الصديق محمد المشعل إلى رحمه الله (<!--)
حبيب عن الأحباب شطت به النوى *** وأي حبيب ما أتى دونه البعد
بعض بني البشر يسير في هذه الحياة دالهاً مغتبطاً ومسروراً بمن حوله من أهل وأبناء وبنات ورفاق درب وجيران كرام ، وقد يطري عليه ما يكدر خاطره، ويعكر صفو حياته، ومثل أولئك صديقي وحبيبي محمد بن إبراهيم المشعل (أبو عبدالعزيز) الذي عانى من بعض الأمراض بعد أن تمتع بصحة عامة... ، ففي البداية أحس وشعر بشيء ما بداخله يدب ببطء يصاحبه بعض الوخزات، فظل ذاك الهاجس في نفسه يساوره منغصاً صفو عيشه وراحته، ولم يطلع أحداً على ذاك تهاوناً ومترقباً حضور المختبئ في ضمير الغيب:
لا طيب للعيش ما دامت منغصة *** لذاته بادكار الموت والهرم
ثم رحل عنا حيث تزامن طلوع شمس يوم الأربعاء
24/9/1432هـ من خدرها مع خروج روحه من جسده الطاهر إيذاناً بأنه قد استوفى نصيبه من أيام الدنيا ولياليها تاركاً وراءه ذكرا حسناً وسمعة طيبة عطرة لما يتحلى به من خصال حميدة ولطف ودماثة خلق، وصدق مع الأخرين، وقد عرف عنه ذلك، فهو محبوب لدى جلسائه وعارفيه، وبحبه للبذل في أوجه البر والإحسان للمحتاجين من أرامل وأيتام، والمساهمة في بناء المساجد في محافظة حريملاء، وغالباً ما يكون البذل محاطاً بسرية لعلمه بمضاعفة الأجر في مثل ذلك.. ، ومن صفاته الحميدة التسامح مع من يتعامل معه، حيث كان هو وشقيقه حمد يعدان من كبار رجال الأعمال والمقاولات المعمارية، وتأمين الكثير من مواد البناء لبعض الشركات العملاقة في مدينة الرياض وغيرها....، فهما يملكان أسطولاً مميزاً من المعدات الثقيلة الفخمة متعددة الأحجام، ولم يعهد عنه أي خلاف مع عملائه وعماله طيلة حياته الحافلة بالصدق والإخلاص في أداء ما يوكل إليه من إنجاز الأشياء العامة والخاصة، وبالتودد والتحبب إلى الناس وإدخال البهجة والسرور في نفوسهم، وما يتفوه به من أحاديث شائقة وطرائف تؤنس صحبه، كما أنه لا يتردد في إقراض من يؤمه من المحتاجين من أصدقاء وأقارب، بل قد يتنازل عن سداد الكثير من المال إذا علم بإعسار ا لقريب من أسرته وأبناء عمومته.. احتساباً لمضاعفة أجره ومراعاة لظروفه القاسية، متذكراً قول الشاعر:
وإذا رزقت من النوافل ثروة *** فامنح عشيرتك الأداني فضلها
فهو (يرحمه الله) قد عاش في بيئة تراحم وتواصل بين أسرة آل مشعل، وحبهم للبذل لذوي الأرحام والقرباء رجالاً ونساء، ولقد ولد (أبو عبدالعزيز) في مدينة حريملاء هو وشقيقه حمد وشقيقتهما منيرة (يرحمها الله) فباكرهم اليتم برحيل والدتهم وهم صغار، وعاشوا في طفولتهم يكابدون وحشة الفراق والحرمان من حنان الأمومة وعطفها عليهم، وعندما كبروا رحلوا إلى مدينة الرياض فحسنت حالهم (كما أسلفنا آنفاً) فالله سبحانه خير خلف عن كل فائت، كما أن والدة الشيخ حمد بن إبراهيم المشعل (أبو إبراهيم إمام الملك سعود يرحمه الله) قد خففت عنهم وطأه الحزن والحرمان برعايتهم واحتضان شقيقتهم منيرة حتى كبرت وانتقلت إلى عش الزوجية. ولي مع (أبو عبدالعزيز) ذكريات جميلة ما تزال ماثلة وباقية في طوايا نفسي، حيث جمعتنا به رحلة حج في أوائل الثمانينات على متن حافلة كبيرة مع عدد من الحجاج يربو عددهم على أربعين حاجاً، وكلنا في صندوق السيارة متلاصقين فرحين رغم ضيق الصندوق ووعورة الطريق وبعد المسافة ما بين نجد والحجاز ومكة المكرمة -آنذاك -لعدم وجود طرق ممهدة ومسفلته، فكان محمد المشعل (أبوعبدالعزيز) يتصف بالشهامة والنشاط المستمر في خدمة رفاق الرحلة المباركة، وعند توقف السيارة يهب إلى الاحتطاب وجمع ما يكفي لإعداد وجبات الطعام والقهوة، ثم يتجه إلى موارد الماء ويشارك في نزحه بالدلاء حتى تملأ القرب بالماء من الآبار التي أمر جلالة الملك عبدالعزيز (طيب الله ثراه) بحفرها في عدد من المحطات والهجر التي كان يمر بها سنوياً صوب الحجاز ومكة المكرمة، فينتفع بها جميع من يمر بها من المسافرين والحجاج بدءاً من مدينة مرات مروراً بالدوادمي ثم (عفيف) (الدفينة) (المويه)....، كما أن شقيقته منيره (رحمها الله) التي تطوع هو بالحج بها محل احترام رفيقاتها لقيامها بخدمة ومساعدة الكبيرات منهن، والواقع أننا قد أوشكنا أن نخرج عن الموضوع بالاسترسال في عد محاسنه.. ولكن ذكريات أيام الحج لها نكهة ومكانه خاصة في النفوس، ولكن الذي حز في نفسي وأبكاني ما ذكر عن صديقه ابن عمه الشيخ مشعل بن عبدالرحمن البصير الذي لا يبصر حينما خرج من العناية المركزة وهو في حالة من الإعياء والتعب قائلاً: اذهبوا بي لزيارة ابن عمي محمد الذي يعيش في حالة شبه حرجه... ، وعندما وصل إليه أخذ بيده يتحسس جبينه ليلقي عليه قبله كانت هي الوداع الأخير, فلما أبصره وعرفه أجهش بالبكاء مقدراُ مجيئه له ومتحسراُ على فراقه بل كلاهما بكى بكاء مراً فأبكوا من حولهما فلم يمض على ذاك الموقف المشحون بالحزن والأسى سوى ثلاثة أيام أو أقل، ثم رحل إلى دار البقاء، ولقد أجاد الشاعر الشيخ عبدالله بن خميس -رحمه الله -في تصوير مثل هذا الموقف المشحون بالأسى حيث يقول:
حناناً لكما فيما طويتم جوانحاً *** عليه وعطفي يا وحيد ورحمتي
تغمده الله بواسع رحمته ، والهم أسرته وأخويه حمد وعبدالرحمن وأبناءه وبناته وعقيلته أم عبدالعزيز ومحبيه الصبر والسلوان.
الشيخ عبدالله بن عقيل أفل نجمه (<!--)
خلـــفت في الدنيــا بيانا خالدا *** وتركت أجيالا مــــن الأبنــاء
وغدا سيذكرك الزمان ، ولم يزل *** للدهر إنصاف وحسن جزاء
غياب العلماء والأدباء يحدث فراغا وفجوة واسعة في الساحة العلمية والأدبية، ففي هذا الزمن توالت قوافل الكثير من كبار العلماء الأجلاء إلى مضاجع الراحلين المعروفين بسعة الأفق والتروي من حياض العلوم النافعة عذبة المصادر، فمن أولئك فضيلة الشيخ عبدالله بن عبدالعزيز بن عقيل العقيل الذي غادر الحياة الدنيا بمدينة الرياض يوم الثلاثاء 8/10/1432هـ -رحمه الله -، وقد أديت عليه صلاة الميت بعد صلاة عصر يوم الأربعاء 9/10/1432هـ بجامع الملك خالد بأم الحمام، ولقد حزن عليه الكثير من تلاميذه وأسرته ومحبيه، بعد حياة طويلة حافلة بالعلم وتعليمه، وبالأعمال المشرفة في عدد من المواقع..، ولقد ولد بمدينة عنيزة إحدى كبريات مدن القصيم عام 1335هـ تقريبا، حيث قارب عبور -الهنيده-أو هو قد تربع عليها، سليم الحواس، قوي الذاكرة سلس المنطق حتى قبيل رحيله من الدنيا، فالله سبحانه يحمي حامل القرآن في صدره من الخرف والهذيان تكريما له، وذلك بمشيئة الله جلت قدرته، ولقد أحسن الشاعر حيث يقول:
إذا طال عمر المرء في غير آفة *** أفادت له الأيام في كرها عقلا
وقبيل إلحاقه بإحدى الكتاب بمهوى رأسه بدت عليه ملامح ومخايل الذكاء والفطنة رغم صغر سنه مما أفرح والديه وجعلهما يتفاءلان له بالخير والسعادة في قابل عمره:
بمولودهم صمت اللسان كغيره *** ولكن في أعطافه منطق الفصل!
ولذا استعجلوا في إلحاقه لتعلم الكتابة والقراءة وحفظ كلام الله، فلم يمض عليه سوى سنوات قصيرة حتى حفظ القرآن الكريم كاملا مجودا، علما أنه تربى في بيت علم وأدب فأخذ مبادئه على يد والده وعلى عمه عبدالرحمن قاضي جازان – آنذاك -حيث شخص له في مقر عمله هناك رغم بعد المسافة الشاسعة ووعورة الطريق وندرة المواصلات، ولكن ذلك لم يفت في عزمه ليحقق آماله وطموحاته المشرفة:
بوركت يا عزم الشباب وقدست *** روح الشجاعة فيك والإقدام
فمكث عنده فترة طويلة يتلقى العلم، وحفظ مجموعة من المتون في التوحيد والفقه والحديث وعلم الفرائض والنحو، وبعد عودته من رحلته العلمية المباركة أخذ يحضر مجالس علماء بلده أمثال الشيخ العلامة عبدالرحمن السعدي وغيره من علماء القصيم - رحمهم الله جميعا- ثم شخص إلى مدينة الرياض فقرأ على أشهر العلماء بها – آنذاك -بتوسع أهله أن يعمل في سلك القضاء مبكرا، حيث عين قاضيا في مدينة عنيزة بعد الشيخ عبدالرحمن بن علي العودان في الفترة من 1370/1375هـ ثم عاد إلى مدينة الرياض مرة ثانية وعين عضوا بدار الإفتاء، فتدرج في عمله، وأخيرا رئيسا للهيئة الدائمة لمجلس القضاء الأعلى – رحمه الله -، فحياته كلها علم وعمل مشرف:
وأحسن الحالات حال امرئ *** تطيب بعد الموت أخباره
يفنــــى ويبقى ذكره بعده *** إذا خلـــت مــن شخصه داره
ولقد سعدت بمعرفته عن قرب في أثناء زيارتي لشقيقي الراحل عبدالله بدار الإفتاء وهو في ذروة عمره وصحته يملأ العين هيئة ولطفا، حيث كان الشيخ عبدالله عضوا بارزا بها -كما أسلفنا آنفا -وقبل وفاته بعامين تقريبا تجدد اللقاء به في مزرعة فضيلة الشيخ إبراهيم بن عبدالله العجلان قاضي تمييز بالرياض سابقا، وكان ضيفا عنده فما كان من الشيخ عبدالله -يرحمه الله -إلا أن دعا الحضور لتناول طعام الغداء بعد أسبوع أو أسبوعين في نفس مزرعة الشيخ إبراهيم بالقرينة مراعيا ظروف الحضور ولأجل الاستمتاع بالخضرة وفسائل النخيل المغطية مساحات واسعة من الأرض، فهو كله كرم ولطف وأدب جم رفيع يحفظ جيد الأشعار ويفيض على صحبه من جيد الحكم والأمثال ليؤنسهم ويشحذ هممهم للمشاركة، وعلى أي حال فإن هذه الأسطر القليلة لا تفي بالتنويه عن ذكر سيرة -أبو عبدالرحمن - العطرة بحسن الثناء:
ثناء الفتى يبقى ويفنى ثراؤه *** فلا تكتسب بالمال شيئا سوى الذكر
فقــد أبلت الأيـــام كعبا وحاتما *** وذكرهمــا غض جـــديد إلى الحشر
رحمه الله رحمة واسعة، وألهم ذويه، وأبناءه، وبناته، وزوجاته، ومحبيه الصبر والسلوان.
أبو دلامة الثاني إلى رحمة الله (<!--)
(الفاضل / محمد بن ضيف الله الوقداني رحمه الله)
إلى الله أشكو لا إلى الناس فقده ** ولوعة حزن أوجع القلب داخله
جميل جدا أن يعيش المرء في هذه الدنيا محبا ومحبوبا لدى إخوته وأقرانه، ومع أسرته ومحبيه متصفا باحترامهم، ومتمتعا بالآداب الحسنة، ولين الجانب طيب المعشر، فإن الأذان تطرب لسماع حديثه أو التحدث عنه، والألسن تستعذب ذكره في كل مناسبة..، فإن خطر على البال خياله وشخصه سر وإن بعد مكانه، وهذا من نعم المولى على كل إنسان يتصف بهذه الصفات الحميدة، ونحمد الله أن هذه الصفات مجتمعة من سمات الصديق الشاعر الفكه الأستاذ الفاضل / محمد بن ضيف الله الوقداني (أبو عادل) وشهرته أبو دلامة، الذي رحل عنا يوم عيد الفطر المبارك لهذا العام 1432هـ ، فبينما كنت مسرورا بحلول العيد السعيد مع مجموعة من الأصدقاء والمعارف نتبادل التهاني والتبريكات إذا برنين الهاتف يحمل نبأ وفاة علم عال من أعلام الشعر الفصيح بمدينة الطائف أولى المصائف الجميلة، حيث تكرر إعلامي وتعزيتي في وفاة صديقنا الأستاذ / محمد بن ضيف الله الوقداني من قبل الزملاء الأفاضل: محمد وصل الله الثبيتي، عبدالله بن عبدالرحمن السلامة، عبدالرحمن بن سعود العجاجي، وكل أولئك الأحباب من زملاء الدراسة بدار التوحيد وقد حزنت على رحيله وبعده عن أحبابه وزملائه حيث كان علماً بارزا بالساحة الأدبية، وكان دوما يتغنى بمحضنه -أم المدارس دار التوحيد – متذكرا أيام الدراسة الحلوة بها والشمل جامع له مع زملائه في تلقي العلم وحلو رضابه على أيدي مشايخه النخبة المختارة من فطاحل علماء الأزهر الذي عنى الشاعر أمثالهم بقوله:
قم في فم الدنيا وحيي الأزهرا ** وأنثر على سمع الزمان الجوهرا
ويحسن بي أن أذكر بعض أبيات القصيدة التي قالها بمناسبة الحفل بمرور خمسين عاما على إنشاء دار التوحيد بالطائف قالها متحسرا على إنهاء الدراسة بها، وإسدال ستار النسيان عليها:
الدار قد ودعت عهدا به افتخرت ** ودق في نعشها المحمول مسمار
في ما مضى كنت لا أحصي محاسنها ** ويشرح الصدر آداب وأسمار
خمســـون عاما مضت والدار زاخرة ** تفيض علما ونبع العلم زخار
ويقول الآخر:
خمســـون عاما قد تولت كأنها ** حلوم تقضت أو بروق خواطــف
ولقد ولد الأستاذ الكبير / محمد بن ضيف الله الوقداني (أبو دلامة) بمدينة الطائف وعاش في ربوعها بين أحضان والديه ورفاق دربه من أطفال جيله، ولقد أثرت في حياته الشعرية هاتيك المناظر الجميلة مناظر الطبيعة الخلابة والبساتين الحافلة بأزهار الورود الفواحة، وأنواع الفواكه لذيذة الطعم والمأكل الذي عاش على مقربة منها، ومن أبرز البساتين بساتين المثناة -آنذاك – المتربعة على حافات وادي وج قبالة مسجد (عداس أو المدهون) الأثري ومنارته العالية التي تعتبر من المعالم البارزة هناك فلم تؤثر فيها عوامل التعرية ولا هوج الرياح حتى زمننا الحاضر، ولقد تلقى تعليمه بالمرحلة الابتدائية بالمدرسة السعودية الواقعة عند باب الريع ثم أكملها بالمدرسة العزيزية بنفس المدينة بعد ذلك واصل الدراسة بدار التوحيد حتى حصل على الشهادة الثانوية بها فهو يعتبر من أعمدة النادي الأدبي العملاق خلال فترة دراسته بالدار 1377/1381/1382هـ كما ذكر ذلك لي سكرتير النادي الأستاذ / عبدالرحمن بن سعود العجاجي ومحمد بن وصل الله الثبيتي، علما أن أول من أسس نادي دار التوحيد الشيخ / عبدالله بن محمد بن خميس – رحمه الله – عام 1366هـ هو وزملاؤه الأفاضل الذين رحل معظمهم إلى -رحمة الله -، والحقيقة أن منبر نادي الدار تعاقب على إحيائه واستمراره أفواج متتابعة من الطلاب والمبدعين حتى انطوى فيء الدار، فقد خرج العشرات من العلماء والأدباء والخطباء، وطيب الله ثرى الملك عبدالعزيز المؤسس لدار التوحيد عام 1364هـ، ورعاية أبنائه البررة لها من بعده -تغمدهم الله بواسع
رحمته -، ثم اتجه أبو عادل إلى كلية الشريعة واللغة العربية في مكة المكرمة حتى نال الشهادة العالية من كلية اللغة العربية بها 1385/1386هـ فعمل مدرسا بالمرحلتين المتوسطة والثانوية، ثم رشح للعمل موجها و مشرفاً تربوياً مدة تزيد عن عشرين عاماً حتى تقاعد، وكان متمكناً من زمام الفصاحة في مادته مرناً في تعامله مع المدرسين مخلصا في توجيههم يشعرهم أنه معين لهم لا مفتشا لإبعاد الرهبة عن بعضهم وخاصة الجدد حديثي التدريس، وهذا يدل على نضجه وحنكته – يرحمه الله – وله من المؤلفات ديوان شعر صدر من النادي الأدبي بالطائف عام 1418هـ بعنوان (صدى الأيام) يحتضن بين دفتيه مجموعة من القصائد جزلة الأسلوب، ومجموعات من الشعر الفكاهي فهو متفانيا في حب دار التوحيد تفانيا ملحوظ، كما هو واضح في هذين البيتين مخاطباً للدار:
يا دار إن دارت الأيام دورتها ** إنا على العهد في صدق المواعيد
فكل من عاش منا سوف يذكرها ** ولن نبالي بأشباه الجلاميد!!
ولسان حالي يردد هذا البيت :
ومهما أنسى من شيء تولى ** فإني ذاكرا(دار التوحيد)
وكان لنا معه بعض الذكريات الجميلة وتبادل الزيارات بيننا وبينه وزميله الأستاذ / محمد بن وصل الله الثبيتي، كما جرى بيننا وبينهما مداعبة خفيفة تخيلية حيث هاتفاني وهما قادمان من الطائف، وعلى مقربة من حريملاء قائلين سنتناول طعام الغداء عندك، ثم نواصل السير إلى الرياض لحضور مأدبة العشاء التي يقيمها الأستاذ / عبدالرحمن بن سعود العجاجي بأحد المتنزهات الرحبة شمال الرياض لجميع الطلاب الذين درسوا بدار التوحيد، وبعده بعام الأستاذ / موسى بن محمد السليم ثم الأستاذ / صبحي الحارثي.. ، فقلت أهلا وسهلا سأذبح لكما جملاً سميناً، فما كان مني إلى أن ذهبت لأحد الجزارين حول منزلنا فاستعرت منه رأس جمل مؤقتاً فوضعته على عتبت الباب الخارجي كي يرياه عند حضورهما، فقد ساورهما الشك في البداية! وهكذا تجري بعض المداعبات الخفيفة مع الزملاء، فالذكريات مع (أبو عادل) ومع طلاب الدار لا يمحها ماحي مدى عمري-رحمه الله رحمة واسعة -وألهم ذويه وابنه عادل وشقيقاته وأم عادل ومحبيه الصبر والسلوان.
ورحلت طيبة الذكر ( أم حمد الثاقب ) (<!--)
لها منزل تحت الثرى وعهدتها *** لها منزل بين الجوانح والقلب
شاء المولى أن يتزامن غروب شمس يوم الإثنين 5/11/1432هـ -وتتوارى خلف الأفق البعيد بعد رحلتها اليومية المتكررة سابحة في أجواز الفضاء الرحب إلى ما شاء الله – مع الغروب النهائي عن الدنيا لروح الأخت الفاضلة سارة بنت الخال عبدالعزيز المطرود – أم الأستاذ حمد بن سعد الثاقب رحمها الله -، وقد بلغني النبأ المحزن عن رحيلها عبر رسائل الجوال، والواقع أني تأثرت وحزنت كثيرا على فراقها، وبعدها عنا بعدا لا يرجى إيابه، فهي امرأة صالحة بارة بوالديها ووافية مع زوجها سعد بن عبدالعزيز الثاقب، ولا سيما عندما علته كبرة وطال به المرض، واشتدت حاجته إلى معين ومسل يدفع عنه هموم الشيخوخة، ويفسح له باب الأمل وسعة الخاطر، ولقد أحسن الشاعر حفني بك حيث يقول:
وعللوهــــــم بآمـــــــال مفرحـــة *** فطالما ســــــرت الآمــــــال محزونا
لولا الأماني فاضت روحهم جزعا *** من الهموم وأمسى عيشهم هونا
ولقد قامت بخدمة زوجها وبتمريضه خير قيام حتى خُلعت عن جسمه الطاهر ملابس الدنيا، وأدرج بالأكفان في حلة الراحلين، واستمرت في الدعاء له بالمغفرة كلما جال بخاطرها ذكره، وهذا هو عين الوفاء منها – رحمها الله – وكانت عطوفة على الضعفة والمساكين، وذات صلة مع القربى، ومع معارفها تبارك لهم وتهنئهم في مناسبات الأعياد وفي أفراحهم، كما تواسيهم في أتراحهم وأحزانهم، فكلها وفاء وحب للآخرين:
وما كنت إلى كوكبا كان بيننا *** فبان وأمسى بين أشكاله نجم
ولقد اكتظ جامع الملك خالد بالمصلين رجالا ونساء عقب صلاة عصر يوم الثلاثاء 6/11/1432هـ، ثم حملت على الأكتاف حبا واحتراما لها إلى مقبرة أم الحمام بالرياض والحزن بادٍ على أبنائها وأحفادها ومحبيها، ثم انصرفوا مودعين لها ولوعات الفراق ساكنة بين أضلعهم داعين لها بالثبات عند السؤال والمغفرة – تغمدها المولى بواسع مغفرته-:
كم راحل وليت عنه وميت *** رجعت يدي من تربه غبراء
وكانت على صلة بنا على فترات متقاربة عبر الهاتف، تسأل عن الصغير والكبير من أسرتنا مكررة الترحم على والدتي ابنة عمتها جدتنا طيبة الذكر نورة بنت عبدالرحمن المطرود, وشهرتها-أم العمران رحمها الله -وآخر محادثة مع أم حمد معي قُبيل رحيلها عن الدنيا بحولي عشرة أيام أو تزيد بقليل، رغم ما تكابده من أمراض متعددة وتجاذب أنفاس، فأمطرتني وابلاً من الأدعية الصادقة, وكأنها قد أحست بدنو اجلها فأبت إلا أن تودعنا وداعاً أبدياً راجية من المولي أن يجمعنا بها في دار الخلود والنعيم المقيم. وعندما وارتها الترب تذكرت اللحظات المبطنة بالحزن وتلك الأدعية التي استمدتها من نهر حبها لي ولوالدتي فازداد طوفان الحزن ولوعاته بداخلي. ومن ذكريات طفولتي التي لاتنسى ترددي على منزل ولديها بحكم القرابة, وفي مواسم الأعياد حيث تمنحنا والدتها لطيفه بنت سعد الداود العيديه التي هي عبارة عن أقراص الفتيت أو السهو الذي هو من حبات القمح تنقع بالماء ثم تحمس ليسهل قرضها، وهو جهد المقلين في تلك الحقب البعيدة. وفي ذات مرة من المرات تناولت طعام العشاء معهم الذي يقدم بعد صلاة العصر ولا انسى حلاوته حيث إنه يطعم بشيء من الكمأة الطرية (الفقع)، وقليل من الجراد المملح، فهو طعام لذيذ وشهي، وأذكر جيدا أن أم حمد التي تكبرني بسنوات تدفع بيدها بعض حبات الجراد والكمأة تقديرا لضيفهم, فهي منذ فجر حياتها جبلت على حب البذل وإيناس من يزورهم, ولا أملك الآن سوى الدعاء لها من أعماق قلبي مردداً قول شاعر النيل حافظ إبراهيم:
قضيت حياة ملؤها البر والتقى*** فأنت بأجر المتقين جدير
-رحمها الله رحمة واسعة -وأسكنها فسيح جناته, وألهم ذويها وأبناءها وبناتها وشقيقها اللواء عبدالله ومحبيها الصبر والسلوان.
الشيخ / سعد المبارك توارى عن الوجود
وبقي ذكره الطيب (<!--)
طوتك يا سعد أيام طوت أمما *** كانوا فبانوا وفي الماضين معتبر
الإنسان الذي له مكانة عالية في نفوس أسرته ومجتمعه إذا خلت من شخصه داره، وغاب جسمه عن الوجود، فإن ذكره الطيب وأصداء نبرات صوته ترن في الأذان التي كانت تسمع منه في حياته، وتبقى مجلجلة بين الجوانح والأضلاع مدى الأيام، فما أجمل التحلي بالأخلاق وهدوء الطبع ولين الجانب، وهذه الصفات الحميدة لا تكلف من مَنّ الله عليه بها، فهي حلة لا تبلى تُميل النفوس إلى حب صاحبها واحترامه، وتجعل بعضهم يقتدي به وبفعاله الحسنة، فالله جل ذكره قد أثنى على سيد الخلق بالتواضع وحسن الخلق في أول سورة القلم (وإنك لعلى خلق عظيم) الآية 4، وهذه منة من المولى يمنحها من يشاء من عباده الصالحين، ومن أولئك الرجال المعروف عنهم الصلاح والتواضع الجم العالم الورع فضيلة الشيخ / سعد بن محمد بن فيصل المبارك، وقد ولد في موطنه حريملاء عام 1327 تقريباً في بيت علم وشرف ودين، فأبوه عالم جليل رباه وأحسن تربيته وقرأ القرآن مجوداً ثم حفظه عن ظهر قلب على أبيه، وكان يدارسه إياه، ثم شرع في طلب العلم بهمة عالية ونشاط ومثابرة فقرأ على علماء بلده حريملاء ولازمهم زمنا، ومن أشهر مشايخه فيها أبوه الشيخ / محمد بن فيصل، وأبناء عمه الشيخ / فيصل بن عبدالعزيز و الشيخ / إبراهيم بن سليمان المبارك الراشد، وعلى الشيخ / سعد بن عبدالعزيز الملهمي، كما رحل إلى المجمعة فقرأ على العلامة الشيخ / عبدالله العنقري ولازمه وقتاً من الزمن، ثم رحل إلى الرياض فقرأ على علمائه في الأصول والفروع وعلوم اللغة العربية، ومن أشهر مشايخه مفتي الديار السعودية الشيخ / محمد بن إبراهيم وأخوه الشيخ/ عبداللطيف آل الشيخ، ثم جد في الطلب والمثابرة مع ما وهبه الله من قوة في الحفظ وسرعة الفهم، فنبغ في فنون عديدة أهلته إلى القضاء فتولى القضاء في مدن كثيرة منها: مرات، و وادي الدواسر، وقرية العليا، والرياض، وشقراء فكان في قضاياه مثالاً في العدالة حازماً محبوباً عندهم، وله المكانة المرموقة والكلمة المسموعة وكان الشيخ / محمد بن إبراهيم يأنس به وبقضائه، وقد درس سنين وتخرج على يديه طلبه كثيرون، وكان على جانب كبير من الأخلاق العالية والإخلاص في أداء عمله وميله إلى الصلح بين المتخاصمين في بعض الحالات التي يسهل حلها والرضى بين الطرفين، واستمر في عمله حتى وافاه أجله المحتوم، فلبى نداء الحق في مدينة شقراء ليلة الخميس 24 رجب 1398هــ وصلى عليه جموع غفيرة رجالاً ونساءً بعد صلاة ظهر الخميس... ، وقد حزن الكثير على رحيله، والعزاء في ذلك أنه قد خلف ذرية صالحة من الأبناء والبنات معظمهم قد تسنم مناصب مرموقة ومشرفة متحلين بصفات حميدة، وقد رثاه أخوه الشيخ الأديب فيصل بمرثية قوية مطلعها:
بكيت أخــــــي سعـــــداً ولا مثله سعــد *** ولا مثلــــه ابن وليــس لــه نـــد
موطــــأ أكناف مــــع النــاس كلهــم *** يذكـــرنا بالصالحـــين إذا عــــدوا
لئن كانت الأمجاد تبنى على الحجى *** فأوفر حظ في العلا لك يا سعد
ولي مع الشيخ (أبو مبارك) بعض ذكريات الطفولة وعمري يقارب الخامسة حيث ذهبت إلى محلة الوسيطا (مجمع سكني أسرة آل مبارك أمراء حريملاء) – آنذاك -لأشاهد أول سيارة في حياتي متوقفة على مقربة من منزل الشيخ / محمد بن فيصل والد الشيخ / سعد، وإذا به يخرج من بيت والده ويدخل في البيت المقابل له، وعليه مشلح وملابس جديدة لفت نظري في أناقته فبهرني ذلك المنظر، فما كان مني في تلك اللحظة إلا أن ذهبت مهرولاً إلى المحلة (الحارة) المجاورة لأبلغ بعض رفاقي قائلاً بكل براءة وبساطة: (شفت الرسول وتعالوا لتروه)، فالشيخ / سعد -يرحمه الله -طبع على الأناقة وجمال المظهر مبكراً حتى غادر الحياة مأسوفاً على رحيله؛ لأن سكان الأرياف والقرى أصحاب حرف وفلاحه قل أن ترى عليهم ملابس جديدة إلا في أيام الجمع والأعياد، ولقد ظلت صورة الشيخ ماثلة في مخيلتي حتى الآن، فهذه الأسطر مجرد خاطرة من وهج الذاكرة:
وإنما المرء حديث بعده *** فكن حديثاً حسنا لمن وعى
- تغمده الله بواسع رحمته -
رحم الله الزميل محمد بن أحمد العثيمين - أبوأحمد(<!--)
وما أحدٌ كان المنايا وراءَهُ *** ولوعاش أياما طوالا بسالم
المفاجآت المحزنة غير المتوقعة التي تحمل في ثناياها نبأ فقد غال ضربها علي القلوب موجع جدا ولاسيما اذا كان الراحل قريبا، أوصديقا حميما، فبينما كنت متناولا جهاز الهاتف متصلا على منزل الصديق الأستاذ الحبيب محمد بن أحمد العثيمين أحد زملاء الدراسه بدار التوحيد بالطائف للسؤال عن صحته وصحة أسرته فلم يجبني هذه المرة:
أناديهم والأرض بيني وبينهم *** ولو يسمعوا صوتي أجابوا فأسرعوا
بل أجابني ابنه الفاضل الأستاذ وليد محيياً لي، وفي أثناء الحديث معه قلت: الوالد قريب أُسلم عليه؟ فتغيرت نغمة صوته فجأة قائلا: إنه بعيد جداً فعلمت أنه قد لاقي وجه ربه، وأنه ليس بإمكانه أن يرد علي بصوته المعتاد بقوله: كيف حالك يا (أبوعبدالرحمن) ثم ما يلبث أن يذكرنا بأيامنا الجميلة أيام الدراسة بدار التوحيد عام 71/1372هـ، أيام الجد والتنافس في التحصيل العلمي، ولقد حزنت حزنا شديداً علي رحيله وبعده عنا حيث انتقل الي دار الخلود -رحمه الله -بعد صلاة فجر يوم الجمعة 15/12/1432هـ فتزامن طلوع الشمس المشرقة على مساحات شائعة من هذا الكون العريض..، مع خروج روحه المصاحبة لجسده الطاهر(فمفترق جاران دارهما العمر).
وقد أديت عليه صلاة الميت بعد صلاة عصر يوم الجمعة، ودفن بمقابر حي النسيم شرقي مدينة الرياض، فشيع جثمانه الطاهر خلق كثير من محبيه من زملائه ومعارفه حتى أنزل في مرقده تحت الأرض داعين له بالمغفرة والثبات عند السؤال، وطيب الاقامة إلي أن يأذن الله بنهوض جميع الخلائق ليوم الحساب.
ولقد ولد وترعرع في مدينة عنيزة إحدى كبريات مدن القصيم، وكان يوصف بالهدوء ودماثة الخلق مع زملائه وأترابه حتى أكمل المرحلة الابتدائية هناك، ثم شخص الى مدينة الطائف فالتحق بدار التوحيد حتى نال الشهادة الثانوية عام 1373هـ؛ فواصل الدراسة بكلية الشريعة واللغة العربية بمكة المكرمة حتى حصل على الشهادة العالية بها عام 1378هـ، أما أنا فقد أكملت دراستي بالرياض حتى نلت الشهادة العالية بكلية اللغة العربية عام 1378هـ.
وقد تم تعينه -رحمه الله -موجها بإدارة التعليم بالرياض، ثم اتجه إلى الجزائر رئيسا للبعثة التعليمية عام 1383هـ ، بعد ذلك عين مديراً عاماً للتعليم بمنطقة نجد – آنذاك – ولقد حصل على دبلوم عالٍ في الإدارة التعليمية من جامعة أوكلاهما في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1394هـ ، ثم عين ملحقاً تعليمياً في دولة البحرين من عام 1396هـ حتى عام 1408هـ ، بعد ذلك عاد وعين مديراً لإدارة البعثات بوزارة التعليم العالي الى أن تقاعد حميدة سيرته وأعماله - رحمه الله -وكان أثناء عمله موجها ادارياً يقوم بجولات على المدارس التابعة لإدارة التعليم خارج الرياض فيؤدي عمله على خير ما يرام معيناً للموظفين الإداريين أثناء النقاش مهم حول تنظيم أعمالهم المنوطة بهم التي تتعلق برصد العهد بالسجلات من أثاث ومقررات دراسية وإحصائيات دورية عامة، فكل عمله يتصف بالإخلاص وبالسهولة، وحسن التعامل مع الجميع، بل انه لايكتفي بالمشافهة حيث يدون بعض ملاحظاته والنقاط المطلوب تنفيذها من قبل الموظف الإداري ليسير بموجبها، فلا يحس الموظف بصلف أو بتعالٍ منه، بل يجد منه اللطف وإدخال السرور عليه وشكره وتشجيعه، ليزداد نشاطه وتنظيمه، فهو حبيب لمن يلتقي به، ولقد عثرت منذ سنوات قريبة علي ورقة مستقلة قد دون فيها بعض ملاحظاته ليستنير بها الموظف المختص، فدعوت الله له بالسعادة وصلاح العَقب، فاعتبرت تلك القصاصة من الآثار الحميدة ومن الذكريات الجميلة التي لا تنسي مع (أبو احمد) تغمده الله بواسع رحمته:
وإنما المرء حديث بعده *** فكن حديثاً حسناً لمن وعى
ولنا معه أحلى الذكريات الحبيبة الى قلوبنا أثناء دراستنا بالطائف:
بلاد بها كنا ونحن من أهلها *** إذ الناس ناس والزمان زمان
منها استذكار الدروس حيث كنا معشر الطلاب نذهب جماعات ووحدانا الى بعض الأماكن التي تتصف بالهدوء وبجمال الطبيعة في أطراف النهار والآصال، فنتفيء الظل في جوانب جبل (أم الآدم) الواقع غربي مدينة الطائف المتربع علي هاتيك الميادين، والمطل على بساتين المثناة – آنذاك -الحافلة بالأشجار الظليلة، وبأنواع الفواكه حلوة المذاق من رمان وكروم وتين وغير ذلك من الفواكه، وقد تطربنا او تبكينا أصوات بعض الطيور من فوق أشجارها مثل البلابل وهي تشدو وهديل الحمام ونوحها وبكائها -أحيانا -فتذكرنا بأهالينا كمغتربين حالت بيننا وبينهم طوال البيد والفلوات.
حمـــــــام الأيك مالك باكيا *** أفارقت خلا أم جفاك حبيب
تجاوب ورقاً قد أصخن لصوتها *** فكلٌ لكل مسعد ومجــيب
وعندما تدنو الشمس لمغيبها عنا في خدرها نرجع، وقد استفدنا من وقتنا حفظا وقراءة ومدارسة فيما بيننا..، وهكذا يكون استثمار الأوقات في استذكار الدروس، وقد اشتهر طلاب الدار منذ تأسيسها علي يد جلالة الملك عبدالعزيز (طيب الله ثراه) عام 1364هـ بالجد والمثابرة في التحصيل العلمي والنشاطات الثقافية والخطابية والشعرية معاً عبر منبر ناديها الأدبي على تعاقب أفواج الطلاب في تلك السنين الماضيات حتى انطوى فيئها وظلها مُعلنا نهايتها...!! ولم يبق منها سوى رنين الذكريات لأيامها ولياليها المقمرة التي تقاوم عهدها... وعلى أي حال فإن الأستاذ الحبيب محمد بن أحمد العثيمين قد غادر الحياة الدنيا إلى العالم الباقي مأسوفاً على فراقه بعد حياة حافلة بالأعمال المشرفة والسمعة المعطرة بالثناء طيلة تربعه على المناصب المرموقة وحسن التعامل مع الأخرين داخلياً وخارجياً..، وقد ملأ عينيه وأمتعهما قبل إغماضهما وانطفائهما عبر رحلاته المتعددة العملية والسياحية، والعزاء في ذلك كله أنه خلّف ذرية صالحة تدعو له، وتجدد ذكره الطيب بالأعمال المشرفة وإخلاصهم في خدمة وطنهم وأهله وإكرام محبيه (رحمه الله رحمة واسعة وألهم ذويه وابناءه وابنته وزوجته -أم أحمد -وإخوته وأخواته الصبر والسلون).
ورحل طيب السجايا(<!--)
(الفاضل/ عبدالله بن الشيخ محمد بن فيصل آل مبارك)
فتى عاش يبني المجد تسعين حِجةً ** وكان إلى الخيرات والمجد يَرْتقي
ففي الصباح الباكر بعد صلاة الفجر من يوم الأحد 2/1/1433هـ هاتفني الأخ الصديق الوفي منصور بن الشيخ محمد بن صالح بن سلطان قائلاً إن العم الفاضل/ عبدالله بن الشيخ محمد بن فيصل آل مبارك عميد أسرة آل مبارك والد اللواء محمد قد انتقل الى جوار ربه في ليلة الأحد، وكان لذاك النبأ وقع محزن في نفسي مُتذكراً أفضاله وسيرته الحسنة بعد حياة طويلة حافلة بالإخلاص في أعماله الوظيفية، وحسن تعامله مع الغير، وقد صلي عليه بعد صلاة العصر بجامع الملك خالد بأم الحمام ثم وري الثرى جثمانه بمقبرة مشرفة بمحافظة حريملاء، ولقد ولد في حريملاء عام 1326هـ تقريباً، وختم القرآن الكريم بأحدى الكتّاب لتحفيظ القرآن الكريم، وعاش طفولته بين أحضان والديه وتربى في بيئة علم وكرم في بيت والده الشيخ الجليل محمد بن فيصل آل مبارك، مع أخوته المشايخ القضاة: فيصل وسعد رحمهم الله، وعبدالعزيز متعه الله بالصحة والعافية، وبعدما كُبر انتقل مع عمه الأمير علي بن عبدالله إلى مدينة الوجه، ثم أنتقل الى مكة المكرمة وعمل بالحسبة مع شقيقه فيصل بن محمد، بعد ذلك انتقل الى مدينة الرياض وعمل في هيئة النظر بأمانة بلدية الرياض في زمن رئاسة الأمير فهد الفيصل حتى تقاعد، وكان بشوش المحيا مع المراجعين يسهّل أمورهم ويبصرهم بالأساليب النظامية ليستفيدوا منها في تلك الحقبة البعيدة، وخاصة الفقراء والمساكين والأرامل فيحثهم على تقديم طلباتهم لتمنحهم الدولة ممثلة في أمين العاصمة قطعاً من الأراضي لسكْناهم وأسرهم، فكله نصح وإخلاص، وكان من ضمن المكرمين في حفل بهيج بالأمانة لتكريم المتقاعدين ومنحهم الشهادات التقديرية، ولقد لازم والده وقتاً طويلاً استفاد منه علماً وأدباً وحنكة أكسبته الصفات الحميدة سعة في الأفق ودماثة خلق ومرونة في الأعمال وحسن التصرف والتحبب للأخيار، والمبالغة في إكرام الأسرة وأصدقائه ومحبيه، فوجهه (يرحمه الله) لا يمل إكرام الزوار وإيناسهم بالأحاديث الشائقة والقصص الهادفة والطرائف التي تنحدر من مخزون ذاكرته فتلوي أعناق الحضور منصتين إليه، فأسلوبه سلس يتصف بالسهولة، فهو رجل اجتماعي ومحبوب يقضي الكثير من الأمسيات في قصر صديقه الشيخ محمد بن صالح بن سلطان (رحمه الله) هو وبعض الأصدقاء أمثال الأستاذ مبارك بن عبدالله المبارك وشقيقه الراحل راشد (رحمه الله) يقضون الساعات الطوال في تجاذب أطراف الأحاديث الشائقة والمطارحات الأدبية، ومايتخللها من طرائف ومداعبات تؤنس الحضور، ولكنها الأيام تجمع وتفرق بعد طول عشرة ووئام، ولسان حال من بقي من أولئك الصحب الذين غابوا عنا يرددون قول الشاعر:
حالت لفقــدكم أيامنــا فغـــدت ** سوداً وكانت بكم بيضاً ليالينا
لِيُســــقَ عهدكــــم عهد السرور فما ** كنت لأرواحنا إلا رياحــــينا
وكان أبو محمد (رحمه الله) لا يفوته يوماً فيه أجر وصلة وبر، يواسي الأسر في أتراحهم ويصلي على موتاهم حتى في اُخريات حياته رغم عدم قدرته على المشي لتقادم عهده بأيام الشباب والفتوة، كما يحضر أفراحهم ومناسباتهم الجميلة، فكلا الحالتين من طبعه وسجاياه الحسنة. ومن صفاته الحميدة التي لم يسبق إليها استمرار عيد أسرته في منزله أكثر من أربعين عاماً بدون انقطاع، وبعد صلاة الجمعة من كل أسبوع يتزاحم الزوار في منزله من أقارب وأصدقاء حتى رحل إلى دار النعيم المقيم -تغمده الله بواسع رحمته -مخلفاً ذرية صالحة تدعو له وتجدد ذكره بأعمالهم المشرفة "أجزل الله له الأجر والمثوبة". وكان من محبي الحضور إلى المنتديات الأدبية والثقافية؛ أذكر أنه حضر الى حريملاء منذ عقود من الزمن لزيارة أخيه الشيخ الأديب فيصل الذي حضر من جده ليستمتع بالإجازة ويأنس بأصحابه وبالجلوس في مزارعهم ونخيلهم المسماة (بالعضيبية) وفي تلك الأثناء حضر هو وأخوه الشيخ فيصل إلى نادينا بمعهد المعلمين -آنذاك -كما أنه يحضر باستمرار الحفل السنوي لتكريم حفظة القرآن الكريم بالمدرسة الصالحية التي أسسها ويمولها الشيخ محمد بن صالح بن سلطان – رحمه الله – وعلى أي حال فإن الأخ الفاضل عبدالله بن محمد الفيصل من الرجال الذين يألفون الحضور الى مجالس الذكر والمنتديات الثقافية..، كما أنه قد طُبع على الكرم وصلة الرحم هو وزوجته الطيبة ابنة الخالة لطيفة بنت عبدالعزيز بن محمد العجاجي؛ أذكر جيداً أنها إذا زارت خالها -خال والدتها -والدنا الشيخ عبدالرحمن بن محمد الخريف – رحمه الله – تهدي إلية كسوة: ثوب وغترة شماغ، وكانت لتلك الكسوة بالغ الأثر والسرور في نفس والدي -رحمهم الله جميعاً -وأسكن الراحل -أبو محمد -فيسح جناته وألهم ذويه وابناءه وبناته، واخاه الشيخ عبدالعزيز وجميع أسرة آل مبارك ومحبيه الصبر والسلوان. ولقد أجاد الشاعر طَرَفَة بن العبد حيث يقول:
لعمرك ما الأيام إلا معارة ** فما أسطعت من معروفها فتزود
رحم الله معالي الشيخ صالح الحصين(<!--)
تولى وأبقى بيننا طيب ذكره *** كباقي ضياء الشمس حين تغيب
ففي مساء يوم السبت 24/6/1434هـ فقد الوطن علماً من أعلام الفكر ورجلاً محنكاً من رجالات الدولة المخلصين المميزين البارزين، حيث وافاه أجله المحتوم وقد أديت عليه صلاة الميت بعد صلاة عصر يوم الحد 25/6/1434هـ بجامع الراجحي، وقد ضاق المسجد بجموع غفيرة يتقدمهم صاحب السمو الملكي الأمير مقرن بن عبدالعزيز النائب الثاني، وصاحب السمو الملكي أمير منطقة الرياض الأمير خالد بن بندر بن عبدالعزيز وعدد من الأمراء والوزراء، وكان لغيابه بالغ الحزن والأسى في النفوس على كافة المستويات لما يتمتع به من تواضع وأدب جم رفيع، وسعة أفق في بحور العلوم العامة والخاصة مع إلمامه ببعض اللغات الأجنبية، فهو قامة عالية في المحافل الداخلية والدولية، ولقد ولد في مدينة شقراء مدينة العلم والعلماء في أوائل الخمسينيات..، في بيت علم وأدب، وعاش طفولته بين أترابه وأقرانه محبوباً لديهم لسماحة محياه وهدوء طبعه مبتعداً عما يشينه، وقد ألحقه والده بإحدى الكتاب لتحفيظ القرآن الكريم وتعلم الخط، ولفرط ذكائه حفظ القرآن الكريم عن ظهر قلب في سن مبكرة، كما تلقى مبادئ العلم كغيرة من أقرانه على علماء بلده، حيث حفظ عدداً من المتون المعروفة من نحو وتوحيد وفقه وحديث....الخ، مما أهله ذلك إلى الالتحاق بدار التوحيد بالطائف – أم المدارس آنذاك – حتى حصل على الشهادة الثانوية بها عام 1370هـ مواصلاً الدراسة بكلية الشريعة واللغة العربية بمكة المكرمة حتى نال الشهادة العالية عام 1374هـ، بعد ذلك حصل على درجة الماجستير1960 م، من مصر في الدراسات القانونية، ثم عين مستشارا بوزارة المالية في عهد صاحب السمو الأمير مساعد بن عبدالرحمن المشهود له بالحزم والترشيد، وبعد ذلك اختير وزير دولة وعضو مجلس الوزراء، ففضيلته كان عضواً في هيئة كبار العلماء، ورئيسا لمركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني. كما تولى عددا من المناصب العالية الحكومية، منها مشرفاً على هيئة الخبراء بمجلس الوزراء، ورئيسا لهيئة التأديب ورئيس عاماً لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي عام 1422هـ، فكلها قمم عالية – رحمه الله رحمة واسعة – وكان محبوباً لدى العامة والخاصة لإخلاصه المتناهي في أداء جميع الأعمال المشرفة التي أسندت إلية ولتواضعه الجم وزهده في �