رحمك الله أبا عبد الرحمن(<!--)
(الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل إبراهيم رحمه الله)
وما نحن إلا ركْبُ موتٍ إلى البلى |
|
تُسيِّرُنا أيامنا كالرَّواحِلِ |
الآجال ومقدار الأعمار مخفية في ضمير الغيب لا يعلمها إلا رب الخلائق ـ جلّتْ قدرته ـ قال تعالى : (إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ٌ ماذا تكسب غداً وما تدري نفسٌ بأي أرض تموت إن الله عليم خبير ) سورة لقمان، آية 34.
فهاهو الشيخ الفاضل محمد بن عبد الرحمن آل إبراهيم يرقد مع الراحلين في مقبرة (الُلّقَيم أو الْقَيَم) بالطائف بعيدا عن مسقط رأسه ومدارج صباه ، ومضاجع والديه وأجداده بحريملاء حيث لبىَّ داعي المولى بمستشفى الهدا في تمام الساعة الثانية بعد صلاة ظهر يوم الاثنين 30/5/1427هـ وصلي علية في مسجد عبد الله بن عباس بعد حياة حافلة بالنشاط والكفاح والتنقل من مدينة وأخرى.
ولقد نشأ بين أحضان والديه ،وختم القران الكريم بإحدى الكُتَّاب على يد الشيخ المقرئ محمد بن عبد الله الحرقان مع ملازمته والده ليسمع منه التلاوة مُجودةً هو وشقيقهِ الشيخ إبراهيم...،ولاسيما صباح أيام الجُمع بالمسجد الجامع الكبير بحريملاء، فتوسم فيه النجابة وسرعة الحفظ فأرسله إلى الرياض مع أحد أقربائه لتلقي مبادئ في العلم لدى مفتي الديار السعودية ـ آنذاك ـ الشيخ محمد بن إبراهيم وعلى أخيه الشيخ عبد اللطيف فوجد التشجيع منهما ـ رحمهما الله جميعا ـ وسكن بإحدى غرف رباط الإخوان المعروف بحي دخنه المجاور لمسجد الشيخ محمد الذي خصصهْ جلالة الملك عبد العزيز ـ طيب الله ثراه ـ لطلاب العلم ترغيباً لهم مع تخصيص مكافآت تعينهم على مواصلة تلقي العلوم ... بعد ذلك سافر إلى الطائف وألتحق بدار التوحيد عام1366/1367هـ ونال الشهادة الثانوية عام1372هـ فواصل الدارسة بكلية الشريعة بمكة المكرمة حتى نال الشهادة العالية عام 1376هـ. وعُيّن ملازماً بمحكمة مكة المكرمة ثم عُيّن قاضياً بمدينة جيزان، بعد ذلك نُقل قاضيا بمحكمة الطائف ثم مساعدا لرئيس المحكمة حتى عام1388هـ ، وأمَّ المصلين في مسجد أبن النفيسة في حي الشرقية سنوات عدة....، ومنذ انتهاء عمله في المحكمة باشر عمله للاستشارات الشرعية وعقود الأنكحة، وظل يزاول عمله هذا حتى بداية مرضه منذ عشر سنوات، وكان ـ رحمه الله ـ يتمتع بالحنكة والمران في العمل، وحسن التعامل مع الغير، والحرص على لَمّ شمل الأسر وإصلاح ذات البين، ولقد قضى ربيع عمره بل بقية العمر كله في أكناف مدينة الطائف بدءاً من الدراسة بدار التوحيد، وحتى الرَّحيل النهائي إلى دار المقام ـ رحمه الله ـ وكان واسع الأفق مُحباً للقراءة ولوعاً بحفظ جيد الأشعار والتّرنم بها في ساحات الدّار وفي صالة "المهجع" القسم الداخلي لسكن الطلاب المغتربين، مما حبب إلينا القراءة وحفظ الكثير من أقوال الشعراء، وأذكر أني قد استعرت منه دفتره الخاص الذي يجمع فيه ما أستحسن من أساليب أدبيه وأشعار منتقاة عام1372هـ وأنا بالصف الثاني فنقلت بعض القصائد للإمام الشافعي ـ رحمه الله ـ يحث فيها على الاغتراب لأجل اقتناص العلوم من مواردها العذبة، ولطلب المعيشة، منها :
ما في المقام لذي عقل وذي أدب |
|
من راحة فدع الأوطان واغترب |
سافر تجد عوضاً عمن تفارقه |
|
وانصب فإن لذيذ العيش في النّصبِ |
ويقول في مجال العلاقات الإنسانية والإخوانية حينما يَعْتَرِيها فُتور ومجاملات متكلفة:
إذا المرءُ لا يرعاك إلا تكلفا |
|
فدعه ولا تكثر علية التّأسفا |
ففي الناس أبدالٌ وفي الترك راحة |
|
وفي القلب صبر للحبيب ولو جفا |
ومن مزاياه الكرم وطيب المعشر، والحرص على تقوية أواصر المحبة بين الأصدقاء والتواصل بين الزملاء، والميل إلى المرح ـ أحيانا ـ وتبادل الأحاديث الشيقة بين أقرانه وأترابه، والرغبة في الإطلاع على كل جديد في عالم الكتب والصحافة معاً.
وكُنّا نتسابق على مكتبه الزائدي الواقعة شرقي باب الريع لشراء بعض الكتب والمجلات التي تصل إليها من القاهرة مثل مجلة الرسالة لأحمد الزيات وروايات الهلال، وكتاب الهلال، وبعض المجلات الثقافية مما أثرى حصيلة الشيخ ومخزونه الأدبي ـ رحمه الله ـ مع مُرورنا على مكتبتي محمد سعيد المؤيد بالشرقية، والأستاذ محمد سعيد كمال المشهورتين، وإن كانت أسعارهما مُكلفة لنا معشر طلاب الدار ...
ولي معه ذكريات جميلة لا تغيب عن خاطري، كنا نذهب في الأصائل وأطراف النهار لاستذكار الدروس جماعات ووحدانا فنجلس على مقربة من بساتين المثناة الغناء الحافلة بأنواع الأشجار والثمار اليانعة التي تَعُجُّ بأسراب الطيور فنسمع فيها شدو البلابل، وهديل الحمائم وسجعها، فتبعث فينا البهجة والمسرات :
تَخالَ طائرها نشوان من طرب |
|
والغصن من هَزّ عطفيه نشوانا |
ومرات تثير الشجن ويهيج الغريب بُكاؤُها:
حمام الأيك، مالك باكيا |
|
أفارقت خلاً، أم جفاك حبيب؟! |
تذكرني ليلى على بعد دارها |
|
وليلى خلوب للرجال طروبُ |
فهو ـ رحمه الله ـ كثيرا ما يُنْشد أمثال هذه الأبيات في خَلَواته ليجد فيها متعة ومتنفسا وسلوة تُخفف عنه وحشة الغربة وبعده عن مراتع صباه في حريملاء..، فكأني به مشدودا بحب الطائف ورفاق عمره، وبحنينه إلى مسقط رأسه ولداتهِ هناك ...، وكنت أنا والزميل الأستاذ عبد الرحمن العبدان على تواصل معه، نزوره في منزله كلما نحضر صيفاً لتجديد سالف الذكريات بهاتيك المراتع وتلك الميادين ميادين قروى مقر دار التوحيد في تلك الحقبة البعيدة!..حتى أُنزل في جدثه بالمقبرة المشار إليها آنفاً ..، ومن أقرب الزملاء إلى قلبه أيضاً فضيلة الشيخ غنيم المبارك ـ متعه الله بالصحة ـ والشيخ الراحل محمد بن عبد الرحمن الدخيل "أبو عزام" والأستاذ محمد العلي المبارك ـ رحمهما الله جميعا ـ ولم يبقى من تلك الأيام والسويعات الجميلة التي قضيناها في ربوع الطائف سوى رنين الذكريات :
ومهما أنسَ من شيء تولى |
|
فإني ذاكرٌ"دار التوحيدِ" !! |
رحمك الله أبا عبد الرحمن وأسكنك فسيح جناته وألهم ذويك ،وذريتك ، وأم عبد الرحمن، ومحبيك الصبر والسلوان .
(إنا لله وإنا إليه راجعون)
وغاب بدر المحافل(<!--)
(خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز رحمه الله)
حُجبت عنا وما الدنيا بمظهرةٍ |
|
شخصاً وإن جل إلا عاد محجوباً |
الكواكب السماوية تطلع وتغيب ، وتتعاقب في إضاءة وإنارة هذا الكون العريض ، ولكننا قد لا نحس بفقد وغروب شيء منها مثل إحساسنا بفقد بدر المحافل وأنس المجالس الملك فهد بن عبدالعزيز حيث شاءت قدرة المولى أن يكون يوم الاثنين 26/6/1426هـ هو أخر يوم من أيام الدنيا لجلالته بعد حياة طويلة حافلة بالعطاء وبالمشاريع الهامة الجبارة التي يصعب عدُّها وحصرها لكثرتها وتنوعها ..، منها على سبيل المثال لا الحصر: ازدهار التعليم في جميع مراحله المختلفة منذ تربعه على وزارة المعارف عام 1373هـ إذ أخذ في التوسع شيئاً فشيئاً بقفزات ملحوظة ..، كما شجع ـ رحمه الله ـ على إبتعاث الآلاف من الشباب عدة المستقبل إلى خارج المملكة للتزود بالمعارف الجديدة الحديثة في شتى الفنون والتخصصات الدقيقة والعامة معاً ، في هذا العصر الزاهر بالعلوم والتقنيات المتطورة والثقافات عالية المستوى، والتّقدم الصحي الذي شمل أنحاء هذا الوطن سُهُوله وهِضابه وبعد أن تولى مقاليد الحكم أمر باستثمار المال في تَرْسية وتقوية البنية التحتية:
والبيت لا يبتنى إلا له عمد |
|
ولا عماد إذا لم ترسَ أوتاد |
فَمدّت الطرق الطويلة والجسور العملاقة ، وشقت الأنفاق الكثيرة من تحت الجبال المواكِثِ لربط جوانب المملكة ببعضها ببعض مما ساعد على اختصار المسافات البعيدة وانسياب الحركة المرورية ، وتشييد مباني الجامعات والمستشفيات الفخمة ..، ومدينتي الجبيل وينبع الصناعيتين والجسر العملاق الذي ربط المملكة بالبحرين ..، وبناء سائر المجمعات الحكومية .. مما جعل بلادنا تضاهي، وتضارع البلدان المتقدمة حضارياً في شتى الميادين..، كما أن التاريخ لن ينسى فهداً أبداً لما قدمه للأمة الإسلامية من خدمات جليلة ومآثر عظيمة لخدمة دين الله ، فالتوسعة الهائلة التي لم يسبق لها مثيل للحرمين الشريفين مع جَلْب أفخر أنواع الرخام ضد حرارة الشمس التي غطت أسطح ومساحاتهما الواسعة جداً مما جعل الحجاج والعمار يسيرون في عز سطوع أشعة الشمس وهم مرتاحون لبرودة ذاك البساط الرخامي فضلاً عما يقدم لضيوف الرحمن من ملايين العبوات المبردة من ماء زمزم طيلة أيام الحج في منى وعرفات .. على نفقته الخاصة وإهداء كل حاج عند عودته نسخة من المصحف الشريف الذي تم طبعه في مجمع الملك فهد بن عبدالعزيز بالمدينة المنورة الذي عم نفعه أرجاء المعمورة وليبقى أجره وثوابه، بحول الله، وذكرى خالدة له وللشعب السعودي:
فعاجوا فاثنوا بالذي أنت أهلهُ |
|
ولو سكتوا أثنت عليك ( المصاحفُ ) ..! |
كما طبع ـ رحمه الله ـ على حب العمل الإنساني الخيري منذ فجر حياته ، وتلمس حاجات المواطنين الأرامل والأيتام ، ونفح الكثير من الجمعيات التي تعنى بالفقراء والمساكين في مواسم الخير مثل شهر رمضان المبارك ، وفصل الشتاء لعلمه بشدة الحاجة في تلك الظروف، ولا غرو فقد ترعرع وتربى هو وإخوته الكرام في مدرسة الملك عبدالعزيز ـ طيب الله ثراه ورحمهم جميعاً ـ لذا فقد عم الحزن أرجاء البلاد وخارجها ، وما تلك الجموع الغفيرة التي حضرت من مدن وأرياف المملكة لأداء الصلاة عليه بجامع الإمام تركي بالرياض ، والمواساة في رحيله وغيابه عن الوجود غياباً أبدياً إلا دليل قاطع على علو مكانته في القلوب، ولأن أضمرت الأرض جسد أبي فيصل فإن ذكره سيظل حياً عالياً ملوحاً بمآثره العظام مدى تعاقب المَلَوين ، كما أن أعداد الطائرات العالمية العملاقة القادمة من أنحاء كثيرةٍ متفرقةٍ من العالم تتسابق هُوياً على مدرجات مطار قاعدة الرياض الجوية لأجل تقديم العزاء لخادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن العزيز وولي العهد الأمير سلطان بن عبدالعزيز، ولأبناء الملك فهد والأسرة المالكة .
ومما خفف مصاب الأمة الإسلامية أن تولى زمام الحكم الملك عبد الله بن عبد العزيز المعروف بالحنكة وبعد النظر والتواضع الجمّ ، فهو خير خلف لخير سلف .
وفي هذه العجالة أعزي خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز وولي العهد الأمير سلطان ابن عبدالعزيز ، وإخوته الكرام ، وأبناء الملك فهد، والأسرة المالكة وجميع المواطنين راجين من المولى أن يتغمد الفقيد بواسع فضله ، ويسبغ عليه شآبيب رحمته ، إنه سميع مجيب .
وأخيراً أهنئ خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله ابن عبدالعزيز بتوليه زمام الحكم وولي عهده الأمير سلطان ابن عبدالعزيز راجين من الله العلي العظيم أن يمتعهما بلباس الصحة ودوام التوفيق مردداَ هذا البيت :
ودم سالماً من كل سوء مهنئًا |
|
بما نلته دهراً وما أنت نائله |
رحمك الله أبا محمد(<!--)
(الأستاذ سليمان بن عبد العزيز المهيزع رحمه الله)
وما المال والاهلون الا ودائع |
|
ولا بد يوما أن ترد الودائع |
في يوم الأربعاء 15/7/1427هـ توالى انخفاض دقات قلب الأستاذ سليمان بن عبد العزيز المهيزع مسرعة معلنة انتهاء ساعات عمره وأيامه بعد رحلة طويلة وحياة مديدة حافلة بالعطاء والنشاط المستمر في خدمة التعليم وفي جوانبه التربوية والتفاني في مطالبات الجهات المعنية لتطوير بلده ومسقط رأسه حريملاء حيث انه كان عضوا في اللجنة الأهلية بها، فهو لحوح في المطالبة حتى يحقق ما يصبو إليه من مشاريع تنموية ومصالح حكومية آخذا بقول الشاعر :
اخلق بذي الصبر ان يحظى بحاجته |
|
ومدمن القرع للأبواب أن يلجا |
وقد تحقق الكثير منها بحمد الله .. وذلك بفضل من الله ثم بفضل من حكومتنا الرشيدة التي لا تألوا جهدا في إسعاد المواطن وبتطوير الأرياف والقرى كما هو مشاهد الآن .. ولقد درس علم الهجاء في الكتاب على بعض المطاوعة المشايخ محمد بن حرقان وأخيه إبراهيم وإبراهيم بن خميس، وختم القرآن الكريم على المقرئ الشيخ عبد الرحمن بن حمد بن داود رحمهم الله جميعاً، ولقد عانى في أول حياته مرارة الحرمان ومن حنان الأمومة والأبوة حيث باكره اليتم بفقد والديه الواحد تلو الآخر وهو لا يزال في طور الطفولة، فأظلمت الدنيا في عينيه وضاقت حيلته مما جعل بعض جيران والديه وأقربائه يعطفون عليه، ويحاولون تخفيف وحشة وحدته وغربته في الحياة وتجرعه غصص الحرمان من عطف وحنو الوالدين، ومكابدة الأحزان التي لا تبرح وجدانه ومشاعره، وعندما عبر الثانية عشر من عمره أخذت الأفكار تعتمل وتعتلج في نفسه وبين جوانحه محاولا النهوض من وكره إلى أي جهة عًله يجد سلوة في مجاهيل الحياة أو أي ناحية من نواحي الأرض بعيدا عن أترابه ولداته الذين ينعمون بحنان العطف بين أحضان والديهم وهو ينظر إليهم صباح مساء نظرة غبطة وغيرة .. ! وكأنه قد اضطلع على قول الإمام الشافعي الذي يحث على السير في مناكب الأرض حيث يقول :
تغرب عن الأوطان في طلب العلا |
|
وسافر ففي الأسفار خمس فوائد |
ولقد لحظ بعض أقربائه اليقظة ومخايل الذكاء في أعطافه، والطموح إلى معالي الأمور رغم صغر سنه وضآلة جسمه :
تراه من الذكاء نحيل جسم |
|
عليه من توقده دليل |
فلم ير بدا من الذهاب به إلى الرياض وإلحاقه بحلقات العلم بمسجد الشيخ محمد بن إبراهيم بدخنة وتلقيه مبادئ في اللغة العربية وبعض المتون في التوحيد والعقيدة (رحمهما الله)، ثم هيأ الله له من أخذ بيده صَوب مكة المكرمة ليلحقه بحلقات تعلم الخط والحساب والإملاء بأروقة المسجد الحرام عند باب الزيادة لدى الشيخ الحلواني رحمه الله، وبعد ما أخذ نصيباً من العلم ومن هذه المواد عاد إلى الرياض ودرس بالمدرسة الابتدائية السعودية الواقعة بحي الفوطة بالرياض، فواصل الدراسة حتى حصل على الشهادة الثانوية من المعهد العلمي السعودي بالرياض، فبدأ العمل مدرسا في غرة محرم عام 1368هـ بالمدرسة السعودية وفي عام 1369هـ افتتحت مدرسة حريملاء الابتدائية ونٌدب للعمل بها، ويٌعتبر أول مدرس من الرعيل الأول بحريملاء ثم رجع إلى الرياض للمدرسة السعودية ودرس في معهد الملك سعود للتربية والصناعة 1377هـ ثم انتقل إلى المدرسة النموذجية الابتدائية بشارع الشميسي عام 1378هـ التي تحول اسمها إلى بلال بن رباح رضي الله عنه، كما درس بمعهد الأنجال فترة من الزمن ثم أُعيرت خدماته إلى مكتب رعاية الشباب في إدارة التعليم سكرتيرا للمكتب، بعد ذلك عٌين مديرا بمدرسة حذيفة بن اليمان الابتدائية في الناصرية، إضافة إلى الإشراف على القسم المتوسط والقسم الليلي في المدرسة نفسها. وفي عام 1408هـ ودع العمل الرسمي حميدة أيامه (رحمه الله)، وله مشاركات في عدد من المؤتمرات والندوات التربوية داخل المملكة وخارجها وحضور لدورات ولحلقات التدريب في مجال الإدارة التربوية وطرق التدريس والمناهج في كل من مصر وسوريا واسبانيا ..، وله مساهمات وأراء حول التعليم نشر بعضها ...، كما صدر له كتاب عام 1416هـ (خواطر وذكريات عن التعليم في المملكة) وله كتاب آخر تحت الطبع مماثل لسابقه، فهو بحق رجل عصامي كافح في هذه الحياة بكل جد وإخلاص في خدمة التعليم وخدمة وطنه، اذكر انه يطرح بعض الأفكار في تلك الحقبة الزمنية البعيدة على اللجنة الأهلية مٌطالبا بالرفع للجهات العليا بإيجاد بعض المشاريع في حريملاء فنقابل ذلك بالاستغراب والاستحالة فوقع وتحقق ما كان ينظر إليه بمنظار بعيد المدى، وقد خلف ذرية صالحة تدعو له وتجدد ذكره الحسن على مدى الأيام .. غفر الله لك أبا محمد وأسكنك فسيح جناته والهم ذويك وذريتك وأم محمد الصبر والسلوان (إنا لله وإنا إليه راجعون).
زمـــيل رحـــــل إلى دار الخـــلود(<!--)
(الشيخ صالح بن عبد الله الصالح رحمه الله)
حسب الخليلين أن الأرض بينهما |
|
هذا عليها وهذا تحتها باقِ |
الدوام لله الواحد القهار، والإنسان ليس له مجال في مدّ عمره أو تأخير موعد شخوصه ومغادرته من الدنيا التي كتب رب الخلائق على أهلها الفناء، فنرى البعض حينما يشعرون بدنو أجل واحتضار مريضهم يولولون ويبذلون ما في وسعهم باستدعاء الطبيب علّه يعمل شيئاً ما بدفع ما أحسوا به وأضمروه بين جوانحهم حياله، ولكن مهما حاولوا الأخذ بشيء من الأسباب لتمنحه فسحة من العمر الذي قدّر وسجل في جبينه منذ الأزل، فإن تلك الأسباب لا تجديه أبداً : قال الله في محكم كتابه :} إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ...الآية{ سورة يونس، آية 49.
ويقول الشاعر :
وإذا المنية أنشبت أظفارها |
|
ألفيت كل تميمة لا تنفع |
فهذه الصورة وتلك المواقف الحرجة المحزنة التي تحمل في ثناياها الإشفاق والخوف من رحيل من يعز عليهم فراقه مماثلة لملازمة أبناء الشيخ صالح بن عبد الله الصالح بالمستشفى حينما تدهورت حالته الصحية ميمماً صوب الدار الآخرة حيث توفي يوم الخميس 21/8/1427هـ تاركاً وراءه ذكراً حسنا وأثرا ًطيباً وذرية صالحة تدعو له على مر الأيام والليالي، ولقد بدأت حياته كسابقيه من الرعيل الأول بالدراسة بالكتاب حيث تعلم الكتابة وحفظ القرآن الكريم على يد المقرئين الشيخين: حمد بن داود، ومحمد بن عبد الله الحرقان مع مساعدته لوالده في أعمال الفلاحة والزراعة في نخله بحريملاء، ولما أنس والده مخائل الذكاء فيه واستعداده الفطري لتلقي مبادئ في العلم بعثه إلى الرياض مع أحد أقربائه والتحق بحلقات العلم في مسجد الشيخ محمد بن إبراهيم بدخنة ودرس في علم النحو على فضيلة الشيخ عبد اللطيف ابن إبراهيم، وعلى مفتي الديار السعودية ـ آنذاك ـ سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم في بعض المتون مثل كتاب التوحيد والعقيدة الواسطية ومتن الأربعين النووية ...الخ، بجانب عمله في اللاسلكي وقسم البرقيات ...
وقد سكنا معاً بحي دخنه في أحد البيوت التي خصصها جلالة الملك عبد العزيز ـ طيب الله ثراه ـ لطلاب العلم المغتربين مع تخصيص مكافأة لهم ترغيباً في المواصلة لتلقي العلم ...، وذلك قبل انتشار المدارس النظامية في أنحاء المملكة ..، وكنا في ذلك السكن كالأسرة الواحدة في تآلفنا وتعاطفنا..، كل ثلاثة أو أربعة في غرفة، فالشيخ صالح ـ رحمه الله ـ يتصف بالكرم وسماحة الخلق.
ودائما نشرب الشاي والزنجبيل عنده لأن الشاي له مذاق خاص في تلك الأيام، فهو موظف أدسم منا وله راتب، أما سائر طلاب العلم فليس لهم سوى اثنا عشر ريالاً مكافأة في تلك الحقبة الزمنية، وخاصة المبتدئين أمثالنا وإنما نعيش عيشة كفاف وبساطة وعلى ما يبعثه أهالينا من طعام وتمر وقليل من العيش ...، فكلما يتقدم طالب العلم يزاد في مكافأته ومخصصاته الغذائية ..،
كما أن الزميل صالح همزة وصل بيننا وبين الشيخ محمد ابن صالح بن سلطان ـ رحمه الله ـ أيام كان رئيساً في ديوان ولي العهد الملك سعود ـ رحمه الله ـ بأن نحضر إلى منزله الكائن في محلة الحنبلي بالرياض وخاصة في شهر رمضان حيث نتناول طعام الإفطار والعشاء معه على فترات متقاربة، فالشيخ محمد مطبوع على الكرم مبكرا والبذل في أوجه الخير، والعطف على طلاب العلم وخاصة المغتربين من خارج الرياض أمثالنا رغم قلة المادة لديه وعدم استقرار المال براحتيه، وكأن لسان حاله يَرُدّ على من يُحبب إليه ادخار المال وقبض اليدين ـ آنذاك ـ بقول الشاعر :
نصيبك مما تجمع الدهر كَّلّه |
|
رداءان تُلْوَى فيهما وحنوط |
ثم التحق بدار التوحيد بالطائف عام 71/1372هـ ، وسكنا سويا بالقسم الداخلي هناك، وواصل الدراسة حتى نال الشهادة العالية من كلية الشريعة بمكة المكرمة، وكان أثناء دراسته بكلية الشريعة يؤم المصلين بمسجد خالد بن الوليد بمحلة الشبيكة مع إشرافه على عمال مشروع التوسعة للمسجد الحرام المكي في الإجازات الرسمية وفي أوقات فراغه بتوصية من معالي وزير المالية ـ سابقاً ـ الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن العدوان، لما يتمتع به من حنكة ودراية في تلك المجالات، وكان السيد المهندس بن لادن المعني بتنفيذ المشروع يقدره ويمنحه جوائز تشجيعية على إخلاصه ومتابعته للعمال ..، وبعد التخرج عين مدرساًً فترة من الزمن بمعهد النور الذي كان يرأسه د/ عبد الله الغانم..، ثم أنتقل إلى قسم المناهج بوزارة المعارف والشئون المالية المتعلقة برواتب الموظفين ..، واستمر حتى تقاعده ـ رحمه الله ـ وكان لنا معه ذكريات جميلة في كثير من المواقع في بيوت الإخوان في مدينة الرياض أثناء تلقينا العلم على المشايخ، ثم بالقسم الداخلي بدار التوحيد بالطائف.. وأستمر هذا التواصل بيننا طيلة العمر المديد حتى قبيل رحيله، وستبقى هذه الذكريات الجميلة ماكثةً ومضيئة في طوايا النفس مدى عمري، ومن صفاته الحميدة هدوء الطبع، واحترام الغير، وترك ما لا يعنيه جانبا، مع الكرم وسماحة النفوس وطيب المعشر، وقد يٌطعِم أحاديثه ببعض الحكم والطرائف التي تؤنس السامع وتدخل البهجة والسرور.
فرحيلك أبا عبدالرحمن وتتابع قوافل الراحلين من أحبابنا وزملائنا في الآونة الأخيرة يزيد من تراكم وكثافة الحزن في نفوسنا:
وكل مصيبات الزمان وجدتها |
|
سوى فرقة الأحباب هينة الخطب |
رحمك الله ابا عبدالرحمن وأسكنك فسيح جناته والهم ذويك وذريتك ومحبك وأم عبد الرحمن الصبر والسلوان.
"إنا لله وإنا إليه راجعون "
<!--[if !supportFootnotes]-->
<!--[endif]-->
(<!--) نشرت في صحيفة الجزيرة، يوم الأحد 20 جمادى الآخرة 1427هـ، 16 يوليه 2006م.
(<!--) نشرت في صحيفة الجزيرة يوم السبت 1 رجب 1427هـ الموافق 6 أغسطس 2005م.
(<!--) نشرت في صحيفة الجزيرة، يوم الأثنين 20 رجب 1427هـ، الموافق 14 أغسطس 2006م.
(<!--) نشرت في صحيفة الجزيرة، يوم الأثنين 10 رمضان 1427هـ، الموافق 14 أكتوبر 2006م.