الزميل الذي رحل(<!--)
(الشيخ محمد بن عبدالله الصغير رحمه الله)
وكيف تلذ طعم العيش نفس |
|
غدت أترابها تحت التراب |
قبل وفاة الزميل الشيخ محمد بن عبدالله الصغير بيومين اتصلت عليه مسلماً ومخبراً له بأني قد ـ كتبت كلمة تأبين ـ عن وفاة زميلنا الشيخ إبراهيم بن محمد المحيميد فطلب صورة من تلك الكلمة الوجيزة، ولو علم بما في ضمير الغيب لما طلبها.. فبادرت ببعثها عبر اللاقط (الفاكس) بواسطة فضيلة رئيس محكمة الرس الشيخ عبد العزيز بن حمين الحمين وما لبث أن هاتفني فضيلته قائلا: عظم الله أجرك في زميلكم الشيخ محمد بن عبدالله الصغير.
وقد سبق القدر وصول الكلمة إليه حيث انتقل إلى جوار ربه بعدما صلى الفجر في المسجد المجاور لمنزله يوم الاثنين 9/10/1425هـ وصلى عليه عقب صلاة العصر في جامع الشايع بالرس الذي اكتظ وساحته بجموع غفيرة من الرجال والنساء وبحضور أعداد هائلة من المحافظات والبلدان المجاورة.
وقد تبعه إلى المقابر خلق كثير داعين المولى له بالمغفرة وطيب الإقامة في جدثه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وكان لهذا النبا وقع مؤلم في نفسي، كيف لا وهو من رفاق عمري وزميلي في الدراسة بدار التوحيد بالطائف عامي 71/1372هـ . ثم بالمعهد العلمي في الرياض حتى نال الشهادة العالية بكلية الشريعة عام1378هـ ، ثم عين قاضياً في محافظة الرس عام 1379هـ فرئيساً لنفس المحكمة حتى تقاعد في عام 1416هـ ، فكل يوم نودع راحلاً يغيب ولا يؤوب (من الزملاء والأحبة) حملتهم قوارب الرحيل النهائي في الآونة الأخيرة مسرعة بهم إلى ملتقى الراحلين، وهذه سنة الله في خلقه:
لعمرك ما أدري وإني لأوجل |
|
على أينا تعدو المنية أول |
ولقد خيم الحزن على أجواء محافظة الرس لفقده ورحيله وبعده عن أهله وأسرته ومحبيه، وعن طلبة العلم الذين يتلقون عليه الدروس داخل المسجد المجاور لمنزله في كتاب المستقنع، وفي النحو والفرائض وغير ذلك من المتون المفيدة، فهو غزير في علمه واسع الأفق كثير الاطلاع.
وقد كان رئيساً لجمعية تحفيظ القرآن الكريم بمحافظة الرس، كما كان له دور بارز في الفتوى وإصلاح ذات البين في مجتمعه ... ومن سماته الحميدة الكرم ورحابة الصدر وهدوء الطبع وطيب المعشر. قليل الكلام كثير الفوائد. وأملنا في الله ثم في فضيلة الشيخ عبدالعزيز بن حمين الذي خلفه في رئاسة المحكمة الشرعية بألا ينسى تلك البراعم، وطلاب العلم الذين حزنوا على فراق شيخهم محمد بأن يكون خير خلف لخير سلف بدفعهم بحكمته إلى تلقي العلوم وتبصيرهم بما يخفى عليهم ـ وقد فعل أثابه الله ـ ولسان حاله يردد هذا البيت:
نبني كما كانت أوائلنا |
|
تبني ونفعل (فوق) ما فعلوا |
ولي معه ذكريات لا تغيب عن خاطري ولا أزال أتذكر تلك الأيام الجميلة والأمسيات المشرقة بدار التوحيد بالطائف وسويعات الآصال في أفياء هاتيك الجبال المتربعة على ميادين (قروي) غربي المدينة التي نزاول فيها بعض الأنشطة ونستذكر بها الدروس حتى قبيل غروب الشمس مدة أيام الدراسة هناك.
وأتذكر جيداً مكان جلوس الشيخ محمد تحت تلك الصخرات منذ أكثر من نصف قرن هو وزميلنا الذي رحل منذ سنوات طوال : صالح السمنان رحمهما الله جميعاً.
فطلاب دار التوحيد لهم مكانة عالية باقية في شعاب نفسي، ولعل الغربة التي جمعتنا بالدار. وبالقسم الداخلي الذي يحتضن الطلبة المغتربين أمثالنا من أسباب تقوية أواصر المحبة والألفة، فما أجملها من أيام والشمل جامع لنا.
بلد صحبت به الشبيبة والصبا |
|
ولبست ثوب العمر وهو جديد |
والعزاء في رحيله أنه ترك أثاراً طيبة، وخلف ذرية صالحة تدعو له وتجدد ذكره بالأعمال الجليلة والإخلاص في خدمة الوطن وأهله..
وإنا لفراقك يا أبا عبد الله لمحزونون، غفر الله لك وأسكنك عالي الجنان، وألهم ذريتك ومحبيك الصبر والسلوان(إنا لله وإنا إليه راجعون).
رحمك الله أبا هشام(<!--)
(الشيخ صالح بن عبدالرحمن القاضي رحمه الله)
حبيب عن الأحباب شطت به النوى |
|
وأي حبيب ما أتي دونه البعد |
شاءت قدرة المولى أن تنتهي أيام الشيخ المربي صالح بن عبد الرحمن القاضي من الدنيا صباح يوم الأربعاء 1/5/1426هـ حيث هوى من أعالى مبنى منزله، وقد هاتفني صديقه وعديله جاره الأخ الأديب حمد بن محمد الدريهم قائلا وقلبه يعتصر حزنا وأسفا على فراق رفيق دربه، مفيدا أن الشيخ صالح أبو هشام قد انتقل إلى دار الخلود تاركا فينا حزنا مقيما، وكان لوقع هذا الخبر المؤلم بالغ الأسى والحزن في نفسي، فلم املك في تلك اللحظة الموجعة لقلبي سوى الاسترجاع، (إنا لله وإنا إليه راجعون) والدعاء له بأن يسبغ المولى على جدثه شأبيب رحمته، فلقد عاش حياة ملؤها النفع والبذل في أوجه الخير والإحسان، وتلمس حوائج المساكين وذوي الاحتياجات الخاصة، وهو بجانب ذلك يحرص على إصلاح ذات البين ولم شمل الأسر المتصدعة رجاء المثوبة عند واضع الموازين يوم الحساب يوم يجازى كل بما قدم، كما إن عمله الوظيفي لم يعقه عن الدعوة إلى الله في المساجد وفي المحافل وعلى منابر المدارس داخل الرياض وخارجها حيث كان يملك أسلوبا تربويا مبسطا ذا جاذبية فريدة تلزم الطلاب وسائر السامعين إلى عطف أعناقهم نحوه منصتين بدون ملل أو تثاؤب لحلاوة حديثه وطراوته، وما يتخلله أحيانا من طرائف تنشط انتباههم، فكم من شاب غير مساره إلى المسار الأمثل بسبب قوة تأثيره وتوجيهه الأبوي في نفوسهم، وحثهم عن الابتعاد عن قرناء السوء واختيار من يتصف بالصفات الحميدة المثلى، وكثيرا ما يتمثل بمثل هذا البيت قائلا :
ولا تركن إلى أهل الدنايا |
|
فان خلائق السفهاء تُعدي |
فحديثه وإرشاداته دائما تتصف بالحث على الرفق والترغيب في الاستقامة واحترام الوالدين والمعلمين، وحسن التعامل مع جميع البشر.. ، ودائما يلجأ إلى الاستشهاد بالأمثال والحكم مستحضرا معنى هذا البيت:
والنفس إن دعيت بالعنف آبية |
|
وهي ما أمرت بالرفق تأتمر |
فرحمك الله أبا هشام فلقد وقفت حياتك في استثمار الوقت موجها تربويا وناصحا أبويا وداعيا لأقوم السبل عبر بر الأمان عن الانحرافات والتجمعات المشبوهة التي تهوي بصاحبها وتورده موارد المذلة وسوء المصير، ولقد سعدت بمعرفته حين تشريفه مدارس محافظة حريملاء للتوجيه والإرشاد واجتماعه بالمعلمين هناك وحثهم على الاستقامة والقدوة الحسنة والإخلاص في أداء أعمالهم واعتبار الطلبة أمانة في أعناقهم كي ينالوا الأجر والرضى من المولى، وليتركوا أثرا طيبا وذكرا عطرا في نفوس أبنائهم حينما يكبرون ويتذكرون مدى حرص معلميهم وإخلاصهم نحوهم فيثنون على أحيائهم ويترحمون على من أضمرتهم الأرض:
فارفع لنفسك قبل موتك ذكرها |
|
فالذكر للإنسان عمر ثاني |
كما لا أنسى زيارته لنا ورفيق دربه الأستاذ حمد الدريهم عدة مرات حين مرورهما عبر طريق حريملاء العام صوب مدينة ثادق مسقط رأس الأخ حمد.. وتجاذب أطراف الأحاديث الشيقة معهما وتبادل هدايا الكتب المفيدة.. وسيحدث الغياب المفاجئ فراغا واسعا في نفوس أبنائه المفجوعين وأسرته ومحبيه وصديقه وجاره الأستاذ حمد وكأني بأبي محمد حينما يخلو بنفسه ويتذكر السويعات الطوال التي قضياها سويا يردد قول سيبويه حينما فتح عينه وهو يحتضر في حجر أخيه بقوله:
أُخيين كُنا فرق الدهر بيننا |
|
إلى الأمد الأقصى، ومن يأمن الدهرا |
وفي هذه العجالة أعزي مسئولي ومنسوبي وزارة التربية والتعليم في فقد مثل هذا الرجل الناصح والموجه التربوي الناجح، كما أعزي كافة أسرة القاضي.
غفر الله لك أبا هشام وأسكنك عالي الجنان والهم ذويك وزوجتك ومحبيك الصبر والسلوان.
( إنا لله وإنا إليه راجعون ) .
رحمك الله أبا عبد الرحمن(<!--)
(الشيخ سعود بن عبدالعزيز آل دغيثر رحمه الله)
تولى وأبقى بيننا طيب ذكره |
|
كباقي ضياء الشمس حين تغيب |
الإنسان في هذه الحياة مهما طال به الزمن وتخطى عشرات العقود متنقلاً على ظهر هذه الأرض حيث تسير به قدماه ومراكبه لابد أن يصل للنهاية الحتمية وأن ينزل في صدع بباطنها، فيظل بها وحيداً مقيماً بعيداً عن أحبته ورفاق عمره، إلى يوم النشور يوم يبعث الله الخلائق، وتنصب الموازين القسط ليوم القيامة، فما أسعد من يرحل بزاد من التقوى والعمل الصالح رجاء المثوبة من المولى عند لقائه. ففي صباح يوم الخميس 22/10/ 1426هـ هاتفني أحد الإخوة والحزن باد عليه قائلاً : إن أبا عبد الرحمن الشيخ سعود بن عبدالعزيز آل دغيثر قد رحل إلى دار البقاء ملبياً داعي الله وأن علاقته بالدنيا قد انتهت تماما، فحزنت لهذا النبأ حزناً عظيماً داعياً المولى أن يسكنه عالي الجنان جزاء ما قدم من أعمال جليلة صالحة، ولقد توالى الحزن على أجواء محافظة حريملاء التي فقدته وافتقدت سابقيه أمثال الشيخ محمد بن صالح ابن سلطان، ومعالي الشيخ عبدالله العمار، ومعالي الشيخ عبدالله بن عدوان، والشيخ حمد بن علي المبارك ـ رحمهم الله جميعاً ـ وغيرهم من أبنائها البررة الذين ساهموا بالبذل السخي في كثير من المشاريع الخيرية وبالجاه والجهد في تطويرها، وإظهارها بالمظهر الحضاري في ظل حكومتنا الرشيدة التي لا تألوا جهداً في إسعاد المواطنين، وتطوير البلدان عامة مما جعل المدن الصغيرة أمثال محافظة حريملاء تضاهي كبريات المدن، وقد ترعرع الشيخ سعود في أكناف حريملاء، ودرس في إحدى الكتاتيب بها حتى أكمل كتاب الله وحفظ أجزاء منه، مع إتقان خط الكتابة، ودرس على بعض العلماء واستفاد من مجالسهم خبرةً وأدباً، ثم شخص إلى الرياض وصحب بعض أقاربه في الأسفار مدة من الزمن مما أكسبه حنكةً ودراية بشئون الحياة أهلته بأن يُختار رئيساً لديوان ولي العهد ـ أنذاك ـ الملك سعود بن عبدالعزيز ـرحمه الله ـ مدة طويلة، ثم عين وكيلاً لوزارة المالية بالمنطقة الشرقية خلفاً لمعالي الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن العدوان، ثم خلفهما على هذا المنصب الشيخ الراحل حمد بن علي المبارك (رحمهما الله جميعاً)، وهؤلاء الثلاثة الأفذاذ كلهم كانوا محل التقدير والثقة التامة من قبل ولاة أمر هذه البلاد، وكانوا خير معين لمن يؤم المنطقة من الشباب لطلب العمل لدى شركة أرامكو وبعض الدوائر الحكومية، يقوموا بمساعدتهم وتسهيل أمورهم، وترغيبهم في الحضور إلى منازلهم في كثير من المناسبات لإكرامهم وتخفيف وحشة الغربة عنهم، بعد ذلك عين سفيراً في لبنان ومكث هنالك بعض السنين، ثم طلب الإعفاء وأخلد للراحة، وقضى شطراً من الوقت بين الرياض والبلاد المقدسة حتى أدركه المرض أخيراً، فرحل مأسوفاً على فراقه وبعده عن محبيه وأسرته، علماً أنه منذ بدء حياته كان يتمتع بالصحة والعافية ورحابة الصدر وطراوة البشرة وبشاشة المحيا التي لم يفقدها رغم عبوره الهنيدة بثلاثة أعوام ـ تغمده الله بواسع رحمته ـ متذكراً هذين البيتين للشاعر الأيوبي بهاء الدين زهير:
فيا أسفي لجسمك كيف يبلى |
|
ويذهب بعد بهجته سناكا |
ختمت على ودادك في ضميري وليس يزال مختوماً هناكا
وله بعض الآثار الحميدة في مسقط رأسه حريملاء منها على سبيل المثال : تبنيه أول مشروع لسقيا المواطنين، وببلدة القرينة المجاورة لها ..، مع عمل خزانات لضخ المياه للمنازل .. ، كما قام بفتح أول شارع داخل البلد للربط بين محلتين على نفقته الخاصة وتوسعة بعض الطرق والمنافذ... ، وكان عطوفاً على الأرامل والمحتاجين يمدهم بالصدقات والإعانات، وفي دعم بعض المشاريع الخيرية داخل البلاد وخارجها، فهو سهل العريكة لين الجانب ومحب للأخيار ومجالس الأدب، وأذكر جيداً صلته الوثيقة بوالدنا الشيخ عبد الرحمن بن محمد الخريف رفيق والده عبد العزيز بن حسن الدغيثر ـ رحمهم الله جميعاً ـ وكان كُلما استبد به الحنين إلى زيارة مراتع صباه يمر على والدنا تواصلاً وبراً وتكريماً لحب أبيه، مع طرح بعض الأسئلة في الفقه وغيرها على الوالد ليأنس بالأجوبة الصحيحة، وظل تواصلي معه قائماً ولازلت محتفظاً ببعض رسائله وبرقياته في المناسبات والأعياد التي تردنا منه من المنطقة الشرقية ومن السفارة بلبنان، ونجيبه على ذلك :
نبادله الصداقة ماحيينا |
|
وإن متنا سنورثها البنينا |
فما أجمل التواصل بين الإخوة والأحباب، وسيرته كلها عطرة بالثناء والذكر الحسن، وكأني بمن أعتاد السمر معه والحضور إلى قصره والجلوس بالخيمة الرحبة المتربعة على مرتفع في وسط نخله وبستانه الواقع بحي سلطانة بالرياض، والسكون قد ساد ذاك المكان الذي ألفوه فلا يسع من يجول بطرفه إلا أن تذرف عيناه وتفرغ ماءها تحسراً وتفجعاً على غائب لا يؤوب مرددين هذا البيت :
يعز علي حين أدير عيني |
|
أفتش في مكانك لا أراك |
رحمك الله أبا عبد الرحمن وأسكنك فسيح جناته وألهم ذويك وأبنائك ومحبيك الصبر والسلوان.
إنا لله وإنا إليه راجعون
الشيخ محمد الشدي إلى رحمة الله(<!--)
هو الموت مامنه ملاذٌ ومهرب |
|
متى حط ذا عن نعشه ذاك يركب |
بالأمس القريب افتقدت محافظة حريملاء أحد رجال الدولة المخلصين سعادة الشيخ سعود بن عبد العزيز الدغيثر ـ رحمه الله ـ ، وفي عصر يوم الثلاثاء 27/10/1426هـ فجعت حريملاء برحيل عالم بارز من علمائها الأفاضل الشيخ محمد بن عبدالعزيز الشدي بعد حياة حافلة بأعماله الجليلة في التعليم والدعوة والإرشاد، واعتلاء المنابر في الخطابة والتوجيه، ولقد اكتض الجامع الكبير بالحي الجديد في محافظة حريملاء بمئات المصلين منها ومن مدينة الرياض والبلدان المجاورة لها حيث صلي عليه بعد صلاة العشاء ، وتبعه إلى مضجعه ومثواه أرتال هائلة من السيارات ضاقت بها الطرقات وهي تحمل أعداداً كثيرة من المشيعين له حتى أنزلوه جدثه بإحدى مقابر حريملاء والحزن بادٍ على محيا كل منهم ، داعين المولى أن يتغمده بواسع رحمته ، ثم انصرفت عنه أحبته وتلك الجموع الغفيرة فأمسى ثاوياً وحيداً لم يبق معه سوى ما قدمه وادخره من حسنات وعمل صالح ـ راجين له الثبات والمغفرة ـ ولقد هون الله ميتته، يقال: أنه بعدما أدى صلاة الظهر بالمسجد المجاور لمنزله أخذ بيده أحد جيرانه وسارا يتجاذبان أطراف الحديث حتى دخل منزله، ثم آوى إلى فراشه كعادته، وعندما أراد أحد أفراد أسرته إيقاظه لتناول طعام الغداء ولصلاة العصر وجده قد فارق الحياة بهدوء. ويعتبر أبو خالد من زملاء الدراسة منذ بدئها بالكٌتاب، ولدى المشايخ : الشيخ محمد بن إبراهيم مفتي الديار السعودية ـ آنذاك ـ وأخيه الشيخ عبد اللطيف ـ رحم الله الجميع ـ حيث تلقينا عليهما مبادئ في العلم وحتى الدراسة النظامية بالمعهد العلمي بالرياض وبدار التوحيد بالطائف حيث أتم دراسته العليا بكلية الشريعة بمكة المكرمة عام 82/1383 هـ ثم عين بمدرسة القراءات بالمدينة المنورة في 10/6/1383هـ ثم انتقل إلى متوسطة حريملاء عام 1385هـ وعشنا سويا بالمتوسطة والثانوية حتى تقاعد، وكان مخلصاً في أداء عمله ومحترماً لدى الجميع، وفي جزء من خدماته ’فرّغ مرشداً وواعظاً متنقلاً بين المدارس في عدد من مناطق المملكة، وملقياً الخطب فوق منابر الجوامع في كثير من مساجد المدن والأرياف، وكان مهيباً مؤثراً ومقبولاً لجزالة لفظه، وصدق نصحه.
إن العظيم وإن توسد في الثرى |
|
يبقى على مر الدهور مهيبا |
فهو ـ رحمه الله ـ يشد السامع حينما يتكلم بعباراته الجزلة التي تتصف بالبلاغة ومتانة الأسلوب، ولقد تروى من العلوم الشرعية واللغوية مبكراً مستغلاً أوقات فراغه في النهل من موارد العلوم العذبة حتى في الإجازات الصيفية، أذكر أني قد زرته في منزله بشعب عامر أيام دراسته بكلية الشريعة بمكة المكرمة أثناء الإجازة الصيفية هو وزميلنا الراحل الشيخ صالح الزغيبي وهما ينصتان لقراءة زميل لهما في أحد كتب المطولات خارجة عن منهج الدراسة للاستفادة وتنوير أذهانهما ـ وهما بصيران لا يبصران ـ ولقد وعيا قول الشاعر ابن هبيرة الذي يحث على حفظ الوقت :
والوقت أنفس ما عنيت بحفظه |
|
وأراه أسهل ما عليك يضيع |
مما جعله صاحب رأي في كثير من الأحكام الشرعية والفقهية يقارع فيه بعض العلماء ويظل أحياناً صامداً وكأني به ينهي نقاشه معهم متمثلاً بقول الآخر:
نحن بما عندنا وأنت بما |
|
عندك راض والرأي مختلف |
فهو يتمتع بشجاعة عامة، ويتمسك في آرائه العلمية مدعماً ذلك بالأدلة، ولقد وهبه الله جمال الصوت والحفظ لكتاب الله كاملاً مع الإلمام بتفسيره وإيضاح معانيه يختمه كل سنة في شهر رمضان أثناء صلاة التراويح والقيام وكان المسجد يزدحم بالمصلين لسماع تلاوة القرآن الكريم من فيه لما يجدونه من حلاوة وسلاسة في التلفظ به.
تبلى الحناجر تحت الأرض في جدث |
|
وصوتها يتلو الآيات و السورا |
كما أنه خطيب مفوه لا يشق له غبار ينتهز المناسبات، وفي مواسم الحج والأعياد كل عام يذكر ويحذر من ارتكاب البدع والمحرمات، والابتعاد عن الأفكار المنحرفة، وتبصير العوام بأمور دينهم، ولقد صال وجال في الحياة وذاق حلوها ومرها، ولكن الذي آلمه كثيراً وهد كيانه أخيراً توالي الأحزان عليه: موت والده، ثم تلاه الحادث الذي أفقده ابنه خالد الواقع في 21/1/1400هـ وجعل حزنه يطول ، فرثاه بمنظومة شعرية مؤثرة نختار من ثناياها ثلاثة أبيات :
ففي جنة الخلد يا بني نلتقي |
|
قد استعر القلب من لوعاك استعارا |
وكففت دموعاً لو سكبتها |
|
لمـلأت الشـعاب و الصحـــارا |
ودفنت آمالاً كنت أؤملها |
|
وعزفت عن الدنيا سرها والجهارا |
غفر الله لك أبا خالد وأسكنك فسيح جناته وألهم ذويك وأبناءك وأم خالد وجميع محبيك الصبر والسلوان،
(إنا لله وإنا إليه راجعون)
ورحـــل مربي الأنجال والأجيال(<!--)
(الشيخ عثمان بن ناصر الصالح رحمه الله)
كذلك الموت لا يبقي على أحد |
|
مدى الليالي من الأحباب مَحْبُوباً |
إنه شيخنا الفاضل عثمان بن ناصر الصالح ـ رحمه الله ـ فبعد إجراء العملية الدقيقة "الملاصقة لجدار"بنك الذاكرة والمعلومات برأسه" أخذ أفواج الزوار من محبيه ومن تلامذته وعارفيه يتجهون صَوْبَ مستشفى الملك فيصل التخصصي للاطمئنان على صحته متفائلين بنجاح العملية في البداية، كما ظل رنين الهواتف لا يتوقف طيلة إقامته بالمستشفيين التخصصي ومدينة سلطان بن عبد العزيز الإنسانية للخدمات الطبية للاستفسار عن حالته الصحية مقرونة بالدعاء له، كما أفاض الكثير من الكتاب والشعراء بدورهم عبر الصحافة بالثناء عليه وعدّ مآثره الحسان، ونشاطاته الأدبية والثقافية، والتنويه بما يتمتع به من تواضع جمِّ وطيب معشر، وبحرصه الدائم على تلبية الدعوات وإن بعد مكانها داخل الوطن أو خارجه، فهو صديق وفي ومحب للجميع.
وأذكر أنه قد بدأ في مراسلتي قبل أن اسعد بمعرفته ومقابلته أيام كان مديراً لمعهد الأنجال الواقع قُبالة الناصرية بالرياض عام 1380هـ وأنا مدير لمعهد المعلمين بحريملاء، ولازلت محتفظاً بتلك الرسائل القيمة التي أبدى فيها أغتباطه بثناء بعض الموجهين على حسن سير العمل لدينا بالمعهد، وقد حثنا ـ رحمه الله ـ على الاستمرار في مواصلة نشاطنا وتشجيع الطلبة على التحلي بالأخلاق الفاضلة، واحترام مُعلّميهم، وبالمثابرة في التحصيل العلمي والأدبي والخطابة معاً، فهم رجال الغد..
كما قد سعدنا بالاجتماع به في المناسبات التي تقام في بعض المدن مثل مكة المكرمة، والطائف، ونجران، والغاط وروضة سدير، والمجمعة، وحريملاء، والقصيم، وكذلك بالصالونات الأدبية المنزلية وغير ذلك من المناسبات السعيدة ـ وكان جلوسه دائماً في صدر تلك المحافل ـ لمكانته العالية في القلوب تكريماً وتقديرا ًلما يتمتع به من خلق كريم وأدب جمّ رفيع، وكثيرا ما كان يؤنس الحضور بأحاديثه الشيقة، وبنظمه الشعري المباشر الخفيف على القلوب والأسماع، وبتعليقاته ومداخلاته أحيانا في بعض المجالات، فهو بحق بدر المجالس والمنتديات الأدبية:
يتزين النادي بحسن حديثهم |
|
كتزين الهالات بالأقمار |
ولكن شَعُوباً بعد ما أُدخل المستشفى ـ كما أسلفنا ـ كان ينتظر الأذن له من المولى بأن يرحل بشيخنا الحبيب إلى دار الخلود، فلما انتهى رصيده من أيام الدنيا فرّت روحه الطاهرة إلى باريها في ليلة السبت 25/2/1427هـ وصلى عليه بعد صلاة العصر في جامع الملك خالد بأم الحمام بالرياض ، وقد ضاق ذلك المسجد وساحاته بالمصلين عليه رجالاً ونساء وبكاه كل من حوله من الأهل وأفراد أسرته، ومحبيه في تلك اللحظة الحرجة المحزنة راجين من المولى أن يحسن وفادته ويسكنه الفردوس الأعلى، ولقد أحدث غيابة فجوة واسعة في الميدان الثقافي، وفي المنتديات الأدبية كأثنينيته التي كانت تكتظ بالأدباء ورجال الفكر والعلم، وكان ينتقي ويستضيف فيها نخبة ممتازة من العلماء والأمراء، والأدباء وكثير من رجال الأعمال، فهي ملتقى ممتع ومفيد جداً للأدباء والمفكرين من رجال هذا الوطن، كما كان يحضرها الكثير من السفراء ورجال السلك الدبلوماسي من بعض الأقطار الشقيقة فهي نبع ثَري من المعرفة مما جعلها تُؤم وتقصد كمثيلاتها من الصوالين الأدبية ومجالس الوجهاء والمفكرين، وكأني بمن أعتاد الحضور إلى ذاك المكان الرحب (الاثنين) ـ وصدر صاحبها أرحب ـ يقول للشيخ عثمان قُبيل رحيله: "ومن اتخذت على الضيوف خليفة"؟!
والأمل معقود بأبنائه البررة ليعملوا شيئا ماّ ليدوم التواصل إلى ذلك المكان الذي ألفوه، ولتجدد الذكر والدعاء لمن وارته الترب ـ حميدة أيامه ـ ولئن بعد عنا أبو ناصر وأوغل في البعد فإن شخصه سيظل ماثلاً في ذاكرتي ومخيلتي ، وذكرياتي الجميلة معه لا تبرح خاطري مدى عمري، كمالا يفوتني التنويه والإشادة بعمله القيادي والتربوي أثناء عمله مديراً ناجحاً لمعهد الأنجال الذي ظل فيه أكثر من ثلاثين عاماً قائداً لمسيرته محترماً مهيباً:
ثلاثون عاماً بل ثلاثون درة |
|
بجيد الليالي ساطعات زواهيا |
فقد تخرج على يديه عشرات الأفواج من أبناء الملوك والأمراء وكثير من أبناء هذا الوطن الذي تسنموا المناصب العالية، وكان ـ رحمه الله ـ محل التقدير والتكريم من ملوك هذا الوطن ومن تلامذته الأمراء وغيرهم، فهو خير مرب ومعين لما وصلوا إليه من علم وأدب رفيع وثقافات عالية، وقد كرمته الدولة ـ أعزها الله ـ ومنحته وسام الملك عبد العزيز من الدرجة الأولى، كما نال دروعاً عدة وشهادات تقديرية في مناسبات متكررة داخل الوطن وخارجه..، وقد ترك آثاراً طيبة وذكراً حسناً، ومكتبة ضخمة حاوية نفائس الكتب وسائر المراجع العامة والخاصة والمخطوطات النادرة، وقد أفنى عمره في جمعها وانتقائها من أشهر المكتبات والمعارض الدولية في الداخل والخارج، مع ما أنظم إلى أرففها من الكم الهائل من هدايا أصدقائه ومعارفه، وتلاميذه، وكأني به عندما أحس بدنو أجله أخذ يقضي الساعات الطوال داخل المكتبة يسرح طرفه في أرجائها، ويطيل النظر في تلك الرفوف المثقلة بأحمال الكتب الحبيبة إلي قلبه وبداخله ما به من تحسر على تركه إياها مُردداً في داخل نفسه هذين البيتين المشهورين:
أقلب كتباً طالما قد جمعتها |
margin: نشرت فى 30 سبتمبر 2013
بواسطة mager22
عبد العزيز بن عبد الرحمن الخريف
عبد العزيز بن عبد الرحمن الخريف **** ولد ونشأ في حريملاء , 80كم شمال غربي مدينة الرياض . درس في حلقات العلم على المشايخ بالرياض . بدأ الدراسة النظامية بدار التوحيد بالطائف 1371 - 1372 هـ . أنهى التعليم الثانوي بالمعهد العلمي بالرياض عام 1374 هـ . كلية اللغة العربية »
أقسام الموقعابحثتسجيل الدخولعدد زيارات الموقع
30,356
|