إلى دار النعيم أبا علي الهديان (<!--)
رحلت وفي الجوانح نبض قلب ** إلى رضوان ربك مستجيبا
الإنسان في هذه الحياة يسير بإرادة الله كيف يشاء، وكل ميسر لما خلق له. منهم من يتمتع بذكر حسن منذ فجر حياته، لما يتصف به من رحابة صدر وسعة بال وحسن تعامل مع أقرانه وجيرانه، بل وبجميع من تجمعه بهم الأيام، وبصدق الحديث والتغاضي عن هفوات الناس، وفي المجال التجاري (مثلا) في البيع والشراء بعيدا عن الغش والتحايل، فكلما تصفو سريرة المرء ويطيب قلبه ويخلص العبادة لرب العباد تزداد محبته في عشيرته وبين أفراد مجتمعه، وهذه الصفات الحميدة تذكرنا بحال الأخ الفاضل ناصر بن علي الهديان الذي رحل عنا بعد منتصف ليلة الإثنين 20/12/1430هـ على أثر مرض لم يمهله طويلا، وقبيل وفاته خرجت روحه الطاهرة وهو رافع أصبع سبابة يده اليمنى مشيراً بذكر الله، ومن كان آخر كلامه من الدنيا (لا إله إلا الله دخل الجنة) علماً بأنه قبل ذلك قد عفا عن عدد من المدينين له احتسابا لما عند الله، وقد أديت عليه صلاة الميت عقب صلاة العصر بجامع الحي الجديد بحريملاء، ثم تبعه خلق كثير من المشيعين إلى مرقدة بمقبرة(صفية) داعين المولى له بالمغفرة وطيب الإقامة في جدثه إلى أن يأذن الله بخروج جميع الخلائق ليوم الحساب. وقد خيم الحزن على بيته وعلى أسرته وعارفيه، ولقد نشأ وترعرع في مدينة حريملاء، وعند بلوغه سن السابعة ألحقه والده بإحدى الكتاب لتحفيظ القرآن الكريم، وبعد أن أكمل تلاوته وحفظ بعض قصار السور لم تمكنه الظروف المعيشية في مواصلة تعلمه، فأخذ يفكر في طلب الرزق له ولوالديه فلم ير بداً من الرحيل إلى مدينة الرياض رغم صغر سنه - آنذاك -فأخذ يزاول الأعمال الحرفية والبناء بالطين بأجور زهيدة يومية، فيوم يجد له شغلاً، ويوم لا يجد شيئا، ومع ذلك صبر وأطال الاغتراب عن أهله، وكأنه استحضر قول الإمام الشافعي رحمه الله، حيث يقول حاثاً على طلب الرزق في أي مكان يطيب له:
مــــــا في المقــام لذي عقل وذي أدب ** من راحة فدع الأوطان واغترب
سافر تجد عوضا عمن تفارقه ** وانصب فإن لذيذ العيش في النصب
ويقول:
سأضرب في طول البلاد وعرضها ** أنال مرادي أو أموت غريبا
وبعد عقود من الزمن سعدت بصحبته فترة من الوقت في العمل بالمتوسطة والثانوية بحريملاء أيام كنت مديرا لهما.. وكان مخلصاً في أداء عمله الذي وكل إليه باستمرار، فهو محبوب لدى أسرة المدرسة وطلابها لما يتحلى به من صفات محمودة وبابتسامة رضى لا تفارق محياه، بعد ذلك طلب التقاعد مبكراً، ثم فتح محلاً للبيع والشراء فأخذ يجلب البضائع التي يحتاج إليها أفراد المجتمع، وكان سمحاً في تعامله وأسعار بضاعته ميسرة ...، كما أنه يعطي مهلاً لذوي الدخل المحدود في تسديد القيمة غير ملح بالطلب رأفة بهم، فأخذ يسافر لتعزيز محلاته بالمواد والأصناف التي يكثر الطلب عليها رغم ما قد يحصل له من متاعب وأخطار كل ذلك من أجل زيادة الإثراء المادي ورضى عملائه، ولله در الشاعر عروة بن الورد الذي يحث على التزود بالمال ليغتني عن غيره:
خاطر بنفسك كي تصيب غنيمة ** إن القعود مع العيال قبيحُ
المــــال فيه مهــــابة وتجلــة ** والفقـــر فيه مذلــــة وفضــــوحُ
فأبو علي رجل مكافح يستعذب المتاعب في تحقيق وجلب ما يغنيه عن سائر البشر، وقد منحه الله مالاً وفيرا، وتطورت أعماله التجارية حتى أوجد أسواقا مركزية شاملة لاحتياجات المواطنين والمقيمين معاً عرفت بـ (مركز الهديان) ويعتبر من أبرز المراكز التجارية، كما أنه يوجد بمحافظة حريملاء أسواق أخرى مماثلة لذلك... ، ونحمد الله أن البلاد أصبحت تضاهي وتضارع بعض المدن... ، ولنا مع (أبو علي) ذكريات ومواقف طريفة وجميلة تذكرنا به بعد أن رحل وتوارى عن الوجود، ولئن غاب عنا بشخصه فإن ذكره العطر وسمعته الطيبة باقية في وجداننا وفي خواطرنا مدى الأيام، والعزاء في ذلك أن خلف ذرية صالحة تدعوا له وتجدد ذكره بالبذل في الأعمال الخيرية ورعاية المحتاجين ممثلة في نجله الأكبر الشيخ الأستاذ علي، والأستاذ اللطيف عبدالعزيز، وجميع أفراد أسرته بنين وبنات غفر الله له وأسكنه فسيح جناته، وألهم ذويه وأبناءه وبناته وزوجته (أم علي) ، وجميع محبيه الصبر والسلوان.
(إنا لله وإنا إليه راجعون).
رحم الله الشيخ سليمان الجناحي (<!--)
تبلى الحناجر تحت الأرض في جدث *** وصوتها يتلو الآيات والسورا
بعض الأخبار وبعض رنات الهواتف تسمع وتحمل ما يحزن ويكدر الخواطر، ولا سيما في الآونة الأخيرة من هذا العصر الذي كثر تتابع الراحلين فيه من الأحبة والعلماء ورفاق العمر، ولا يكاد يمر أسبوعٌ أو شهرٌ إلا ونودع فيه غائبا قريباً من قلوبنا:
فلم أر مثلهُمُ هلكوا جميعا *** ولم أر مثل هذا العام عاما !
فبينما كنت عائدا من رحلة قصيرة في زيارة أحد الأصحاب بعد صلاة عصر يوم الأحد 17/1/1431هـ بصحبة أحد أنجالي منسجمين في تبادل أطراف الحديث فإذا برنين هاتف أحد أبناء صديقنا وحبيبنا الراحل فضيلة الشيخ عبدالعزيز بن علي المساعد يحمل نبأ وفاة الأديب الشيخ سليمان بن محمد الجناحي الذي يعتبر من أقدم الحفاظ بمدينة عنيزة لكلام الله مجودا، وأطول أمدا في إمامة المصلين في أكثر من مسجد داخل محافظة عنيزة بل وفي بلدة الشرائع إحدى ضواحي مكة المكرمة حيث قضى زهرة عمرة في عمل إداري ، وإماما في أحد المساجد بها أكثر من ثلاثين عاما:
ثلاثون عاما بل ثلاثون درة *** بجيد الليالي ساطعات زواهيا
ولقد تأثرت وحزنت على رحيله لما تربطني به من معرفة وصداقة ود، ومع صديق الجميع فضيلة الشيخ الحبيب عبدالعزيز بن علي المساعد الذي سبقه إلى مراقد ومضاجع الراحلين منذ سنوات -رحمهما الله رحمة واسعة -ولقد كانت بيني وبينهما زيارات متبادلة، ومع بعض الأحبة مثل الشيخ عبدالله الجلالي والأستاذ الكريم محمد الحمد السليم (أبو سليم) والأستاذ عبدالله الحمادي وشقيقه الدكتور إبراهيم، والأستاذ المربي عبدالرحمن بن صالح العليان "أبو عبدالله" مدير التعليم بمحافظة عنيزة سابقا حيث بلغت خدماته أكثر من أربعين عاما، بل إن علاقتي الودية والدراسية مع أهالي القصيم بصفة عامة، ومحافظة عنيزة والرس خاصة لاحتضانهما الكثير من زملاء الدراسة والعمل معا، وفي طليعتهم فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين -رحمه الله -الذي سعدت بالدراسة معه بالمعهد العلمي فترة من الزمن عام 1373/1374هـ كما أن معظم زملائي في المرحلتين الثانوية بالمعهد العلمي، وبدار التوحيد عامي 1371/1372هـ، وبكلية اللغة العربية بالرياض من تلك المحافظتين..،
ويُعتبر الشيخ سليمان الجناحي من خيرة الحفاظ والمقرئين، ولقد كانت إذاعة جدة في السبعينيات تذيع القرآن الكريم بصوته الجميل، فكم ذرفت العيون عند سماع صوته الشجي وخاصة عندما يخشع عند تلاوة آيات الوعيد. وبعد عودته من الحجاز عينه مدير التعليم بعنيزة الأستاذ عبدالرحمن بن صالح العليان أمينا للمكتبة الثقافية التابعة لوزارة المعارف وظل بها مدة طويلة كما عمل بالمكتبة العسكرية بعنيزة مدة من الزمن، فاستفاد في تلك الحقبة بتسريح النظر في بطون الكتب مما أثرى حصيلته العلمية والأدبية فأصبح راوية في في مجال الشعر والأدب الجم الرفيع، كما كان الشيخ محمد بن عثيمين (رحمه الله) يُنيبه في أثناء غيابه للإمامة والخطابة بمسجده، فهو رجل ثبت الجنان قوي الملكة والترسل في الحديث وعلو المنابر.. كما أنه محبوب لدى عارفيه لما يتصف به من دماثة خلق واستقامة ولين عريكة في حديثه ومداعباته اللطيفة حيث يُطعمها ببعض الحكم والطرائف، وهو يميل إلى التبسط في الأمور والتفاني في خدمة المساكين وطلبة العلم.
كما لا ننسى مُلازمته وعنايته بالأستاذ عبدالله الفالح -الزاهد -الملازم لبيته لا يخرج منه إلا لأداء الصلوات، والذي يعتبر من الأذكياء ذكاء مفرطا، وهو من أوائل الدارسين بدار التوحيد بالطائف ثم تخرج من كلية الشريعة بمكة المكرمة بتفوق فهو مشهور وغني عن التعريف -شفاه الله -فحياة الشيخ الفالح كلها ما بين مكة المكرمة للتعبد بالمسجد الحرام، وبين مدينة عنيزة مهوى رأسه، والزائر لمدينة عنيزة ويرغب في السلام عليه لا بد أن يستعين بصديقه الخاص الشيخ سليمان الجناحي، فهو الوحيد الذي يستطيع إقناعه بالخروج من عزلته أو الدخول عليه في منزله المتواضع جدا.. وكان الله في عون الشيخ الفالح بعد أن رحل عنه صديقه سليمان عليه رحمة الله.
وقد أديت الصلاة عليه بعد صلاة عصر يوم الاثنين 18/1/1431هـ في جامع الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين بمحافظة عنيزة الذي غص بجموع غفيرة من المصلين رجالا ونساء حضر بعضهم من مدينة الرياض وكثير من محافظات القصيم ثم تبعه خلق كثير إلى مضاجع الراحلين، كما صلى عليه في المقبرة أضعاف من صلى عليه في المسجد داعين له بالمغفرة والرحمة وحسن الوفادة من المولى سبحانه، وطيب الإقامة إلى أن ينهض جميع الخلائق ليوم الحساب، تغمده الله بواسع رحمته وألهم ذويه وذريته وأبناءه وبناته وزوجته وجميع محبيه الصبر والسلوان.. (إنا لله وإنا إليه راجعون).
شيخ العطاء والإحسان مضى لسبيله (<!--)
(الشيخ صالح بن مطلق الحناكي رحمه الله)
أرى الناس طرا حامدين (لصالح) ** وما كلهم أفضت إليه صنائعه
سعيد من يتفق الناس أو جلهم على محبته واحترامه ولا يتسنى ذلك إلا عن علم ومعرفة بأحواله وأفعاله وأفضاله بل وحتى بالسماع وتناقل الرواة عن أخباره وإحسانه ، وعن تدفق وفيض كفيه بالأموال الوفيرة التي يسهل انسيابها صوب المشاريع الخيرية من بناء مساجد ودور للأيتام والمساكين، وتشجيع لدور العلم وحفظة القرآن الكريم وغير ذلك من الأشياء التي يعود نفعها على الوطن وأهله، فقد وهب الله الكثير من عباده الصالحين عقولا نيرة يميزون بها الأشياء المحيطة بهم وما يدور في مجتمعهم من أشياء نافعة محبب للنفوس تحقيقها من مشاريع خيرية يتلذذ بفعلها رجاء المثوبة من رب العباد عندما يلقاه. إن مثل هذه الصفات مجتمعة وملازمة لشيخ العطاء والإحسان الذي حبه استولى على عواطف الكثير من أهالي القصيم بصفة عامة، وأبناء مدينة الرس – مهوى رأسه – خاصة، إنه الشيخ الفاضل: صالح بن مطلق الحناكي "أبو مطلق" تغمده الله بواسع رحمته، الذي هالني غزارة هطول أقلام الكثيرين رجالا ونساء، وتدفقها على عدد كبير من أوراق الصحف المحلية متأسفين على رحيله وغيابه الأبدي عن نواظر محبيه، وعن من كان يرعى شؤونهم من أيتام وأرامل، ومن دعم سخي للجمعيات الخيرية التي تعنى بأحوال المساكين وباحتضان تلك البراعم حفظة كتاب الله الكريم ليضيء صدورهم ويحصنهم من الاقتراب من قرناء السوء الذين حذر الشاعر من الركون إليهم بقوله:
ولا تركن إلى أهل الدنايا ** فإن خلائق السفهاء تعدي
فأبو مطلق غيمة ضافية من العطاء الباذخ المحمود تهمي على الآكام والسهول والشاهد على ذلك هو الكم الهائل من الثناء والإطراء العاطر الذي سطر وأفرغ على أديم تلك الصحف، وبالذكر الحسن في المجالس والمنتديات، فهو رجل خير وبركة قد مَنّ الله عليه بوافر من المال وسعة في الرزق فقد طبع على السخاء والكرم والتلذذ بالإنفاق لمستحقيه، لا يفوته يوم فيه شرف ورفعة بل يقل مثله في مثل هذا المضمار الإنساني، ويعلم جيدا أن المال عارية ينتقل من كف إلى أكف بعدما يرحل عنه صاحبه الأول ويصبح مقتسما بين الوراث فالإنفاق منه في الحياة أجدى وأنفع قبل أن تتزاحم الأقدام والأيدي على حمله والتعجيل به إلى مواراته تحت أديم الأرض بعيدا عن أهله ومدخراته وهذه سنة المولى في خلقه بتعاقب الأجيال جيلا بعد جيل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فالموجب للمشاركة بهذه الكلمة الوجيزة هو ما شاهدته من كثافة ما كتب عنه منوهين بأفضاله وراجين له المغفرة وطيب الإقامة في مضجعه إلى أن يأذن الله بخروج جميع الخلائق ليوم الحساب، فرأيت أن أسطر هذه العبارات ضربا من الوفاء لمثل ذاك الكريم ولقد أحسن الشاعر حيث يقول:
يثني عليك من لم توليه جميلا ** لأنك بالثناء به جدير
ويقال إنه يؤم المسجد الحرام ويزور المسجد النبوي بين حين وآخر ويصوم شهر رمضان كل عام بمكة المكرمة مصطحبا معه كمية من جيد تمور القصيم للمساهمة في تفطير صوام الحرم المكي مع ما يبذله من زكاة وصدقات للفقراء هناك، غفر الله له وأسكنه فسيح جناته وألهم أبناءه وذويه ومحبيه الصبر والسلوان إنا لله وإنا إليه راجعون.
الشيخ / عبدالعزيز المساعد والذكر الجميل (<!--)
إذا زرت أرضا بعد طول اجتنابها ** فقدت صديقي والبلاد كما هيا
فأكـــرم أخــاك الدهر ما دمتما معاً *** كفى بالممات فرقة وتنائيا
الإنسان جبل على حب الارتحال والتنقل من مكان إلى آخر داخلياً وخارجياً للسعي في مناكب الأرض لكسب الرزق أو لقضاء حوائجه، وإما لمجرد التنزّه والترويح عن النفس، وطرد الملل ورتابة الجلوس والإقامة في المحيط الاجتماعي والأسري، ولأجل إمتاع العين بما يحلو من مناظر الطبيعة الخلابة الجميلة التي تضفي على النفس البهجة والمسرات. ففي يوم من الأيام استبد بي الحنين إلى زيارة بعض الأحبة والزملاء بمنطقة القصيم الآهلة بالكثير من الأصدقاء والمعارف، فوقع الاختيار في تلك الزيارة على الاتجاه صوب مدينة عنيزة، وذلك لتكرار توجيه الدعوة لحضور المناسبات الجميلة والمهرجانات التي تقام بين فترة وأخرى للترويح والتنشيط السياحي وإيناس الجمهور والحضور، وعند حضورنا هناك بصحبة قائد السيارة الزميل الأستاذ ناصر بن محمد المشعل، كان لزاما علينا أن نمر على أبناء الشيخ الفاضل عبدالعزيز بن علي المساعد -رحمه الله -زميل الدراسة لا زميل فصل كان في السنة الأولى بكلية الشريعة وأنا بالسنة الثالثة بكلية اللغة العربية بالرياض عام 1377هـ فالمبنى يضم كلا الكليتين (آنذاك) ، وكان في استقبالنا أحد أبناء الشيخ عبدالعزيز البررة، وفور دخولنا ذاك المنزل الذي ألفنا الجلوس فيه بجانب صاحبه،((وقد خلت من شخصه داره -تغمده الله بواسع رحمته)) فذرفت عيناي متذكرا تلك السويعات واللحظات الجميلة التي آنسنا فيها بتجاذب الحديث معه، وبإيراد بعض الطرائف الخفيفة على النفس، التي هي من سمات أهالي عنيزة، فأخذت أجيل لحظي في ذلك المجلس وبالذات في مكان جلوسه متصوراً شخصه معنا على سبيل التوهم.. !! حيث طوح بي الخيال، ولقد أجاد القائل بهذين البيتين :
فحسبت نفسي حاضراُ معكم ولا ** تعجب إذا كان الغياب حضورا
إن القلـــــــوب إذا صفـــت مرآتها ** وإن حجبت ترى بها منظورا
ثم أخذنا نتحدث عن سيرته العطرة مترحمين عليه، ومعددي بعض صفاته الحميدة، وأعماله الخيرة.. ، بدأ من أيام طفولته حتى رحل وتوارى عن الوجود "رحمه الله". ولقد ولد في مدينة عنيزة ونشأ بها بين أحضان والديه، وافتقد بصره مبكراً بسبب آثار الجدري إلا أن ذلك لم يعقه، حيث وهبه الله نفاذ البصيرة، وقوت الحفظ فملامح الذكاء والنجابة تطفح على محياه الوضاء، وعلى حسن منطقه منذ نعومة أظفاره فقرأ القرآن حفظاً مجوداً، ثم شرع في طلب العلم واهتم بحفظ المتون، فحفظ كتاب التوحيد والعقيدة الواسطية، وكتاب كشف الشبهات وآداب المشي إلى الصلاة، ومتن الأجرومية في علم النحو، والرحبية في علم المواريث، فأخذ يتعاهدها بالاستذكار مراراً حتى رسخت في ذهنه، والتصقت بمستودع ذاكرته.. ، ثم أخذ يحضر مجالس الذكر ويقرأ على بعض المشايخ بمدينة عنيزة. وفي عام 1373هـ افتتح معهد عنيزة العلمي فالتحق به وتخرج منه عام 1376هـ، ثم سافر إلى الرياض فالتحق بكلية الشريعة، وتخرج فيها عام 1380هـ، وكان ترتيبه الرابع على دفعته رغم الإعاقة البصرية، وكان في أثناء فراغه ينظم إلى حلقات علماء الرياض "آنذاك"، ولا سيما الشيخين الفاضلين: سماحة المفتي محمد بن إبراهيم وفضيلة الشيخ عبداللطيف، فهو "رحمة الله" معني بحفظ الوقت، وقد وعى تماماً قول ابن هبيرة: والوقت أنفس ما عنيت بحفظه. وقد عين مدرساً بالمعهد العلمي بالرياض مدة سنة، ثم طلب النقل إلى معهد عنيزة العلمي عام 1381هـ، وذلك حرصاً منه ليكون قريباً من والده وظل مدرساً بالمعهد العلمي حتى تقاعد عام 1407هـ بعد ذلك تفرغ لنشر العلم، وكان له درس في مسجد هلالة الذي كان يؤمه حيث يجلس مع طلابه للدراسة والمناقشة، وفي شهر رمضان يجلس الساعات الطوال لسماع تلاوة القرآن الكريم مجوداً من بعض الشباب وطلاب العلم، وقد أفرغت بعض أحاديثه وكلماته في أشرطة يستفاد منها داخل منازل الأسر، بل وحتى المسافرين عبر الطرق الطويلة ليأنسوا سماع ما أودع بها من أحاديث شائقة بأسلوب سهل وسلس يشد السامع ويزيد من انتباهه وتركيزه في أثناء القيادة.. ، كما أن رنين هاتفه لا يتوقف لكثافة طالبي وطالبات الإفتاء والإرشاد، ولطلب التدخل في إصلاح ذات البين ولم شمل بعض الأسر الذي قد يحصل بين الزوجين من خلاف وجفوة قد تفضي إلى الطلاق أحياناً، فيعقب ذلك ضياع وتشرد لأبنائهم فهو "رحمه الله" يعمل جاهداً إلى لم الأسرة وإعادة مياه الحب إلى مجاريها الطبيعية، وغالباً ما يكون تدخله مقبولاً لدى الطرفين..، فحياته كلها حافلة بالعطاء وإسعاد من حوله.
فرب ضرير قاد جيلاً إلى العلا ** وقائده في السير عود من الشجر
ولنا مع (أبو مساعد) ذكريات جميلة طويلة الأمد يتخللها تبادل الزيارات وإن كانت قليلة من جانبه نحونا "غفر الله له" ومما حز في نفسي كلمته المؤثرة حينما هم بالخروج من منزلنا مودعاً قبيل سفره إلى الولايات المتحدة الأمريكية للاستشفاء بإحدى المصحات هناك..، وهو يردد كلمات حزينة يجتر بها من أعماق نفسه: الله يجمعنا بكم في دار النعيم رددها مرتين! ، وبداخله ما به من لوعات الفراق، ولا يعلم ما الله صانع فيه:
وكل مصيبات الزمان وجدتها** سوى فرقة الأحباب هينة الخطب !
فوقع تلك الأنات الصادرة من ذاك القلب الطاهر ما زال يرن في أذني وشاء الله أن يكون ذاك اليوم هو آخر لقاء مع ((أبو مساعد رحمه الله)) ثم عاد من رحلته العلاجية إلى مهوى رأسه مدينة عنيزة، ولعله قد أحس بدنو أجله، فلم ير بداً من الذهاب إلى مكة المكرمة، ليصلي بالمسجد الحرام، ويتضرع إلى المولى بالدعاء وحسن الختام، وما لبث أن لاقى وجه ربه يوم الخميس 14 / 8 / 1411هـ، ودفن في مقبرة العدل، وكان من أمنياته أن يموت في مكة المكرمة فحقق الله جل ذكره أمنيته، وقد كان لرحيله بالغ الحزن والأسى في نفوس أسرته وتلامذته وجميع محبيه وعارفيه، وقد رثاه جموع غفيره من العلماء والأدباء بغر القصائد والكلمات المعبرة عن بالغ حزنهم لرحيله عنهم وبعده بعداً أبدياً -غفر الله لك أبا مساعد وجمعنا بك في مستقر رحمته، ولقد أحسن الشاعر حيث يقول:
لعمرك ما وارى التراب فعاله ** ولكنما وارى ثياباً وأعظما
الخطاط العبدان إلى رحمة الله (<!--)
تبلى الأنامل تحت الأرض في جدث ** وخطها في كتاب يؤنس البصرا
اعتدت مهاتفة بعض زملائي وأصدقائي بمنطقة القصيم، وغالبا ما يكون ذلك يوم الجمعة لتجديد التواصل والاطمئنان على صحتهم، والسؤال عن أحوالهم، وأدعو من تسنح له الظروف بزيارتي في محافظة حريملاء في أثناء قدومهم إلى الرياض، ومحاذاتهم أجواء حريملاء مذكرا لهم أن التواصل بين الأحبة محمدة لتقوية أواصر المحبة واستمرارها، فالأعمار ليس فيها متسع للتسويف والتباعد، فانتهاز فرص التزاور من أحلى ساعات العمر و أسناها:
وما بقيت من اللذات إلا ** محادثة الرجال ذوي العقول
وحينما اتصلت على منزل الأخ الصديق احمد بن محمد العبدان بمدينة بريدة بالقصيم كالعادة صباح يوم الجمعة 21/2/1431هـ للسلام عليه والاطمئنان على صحته التي ساءت وتدهورت في الآونة الأخيرة، فردت علي إحدى حفيداته وهي مجهشة بالبكاء قائلة: والدنا الأكبر رحل وتركنا ملبيا داعي الله، وكان لذاك النبأ وقع محزن ومؤلم في نفسي، فلم أملك في تلك اللحظة الموجعة لقلبي سوى تلاوة الآية الكريمة "إنا لله وإنا إليه راجعون"، فلقد ولد ذاك الرجل الفنان فنان الرسم والنقش على البيض بمدينة بريدة عام 1341هـ وعاش طفولته في أكنافها، وبعد ما ختم القرآن الكريم وحسن خطه في إحدى مدارس الكتاب لتحفيظ القرآن العزيز، أخذ يحضر مجالس الذكر لدى العلماء وما يدور فيها من نقاش وتلاوة، وعن أخبار الأقدمين وسيرهم، وقد ساعد ذلك على اتساع آفاق المعرفة لديه وعلى السير في الحياة سيرا مرضيا، فبدأت عليه مخائل الذكاء والحذق والفطنة، فلما رأى بعض أقرانه وأصدقائه يذهبون إلى الرياض بصحبة آبائهم أو بعض أقاربهم ليأخذوا بأسباب المعيشة هناك، فلم ير بدا من التوجه إلى الرياض مع صاحب سيارة أجرة بأجر قدره خمسة ريالات مؤجلة..، لأنه لا يملك شيئا من المال، فألفى على أخيه عبدالله الذي كان يعمل بالمالية، ثم فكر في عمل يعيش به، وكان موهوبا في جمال الخط والإملاء، فاشترى قلما ومحبرة وقرطاسا، ثم جلس في مكان تجمع الناس وشيوخ البوادي والقبائل وغيرهم ..، على مقربة من مكتب ديوان جلالة الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه -فأخذ يكتب الرسائل و(المعاريض) التي تقدم إلى الملك عبدالعزيز بطلب (شرهه) تستمر سنويا من المال وما يتبعها من المصاريف المتعارف عليها في تلك الحقبة ..، أو خطابات تظلمهم من خصم أو خلاف ذلك..، فكتابة كل معروض بقرش واحد..، فهو مميز الخط كما أسلفنا..، واستمر فترة وجيزة على هذا المنوال، بعد ذلك أخذه أخوه عبدالله إلى وزير المالية آنذاك (الشيخ عبدالله اللنجاوي) لأجل توظيفه بالمالية، فطلب منه أن يقدم معروضاً خطياً مبدياً رغبته في العمل الوظيفي، وهدف الشيخ اللنجاوي أن يطمئن على حسن خطه وإملائه، ثم عين براتب قدره أربعمئة وأربعون قرشاً تساوي أربعين ريالاً، وذلك في عام 1359هـ (رحم الله الجميع) فاستمر في عمله متدرجاً في سلم الرواتب حتى أنهى الخدمة النظامية مع مدة التعاقد معه حيث طلب إعفاءه بعد رحلة طويلة مشرفة في الخدمة بلغت واحدا وخمسين عاماً، كما كان يستغل فراغه في مزاولة هوايته المحببة إليه: الرسم والنقش على البيض متوسط الحجم بالخط الجميل المميز، وقد بلغ عددها أكثر من مئة وخمسة وعشرين بيضة جمع صورها ملونة أخوه الراحل عبدالعزيز بن محمد العبدان في كتاب أسماه:
فنان ) ينقش البيض) ، وقد طبع عام 1407هـ ثم أعيدت طباعته مرة ثانية عام 1416هـ بطباعة جيدة وتعتبر من أثمن التحف حيث يخط عليها بعض العبارات التي يكون لها علاقة ببعض الأحداث والمناسبات والذكر الجميلة فيهديها لعلية القوم من ملوك ووزراء وأصدقاء حسب كل مناسبة كلها بخط ورسوم تؤنس البصر فيردون عليه برسائل تحمل في ثناياها الشكر والإعجاب بموهبته الفريدة التي يندر مثلها ! ، وكأني به "رحمه الله" حين يفرغ من كل واحدة يتذكر ويردد في خاطرة الأبيات الثلاثة التي رثى بها نفسه الشاعر الأبيوردي حينما انتهى من كتابة ديوانه المكون من جزأين سنة 730هـ : حيث يقول
تبلى الأنامل تحت الأرض في جدث ** وخطها في كتاب يؤنس البصرا
كـــم مــن كتاب كريم كان كاتبه ** قد ألبس الترب والآجر و الحجرا
يا مـــن إذا نظـــرت عينـــاه كتبتنا ** كن بالدعاء لنا والخير مدكرا
وكان محل ثقة المسئولين بوزارة المالية حيث يكلفونه بالانتداب أشهراً طويلة لتسليم (الشرهات) العوائد السنوية التي سنها جلالة الملك عبدالعزيز ــ طيب الله ثراه ــ لكثير من المواطنين حاضرة وبادية تكرما منه لأبناء شعبه؛ فسمعت الشيخ أحمد عندهم معطرة بالثناء حيث إنه يتمتع بالأمانة والدقة في التعامل والحرص على تسليم المستحقات لأصحابها في وقتها، بل إنه إذا علم بمرض بعض الأشخاص أو لكبر سنهم فإنه يذهب إليهم بنفسه. ولقد شرفني في منزلي بحريملاء هو وبعض الشباب والزميل الوفي الأستاذ عبدالرحمن وأخوه الشيخ عبدالعزيز أبناء الشيخ عبدالله العبدان، وهو مصطحب معه هدية تعتبر من أثمن الهدايا وأحبها إلي، وهي عبارة عن بيضة كبيرة قد خطت عليها أنامله سورة (ن) كاملة بتاريخ 2/ 12 / 1405هـ حيث كساها بتلك الآيات الكريمة، كما وبرفقها لوحة صغيرة بارزة تتوسطها بيضة ملونة ومتوجة بسورة الكعبة المشرفة ومكتوب عليها بعض الآيات (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) لأجل تحلية طاولة مكتبنا آنذاك في أثناء عملنا مديراً للمتوسطة والثانوية بحريملاء، فجزاه الله عنا خيراً، وبعد أن تقاعد وأخلد إلى الراحة استبد به الحنين إلى مراتع طفولته ببريدة فقضى بقية أيام حياته هناك مع من بقي من رفاقه ليأنس بهم(رحمه الله):
المرء يسرح في الآفاق (مغتربا) ** ونفسه أبدا تتوق إلى الوطن
فالذكريات الجميلة معه ومع أسرة آل عبدان يطول مداها وما يتخللها من تبادل الزيارات، وكانت كل كتاباته تحث على الوفاء ومكارم الأخلاق، والثناء على من يقدم خدمات لوطنه وعلى المحسنين في رعاية الأيتام والمساكين مستحضراً هذين البيتين:
ومــا من كاتب إلا سيبلى ** ويبقى الدهر ما كتبت يداه
فلا تكتب بكفك غير شيء ** يسرك في القيامة أن تراه
غفر الله له وأسكنه فسيح جناته، وألهم ذويه وأبناءه وبناته وعقيلتيه، ومحبيه الصبر والسلوان (إنا لله وإنا إليه راجعون).
القاضي / عبدالرحمن بن سعد - مواقف لا تنسى (<!--)
لا يأمن العجز والتقصير مادحه ** ولا يخاف على الإطناب تكذيبا
كم هو جميل أن يذكر الإنسان بعد رحيله عن الدنيا، بعدّ شطر من مواقفه ومآثره الحسان، وتكرار ذكره، وذكر المماثلين له في المجالس الخاصة والعامة إذا جاء المجال في ذكر الكرماء والعلماء، ومن لهم دور مشرف في العطاء والإحسان، ومن كان له تأثير في تبصير الناس بأمور دينهم وحل مشاكلهم وفض المنازعات إن وجد شيء منها، سواء بالنصح والإرشاد، أو بالحكم الشرعي إذا كان الأمر يتعلق بالقضاء والمحاكم الشرعية التي يتجلى فيها العدل والإنصاف بين المتخاصمين مثلاً: وإصلاح ذات البين، بل وكل ما من شأنه إدخال السرور والألفة والتحاب في الله -جلت قدرته -لأن التنوير والتذكير بمآثر أولئك الذين لهم دور مشرق في الحياة يكون بمثابة إيقاظ مشاعر ذوي الهمم العالية ليحذوا حذو من سبقهم، وليواكبوهم في سائر المجالات الخيرية سواء في الميادين التجارية والبذل بسخاء في أوجه البر ورعاية الضعفة والمحتاجين لمد يد العون لهم، أو في الارتشاف من رحيق العلوم على أيدي المشايخ، والتشجيع على النشر ليستفاد منه وهكذا طريق الفضلاء ليبقى ذكرهم خالداً وساكناً في صدور الأجيال جيلا بعد جيل..، ومن أولئك الرجال علم بارز من فضلاء العلماء والقضاة الذين تعاقبوا القضاء في حريملاء بدأ من الشيخ عبدالوهاب بن سليمان في عام 1139هـ في تلك العقود الفارطة إنه الشيخ: الفاضل عبدالرحمن بن سعد بن عبدالعزيز ابن حسن الفضلي الذي سبق أن سعدت حريملاء بوجوده قاضياً لمدة عشرين عاماً منذ 1361هـ ـــ 1381هـ بجانب جلوسه بجامع حريملاء لعدد كبير من الطلبة تلقوا العلم على يديه في مادة التوحيد والحديث والفقه، وعلم العربية، وفي علم الفرائض حفظاً وشرحاً. ولقد ولد الشيخ في عام 1325هـ في بلدة ملهم إحدى بلدان الشعيب "محافظة حريملاء حالياً" ونشأ بها وأخذ مبادئ القراءة والكتابة في الكتاب لحفظ القرآن الكريم مجوداً وكانت ملامح الذكاء والفطنة تلوح على محياه، والحيوية تتموج في أعطافه، وقد عاش وترعرع في بيئة علم وكرم، فأبوه وجده كلاهما عالمان كبيران، مما كان له أكبر الأثر في نفسه وتطلعه في طلب العلم والنهل من حياضه العذبة، ثم شرع في طلبه فقرأ على علماء الشعيب، وكان من أشهر مشايخه: أبوه الشيخ سعد بن عبدالعزيز بن حسن، والشيخ فيصل بن عبدالعزيز المبارك، والشيخ إبراهيم ابن سليمان الراشد قاضي حريملاء "آنذاك" ثم رحل إلى المجمعة فقرأ على قاضيها الشيخ عبدالله بن عبدالعزيز العنقري، فطمع في التزود والتروي من رضاب العلوم فشخص إلى الرياض، وقرأ على أعيان العلماء فيها، ومن أشهرهم سماحة الشيخ محمد ابن إبراهيم وأخوه الشيخ عبداللطيف بن إبراهيم، ولازمهما زمناً حتى نهل من معين العلوم وأصبح في مصاف العلماء الأجلاء.
بقدر الكد تكتسب المعالي ** ومن طلب العلا سهر الليالي
ثم عينه الملك عبدالعزيز-طيب الله ثراه -قاضيا بمدينة الزلفي بترشيح من الشيخ محمد بن إبراهيم مفتي الديار السعودية -آنذاك، وفي عام 1361 هــ نقله إلى قضاء الشعيب والمحمل، ومقر قضائه في حريملاء، ومكث في قضائها عشرين عاما، و كان موفقا في أقضيته، و كثيراً ما يميل إلى الصلح بين الخصمين، وإذا اختلفا فيما يدعيان فيه مثل قسمة مجاري سيول نخيلهم ومزارعهم، أو في تحديد الأملاك المشتركة، وما أشبه ذلك، فإنه يذهب إلى تلك المواقع ليقف عليها بنفسه سرا أو جهرا، ثم يحكم بما يراه الأصوب ويكون ذاك الحكم حاسما ومرضيا لدى الطرفين في كثير من القضايا لسلامة صدورهم، واقتناعهم بحكمه -رحم الله الجميع - وكان يوم الجمعة يخطب ارتجالا بصوت مؤثر، ولا زال ذاك الصوت الشجي يرن في أذني وهو يقول: (الدنيا عرضٌ حاضرٌ يأكل منها البر و الفاجر إلخ...، والصغير لا ينسى، فهو خطيب ثبت الجنان -رحمه الله -وكان ذا صلة وطيدة مع والدي العالم الزاهد الشيخ عبدالرحمن بن محمد الخريف الذي يعتبر من علماء عصره، فيقضيان تلك السويعات المتكررة الجميلة المفيدة بين آونة وأخرى في نقاش وتطرق لبعض مسائل الخلاف بين العلماء فيحاولان التوفيق والجمع بين أطرافها واختيار الأصوب و الأرجح بين الروايات، كما أنه يستشير والدنا في بعض القضايا التي يكون فيها إشكال عليه، فالوالد-رحمه الله -يتعامل معه كنظير له ويقول بتواضع لعل الأصوب كذا...، فيفهم القاضي هذه الإيماءات فيعمل بها، وهذا شأن القضاة الورعين في التثبت قبل إصدار الأحكام، وفي عام 1381 هــ نقل إلى القضاء في المحكمة الكبرى في الرياض، وكان يصلي إمامأً في مسجد ((الوسيطى)) الواقع شرقي محلة دخنة في الرياض، وله فيه حلقات لتدريس بعض طلاب العلم، ويصلي يوم الجمعة إماماً وخطيباً في مسجد الشيخ محمد بن إبراهيم في أثناء غيابه، وقد توفي في 15/12/1391هــ فعم حزنه أسرته وتلامذته ومحبيه، وكان -يرحمه الله-سمح المحيا طيب العشرة، حلو المفاكهة جم التواضع كريماً، وعطوفاً على المساكين، ومنزله لا يخلو من أمثالهم يقدم لهم القهوة وما تيسر من طعام ويأكل معهم، ويداعبهم لتذهب عنهم وحشة الهيبة ليأنسوا في مكانه، فهو رجلٌ مهيب في مجلس القضاء لا تسمع الكلمة العوراء فيه، ليّن العريكة مع ضيوفه وجلسائه.
ومن الذكريات الجميلة تشريف الملك سعود بن عبدالعزيز -رحمه الله -في منزله المتواضع في أثناء زيارته لأهالي حريملاء عام 1374 هــ وتجاذب أطراف الأحاديث الودية بينهما، وهذا هو شأن ملوكنا الكرام بتقدير العلماء وزياراتهم في منازلهم:
وأحسن أخلاق الفتى وأجلها ** تواضعه للناس وهو رفيع
ومن المواقف التي لا تخلوا من طرافة أثناء بداية قيادة سيارته أن صادف أن تقابل مع سائق آخر داخل بلده بملهم في طريق ضيق لا يسع سوى سيارة واحدة، فأخذ السائق المقابل يوسع الشيخ صراخاً وشتماً، فما كان من الشيخ عبدالرحمن المعروف بالحلم وسعة البال إلا أن قال يا هذا أقصر من شتمك أنا سائق قدام لا سائق خلف، فلما علم أنه القاضي خجل ثم رجع بسيارته إلى الخلف، متندماً ومعتذراً على ما تفّوه به نحوه...، وهذا يدل على حلم الشيخ وتواضعه، وهذه طرفة أخرى تدل على فطنة الشيخ ودرايته باختلاس بعض الجزارين من أطراف أعضاء وأجزاء الذبيحة بدون أن يفطن الكثير من الزبائن لاختلاسهم لتلك (النتف من اللحم...!) فذات يوم نزل ضيف على الشيخ عبدالرحمن -أبو عبدالعزيز -فأمر جزاراً أن يذبح خروفًا لغداء الضيف، فقال له أعطنا من لحم ((الجلد... !)) نُودّم به فطورنا، وفي نفس الوقت يشعر الجزار بطريقة لبقة انه لا يخفى عليه اختلاس بعض الجزارين ووضع ما يسرق في ثنايا الجلد، ثم يذهب به إلى منزله..، فالشيخ يرحمه الله على جانب من الفطنة والدراية بأحوال الناس دقيقها وجليلها:
ليس الغبي بسيد في قومه ** لكن سيد قومه المتغابي
وكان (رحمه الله) حريصاً على توطيد علاقته بالمعلمين والطلاب، فقد كان يدعو المعلمين بين فترة وأخرى لتناول الطعام في منزله، كما كان يحضر نادينا نادي معهد المعلمين بحريملاء باستمرار الذي يقام في ليالي الجمع في الفترة من عام 1379هـ -1381هـ، ويقوم بتشجيع وتوجيه الطلبة مبيناً لهم أهمية المسرح المدرسي، وإلقاء الخطب على منصته أمام الحضور والآباء، ففي ذلك تعويد على الخطابة والارتجال، وإبعاد شبح الهيبة وبناء الشخصية، مذكرا أنهم رجال المستقبل وعدة الوطن، وحاثاً على تقديم الجوائز الرمزية للمتفوقين، لعلمه أنها تقوي معنوية الطالب وتثير الحماس بين الطلاب مما جعلهم يتدافعون ويتنافسون على ذاك المنبر المدرسي الذي خرج أفواجا من الأدباء والخطباء في المساجد والمحافل.
يتزين النادي بحسن حديثهم ** كتزين الهالاة بالأقمار
فسيرة الشيخ عبدالرحمن بن سعد معطرة بالثناء، وبالذكر الحسن فمحبته ساكنة في صدور أهالي حريملاء وجميع محبيه، وسيظل ذكره غضًا طرياً إلى الأبد، تغمده الله بواسع رحمته وأسكنه عالي الجنان إنه سميع مجيب.
<!--[if !supportFootnotes]--><!--[endif]-->
(<!--) نشرت في صحيفة الجزيرة، يوم الإثنين 27 ذوالحجة 1430هـ الموافق 14 ديسمبر2009م.
(<!--) نشرت في صحيفة الجزيرة، يوم الخميس 21 محرم 1431هـ الموافق 7 يناير2010م.
(<!--) نشرت في صحيفة الجزيرة، يوم الأحد 30 صفر 1431هـ الموافق 14 فبراير 2010م.
(<!--) نشرت في صحيفة الجزيرة، يوم الأحد 14 ربيع الأول 1431هـ الموافق 28 فبراير 2010م.
(<!--) نشرت في صحيفة الجزيرة، يوم الأحد 28 ربيع الأول 1431هـ الموافق 14 مارس 2010م.
(<!--) نشرت في صحيفة الجزيرة، يوم الأثنين 29 ربيع الأول 1431هـ الموافق 15 مارس 2010م.