الدكتور يوسف السلوم إلى رحمة الله(<!--)
رأيت أخا الدنيا وإن بات آمنا |
|
على سفر يسرى به وهو لا يدري |
بالأمس القريب رحل أخوه الفاضل عبدالله بن إبراهيم السلوم، وقبله بفترة ليست بالبعيدة غادر الحياة أخواه: محمد و د . حمد ـ زميلنا بدار التوحيد بالطائف عامي ـ 71/1372هـ ـ واليوم الخميس 21/7/1429هـ لحق بهم شقيقهم الدكتور ـ لواء ـ يوسف بن إبراهيم السلوم ـ رحمه الله ـ بعد صراع طويل مع المرض الذي نغص عليه حياته، وجعله يعيش قلقا متنقلا ما بين منزله ومستشفى القوات المسلحة، مع تجدد أحزانه على فقد إخوته الثلاثة، وتتابعهم الواحد تلو الآخر حتى وصل دوره فلحق بهم ـ رحمهم الله جميعا ـ ، وقد خيم الحزن على أجواء أسرة آل سلوم ومحبيهم حيث انتهت أيام الأخوة الأربعة ـ الكبار ـ من أيام الدنيا، وهذه سنة المولى في خلقه: قادم وراحل ..، ولقد تكرر أمام ناظريه هز نعوشهم صوب المقابر مراقد الراحلين مما جعل هم الرحيل يساوره ويقلقه، ولسان حاله يتمثل بهذين البيتين:
أؤ أمل أن أحيا وفي كل ساعة |
|
تمر بي الموتى تهز نعوشها |
وهل أنا إلا مثلهم غير أن لي |
|
بقايا ليال في الزمان أعيشها ! |
وقد استوفى حقه من ليالي العمر ـ رحمه الله ـ بعد ما عاش مع أسرته وبين إخوته في أجواء جميلة يسودها الود والتآلف، والتواصل المستمر بينهم، وبين معارفهم مدى حياتهم حتى فرقهم هادم اللذات ومفرق الجماعات، واذكر أن الدكتور حمد وأخويه محمد ويوسف وبعض أبنائهم قد خصصوا بعد المغرب من كل ليلة لزيارة شقيقهم الأكبر عبدالله وخاصة حينما أقعده الكبر لتبادل الأحاديث الودية معه، والاستفادة من تجاربه في الحياة ومن مخزون ذكرياته ..، وإيناسه وتخفيف وحشة الوحدة عنه داخل منزله .. متطرقين لأيام الصغر والطفولة وهم بين أحضان والديهم. وما يجري في تلك الأيام من ذكريات جميلة يرددونها بينهم تلذذا بالماضي البعيد..، فجلوسهم معه مما يؤنسه ويدخل السرور بين جوانحه، ولكن أيام السرور لا تدوم أبدا:-
ما أحسن الأيام إلا أنها |
|
يا صاحبي إذا مضت لا تعود |
وكثيرا ما يستحضر مثل هذا البيت للحث على تحمل مصائب الدنيا مرددا:-
تعز فلا إلفين بالعيش متعا |
|
ولكن لوراد المنون تتابعا |
ولقد عاش الدكتور يوسف – أبو عبدالله – منذ فجر حياته مكافحا وجادا في كل المراحل الدراسية حتى نال درجة الدكتوراه من إحدى جامعات المملكة المتحدة ..، وكان هدفه أن يخدم وطنه بكل إخلاص وأمانه، وليكون قدوة حسنة للأجيال المثاليين، حيث حصل على رتبة لواء بالجيش السعودي قبل رسالة الدكتوراه، وقد تقلب في عدد من المناصب العالية منها: مدير عام التخطيط والميزانية والمتابعة لوزارة الدفاع والطيران ،ثم تعيينه مديراً للمصانع الحربية بالخرج، وقائد منطقة المدينة المنورة ، ومدير إدارة التفتيش، وأمين عام الخدمة العسكرية بالديوان الملكي، ثم سفيرا في كينيا، وأخيرا عضوا في مجلس الشورى للدورتين. بعد ذلك أخلد إلى الراحة والكتابة عبر الصحف والمجلات، وإعداد مجموعة من مؤلفاته ومذكراته: تحت الطبع الآن ليقتات منها من بعده ـ تغمده الله بواسع رحمته ـ ولقد اتصف بالحزم والشجاعة في الرأي وإفهام من تحته بإتقان ما يوكل إليهم من أعمال محاطة بالسرية التامة، فهو رجل عالي القامة في المحافل العسكرية، وله مكانة لدى ولاة الأمر لما يتمتع به من حنكة وإخلاص وتفان في خدمة الوطن وأهله، ومع ذلك كان دمث الأخلاق لطيف المعشر محبا للقراءة واسع الأفق والإطلاع على كل جديد، وقد ظهر ذلك جليا في قوة أسلوبه ومتانته، وأحاديثه الشيقة النابعة من تراكم المعلومات من مخزونات ذاكرته فهي نبع ثر يقتات منها في كل مجال يكتبه أو يتحدث فيه، ولئن غاب عن نواظرنا شخص أبي عبدالله فإن ذكره الحسن لا يبرح خواطرنا مدى العمر، والأمل في أبنائه الكرام أن يبادروا بطبع مؤلفاته ومذكراته التي بذل في إعدادها عصارات أفكاره النيرة، كي يستفاد منها، ولتبقى مرجعا وذكرا خالدة على تعاقب الملوين، وفي ختام هذه الكلمة الوجيزة أرجو من المولى أن يسكنه فسيح جناته ويلهم ذريته وأبنائه وبناته وعقيلتيه أم عبدالله وأم فيصل الصبر والسلوان.
"إنا لله وإنا إليه راجعون "
الشيخ حاضر العريفي إلى رحمة الله(<!--)
تتابع أخوتي ومضوا لأمر |
|
عليه تتابع القوم الخيارُ |
الدنيا طبعت على كدر ومتاعب جمة سواء الجسمانية أو الفكرية والنفسية معاً، وهذا هو واقع الحياة مابين صفو وكدر، ومنغصات يختلف وقعها وارتطامها بجمار القلوب المحاطة بسياج الأضلع ومسبباتها قوة وضعفاً، لأن مصائب الدنيا تختلف باختلاف أحاسيس وتحمل الأفراد والجماعات لها، فهي وإن صفت أعقب صفوها كدر:
طبعت على كدر وأنت تريدها |
|
صفواً من الأقذاء والأكدار |
فبينما يعيش المرء مزهواً بالصحة والسعادة مغتبطاً في هذا الوجود ومستأنساً بأطاييب الحياة وملذاتها مع ما يزاوله من أنشطة وجولات ـ أحياناً ـ في مناكب الأرض كيفما يشاء يمنة ويسرة طلباً للمعيشة، أو ترفهاً وسياحة، فإذا بمفاجآت الأقدار تنغص وتكدر عليه ما أستمتع به من حلو العيش وأطايب النعيم وملذات الحياة بحلول بعض الأمراض الطارئة المخيفة ـ مثلاً ـ التي قد تكون سبباً في قلقه وتعجيل رحيله ـ والآجال بيد الله وحده ـ فيكون وقع ذاك الوافد المزعج محطماً لقواه ولأماله العراض، فيظل هاجس الرحيل مدوياً في طوايا نفسه، ومجلجلاً في حنايا صدره مُكدراً لخاطره، فيحاول جاهداً صده وإفلاته من جسده بتكثيف المراجعة للأطباء علّهم يعملون شيئاً ما يطمئن نفسه المحاطة بالقلق والخوف من المجهول المحتوم ..، وقد يزمع السفر إلى بعض بلدان العالم المتقدمة طبياً علّه يجد سبباً في مد حبل عمره معافاً، ولكن المكتوب في عالي جبينه لامناص منه البتة، وهذا هو شأن أمثال الشيخ الوجيه الحبيب حاضر بن عبد الله العريفي الذي حاول الفرار من قبضة هادم اللذات بالتعجل بالسفر متنقلاً بين البلدان الأوربية، والولايات الأمريكية، فراراً منه، فرجع خائبة آماله وأستمر في العلاج بمستشفى الملك فيصل التخصصي بجدة بضع شهور، ثم رحل عنا وغاب عن الوجود في يوم الأحد 16/8/1429هـ وقد أديت صلاة الميت عليه بعد صلاة العصر في المسجد الحرام ودفن بمقابر العدل مأسوفاً عليه بعد حياة سعيدة حافلة بالمسرات وسعة الخاطر، وبعد أن صال وجال وطاف في أنحاء الدنيا ...، ومتع ناظريه من آفاقها المتباعدة إلى أن حضره يومه الموعود ـ كما أسلفنا آنفاً ـ " ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها ... الآية " سورة يونس 49.
وكان ذاك اليوم الأحد 16/8 يوم محزن لأبنائه وعقيلتيه أم خالد وأم نواف وجميع أفراد أسرته ومحبيه ـ تغمده الله بواسع رحمته ـ ولقد قضى أيام طفولته وأوائل شبابه بين أحضان والدية في ربوع وأكناف بلده "جزالة " بمحافظة القويعية بلد أسرة العرافا الذين اشتهروا بالكرم والتعاون والتآلف فيما بينهم، عاش بين أقرانه وأترابه في تلك البلد الوادعة التي يسود جوها الهدوء وطيب المناخ أجمل أيام عمره وأحلى ذكرياته، وقد تروى من ماء بئر "جزالة المشهورة" فزاده ماؤها العذب حلاوة وطراوة في حديثه، ولطافة في حسن تعامله مع الجميع ..! ثم رحل إلى مدينة الرياض وأخذ بأسباب المعيشة، وبعد تحسن حاله المادية أخذ يشتغل بالتجارة، وأخيراً استقر به المطاف في أولى مصائف المملكة بمحافظة الطائف فحسنت حاله المادية كثيراً، ثم اختاره شركاؤه مديراً عاما لشركة الجزيرة للمقاولات ..، لما يتمتع به من أمانة وحنكة وحسن تعامل، فأشرع باب منزلة داخل المدينة وبستانه الواقع في مرتفعات الهدا بالطائف لاستقبال من يؤمه من الضيوف، وقاصديه من أسرته وأصدقائه ومعارفه الكثر ..، ويعد ذاك البستان من أجمل البساتين الحافلة بأجود أنواع الفواكه والخضروات: من رمان وكروم وكمثرى وحماط ..، وبسائر الخضروات المعروفة بتلك الأجواء الممتعة :
بنفسي تلك الأرض ما أطيب الربا |
|
وما أحسن المصطاف والمتربعا |
فهو ـ رحمه الله ـ قد طوق أعناق الرجال بأفضاله وكرمه الحاتمي ..، مع ما ينفح الزائر بجزيل هداياه من تلك الثمار الحلوة اليانعة، فمن صفاته الحميدة أنه طيب المعشر هادئ الطبع حلو الطرفة والنكات، فحديثه خفيف على القلوب لا يمل يؤنس السامع، وينسي الضيف أهله ببالغ حفاوته وإيناسه، وهذا يذكرنا بقول الشاعر الغنوي:
حبيب إلى الزوار غشيان بيته |
|
جميل المحيا ، شب وهو كريم |
وكأني بمن يمر محاذياً ذاك المكان الذي ألفوه مرتع الأضياف لاوياً عنقه نحوه متحسراً على غياب صاحبه وقد خلت من شخصه داره ...! مستحضراً هذا البيت:
ووحشته حتى كأن لم يكن به |
|
أنيس ولم تحسن لعين مناظره ! |
فنرجوا أن تستمر ساعات الأنس بلقاء الأحبة والأضياف هناك ... ولقد سعدت بمعرفة "أبو عبد الله" منذ أعوام وبأول لقاء معه وبصديقه الخاص الأستاذ الفاضل عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ مدير عام الإقليم الجنوبي للخطوط السعودية، وذلك في حفل تكريم حفظة القرآن الكريم بالمدرسة الصالحية بمحافظة حريملاء منذ سنوات التي سعد بتأسيسها وفتحها على نفقته الخاصة الشيخ الراحل محمد بن صالح بن سلطان ـ رحمه الله ـ فكنت كلما أحضر إلى الطائف أزوره وأزور صديقنا الأستاذ عبد الرحمن آل الشيخ وألقى كل تكريم وحفاوة منهما، كما لا أنسى هدايا "حاضر" المتكررة الجزلة من كراتين الرمان وسائر الفواكه كل عاما ..، وكان من حفاوته بي أثناء وجودي بفندق المسرة الواقع على مقربة من مطار الحوية في ضيافة محافظ الطائف الأستاذ فهد بن عبد العزيز المعمر وقت الاحتفال بمرور خمسين عاماً على تأسيس دار التوحيد عام 1364هـ كان رحمه الله يأتي في الصباح الباكر فيأخذني بالقوة بسيارته لتناول طعام الإفطار معه الذي تعده إعداداً شهياً عقيلتاه أم خالد وأم نواف متعهما الله بالصحة والسعادة، وجبر مصيبتهما بفقد إلفهما الغالي اللتين حزنتا عليه حزناً عميقاً سيطول مكثه بين جوانحهما ..! فلسان حالي يملي عليهما هذا البيت لعلهما تجدان فيه سلوة:
فقلت لها صبراً فكل قرينة |
|
مفارقها لابد يوماً قرينها ! |
وأنا بدوري أختتم هذه الكلمة الوجيزة بهذا البيت :
ستبقى لكم في مضمر القلب والحشا |
|
سريرة ود يوم تبلى السرائر |
فذكرى "أبوعبد الله " ستبقى في خاطري مدى عمري ـ رحمه الله رحمة واسعة ـ وألهم أبناءه ومعالي الشيخ ناصر الشثري وأبناءه، وزوجتيه وأسرته ومحبيه الصبر والسلوان." إنا لله وإن إليه راجعون ".
رحم الله الشيخ عبدالله بن إبراهيم آل معمر(<!--)
كل ابن أنثى وإن طالت سلامته |
|
يوماً على آلة حدباء محمول |
لكل أجل كتاب ولكل حي نهاية وغياب، فهذه سنة المولى في خلقه منذ الأزل، حياة ثم ممات لجميع الخلائق المتتابعة على ظهر هذا الكوكب الأرضي إلى يوم البعث والنشور، فالسعيد في ذاك الموقف الرهيب الذي تذهل فيه كل مرضعة عن ما أرضعت من يأخذ كتابه بيمينه مسروراً فنرجو من المولى أن يكون الأخ الكريم الوجيه: عبد الله بن إبراهيم المعمر من أولئك السعداء، حيث لاقى وجه ربه بعد صلاة التراويح في ليلة الثلاثاء 9-9- 1429هـ متخطياً تسعة عقود من الزمن، ومقارباً عبور (الهنيدة( مأسوفاً عليه بعد رحلة طويلة حافلة بالعطاء وبالعمل الجاد في خدمة الوطن وأهله تحت مظلة ملوك هذا الوطن أنجال مؤسس وموحد أرجاء هذه البلاد جلالة الملك عبد العزيز - طيب الله ثراه -، وظل في الخدمة ما يقارب الأربعين عاماً قضاها متنقلاً أميراً ومحافظاً في كثير من مدن المملكة بدءاً من مدينة شقراء - حوطة بني تميم - مرات - الأفلاج - حريملاء - المجمعة -، وأخيراً محافظاً بوادي الدواسر، تغمده الله بواسع رحمته - بعد ذلك أخلد إلى الراحة في مهوى رأسه: بلد آبائه وأجداده (سدوس) فأخذ أحبته ومعارفه يتقاطرون على قصره ومزارعه لزيارته، والاستمتاع بأحاديثه الشيقة التي يتخللها بعض القصص والمواقف الطريفة التي مر بها أثناء رحلته الطولى، وتنقله بين تلك المدن والمحافظات المشار إليها بكل نشاط وإخلاص، فأولئك الزوار يلقون منه حسن الاستقبال، والمبالغة في إكرامهم وإيناسهم بما يحلو لهم، فمكانه بمنزله الصوالين الأدبية التي يؤمها الكبار من علية القوم والأدباء، وسائر طبقات المجتمع لما يلقونه من حفاوة وتكريم:
حبيب إلى الزوار غشيان بيته |
|
جميل المحيا، شب وهو كريم |
ثم أعقب تلك الأيام وليالي سروره مع أسرته ومع أحبته مكابدة أعراض الكبر والآلام المتعددة والتنقل من قصره إلى مستشفى الملك فيصل التخصصي بين حين وآخر، وهكذا طبيعة الحياة التي لا يدوم لها سرور حتى انتهاء رصيده الزمني من أيام الدنيا ليلة الثلاثاء 9-9-1429هـ منتقلاً إلى دار البقاء والمقام:
ولا خير في الدنيا لمن لم يكن له |
|
من الله في دار المقام نصيب |
فنرجو له طيب الإقامة في جدثه إلى أن يأذن الله لجميع الخلائق بالنهوض من مراقدهم، ولقد تحقق على يديه الكثير من المشاريع التنموية في تطوير معظم البلدان التي كان يعمل بها.. كما أن له دورا فاعلا في إصلاح ذات البين، وبين الأطراف التي قد يحدث بينها خلافات وتنازع مما أكسبه محبة لدى المواطنين، وتقدير المسؤولين له لما يتمتع به من حنكة وبعد نظر، وحسن تعامل مع الغير، لذا عمد ولاة الأمر على تعيينه في عدد من كبريات المدن.
والمحافظات ممثلاً لهم ومنفذاً لأوامرهم، فقام بتلك المهام بكل جد وإخلاص خير قيام طيلة تسنمه لتلك المناصب المتعددة.. ولقد ولد وترعرع وتربى بين أحضان والديه في بلده سدوس الشهيرة المتربعة على جنبات شعيب الحيسية الحافلة بأشجار الطلح وارفات الظل التي تعتبر من المتنزهات الجميلة لجلالة الملك عبد العزيز والمرحلة الأولى السنوية من مراحل توقفه أثناء توجهه إلى الحجاز وإلى بيت الله الحرام، بمكة المكرمة - آنذاك - بل وما زالت تلك الغابات متنفساً لمن يؤمنها من مدينة الرياض، وغيرها من البلدان المجاورة، وخاصة في مواسم الربيع وإجازة العيدين، ويعتبر ذاك الشعيب من أوسع وأكبر منحدرات سيل وادي حنيفة المتجه عبر العيينة والجبيلة صوب الرياض.. ولقد اشتهرت أسرة آل معمر بالكرم الحاتمي منذ أحقاب السنين فبلد سدوس ممر ومعبر هام لقاصدي الرياض راجلين وراكبين دوابهم..، وخاصة القادمين من الجهات الشمالية مثل القصيم، وسدير، والوشم، ومن البلدان المجاورة لها..، وذلك في الزمان الأول كانوا يتجهون لقضاء حوائجهم، والبعض للأعمال الحرفية هناك في داخل مدينة الرياض، والبعض يعمل في المزارع والنخيل الحكومية المحيطة بالمدينة لكسب لقمة العيش لهم ولأسرهم، وذلك قبل وجود المدارس وتوفر الوظائف الحكومية في تلك الحقبة البعيدة..، فضيوف آل معمر باستمرار ليلاً ونهاراً فيقدموا لهم ما تيسر من أطعمة وأعلاف لمواشيهم ودوابهم، فصدورهم رحبة لا تمل وجوه الأضياف من عابري الطريق، فالأسماع دائماً تلذ لذكرهم لما يتمتعون به من سخاء وكرم، وبعد هذا الاستطراد الذي ألزمنا بالتنويه بأفضال الذين خلد التاريخ لهم ذكراً حسناً وسمعة يعبق أريجها..، إلى الحديث عن الشيخ عميد أسرة آل معمر (أبو سعد) - رحمه الله - وحفاوته وإكرام من يؤمه سواء أثناء عمله المشرف في تلك المدن والمحافظات، أو بعده بل وقبيل رحيله: كنا نزوره على فترات متقاربة في مزارعه وفي قصره مع بعض الإخوة للاطمئنان على صحته والاستئناس بأحاديثه الممتعة التي لا تمل، وما يتخللها من طرائف وعِبَر، وكان يصر على إكرامنا وتناول طعام العشاء بجانبه رغم ما يعانيه من متاعب جمة وأمراض شتى، كما أن أخاه الشيخ الراحل عبد الرحمن لا يقل عنه حفاوة وإكراماً بضيوفه - آنذاك - رحمهما الله جميعاً، فالكرم سجية من سجايا أسرة آل معمر..، وعندما قدمت لزيارته الزيارة الأخيرة بالمستشفى التخصصي وهو في شبه غيبوبة فسلمت عليه قائلاً أنا محبكم عبد العزيز بن عبد الرحمن الخريف فبادرني بصوت عال وهو في حالة حرجة ابن الشيخ ابن الشيخ! وهي آخر كلمة سمعتها من فيه - تغمده الله بواسع رحمته.
ولقد اشتهر مدة حياته ـ كما أسلفنا ـ بإبادة الخراف صغاراً وكباراً تكريماً لأضيافه مُهلياً ومرحباً والابتسامة لا تبرح شفتيه ولله در (أبو تمام) حيث يقول:
فتى لم تكن تغلي الحقود بصدره |
|
وتغلي لأضياف الشتاء مراجله |
ولئن خلا مكانه منه فإن شخصه يظل ماثلاً في خواطر محبيه مدى الأيام.. رحم الله أبا سعد وأسكنه فسيح جناته وألهم ذويه وأبناءه وبناته وعقيلته أم عبد العزيز وجميع محبيه الصبر والسلوان.
}إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ{.
وغــــابت كريمــــة السجــــايا(<!--)
وما المال والأهلون إلا ودائع |
|
ولابد يوماً أن ترد الودائع |
فجائع الأيام تتراء وإن صفت يوماً أعقب صفوها كدر، فالإنسان في هذا الوجود يمر به عقود من الزمن يسعد فيها بين أسرته وأخوته وبين أحبته ورفاق عمره, ويستمر ذاك الترابط والتواد وتحلو الحياة بصحبتهم ورؤيتهم صباحاً مساءً، وعلى فترات من الزمن يتخللها أفراح ومسرات بعيدة عن منغصات الحياة حتى إن الإنسان قد يخال أن أجواء الزمن هكذا صحوا وشروقاً دائماً, فلا يلبث أن يفاجأ بما يكدر خاطرة من رحيل عزيز عليه من الوالدين أو أحدهما أو أخ وصديق، فبينما كنت أتناول طعام الإفطار بعد أذان مغرب يوم الخميس 18/9/1429هـ وإذا برنين الهاتف يحمل خبر وفاة أختي طرفة ـ أم صالح بن عبد الله العجاجي، حيث قال أبنها الأكبر والحزن قد أستوطن في شعاب نفسه ياخال، أظلم منزلنا برحيل الوالدة الذي تزامن غروبها عن الدنيا مع غروب شمس يوم الخميس 18/9/1429هـ فأجبته مسترجعاً " إنا لله وإنا إليه راجعون "وقد ظل المرض مصاحباً لها حوالي تسعة أعوام وهي طريحة الفراش، ولسانها دائماً رطب بذكر الله وتلاوة ما تيسر من قراءة قصار السور ..، ولم تبدي تضجراً أو تسخطاً رغم ما تعانيه من ملل وأمراض متعددة، فهي راضية بما هي فيه من متاعب راجية عظيم الأجر من رب العالمين..، ولقد طوح بي الخيال إلى أيام طفولتي ورعايتها لي فهي بمنزلة الوالدة في حنانها وعنايتها بي كما أنها تخصني ببعض ما يُسعدني من ألعاب وبعض المأكولات مثل "الأقط" وهو لبن مجفف "والفتيت" وشئ من الحبوب، وخاصة وقت ذهاب الوالدة للحج على الجمال ـ آنذاك ـ مدة شهرين تقريباً ذهاباً وإياباً .. وقد أنستني التفكير والتعلق بالوالدة لحسن تعاملها وعطفها ـ رحمة الله عليهما جميعاً ـ ولقد عاشت الأخت ـ أم صالح ـ أكثر من تسعة عقود من الزمن محبوبة وحميدة أيامها ولياليها في محيطها الأسري، ومع جيرانها وصديقاتها اللاتي بكينها كثيراً وحزنّ لفراقها الأبدي لما تتمتع به من حنكة، وخلق كريم وعطف على الصغير والكبير بل وبخدمة المرضى من قريباتها وملازمتهن، سواء في المستشفيات أو داخل بيوتهن، مثل الأخوات والخالات، بل وبرعاية لبعض الأطفال الذين باكرهم اليتم برحيل أمهاتهم وليس بمنازلهم من يرعاهم وخاصة الذين تربطهم بها صلة قرابة ..، فهي تعاودهم ما بين وقت وآخر لتخفيف وطأة اليتم ووحشة فراق وغياب أقرب الناس إلى قلوبهم لمواساتهم وتقديم ما يلزمهم وتفقد ملابسهم..، كل ذلك وفاءً منها واحتساباً للأجر من رب العباد الذي يقول في محكم كتابه العزيز " إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا ". وسيحدث غيابها في الساحة الأسرية فراغاً وفجوة واسعة، ولاسيما من تربطها بهم صلة قرابة وصداقة، ومجورة, فهي معروفة برحابة الصدر وبالتفاني في إسداء المعروف الذي يقي مصارع السوء، وبالعمل الخيري مع جاراتها في الحي والمحلات القريبة من منزلها ..، ولاسيما في سالف الزمان المشهورة بتكاتف وتعاون تلك الأجيال فيما بينهم بصفة عامة, وفي مجالات أخرى مثل مواسم الأعياد والتحضير لعمل ولائم الزواجات، والمناسبات المشابهة لذلك .. فهي تشاطر قريباتها وجاراتها في تحضير بعض الأطعمة لعدم وجود محلات للطبخ, كذالك تساهم في خياطة عدد من ملابس العرائس ومستلزماتهن، فهذا العمل الجميل التعاوني سائد في الأوساط الاجتماعية قديماً:
إذا الحمل الثقيل توازعته |
|
أكف القوم خف على الرقاب |
فهي مثالية في جميع أعمالها وصفاتها ـ تغمدها الله بواسع رحمته ـ ومما زاد أوارى حزني ما سمعته من شقيقتي الصغرى "هيا" أم الدكتور محمد بن عبد العزيز العقيلي حينما هاتفتها معزياً في أختي الكبرى "أم صالح" قائلة بصوت حزين لامس هضاب قلبها: (ما عاد لي أخوات يا أُخيي)!! ولسان حالها في تلك اللحظة يجيب بمثل هذا البيت:
بلى إن هذا الدهر فرق بيننا |
|
و أي جميع لا يفرقه الدهر |
ولئن غابت عن ناظري فإن ذكرها العاطر سيبقى خالداً في خاطري مدى عمري..
رحم الله "أم صالح" وأسكنها عالي الجنان وألهمنا "إخوتها" وذويها وأبنائها وأبنتها الجوهرة أم "محمد " الصبر والسلوان.
" إنا لله وإنا إليه راجعون "
رحم الله الصديق محمد بن عبدالله العمراني(<!--)
وما الناس إلا ظاعن ومودع |
|
وثاوٍ قريح الجفن يبكى لراحل |
الإنسان حينما يفاجأ برحيل عزيز وقريب أو صديق يشعر بحزن عظيم، وجرح عميق يلامس فؤاده ويصدع قلبه، ولا يلبث أن يسترجع شريط الذكريات الجميلة معه ولا سيما إذا كان الراحل من أترابه ولداته، فتقارب السن يعد ـ أحياناـ من أركان الصداقة وأدومها بقاء في شعاب النفس أمدا بعيدا، فالمرء بحسه وبفطرته ينظر إلى أقرانه ومن عاش معهم في صغره نظرة خاصة عند غيابهم نظرة تشده إلى الماضي البعيد عصر الطفولة والبراءة حتى ولو لم تربطه بهم صلة قرابة أو نسب، فكيف إذا كان الغائب قريبا كريما وصديقا حميما مثل من فجعنا بوفاته وبرحيله العاجل عنا قبيل صلاة فجر يوم الاثنين 6/10/1429هـ بعد ما أومأ شعوب بأن رصيده الزمني من أيام الدنيا قد انتهى تماما إنه الأخ الكريم ابن الخالة محمد بن عبدالله العمراني ـ أبو عبدالعزيزـ ولقد عاش بين أحضان والديه مطيعا وبارا بهما، ومُشاطراً في الأعمال الحرفية والفلاحة مبكراً، فحياته كلها كفاح وعراك ـ أحياناـ مع نظرائه وأنداده، فهو يتصف بالشجاعة والصراحة والعمل الجاد حتى بعد رحيل والديه ـ رحمهم الله جميعاًـ فبيتهم بيت كرم وحب للبذل في أوجه البر والإحسان إلى الأيتام والفقراء، بل هو مقصدا ومأوى للأضياف، وهذه الصفات المحمودة من صفات أسرة آل عمران عموما منذ القدم ولا تكاد تخلو منازلهم من الأضياف، فأبو عبدالعزيز رجل مهيب ذو نخوة وفزعة جمع بين قوة الشخصية والكرم المستمر، فوجه لا يمل الضيف، وقد اكتسب هذه الصفة الجميلة من أسلافه الذين وارتهم الترب وغابوا عن الوجود ـ رحمهم الله ـ ومن حسن الطالع أن جمع الله بينه وبين "أم عبدالعزيز" حليلته الفاضلة منيرة بنت عبدا لرحمن بن ناصر ـ تغمدها الله بواسع رحمته ـ التي هي خير معين له طيلة حياتها معه تحثه على مضاعفة البذل في أوجه البر وصلة الأرحام وسائر أسرته ومعارفه، ولقد اشتهرت بالبذل السخي في أوجه البر والإحسان إلى الأرامل والأيتام، وتلمس حاجات جاراتها، ولقد انفردت بصفة حميدة لا تماثل وخاصة أيام وجود المستشفى مجاوراً لمنزلهم بحريملاء، فهي تهتم بالمريضات المنومات بقسم النساء والولادة وبالذات الغريبات منهن حديثات الولادة فتحضر لهن ملابس لمواليدهن، وتمهدهم بطريقتها الخاصة، كما تزودهن بمستلزماتهن.. بجانب ما تقدمه من شوربة وطعام خاص لهن كل ذلك حب منها للمساكين ورجاء المثوبة من رب العالمين، كما لا ننسى إكرامها وحفاوتها بوالدتي ـ رحمها الله ـ عندما تزورهم بمنزلهم فهي تبالغ في إكرامها وتهيئ لها الفراش الوثير عند مبيتها عندهم حيث تظل لديهم يوما أو يومين .. ولقد أحدث رحيلها ـ رحمها الله ـ فجوة واسعة في محيطها الأسرى، والاجتماعي لما تحلى به من كرم وسجايا حميدة، كما أن بعلها محمد قد تأثر كثيرا وحزن على فراقها حزنا طويلا ساوره حتى لحق بها.. فأضجع على مقربة من جدثها:
مُجاور قوم لاتزور بينهم |
|
ومن زارهم في دارهم زار همدا |
فذكريات الطفولة مع (أبوعبدالعزيز) باقية ومحفورة في جدار الذاكرة لا يمحوها كر الجديدين، وكنت أنا ورفيق عمري الراحل: محمد بن عبد العزيز المشعل نأتي إلى نخل أخوالنا وخالاتنا بصحبه والداتنا بين آونة وأخرى، فنجدها فرصه لمزاولة السباحة بالبرك جميعا، ونتسلق فسائل النخيل القصيرة، ثم نجمع بعض العسب وننزل متزحلقين عده مرات، فهي تشبه إلى حد ما الألعاب الحديثة الآن، ومثل ذلك تسابقنا على ركوب الحمير كأننا خياله في امتطائها فنجد في ذلك متعه لا يضاهيها شيء من متع الدنيا "آنذاك" فمزاولة تلك الأشياء تجدد نشاطنا الجسمي والذهني معا، وستبقى ذكريات أيام وليالي تلك الحقبة الزمنية التي قضيناها في لهو ومرح ماثلة في مخيلتي حتى ارحل إلى العالم الباقي. رحم الله أبا عبدالعزيز، واسكنه فسيح جناته والهم ذويه وأبنائه وبناته وإخوته ومحبيه الصبر والسلوان.
(إنا لله وإنا إليه راجعون).
أبو طارق المهيزع إلى رحمة الله(<!--)
وإذا الكريم مضى وولى عمره |
|
كُفِــل الثـناء له بعـمرٍ ثان |
من طبيعة الإنسان السّوي في هذا الوجود الميل إلى صحبة الأخيار والاستئناس بهم وبأحاديثهم، وبالأخذ والعطاء معهم، وتبادل المصالح والمنافع حسب طبيعة كل إنسان، والتعاون فيما بينهم في شؤون الحياة عامة وفي سائر المجالات الأخرى ..، فحلاوة الدنيا ومسراتها تَعْذبُ وتحلُو بتعدد معارف الإنسان من الأصدقاء ورفاق العمر، ولكن شَعوباً ينغصها ويكدر صفوها برحيل الواحد تلو الآخر من أولئك الأحبة ..
ففي يوم الجمعة 26/12/1428هـ فُجعنا برحيل ومغادرة الحياة الزميل الفاضل الشيخ د/ صالح بن عبد الرحمن الأطرم عضو هيئة كبار العلماء زميلي في تلقي مبادئ العلم لدى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم مفتي الديار السعودية ـ آنذاك ـ وفضيلة الشيخ عبد اللطيف بن إبراهيم بمسجد الشيخ محمد بن إبراهيم بدخنة عامي 69/ 1370هـ رحمهم الله جميعاً ـ وزميل الدراسة بالمعهد العلمي عامي 73/1374هـ بعد عودتنا من دار التوحيد بالطائف ..
والحقيقة أن توالي رحيل الزملاء أمثال الشيخ صالح محزن جداً ومحدث فراغاً موحشاً وموجعاً لنفسي فأنا كلما أخلو بنفسي تجول بخاطري أطياف أحبتي ورفاق دربي، وأحس بوحشة الفراق والغربة في هذا الوجود:
إذا ما مضى الجيل الذي أنت منهم |
|
وعمرت في جيل فأنت غريب! |
ولقد ترعرع فضيلة الشيخ في أكناف مدينة الزلفي المعروفة برجالها الذين يغلب عليهم طابع الجد والحرص على اقتناص العلم، والصلابة في الرأي والتفاني في النهوض ببلادهم ..، ثم شخص إلى الرياض مبكراً لطلب العلم هناك لدى المشايخ على يدي سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم وأخيه الشيخ عبد اللطيف بمسـجد الشيخ محمد وفي منزله أيضاً.. وبعد افتتاح المعهد العلمي عام 1371هـ ألتحق به حتى نال الشهادة الثانوية عام 1374هـ ثم واصل الدراسة بكلية الشريعة وحصل على الشهادة العالية بتفوق عام 1378هـ، ثم عين مدرساً وعضواً في هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية وأخيراً عضوا بارزاً في هيئة كبار العلماء وفي اللجنة الدائمة للإفتاء إلى أن أدركته بعض الأمراض وظلت مصاحبة له سنوات عّدة حتى أختاره المولى جواره يوم الجمعة 26/12/1428هـ ـ كما أسلفنا ـ وصلى عليه بعد صلاة العصر آلاف المصلين يؤمهم سماحة المفتي الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ، بمسجد الراجحي .. ثم تبعه إلى مراقد الراحلين بمقابر حي النسيم خلق كثير من محبيه وتلامذته والمشيعين، ولم أر كثافة مثل ذاك المشهد المحزن الذي تبودلت فيه التعازي والدعاء له بالمغفرة وطيب الإقامة في جدثه إلى أن يأذن الله للخلائق بالنهوض والوقوف أما م الموازين القسط، والسير على الصراط المستقيم إلى دار النعيم لمن كسب خيراً في الدنيا وشملته رحمة المولى، ونرجو لأبي عبد الرحمن أن يكون من الذين يؤتون أجورهم مرتين جزاء ما تركه من آثار طيبة وأعمال جليلة، .. فهو محبوب لدى مجتمعه وأسرته وتلاميذه، ولقد أحسن الشاعر عبد الغفار الأخرس حيث يقول:
ولفقده في كل قلب لوعة |
|
ولذكره في حمده ترديد |
فزوال ذاك الطّود بعد ثباته |
|
ينبيك أن الراسيات تبيد |
وكان أثناء تلقيه العلم عامي 69/1370هـ يسكن في أحد البيوت التي خصصها جلالة الملك عبد العزيز ـ رحمه الله ـ لطلبة العلم هو وبعض الزملاء أمثال فضيلة الشيخ محمد بن ردن البداح يتدارسون في العلم وحفظ المتون مثل كتاب التوحيد والعقيدة الواسطية وكشف الشبهات وغير ذلك من الكتب المفيدة في الحديث والفقه ..، وينظم إليهم الزميل الوفي محمد بن علي بن خميس في استذكار الدروس والتسميع لهم في القراءة لأنهما فاقدي البصر، ويستعينان به دائماً حيث يقضون جل أوقاتهم ولياليهم في الحفظ وتداول الأمثلة في النحو وإعرابها فوقتهم في تلك الحقبة الزمنية وقت جد كله خير وبركة في التحصيل العلمي وتخزينه في بنك الذاكرة، وذلك لكثرة فاقدي الإضاءة البصرية، ولندرة الكتب والمراجع ..، ولقد أفرغ أبوعبد الرحمن في صدور وأعالي رؤوس تلامذته الكم الخالص من العلم وحلو رضابه، فكلامه ـ رحمه الله ـ وجيز وعلمه غزير خالي من حشو الكلام سريع تقبله واستقراره والتصاقه في جدران الذاكرة، وكأن بمن سعد بتلقي العلم على يديه حينما يتذكره بعد أن رحل إلى الدار الباقية يردد بين جوانحه هذا البيت:
تولى وأبقى بيننا طيب ذكره |
|
كباقي ضياء الشمس حين تغيب |
ولئن غاب عنا أبو عبد الرحمن وأخفت الترب جثمانه الطاهر فإن علمه وذكراه العطرة باقية في نفوسنا ونفوس محبيه مدى الأيام.. والعزاء في ذلك كله أنه خلف ذرية صالحة تدعوا له وتجدد ذكره ممثلة في أبنه الأكبر عضو مجلس الشورى الشيخ د/ عبد الرحمن وبقية ذريته الكريمة...
رحم الله أبا عبد الرحمن وأسكنه فسيح جناته وألهم ذريته وأبنائه وبناته وشقيقه محمد ومحبيه الصبر والسلوان.
"إنا لله وإنا إليه راجعون.
رحمك الله يا أبا نبيل(<!--)
بدا لي أن الناس تفنى نفوسهم |
|
وأموالهم، ولا أرى الدهر فانيا |
ما أكثر فجائع الليالي والأيام وتوالي الأحزان القريبة في هذا الزمان، حيث تتابع رحيل الكثير من الأهل والأحبة ورفاق العمر .. ، وهذه سنة الحياة فظاهر الأرض يستقبل الوافدين وباطنها يحتضن الراحلين إلى يوم النشور يوم يجمع الله الخلائق في صعيد واحد للجزاء والحساب، ففي صباح يوم الاثنين 23/3/1429هـ هاتفني الأستاذ الزميل/ ابراهيم بن عبدالعزيز العقيلي من جدة قائلا عظم الله أجركم في زميلنا الأستاذ الأديب/ عبدالله بن سليمان الحصين ـ أبو نبيل ـ أحد ابرز طلاب دار التوحيد بالطائف وبكلية الشريعة بمكة المكرمة حيث لبى داعي المولى مودعا آفاق مدينة جدة التي قضا فيها شطرا كبيرا من عمره، فقلت مسترجعا (إنا لله وإنا إليه راجعون) وفجأة طوح بي الخيال إلى أول لقاء به في فناء دار التوحيد عام 1371هـ ولقد تلقاني بكل ترحاب وهنئني بالقبول والانتظام بالدراسة هناك، وأخذ يملي علي بعض النصائح الأخوية باختيار الصحب الأخيار، وبالمثابرة في الجد والإنصات إلى شرح المعلمين والحرص على توسعة المدارك بكثرة الإطلاع على الكتب الأدبية والمجلات المفيدة وما تيسر من صحف، فالصحافة تكاد تكون معدومة أو قليلة جدا في تلك الأيام، وكان ـ رحمه الله ـ قدوة حميدة في حب القراءة والاطلاع على ما يجد في عالم الثقافة والمجلات التي تصل من القاهرة ولبنان إلى بعض مكتبات الطائف مثل: مكتبة الأستاذ/ محمد سعيد كمال العريقة، ومثلها مكتبة المؤيد بمحلة الشرقية ومكتبة الزايدي عند باب الريع، ومثله في حب القراءة ابن عمه الشيخ/ سعد بن عبدالرحمن الحصين بل معظم طلاب الدار يتنافسون في اقتناص العلوم والفوائد من عدة مصادر، فالأستاذ عبدالله شعلة في النشاط الثقافي والخطابي، وكان يرأس النادي ويشجعنا على علو منبره للتعود على الخطابة والارتجال، وطرح رداء الخجل والتهيب متمثل بهذا البيت:
بوركت يا عزم الشباب وقدست |
|
روح الشجاعة فيك والإقدام |
وقد أكد علي أن ألقي كلمة أمام الجمهور ـ وهي الوحيدة ! فاستعنت بزميل الدراسة لا زميل فصل الشيخ الدكتور عبدالعزيز بن محمد العبدالمنعم آمين هيئة كبار العلماء بدار الإفتاء حاليا، فأعد الكلمة بعنوان (من وحي الغربة) فألقيتها وأنا مشدود الأعصاب أمام جموع غفيرة في مقدمتهم سعادة أمير الطائف عبدالعزيز بن فهد المعمر، وسعادة محمد بن صالح بن سلطان وكيل وزارة الدفاع – آنذاك ـ ، ومعالي الشيخ محمد سرور الصبان الذي كان يدعم مكتبة الدار بالمال ـ رحمهم الله جميعا ـ ، ولفيف من الضيوف والزوار والمعلمين، وكانت أيام و ليالي الطائف كلها نشاطات وتألف بين الزملاء ومعلميهم، ومعظمهم من فطاحل علماء الأزهر أمثال المشايخ: عبداللطيف سرحان وشقيقه عبدالسلام وعبدالرحمن النجار، وعبدالمنعم النمر، ومحمد الطيب النجار، والشيخ طه الساكت، ومحمد سليمان رشدي وغيرهم من أفذاذ العلماء الأجلاء ولقد أحسن أمير الشعراء أحمد شوقي حيث يقول:
قم في فم الدنيا وحي الأزهرا |
|
وانثر على سمع الزمان الجوهرا |
رحمهم الله جميعا، وقد تعين الأستاذ عبدالله الحصين رحمه الله بالمديرية العامة للإذاعة والصحافة ... ، ثم تسنم عددا من المناصب الهامة منها: مدير عام التعليم بمنطقة الطائف، ثم مدير عام التعليم بمنطقة جدة، ثم مدير عام البعثات الخارجية بوزارة التعليم العالي، وكان عضوا بارزا في مجلس منطقة مكة المكرمة، وتولى رئاسة تحرير جريدة المدينة فترة من الزمن، وزاول الكثير من الأعمال المشرفة في خدمة الوطن وأهله ..، فهو صحفي وكاتب مجيد قلمه طيّع بين أنامله كثير الظمأ والرشف من بحيرات المحابرـ آنذاك ـ، ولقد أفنى الكثير من الأقلام التي تسيرها أفكاره النيرة التي تنحدر من هضاب قلبه، ومن أعالي رأسه ..، وكان يحثني دوما على البقاء بالطائف لإتمام الدراسة بالمرحلة الثانوية لطيب هواه واعتدال جوه، والابتعاد عن مشاغل الأهل والمحيط الأسري بحريملاء، مرددا قول أبي تمام حيث يقول:
وطول مقام المرء في الحي مخلق |
|
لد يباجتيه فاغترب تتجدد |
ومذكرا بقول الإمام الشافعي ـ رحمه الله ـ
ما في المقام لذي عقل وذي أدب |
|
من راحة فدع الأوطان واغترب |
سافر تجد عوضا عن من تفارقه |
|
وانصب فإن لذيذ العيش في النصب |
ولكن نظرا لرغبة الوالدين ـ رحمهما الله ـ لأكون على مقربة منهما انتقلت إلى المعهد العلمي بالرياض في بداية عام 1373هـ بالسنة الثالثة، أنا وبعض الزملاء أمثال الأستاذ عبدالله الحمد الحقيل، والدكتور محمد بن سعد الحسين والدكتور محمد بن عبدالرحمن المفدى، ومعالي الدكتور عبدالعزيز بن محمد العبدالمنعم، وغير هؤلاء الأخوة الكرام ..، ولنا مع (أبو نبيل) ذكريات جميلة لا تغيب صداها عن البال أبد الأيام ..، حيث كنا بالقسم الداخلي (المهجع) متجاوري الغرف فإذا تعبنا من استذكار الدروس روحنا عن أنفسنا بالمساجلات الشعرية وببعض الطرائف الأدبية الخفيفة .. كذلك ليالي الرحلات المتعددة نقضيها في مسامرات أدبية وتمثيليات هادفة منها رحلة وادي عشيرة الواقعة شمال الطائف فقد أصاب الأستاذ عبدالله في تلك الأمسية مرض مفاجئ يقال له ((الخاطر)) فقال الأخ إبراهيم الحمدان ـ متعه الله بالصحة ـ أحد العاملين في دار التوحيد متطببا أحمو الحديد بالنار نبطه ..، ! في باطن عرقوبة الأيسر لعل الله يشفيه وقد أمسكوا به فلما رأى احمرار الحديد رفع صوته منزعجا قائلا طبت طبت .. ؟. وقد شفي بحمد الله وهذه من طرائف الرحلات هناك ..، وكانت ليالينا كلها أنس ومسرات وهذا مما خفف عنا وحشة الغربة والبعد عن الأهل..، ولا يسعنا في هذه العجالة المحزنة إلا أن نرفع أكف الضراعة داعين لأبي نبيل بالمغفرة وطيب الإقامة في جدثه إلى أن يبعث الله جميع الخلائق، وأن يلهم ذويه وأبنائه وزوجته ومحبيه الصبر والسلوان ملوحا بهذا البيت للشاعر الأديب محمد بن سليمان الشبل:
يا راحلا شرقت روحي بلوعته |
|
ورف لي منه أيام ومدكر! |
(إنا لله وإنا إليه راجعون).
رحم الله الشيخ سعيد الجندول(<!--)
ما زال يلهج بالرحيل وذكره |
|
حتى أناخ ببابه الجمالُ |
بعض المفاجآت المؤلمة غير المتوقعة يكون نزولها على القلب موجع جداً، وأكثر إيلاماً وأطول مكثاً داخل النفس قد تبقى آثارها ساكنة سنين عديدة، يتعذر محوها أو طمسها من جدار الذاكرة، ويختلف وقوعها حسب قرب الأشخاص من القلب سواء قرابة رحم وأسرة أم قرابة محبة وصداقة، وعلى أي حال هي موجعة حتماً، ولاسيما الرحيل الأبدي لأقرب الناس وللأحبة، فقد هاتفني أحد أبناء الزميل الراحل الشيخ عبد العزيز بن عبد الله السحمان قائلا : عظم الله أجركم في الخال الشيخ سعيد الجندول الذي لاقى ربه في يوم الأربعاء 18/3/1429هـ بعد حياة حافلة بالعطاء والكفاح المستمر في خدمة الوطن وأهله في كثير من مواقع العمل الوظيفي والتطوعي ـ غفر الله له ـ ولقد ولد في مدينة ليلى بالأفلاج سنة 1341هـ ، وترعرع في أكنافها بين أهله ورفاق عمره، وقد بدأ تعلمه في الكتاب حينما بلغ سن السابعة من عمره لحفظ القرآن الكريم، فلما أتمه قرآة وحفظاً لعدد من أجزائه رحل إلى الرياض، وتتلمذ على المشايخ : فضيلة الشيخ عبد اللطيف بن إبراهيم وعلى سماحة مفتي الديار السعودية ـ آنذاك ـ الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ بحلقات مسجده بدخنه، بعد ذلك شخص إلى مكة المكرمة وتلقى بعض الدروس على الشيخ عبد الله بن حسن وعلى الشيخ محمد بن مانع في أروقة المسجد الحرام ـ رحم الله الجميع ـ وحينما لحظ الشيخ محمد بن مانع عليه مخايل الذكاء والنجابة، وسرعة الحفظ أشار عليه مؤكداً الالتحاق بدار التوحيد بالطائف، فلم يرى بداً من تلبية نصحه وحرصه علية فأتجه صوب الطائف ليلتحق بركب الدارسين هناك، ويعتبر الشيخ سعيد من خيرة طلبة دار التوحيد الذين تروو من رضاب العلوم والآداب على يدي نخبة منتقاة من العلماء، ومن فطاحل علماء الأزهر الذين اختارتهم مديرية المعارف العامة كمعارين ومنتدبين من إدارة الأزهر بالقاهرة بتوجيه من جلالة الملك عبد العزيز ـ طيب الله ثراه ـ ، فأولئك النخبة يعتبرون من الطراز الأول علماً وخلقاً، وثقافة واسعة، فقد فتقوا أذهان طلابهم من عمق علومهم وفيض ثقافاتهم العامة، وقد عين جلالته الشيخ محمد بهجت البيطار أول مدير لدار التوحيد، ثم خلفه فضيلة الشيخ محمد بن عبدالعزيز المانع معينناً شيخنا الفاضل عبد المالك طرابلسي مديراً لها مع إشرافه عليها إشرافاً تاماً بجانب عمله الأساسي، وبمتابعة الملك عبد العزيز حيث أولاها جل اهتماماته لحاجة البلاد إلى قضاة، ومعلمين ومرشدين، وأئمة مساجد ـ رحمهم الله جميعاً ـ وتعتبر دار التوحيد أول مؤسسة علمية فريدة تعنى بالعلوم الشرعية وباللغة العربية وفروعها ..، ولقد خرجت الكثير من الأفواج الذين تسنموا المناصب القضائية العالية والتعليمية، ومنهم الخطباء والأئمة في الجوامع وفي المسجد الحرام أمثال: الشيخ عبد الرحمن الشعلان، والشيخ سعيد الذين نتحدث عنه في هذه العجالة، وفي عام 1371هـ أمر جلالة الملك عبد العزيز وولي عهده الملك سعود ـ رحمهما الله ـ بافتتاح المعهد العلمي بالرياض وفي بعض المدن، ووكل الإشراف عليها إلى سماحة مفتي الديار السعودية وإلى أخيه فضيلة الشيخ عبد اللطيف ـ رحمهم الله جميعاً ـ ومن هذا المنطلق اتسعت رقعة التعليم عامة في جوانب المملكة تدريجياً حتى وصلنا إلى الذروة في مصاف الدول المتقدمة، كل ذلك بفضل من الله، ثم باهتمامات ولاة أمر هذا الوطن بدأ من المؤسس الملك عبد العزيز وحتى عصرنا الحاضر الزاهر الذي يرعاه بكل عناية خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله ابن عبد العزيز وولي عهده الأمين سلطان بن عبد العزيز، وجميع العاملين في حقل التربية والتعليم ـ وفقهم الله لكل ما يسعد المواطن والمقيم معاً، فالشيخ سعيد الجندول ـ رحمه الله ـ معروف بالاستقامة ودماثة الخلق والتواضع الجم منذ فجر حياته، ولقد سعدت بمعرفته عن قرب قبل انتقاله إلى كلية الشريعة بمكة المكرمة في آخر المرحلة الدراسية بالدار، وأنا بالصف الأول عام 1371هـ وكنا نلتقي به في بعض الأمسيات الحبيبة إلى قلوبنا في منزل زميلنا الراحل الشيخ عبد العزيز بن عبد الله السحمان الواقع في حي الشرقية بمدينة الطائف، فهو خال لأبناء الشيخ عبد العزيز، فنستفيد من بعض توجيهاته القيمة حيث يحثنا على حفظ الوقت واستثماره في استذكار الدروس وحفظ المتون والنصوص الأدبية، وجيد الشعر لإثراء الحصيلة العلمية واللغة العربية، قائلاً: من حفظ حجة على من لم يحفظ ـ تغمدهم الله بواسع رحمته ـ فنحن نغبطه حينما يعلو منصة النادي وهو يلقي الكلمات الجزلة الهادفة بكل طلاقة وشجاعة الذي يقام في ليالي الجمع برئاسة عبد العزيز بن عبد المنعم بالتناوب مع بعض الطلبة لوجود التنافس والرغبة في التفوق الخطابي فمنبر نادي دار التوحيد مدرسة للخطباء والشعراء فكم توالى على اعتلائه من أفواج أصبحوا أعلاماً في الخطابة والارتجال في المحافل الكبيرة، فالتدريب للشباب في كل جانب من جوانب الحياة مطلب مُلح، ولقد أجاد الشاعر حيث يقول:
وتشقى حياة مالها من مدرب |
|
وتشقى بلاد ليس فيها مدارس |
وكان بجانب دراسته يقوم بمهام الإمامة والخطابة بمسجد الهادي في وسط الطائف مشنفاً ومؤنساً أسماع المصلين بصوته الجميل، وبالتوجيهات السديدة والوعظية المؤثرة في نفوس المأمومين من فوق ذاك المنبر العالي الذي تعاقب عليه عدد من طلاب الدار بعده، وبعد تخرج الشيخ سعيد من كلية الشريعة بمكة عين إماماً وخطيباً بالمسجد الحرام، علماً أنه بدأ الخدمة بعد تخرجه مباشرة مديراً للمعهد العلمي السعودي بمكة المكرمة، ثم مساعداً لمدير التعليم بمكة، بعد ذلك أنتقل إلى جهاز وزارة المعارف مساعداً لمدير عام التعليم .. ، بعد ذلك عين نائباً لرئيس هيئة التأديب وحتى عام 1403هـ ، ثم وكيلاً لرئيس ديوان المظالم ..، وبعد التقاعد أصبح مستشاراً شرعياً بوزارة الحج ولأوقاف ثم كلف بالإشراف على إنتاج مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة، ثم أخلد للراحلة وملازمة الجلوس بالمسجد المجاور لمنزله بعد أن أبلى بلاً حسناً عبر رحلة العمر الطويلة في عدد من المناصب كما أسلفنا .. ، وله مؤلفات عدة رحمه الله رحمة واسعة ..، ولأن خلا مكانه من شخصه فإن ذكراه الطيبة ستبقى في مضمر النفس مدى العمر ـ تغمده الله بواسع رحمته ـ وألهم ذويه وأبنائه وإخوته وزوجاته ومحبيه الصبر والسلوان ..
(إنا لله وإن إلية راجعون )
ورحل الدكتور صالح بن عبدالله المالك(<!--)
نبكي على الدنيا فما من معشر |
|
جمعتهم الدنيا فلم يتفرقوا ! |
بينما المرء يعيش مغتبطا بين أهله ورفاقه، أو بين رئيسه ومرؤوسيه جذلا في عز ورفعة يسير كيف شاء يمنة أو يسرة جادا في طلب تحقيق أماله ومآربه، وطموحاته الحياتية المتلاحقة التي لا تنتهي ما دام حيا، ولم يدر بخلده وقوع أي شيء من منغصات صفو عيشه وملذاته، أو أي سبب لهلاكه وموته، ولا سيما من كان يتمتع بصحة جيدة، وبمكانة عالية في محيطه الأسري، والاجتماعي والعملي معا، وقد يفاجأ بمرض طارئ مارد ومخيف لا يتفاعل مع الكوابح الدوائية التي كثيرا ما يستعين بها مهرة الأطباء مع مرضاهم، فقد يأذن الله بشفائهم على أيديهم، وقد تعييهم الحيل، وحينما يعلم ويتأكد بحلول ذاك المرض داخل خلاياه الجسمانية ولم تجد فيه الأدواء الطبية فأنه قد يصاب بانهيار نفسي أو يستسلم للواقع ويحاول الأخذ بشتى الأسباب عله ينجو ويعطى فسحة من العمر، ولكن هيهات أن يتأتى له ذلك وقد سطر في عالي جبينه مقدار نصيبه من أيام الدنيا الفانية التي لا يتسنى التأخير ولا التقديم فيه أبدا، فها هو الأخ الدكتور صالح بن عبدالله المالك قد تزامن غيابه عن الدنيا مع غروب شمس يوم الاثنين 21/5/1429هـ وتوارى عن الوجود وعن أحبابه حميدة أيامه ولياليه الحافلة بالعطاء الوظيفي وتعدد المناصب العالية بدأ من تعيينه معيدا في جامعة الملك عبدالعزيز، ثم أستاذا بنفس الجامعة بعده عين مديرا عاما بجامعة الإمام محمد بن سعود، ثم وكيل لوزارة الشئون البلدية والقروية ووظائف أخرى، وأخيرا أمينا عاما في مجلس الشورى، وكان يتمتع بالحنكة والدراية، والمهارة في تذليل وتخطي العقبات بسهولة التي قد تعترض مسارات العمل الذي كان يرعاه في كثير من المواقع الهامة التي يرأسها ويشرف عليها، مع تنوير وتوجيه العاملين معه بكل لطف، وإيماءات خفيفة تجعلهم يتفاعلون ويتقبلون ذلك بنفوس طيبة، وصدور رحبة تدفعهم على الإخلاص والجد، والمسارعة في إنجاز ما يوكل إليهم من أعمال ونشاطات مختلفة، ولله در القائل:
والنفس إن دعيت العنف آبية |
|
وهي ما أمرت بالرفق تأتمر |
فالدكتور صالح - رحمه الله - محبوب لدى مجتمعه الأسري، ومع زملائه بل وجميع العاملين معه في جميع المناصب التي تسنمها لما يتمتع به من دماثة خلق ولين جانب، ولقد أكسبته التجارب وتلك الأعمال المنوطة به خبرة واسعة في حسن الأداء الوظيفي، والإداري مع رحابة أفقه ومعرفته بأحوال الناس على اختلاف طبقاتهم ومستوياتهم ..، فهو بفطرته وحنكته يستسهل كل الصعاب، وأذكر جيدا يوم كان طالبا بكلية الشريعة أنه على مستوى من الذكاء والفطنة، عالي الهمة يحاول الجمع بين الشهادتين في عام واحد فيسرع في كتابة الأجوبة في الدور الأول، ثم يخرج من صالة الاختبار مبكرا ليتمكن من أداء الاختبار من جامعة الملك سعود ـ رحمهما الله ـ الواقعة على شارع الملز ـ آنذاك - ، وقد يترك الفترة الثانية إن وجدت بالدور الثاني إذا رأى أنها تتعارض مع مصلحته الدراسية، وفي النهاية يحصل على شهادتين في عام واحد، وهذا يدل على ثقته في نفسه وعلو همته وكأن الشاعر العربي يملي عليه هذا البيت :
إذا كنت ترجوا كبار الأمور |
|
فأعـدد لها همـة أكــبرا |
وقد فعل – رحمه الله – فأبوا هشام صديق عزيز وزميل دراسة لا زميل فصل، وإنما زميل الفصل الأستاذ الشاعر صالح الحمد ـ متعه الله بالصحة والعافية ـ فاستمر في التحصيل العلمي والتربوي حتى نال الشهادات العالية..، ثم ابتعث إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وظل هناك بضع سنين حتى حصل على درجات علمية متخصصة في مجالات مختلفة منها: اللغة الإنجليزية من جامعة (إنديانا) ثم درجة الدكتوراه من جامعة متشجن الأمريكية مع مرتبة الشرف، ثم عاد إلى أرض الوطن مغتبطا مسرورا وكله ثقة بأن يجد ويخلص في أداء أي عمل يوكل إليه .. ، وهذا يدل على حذقه ومهارته ـ رحمه الله ـ وقد بدأ مشواره الوظيفي بجامعة الملك عبدالعزيز، وأخيرا أمينا لمجلس الشورى ـ كما أسلفنا آنفا - ، ولنا مع (أبو هشام) ذكريات جميلة لا تغيب عن خاطري أبد الدهر .. ، منها الرحلة إلى محافظة المجمعة منذ أعوام على متن حافلة فخمة ذات الطابقين لحضور حفل المجمع التعليمي الذي أقيم على نفقة معالي الشيخ عبدالعزيز بن عبدالمحسن التويجري رجاء المثوبة من المولى، ووفاء منه لموطن أبائه ومراتع صباه ـ رحمهما الله رحمة واسعة - ، برئاسة معالي الدكتور محمد بن احمد الرشيد وزير التربية والتعليم الأسبق التي ضمت كوكبة منتقاة من رجال التربية والتعليم والعلماء ورجال الأعمال ذهابا وإيابا، وقد أتحف أبو هشام الجميع في تلك الرحلة بأشعاره التي تمتاز بالرقة وعذوبة اللفظ، ولا غرابة فإن الدكتور صالح قد ولد في مدينة الشعراء مدينة الرس وترعرع في أكنافها بين والديه، وبين أترابه ولداته حتى حصل على الشهادة الابتدائية، ثم اتجه صوب مدينة الرياض ليلتحق بالمعهد العلمي مواصلا الدراسة بكلية الشريعة، وفي تلك الفترة حصل على الشهادة الثانوية من دار التوحيد بالطائف عام 1375هـ ، ثم اتجه إلى كلية الشريعة اللغة العربية بمكة المكرمة فهو قد ملأ وقته متنقلا بين مواقع كثر للتروي من ينابيع العلوم والمعرفة، ثم اختتم مساره العلمي بالحصول على درجة الدكتوراه في علم الاجتماع الحضري من الولايات المتحدة ـ كما أسلفنا أنفا - ، والآن وقد دفن ودفنت معه تلك المعلومات التي أفنى زهرة عمره في اقتناصها وتحويشها .. ، وذكرياته الجميلة في دار الغربة أيام الدراسة هناك، وكان يترنم بها ويرددها في خاطره دوما..! ، ولم يبقى منها بيننا سوى طيب ذكره، وما أودعه من معلومات في أذهان تلامذته، وبعض كتبه ومذكراته..، وديوانه صغير الحجم كبير المعنى الذي توجه بقصيدة حرى في رثاء والدته الحنون التي تعتبر واسطة العقد بين القصائد مؤثرة جدا أفرغها من عصارة فؤاده حزنا ولوعة على فراقها، يقول في مطلعها:
لموتك يا أماه ينفطر القلب |
|
وتلتاع مني النفس والعين واللب |
ولو كنت أدري أن حتفك عاجل |
|
لما شغلتني عنك أرض ولا حب |
وقد فاضت روحها وفارقت جسدها الطاهر وهو نائي المحل عنها بدار الغربة بمدينة (شيكاغو) الأمريكية لمرافقة ابنه عبدالله في مرضه، وحين ما علم بذلك النبأ الذي أفزعه وراعه سارع بالعودة إلى الوطن في أقرب رحلة ليسعد بالصلاة عليها وإنزالها باللحد، وقد كان له ذلك، فالحي مهما تباعدت به الأوطان يرجى إيابه، ولكن غائب القبر لا يعود أبدا:
والشرق نحو الغرب أقرب |
|
شقة من بعد تلك الخمسة الأشبار |
وكان ـ رحمه الله ـ ولوعا بالأسفار في جوانب الأرض وأقاصيها حيث طاف حول العالم، وأروى غلة نفسه وعواطفه، ومتع ناظريه من جمال الطبيعة في تلك الأماكن التي مر بها في حياته الدراسية الطويلة والسياحة معا، مما أثرى مخزون ذاكرته لأن العين تلتقط صورا من تلك الأماكن والبقاع النائية والدانية، فترسلها إلى مستودعات الذاكرة ليقتات منها في خلواته عندما يخلد إلى الراحة أو لإمتاع جلسائه بسرد بعضها، ولقد استقيت بعضا من المعلومات عنه بواسطة شريط سجلته عبر الإذاعة في 14/1/1405هـ في حوار معه ومع صديقه الدكتور عبدالله المصري وكيل مساعد للشئون الثقافية والآثار والمتاحف ـ آنذاك ـ ولا زلت محتفظا بذلك الحوار تذكارا طيبا لأيامنا الأول وما تخللها من رحلات متعددة ..، ومساجلات شعرية لم يبقى منها سوى رنين الذكريات، وحينما أحس بدون أجله بادر برصد بعض أشعاره وهو على السرير الأبيض سرير الرحيل الأخير، وقد سماه (إخوانيات) ليقرأه ويردده من بعده مترحما عليه، ولسان حاله في تلك اللحظات الحزينة يتمثل بهذه الأبيات اللطيفة المؤثرة التي رثا نفسه بها الشاعر الأبيوردي:
تبلى الأنامل تحت الأرض في جدث |
|
وخطها في كتاب يؤنس البصرا |
كم من كتاب كريم كان كاتبه |
|
قد ألبس الترب والآجر والحجرا |
يا من إذا نظرت عيناه كتبتنا |
|
كن بالدعاء لنا والخير مدكرا |
رحم الله أبا هشام، وألهم ذويه وذريته، وزوجتيه أم هشام وأم سلطان، ومحبيه بالصبر والسلوان " إنا لله وإنا إليه راجعون ".
<!--[if !supportFootnotes]--><!--[endif]-->
(<!--) نشرت في صحيفة الجزيرة، يوم الخميس، 2 محرم1429هـ.، الموافق 10 يناير 2008م.
(<!--) نشرت في صحيفة الجزيرة، يوم الخميس 26 ربيع الأول 1429هـ، الموافق 3 إبريل 2008م.
(<!--) نشرت في صحيفة الجزيرة، يوم الأحد 7 ربيع الآخر1429هـ، الموافق 13 إبريل 2008م.
(<!--) نشرت في صحيفة الجزيرة، يوم الأربعاء 23 جمادى الأولى1429هـ، الموافق 28 مايو 2008م.
رحمك الله أبا عبد المحسن(<!--)
(معالي الشيخ عبد العزيز بن عبد المحسن التويجري رحمه الله)
مازلت تلهج بالتاريخ تكتبه |
|
حتى رأيناك في التاريخ مكتوبا! |
حجبت عنا وما الدنيا بمظهرة |
|
شخصاً وإن جل إلآ عاد محجوبا! |
كذلك الموت لا يبقي على أحد |
|
مدى الليالي من الأحباب محبوباً! |
جبلت النفوس البشرية على حب وتقدير من كانت له مكانة وبصمات وآثار بنّاءه في وطنه ومجتمعه، حتى وإن لم تجمعهم به صلة قرابة أو زمالة في العمل أو أي شئ من المنافع الدنيوية، فيبقى ذكره طرياً تلذ له الأسماع عند ذكره..، وعندما تغرب شمسه عن الدنيا ويتوارى عن الأنظار يشعر الكثير من محبيه وعارفيه بفقد شئ ما تلقائياً كان يجول في خواطرهم حياله حباً وتقديراً، وأسفا أن خلت من شخصه داره...، وتجري هذه الحال عند فقد العظماء وكبار النفوس.
ففي يوم الأحد 24/5/1428هـ طرق سمعي نبأ رحيل معالي الشيخ عبد العزيز بن عبد المحسن التويجري، وكان لذلك النبأ وقع مؤلم في نفسي حزناً على رحيله، فرحيل أفذاذ الرجال يحدث فجوة واسعة في منظومة الرجال المخلصين في خدمة أوطانهم، وملوكهم أمثال " أبو عبد المحسن " الذي عرف عنه التفاني في خدمة الوطن والإخلاص في العمل منذ فجر حياته، كما أنه يتحلى بنفاذ البصيرة، وصواب الرأي مع القوة الشخصية والحنكة في إدارة العمل بكل حزم وثقة ..، ولقد جمع بين سماحة الخلق ونزاهة الجيب، وكان ثبت الجنان حينما يعلو منابر المحافل والمنتديات الأدبية، فهذه من الصفات المحمودة التي تميز الرجال على أقرانهم...، ولقد اتجه إلى السلك الوظيفي مبكراً في عهد المؤسس لكيان هذه الدولة الفتية الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود ـ طيب الله ثراه ـ ومن بعده أبنائه البررة حتى عصرنا الحالي عصر الازدهار والتوسع الهائل في كثر من المشاريع التنموية والمجالات الحيوية والوظيفية معاً..تحت قيادة ورعاية خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، وعضده الأيمن نائبه صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبد العزيز متعهما الله بالصحة والسعادة.
ويعتبر " أبو عبد المحسن " أطول الرجال خدمة متواصلة تقارب الثمانين عاماً، ولقد تخطى تلك العقود رافع الرأس بكل نشاط وحيوية :
ثمانون حولاً بل ثمانون دُرة" |
|
بجيد الليالي ساطعات زواهيا |
ولم تؤثر تلك السنون والليالي على نفسه وجهوده، فلقد منحه المولى الصحة وسلامة الحواس والذوق الرفيع، ورجاحة العقل، ولقد أجاد الشاعر حيث يقول :
إذا طال عمر المرء في غير آفة |
|
أفادت له الأيام في كرها عقلا! |
ومما لفت نظري حينما قدمت من حريملاء لمواساة أبنائه ومحبيه كثافة المعزين الذين ضاق بهم القصر وساحاته بل وجميع الطرقات المحيطة به أفواج تلو أفواج لتقديم العزاء والمواساة لأبناء الراحل ـ رحمه الله ـ وكان في استقبالهم الشيخ عبد الله بن عبد المحسن، ومعالي الأستاذ عبد المحسن بن عبد العزيز التويجري مستشار خادم الحرمين الشريفين، ومعالي الأستاذ خالد بن عبد العزيز التويجري رئيس الديوان الملكي، بل جميع أبنائه الكرام .. وكان الحزن يعلو محيا الجميع ـ جبر الله مصابهم ـ وكان مهيباً عالي القامة في المحافل الدولية والمحلية:
إن العظيم وإن توسد في الثرى |
|
يبقى على مر الدهور مهيباً! |
ولي مع الشيخ الراحل بعض الذكريات الجميلة في كثير من المناسبات السعيدة، ولازلت محتفظاً برسائله الخطية التي تتسم بمتانة الأسلوب وعمق الثقافة، وسعة الأفق ـ غفر الله لك أبا عبد المحسن وأسكنك عالي الجنان وألهم ذويك وأبنائك وحرمك ومحبيك الصبر والسلوان .
"إنا لله وإنا لله راجعون ".
الشيخ ناصر المنقور والذكر الحسن(<!--)
علمٌ من الأعلام غُيب في الثرى |
|
فثوى رهين جنادل و تراب |
لقد غربت شمس معالي الأستاذ / ناصر بن حمد المنقور طيب الذكر بمدينة الضّباب ـ لندن ـ يوم الأربعاء الموافق 10/7/1428 هـ بعيداً عن مهوى رأسه ومدارج صباه مع لداته وأترابه مدينة حوطة سدير وقد صدق الله العظيم في محكم كتابه العزيز ( وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير) سورة لقمان، آية 34.
لقد فوجئت بنبأ وفاته بقراءة تأبين صاحب الوفاء والمبادرة الحميدة معالي الدكتور/عبدالعزيز بن عبدالله الخويطر بصحيفة الجزيرة صباح يوم الخميس 12/7/1428 هـ التي تحمل في ثناياها الحزن والوفاء لزميله " أبو أحمد " ، وعدّ مآثره وأعماله الجليلة عبر رحلة عمره الطويلة المشرفة في خدمة التعليم، وبالأعمال الدبلوماسية متعددة المواقع والمناصب العالية التي تَسنّمها بكل حنكة وجدارة، وكان لنبأ رحيله وقع مؤلم في نفسي لما يتصف به من مكانة عالية في نفوس ولاة الأمر، وتفانيه في خدمة وطنه وأهله، وقد جمع بين الحنكة وبعد النظر، وحسن السياسة، مع دماثة الخلق والتواضع الجم والكرم الفائق، مما جعل القلوب تميل إليه احتراماً وتقديراً حتى من لم يعرفه :
يثني عليك من لم توليه جميلاً |
|
لأنك بالثناء بــه جــديــر |
وهكذا يكون الرجال العظماء ـ فأسرة المنقور بصفة عامة يستعذب الناس ذكرها ـ. ولقد وصفه الدكتور عبد العزيز بصفات جميلة شاملة بأوجز العبارات وأدقها، فلم يترك مجالاً لأحد بعده ـ إلا ما شاء الله ـ بدأ من دراستهما معاً بالمرحلة الابتدائية بمكة المكرمة مواصلاً نشاطه الدراسي والثقافي حتى أنهى المرحلة الثانوية بتفوق مما أهله للإبتعاث إلى مصر على حساب الدولة أسوة بأمثاله النجباء .، ثم التحق بكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول (القاهرة حالياً) وأنهى الدراسة في السنوات الأربع المقررة بتفوق وامتياز، ثم عاد إلى أرض الوطن، وعين بوزارة المعارف وتدرج في وظائفها حتى وصل درجة مدير عام الوزارة، ثم مدير إدارة جامعة الملك سعود ـ رحمهما الله جميعاًـ ثم انتقل من حقل التعليم إلى مرتبة وزير العمل في أوائل الثمانينيات، ووزير الدولة لشئون مجلس الوزراء، فأخذ يقفز من قمة إلى قمة، وآخر منصب تربع عليه سفيراً لجلالة الملك في لندن. وقد استقيت بعض هذه المعلومات والعبارات من كلمة الأخ الفاضل معالي د /عبد العزيز الخويطر ـ متعه الله بالصحة والعافية ـ ورحم الله أبا أحمد رحمة واسعة.
ولقد عرف عنه المرونة في العمل والبشاشة وحسن التعامل مع المراجعين والعاملين معه مما أكسبه محبتهم وتقديرهم لجهوده المخلصة، وقد أجاد الشاعر محمد بن حازم حيث يقول:
وما أكسب المحامد طالبوها |
|
بمثل البشر و الوجه الطليق |
وكان طيلة اغترابه عن الوطن على صلة بأقاربه ومحبيه يُهاتفهم ويسأل عن أحوالهم وعن أسرهم ولسان حاله يقول:
وإن كانت الأجسام منا تباعدت |
|
فإن المدى بين القلوب قريبُ |
وأحياناً يستبد به الحنين إلى رؤية موطنه الأول: حوطة سدير ليجول بلحظه في أكنافه متذكراً ملاعب صباه في محلاتها وساحاتها، وإلى لقاء أصدقائه ومعارفه داخل مدينة الرياض وخارجها متذكراً هذا البيت:
ما من غريب وإن أبدى تجلده |
|
إلا تذكر عند الغربة الوطنا |
وعلى أي حال فقد قضى زهرة عمره خارج وطنه في الدراسة بالقاهرة، ثم بالعمل سفيراً بالسويد، وأسبانيا، واليابان، ولندن، وكان ـ رحمه الله ـ سبباً في تعيني مديراً لمعهد المعلمين بحريملاء عام 1379هـ حيث قال لصديقه رفيق دربي الراحل: محمد بن عبدالعزيز المشعل نريد فتح معهد معلمين بحريملاء لسد حاجة المنطقة بالمعلمين المؤهلين، ونرغب أن يكون المدير جامعياً، فكتب لي الأخ محمد المشعل رسالة ـ مازلت محتفظ بها ـ بعث بها مع سائقه إليّ بحريملاء متضمنة رغبة الوزارة بترشيحي مديراً لمعهد المعلمين بحريملاء، فحضرت إلى الرياض ومررت على الأخ محمد في مكتبه ومتجره في قيصرية الصيارف بالصفاة الواقعة غربي قصر الحكم، فأخذني معه ـ رحمه الله ـ بحكم القرابة والصداقة إلى منزله بالملز(حي الزهرة أو حي عرين) فبت عنده، وفي الصباح الباكر اتجهنا معاً إلى منزل الأستاذ ناصر بن حمد المنقور مدير عام الوزارة ـ آنذاك ـ فوجدنا عنده الأستاذ / عبد الرحمن التونسي والأستاذ/عبدالوهاب عبد الواسع أحد البارزين بوزارة المعارف، فرحبوا بي جميعهاً ـ رحمهم الله جميعاً ـ فأجلسني الأستاذ ناصر بجواره والفرح باد على محياه قائلاً نرحب بك ونرغب افتتاح معهد معلمين ببلدكم حريملاء، ولا يحتاج إلى مقابلة ولا مفاضلة لأن الوظائف لدينا تربو على عدد الجامعين ـ آنذاك ـ لقلتهم، علماً أن فوجنا تسعة عشر متخرجاً من كلية اللغة العربية عام 1378هـ ونعتبر ثاني دفعة على مستوى المملكة، ولكنه طلب مني إحضار إخلاء طرف من إدارة المعاهد والكليات، فطلبت من فضيلة الشيخ / عبد اللطيف بن إبراهيم ـ رحمه الله ـ إخلاء طرف فتمنع في البداية، فاستنجدت بالأخ / حمد بن عبدالرحمن المبارك مدير الإدارة في ذلك الزمن ـ رحمهم الله جميعاً ـ فأعطاني إخلاء الطرف واتجهت به صوب الشيخ ناصر بالوزارة ، فشرح عليه بتعجيل إصدار قرار تعيين، وتسليم ما تيسر من أثاث، ومقررات الطلاب ، وقد صدر القرار الوزاري بتعيني مديراً في 23/4/1379هـ ثم اتجهت إلى حريملاء وافتتحت المعهد مع الإشراف على المرحلة الابتدائية. فرحم الله أبا أحمد، وأبا عبدالعزيز صديق العمر محمد بن عبد العزيز المشعل رحمة واسعة.
وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على حرص وإخلاص الأستاذ / ناصر بن حمد المنقور في تطوير الأرياف، وتنوير أهلها بمصابيح العلم والنهل من مواد الثقافة والعلوم المختلفة، والاكتفاء الذاتي بالمعلمين الوطنيين بالمرحلة الابتدائية، وقد تحقق ما تمناه ـ رحمه الله ـ حيث خرج أفواجاً من المعلمين نفع الله بهم في تلك الحقبة البعيدة، وأختتم هذه العجالة بهذين البيتين مخاطباً منهم الآن على مستوى المسئولية:
إن المناصب لا تـدوم لواحـد |
|
إن كنت تنكر ذا فأيـن الأول |
فاغرس من الفعل الجميل فضائلاً |
|
فإذا ( رحلت ) فإنها لا ترحل |
رحم الله أبا أحمد وأسكنه فسيح جناته وألهم ذويه وإخوته وأبناءه وزوجته الصبر والسلوان.
(إنا لله وإنا إليه راجعون).
الأستاذ محمد أبومعطي إلى دار الخلود(<!--)
وأرى لدات أبي توالى موتهم |
|
فمضوا وكر الموت نحو لداتي |
بالأمس القريب وفي مستهل شهر محرم من هذا العام 1428هـ فُجعنا برحيل زميلنا د. حمد بن إبراهيم السلوم زميل الدراسة بدار التوحيد بالطائف، وفي يوم الأثنين15/8/1428هـ أنضم إلى منظومة قوافل الراحلين الزميل الأستاذ محمد بن إبراهيم أبو معطي ـ رحمه الله ـ ، بعد رحلة طويلة من العطاء والعمل المشرف في مواقع عدة..، فكان لنبأ وفاته وقع محزن ومؤلم في نفوسنا لما يتمتع به من خصال حميدة وكريم سجايا، فهو زميل فصل ورفيق عمرٍ، وسيمكث حبه وذكره الحسن طويلاً بين جوانحي مدى الأيام، ولقد عرف عنه الاستقامة والسماحة، وبر الوالدين وصلة الرحم، والإعراض عن مساوئ الناس منذ فجر حياته، وقد ترعرع بين أحضان والديه، وختم القرآن الكريم مجوداً على يد إمام مسجد محلتهم بمدينة الشعراء التي كثيراً ما يستبد به الحنين إلى مراتع صباه بها متذكراً أيامه الجميلة وأيام الطفولة التي عاشها في أكناف وربوع تلك المدينة الوادعة مع أقرانه ورفاق عمره، وما بها من مظاهر الطبيعة من أشجار ونباتات وجبال عالية يتسلقونها ويمرحون حولها مثل جبل ثهلان المشهور المتربع على هاتيك الأودية وتلك المساحات الرحبة الذي عناه بالخلود والمتانة الشاعر إسماعيل صبري باشا في أثناء وصفه للأهرامات وصمودها أمام عوامل التعرية حيث يقول:
قد مر دهر عليها وهي ساخرة |
|
بما يضعضع من صرح وإيوان |
لم يأخذ الليل منها والنهار سوى |
|
ما يأخذ النمل من أركان ثهلان |
بعد ذلك شخص إلى الطائف وألتحق بدار التوحيد عام 1371هـ حتى أخذ الشهادة الثانوية عام 1375هـ، ثم واصل الدراسة بكلية الشريعة بمكة المكرمة فنال الشهادة العالية بها عام 1379هـ، ثم عين مدرساً فترة وجيزة من الزمن..، بعد ذلك أنتقل مديراً للتعليم المتوسط وظل بضع سنين، ثم عمل رئيساً لبلدية الخرج، وأخيراً عمل مسئولاً كبيراً للتأمينات الاجتماعية إلى أن تقاعد، كما كان عضواً بارزاً في مجلس منطقة الرياض لمدة ثمانية أعوام، بعده تفرغ للعبادة وتلاوة القرآن الكريم واستقبال من يؤمه من الزملاء والأصدقاء والأقارب، ولقد دار وساس تلك الأعمال المنوطة به بكل جد وإخلاص وتسهيل لأمور المراجعين ..، فهو على جانب من الخلق الكريم والأدب الجم الرفيع وسعة الأفق، إلى جانب ذلك كان من المولعين بالرحلات الداخلية وخاصة في مواسم الربيع ومساقط الأمطار وبالصيد والقنص والسير في البراري والفلوات..، وقديماً كان يشارك في الرحلات الطلابية أثناء الدراسة بدار التوحيد، أذكر أننا نقوم بها في جوانب مدينة الطائف، وأحياناً نذهب إلى شعيب عشيرة عامي 71/1372هـ الواقع شمال شرقي الطائف وحتى نصل إلى الأراضي المتاخمة لطريق الخرمة وجهاتها حيث تكاثر طيور الحبارى وبعض الطيور البرية هناك، ونجد في اصطيادها متع جمة وفرح شديدا وكان أبو إبراهيم والشيخ عبد الله بن محمد آل الشيخ ـ رحمهما الله ـ والأستاذ عبد اللطيف بن إسحاق ممن يملكون بنادق الصيد ـ آنذاك ـ فيصطادون ما ظفروا باصطياده من الحبارى ، ولم يَعُـفّـوا عن إنزال تلك الحمائم التي تشدو فوق أشجار الطلح وأحياناً تبكي :
حمام الأيك مالك باكياً |
|
أفارقت خلاً أم جفاك حبيب |
تذكرني ليلى على بعد دارها |
|
وليلى خلوب للرجال طروب |
فكانت أيام وليالي الطائف أيام فرح ومرح ومسرات، وكنا نعد أبا إبراهيم من الفتيان الأقوياء ونلقبه: " بأنهد فتى بدار التوحيد..! " ونزداد خوفاً منه ـ رحمه الله ـ حينما نقوم بمزاولة التمرينات الرياضية الحبية بكرة القدم في ميادين "قروى" بقيادة الزميل عبد الرحمن بن عبد الله العبدان، فهو مُهاجم مَهِيب نخشاه..! وغالباً ما نفقد الصمود أمامه تاركين له الكرة في سبيلها ..، ولقد تحولت عنه تلك النضارة وعنفوان الشباب في أُُخريات حياته، ولسان حاله يتمنى عودتها ولكن هيهات ..!! وصدق أبو الطيب المتنبي حيث يقول:
وما ماضي الشباب بمسترد |
|
ولا يوم يمر بمستعاد |
ولقد رحل من صفنا بالسنة الأولى عام 1371هـ أكثر من ثلاثة أرباعنا الآن، ولم يبقى منا سوى القليل مابين عاجز ومتأهب للرحيل ولقد أكد الشاعر ذلك بقوله:
إذا ما المنايا أخطأتك وصادفت |
|
حميمك فأعلم أنها ستعود |
ومن ناحية أخرى أن من عناية الملك عبد العزيز ـ طيب الله ثراه ـ بطلاب دار التوحيد أن أمر بتخصيص مكان لسكنى الطلبة المغتربين بجانب المدرسة "القسم الداخلي مهجع الطلاب" وتعيين خدم لهم مع صرف مكآفات سخية شهرية، وتأمين سيارات لنقلهم من بلدانهم بنجد عند بداية الدراسة إلى الطائف، والعودة بهم إلى أوطانهم بعد الاختبارات السنوية: سيارة لنقل طلاب القصيم وأخرى لطلاب منطقة الرياض ـ شقراء ـ حريملاء ـ الشعراء ـ والدوادمي، ومرات وتنتهي بالرياض .. وهكذا عناية ملوك هذه البلاد بطلاب العلم منذ القدم، وكانت المسافة بين الطائف ومنطقة نجد قبل تمهيد الطرق مابين يومين إلى ثلاثة أيام، أذكر أننا أثناء عودتنا من الدراسة تناولنا طعام العشاء بمدينة الشعراء بضيافة إبراهيم أبو معطي والد الزميلين سعد ـ بكلية الشريعة بمكة ـ ومحمد معنا، والغداء لدى الشيخ إبراهيم الهويش قاضي مرات ـ في تلك الحقبة الزمنية ـ والد الشيخ محمد وأخيه عبد العزيزـ رحمه الله ـ وأحياناً نكون في ضيافة أهالي شقراء ، والحقيقة إننا نجد في ذلك سعة خاطر ومسرة رغم وعورة الطريق و وغثاء السفر وتعطل السيارة أحياناً .. فقوة الترابط والتآلف بين طلاب الدار عموما لا تكاد توصف كلها محبةً واحتراماً ولكنها الأيام تجمع وتفرق:
الدهر لاءم بين ألفتنا |
|
وكذاك فرق بيننا الدهر |
ولنا مع أبي إبراهيم ذكريات جميلة متواصلة تربو على 57 عاما ً، وحتى قبيل وفاته.. كما لازلت محتفظاً ببعض رسائله الحبيبة إلى قلبي في عام 1371هـ التي تحمل في ثناياها خالص الود والتشوق إلى جمع الشمل بيننا في الدار عند استئناف الدراسة عام 1372هـ.. رحم الله أبا إبراهيم وأسكنه فسيح جناته، وألهم ذويه وأبنائه وبناته وأم إبراهيم ومحبيه الصبر والسلوان.
"إنا لله وإنا إليه راجعون "
ورحلت كريمة الشمائل(<!--)
(سارة بنت عبدالله ناصر العمراني رحمها الله)
وأحسن الحالات حال امرئ |
|
تطيب بعد الموت أخباره |
بينما كنت في مجلس أحد الأقارب مسرورا بتبادل التهاني بحلول عيد الفطر المبارك وعلامات الفرح والبهجة تعلو محيا كل واحد منا. إذ بالهاتف يتواصل رنينه حاملاً وموصلاً نبأ رحيل ابنة الخالة: سارة بنت عبد الله بن ناصر العمراني. والدة الأستاذ الفاضل : خليفة بن صالح العجاجي ـ رحمها الله ـ التي هي بمنزلة الأخت الشقيقة لي. حيث وافاها الأجل المحتوم فجر الاثنين الموافق 3/10/1428 هـ وصلي عليها بعد صلاة العصر بجامع الملك خالد بأم الحمام وقد اكتظ المسجد بالمصلين رجالاً و نساء داعين لها بالمغفرة و بطيب الإقامة في جدثها إلى أن يبعث الله الخلائق يوم النشور.
فلم أتمالك الوقوف لقوة الصدمة النفسية في تلك اللحظة الموجعة لقلبي، بل أخلدت إلى الأرض تالياً هذه الآية: ( إنا لله و إنا إليه راجعون ) وفجأة طوح بي الخيال محلقاً في أجوان فضاءات الطفولة والبراءة، ومتذكراً أيامنا الأول، وسيرتها العطرة معنا أثناء زياراتنا لهم الأسبوعية في نخلهم المسمى"الجزيع" بصحبة والدتي، حيث اعتادت زيارة شقيقاتها الثلاث والدات كل من الأخوة: عبد الرحمن بن عبد الله العمراني وناصر بن محمد العمراني بمقر نخلهم المشار إليه آنفاً ..، وبخالتي أم محمد عبد الله العمراني ـ رحمها الله ـ بنخلهم المسمى"الخرجية" فزيارة الخالات غالبا ما تكون أسبوعاً بعد أسبوع..، فنحن معشر الصغار نفرح ونحسب لتلك الزيارات كل حساب..، لنلتقي بأطفالهن بنين وبنات لنلهو معهم، فالمزارع والنخيل بها مجال رحب للمرح والفرح، وبمزاولة الكثير من الألعاب والأنشطة مثل تسلق بعض فسائل النخيل والأشجار..، ومطاردة صغار الحيوانات والدواجن..، مما يدخل السرور والبهجة في نفوسنا وكانت ابنة الخالة والدة: خليفة ـ رحمها الله ـ تفرح بمجيئنا. وتبادرنا بما تجمعه لنا من حبات النبق "السدر" ومن بيض الدواجن وفي مواسم حمل النخيل تحتفظ لنا بما يتساقط من بلح النخيل قبل نضجه، ومن ثمار الرمان والعنب ..الخ، فهي تدخر ذلك قبل مجيئنا لهم حباً منها لإدخال السرور والترغيب في مواصلة حضورنا مع والدتنا ـ رحم الله الجميع ـ فهي تكبرنا بسنوات..، وأذكر جيداً أنها من شفقتها وخوفها علينا من الغرق أثناء مزاولتنا السباحة في البرك أنا والصديق محمد بن عبد العزيز المشعل ـ رحمة الله ـ الذي اعتاد الحضور مع والدته لأخوالها مثلنا..، فهي لا تبرح مكانها خوفاً علينا، وقد انتشلتني من الماء مرة قبل أن أجيد السباحة ـ غفر الله لها ولوالديها ـ فلقد وهبها الله رحابة الصدر، وسماحة الخلق ولين الجانب منذ فجر حياتها، ودام التواصل معها طيلة العمر حتى قُبيل وفاتها، فكلما اتصل عليها تقابلني بوابل من الدعاء لي ولوالديّ فهي تملك لساناً رطباً بالدعاء الذي يُؤنس السامع. والتحبب للأقارب والجيران، وأصدقاء والديها وإخوتها، وطلب المغفرة لمن غاب عن الوجود من والدين وأهل ومعارف. وتمتاز على لداتها وأترابها بدماثة الخلق ولين العريكة وطيب القلب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أحب الله عبداً حببه للناس). وأجاد الشاعر حيث يقول مادحاً و واصفاً أمثالها:
وجه عليه من الحياء سكينة |
|
ومحبة تجري مع الأنفاس |
وإذا أحب الله يوماً عبده |
|
ألقى عليه محبة في الناس |
أجل إنها لمحبوبة لدى عشيرتها ومجتمعها الأسري بل ومع جميع من يعرفها ويسمع عنها..، وكان لسانها رطب بذكر الله وكثرة العبادة والصيام وصلوات النوافل، بارة بوالديها تشركهما في كل ما تبذله من عمل الخير والصدقات..، وافية مع أصدقائهما لعلمها أن البر بمحبي وأصدقاء الوالدين من أفضل الأعمال وأوفاها نحوهما..
نبادله الصداقة ما حيينا |
|
وإن متنا سنورثها البنينا |
ولقد وهبها المولى ابناً صالحاً باراً هو وحيدها من الأبناء: خليفة بن صالح العجاجي. وابنتين بارتين بها الأولى عقيلة الأستاذ: علي بن أحمد الشدي، أم الدكتور/ عادل بن علي الشدي. والأخرى الجوهرة أم الأستاذ عبد الرحمن بن سليمان العجاجي. كما لا ننسى أم صالح زوجة خليفة وأبنائها وبناتها على رعايتهن بها طيلة مكثها معهم، ومرافقتها أثناء تنويمها بالمستشفيات.. مدة مرضها. وهذا ضرب من البر والوفاء لا يستغرب على أمثالهن أبداً ..، ولقد حزن الجميع على رحيلها وخلو شخصها من دارها..، فكانت شمعة مضيئة في أرجاء البيت تحث على أداء الصلوات في أوقاتها وعلى تلاوة كتاب الله، وعلى صلة الأرحام والتواصل وفعل الخير، ولك أن تتصور ما بدا حال ابنها خليفة وهو ينزلها في قبرها وكله حزن وتفجع ونظرات تُتَابع رصف لبنات اللحد حتى أخفت جسمها الطاهر، وكأنه يردد بين جوانحه وداعاً يا أماه وداعاً أبدياً ..، ويزداد أواري الحزن ولوعات الفراق حين يعود إلى البيت وقد خلا منها ـ كان الله في عونه وجميع أسرته ـ ولي مع أختي ابنة الخالة ذكريات جميلة لا تغيب عن خاطري مدى عمري ومهما أنسى من شيء تولى فإني ذاكر لك يا أم خليفة، وقبل وفاتها بحوالي عشرة أيام اتصلت عليها كالمعتاد مُسلماً ومطمئناً على حالتها الصحية فأحسست من نبرات صوتها الهادئ ومن تكرار دعائها الذي يُوحي بأنه دعاء مودع وراحل عن الدنيا فقد أجرضتني غُصة فلم استطع سماع بقية دعائها فجال بخاطري مُسرعاً هذا البيت لأبي تمام:
لها منزلٌ تحت الثرى وعَهدتُها |
|
لها منزلٌ بين الجوانح و القلب |
رحم الله أم خليفة و أسكنها عالي الجنان و ألهم ذويها و ابنها خليفة و بنتيها و أخوتها و محبيها الصبر والسلوان (إنا لله و إنا إليه راجعون ).
ورحل سمح المحيا(<!--)
(الشيخ عبدالله بن عبد الرحمن الشثري رحمه الله)
جزى الله ذاك الوجه خير جزائه |
|
وحيته عني الشمس في كل مطلع |
في الآونة الأخيرة من هذا الزمن تتابع رحيل الكثير من الزملاء والأحبة إلى سبيل كل حي إلى الدار الباقية مما جدد أحزان نفسي وآلمها متذكراً من مضوا وتركوا آثاراً طيبة في نفوسنا تُلزمنا باستعراض شريط الذكريات معهم، وخاصة زملاء الدراسة الذين لهم مكانة عالية في شعاب النفس يجددها مر الملوين مدى العمر كله ..، فرفوف الذاكرة محملة بأجمل الذكريات وأحلا ساعات العمر، وما يتخلل تلك السويعات والأيام من لحظات مرح وفرح ومداعبات خفيفة تدفع السآمة والملل وتجدد النشاط لاستذكار الدروس في تلك المساجد المتعددة الآهلة بأعداد كبيرة من الطلاب في شتى المراحل الدراسية لتوفر الإضاءة بها ـ آنذاك ـ حيث أن معظم البيوت خالية من الكهرباء، وخاصة في تلك الحقبة الزمنية البعيدة ..! فأجواء الدراسة هناك أجواء جد ومثابرة، وتنافس في التحصيل العلمي وهضم المناهج، ولقد أجاد الشاعر حيث يقول:
غدا توفى النفوس ما عملت |
|
ويحصد الزارعون ما زرعوا نشرت فى 30 سبتمبر 2013
بواسطة mager22
وغــــــــاب رفــــيـق العـــمر(<!--) (الشيخ عبد الله بن إبراهيم بن خُميِّس رحمه الله)
الإنسان الصالح المستقيم المتمسك بكتاب الله وبهدي سيد المرسلين نبينا محمد إذا اختاره المولى إلى جواره هنأهُ محبوه وأقرانه، ودعوا له بطيب الإقامة في جدثه إلى أن يبعث الله جميع الخلائق يوم يجازى بما كسب، وإن طال حزنهم الشديد على فراقه وبعده عنهم. فها هو الشيخ الإمام الفاضل عبد الله بن إبراهيم بن خُميِّس قد أسلم روحه إلى بارئها في تمام الساعة التاسعة من صباح يوم الأحد 12/11/1427هـ على إثر حادث سير مؤلم عند مشارف محافظة حريملاء ـ تغمده الله بواسع رحمته ـ ويقال أنه بعد أن أمّ المصلين في صلاة فجر هذا اليوم الأحد بمسجده جامع الملك خالد بحي الشرفية بالرياض، وبعد أن صلى ركعتي الإشراق به اتجه صوب حريملاء قاصداً مزرعته الحبيبة إلى قلبه ليأنس بسقيها من مياه السّد الذي اعتاد فرع وزارة المياه على فتح بعض عباراته لريّ النخيل والمزارع، ولكن شَعُوباً حال بينه وبين استمتاعه بتلك الغروس والفسائل وهي تمتص من رضاب المزن التي تدفقت في حوض ـ نهر حريملاء ـ . ولقد نشأ في طاعة الله منذ نعومة أظفاره، أذكر جيداً أنه قد دخل مسجد محلتنا بحريملاء بعد طلوع الشمس وعمره لا يتجاوز الثانية عشر يريد صلاة الإشراق فقلت مستكثراً ومتعجباً ذلك منه: تصلي في مثل هذا الوقت !!، فقال: نعم، ألقاها عند الله . واستمر في التقرب إلى الله بعبادته والإكثار من النوافل، وفعل الخير ضارعاً للمولى أن يجعله في زمرة الصالحين والآمنين يوم لقائه فقد لقيه ـ رحمه الله ـ. وقد ولد في حريملاء وترعرع بين أحضان والديه، ثم درس في الكتّاب على يدي والده المُقرئ الشيخ إبراهيم بن محمد بن خُميِّس، وبعد أن تم كتاب الله حفظاً وقراءة أنضم إلى حلقة تلقي مبادئ في العلم لدى قاضي البلد فضيلة الشيخ عبدالرحمن بن سعد بجامع حريملاء فحفظ بعض المتون: من كتاب التوحيد، والعقيدة الواسطية، وكشف الشبهات، والآجرومية في النحو، ومتن الرحبية في علم الفرائض، وقد فاق أقرانه في علم الفرائض وقسمة المواريث..، كما أنه يستفيد من والدنا الشيخ عبدالرحمن بن محمد الخريف ـ رحمه الله ـ في بعض المسائل، وفي علم التجويد وتلاوة القران عليه. ثم خلف والده بعد وفاته في تحفيظ القرآن الكريم وكتابته على الألواح الخشبية، وكان لي شرف أن درست عنده في هذه المدرسة فترة وجيزة ولم يمنع تقارب السن بيننا ـ رحم الله الجميع رحمة واسعة ـ وعند افتتاح أول مدرسة ابتدائية بحريملاء عام 1369هـ أنضم إليها هو وتلامذته جمعاً، ومُيّز عليهم بقبوله في الصف الرابع تقديراً له ولعلمه، ولم يلبث طويلاً أن رحل إلى الرياض، وسكن معنا في أحد البيوت التي خصصها جلالة الملك عبدالعزيز ـ طيب الله ثراه ـ لطلاب العلم لدى الشيخ محمد بن إبراهيم مفتي الديار السعودية وأخيه الشيخ عبد اللطيف، ثم التحق بالمعهد العلمي عند افتتاحه عام1371هـ بعد ذلك تعين بوزارة الدفاع وظل بها مدة، ثم انتقل إلى الرئاسة العامة لتعليم البنات بطلب منها مديراً عاماً للمستودعات لما يتمتع به من أمانة وإخلاص حتى أنهى مدة الخدمة النظامية حميدة أيامه، وظل إماماً للمصلين سنين طويلة في مسجد والدة الأمير منصور بن سعود ـ رحمهما الله ـ الواقع غربي شارع العطايف بالرياض حتى جاء شق وتنفيذ طريق الملك فهد المقدر عرضه مائة متر تقريباً، فشملته التوسعة، فأخذ ـ رحمه الله ـ يُطالب الجهات المختصة مدة دامت ربع قرن مُلحاً في طلب صرف التعويض لمكان المسجد وبناء مسجد بدلاً من السابق حتى حصل على أكثر من مليوني ريال، وفعلا بُني المسجد بناءً حديثاً على جانب طريق الخدمة، ويا حبذا لوعملت البلدية مشكورة منفذا ومدخلا مع الرصيف لسيارات المصلين، وقطع قليل من الأشجار الحائلة لرؤية المسجد لكان جميلاً ومفيداً لمن يقصد الصلاة به. كما مكث إماماً لمسجد الملك خالد بحي الشرفية كما أسلفنا حتى فجر اليوم الذي لاقى ربه فيه فجملة إمامته واحد وخمسون عاماً ـ غفر الله له ـ ، وكأني بأبنائه وبمن أعتاد الصلاة في ذلك المسجد حينما يدخله ماداً نظره نحو محرابه متحسراً على غيابه الأبدي، ومتذكراً أحاديث الوعظ والإرشادات التي يتفوه بها ـ أبو إبراهيم ـ وذكرياته مع جماعة المسجد ولسان حال كل واحد في تلك اللحظات يردد في نفسه هذا البيت:
كان الله في عونهم. ولقد عرف عنه التقى وطيب المعشر، ولين الجانب مع الصغير والكبير، والإخلاص في العمل وكأن الشاعر يعنيه بهذين البيتين:
وكان لنبأ وفاته المفاجئ وقع مؤلم ومحزن في نفوس أبنائه وأسرته وجميع مُحبيه، ولقد اكتظ جامع الملك خالد بأم الحمام بجموع غفيرة رجالاً ونساءً تضرعوا بالدعاء له بأن يتغمده المولى بواسع رحمته ورضوانه، وأن يفسح له في قبره وينور له فيه، ثم حمل على الأكتاف نحو مرقده في مقبرة أم الحمام والحزن بادٍ على محيا الجميع وعندما هموا بإنزاله في اللحد وإخفائه عن ناظريَ لم أتمالك فيضَ دموع حرَى جالت فتدفقت من محاجر عيني أسفاً على فراق حبيب قلبي:
وطار بي الخيال في تلك اللحظة المحزنة متصوراً أيامنا الأُول أيام الطفولة والمرح معه، ومع لداتنا وأترابنا في تلك المراتع مراتع الطفولة والصبا حيث كُنا نقضي معظم سحابة يومنا في الكتّاب لحفظ كلام الله وكتابته في الألواح لتعذر وجود الأوراق في تلك الحقبة البعيدة. وكلما أمر بتلك الأزقة الضيقة، ومسارب السيول مسرح لهونا ومجال حركاتنا في مزاولة ألعابنا، أو الاستماع إلى بعض القصص والأحاجي ليلاً ممن يكبرنا فإن ذلك يشدنا إلى استحضار واستذكار تلك الأيام والليالي الجميلة، ولكنها الأيام وإن منحت سرورا تجمع وتفرق، ولقد أجاد الشاعر حيث يقول:
ولأن غاب شخصك عنا أبا إبراهيم فإن محبتك وذكرياتنا الجميلة معك لا تغيب عن خواطرنا ابد الليالي:
غفر الله لك أيها الأخ الحبيب وأسكنك عالي الجنان وألهم أبنائك وشقيقك الشيخ عبد الرحمن وأم إبراهيم وجميع أسرتك ومحبيك الصبر والسلوان. (إنا لله وإنا إليه راجعون).
رحمك الله أبا عبدالعزيز(<!--) (الدكتور/ حمد بن إبراهيم السلوم رحمه الله)
نعم هي الأيام كما ترى من سره زمن ساءته أزمان تجمع وتفرق، وتفرح ويعقب أفراحها أحزان، فكأنها في تعاقبها حالت سِجال. فالإنسان في هذا الوجود مهما عاش في أُبهةٍ ورغد من العيش، وتربع على مناصب عاليه ومراكز مرموقة، وصال وجال في مشارق الأرض ومغاربها، ومتع ناظريه من آفاق هذا الكون العريض، واستمتع بأطايب الحياة وملذاتها بين أسرته ورفاق عمرة...، إلا أن نهايته أن يضطجع في لحد من الأرض وحيدا من الخلان بل ومن اقرب الناس إلى نفسه وقلبه, أمثال الزميل الحبيب الدكتور/ حمد بن إبراهيم السلوم الذي ودَع الحياة الفانية ورحل عنا إلى العالم الباقي على اثر مرض عضال لم يمهله طويلا، ولم يعطي فسحة من العمر، تاركا في نفوس محبيه وأفراد أسرته سحابة حزن كثيفة الطبقات غطت سماء منزله ومنازلهم حزناً طويلا فقد تأثرت كثيرا لرحيله المفاجئ العاجل ...، فهو زميل فصلٍ وفيَ وصديق ودٍَ جمعتنا به الدراسة في أم المدارس ـ آنذاك ـ دار التوحيد بالطائف عامي 71-1372هـ ولكنها الأقدار.
أي منذ أكثر من نصف قرن وقلوبنا متآلفة, والتواصل بيننا مستمر، وقد انطوت تلك السنون مسرعةَ، فما احلى ساعات العمر مع الأقران والأحبة:
حيث عشنا في أحضان الدَار وفي تلك الربوع الجميلة نقضي جل أوقاتنا في استذكار دروسنا وما يتخلل ذلك من ساعات مرح ولهو بريء لتجدد النشاط، ولتخفيف وحشة الغربة عنا هناك...، فاستمر التواصل بيننا طيلة العقود والسنين المتعاقبة حتى وافاه الأجل المحتوم فجر يوم السبت 22/1/1428هـ بعد عودته من إحدى مصحات الولايات المتحدة حيث اَلمَحَ الأطباء بأن جسمه الطاهر لا يستجيب لكل العلاجات فعاد متحسرا، وكانت زوجته الوفية أم بدر أبت إلا مرافقته وملازمته في تلك الرحلة العلاجية نائية المحل النهائية مُحاوله تسليته والتهدئة من روعه من المرض الطارئ الذي أفزعه وأنهى حياته، فكانت تقوم بتمريضه مُخفيةً ما بداخلها من توقعات للفراق المحتوم ولوعاته ..، ـ من غير تقصير من زوجته الكبرى أم عبدالعزيز متعها الله بصحة والعافية ـ التي عاشت معه ذروة شبابه، فكلهن مشفقات عليه، ومشغولات بآلامه وما يعانيه من مضاعفات وأمراضٍ عدة، ولقد أجاد الشاعر حيث يقول:
ووصف الشاعر الآخر حالهن وهن يولولن حرقةً وألما على فراقه حيث يقول:
فهو رجل حبا الله رحابة الصدر وطيب المعشر ولين الجانب، والإخلاص في أداء الأعمال المنوطة به، وتصريفها بسهولة ومرونة، هو شخص محنََك تربوي تربع على عدد من المناصب العالية بكل ثقة وجداره ..، ولقد تلقى تعليمة في المرحلة الابتدائية بالمدرسة العزيزية بالطائف حيث تخرج منها عام 1370هـ، ثم التحق بدار التوحيد حتى نال الشهادة الثانوية بها عام 1375هـ فواصل الدراسة بكلية الشريعة بمكة المكرمة إلى أن منح الشهادة العالية عام 1379هـ ، ثم عيد مديراً لمتوسطة ضرما عام 1380هـ ـ مهوى رأسه ـ بعد ذلك انتقل مدير لمعهد المعلمين بالرياض عام 1383هـ، ونقل مدير لثانوية اليمامة العملاقة، ثم ابتعث إلى بريطانيا وحصل على درجة الماجستير بتفوق، بعد ذلك سافر إلى الولايات المتحدة وعاد منها حاملا درجة الدكتوراه بامتياز مع مرتبة الشرف، ثم عين مديراً للتعليم بمنطقة الرياض فترة من الزمن ...، فاختير وكيلا بوزارة المعارف لشؤون الطلبة آنذاك، وفي أواخر عام 1406هـ عُين رئيساً للملحقية الثقافية السعودية بالولايات المتحد الأمريكية أكبر دول العالم...، ومكث هناك حوالي عشرة أعوام رئيسا محترما ومحبوبا لدى الجميع، وقد كُرم وودع في حفل كبير بمقر الملحق الثقافي بواشنطن عندما هم بالعودة...، مع الترحيب بخلفه الدكتور مزيد بن إبراهيم المزيد الذي كان ملحقا ثقافيا بكندا، ثم غادر الولايات المتحدة متأسفا على فراق زملائه ورفاقه فرحا بالعودة إلى الوطن صَوب عمله الجديد مديراً عاماً لمعهد الإدارة العامة بالرياض، فهو يقفز من قمة إلى قمة حاملا بين جوانحه أجمل الذكريات وأحلاها فترت عمله مع زملائه موظفي الملحقية وأبنائه الطلبة المبتعثين، وما شاهد في تلك الأصقاع النائية عن بلاده من مظاهر الحياة الحضارية ومناظرها الطبيعية وأنماط من البشر هناك يستمتعُ باستذكارها في خلواته ..، واستمر في عمله حتى أنهى مشواره الوظيفي التربوي. وقد طبع على التواضع ودماثة الخلق، وحسن التعامل مع موظفيه وأبنائه الطلبة، فهو خير معين إلى أولئك يسهل أمورهم ويُذلل الصعاب التي قد تعترضهم، وهو دائم على اتصال بالمراكز والمكاتب الفرعية التابعة له في كل من واشنطن دي سي وهيوستن، وكاليفورنيا، ودنفر، وشيكاغو، ليطمئن على حسن السير بها، وأحيانا يقوم بالزيارة لها وأن بعدت مسافة مثل ولاية كاليفورنيا، حاثا الطلبة المبتعثين على التحلي بالأخلاق العالية، وعلى حفظ الوقت وحسن التعامل والسلوك الأمثل مع الغير، فهم سفراء بلادهم، وليعودوا حاملين مشعل المعرفة والتفوق العلمي لخدمة وطنهم الذي ينتظرهم...، كما انه يبذل جاهه لدى المسئولين في طلب تحقيق رغبات من يطلب شفاعته من غير الأضرار بمصلحة الآخرين، وهكذا انهى عمله المشرف تاركا ورائه سمعة حسنة وعمرا ثانياً معطرا بالثناء تٌردده الأجيال من بعدة، ولي معه ـ رحمه الله ـ بعض الذكريات وأحلى أيام العمر بالطائف، وبالرحلات الداخلية والخارجية: رحلات الكويت والعراق وإيران عام 1383هـ برفقة الزميل الحبيب إلى قلوبنا الأستاذ عبدالرحمن بن عبدالله العبدان ـ زميل الدراسة بدار التوحيد ـ وما يتخلل تلك الرحلات من مواقف طريفة ومشاهدات لمناظر جميله تُؤنس الأبصار في تلك الديار والبقاع، وكان كثير الحضور للمؤتمرات الدولية في عدد من أنحاء العالم:
وظل التواصل والترابط بيني وبينهما حتى فصلته عنا يد المنون بالأمس القريب ـ كما أسلفنا ـ ولازلت مُحتفظا ببعض رسائله الخطية منذ عام 1380هـ ، ومن الطريف أنه كان يَحْتجُ على استمرار مُهاتفتي للزميل عبدالرحمن العبدان وإيقاظه في شهر رمضان لتناول طعام السحور، ثم الصلاة جماعة وقت إقامته منتدباً بالطائف ...، فانتهزت فرصة وجود الدكتور حمد ـ رحمه الله ـ بالولايات المتحدة في أشهر رمضان الماضيات زمن عمله ملحقا ثقافيا، فأخذت اتصل عليه قُبيل الفجر عدة مرات لإيقاظه لتناول طعام السحور هناك ..، ثم هاتفته مُباركا بحلول عيد الفطر المبارك، ومٌداعبا: أصحيك بَعد لِلسََت...؟ فالمداعبة الخفيفة مع الإخوة والأحبة تشع في النفوس البهجة والمسرات، ومن اهتماماته بي انه حينما علم بوجودي لدى نجلي الأكبر محمد بولاية إنديانا (إيفانزفيل) في أواخر عام 1406هـ اتصل وعرض علي زيارته في مقر عمله الجديد (بواشنطن) قائلا: التذكرة مدفوعة الثمن يا أبا محمد ترغيبا منه وتأكيدا في قبول دعوته الكريمة ـ غفر الله له ـ فمحبته دائمة يُجددها مر الليالي، واذكر جيدا أنه كان يقضي معظم أوقاته معنا بالقسم الداخلي: مهجع الطلبة المغتربين بدار التوحيد عامي 71/1372هـ لاستذكار بعض الدروس معنا ولأجل الاستئناس بالزملاء والأصدقاء رغم بٌعد سكن والديه في شرق مدينة الطائف الواقع على الشارع العام, وعلى مقربة من بيت (عرب) الشهير، بل إنه أحيانا يدعونا مع بعض الزملاء لتناول طعام العشاء أو الغداء في منزل والديه، فكله كرم ولطف ـ رحمه الله ـ فذكره الطيب وسيرته الحميدة والذكريات الجميلة معه ومع بعض الزملاء الذين غَيبهم هادم اللذات ومفرق الجماعات لا تبرح خاطري مدى العمر، وفي الآونة الأخيرة من هذا العام ومن الأعوام التي قبله رحل الكثير من الزملاء والأحبة، وقد ترك رحيلهم في نفوسنا بالغ الأثر والحزن الطويل:
ولئن غالته يد المنون وأبعدته عنا بُعداً أبدياً فإن محبته مُقيمة في مُضمر النفس:
رحمك الله أبا عبدالعزيز ونور مرقدك، والهم ذويك وأبنائك، وزوجاتك ومحبيك الصبر والسلوان. (إنا لله وإنا إليه لراجعون).
عبد الله الشقيحي إلى دار الخلود(<!--) الإنسان في هذه الحياة يعيش على طول الأمل، وقد يستبعد مرور شعوب عليه وقت ذهابه ومجيئه على هذا الكوكب الأرضي، وإنْ كان يعلم جيداً أنّ الرحيل لكلِّ حيٍّ لا مناص منه أبداً، ولكنها الآمال..! ومن نِعَم الله على عباده إخفاء الآجال في ضمير الغيب، قال الله في محكم كتابه العزيز: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (34) سورة لقمان. ويقول الشاعر:
ففي صباح يوم السبت 2-5-1428هـ انسلت روح الصديق زميل العمل الأخ الحبيب/عبد الله بن عبد الرحمن الشقيحي إلى بارئها، بعد معاناة طويلة مع المرض الذي كان يعاوده بين حين وآخر إلى أن أنهك قواه كلّها..، ولقد خيَّم الحزن على منزله وعلى منازل إخوته وأحبّته، لما عُرِف عنه من استقامة، وحسن تعامل مع زملائه ومحيطه الأُسري، بل وجميع معارفه. ولقد ترعرع وتربّى بين أحضان والديه في بيت كرام، بيت كان يقصده الكثير ممن يمرُّ عبر حريملاء صوب مدينة الرياض من البلدان المجاورة وغيرها..، ومن قوافل البوادي، وذلك قبل توفُّر المواصلات الحديثة .. وشق الطرق، ولا سيما في العقود الفارطة، وكانت وسائل التنقُّل آنذاك بواسطة الحيوانات من الجمال وغيرها من الدواب .. بل الأكثر من أولئك سيراً على الأقدام، لما يجده من إكرام وإعلاف لمواشيهم ومطاياهم، وهذا شأن الموسرين من أهالي حريملاء وأمثالهم من أبناء هذا الوطن الذين يأنسون بقراء الضيف حسب إمكانياتهم المادية، بل إنّ البعض منهم يؤثر الضيف على أُسرته وأطفاله، رجاء المثوبة من المولى وطيب الذِّكر..، كما أنّ أُسرة آل شقيحي تتمتع بسمعة طيبة، وبمكانة عالية لدى ولاة الأمر، ولا سيما الرجل الشهم عبد العزيز بن إبراهيم الشقيحي الذي كان يحظى بثقة الملك عبد العزيز ـ طيَّب الله ثراه ـ وتكليفه بمهمات ومناصب عالية في كثير من جوانب المملكة، لما يتمتع به من حنكة وشجاعة وكرم .. كان آخرها أميراً في منطقة نجران بأمر الملك عبد العزيز ـ رحمه الله ـ، وحتى أبناء الملك عبد العزيز حفظوا له مكانته حتى توفّاه الله، وهذا الوفاء من مكارم الأُسرة المالكة في تكريم أُسر مَنْ كان لآبائهم تضحيةٌ ودورٌ فاعلٌ في خدمة الوطن وأهله. ولقد عمل معنا أبو عبد الرحمن ـ رحمه الله ـ أكثر من عشرين عاماً أثناء عملي مديراً لمتوسطة وثانوية حريملاء، حيث تم تعيينه كاتباً في أواخر القرن الماضي في 27- 10-1397هـ، واستمر في عمله حتى توقَّفت نبضات قلبه صباح يوم السبت 2-5- 1428هـ كما أسلفنا ذكره آنفاً ..، وكان مخلصاً ومواظباً في أداء عمله وطيب المعشر لدى الجميع، كما أنّه يقوم بقضاء بعض حوائج الأرامل والأيتام بل وجميع من يحتاج إليه من زملاء وغيرهم من الرياض وخارجها بدون مقابل، فهو يمتاز بالصراحة والصدق في التعامل مع الناس عموماً - تغمَّده الله بواسع رحمته - ولقد أمضى تلك السنين حميدة أيامه معنا ومع زملائه ورفاق عمره في أجواء جميلة تحفُّها أجنحة الود والوئام، والتعاون التام، وما يتخلّلها من رحلات في مواسم الربيع والأمسيات المقمرة في كثير من المناسبات.
كما أنّه ندي الكف هو وأخوه الأكبر الأستاذ محمد، حيث ينتهزان مواسم الفواكه وجذاذ النخيل فينفحان أصدقاءهما بإهدائهم من تلك المحاصيل والثمار، ولا ينسيان بيوت الفقراء والمساكين بإمدادهم في كلِّ المناسبات - رحم الله الراحلين وأسعد الأحياء - فسمعتهم معطرة بالثناء دائماً، وكان لرحيل أبي عبد الرحمن المفاجئ وقعٌ موجعٌ ومؤلمٌ في نفوس أبنائه وأُسرته ومحبِّيه، ولا سيما أم عبد الرحمن التي حزنت على فراق الفها ورفيق عمرها، وكأنّ الشاعر يعنيها بهذا البيت المؤثر:
وعزاؤنا فيه سير أبنائه على نهجه وسيرته الحميدة .. غفر الله لك أبا عبد الرحمن وأسكنك عالي الجنان، وإنّا على فراقك لمحزونون، وألهم ذويك وأبناءك ومحبيك وأم عبد الرحمن الصبر والسلوان. {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ} <!--[if !supportFootnotes]--><!--[endif]--> (<!--) نشرت في صحيفة الجزيرة، يوم الأحد 19 ذوالقعدة 1427هـ، الموافق 10 ديسمبر 2006م. (<!--) نشرت في صحيفة الجزيرة، يوم الثلاثاء، 25/1/1428هـ ، الموافق 13 فبراير 2007م. (<!--) تشرت في صحيفة الجزيرة ، يوم الأثنين 11 جمادى الأول 1428هـ، الموافق 28 مايو 2007م. نشرت فى 30 سبتمبر 2013
بواسطة mager22
رحمك الله أبا عبد الرحمن(<!--) (الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل إبراهيم رحمه الله)
الآجال ومقدار الأعمار مخفية في ضمير الغيب لا يعلمها إلا رب الخلائق ـ جلّتْ قدرته ـ قال تعالى : (إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ٌ ماذا تكسب غداً وما تدري نفسٌ بأي أرض تموت إن الله عليم خبير ) سورة لقمان، آية 34. فهاهو الشيخ الفاضل محمد بن عبد الرحمن آل إبراهيم يرقد مع الراحلين في مقبرة (الُلّقَيم أو الْقَيَم) بالطائف بعيدا عن مسقط رأسه ومدارج صباه ، ومضاجع والديه وأجداده بحريملاء حيث لبىَّ داعي المولى بمستشفى الهدا في تمام الساعة الثانية بعد صلاة ظهر يوم الاثنين 30/5/1427هـ وصلي علية في مسجد عبد الله بن عباس بعد حياة حافلة بالنشاط والكفاح والتنقل من مدينة وأخرى. ولقد نشأ بين أحضان والديه ،وختم القران الكريم بإحدى الكُتَّاب على يد الشيخ المقرئ محمد بن عبد الله الحرقان مع ملازمته والده ليسمع منه التلاوة مُجودةً هو وشقيقهِ الشيخ إبراهيم...،ولاسيما صباح أيام الجُمع بالمسجد الجامع الكبير بحريملاء، فتوسم فيه النجابة وسرعة الحفظ فأرسله إلى الرياض مع أحد أقربائه لتلقي مبادئ في العلم لدى مفتي الديار السعودية ـ آنذاك ـ الشيخ محمد بن إبراهيم وعلى أخيه الشيخ عبد اللطيف فوجد التشجيع منهما ـ رحمهما الله جميعا ـ وسكن بإحدى غرف رباط الإخوان المعروف بحي دخنه المجاور لمسجد الشيخ محمد الذي خصصهْ جلالة الملك عبد العزيز ـ طيب الله ثراه ـ لطلاب العلم ترغيباً لهم مع تخصيص مكافآت تعينهم على مواصلة تلقي العلوم ... بعد ذلك سافر إلى الطائف وألتحق بدار التوحيد عام1366/1367هـ ونال الشهادة الثانوية عام1372هـ فواصل الدارسة بكلية الشريعة بمكة المكرمة حتى نال الشهادة العالية عام 1376هـ. وعُيّن ملازماً بمحكمة مكة المكرمة ثم عُيّن قاضياً بمدينة جيزان، بعد ذلك نُقل قاضيا بمحكمة الطائف ثم مساعدا لرئيس المحكمة حتى عام1388هـ ، وأمَّ المصلين في مسجد أبن النفيسة في حي الشرقية سنوات عدة....، ومنذ انتهاء عمله في المحكمة باشر عمله للاستشارات الشرعية وعقود الأنكحة، وظل يزاول عمله هذا حتى بداية مرضه منذ عشر سنوات، وكان ـ رحمه الله ـ يتمتع بالحنكة والمران في العمل، وحسن التعامل مع الغير، والحرص على لَمّ شمل الأسر وإصلاح ذات البين، ولقد قضى ربيع عمره بل بقية العمر كله في أكناف مدينة الطائف بدءاً من الدراسة بدار التوحيد، وحتى الرَّحيل النهائي إلى دار المقام ـ رحمه الله ـ وكان واسع الأفق مُحباً للقراءة ولوعاً بحفظ جيد الأشعار والتّرنم بها في ساحات الدّار وفي صالة "المهجع" القسم الداخلي لسكن الطلاب المغتربين، مما حبب إلينا القراءة وحفظ الكثير من أقوال الشعراء، وأذكر أني قد استعرت منه دفتره الخاص الذي يجمع فيه ما أستحسن من أساليب أدبيه وأشعار منتقاة عام1372هـ وأنا بالصف الثاني فنقلت بعض القصائد للإمام الشافعي ـ رحمه الله ـ يحث فيها على الاغتراب لأجل اقتناص العلوم من مواردها العذبة، ولطلب المعيشة، منها :
ويقول في مجال العلاقات الإنسانية والإخوانية حينما يَعْتَرِيها فُتور ومجاملات متكلفة:
ومن مزاياه الكرم وطيب المعشر، والحرص على تقوية أواصر المحبة بين الأصدقاء والتواصل بين الزملاء، والميل إلى المرح ـ أحيانا ـ وتبادل الأحاديث الشيقة بين أقرانه وأترابه، والرغبة في الإطلاع على كل جديد في عالم الكتب والصحافة معاً. وكُنّا نتسابق على مكتبه الزائدي الواقعة شرقي باب الريع لشراء بعض الكتب والمجلات التي تصل إليها من القاهرة مثل مجلة الرسالة لأحمد الزيات وروايات الهلال، وكتاب الهلال، وبعض المجلات الثقافية مما أثرى حصيلة الشيخ ومخزونه الأدبي ـ رحمه الله ـ مع مُرورنا على مكتبتي محمد سعيد المؤيد بالشرقية، والأستاذ محمد سعيد كمال المشهورتين، وإن كانت أسعارهما مُكلفة لنا معشر طلاب الدار ... ولي معه ذكريات جميلة لا تغيب عن خاطري، كنا نذهب في الأصائل وأطراف النهار لاستذكار الدروس جماعات ووحدانا فنجلس على مقربة من بساتين المثناة الغناء الحافلة بأنواع الأشجار والثمار اليانعة التي تَعُجُّ بأسراب الطيور فنسمع فيها شدو البلابل، وهديل الحمائم وسجعها، فتبعث فينا البهجة والمسرات :
ومرات تثير الشجن ويهيج الغريب بُكاؤُها:
فهو ـ رحمه الله ـ كثيرا ما يُنْشد أمثال هذه الأبيات في خَلَواته ليجد فيها متعة ومتنفسا وسلوة تُخفف عنه وحشة الغربة وبعده عن مراتع صباه في حريملاء..، فكأني به مشدودا بحب الطائف ورفاق عمره، وبحنينه إلى مسقط رأسه ولداتهِ هناك ...، وكنت أنا والزميل الأستاذ عبد الرحمن العبدان على تواصل معه، نزوره في منزله كلما نحضر صيفاً لتجديد سالف الذكريات بهاتيك المراتع وتلك الميادين ميادين قروى مقر دار التوحيد في تلك الحقبة البعيدة!..حتى أُنزل في جدثه بالمقبرة المشار إليها آنفاً ..، ومن أقرب الزملاء إلى قلبه أيضاً فضيلة الشيخ غنيم المبارك ـ متعه الله بالصحة ـ والشيخ الراحل محمد بن عبد الرحمن الدخيل "أبو عزام" والأستاذ محمد العلي المبارك ـ رحمهما الله جميعا ـ ولم يبقى من تلك الأيام والسويعات الجميلة التي قضيناها في ربوع الطائف سوى رنين الذكريات :
رحمك الله أبا عبد الرحمن وأسكنك فسيح جناته وألهم ذويك ،وذريتك ، وأم عبد الرحمن، ومحبيك الصبر والسلوان . (إنا لله وإنا إليه راجعون)
وغاب بدر المحافل(<!--) (خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز رحمه الله)
الكواكب السماوية تطلع وتغيب ، وتتعاقب في إضاءة وإنارة هذا الكون العريض ، ولكننا قد لا نحس بفقد وغروب شيء منها مثل إحساسنا بفقد بدر المحافل وأنس المجالس الملك فهد بن عبدالعزيز حيث شاءت قدرة المولى أن يكون يوم الاثنين 26/6/1426هـ هو أخر يوم من أيام الدنيا لجلالته بعد حياة طويلة حافلة بالعطاء وبالمشاريع الهامة الجبارة التي يصعب عدُّها وحصرها لكثرتها وتنوعها ..، منها على سبيل المثال لا الحصر: ازدهار التعليم في جميع مراحله المختلفة منذ تربعه على وزارة المعارف عام 1373هـ إذ أخذ في التوسع شيئاً فشيئاً بقفزات ملحوظة ..، كما شجع ـ رحمه الله ـ على إبتعاث الآلاف من الشباب عدة المستقبل إلى خارج المملكة للتزود بالمعارف الجديدة الحديثة في شتى الفنون والتخصصات الدقيقة والعامة معاً ، في هذا العصر الزاهر بالعلوم والتقنيات المتطورة والثقافات عالية المستوى، والتّقدم الصحي الذي شمل أنحاء هذا الوطن سُهُوله وهِضابه وبعد أن تولى مقاليد الحكم أمر باستثمار المال في تَرْسية وتقوية البنية التحتية:
فَمدّت الطرق الطويلة والجسور العملاقة ، وشقت الأنفاق الكثيرة من تحت الجبال المواكِثِ لربط جوانب المملكة ببعضها ببعض مما ساعد على اختصار المسافات البعيدة وانسياب الحركة المرورية ، وتشييد مباني الجامعات والمستشفيات الفخمة ..، ومدينتي الجبيل وينبع الصناعيتين والجسر العملاق الذي ربط المملكة بالبحرين ..، وبناء سائر المجمعات الحكومية .. مما جعل بلادنا تضاهي، وتضارع البلدان المتقدمة حضارياً في شتى الميادين..، كما أن التاريخ لن ينسى فهداً أبداً لما قدمه للأمة الإسلامية من خدمات جليلة ومآثر عظيمة لخدمة دين الله ، فالتوسعة الهائلة التي لم يسبق لها مثيل للحرمين الشريفين مع جَلْب أفخر أنواع الرخام ضد حرارة الشمس التي غطت أسطح ومساحاتهما الواسعة جداً مما جعل الحجاج والعمار يسيرون في عز سطوع أشعة الشمس وهم مرتاحون لبرودة ذاك البساط الرخامي فضلاً عما يقدم لضيوف الرحمن من ملايين العبوات المبردة من ماء زمزم طيلة أيام الحج في منى وعرفات .. على نفقته الخاصة وإهداء كل حاج عند عودته نسخة من المصحف الشريف الذي تم طبعه في مجمع الملك فهد بن عبدالعزيز بالمدينة المنورة الذي عم نفعه أرجاء المعمورة وليبقى أجره وثوابه، بحول الله، وذكرى خالدة له وللشعب السعودي:
كما طبع ـ رحمه الله ـ على حب العمل الإنساني الخيري منذ فجر حياته ، وتلمس حاجات المواطنين الأرامل والأيتام ، ونفح الكثير من الجمعيات التي تعنى بالفقراء والمساكين في مواسم الخير مثل شهر رمضان المبارك ، وفصل الشتاء لعلمه بشدة الحاجة في تلك الظروف، ولا غرو فقد ترعرع وتربى هو وإخوته الكرام في مدرسة الملك عبدالعزيز ـ طيب الله ثراه ورحمهم جميعاً ـ لذا فقد عم الحزن أرجاء البلاد وخارجها ، وما تلك الجموع الغفيرة التي حضرت من مدن وأرياف المملكة لأداء الصلاة عليه بجامع الإمام تركي بالرياض ، والمواساة في رحيله وغيابه عن الوجود غياباً أبدياً إلا دليل قاطع على علو مكانته في القلوب، ولأن أضمرت الأرض جسد أبي فيصل فإن ذكره سيظل حياً عالياً ملوحاً بمآثره العظام مدى تعاقب المَلَوين ، كما أن أعداد الطائرات العالمية العملاقة القادمة من أنحاء كثيرةٍ متفرقةٍ من العالم تتسابق هُوياً على مدرجات مطار قاعدة الرياض الجوية لأجل تقديم العزاء لخادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن العزيز وولي العهد الأمير سلطان بن عبدالعزيز، ولأبناء الملك فهد والأسرة المالكة . ومما خفف مصاب الأمة الإسلامية أن تولى زمام الحكم الملك عبد الله بن عبد العزيز المعروف بالحنكة وبعد النظر والتواضع الجمّ ، فهو خير خلف لخير سلف . وفي هذه العجالة أعزي خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز وولي العهد الأمير سلطان ابن عبدالعزيز ، وإخوته الكرام ، وأبناء الملك فهد، والأسرة المالكة وجميع المواطنين راجين من المولى أن يتغمد الفقيد بواسع فضله ، ويسبغ عليه شآبيب رحمته ، إنه سميع مجيب . وأخيراً أهنئ خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله ابن عبدالعزيز بتوليه زمام الحكم وولي عهده الأمير سلطان ابن عبدالعزيز راجين من الله العلي العظيم أن يمتعهما بلباس الصحة ودوام التوفيق مردداَ هذا البيت :
رحمك الله أبا محمد(<!--) (الأستاذ سليمان بن عبد العزيز المهيزع رحمه الله)
في يوم الأربعاء 15/7/1427هـ توالى انخفاض دقات قلب الأستاذ سليمان بن عبد العزيز المهيزع مسرعة معلنة انتهاء ساعات عمره وأيامه بعد رحلة طويلة وحياة مديدة حافلة بالعطاء والنشاط المستمر في خدمة التعليم وفي جوانبه التربوية والتفاني في مطالبات الجهات المعنية لتطوير بلده ومسقط رأسه حريملاء حيث انه كان عضوا في اللجنة الأهلية بها، فهو لحوح في المطالبة حتى يحقق ما يصبو إليه من مشاريع تنموية ومصالح حكومية آخذا بقول الشاعر :
وقد تحقق الكثير منها بحمد الله .. وذلك بفضل من الله ثم بفضل من حكومتنا الرشيدة التي لا تألوا جهدا في إسعاد المواطن وبتطوير الأرياف والقرى كما هو مشاهد الآن .. ولقد درس علم الهجاء في الكتاب على بعض المطاوعة المشايخ محمد بن حرقان وأخيه إبراهيم وإبراهيم بن خميس، وختم القرآن الكريم على المقرئ الشيخ عبد الرحمن بن حمد بن داود رحمهم الله جميعاً، ولقد عانى في أول حياته مرارة الحرمان ومن حنان الأمومة والأبوة حيث باكره اليتم بفقد والديه الواحد تلو الآخر وهو لا يزال في طور الطفولة، فأظلمت الدنيا في عينيه وضاقت حيلته مما جعل بعض جيران والديه وأقربائه يعطفون عليه، ويحاولون تخفيف وحشة وحدته وغربته في الحياة وتجرعه غصص الحرمان من عطف وحنو الوالدين، ومكابدة الأحزان التي لا تبرح وجدانه ومشاعره، وعندما عبر الثانية عشر من عمره أخذت الأفكار تعتمل وتعتلج في نفسه وبين جوانحه محاولا النهوض من وكره إلى أي جهة عًله يجد سلوة في مجاهيل الحياة أو أي ناحية من نواحي الأرض بعيدا عن أترابه ولداته الذين ينعمون بحنان العطف بين أحضان والديهم وهو ينظر إليهم صباح مساء نظرة غبطة وغيرة .. ! وكأنه قد اضطلع على قول الإمام الشافعي الذي يحث على السير في مناكب الأرض حيث يقول :
ولقد لحظ بعض أقربائه اليقظة ومخايل الذكاء في أعطافه، والطموح إلى معالي الأمور رغم صغر سنه وضآلة جسمه :
فلم ير بدا من الذهاب به إلى الرياض وإلحاقه بحلقات العلم بمسجد الشيخ محمد بن إبراهيم بدخنة وتلقيه مبادئ في اللغة العربية وبعض المتون في التوحيد والعقيدة (رحمهما الله)، ثم هيأ الله له من أخذ بيده صَوب مكة المكرمة ليلحقه بحلقات تعلم الخط والحساب والإملاء بأروقة المسجد الحرام عند باب الزيادة لدى الشيخ الحلواني رحمه الله، وبعد ما أخذ نصيباً من العلم ومن هذه المواد عاد إلى الرياض ودرس بالمدرسة الابتدائية السعودية الواقعة بحي الفوطة بالرياض، فواصل الدراسة حتى حصل على الشهادة الثانوية من المعهد العلمي السعودي بالرياض، فبدأ العمل مدرسا في غرة محرم عام 1368هـ بالمدرسة السعودية وفي عام 1369هـ افتتحت مدرسة حريملاء الابتدائية ونٌدب للعمل بها، ويٌعتبر أول مدرس من الرعيل الأول بحريملاء ثم رجع إلى الرياض للمدرسة السعودية ودرس في معهد الملك سعود للتربية والصناعة 1377هـ ثم انتقل إلى المدرسة النموذجية الابتدائية بشارع الشميسي عام 1378هـ التي تحول اسمها إلى بلال بن رباح رضي الله عنه، كما درس بمعهد الأنجال فترة من الزمن ثم أُعيرت خدماته إلى مكتب رعاية الشباب في إدارة التعليم سكرتيرا للمكتب، بعد ذلك عٌين مديرا بمدرسة حذيفة بن اليمان الابتدائية في الناصرية، إضافة إلى الإشراف على القسم المتوسط والقسم الليلي في المدرسة نفسها. وفي عام 1408هـ ودع العمل الرسمي حميدة أيامه (رحمه الله)، وله مشاركات في عدد من المؤتمرات والندوات التربوية داخل المملكة وخارجها وحضور لدورات ولحلقات التدريب في مجال الإدارة التربوية وطرق التدريس والمناهج في كل من مصر وسوريا واسبانيا ..، وله مساهمات وأراء حول التعليم نشر بعضها ...، كما صدر له كتاب عام 1416هـ (خواطر وذكريات عن التعليم في المملكة) وله كتاب آخر تحت الطبع مماثل لسابقه، فهو بحق رجل عصامي كافح في هذه الحياة بكل جد وإخلاص في خدمة التعليم وخدمة وطنه، اذكر انه يطرح بعض الأفكار في تلك الحقبة الزمنية البعيدة على اللجنة الأهلية مٌطالبا بالرفع للجهات العليا بإيجاد بعض المشاريع في حريملاء فنقابل ذلك بالاستغراب والاستحالة فوقع وتحقق ما كان ينظر إليه بمنظار بعيد المدى، وقد خلف ذرية صالحة تدعو له وتجدد ذكره الحسن على مدى الأيام .. غفر الله لك أبا محمد وأسكنك فسيح جناته والهم ذويك وذريتك وأم محمد الصبر والسلوان (إنا لله وإنا إليه راجعون). زمـــيل رحـــــل إلى دار الخـــلود(<!--) (الشيخ صالح بن عبد الله الصالح رحمه الله)
الدوام لله الواحد القهار، والإنسان ليس له مجال في مدّ عمره أو تأخير موعد شخوصه ومغادرته من الدنيا التي كتب رب الخلائق على أهلها الفناء، فنرى البعض حينما يشعرون بدنو أجل واحتضار مريضهم يولولون ويبذلون ما في وسعهم باستدعاء الطبيب علّه يعمل شيئاً ما بدفع ما أحسوا به وأضمروه بين جوانحهم حياله، ولكن مهما حاولوا الأخذ بشيء من الأسباب لتمنحه فسحة من العمر الذي قدّر وسجل في جبينه منذ الأزل، فإن تلك الأسباب لا تجديه أبداً : قال الله في محكم كتابه :} إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ...الآية{ سورة يونس، آية 49. ويقول الشاعر :
فهذه الصورة وتلك المواقف الحرجة المحزنة التي تحمل في ثناياها الإشفاق والخوف من رحيل من يعز عليهم فراقه مماثلة لملازمة أبناء الشيخ صالح بن عبد الله الصالح بالمستشفى حينما تدهورت حالته الصحية ميمماً صوب الدار الآخرة حيث توفي يوم الخميس 21/8/1427هـ تاركاً وراءه ذكراً حسنا وأثرا ًطيباً وذرية صالحة تدعو له على مر الأيام والليالي، ولقد بدأت حياته كسابقيه من الرعيل الأول بالدراسة بالكتاب حيث تعلم الكتابة وحفظ القرآن الكريم على يد المقرئين الشيخين: حمد بن داود، ومحمد بن عبد الله الحرقان مع مساعدته لوالده في أعمال الفلاحة والزراعة في نخله بحريملاء، ولما أنس والده مخائل الذكاء فيه واستعداده الفطري لتلقي مبادئ في العلم بعثه إلى الرياض مع أحد أقربائه والتحق بحلقات العلم في مسجد الشيخ محمد بن إبراهيم بدخنة ودرس في علم النحو على فضيلة الشيخ عبد اللطيف ابن إبراهيم، وعلى مفتي الديار السعودية ـ آنذاك ـ سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم في بعض المتون مثل كتاب التوحيد والعقيدة الواسطية ومتن الأربعين النووية ...الخ، بجانب عمله في اللاسلكي وقسم البرقيات ... وقد سكنا معاً بحي دخنه في أحد البيوت التي خصصها جلالة الملك عبد العزيز ـ طيب الله ثراه ـ لطلاب العلم المغتربين مع تخصيص مكافأة لهم ترغيباً في المواصلة لتلقي العلم ...، وذلك قبل انتشار المدارس النظامية في أنحاء المملكة ..، وكنا في ذلك السكن كالأسرة الواحدة في تآلفنا وتعاطفنا..، كل ثلاثة أو أربعة في غرفة، فالشيخ صالح ـ رحمه الله ـ يتصف بالكرم وسماحة الخلق. ودائما نشرب الشاي والزنجبيل عنده لأن الشاي له مذاق خاص في تلك الأيام، فهو موظف أدسم منا وله راتب، أما سائر طلاب العلم فليس لهم سوى اثنا عشر ريالاً مكافأة في تلك الحقبة الزمنية، وخاصة المبتدئين أمثالنا وإنما نعيش عيشة كفاف وبساطة وعلى ما يبعثه أهالينا من طعام وتمر وقليل من العيش ...، فكلما يتقدم طالب العلم يزاد في مكافأته ومخصصاته الغذائية ..، كما أن الزميل صالح همزة وصل بيننا وبين الشيخ محمد ابن صالح بن سلطان ـ رحمه الله ـ أيام كان رئيساً في ديوان ولي العهد الملك سعود ـ رحمه الله ـ بأن نحضر إلى منزله الكائن في محلة الحنبلي بالرياض وخاصة في شهر رمضان حيث نتناول طعام الإفطار والعشاء معه على فترات متقاربة، فالشيخ محمد مطبوع على الكرم مبكرا والبذل في أوجه الخير، والعطف على طلاب العلم وخاصة المغتربين من خارج الرياض أمثالنا رغم قلة المادة لديه وعدم استقرار المال براحتيه، وكأن لسان حاله يَرُدّ على من يُحبب إليه ادخار المال وقبض اليدين ـ آنذاك ـ بقول الشاعر :
ثم التحق بدار التوحيد بالطائف عام 71/1372هـ ، وسكنا سويا بالقسم الداخلي هناك، وواصل الدراسة حتى نال الشهادة العالية من كلية الشريعة بمكة المكرمة، وكان أثناء دراسته بكلية الشريعة يؤم المصلين بمسجد خالد بن الوليد بمحلة الشبيكة مع إشرافه على عمال مشروع التوسعة للمسجد الحرام المكي في الإجازات الرسمية وفي أوقات فراغه بتوصية من معالي وزير المالية ـ سابقاً ـ الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن العدوان، لما يتمتع به من حنكة ودراية في تلك المجالات، وكان السيد المهندس بن لادن المعني بتنفيذ المشروع يقدره ويمنحه جوائز تشجيعية على إخلاصه ومتابعته للعمال ..، وبعد التخرج عين مدرساًً فترة من الزمن بمعهد النور الذي كان يرأسه د/ عبد الله الغانم..، ثم أنتقل إلى قسم المناهج بوزارة المعارف والشئون المالية المتعلقة برواتب الموظفين ..، واستمر حتى تقاعده ـ رحمه الله ـ وكان لنا معه ذكريات جميلة في كثير من المواقع في بيوت الإخوان في مدينة الرياض أثناء تلقينا العلم على المشايخ، ثم بالقسم الداخلي بدار التوحيد بالطائف.. وأستمر هذا التواصل بيننا طيلة العمر المديد حتى قبيل رحيله، وستبقى هذه الذكريات الجميلة ماكثةً ومضيئة في طوايا النفس مدى عمري، ومن صفاته الحميدة هدوء الطبع، واحترام الغير، وترك ما لا يعنيه جانبا، مع الكرم وسماحة النفوس وطيب المعشر، وقد يٌطعِم أحاديثه ببعض الحكم والطرائف التي تؤنس السامع وتدخل البهجة والسرور. فرحيلك أبا عبدالرحمن وتتابع قوافل الراحلين من أحبابنا وزملائنا في الآونة الأخيرة يزيد من تراكم وكثافة الحزن في نفوسنا:
رحمك الله ابا عبدالرحمن وأسكنك فسيح جناته والهم ذويك وذريتك ومحبك وأم عبد الرحمن الصبر والسلوان. "إنا لله وإنا إليه راجعون " <!--[if !supportFootnotes]--> <!--[endif]--> (<!--) نشرت في صحيفة الجزيرة، يوم الأحد 20 جمادى الآخرة 1427هـ، 16 يوليه 2006م. (<!--) نشرت في صحيفة الجزيرة يوم السبت 1 رجب 1427هـ الموافق 6 أغسطس 2005م. (<!--) نشرت في صحيفة الجزيرة، يوم الأثنين 20 رجب 1427هـ، الموافق 14 أغسطس 2006م. (<!--) نشرت في صحيفة الجزيرة، يوم الأثنين 10 رمضان 1427هـ، الموافق 14 أكتوبر 2006م. نشرت فى 30 سبتمبر 2013
بواسطة mager22
الزميل الذي رحل(<!--) (الشيخ محمد بن عبدالله الصغير رحمه الله)
قبل وفاة الزميل الشيخ محمد بن عبدالله الصغير بيومين اتصلت عليه مسلماً ومخبراً له بأني قد ـ كتبت كلمة تأبين ـ عن وفاة زميلنا الشيخ إبراهيم بن محمد المحيميد فطلب صورة من تلك الكلمة الوجيزة، ولو علم بما في ضمير الغيب لما طلبها.. فبادرت ببعثها عبر اللاقط (الفاكس) بواسطة فضيلة رئيس محكمة الرس الشيخ عبد العزيز بن حمين الحمين وما لبث أن هاتفني فضيلته قائلا: عظم الله أجرك في زميلكم الشيخ محمد بن عبدالله الصغير. وقد سبق القدر وصول الكلمة إليه حيث انتقل إلى جوار ربه بعدما صلى الفجر في المسجد المجاور لمنزله يوم الاثنين 9/10/1425هـ وصلى عليه عقب صلاة العصر في جامع الشايع بالرس الذي اكتظ وساحته بجموع غفيرة من الرجال والنساء وبحضور أعداد هائلة من المحافظات والبلدان المجاورة. وقد تبعه إلى المقابر خلق كثير داعين المولى له بالمغفرة وطيب الإقامة في جدثه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وكان لهذا النبا وقع مؤلم في نفسي، كيف لا وهو من رفاق عمري وزميلي في الدراسة بدار التوحيد بالطائف عامي 71/1372هـ . ثم بالمعهد العلمي في الرياض حتى نال الشهادة العالية بكلية الشريعة عام1378هـ ، ثم عين قاضياً في محافظة الرس عام 1379هـ فرئيساً لنفس المحكمة حتى تقاعد في عام 1416هـ ، فكل يوم نودع راحلاً يغيب ولا يؤوب (من الزملاء والأحبة) حملتهم قوارب الرحيل النهائي في الآونة الأخيرة مسرعة بهم إلى ملتقى الراحلين، وهذه سنة الله في خلقه:
ولقد خيم الحزن على أجواء محافظة الرس لفقده ورحيله وبعده عن أهله وأسرته ومحبيه، وعن طلبة العلم الذين يتلقون عليه الدروس داخل المسجد المجاور لمنزله في كتاب المستقنع، وفي النحو والفرائض وغير ذلك من المتون المفيدة، فهو غزير في علمه واسع الأفق كثير الاطلاع. وقد كان رئيساً لجمعية تحفيظ القرآن الكريم بمحافظة الرس، كما كان له دور بارز في الفتوى وإصلاح ذات البين في مجتمعه ... ومن سماته الحميدة الكرم ورحابة الصدر وهدوء الطبع وطيب المعشر. قليل الكلام كثير الفوائد. وأملنا في الله ثم في فضيلة الشيخ عبدالعزيز بن حمين الذي خلفه في رئاسة المحكمة الشرعية بألا ينسى تلك البراعم، وطلاب العلم الذين حزنوا على فراق شيخهم محمد بأن يكون خير خلف لخير سلف بدفعهم بحكمته إلى تلقي العلوم وتبصيرهم بما يخفى عليهم ـ وقد فعل أثابه الله ـ ولسان حاله يردد هذا البيت:
ولي معه ذكريات لا تغيب عن خاطري ولا أزال أتذكر تلك الأيام الجميلة والأمسيات المشرقة بدار التوحيد بالطائف وسويعات الآصال في أفياء هاتيك الجبال المتربعة على ميادين (قروي) غربي المدينة التي نزاول فيها بعض الأنشطة ونستذكر بها الدروس حتى قبيل غروب الشمس مدة أيام الدراسة هناك. وأتذكر جيداً مكان جلوس الشيخ محمد تحت تلك الصخرات منذ أكثر من نصف قرن هو وزميلنا الذي رحل منذ سنوات طوال : صالح السمنان رحمهما الله جميعاً. فطلاب دار التوحيد لهم مكانة عالية باقية في شعاب نفسي، ولعل الغربة التي جمعتنا بالدار. وبالقسم الداخلي الذي يحتضن الطلبة المغتربين أمثالنا من أسباب تقوية أواصر المحبة والألفة، فما أجملها من أيام والشمل جامع لنا.
والعزاء في رحيله أنه ترك أثاراً طيبة، وخلف ذرية صالحة تدعو له وتجدد ذكره بالأعمال الجليلة والإخلاص في خدمة الوطن وأهله.. وإنا لفراقك يا أبا عبد الله لمحزونون، غفر الله لك وأسكنك عالي الجنان، وألهم ذريتك ومحبيك الصبر والسلوان(إنا لله وإنا إليه راجعون).
رحمك الله أبا هشام(<!--) (الشيخ صالح بن عبدالرحمن القاضي رحمه الله)
شاءت قدرة المولى أن تنتهي أيام الشيخ المربي صالح بن عبد الرحمن القاضي من الدنيا صباح يوم الأربعاء 1/5/1426هـ حيث هوى من أعالى مبنى منزله، وقد هاتفني صديقه وعديله جاره الأخ الأديب حمد بن محمد الدريهم قائلا وقلبه يعتصر حزنا وأسفا على فراق رفيق دربه، مفيدا أن الشيخ صالح أبو هشام قد انتقل إلى دار الخلود تاركا فينا حزنا مقيما، وكان لوقع هذا الخبر المؤلم بالغ الأسى والحزن في نفسي، فلم املك في تلك اللحظة الموجعة لقلبي سوى الاسترجاع، (إنا لله وإنا إليه راجعون) والدعاء له بأن يسبغ المولى على جدثه شأبيب رحمته، فلقد عاش حياة ملؤها النفع والبذل في أوجه الخير والإحسان، وتلمس حوائج المساكين وذوي الاحتياجات الخاصة، وهو بجانب ذلك يحرص على إصلاح ذات البين ولم شمل الأسر المتصدعة رجاء المثوبة عند واضع الموازين يوم الحساب يوم يجازى كل بما قدم، كما إن عمله الوظيفي لم يعقه عن الدعوة إلى الله في المساجد وفي المحافل وعلى منابر المدارس داخل الرياض وخارجها حيث كان يملك أسلوبا تربويا مبسطا ذا جاذبية فريدة تلزم الطلاب وسائر السامعين إلى عطف أعناقهم نحوه منصتين بدون ملل أو تثاؤب لحلاوة حديثه وطراوته، وما يتخلله أحيانا من طرائف تنشط انتباههم، فكم من شاب غير مساره إلى المسار الأمثل بسبب قوة تأثيره وتوجيهه الأبوي في نفوسهم، وحثهم عن الابتعاد عن قرناء السوء واختيار من يتصف بالصفات الحميدة المثلى، وكثيرا ما يتمثل بمثل هذا البيت قائلا :
فحديثه وإرشاداته دائما تتصف بالحث على الرفق والترغيب في الاستقامة واحترام الوالدين والمعلمين، وحسن التعامل مع جميع البشر.. ، ودائما يلجأ إلى الاستشهاد بالأمثال والحكم مستحضرا معنى هذا البيت:
فرحمك الله أبا هشام فلقد وقفت حياتك في استثمار الوقت موجها تربويا وناصحا أبويا وداعيا لأقوم السبل عبر بر الأمان عن الانحرافات والتجمعات المشبوهة التي تهوي بصاحبها وتورده موارد المذلة وسوء المصير، ولقد سعدت بمعرفته حين تشريفه مدارس محافظة حريملاء للتوجيه والإرشاد واجتماعه بالمعلمين هناك وحثهم على الاستقامة والقدوة الحسنة والإخلاص في أداء أعمالهم واعتبار الطلبة أمانة في أعناقهم كي ينالوا الأجر والرضى من المولى، وليتركوا أثرا طيبا وذكرا عطرا في نفوس أبنائهم حينما يكبرون ويتذكرون مدى حرص معلميهم وإخلاصهم نحوهم فيثنون على أحيائهم ويترحمون على من أضمرتهم الأرض:
كما لا أنسى زيارته لنا ورفيق دربه الأستاذ حمد الدريهم عدة مرات حين مرورهما عبر طريق حريملاء العام صوب مدينة ثادق مسقط رأس الأخ حمد.. وتجاذب أطراف الأحاديث الشيقة معهما وتبادل هدايا الكتب المفيدة.. وسيحدث الغياب المفاجئ فراغا واسعا في نفوس أبنائه المفجوعين وأسرته ومحبيه وصديقه وجاره الأستاذ حمد وكأني بأبي محمد حينما يخلو بنفسه ويتذكر السويعات الطوال التي قضياها سويا يردد قول سيبويه حينما فتح عينه وهو يحتضر في حجر أخيه بقوله:
وفي هذه العجالة أعزي مسئولي ومنسوبي وزارة التربية والتعليم في فقد مثل هذا الرجل الناصح والموجه التربوي الناجح، كما أعزي كافة أسرة القاضي. غفر الله لك أبا هشام وأسكنك عالي الجنان والهم ذويك وزوجتك ومحبيك الصبر والسلوان. ( إنا لله وإنا إليه راجعون ) .
رحمك الله أبا عبد الرحمن(<!--) (الشيخ سعود بن عبدالعزيز آل دغيثر رحمه الله)
الإنسان في هذه الحياة مهما طال به الزمن وتخطى عشرات العقود متنقلاً على ظهر هذه الأرض حيث تسير به قدماه ومراكبه لابد أن يصل للنهاية الحتمية وأن ينزل في صدع بباطنها، فيظل بها وحيداً مقيماً بعيداً عن أحبته ورفاق عمره، إلى يوم النشور يوم يبعث الله الخلائق، وتنصب الموازين القسط ليوم القيامة، فما أسعد من يرحل بزاد من التقوى والعمل الصالح رجاء المثوبة من المولى عند لقائه. ففي صباح يوم الخميس 22/10/ 1426هـ هاتفني أحد الإخوة والحزن باد عليه قائلاً : إن أبا عبد الرحمن الشيخ سعود بن عبدالعزيز آل دغيثر قد رحل إلى دار البقاء ملبياً داعي الله وأن علاقته بالدنيا قد انتهت تماما، فحزنت لهذا النبأ حزناً عظيماً داعياً المولى أن يسكنه عالي الجنان جزاء ما قدم من أعمال جليلة صالحة، ولقد توالى الحزن على أجواء محافظة حريملاء التي فقدته وافتقدت سابقيه أمثال الشيخ محمد بن صالح ابن سلطان، ومعالي الشيخ عبدالله العمار، ومعالي الشيخ عبدالله بن عدوان، والشيخ حمد بن علي المبارك ـ رحمهم الله جميعاً ـ وغيرهم من أبنائها البررة الذين ساهموا بالبذل السخي في كثير من المشاريع الخيرية وبالجاه والجهد في تطويرها، وإظهارها بالمظهر الحضاري في ظل حكومتنا الرشيدة التي لا تألوا جهداً في إسعاد المواطنين، وتطوير البلدان عامة مما جعل المدن الصغيرة أمثال محافظة حريملاء تضاهي كبريات المدن، وقد ترعرع الشيخ سعود في أكناف حريملاء، ودرس في إحدى الكتاتيب بها حتى أكمل كتاب الله وحفظ أجزاء منه، مع إتقان خط الكتابة، ودرس على بعض العلماء واستفاد من مجالسهم خبرةً وأدباً، ثم شخص إلى الرياض وصحب بعض أقاربه في الأسفار مدة من الزمن مما أكسبه حنكةً ودراية بشئون الحياة أهلته بأن يُختار رئيساً لديوان ولي العهد ـ أنذاك ـ الملك سعود بن عبدالعزيز ـرحمه الله ـ مدة طويلة، ثم عين وكيلاً لوزارة المالية بالمنطقة الشرقية خلفاً لمعالي الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن العدوان، ثم خلفهما على هذا المنصب الشيخ الراحل حمد بن علي المبارك (رحمهما الله جميعاً)، وهؤلاء الثلاثة الأفذاذ كلهم كانوا محل التقدير والثقة التامة من قبل ولاة أمر هذه البلاد، وكانوا خير معين لمن يؤم المنطقة من الشباب لطلب العمل لدى شركة أرامكو وبعض الدوائر الحكومية، يقوموا بمساعدتهم وتسهيل أمورهم، وترغيبهم في الحضور إلى منازلهم في كثير من المناسبات لإكرامهم وتخفيف وحشة الغربة عنهم، بعد ذلك عين سفيراً في لبنان ومكث هنالك بعض السنين، ثم طلب الإعفاء وأخلد للراحة، وقضى شطراً من الوقت بين الرياض والبلاد المقدسة حتى أدركه المرض أخيراً، فرحل مأسوفاً على فراقه وبعده عن محبيه وأسرته، علماً أنه منذ بدء حياته كان يتمتع بالصحة والعافية ورحابة الصدر وطراوة البشرة وبشاشة المحيا التي لم يفقدها رغم عبوره الهنيدة بثلاثة أعوام ـ تغمده الله بواسع رحمته ـ متذكراً هذين البيتين للشاعر الأيوبي بهاء الدين زهير:
ختمت على ودادك في ضميري وليس يزال مختوماً هناكا وله بعض الآثار الحميدة في مسقط رأسه حريملاء منها على سبيل المثال : تبنيه أول مشروع لسقيا المواطنين، وببلدة القرينة المجاورة لها ..، مع عمل خزانات لضخ المياه للمنازل .. ، كما قام بفتح أول شارع داخل البلد للربط بين محلتين على نفقته الخاصة وتوسعة بعض الطرق والمنافذ... ، وكان عطوفاً على الأرامل والمحتاجين يمدهم بالصدقات والإعانات، وفي دعم بعض المشاريع الخيرية داخل البلاد وخارجها، فهو سهل العريكة لين الجانب ومحب للأخيار ومجالس الأدب، وأذكر جيداً صلته الوثيقة بوالدنا الشيخ عبد الرحمن بن محمد الخريف رفيق والده عبد العزيز بن حسن الدغيثر ـ رحمهم الله جميعاً ـ وكان كُلما استبد به الحنين إلى زيارة مراتع صباه يمر على والدنا تواصلاً وبراً وتكريماً لحب أبيه، مع طرح بعض الأسئلة في الفقه وغيرها على الوالد ليأنس بالأجوبة الصحيحة، وظل تواصلي معه قائماً ولازلت محتفظاً ببعض رسائله وبرقياته في المناسبات والأعياد التي تردنا منه من المنطقة الشرقية ومن السفارة بلبنان، ونجيبه على ذلك :
فما أجمل التواصل بين الإخوة والأحباب، وسيرته كلها عطرة بالثناء والذكر الحسن، وكأني بمن أعتاد السمر معه والحضور إلى قصره والجلوس بالخيمة الرحبة المتربعة على مرتفع في وسط نخله وبستانه الواقع بحي سلطانة بالرياض، والسكون قد ساد ذاك المكان الذي ألفوه فلا يسع من يجول بطرفه إلا أن تذرف عيناه وتفرغ ماءها تحسراً وتفجعاً على غائب لا يؤوب مرددين هذا البيت :
رحمك الله أبا عبد الرحمن وأسكنك فسيح جناته وألهم ذويك وأبنائك ومحبيك الصبر والسلوان. إنا لله وإنا إليه راجعون الشيخ محمد الشدي إلى رحمة الله(<!--)
بالأمس القريب افتقدت محافظة حريملاء أحد رجال الدولة المخلصين سعادة الشيخ سعود بن عبد العزيز الدغيثر ـ رحمه الله ـ ، وفي عصر يوم الثلاثاء 27/10/1426هـ فجعت حريملاء برحيل عالم بارز من علمائها الأفاضل الشيخ محمد بن عبدالعزيز الشدي بعد حياة حافلة بأعماله الجليلة في التعليم والدعوة والإرشاد، واعتلاء المنابر في الخطابة والتوجيه، ولقد اكتض الجامع الكبير بالحي الجديد في محافظة حريملاء بمئات المصلين منها ومن مدينة الرياض والبلدان المجاورة لها حيث صلي عليه بعد صلاة العشاء ، وتبعه إلى مضجعه ومثواه أرتال هائلة من السيارات ضاقت بها الطرقات وهي تحمل أعداداً كثيرة من المشيعين له حتى أنزلوه جدثه بإحدى مقابر حريملاء والحزن بادٍ على محيا كل منهم ، داعين المولى أن يتغمده بواسع رحمته ، ثم انصرفت عنه أحبته وتلك الجموع الغفيرة فأمسى ثاوياً وحيداً لم يبق معه سوى ما قدمه وادخره من حسنات وعمل صالح ـ راجين له الثبات والمغفرة ـ ولقد هون الله ميتته، يقال: أنه بعدما أدى صلاة الظهر بالمسجد المجاور لمنزله أخذ بيده أحد جيرانه وسارا يتجاذبان أطراف الحديث حتى دخل منزله، ثم آوى إلى فراشه كعادته، وعندما أراد أحد أفراد أسرته إيقاظه لتناول طعام الغداء ولصلاة العصر وجده قد فارق الحياة بهدوء. ويعتبر أبو خالد من زملاء الدراسة منذ بدئها بالكٌتاب، ولدى المشايخ : الشيخ محمد بن إبراهيم مفتي الديار السعودية ـ آنذاك ـ وأخيه الشيخ عبد اللطيف ـ رحم الله الجميع ـ حيث تلقينا عليهما مبادئ في العلم وحتى الدراسة النظامية بالمعهد العلمي بالرياض وبدار التوحيد بالطائف حيث أتم دراسته العليا بكلية الشريعة بمكة المكرمة عام 82/1383 هـ ثم عين بمدرسة القراءات بالمدينة المنورة في 10/6/1383هـ ثم انتقل إلى متوسطة حريملاء عام 1385هـ وعشنا سويا بالمتوسطة والثانوية حتى تقاعد، وكان مخلصاً في أداء عمله ومحترماً لدى الجميع، وفي جزء من خدماته ’فرّغ مرشداً وواعظاً متنقلاً بين المدارس في عدد من مناطق المملكة، وملقياً الخطب فوق منابر الجوامع في كثير من مساجد المدن والأرياف، وكان مهيباً مؤثراً ومقبولاً لجزالة لفظه، وصدق نصحه.
فهو ـ رحمه الله ـ يشد السامع حينما يتكلم بعباراته الجزلة التي تتصف بالبلاغة ومتانة الأسلوب، ولقد تروى من العلوم الشرعية واللغوية مبكراً مستغلاً أوقات فراغه في النهل من موارد العلوم العذبة حتى في الإجازات الصيفية، أذكر أني قد زرته في منزله بشعب عامر أيام دراسته بكلية الشريعة بمكة المكرمة أثناء الإجازة الصيفية هو وزميلنا الراحل الشيخ صالح الزغيبي وهما ينصتان لقراءة زميل لهما في أحد كتب المطولات خارجة عن منهج الدراسة للاستفادة وتنوير أذهانهما ـ وهما بصيران لا يبصران ـ ولقد وعيا قول الشاعر ابن هبيرة الذي يحث على حفظ الوقت :
مما جعله صاحب رأي في كثير من الأحكام الشرعية والفقهية يقارع فيه بعض العلماء ويظل أحياناً صامداً وكأني به ينهي نقاشه معهم متمثلاً بقول الآخر:
فهو يتمتع بشجاعة عامة، ويتمسك في آرائه العلمية مدعماً ذلك بالأدلة، ولقد وهبه الله جمال الصوت والحفظ لكتاب الله كاملاً مع الإلمام بتفسيره وإيضاح معانيه يختمه كل سنة في شهر رمضان أثناء صلاة التراويح والقيام وكان المسجد يزدحم بالمصلين لسماع تلاوة القرآن الكريم من فيه لما يجدونه من حلاوة وسلاسة في التلفظ به.
كما أنه خطيب مفوه لا يشق له غبار ينتهز المناسبات، وفي مواسم الحج والأعياد كل عام يذكر ويحذر من ارتكاب البدع والمحرمات، والابتعاد عن الأفكار المنحرفة، وتبصير العوام بأمور دينهم، ولقد صال وجال في الحياة وذاق حلوها ومرها، ولكن الذي آلمه كثيراً وهد كيانه أخيراً توالي الأحزان عليه: موت والده، ثم تلاه الحادث الذي أفقده ابنه خالد الواقع في 21/1/1400هـ وجعل حزنه يطول ، فرثاه بمنظومة شعرية مؤثرة نختار من ثناياها ثلاثة أبيات :
غفر الله لك أبا خالد وأسكنك فسيح جناته وألهم ذويك وأبناءك وأم خالد وجميع محبيك الصبر والسلوان، (إنا لله وإنا إليه راجعون) ورحـــل مربي الأنجال والأجيال(<!--) (الشيخ عثمان بن ناصر الصالح رحمه الله)
إنه شيخنا الفاضل عثمان بن ناصر الصالح ـ رحمه الله ـ فبعد إجراء العملية الدقيقة "الملاصقة لجدار"بنك الذاكرة والمعلومات برأسه" أخذ أفواج الزوار من محبيه ومن تلامذته وعارفيه يتجهون صَوْبَ مستشفى الملك فيصل التخصصي للاطمئنان على صحته متفائلين بنجاح العملية في البداية، كما ظل رنين الهواتف لا يتوقف طيلة إقامته بالمستشفيين التخصصي ومدينة سلطان بن عبد العزيز الإنسانية للخدمات الطبية للاستفسار عن حالته الصحية مقرونة بالدعاء له، كما أفاض الكثير من الكتاب والشعراء بدورهم عبر الصحافة بالثناء عليه وعدّ مآثره الحسان، ونشاطاته الأدبية والثقافية، والتنويه بما يتمتع به من تواضع جمِّ وطيب معشر، وبحرصه الدائم على تلبية الدعوات وإن بعد مكانها داخل الوطن أو خارجه، فهو صديق وفي ومحب للجميع. وأذكر أنه قد بدأ في مراسلتي قبل أن اسعد بمعرفته ومقابلته أيام كان مديراً لمعهد الأنجال الواقع قُبالة الناصرية بالرياض عام 1380هـ وأنا مدير لمعهد المعلمين بحريملاء، ولازلت محتفظاً بتلك الرسائل القيمة التي أبدى فيها أغتباطه بثناء بعض الموجهين على حسن سير العمل لدينا بالمعهد، وقد حثنا ـ رحمه الله ـ على الاستمرار في مواصلة نشاطنا وتشجيع الطلبة على التحلي بالأخلاق الفاضلة، واحترام مُعلّميهم، وبالمثابرة في التحصيل العلمي والأدبي والخطابة معاً، فهم رجال الغد.. كما قد سعدنا بالاجتماع به في المناسبات التي تقام في بعض المدن مثل مكة المكرمة، والطائف، ونجران، والغاط وروضة سدير، والمجمعة، وحريملاء، والقصيم، وكذلك بالصالونات الأدبية المنزلية وغير ذلك من المناسبات السعيدة ـ وكان جلوسه دائماً في صدر تلك المحافل ـ لمكانته العالية في القلوب تكريماً وتقديرا ًلما يتمتع به من خلق كريم وأدب جمّ رفيع، وكثيرا ما كان يؤنس الحضور بأحاديثه الشيقة، وبنظمه الشعري المباشر الخفيف على القلوب والأسماع، وبتعليقاته ومداخلاته أحيانا في بعض المجالات، فهو بحق بدر المجالس والمنتديات الأدبية:
ولكن شَعُوباً بعد ما أُدخل المستشفى ـ كما أسلفنا ـ كان ينتظر الأذن له من المولى بأن يرحل بشيخنا الحبيب إلى دار الخلود، فلما انتهى رصيده من أيام الدنيا فرّت روحه الطاهرة إلى باريها في ليلة السبت 25/2/1427هـ وصلى عليه بعد صلاة العصر في جامع الملك خالد بأم الحمام بالرياض ، وقد ضاق ذلك المسجد وساحاته بالمصلين عليه رجالاً ونساء وبكاه كل من حوله من الأهل وأفراد أسرته، ومحبيه في تلك اللحظة الحرجة المحزنة راجين من المولى أن يحسن وفادته ويسكنه الفردوس الأعلى، ولقد أحدث غيابة فجوة واسعة في الميدان الثقافي، وفي المنتديات الأدبية كأثنينيته التي كانت تكتظ بالأدباء ورجال الفكر والعلم، وكان ينتقي ويستضيف فيها نخبة ممتازة من العلماء والأمراء، والأدباء وكثير من رجال الأعمال، فهي ملتقى ممتع ومفيد جداً للأدباء والمفكرين من رجال هذا الوطن، كما كان يحضرها الكثير من السفراء ورجال السلك الدبلوماسي من بعض الأقطار الشقيقة فهي نبع ثَري من المعرفة مما جعلها تُؤم وتقصد كمثيلاتها من الصوالين الأدبية ومجالس الوجهاء والمفكرين، وكأني بمن أعتاد الحضور إلى ذاك المكان الرحب (الاثنين) ـ وصدر صاحبها أرحب ـ يقول للشيخ عثمان قُبيل رحيله: "ومن اتخذت على الضيوف خليفة"؟! والأمل معقود بأبنائه البررة ليعملوا شيئا ماّ ليدوم التواصل إلى ذلك المكان الذي ألفوه، ولتجدد الذكر والدعاء لمن وارته الترب ـ حميدة أيامه ـ ولئن بعد عنا أبو ناصر وأوغل في البعد فإن شخصه سيظل ماثلاً في ذاكرتي ومخيلتي ، وذكرياتي الجميلة معه لا تبرح خاطري مدى عمري، كمالا يفوتني التنويه والإشادة بعمله القيادي والتربوي أثناء عمله مديراً ناجحاً لمعهد الأنجال الذي ظل فيه أكثر من ثلاثين عاماً قائداً لمسيرته محترماً مهيباً:
فقد تخرج على يديه عشرات الأفواج من أبناء الملوك والأمراء وكثير من أبناء هذا الوطن الذي تسنموا المناصب العالية، وكان ـ رحمه الله ـ محل التقدير والتكريم من ملوك هذا الوطن ومن تلامذته الأمراء وغيرهم، فهو خير مرب ومعين لما وصلوا إليه من علم وأدب رفيع وثقافات عالية، وقد كرمته الدولة ـ أعزها الله ـ ومنحته وسام الملك عبد العزيز من الدرجة الأولى، كما نال دروعاً عدة وشهادات تقديرية في مناسبات متكررة داخل الوطن وخارجه..، وقد ترك آثاراً طيبة وذكراً حسناً، ومكتبة ضخمة حاوية نفائس الكتب وسائر المراجع العامة والخاصة والمخطوطات النادرة، وقد أفنى عمره في جمعها وانتقائها من أشهر المكتبات والمعارض الدولية في الداخل والخارج، مع ما أنظم إلى أرففها من الكم الهائل من هدايا أصدقائه ومعارفه، وتلاميذه، وكأني به عندما أحس بدنو أجله أخذ يقضي الساعات الطوال داخل المكتبة يسرح طرفه في أرجائها، ويطيل النظر في تلك الرفوف المثقلة بأحمال الكتب الحبيبة إلي قلبه وبداخله ما به من تحسر على تركه إياها مُردداً في داخل نفسه هذين البيتين المشهورين:
|