عبد العزيز بن عبد الرحمن الخريف ( فقد ورثاء )

فقد ورثاء

رحماك يا رب بوالدتي(<!--)

 

وكل مصيبات الزمان وجدتها

 

سوى فرقة الأحباب هينة الخطب
<!--

فراق الآباء والأمهات مؤلم يدك هضاب القلوب ويصدع أركانها..! وليس أصعب ولا أوجع على النفس من فقدهما أو أحدهما بل جميع ذرية الإنسان وإخوته ومحبيه، فرحيل مثل أولئك تبقى آثاره هاجس النفس دوماً، ففقد الأم لا كفقد غيرها من ذوي القربى ومن الأحبة لأنها أقرب شيء لدى الإنسان في هذا الوجود لشدة تعلقه بها منذ أن أطل على الدنيا وأهل صارخاً  لالتصاقه بأحشائها وبقلبها من أول وهلة، ولاستقرار حبه لها في وجدانه إلى أن يغيب عن هذا الكون، كما أن حبها له ولسائر أبنائها أضعاف ذلك عطفاً وحناناً، وهذه فطرة المولى في خلقه.. كما أنها تنظر إليه نظرة صغير وإكباراً لقربه من قلبها حتى وإن كبر، فنداؤها له: يا وليدي نداء بالتصغير ولو بلغ سن الكهولة والهرم..، على حين أن الوالد ينادي إبنه بدون ياء الوسط..! ياولدي" فالوالدة تغذيه في صغره من حنانها، ومن در ثديها أما الأب فمن عرق جبينه وكسب يمينه.. حتى يكبر ويشتد ساعده مع توجيه التوجيه الصحيح وحثه على الاستقامة وحسن التعامل مع الغير..، فسبحان من أودع المحبة والألفة في نفوس الكثير من مخلوقاته البشرية بل ومن سائر الكائنات الحية.

   ففي منتصف ليلة الأحد 18/2/1416هـ انطفأت شمعة مضيئة في أغوار نفوسنا كانت تنير أرجاء بيتنا بل بيتها هي.. أنها والدتي الحنون لطيفة بنت عبد الرحمن العمراني، حيث فرت روحها إلى بارئها بعد رحلة طويلة معطرة بالثناء وبالسمعة الحميدة والذكر الحسن، وبالأخص في طاعة المولى، وحب بذل الخير في أوجه البر والإحسان إلى الأرامل والأيتام، وحسن التعامل مع جميع أسرتها ومحيطاه الإنساني..، وقد توفى والدها ـ جدي ـ وهي في مرحلة الطفولة في عامها الخامس، فعاشت في كنف والدتها جدتنا نورة بنت عبد الله المطرود، فربتها تربية حسنة حتى كبرت فتزوجها والدنا الشيخ عبدالرحمن بن محمد الخريف رحمهم الله جميعاً.

        وقد أنجبت ثلاثة من الذكور وابنتين، وعاشت مع الوالد حياة سعيدة تحفها أجنحة المودة والوئام حتى توفاه المولى ليلة الجمعة 8/محرم/1383هـ فحزنت عليه حزناً طويلاً، وقد استفادت من علمه وسيرته التي تتصف بالتعفف والزهد بما في أيدي الناس، والأعراض عن مساوئهم والحرص على إصلاح ذات البين..، وكانت امرأة صالحة عطوفة على الفقراء والمساكين والجيران، ودائماً تحثنا على صلة الرحم والاستقامة، وعزة النفس، وعلى تلاوة القرآن الكريم، وإيداعه في الصدور، وحفظ ما تيسر من الأحاديث النبوية، والتروي من العلوم النافعة، وعلى صلة الأقارب وحسن التعايش مع إخواننا ومع أقراننا وسائر الناس..

        ولقد بكيناها وبكاها الكبير والصغير ـ تغمدها الله بواسع رحمته ـ كما أنها تحرص على إفراح الأطفال والصغار وإيناسهم، وإدخال السرور والطمأنينة في نفوسهم مما جعلهم يتقربون منها، ويتقبلون نصحها وتوجيهاتها السديدة لهم، ولغيرهم من أفراد الأسرة بأن يكونوا مثاليين في تصرفاتهم ومعاملاتهم مع الغير:

الأم مدرسة إذا أعددتها

 

أعددت شعباً طيب الأعراق
<!--

فظهر ذلك السلوك الحميد جلياً على أبنائها وبناتها بل وجميع أسرتها..، ذكوراً وإناثاً متحلين بالأخلاق العالية، ومستعذبين البذل في أوجه البر والإحسان وحب مساعدة الآخرين مساعدة حسية ومعنوية حسب مقتضى الحال، وكانت بارة بوالديها اللذين سبقاها إلى مراقد الراحلين منذ عقود طويلة الأمد.. فهي تستغفر الله لهما وتترحم عليهما دائماً، وتتصدق عنهما، وتحج نيابة عنهما..، كما أن لها مكانة محبة لدى جيرانها وجميع من يعرفها، فهي سهلة الجانب دمثة الخلق محبة للبذل وإسعاد الآخرين حسب إمكانياتها المادية المحدودة.

        وقد سعدت ببناء مسجد من خالص مالها على الشارع العام بمدينة حريملاء راجية من المولى أكرم الأكرمين بأن يسكنها الفردوس الأعلى، فأفعالها وأعمالها الخيرة جمة نرجو أنها تشفع لها عند وضع الموازين القسط يوم الحساب يوم يجازي كل بما قدم، كما أنها دائماً تحثنا على أداء الصلوات في أوقاتها، وعلى الإحسان وصلة الرحم، وأن لا ننساها من صالح الدعاء بعدما تغيب وتخفيها الحفر بعيدة عناـ وقد أخفتها ـ:

لعمرك ما واري التراب فعالها  
<!--

 

ولكنه وارى ثياباً واعظما
<!--

وكأنها تردد هذا الشطر من البيت: "كن بالدعاء لنا والخير مدكرا ". ومن بوادر الخير لها ـ بحمد الله ـ كثرة المصلين عليها بالجامع الكبير بالحي الجديد بمدينة حريملاء رجالاً ونساء معظمهم قد حضر من الرياض ومن البلدان المجاورة لحريملاء، فقد امتلأ المسجد الجامع وضاقت ساحاته بجموع غفيرة ضجت بالدعاء لها بالمغفرة وطيب الإقامة في جدثها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وذلك بعد صلاة الظهر من يوم الأحد 18/2/1416هـ ثم تبعها خلق كثير إلى ملتقى الراحلين مودعين لها ورافعين أكف الضراعة بأن يسكنها أعلى الجنان، كما أن البيت قد غص بأفواج من المعزين والمعزيات طيلة الأيام الثلاثة وهواتف البيت لم يتوقف رنينها ـ جزاهم الله خيراً وأجزل لهم المثوبة ـ ومما زاد حزني سؤال مجموعة الأطفال الصغار صباح يوم وفاتها أين ماما لطيفة؟!.. الذين اعتادوا الالتفاف حولها كل صباح ومساء لتقص عليهم بعض القصص المشوقة المفيدة.. ليستفيدوا منها في قابل حياتهم..، ولأجل منحهم شيء من الحلوى أو النقود..، فكرروا السؤال أين ماما فلم أملك سوى تذارف الدموع، وقد أجرضتني غصة منعتني من التماس جواب مؤقت لإقناعهم ـ غفر الله لك يا أماه ـ ولقد منحتينا قبله كل الود والحنان، ولا زلت أتذكر التفافا حول موقد النار بمنزلنا في حريملا بعد صلاة الفجر مباشرة وخاصة في أوقات الشتاء وإعدادها طعام الفطور لنا نحن الصغار، وانتظارنا نضج تلك الوجبة بفارغ الصبر.. التي يتخللها دروس تلقينية شفوية تدار بيننا مثل: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ وتسابقنا إلى حفظ سورة الفاتحة والمعوذتين مثلا التحيات والصلاة على النبي محمد، وأحيانا يقوم أحدنا بتمثيل كيفية الصلاة عملياً، وهكذا الآباء الأوائل في استثمار الوقت لصالح أبنائهم وتوجيه فلذات أكبادهم ببداية سهلة وميسرة تجعلهم يفهمون ويحفظون تلقائياً بطريقة مشوقة غير ملزمة، ولقد أحسن الشاعر حيث يقول:

والنفس إن دعيت بالعنف آبية

 

وهي ما أمرت بالرفق تأتمر
<!--

فالرعيل الأول يقدر الوقت ويستثمره سواء على مستوى التحصيل العلمي أو المعيشي لعلمهم أن الفرص تمر سراعاً إذا لم تنتهب انتهاباً:

فربما فات قوماً بعض أمرهم

 

من التأني وكان الحزم لو عجلوا
<!--

وهذه عين التربية منذ الصغر..، وعودا على صورة التفافنا بنين وبنات حول موقد التدفئة وإعداد الطعام كل صباح شتوي ونظرات والدتنا وهي توزعنا بيننا نحن أبنائنا الأطفال وفي داخلها ما به من العطف والشفقة والخوف ـ أحياناً ـ من مستقبل مجهول لا تدري ما الله صانع فيه ببنيها وبنياتها ـ بعد رحيلها والأعمار بيد الله سبحانه ـ وليعلمها أننا سنكبر وتفرقنا الليالي والأيام، وكل فرد منا يسير تحت نجم كما يقول مع تفاؤلها وآمالها بأن ترى فينا ما يسرها في قابل الأزمان، ولكن حنوها وشفقتها على البنيات أكثر لحاجتهن الشديدة لعطفها، ووقوفها بجانبهن، وإفضاء إسرارهن لها، وحل ما قد يعترضهن من مشكلات..، وخاصة في بداية الحياة الزوجية، وبواكر الإنجاب، واكتساب المهارات والخبرة في تربية الأطفال وكيفية إرضاعهم، وتغذيتهم، وحنانها بقربهم، كما أن أي والد لا يقل أهمية في العناية بأبنائه، وتربيتهم التربية الصالحة، وتوجيههم التوجه السليم الأمثل، فهو من جانبه يكد ويكدح، ويركب الأهوال، يستحلي الصعاب في سبيل تأمين ما يسعد بنيه من مأكل وملبس، وتعليم وغير ذلك من متطلبات الحياة، وكأن عملية تربية الأبناء موزعة بينهما وإن كانا مجتمعين:

وينشأ ناشئ الفتيان فينا

 

على ما كان عوده "أبوه"
<!--

فجزا الله والدينا خير جزاء ، وأسكنك يا والدتي في الفردوس الأعلى، ولأن غبت عن ناظري فإن مسكنك بين جوانحي وفي سويداء قلبي مدى عمري.

" إنا لله وإنا إليه راجعون "

ابنك الحزين على فراقك

عبد العزيز بن عبد الرحمن الخريف

معـلمة الأجيــال(<!--)

(طرفة بنت محمد الخريف رحمها الله)

<!--[if !supportFootnotes]-->

<!--[endif]-->

(<!--)  كتبت بتاريخ 20 صفر1416هـ، الموافق 18 يوليه 1995م.

( <!-- ) نشرت في صحيفة الرياض يوم السبت 17 شـوال 1418هـ ، الموافق 14 فبراير 1998م

mager22

فقد ورثاء ( عبد العزيز بن عبد الرحمن الخريف )

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 208 مشاهدة
نشرت فى 30 سبتمبر 2013 بواسطة mager22

عبد العزيز بن عبد الرحمن الخريف

mager22
عبد العزيز بن عبد الرحمن الخريف **** ولد ونشأ في حريملاء , 80كم شمال غربي مدينة الرياض . درس في حلقات العلم على المشايخ بالرياض . بدأ الدراسة النظامية بدار التوحيد بالطائف 1371 - 1372 هـ . أنهى التعليم الثانوي بالمعهد العلمي بالرياض عام 1374 هـ . كلية اللغة العربية »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

30,356