرأ عليهم الأصول والفروع والحديث والتفسير والعربية، ولازمهم زمناً، كما لازم الشيخ الفرضي الحاسب عبدالله بن جلعود، وتبحر في علم الفرائض وحسابها عليه فكان المرجع في الفرائض وحسابها، وكان بعض القضاة يحيلون عليه في عمل المناسخات وقسمة التركات، كما قرأ العربية والبلاغة والعروض على الشيخ حمد بن فارس ونبغ في فنون عديدة... وله في الأدب والشعر اليد الطولى، فقد رثى مشايخه بمراثي رقيقة قوية، ومن أشهر مراثيه مرثيته لعمه الشيخ العلامة عبدالله بن عبداللطيف -رحم الله الجميع رحمة واسعة -، فأعماله الجليلة تشهد له تفانيه في حب العمل ونشر العلم وتعليمه لطلابه؛ حيث  جلس للتدريس في مسجد أخيه سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم، فالتف إلى حلقاته كثيرون لا حصر لعددهم..، وكان حَسَن التعليم واسع الاطلاع، وقد تخرج على يديه عشرات العلماء والقضاة نفع الله بهم، ولما فتح المعهد العلمي بالرياض عام 1371هـ عُين مديراً له تحت إشراف أخيه سماحة الشيخ محمد، ثم عُين مديراً عاماً للمعاهد العلمية بالمملكة، ولما افتتحت الكليات ضمت إدارتها إليه فقام بواجب الوظيفة خير قيام على أكمل وجه وأتمه. والواقع أن المعاهد العلمية وكليتي الشريعة واللغة العربية التي كانت نواة مباركة لوجود جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية وفروعها المتعددة في أنحاء المملكة وخارجها؛ قد نفع الله بها، وكانت سبباً قوياً في إنارة الصدور والعقول وتخريج أفواج عدة متتابعة من العلماء والقضاة والمعلمين والمرشدين، بل وكثير من الرجال الأكفاء العاملين في ميادين الحياة عامة.. وقد انعكس ذلك منذ البداية إلى تحسين أوضاع من انتسب إلى ذاك الصرح العملاق مادياً وخلقياً متميزاً.. وما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا.

وكل ذلك بفضل من الله وتوفيقه للمؤسس الأول جلالة الملك عبدالعزيز، ورعاية الملك سعود بن عبدالعزيز، واختيار سماحة المفتي الشيخ محمد بن إبراهيم رئيساً لتلك الجامعة وفضيلة الشيخ عبداللطيف نائباً لرئيس الجامعة والمعاهد ثم مديراً للجميع، -رحمهم الله جميعاً -وكان رحيماً ولطيفاً مع أبنائه الطلبة يشجعهم على الالتحاق بالمعهد عند افتتاحه؛ أذكر جيداً أنه قد أتى إليه طالب تعذرت لجنة القبول عن إلحاقه بالمعهد لصغر سنه فدخل عليه وعيناه مغرورقتان بالدموع قائلاً بكل براءة: "أمي تقول إنك كبير" فما كان منه رحمه الله إلا أن رق له قائلاً "أبشر يا بني" فألحقه مع زملائه، وكان سبباً مباركاً في إسعاد ذلك الصبيّ، فالشيخ عبداللطيف -أبو عبدالله -لين العريكة سهل الجانب لا يهابه طالب الحاجة. ومن ذكرياتي الجميلة التي لا تنسى معه عندما هممت بالزواج في منتصف عام 1375هـ، وأنا طالب بالسنة الأولى بكلية اللغة العربية، حيث طلبت منه إقراضي خمسمائة ريال فاعتذر في بادئ الأمر قائلاً "إن عمارة بيتي الحالي استنفد ما لدي من نقود" فألحّيت عليه في الطلب لحاجتي الماسة معتبراً أنه بمنزلة الوالد فقلت له بهذه العبارة "ولو من مصروف البيت الخاص" فلم ير بدّاً من جبر خاطري:  إذا هززت فاهزز كريماً يلن لهزتك... الخ..

ثم كتب ورقة إلى الأخ الفاضل على بن عبدالله بن خميس المسؤول عن شؤون الطلبة بصرف نفس المبلغ لي فجزاه المولى عني خير الجزاء، ولقد استفدت منه كثيراً أثناء تلقي مبادئ الإعراب على متن الأجرومية مع مجموع من طلبة العلم بعد صلاة فجر كل يوم داخل المسجد وبعد صلاة المغرب في علم الفرائض، فهو مصباح علم منير يُهتدى بعلمه الغزير العذب المتدفق من مخزونه العلمي اللغوي والفرضي خاصة، وكان جليس أخيه العلامة سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم وملازمه يحظر له الدروس ويراجع له المسائل لكون أخيه فاقد البصر - رحمهما الله -فكان لأخيه زميلاً وتلميذاً فحصل له من هذه الملازمة والمراجعة الخير الكثير والعلم الغزير وقد انتفع بعلمه كثير من أهل العلم لقوته في هذين العلمين وحسن تفهيمه وتعليمه كما أن عمله الرسمي لم يعقه عن الأعمال الخيرية مثل إصلاح ذات البين وتسجيل عقود العقارات والمبايعات، وعقود الأنكحة والوصايا، وغيرها من الأعمال الإنسانية والخيرية إلى أن استوفى نصيبه من أيام الدنيا وانتقل إلى دار النعيم المقيم إن شاء الله في اليوم الثالث من شهر شوال عام 1386هـ  بعد حياة طويلة مشرفة وأعمال جليلة لا تنسى ولقد أجاد الشاعر حيث يقول:

يا نور علم أراه اليوم منطفئاً ** وكانت الناس تمشي منه في سُرُج

وبعد وفاته خلفه ابن أخيه معالي الشيخ عبدالعزيز بن محمد آل الشيخ والد وزير الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد معالي الشيخ صالح حفظه الله.. ، ولقد حزن أخوه سماحة المفتي الشيخ محمد حزناً شديداً على وفاة وفقد عضده الأيمن ورفيق دربه منذ صغرهما متلازمين متآلفين قلّ أن يفترقا، وقد علا محياه سحابة حزن وشحوب لا يبرح كل ما تذكر أيامهما الجميلة الحافلة بالسعادة والإبحار في أنهر العلوم الصافية، فلسان حاله كلما خلا بنفسه يردد في خاطره معنى هذا البيت:

أخيين كنا فرق الدهر بيننا ** إلى الأمد الأقصى ومن يأمن الدهرا

فالموجب لتسطير هذه الكلمات الوجيزة ضرب من الوفاء لمعلمي الأول في النحو ولتبقى ذكرى خالدة -تغمده الله بواسع رحمته ومرضاته.

<!--[if !supportFootnotes]-->

<!--[endif]-->

(<!--) أرسلت للنشر في صحيفة الجزيرة، يوم السبت 21 ربيع الآخر 1432هـ الموافق 26 مارس 2011م.

(<!--) نشرت في صحيفة الجزيرة، يوم الثلاثاء 25 صفر 1431هـ الموافق 9 فبراير 2010م.

(<!--) نشرت في صحيفة الجزيرة، يوم الأحد 21 صفر 1433هـ، الموافق 15 يناير 2012م. 

(<!--) نشرت في صحيفة الجزيرة، يوم الثلاثاء 8 ربيع الأول 1433هـ الموافق 31 يناير2012م.

mager22

فقد ورثاء ( عبد العزيز بن عبد الرحمن الخريف )

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 252 مشاهدة
نشرت فى 30 سبتمبر 2013 بواسطة mager22

الأمير الزاهد محمد بن سعود في ذاكرتي(<!--)

 

هنيئاً له قد طاب حياً وميتا *** فما كان محتاج لتطيب أكفاني

الكاتب حينما يتناول قلمه ليخط به شيئاً ما عن مآثر وسير بعض عظماء الرجال أو العلماء الأكابر الذين خلّد التاريخ لهم ذكراً حميداً، وبقيت أسماؤهم محفورة في جدران ذاكرة مجتمعهم ومحبيهم..، فإن القلم قد يستعصي جريانه على أنامل صاحبه، ويصعب تطويعه لتزاحم عدّ أفضالهم وأعمالهم المشرفة وخصالهم الحميدة المعطرة بالثناء فَيَحَار كيف يبدأ..

فمن أولئك الأخيار صاحب السمو والفضيلة الأمير الزاهد محمد بن عبدالعزيز بن الإمام سعود بن الإمام فيصل آل سعود الذي ولد -رحمه الله-في حائل عام 1313هـ ونشأ فيها يتيماً، ثم ذهب مع أخيه الأمير سعود (الملقب الكبير) إلى مكة المكرمة فوضعهما شريف مكة المكرمة -آنذاك-تحت الإقامة الجبرية لكن الأمير سعود  تخلص بحيلة من ذلك الأسر.. ثم تبعه أخوه محمد، وقدم الأمير محمد على الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه-وهو في غزوة (جراب) ففرح به وأرسله مع ابنه الملك سعود -رحمهم الله جميعاً-وقد بدأ الأمير محمد في طلب العلم والتعلق به في عام 1333هـ عندما كان مرافقاً للملك عبدالعزيز في توحيد المملكة، فقد لاحظ الأمير المشايخ: محمد بن عبداللطيف آل الشيخ ومحمد بن عبدالعزيز آل الشيخ وغيرهم يقرؤون القرآن الكريم حفظاً عن ظهر قلب، فأصبح ذلك حافزاً له في حفظ القرآن الكريم، ثم حفظ بعض المختصرات أهمها متن كتاب التوحيد وكشف الشبهات، ومتن العقيدة الواسطية، وبقية المتون المعروفة، واستمر في اقتناص العلوم والتزود منها، وقرأ على الشيخ سعد بن عتيق قاضي الرياض -آنذاك-وحضر دروسه، ثم قرأ على مفتي الديار السعودية سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم ولزم دروسه مواظبا عليها، وكان الشيخ محمد يعرف له مكانته، ويجيب على أسئلته بالتفصيل مما يفيد جميع الحاضرين..، ولقد سعدتُ بتلقي مبادئ في العلم عامي 69/1370هـ على يد سماحة الشيخ محمد -بعد فراغنا من مجلس فضيلة الشيخ عبداللطيف بن إبراهيم عقب صلاة فجر كل يوم -وكنت أرى سمو الأمير محمد الزاهد يجلس بجانب الشيخ، ويستمع بإنصات لما يتفوه به من شروحاتٍ وإيضاحاتِ ما يَدُورُ في تلك الحلقات المباركة الحافلة بحضور جموع غفيرة من طلبة العلم في شرقي مسجده، وبعد طلوع الشمس بقليل يتجهون إلى منزل سماحة الشيخ لمواصلة ما تبقى من علوم وشرحها أو السَّماع لبعض كتب المطولات المعروفة..، ولقد تروى سموه من حياض العلوم النافعة في تلك الجلسات.. وكان -رحمه الله -قد خصص درساً يومياً لتدارس العلم في بيته من بعد صلاة الظهر إلى قُبيل صلاة العصر، وقد اختار أحد طلبة العلم وهو الشيخ فهد بن عبدالرحمن الحمين لملازمته حضراً وسفراً لأكثر من ثلاثين عاماً، فكان يقرأ عليه ويتباحثان ويتذاكران العلم.. وقرأ عليه الشيخ فهد كتباً عظيمة مثل "جامع البيان" وهو تفسير ابن جرير الطبري والذي يُعد  من أجمع كتب التفسير بالمأثور وأغزرها فائدة، وقد تكوَّن لدى الأمير محمد إلماماً شاملاً بكتب العقيدة السمحة والتوحيد وكتب الفقه، بل وبكتب السير والتاريخ ..، فجُل وقته في مدارسة العلم والتعبد وملازمة المسجد.. كما أنه مديم على الحج كل عام منذ دخل الملك عبدالعزيز – رحمه الله – مكة المكرمة حتى توفاه الله  وقد بلغ التسعين، بل إنه لا ينيب أحدا في شيء من أعمال الحج رغم كبر سنه حتى رمي الجمار، وعندما حج عام 1401هـ رأى زحمة شديدة في النَّفرة من عرفات فمشى على قدميه، وذكر عبدالرحمن بن جمعان وهو أحد ملازميه فترة طويلة أنه في أحدى عمره طاف بالبيت تطوعاً ثم صلى ركعتين ثم طاف وصلى حتى تعب أبناؤه معه، وقالوا نحن نطوف بأرجلنا وهو يطوف بقلبه – رحمهم الله جميعاً -، بمعنى أنه يتلذذ بالعبادة ويأنس لها قلبه وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، وكان يقف بعرفة خلف الصخرات ميمماً وجهه الطاهر نحو القبلة كل عام متضرعاً في دعائه راجياً المولى أن يتقبل حجه ويضاعف له الأجر والمثوبة، ولقد سعدت برؤيته والسلام عليه في ذاك المكان الطاهر أربع سنوات متتابعة في أوساط الثمانينيات الهجرية، وكان بجانبه نجله الأكبر سعود – متعه الله بالصحة والسعادة – والشيخ فهد بن عبدالرحمن بن حمين – رحمه الله-كما لا أنسى توقف سيارته بجانبي في عام من الأعوام .. رحمه الله -حينما رأني أسير في شارع "الجودرية.. الغزة " محاذيا سوق الليل بمكة المكرمة وهو في طريقه إلى المسجد الحرام، فسألني عن والدي بحفاوة الذي هو بمنزلة  الزميل له لدى بعض المشايخ.. وحملني السلام إليه، وكانت له مع والدنا الشيخ العالم الجليل عبدالرحمن بن محمد الخريف علاقة أخوية ودّية منذ حضورهما بمجالس وحلقات تلقي العلم لدى الشيخ سعد بن عتيق قاضي الرياض -آنذاك-وهو يعتبر بمنزلة الزميل – رحم الله الجميع ..، فنمت بينهما علاقة المحبة  في الله وتبادل الزيارات والرسائل معاً إلى أن فرقهما هادم اللذات..، أذكر أنه  قد زار والدنا في منزله بحريملاء عام 1381هـ أما آخر الرسائل التي جرت بينهما فقد وردت إلى الوالد في 5/7/ 1382هـ ولازلت محتفظاً بها، أملا نشرها إن أمكن بجانب هذه الكلمة عن سيرته العطرة – رحمه الله -، ومن زهده أنه يعيش عيشة عامة الناس في الهيئة والمسكن ، ويذهب ويجيء دون حرس أو شارة توحي بنسبه ومكانته تواضعاً لله ، واقتدى بسيد الخلق عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم ، بل إنه مكث ببيت من الطين حتى عام 1399هـ ولم يخرج منه حتى عزم عليه الملك فهد – رحمه الله – وأهداه بيتاً كبيراً من بيوته في غرب مدينة الرياض، ومعروف عنه أنه لا يطلب شيء من الدنيا، وسبق أن عرض عليه الملك خالد – رحمه الله –  بيتاً في الطائف فلم يقبل زهداً منه، وفي سنة من السنوات خرج الملك عبدالعزيز كما هي عادته للحجاز في رمضان وخرج في وداعه كبار العائلة المالكة، وافتقد الملك الأمير محمد وعلم أنه معتكفا في المسجد، فقال هو حقيق أن نذهب إليه ونودعه، فذهب وقت العصر فإذا الأمير فرغ من تلاوته فأخذته غفوة ليرتاح، فإذا هو يشعر بريح طيب جميل وهو يقبل ما بين عينيه ففتحهما فإذا الملك عبدالعزيز قد جاء يودعه لما علم أنه لا يستطيع الخروج لاعتكافه – رحمهم الله جميعاً – ولا ريب أن هذا الفعل من الملك عبدالعزيز يدل على تواضعه الجم، وعلى حسن سيرته وسريرته وتعامله مع ذويه وأهله:

وأحسن أخلاق الفتى وأجلها ***  تواضعه للناس وهو رفيع

أما تلاوة القرآن الكريم فقد كان يقضي غالب وقته في عرضه ومراجعته هو والشيخ فهد بن حمين حتى يختمانه، وكان يختم في الشهر مرتين، ومن حرصه على فعل الخير أن يسر الله له ما تمناه لما ذهب إلى لبنان للعلاج عام 1382هـ حرص كل الحرص على الصلاة في المسجد الأقصى فيسر الله له ذلك ، وصلى به الظهر والعصر جمعاً، وكان – رحمه الله – ناصحاً صادقَ النَّصيحة، آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر يحث كل من عرف على الخير..، وهذا جانب رائع في حياة الأمير تميز به دون غيره ممن هو على مثل حاله، ذلكم هو الزهد والورع فقد شهد له بذلك كل من عرفه أو خدمه وعاشره – تغمده الله بواسع رحمته كما أنه لا ينسى حق نفسه في مواسم الربيع، ومواسم الصيد والقنص والرماية وركوب الخيل، وكأنه قد وعى قول المتنبي الذي يحض على إعطاء النفس حضها ونصيبها مما يريحها ويجدد نشاطها بقوله:

ذَرِ النّفسَ تأخذ وسعها قبل بينِها*** فمفترق جاران دَارهُما العُمُرُ

وقد توفي الأمير محمد – رحمه الله – عام 1404هـ اثر مرض ألم به وأم الناس بالصلاة عليه سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز – رحمه الله – وقد رُثيَ الفقيد بمراثي كثيرة منها مرثية لأحد أحفاده النجباء ( من الشعر الشعبي ):

يا بوي ما توفيك زرق الدموع *** ولا مشاعر خاطري واحتدامه

وحينما علمتُ بوفاته الساعة الواحدة والنصف ظهراً شخصتُ إلى مدينة الرياض لأداء الصلاة عليه، والسير خلف جثمانه الطاهر حتى أضجع في جدثه بالجانب الشمالي الشرقي بمقبرة العود – ملتقى الراحلين -، وقد استقيتُ جزءً من هذه الكلمة الوجيزة جداً من أحد المواقع الالكترونية... وقد حزن الجميع عليه حزناً شديداً داعين المولى أن يحسن وفادته، ويتغمده بواسع رحمته.

<!--[if !supportFootnotes]-->

<!--[endif]-->

(<!--) نشرت في صحيفة الجزيرة، يوم الأحد 14 ذوالقعدة 1433هـ الموافق 30 سبتمبر2012م.

mager22

فقد ورثاء ( عبد العزيز بن عبد الرحمن الخريف )

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 168 مشاهدة
نشرت فى 30 سبتمبر 2013 بواسطة mager22

 المحتويات

التسلسل

المـوضــوع

الصفحـة

*

 فهرس المحتويات

أ

*

مقدمة المؤلف

هـ

<!-- 

تقديم

ح

<!-- 

لم ترحل رفيقة عمري

1

<!-- 

سلطان الإحسان غاب عنا

8

<!-- 

درع الوطن نايف بن عبدالعزيز إلى رحمة الله

14

<!-- 

رحم الله سمح المحيا الأمير سطام بن عبدالعزيز

17

<!-- 

الامير الزاهد محمد بن سعود في ذاكرتي

21

<!-- 

علي بن محمد الشدي والذكر الجميل

29

<!-- 

أخي محمد في ذاكرة الزمن

33

<!-- 

سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم ذكراه ساكنة بين جوانحي

37

<!-- 

الشيخ عبداللطيف بن إبراهيم نهر علم وسماحة خلق

43

<!-- 

الشيخ عبدالله بن حُميد كوكب غاب عن الوجود

49

<!-- 

غربت شمس رائد من رواد الأدب والمعرفة (السفير/ أحمد بن علي المبارك رحمه الله)

55

<!-- 

وجيه من الأحساء غيب في الثرى (الشيخ محمد بن عبداللطيف آل مبارك " أبو قيس" رحمه الله)

60

<!-- 

معالي الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن حسن آل الشيخ في ذاكرة الزمن

63

<!-- 

الأستاذ حسن بن عبدالله آل الشيخ حبه باق بين جوانحي

69

<!-- 

إلى جنة الخلد أبا محمد (الأخ عبدالله بن بدر البدر)

73

<!-- 

إلى دار النعيم أبا علي الهديان

77

<!-- 

رحم الله الشيخ سليمان الحناكي

81

<!-- 

شيخ العطاء والإحسان مضى لسبيله (الشيخ صالح بن مطلق الحناكي رحمه الله)

85

<!-- 

الشيخ عبدالعزيز المساعد والذكر الجميل

88

<!-- 

الخطاط العبدان إلى رحمة الله

93

<!-- 

القاضي عبدالرحمن بن سعد ... مواقف لا تنسى

98

<!-- 

الشيخ فيصل بن عبدالعزيز المبارك منارة علم

105

<!-- 

الأستاذ عبدالله القعيد وحلاوة الأيام

111

<!-- 

الأستاذ عبدالرحمن الناصر إلى دار المقام

115

<!-- 

رحمك الله يا أبا عبدالرحمن (الفقيد/ عبدالله بن عبدالرحمن بن سعد الداود رحمه الله)

120

<!-- 

مضى لسبيله بحر العلوم (الشيخ الزاهد عبدالله بن عبدالرحمن الغديان رحمه الله)

124

<!-- 

ذكرياتي مع عبدالله بن سعيدان باقية في ضميري

130

<!-- 

عبدالله بن محمد المشعل وذكريات الطفولة

134

<!-- 

رحمك الله يا أم عبدالرحمن (سارة بنت محمد بن ناصر العمراني رحمها الله)

138

<!-- 

كان الله في عونك أيها الصبي المفجوع (الصبي خالد بن وليد الهويشل)

142

<!-- 

الفايع أهاج لي الذكريات مع زميلي محمد الفواز

146

<!-- 

ورحل ذو الوزارات وفارس القوافي(الدكتور غازي بن عبدالرحمن القصيبي رحمه الله)

151

<!-- 

أنجال الزميل الخليوي أهاجوا لي الذكريات

156

<!-- 

الأستاذ المبارك (أبو هشام) ذكرى باقية

161

<!-- 

رحمك الله أبا إسماعيل (الأخ إبراهيم بن عبدالله الزريعي رحمه الله)

166

<!-- 

إلى رحمة الله أيها الجليس الأنيس (الأخ إبراهيم بن عبدالله الشبانات رحمه الله)

170

<!-- 

الصديق حمد بن عبدالرحمن المبارك وسيرته الحسنه

173

<!-- 

الشيخ سعد بن داوود غاب عن أحبابه

178

<!-- 

الشيخ عبدالرحمن بن محمد المبارك وأريج ذكره الطيب

182

<!-- 

رحم الله أبا ناصر العجلان

188

<!-- 

الشيخ صالح الراجحي لاقى وجه ربه

192

<!-- 

الأستاذ عصام بن عبدالله بن خميس إلى رحمة الله

196

<!-- 

رحم الله الصديق الشيخ حمد بن محمد الداوود

200

<!-- 

رحم الله الأستاذ عبدالرحمن العميري

204

<!-- 

الشيخ عبدالله بن شلاش الشلاش

208

<!-- 

وغابت ندية الكف (هيا بنت إبراهيم العمراني رحمها الله)

213

<!-- 

الشيخ عبدالله بن خميس نجم أفل (المقالة الأولى)

216

<!-- 

الشيخ عبدالله بن خمس والذكريات الجميلة (المقالة الثانية)

222

<!-- 

سلوى آل الشيخ إلى رحمة الله

227

<!-- 

محمد بن ناصر المبارك رائد الحركة العلمية بحريملاء

230

<!-- 

رحم الله الصديق عبدالله الخريجي

236

<!-- 

الشيخ الغانم أناخت به ركابه في ملتقى الراحلين

241

<!-- 

الصديق محمد المشعل إلى رحمة الله

246

<!-- 

الشيخ عبدالله بن عقيل أفل نجمه

251

<!-- 

أبو دلامة الثاني إلى رحمة الله (الفاضل/ محمد بن ضيف الله الوقداني رحمه الله)

255

<!-- 

ورحلت طيبة الذكر (أم حمد الثاقب)

260

<!-- 

الشيخ سعد المبارك توارى عن الوجود وبقى ذكره الطيب

264

<!-- 

رحم الله الزميل محمد بن أحمد العثيمين (أبو أحمد)

268

<!-- 

ورحل طيب السجايا (الفاضل/ عبدالله بن الشيخ محمد بن فيصل آل مبارك)

273

<!-- 

رحم الله معالي الشيخ صالح الحصين

277

<!-- 

ورحل ابن عمي وصديقي الشيخ عبدالرحمن بن عبدالله الخريف

281

<!-- 

خاتمة بقلم الشيخ ناصر بن محمد بن عبدالرحمن الخريف

286

<!-- 

ملاحق الكتاب

293-331

<!-- 

ملحق رقم (1)

كلمات نشرت في (رفيقة عمري رحمها الله)

293-300

<!-- 

ملحق رقم (2)

نماذج كلمات نشرت حول إصدار كتاب فقد ورثاء (الجزء الأول)

301-318

<!-- 

ملحق رقم (3)

نماذج خطابات بشأن إصدار الجزء الأول من كتاب (فقد ورثاء)

319-331

<!-- 

ملحق رقم (4)

كشاف الأبيات الشعرية

332-345


مقدمة المؤلف

بسم الله الرحمن الرحيم

 

نبكي على الدنيا وما من معشر **  جمعتهم الدنيا فلم يتفرقوا

الحمد لله والثناء لوجه الكريم، وصلى الله وسلم على سيد المرسلين نبينا محمد بن عبدالله وصحبه الكرام، أما بعد فهذه الكلمة الوجيزة مقدمة لكتابنا الجزء الثاني "فقد ورثاء" الذي يضم بين دفتيه عدد من مشاعر التأبين والرثاء تبلغ أكثر من ستين مرثية متضمنة التنويه بمآثر ومحاسن من غابوا من أباء وأبناء وأقارب وزملاء ومعارف كثر أودعوا باطن الأرض رجالاً ونساء، فأنقطع التواصل بيننا وبينهم وساد السكون والوحشة مساكنهم:

أناديهم والأرض بيني وبينهم  **  ولو سمعوا صوتي أجابوا فأسرعوا

ومعلوم أن أبواب الرثاء لها الصدارة  بين أغراض الشعر المتعددة للإجماع على تأثيره للنفوس لأنه يصدر من الأعماق ومن عصارات المهج والقلوب فتفوح به قرائح الشعراء المكلومين بفقد غاليهم من آباء وأبناء وإخوة وزوجات، وأحبة، وغير هؤلاء ممن يعزّ على النفوس فراقهم، فهادم اللذات ومفرق الجماعات هو المحرك الأقوى لما تجيش به نفوس الشعراء فتخال حرارته تُلامس جوانب القلب فهو أصدق تعبير وتأس وتفجع على فقد غائب لا يرجى إيابه..

كم من جميع أشت الدهر شملهم ** وكل شمل جميعٍ سوف ينتثر

كما أن الديار والمدن والفلوات رحبة الجوانب لها النصيب الأوفر من الرثاء والتغني بها وبكاء الأطلال وذكر من أقاموا بها أحقابا من السنين ثم أبادتهم صروف الدهر وكأنهم لم يعمروها ولم يسيروا في نواحيها..

وطال ما عمروا دار لتحصنهم ** ففارقوا الدور والأهلين وارتحلوا

أضحــت منازلهم قفراً معطلة ** وساكنوها إلى الأجداث قد رحلوا

وهكذا الدنيا نزول وارتحال ، إلى قيام الساعة..

وموضوع كتابنا هذا يكاد يكون واحداً في مسماه إلا أن محتواه يضم رثاء لقريب أو عالم جليل أو صديق، فإن فقد مثل أولئك محزن ووقعه على القلوب موجع جداً وقد يطول مكثه في النفوس وبين الجوانح زمناً طويلاً:

وكل مصيبات الزمان وجدتها*** سوى فرقة الأحباب هينة الخطب

فالقارئ الكريم يدرك أثناء تصفحه ما كتب عن كل راحل من تشابه وتكرارِ في بعض العبارات والشواهد الشعرية لاشتراكهم في الصفات الحميدة وفي الأعمال الجليلة.. ، التي لا مناص للكاتب من ذكرها لتطابقها في سير الكثير من أولئك الراحلين، وما تركوه من آثار طيبة تخلّد ذكرهم ويحفظها التاريخ لهم على تعاقب الملوين (1).

والواقع أن الجزء الأول الذي صدر في عام 1431هـ  وبعض كلمات هذا الجزء الثاني قد كان لها صدى مؤثر في نفوس الكثير، كما يطيب لي تضمين هذا الجزء بالمقدمة التي أفاض بها قلم معالي الدكتور عبدالعزيز بن عبدالله الخويطر في صدر الجزء الأول، والشكر موصول للأبن الشيخ/ ناصر ابن الاخ محمد بن عبدالرحمن الخريف الذي أختتم هذا الكتاب بكلمته الضافية، وإن كانت حافلة بالمبالغة والإطراءـ هداه الله وأصلح عقبة ـ  ونعتبر جميع ما كتبناه من كلمات التأبين والمراثي ضرب من الوفاء والحزن على غيابهم عنّا

mager22

فقد ورثاء ( عبد العزيز بن عبد الرحمن الخريف )

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 378 مشاهدة
نشرت فى 30 سبتمبر 2013 بواسطة mager22

P

ﭽ ﮞ  ﮟ  ﮠ  ﮡﮢ   ﮣ  ﮤ  ﮥ  ﮦ  ﮧﮨ  ﮩ  ﮪ   ﮫ  ﮬ   ﮭ  ﮮ  ﮯ  ﮰﮱ  ﯓ  ﯔ  ﯕ      ﯖ  ﯗ  ﯘ  ﯙ  ﭼ

صدق الله العظيم

 

(آل عمران:185)

mager22

فقد ورثاء ( عبد العزيز بن عبد الرحمن الخريف )

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 152 مشاهدة
نشرت فى 30 سبتمبر 2013 بواسطة mager22

عبدالعزيز بن عبدالرحمن الخريف

 

 

 

فقدٌ ورثاءٌ

( مراثٍ تحوي شوارد وشواهد مختارة)

 

 

 

الجزء الثاني  

1434هـ  - 2013م

 

الرياض

mager22

فقد ورثاء ( عبد العزيز بن عبد الرحمن الخريف )

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 142 مشاهدة
نشرت فى 30 سبتمبر 2013 بواسطة mager22

عبد العزيز بن عبد الرحمن الخريف

mager22
عبد العزيز بن عبد الرحمن الخريف **** ولد ونشأ في حريملاء , 80كم شمال غربي مدينة الرياض . درس في حلقات العلم على المشايخ بالرياض . بدأ الدراسة النظامية بدار التوحيد بالطائف 1371 - 1372 هـ . أنهى التعليم الثانوي بالمعهد العلمي بالرياض عام 1374 هـ . كلية اللغة العربية »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

30,356