عبد العزيز بن عبد الرحمن الخريف ( فقد ورثاء )

فقد ورثاء

وغابت ندية الكف (<!--)

(هيا بنت ابراهيم العمراني رحمها الله)

 

لها منزل تحت الثرى وعهدتها **  لها منزل بين الجوانح والقلب!

وما من شك أن فقد الغالي من أسرة الإنسان من آباء وإخوة أو أقارب وجيران له بالغ الأثر في النفوس يظل أُوار الحزن يعتلج داخل أضلاع المرء المفجوع بغاليه زمنا يطول مداه، فيتجدد كلما تذكره وجال بخاطره بعض من محاسنه ومواقفه المشرفة، وما جرى بينهما من تآلف وأحاديث ودية جميلة ماتعة في ساحة البيئة التي عاشوها، فبينما كنت مضطجعا منتظرا وافد النوم ليلة السبت 26/5/1432هـ إذا بالرنين من هاتف الأخ الشيخ (أبو سليمان) عبدالعزيز بن سليمان الباتلي مخبرا برحيل عقيلته شريكة حياته ورفيقة دربه هيا بنت إبراهيم العمراني أم إبراهيم بنت أخي بالرضاعة إبراهيم بن محمد العمراني -رحمهما الله -قائلا لقد انطفأت مصابيح منزلنا وأظلمت أرجاؤه وسادت الوحشة أجواءه:

ووحشته حتى كأن لم يكن به ** أنيس ولم تحسن لعين مناظره !!

فكان لذاك النبأ وقع كبير من الأسى في نفسي لما كانت تتحلى به من أخلاق عالية، ولصلتي بها حيث كنت عماً لها من الرضاعة وقد خيَّم الحزن على أجواء أسرتها وأبنائها وبعلها وجميع محبيها -تغمدها المولى بواسع رحمته -ولقد عانت ابنة أخي من الأمراض المتعددة ما الله عالم بها، متنقلة من مصح وآخر من مستشفيات مدينة الرياض طلبا للشفاء والعافية، وخوفا من (شعوب) الموكل برحيل جميع الخلائق، وبعد انتهاء مدة إقامتها على متن الأرض أنزل أبناؤها جثمانها الطاهر في باطنها، ونظراتهم في تلك اللحظة الموجعة لقلوبهم تتابع وضع اللبنات على حافة اللحد حتى اختفت عن عيونهم اختفاء نهائيا، وقد رطبت دموعهم جوانب قبرها..، ولك أن تتصور حالهم ولوعات الفراق وهي تغلي بين جوانحهم - كان الله في عونهم -ولقد وصفت -يرحمها الله -بحسن الخلق ورحابة الصدر مع القريب والبعيد، وحبها للخير والبذل في أوجه البر والإحسان للأيتام والأرامل والمساكين، ويقال أن بيتها بمنزلة المستودع الخيري لشهرتها لدى جيرانها في العطف على المحتاجين، فهي تستقبل ما يصل إليها منهم ومن غيرهم من أموال وأرزاق وأثاث وملابس، فتقوم بتلمس أحوال بعض الضعفة والمحتاجين فتمدهم بما يتيسر من ذلك، فشهرتها وتفانيها في حب العمل الخيري جعلها محل الاحترام والتقدير في محيطها الأسري والاجتماعي.. ، فجزاها الله وجزى جميع المحسنين خيرا.

ولقد نشأت يتيمة حيث باكرها اليتم، وقد حرمت من رؤية والدها وحنانه في صغرها، فلذا من الله عليها بالحس الإنساني وشعورها بآلام الأيتام والمساكين، فحبب إليها العمل الخيري حتى قبيل وفاتها، كما لاتنسى نفسها من تلاوة القرآن الكريم بصفة دائمة، فقد انضمت إلى دار التلاوة للأمهات بعد صلاة العصر كل يوم عددا من السنين فسهل عليها حفظ أجزاء من القرآن الكريم وتلاوته، ومما زاد تأثري وحزني مشاهدتي لشقيقها الوحيد الأستاذ محمد بن إبراهيم العمراني جالساً على مقعد قرب قبرها بمقبرة أم الحمام بالرياض، ولم يتمالك الوقوف والمشاركة في دفنها لشدة حزنه على رحيلها، وعيناه تذرفان دموعاً حرى، فحاولت التهدئة من روعه وحزنه والرضى بقدر الله مكررا قول الشاعر:

فلا تبكين في إثر شيء ندامة  **  إذا نزعته من يديك النوازع

غفر الله لها وأسكنها عالي الجنان، وألهم ذويها ومحبيها الصبر والسلوان.

 

 

 

 

 

 


 


 

الشيخ عبدالله بن خميس نجم أفل (<!--)

(المقالة الأولى)

 

علم من الأعلام غيب في الثرى **  فثوى رهين جنادل وتراب

حينما يتوالى أفول الكثير من الأعلام ومن رموز المجتمع السعودي عن الدنيا وساكنيها من علماء وأدباء ورجالات أعمال خيار، فإن ساعات الأنس يقل سرورها لدى مجتمعهم، وعارفيهم لفقدهم، وفقد من كان يملأ العين بهجة وسروراً، ولاسيما من كان لهم دور إيجابي في الحياة علماً وأدباً وكرماً، فإن غيابهم يحدث فراغاً وفجوة واسعة في محيطهم الأسري، وفي قلوب محبيهم لما أسدوه من نعم وأعمال جليلة، وما تركوه من آثار علمية وأدبية ثرة المعرفة أمثال الشيخ عبدالله بن محمد بن خميس لكي تتوارثها الأجيال المتتابعة على مر الدهور والأعصر فيستنير منها القارئ والباحث والمتعلم، وقد رحل عنا -رحمه الله-إلى دار الخلود صباح يوم الأربعاء 15/6/1432هـ حميدة أيامه ولياليه بعد حياة طويلة حافلة بأعمال مشرفة، وطول باع في مجال اللغة العربية وآدابها، وبجيد الأشعار فصيحها وشعبيها، حيث بلغت مؤلفاته أكثر من أربعة وعشرين مؤلفا يتكون بعضها من أجزاء عدة.. ولسان حاله يردد قول الأستاذ الشاعر علي الجندي -رحمه الله-:

يفنى الذي تركوه من ذخائرهم **  وما تركنا على الأيام مدخر

ولقد حزن الكثير على غياب ذاك العلامة الكبير عالي القامة في المنتديات والمحافل الدولية، حيث بعد عن نواظر أحبته - تغمده الله بواسع رحمته -وكانت ولادته في قرية (الملقى) من ضواحي الدرعية عام 1339هـ فحياته كلها علم وأدب بدأ من تلقيه مبادئ القراءة والكتابة في كتَاب الدرعية لحفظ كلام الله، ثم أخذ مبادئ من العلم على يد والده العالم الجليل؛ حيث قرأ عليه عدة كتب من أهمها كتب شيخ الإسلام ابن تيمية، وكتب الشيخ محمد بن عبدالوهاب وبعض كتب التاريخ واللغة العربية وآدابها، مما أثرى حصيلته العلمية والأدبية التي أهلته وشجعته إلى الشخوص نحو الحجاز ليقابل فضيلة مدير المعارف –آنذاك -الشيخ العلامة محمد بن عبدالعزيز بن مانع بمبنى مديرية المعارف المطل على المسعى بمكة المكرمة مبدياً رغبته بالالتحاق بدار التوحيد (أم المدارس)، وبعد أن طرح عليه بعض الأسئلة أعجب بحسن إجابته، وباستعداده الفطري فوجهه إلى الطائف لينضم إلى طلاب الدار هناك، وذلك في بداية عام 1366هـ، وكان الأستاذ عبدالله بن خميس مثالا يحتذى به بين الطلاب، ولاسيما في النشاط الثقافي فهو يزاحم زملاءه بالمناكب ليعلو منبر ذاك النادي الأدبي الذي خرج أفواجا من الأدباء والشعراء، والخطباء وأئمة المساجد، بل إن بعضاً منهم أمَ المصلين بالمسجد الحرام وبعض مساجد الطائف أمثال الشيخين الجليلين: عبدالرحمن الشعلان، وسعيد الجندول وغيرهما -رحم الله الجميع -وبعد أن نال الشيخ عبدالله الشهادة الثانوية بالدار عام 1369هـ واصل الدراسة بكلية الشريعة واللغة العربية بمكة المشرفة حتى حصل على الشهادة العالية بتفوق عام 1373هـ، بعد ذلك تم تعيينه مديراً لمعهد الأحساء العلمي، ثم تسنم مناصب عدة كان آخرها -كما يقال -رئيسا لمصلحة مياه الرياض، ثم طلب التفرغ بعد رحلته الطويلة في العمل للبحث والتأليف والنشر، وقد أثرى الساحة الأدبية والعلمية والتاريخية بعدد كبير من مؤلفاته التي حفلت المكتبة العربية بنصيب وافر منها، كما حاز على جوائز الدولة التقديرية في الأدب، ومنح وسام الملك عبدالعزيز من الدرجة الأولى في مهرجان الجنادرية السابع عشر وذلك في عام 1422هـ، كما حصل على عدد من الأوسمة والشهادات التقديرية الدولية.. فهو عضو فاعل في عدد كبير من المواقع الهامة، والجمعيات الخيرية والإنسانية -فالمجال الآن لا يتسع لإيضاحها وعدها -وكان معنيا بمعرفة تضاريس الجزيرة سهولها وجبالها وآكامها..، وقد أصدر كتابا يتكون من خمسة أجزاء بمسميات تلك الجبال المواكث التي قد علا معظمها وجال بنظره في سفوحها وهضابها:

وكم من جبال قد علا شرفاتها ** رجال فزالوا والجبال جبال

والجدير بالذكر أني قد زودته بهذا البيت قبل إصداره فأنس به ثم وضعه في مقدمة كتابه (معجم جبال الجزيرة) كما سبق أن زودته ببعض قصائده التي كانت تنشر في صحيفة (البلاد) أيام دراسته بمكة المكرمة، فأضافها في الطبعة الثانية بديوانه "على ربى اليمامة" ، فالذكريات مع (أبو عبدالعزيز يرحمه الله) طويلة تخللها الكثير من المواقف الجميلة والطريفة، وتبادل إهداء الكتب المتعددة، كذلك تشريفه منزلي أيام دراستي بكلية اللغة العربية في العام الذي تولى فيه رئاسة الكليتين الشريعة واللغة عام 1376هـ، وزيارته المتكررة هو والشيخ عمر بن حسن آل الشيخ لوالدنا الشيخ عبدالرحمن بحريملاء، ومن تلك الذكريات التي لا تنسى صحبته بسيارته من الطائف عام 1416هـ بعد انقضاء الحفل الكبير المقام بالطائف بمناسبة مضي خمسين عاما على تأسيس الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه -دار التوحيد، عام 1364هـ، وعند وصولنا الرياض تناولنا طعام العشاء في مزرعته ومنتجعه (عمورية) الحبيبة إلى قلبه وملتقى صحبه وأحبته، وقد تخلل تلك الرحلة بعض الأحاديث الشائقة وتداول بعض الشواهد الشعرية، فهو -يرحمه الله-مطبوع على الكرم، وموسوعة شعرية وأدبية وجغرافية محب للقراءة، ومن مآثره الحسان أنه أول من أسس صحيفة الجزيرة الغراء عام 1379هـ المحبوبة لدى كتابها وقرائها، فهي الآن واسعة الانتشار، ولازلت محتفظا بالعدد الأول منها، فأخذ يمدها بالموضوعات الهادفة ويطعمها ببعض قصائده التي تتصف بجزالة اللفظ ومتانة الأسلوب فشعره يحاكي شعر فحول الشعراء، فمن أروع قصائده وأضفاها خيالا قصيدته في وصف الرحلة التاريخية لصاحب السمو الملكي الأمير المحبوب -سلطان بن سلمان بن عبدالعزيز حيث يقول منها :

يـا رائداً نفذ الطباق و جالها **  مالسبق إلا ما شهدت خلالها

صورا من الكون العريض كشفتها **  وسبرت منها كنهها وجلالها

وشهدت شخص الأرض يمعن بعده ** لا تستبين سهولها وجبالها

كما أجاد في وصف رحلته الأخيرة في الولايات المتحدة وكندا وخاصة غرب أمريكا الشمالية بدءا من ولاية كاليفورنيا حتى شرقها مسجلا بعض مشاهداته وذكرياته في هاتيك الأماكن النائية، ومن أحلاها في نفسه تسريح النظر في أبرز متنزهاتها (يوسمتي) الذي يعتبر من أجمل المتنزهات وأطولها مدى، التي تحتضنها تلك الجبال السمر الشاهقات علوا بشلالاتها التي تصب في ذاك الوادي الحافل بكثافات الأشجار، فقد أثارت شجونه تلك المشاهد الطبيعية فجادت قريحته ببعض قصائد الوصف ضافية الخيال منها :

قف بي على النهر يفري الغاب مجراه ** أواه من صوته المأنوس أواه

بين الهضـــاب تعــــالى الله سامقه ** ما أن يرى مثلها في الكون أشباه

فقد طوف في أنحاء تلك القارة الواسعة وملأ عينيه من أبرز معالمها مثل شلالات (نياغرا) الشهيرة، وصعود ناطحات السحاب في نيويورك مرورا بمصانع البوينج في سياتل، و بالسير فوق الجسر الذهبي بسان فرانسيسكو، والسير في جوانبها وغير ذلك من المعالم في تلك البقاع مختتماً هذه العجالة بهذا البيت:

تولى و أبقى بيننا طيب ذكره **  كباقي ضياء الشمس حين تغيبُ

رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته وألهم ذويه وأبناءه وبناته وأحفاده ومحبيه الصبر والسلوان.

 



 

 

 

 

الشيخ عبدالله ابن خميس والذكريات الجميلة(<!--)

(المقالة الثانية)

 

طبعت النفوس على استذكار ما يمر بها من ذكريات ومواقف طريفة وجميلة، وخلاف ذلك عبر السنين المتلاحقة، وخاصة حينما يخلو المرء بنفسه أو ببعض جلسائه ورفاقه، فيحلو له سرد بعض ما علق بذاكرته من أشياء مفيدة ومسلية تؤنس السامعين، وقد تكون سببا في تداعي أفكار الحضور ومشاركاتهم، وإدرار الذاكرة لديهم من مخزونها العذب "مثلا" وتختلف مستودعاتها باختلاف حجم ما يوضع بها ويلصق بجدرانها ورفوفها من معلومات قيمه وقصص تاريخية تستوجب الحفظ والتداول بين أفراد المجتمعات ، فإن عمرها يطول ويحيا مع تعاقب الأجيال جيلا بعد جيل..، وهكذا يحفظ التاريخ وما يتعلق بالتراث، فتلاقح الأفكار وتمازج الحضارات والمشاركات في إيراد ما تُجنه الذاكرة من معلومات، وأخبار قد لا تكون كلها سارة وجيدة، وإنما تذكر للعبرة والاتعاظ، وربما تكون مجرد أحاديث عابرة يتذكر فيها الإنسان ما جرى بينه  وبين شخص عز عليه غيابه وفراقه..، مثل تذكري لشيخي وصديقي الشيخ عبدالله بن محمد بن خميس الذي حزنت على فراقه ورحيله، وعلى خلو الساحة الأدبية والتاريخية من شخصه الغالي التي أثراها بعدد كبير من نفائس كتبه، فبالأمس القريب كان معنا، واليوم وقد شطت به النوى عن أهله وأسرته وأحبته:

حبيب عن الأحباب شطت به النوى **  وأي حبيب ما أتى دونه البعد

-تغمده المولى بواسع رحمته -فذكرياتي معه متعددة المواقف والمواقع والمناسبات..، فمن أقربها إلى قلبي -رغم تقادم عهدها -حضوره من مكة المكرمة إلى نادي دار التوحيد عام 1371هـ أيام كان طالبا بكلية الشريعة واللغة هو ونخبة من زملائه لمشاركتنا وتشجيعنا بنادي طلاب الدار، أذكر منهم على سبيل المثال: عبدالعزيز المسند، عبدالعزيز العبدان، عبدالعزيز الربيعة، صالح العلي الناصر، عبدالله الفالح، سليمان الشلاش، صالح الحصين، محمد المرشد وغير أولئك الطلاب – آنذاك – رحم الله من رحل منهم، وأسعد الباقين إلى يومهم الموعود..، ولا زلت ذاكرا وقوف الشيخ عبدالله أمام باب القسم الداخلي -مهجع الطلبة المغتربين -، الواقع بحي قروى بالطائف، وهو ممسك بيدي مسلما قائلا: طيبون؟، وكانت هذه العبارة هي أول كلمة فصيحة سمعتها منه، لأن معظم كلامنا -آنذاك -تغلب عليه العامية في غالب الأحيان، فهو يرحمه الله مطبوع على الفصاحة واختيار جيد الألفاظ اللغوية باختصار..، وحاثا على الجد والمثابرة في التحصيل العلمي والثقافي كي نعود إلى أهلينا بنجد حاملين المؤهلات المشرفة، فهو بمنزلة الزميل مع فارق العمر بسنوات طويلة، وبمرحلة الدراسة! ، كما لا ننسى الرحلة الميمونة إلى منطقة نجران عام 1411هـ حيث تلقينا دعوة كريمة من أمير نجران -سابقا -الأمير فهد بن خالد السديري وأخوته الكرام لحضور حفل جائزة والدهم الراحل الأمير خالد بن احمد السديري -رحمه الله -للتفوق العلمي برعاية صاحب السمو الملكي الأمير المحبوب أحمد بن عبدالعزيز نائب وزير الداخلية والتي ضمت كوكبة من المشايخ ولفيف من كبار الأدباء والمثقفين، أمثال الشيخ عثمان الصالح والشيخ عبدالله بن خميس -رحمهما الله -، والزميل الأستاذ عبدالله الحقيل والأستاذ محمد بن عبدالله الحميد رئيس نادي أبها الأدبي..، والدكتور زاهر عواض الألمعي، والعميد إبراهيم بن علي الألمعي، والشيخ عبدالله عواض الألمعي والأستاذ الصحفي عبدالله بن علي المليص، وعدد كبير لم تسعفنا الذاكرة بذكر أسمائهم، وبعد انقضاء الحفل أخذ الأمير الفاضل أحمد بن عبدالعزيز القيام بجولة تفقدية لبعض المصالح الحكومية، وعدد من القرى والمدن مُنصتاً لمطالبهم، وما تحتاجه بلدانهم من تطور ومشاريع تنموية، ومنح بعض الفقراء شيئا من المال – جزاه الله خيرا -، مع المرور على بعض المواقع الأثرية مثل منطقة الأخدود الموغلة في القدم التي جرى ذكرها في القرآن الكريم، ومشاهدة المدينة التاريخية والمتحف التراثي الأثري، وغير ذلك من المواقع والمعالم القديمة..، فأخذ الشيخ عبدالله بن خميس يدون أسماء بعض المواقع التاريخية والأثرية شارحا لنا من ذاكرته بعض ما خفي على الحضور عن تلك المعالم، وبعد وفاته قريبة العهد أي في صباح يوم الأربعاء 15/6/1432هـ تذكرت العبارات التي تفوه بها أمام هاتيك المواقع التاريخية بمنطقة نجران، ثم شخص لذهني قول الشاعر:

ما زلت تلهج بالتاريخ تكتبه  **   حتى رأيناك في التاريخ مكتوبا

حجبت عنا وما الدنيا بمظهرة  **  شخصا وإن جل إلا عاد محجوبا

كذلك الموت لا يبقي على أحد  **  مدى الليالي من الأحباب محبوبا

وقد بالغت أسرة آل السديري في إكرام الجميع مع منحهم جميعا أسنى الهدايا وأثمنها وأبقاها أثاراً في نفوسهم -جزاهم الله خيرا ورحم والدهم -، ومن الذكريات التي مازال رنينها باقي صداه بين أضلعي زيارتي المتكررة لمنزل الشيخ عبدالله بحي الفوطة عام 1379هـ في أثناء تأسيسه لصحيفة الجزيرة ، وحرصه على استقطاب بعض الكتاب المميزين -وهم قلة آنذاك -ليضمن نجاح صدورها واستمرارها، وبحمد الله تم له ذلك بمعاضدة المخلصين معه، ولقد عرض علي المشاركة فاعتذرت لعدم استطاعة قلمي لمجاراة أولئك الكتاب الأفاضل في تلك الفترة البعيدة، فذكرياتنا الجميلة معه لا يمحها ماحٍ، ومن أثاره الخالدة مؤلفاته متنوعة الأصناف والمشارب، وصوته الجميل الجهوري الشائق عبر الإذاعة في برنامجه (من القائل) الذي أفرغها في أربعة مجلدات،  وفي أشرطة منذ ثلاثة عقود من الزمن سيظل مدويا في الوجود بعده مؤنسا سامعيه ومحبيه وذكراً باقياً:

تبلى الحناجر تحت الأرض في جدث ** وصوتها يتلو الأشعار والسيرا

وعلى أي حال فإن إعداد هذه الكلمة الوجيزة تلذذا بذكراه وضربا من الوفاء رغم قرب تأبيني له بهذه الصحيفة الغراء يوم الإثنين 20/6/1432هـ

مختتما بهذين البيتين للشاعر أحمد شوقي في رثاء صديقه حافظ إبراهيم:

خلفـــت بالدنيا بيانا خــالدا  **  وتركت أجـــيــالا من الأبنــاء

وغدا سيذكرك الزمان، ولم يزل **  للدهر إنصاف وحسن جزاء

 رحمه الله رحمة واسعة

 

 


سلوى آل الشيخ إلى رحمة الله(<!--)

 

قال الله في محكم كتابه العزيز: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} آخر سورة لقمان.

شاء المولى أن تموت الأخت الفاضلة سلوى بنت محمد بن عبدالله آل الشيخ - رحمها الله -بإحدى مصحات المدن البريطانية، بعد أن استكملت رزقها وأجلها بعيدة عن أهلها ومراتع صباها، فبينما كنت أسرح طرفي في صفحات بعض الكتب -وإن كنت مقلاً في القراءة -إذا برنين هاتف الشاب الأديب عبدالعزيز بن محمد المشعل -أحد رجال الأعمال الأخيار -قائلاً بصوت حزين وهو مجهش بالبكاء: إن يد المنون قد أرقلت(<!--) بوالدتي الحنون إلى مضاجع الراحلين على إثر عملية جراحية بإحدى ركبتيها فتأثرت كثيراً لتأثره -ودعوت الله لها بالرحمة -وله بالصبر والرضى بما قدّر له المولى سبحانه، فالآجال مخفية في ضمير الغيب لا يعلمها سوى الله -جلَّ ذكره، فمن اهتمام نجلها البار عبدالعزيز أن ذهب بها إلى أرقى المصحات خارج الوطن عله يسعد برؤيتها ماشية على قدميها، ولكن المقدر كائن لا مناص منه ولا محيد عنه حيث عادت محمولة على أعناق الرجال صوب مرقدها تحت طيات الثرى بمقبرة أم الحمام بالرياض، بعد أداء صلاة الميت عليها عصر يوم الخميس 9/6/1432هـ بجامع الملك خالد بأم الحمام، وقد اكتظ بالمصلين رجالاً ونساء -تغمدها الله بواسع رحمته -. وقد حزن الكثير من أسرتها ومحبيها على رحيلها المفاجئ الذي نزل على قلب ابنها المفجوع نزولاً موجعاً يطول مكثه بين جوانحه، والذي أعيا مَهرة الأطباء لإبعاد المكروه عنها، ولقد أجاد الشاعر أبو العتاهية حيث يقول:

إن الخلائق في الدنيا لو اجتهدوا *** أن يحبسوا عنك الموتَ ما حبسوا

ولقد نشأت في طاعة الله وفي بيئة علم وأدب محبة للبذل في أوجه البر والإحسان والعطف على الأيتام والأرامل، وقد زاد من إحسانها أن وضع ابنها البار وحيدها من الذكور ماله بين يديها تنفق منه ما تشاء في أوجه الخير -وكانت تقضي شهر رمضان المبارك بمكة المكرمة - فيختار لها السكن الممتاز المناسب على مقربة من المسجد الحرام مع تأمين ما تحتاجه من نفقات جزلة، بل إنه يسلمها شطراً من المال زكاة وصدقات تقوم بتوزيعها على     الفقراء والمساكين، ومنح بعض أسرهم المحتاجة كصدقات وهبات، فهو وحيدها من الرجال وقد أنزل الله فيه البركة وفي ماله الذي أخذ يتلذذ بالبذل منه في أوجه كثيرة من المشاريع وإمداد الجمعيات الخيرية التي تعنى بالمساكين وذوي الحاجات، ولله در ابن دريد حيث يقول:

الناس ألف منهم كواحد*** وواحد كالألف إن أمرٌ عنا

ومن أفضاله على أسرته: أسرة آل مشعل أن شيد قصراً فخماً متربعاً على مساحات واسعة على الشارع العام المتجه نحو منطقة الوشم ليكون ملتقى لهم في المناسبات وفي مواسم الأعياد والزواجات وإجازات الربيع، بتكلفة تقدر بملايين الريالات، علماً أنه لا يرغب في ذكر شيء مما أشرنا إليه البتة، فكل أعماله جزلة تحاط بالسرية في غالب الأحوال، ولكنني ذكرت ذلك تنويهاً بأفضاله ولأجل أن يقتدي به من أفاء الله عليه بنعمه، كما أنه يشيد بعض المساجد سراً ويسهم في دعم الجمعيات التي تعنى بالأيتام والأرامل كما أسلفنا، لعلمه أن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا، والواقع أن رحيل والدته الحنون وقبلها بسنوات قلائل رحيل والده الشيخ محمد بن عبدالعزيز المشعل قد يحدث فجوة وفراغاً واسعاً في حياته حينما يخلد للراحة ويخلو بنفسه..، ولقد زاد بكاؤه وهو ينزلها برفق في قبرها وعيناه تهيمان بدموع حرّى على أكفانها قبل أن يغيبها الثرى غياباً أبدياً إلى يوم النشور، والعزاء في ذلك أنها بارة بوالديها ومحبة لجيرانها وعاطفة على المساكين مخلصة العبادة لرب العالمين راجية عفوه ورضاه -تغمدها الله بواسع رحمته -وأسكنها فسيح جناته وألهم أهلها وذويها وابنها عبدالعزيز وأخواتها الصبر والسلوان.


محمد بن ناصر المبارك رائد الحركة العلمية بحريملاء (<!--)

 

وبارك الله في الأرض التي ضمِنت ***  أوصاله  وسقاها باكر الديم

تختلف درجات العلماء في تحصيلهم العلمي والأدبي، ومثابرتهم في اقتناص شوارده ونوادره من مظانه، وإن نأت موارده، سواء من أفواه الأئمة الأفاضل وإيماءاتهم، أو من بطون الكتب النفيسة المستمدة من كتاب الله العزيز وسنة رسوله المطهرة، فإنه حري بأن يحقق آماله وطموحاته ،  وهذه الصفات الحميدة مجتمعة تتجلى في شخص العالم الجليل فضيلة الشيخ محمد بن ناصر المبارك رائد الحركة العلمية في إقليم الشعيب بحريملاء والمحمل – آنذاك -ولقد ولد في مدينة حريملاء 1270هـ ونشأ في كنف والده ورباه أحسن تربية، فتعلم القراءة والكتابة في إحدى المدارس الأهلية بحريملاء، وختم القرآن الكريم وعمره لم يتجاوز العاشرة بعد، واهتم بحفظه فلم يمض ستة أشهر حتى حفظه عن ظهر قلب،  بعد ذلك جد في طلب العلم فقرأ على الشيخ عبدالعزيز بن حسن الفضلي، وكان وقتئذ  قاضي الشعيب والمحمل وإقامته في حريملاء، ويجلس لطلاب العلم إلى جانب توليه القضاء، وقد أعجب شيخه به وتوسم فيه الخير والمستقبل المشرق حيث حفظ كثيراً من المتون رغم حداثة سنه، وكان والده يسافر للتجارة وطلب الرزق فأقام في الأحساء مدة طويلة مما اضطر إبنه للسفر إلى والده هناك، فسافر إليه برفقة الإمام عبدالله بن فيصل بن تركي آل سعود -رحمه الله -الذي رحب به وجعله إماماً لهم في الصلاة مدة سفرهم حتى وصلوا الأحساء وكان الإمام عبدالله يأمره بأن يقرأ عليه شيئا من القرآن إذا سروا في الليل لتنشيطهم ولطرد النعاس عنهم، فإذا قرأ التف حوله الجيش لجمال صوته وحسن تلاوته فأعجب به الإمام وأكرمه غاية الإكرام، ثم استأذن من الإمام وذهب إلى والده وأقام عنده قرابة ثلاثة أشهر، ثم سافر إلى قطر ونزل ضيفاً على أميرها الشيخ قاسم بن ثاني -رحمه الله – وكان يكرم الوافدين إليه من كل مكان، وإذا كان الوافد من نجد ومن طلبة العلم فلابد أن يكون له منزلة خاصة تفوق غيرة فلذلك رحب الشيخ بضيفه الشاب القادم من نجد مهد آبائه وأجداده، وعرض عليه الإقامة بقطر فأقام بها ما يقرب من ثلاثة أعوام فتح خلالها مدرسة لتحفيظ القرآن الكريم، وكان في طليعة الطلبة أبناء الشيخ قاسم وحاشيته فحفظ عليه جمع غفير من مدينة قطر إلى جانب أبناء الشيخ، بعد ذلك شرع في تدريسهم ثلاثة الأصول وفي عدد من المتون وكان في أثناء إقامته في ذاك البلد المضياف محل حفاوة وتكريم من أهالي قطر وأميرهم الشيخ قاسم..، بعد ذلك استأذن من الشيخ ورجع إلى بلده حريملاء فأقام لدى أهله فترة قصيرة، مواصلا طلب العلم لدى مشايخ بلده، فزادت طموحاته ورغبته في التروي من رضاب العلوم والفنون الأخرى، وأدرك أنه لايتحقق له ذلك إلا بالسفر لطلب العلم من ينابيعه الصافية حتى لوكان السفر لبلاد بعيدة لايصلها إلا بشق الأنفس، وكأن الشاعر العربي قد أوحى إليه بمعنى هذا البيت:

إذا كنت ترجو كبار الأمور **  فأعدد لها همة أكبرا

فأتجه صوب صنعاء والتقى ببعض مشائخها وقرأ عليهم في الفروع والنحو والصرف والتفسير فلم تطل مدته في صنعاء بل سافر إلى الهند للتزود والتخصص في علم الحديث وغير ذلك من العلوم الدينية النافعة، وكانت رحلته على فترتين: الأولى بدأها في عام 1299هـ وبرفقته الشيخ سعد بن حمد بن عتيق - رحمهما الله - ومكث خلالها سبع سنين، أما الرحلة الثانية بدأها في عام 1306هـ حتى عام 1309هـ، فقرأ على محدث الهند العلامة الشيخ نذير حسين الدهلوي المسمى عالم الدنيا في وقته...، وعلى عدد من المشايخ المحققين من أصحاب العقيدة الصحيحة منهم، الشيخ محمد بشير السندي والشيخ سلامة الله الهندي، وقد أجازه الشيخ نذير حسين، وكان رحمه الله عالي الهمة رغم بعد المسافات وتكبد مشاق السفر وأهواله وأخطار الطريق حيث مشى جزءاً منه راجلاً، فإن ذلك كله لم يعقه عن تحقيق ما يصبو إليه في توسع  آفاق المعرفة لديه وقد تحقق له ذلك:

في سفر عمرك مكتوب لك السفر ** في الهند والسند من آثاركم أثر

ويقول الأخر:

أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته ** ومدمن القرع للأبواب أن يلجأ

وبعد ان تروى من معين العلوم استقر في مهوى رأسه في حريملاء، ثم أخذ يجلس لطلبة العلم في المسجد المجاور لمنزله المسمى مسجد (قراشة) وفي منزله بعد الظهر، فاشتهر وذاع صيته، فأخذ عدد من طلاب العلم يفدون إلى حريملاء من البلدان المجاورة لها ومن بلدان بعيدة مثل مدينة  الزلفي، المجمعة، القصيم بل ومن بلاد فارس أمثال عبيدالله وعبدالكريم الدرويش، لينهلوا من علمه الغزير الصافي، وكان المسجد الأثري سالف الذكر مقر تلقيهم الدروس والتدارس فيما بينهم فهو كخلية نحل في الكثافة والمثابرة في التحصيل العلمي، وكان الأهالي بحريملاء يقدرونهم ويشجعونهم على المكث طويلاً في ربوع البلد كي يرجعوا إلى أوطانهم وأماكن إقامة أسرهم وقد اخذوا نصيباً وافرا من العلم حيث يلقون منهم كل الإكرام ويتوازعونهم لتناول طعام الغداء والعشاء رغم قلة ذات اليد لدى أكثرهم لأجل أن ينالوا الأجر من الحي القيوم بإذنه سبحانه، كما أنه قد بنى في جانبي المسجد المذكور (جصتين) لتخزين كميات كثيرة من التمور ترغيباً لطلبة العلم، ولا زالت أثار إحداهن موجودة في الجانب الشمالي منه، ففي مواسم جذاذ النخيل يتقاطر الكثير من أصحاب الفلاحة ليلاً خشية الرياء فيضعون تلك الكميات الكبيرة من جيد التمور ويرصونها ببعض الأحجار (كالمكابس) لئلا تصاب بالتسوس والتلف فيؤخذ منها كل يوم مقدار الحاجة ليتغذى منها طلاب العلم المغتربين، كما أن أسرة آل ثاني المقيمة بقطر حين علمت بنشاط الشيخ/ محمد بن ناصر المبارك - رحمه الله -وكثرة طلابه اشتروا نخلين كثيري الفسائل، فأوقفوا ريعهما على طلاب العلم، وعلى أئمة ومؤذني بعض المساجد ليستعينوا بها لسد حاجاتهم من تلك التمور ولا زالت أوقافهم ريعاً حتى الآن فجزى الله المحسنين من أسرة آل ثاني خير الجزاء. ولقد تخرج على يديه؛ (أي الشيخ محمد) عدد كبير من القضاة والمرشدين وجههم جلالة الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه -إلى كثير من المدن والهجر، فالقضاة إلى المدن الكبرى مثل: الرياض ـ الجوف ـ الزلفي ـ الخرمة ـ أبها ـ بلاد بلسمر وبلحمر ـ وقرية العليا ـ وبلدة سنام ـ وغير تلك المدن، أما طلاب العلم فإلى الهجر والأرياف مثل: بلد عروى -المشاش-الرويضة-وغيرها من الهجر والأرياف لتبصيرهم بأمور دينهم والإمامة بمساجدهم آنذاك، فحريملاء تعتبر في تلك الحقبة منارة علم وبمنزلة الجامعة، فهي (بوتقة) رجال خدموا الدولة في مواقع هامة منذ تولي جلالته الحكم يرحمه الله، ولا زال عطاء البلاد مستمراً بحول الله، فالموجب لإعداد هذه الكلمة المقتضبة عن سيرة رائد الحركة العلمية بحريملاء التنويه بأعماله الجليلة وكفاحه الطويل المتواصل في التضلع من حياض العلوم العذبة حتى وافاه الأجل المحتوم يوم جمعة عام 1333هـ وقد استقيت بعض هذه المعلومات من حفيده الشيخ/ عبدالعزيز بن عبدالرحمن المبارك متعه الله بالصحة والعافية فهذه سيرة الشيخ المتضمنة صبره وكفاحه الذي حقق ما يصبو إليه ولله در الشاعر حيث يقول:

وقل من جد في أمر يحاوله *** و استصحب الصبر إلا فاز بالظفر

رحمه الله وجزاه عن تلامذته وعن المسلمين خيرا.

 


رحم الله الصديق عبدالله الخريجي (<!--)

 

وكيف تلذ طعم العيش نفس ** غدت أترابها تحت التراب

في صباح يوم الاثنين 3/8/1432هـ بينما كنت أتناول طعام الإفطار في جو يسوده الهدوء والاطمئنان النفسي أعقبه غفوة منامية قصيرة تخللها بعض الرؤيا، فأخذ يجول في خاطري شيء ما مترقبا إيضاح ما قد خفي في ضمير الغيب، فدرت لحظي نحو هاتفي فإذا برسالة تحمل في ثناياه نبأ رحيل الصديق الأخ / عبدالله بن سعد الخريجي -أبو محمد-وأن الصلاة عليه بجامع الحي الجديد بحريملاء بعد صلاة الظهر، وكان لذاك النبأ وقع محزن في نفسي، فلم أملك سوى الترحم عليه وتلاوة هذه الآية الكريمة (إنا لله وإنا إليه راجعون) -وكان من أسباب مرضه حادث سيارة قصم ظهره فألزمه الفراش مدة طويلة ثم سافر إلى دولة (التشيك) للعلاج الطبيعي على نفقة الدولة – أعزها الله - وظل هناك شهورا طوالا فلم تتحسن حالته الصحية فرجع خائب الأمل متجرعا غصص الحرمان من الحياة الطبيعية إلى أن جاءه أجله المحتوم -رحمه الله - فأخذت أشحذ الذاكرة في استذكار أيامنا الأول أيام الدراسة بالكتاب لتحفيظ القرآن الكريم لدى المقرئ –المطوع -الشيخ محمد بن فهد المقرن - رحمه الله - في مسجد حي الشهواني، وعلى المراكي الطينية بالأرض المجاورة له أرض آل الدحيم المحيطة بها بعض الأسوار والقلاع القديمة نتفيأ ظلالها في الصباح وفي الآصال خلف منزل الشيخ علي بن إبراهيم بن داوود - رحمه الله- وكان هو وشقيقه عبدالعزيز ضمن زملائي في تلك الحقبة البعيدة مع فارق العمر بيننا، فطابعهما الحيوية والميل إلى الفكاهة والمرح وعدم الاستمرار في الدراسة، وكانت حصيلتهما متوسطة نسبيا، وكنا نأنس بمزاولتهما لبعض الحركات البهلوانية لتخفيف عناء رتابة الدوام الدراسي الممل الذي نقضي فيه معظم سحابة يومنا..، فأخذ والدهما يشجعهما على العمل لدى بعض أصحاب الفلاحة رغم صغرهما في أعمال تتناسب مع أجسامهما لأسباب معيشية وقلة ذات اليد لدى والدهما -رحم الله الجميع -، فاستمر عبدالله في مزاولة حركاته رغم المخاطر في بعضها بعدما كبر واشتد ساعداه، أذكر أنه كان يجري ركضا فوق جذع نخل معروض على (منحاة) سواني النخل الذي يعمل فيه بطول ثمانية أمتار وارتفاع ما يقارب ثلاثة أمتار، وأعظم من ذلك مخاطرة لا يجرؤ على مزاولتها أي إنسان إلا نادرا جدا حيث كان يتعلق برجليه مخالفا بينهما ولويهما على خشبة (السماح) الموضوع على حافة البئر متدليا برأسه نحو فوهة البئر كأنه ذبيحة معلقة للسلخ، والعجب كيف صمدت رجلاه فنجا من موت محقق، فلو كنت في تلك اللحظة الرهيبة حفظت قول الشاعر لأسمعته إياه:

إذا كان رأس المال عمرك فاحترس ** عليه من التضييع في غير واجب

 بعد ذلك فكر أن يغادر محضنه بحريملاء لطلب المعيشة فلم ير بداً من التوجه إلى المنطقة الشرقية ملفياً على معالي الشيخ عبدالله بن عدوان مديرا للمالية وممثلا للمملكة لدى شركة آرامكو -آنذاك -في أوائل السبعينيات، فالشيخ عبدالله بن عدوان -يرحمه الله-بمنزلة الوالد لمن يقصد المنطقة من أبناء المملكة لأجل العمل من غير تمييز بينهم، وذلك لشح الوظائف في جوانب المملكة في تلك الحقبة الزمنية، فوجه مدير مكتبه الشيخ حمد بن علي المبارك على تعيين عبدالله  سائقاً في المالية، واستمر في عمله مدة من الزمن في عصري الشيخين عبدالله بن عدوان وسعود الدغيثر، ثم عاد إلى مدينة حريملاء وعين بفرع الزراعة مهندساً مكنيكياً للسيارات واستمر حتى تقاعد، وكان يتمتع بالإخلاص في أداء عمله محبوب لدى زملائه وجميع المواطنين لخفة ظله ومرحه المقبول، وكنت أحرص على حضوره في نادي معهد المعلمين والمدرسة الابتدائية الذي نقيمه في أواخر كل أسبوع في غالب الأحوال أيام كنت مديراً للمعهد مع الإشراف على المدرسة في أوائل الثمانينيات فهو يملح ويعطر برنامج الحفل بمزاولته بعض التمثيليات والحركات اللطيفة مما يكون سبباً في كثافة حضور الأهالي وأولياء أمور الطلبة:

يتزين النادي (بحسن حركاته) **  كتزين الهالات بالأقمار

 ولي معه ذكريات جميلة يطول مداها ويتعذر سردها كلها منها على سبيل المثال كثرة الرحلات في غابات شعيب حريملاء وفي أودية الحيسية العملاقة المتاخمة لسدوس الأهلة بكثافة الغابات التي كنا نزاول فيهما قنص الأرانب ليلاً قبل المنع، فنحن نستأجر سيارته لذاك الغرض، فهو ملاح حاذق في القيادة وسرعة الانتباه في اللحاق بالصيد، فمرة رأينا حيواناً ضخماً يسمى (نيصاً) مدججاً بأشواك طويلة جداً يربو طولها على عشر سنتيات يستخدمها لمهاجمة من يقترب منه فسألنا أحد الأساتذة السودانيين في أثناء مطاردتنا له: هل هو حلال أم حرام أكله فقال بإباحته فبادرناه بعدد من طلقات (الشوزن) فوقف متأثراً بإصابته، فما كان من الأخ عبدالله الخريجي إلا أن قفز بكل جرأة وشجاعة ونط بحلقه فوضعه أرضاً وذبحه، ثم طبخ مع عدد من الأرانب وأكلناه كله وكل واحد منا يقول ما أكلت إلا من لحم الأرنب. وفي ليلة أخرى من الليالي قتلنا ذئباً كبيراً في أحد شعاب حريملاء من مفترسي الأغنام فشكرنا أصحاب تلك الأغنام الذين طالهم أذاه.. ّ!! ، وهذه لمحة خفيفة من ذكرياتنا مع (أبو محمد) عبدالله الخريجي-تغمده الله بواسع رحمته وألهم ذريته بنين وبنات وشقيقه ناصر وعقيلته أم محمد وجميع محبيه الصبر والسلوان.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 


الشيخ الغانم أناخت به ركابه في ملتقى الراحلين (<!--)

 

فرب ضرير قاد جيلاً إلى العلا  **  وقائده في السير عود من الشجر

وكــــم مــــن كفيف فـــي الزمان مشهر **  لياليه اوضاحُ وأيامه غرر

بينما كنت أسرح طرفي في صفحات صحيفة الجزيرة الغراء بعد صلاة فجر يوم الثلاثاء 4/8/1432هـ، إذ فوجئت بنبأ رحيل الشيخ الأستاذ عبدالله بن محمد الغانم الى الدار الباقية رحمه الله-فتأثرت كثيراً، وفي تلك اللحظة طوح بي الخيال الى تصوره وتذكره يمشي متأبطاً كتاباً يحمل في ثناياه طريقة (برايل) وهو على  مقربة من مسجد الحنبلي المجاور للقصر الطيني للملك فهد بن عبدالعزيز -آنذاك -رحمه الله-وقال لي أحد الزملاء ترى هذا الكفيف يعرف لغتين، فعجبت منه رغم صغر سنه..، ولقد ولد رحمه الله في عام 1353هـ في مدينة جلاجل بمنطقة سدير وكف بصره وعمره ست سنوات، وتلقى تعليمه الأول في الكتّاب في جلاجل على يد الشيخ فوزان القديري – رحمه الله -، ثم شخص الى الرياض مبكراً وهو بعامه العاشر لإكمال تعليمه حيث درس مبادئ العلم على يد فضيلة الشيخ عبداللطيف بن إبراهيم، وعلى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم مفتي الديار السعودية آنذاك – رحمهما الله – وفي عام 1372هـ التحق بالمعهد العلمي إلى أن تخرج من كلية الشريعة سنة 1380هـ، وفي تلك الفترة تعلم طريقة (برايل) -أي قبل الحصول على الشهادة العالية – حتى حذقها ثم قام بتعليم وتدريب مجموعة من المكفوفين في أثناء الإجازة الصيفية عام 1377هـ تطوعاً واحتساباً للأجر من رب العالمين، وذلك في مقر معهد إمام الدعوة حيث تكرمت الإدارة بإعارته فترة الإجازة...، فتعلم على يده عدد كبير من المكفوفين في مدة لاتتجاوز الشهور الثلاثة، وكانت نواة مباركة لتعلم المكفوفين للقرآءة والكتابة بطريقة (برايل) وفي عام 1378هـ وافقت وزارة المعارف -آنذاك -على فتح فصول مسائية في مدرسة جبرة الإبتدائية بالرياض لتعليم المكفوفين تلك الطريقة بإشراف الأستاذ عبدالله الغانم، وخلال هذه الفترة تفضل جلالة الملك سعود -يرحمه الله -بزيارة تلك الفصول:

وأحسن أخلاق الفتى وأجلها  **  تواضعه للناس وهو رفيع

وهذا التواضع لايستغرب على ولاة أمر هذه البلاد وحبهم للتشجيع للنهل من موارد العلوم العذبة والمفيدة، وقد تبرع جلالته يرحمه الله بمقر لها في حي الظهيرة الواقع شمال جامع الإمام تركي بمدينة الرياض، وبمبلغ كبير من المال للاستعانة به في تطويرها ومد الضعفة من الطلاب بشئ منه..، كما تبرع بمطابع خاصة لطباعة (برايل) -تغمده الله بواسع رحمته -، وكان لهذه الزيارة الأبوية صدى إعلامياً كبيراً على مستوى المملكة، فالشيخ الغانم يعتبر المؤسس الأول لمعهد النور لتعليم المكفوفين بالمملكة عام 1380هـ وقد تولى إدارتها، ثم أسس إدارة التعليم الخاص بوزارة المعارف عام 1382هـ، وقد تسنم عدة مناصب ورأس الكثير من اللجان على المستوى العالمي لرعاية المكفوفين بالمملكة، فهو قامة عالية في المحافل الداخلية والدولية، كما انه أول كفيف عربي مثل حكومة خادم الحرمين الشريفين في الأمم المتحدة لمدة عشر أعوام مابين 1402-1412هـ ، وخطب في الجمعية العامة للأمم المتحدة عدة مرات مشيداً بخدمات حكومة خادم الحرمين الشريفين والعناية بجميع طبقات المعوقين، ويعتبر من أبرز الموهوبين في تلك الحقبة البعيدة، ويمتاز بقوة الذاكرة وسرعة الحفظ، وكان يفرح بمحادثة من يجيد اللغة الإنجليزية ليهيء نفسه لقابل الأيام لعلمه بأهمية حفظ اللغات، وكم هو جميل قول الشاعر:

بقدر لغــات المرء يكثر نفعه   **  وتلك له عند الشدائد أعــــوان

فبادر الى حفظ اللغات مسارعاً  **  فكل لسان في الحقيقة إنسان

ولقد كافح (أبو مساعد) وأضاء دروب المعرفة والثقافة لمن حرموا نعمة الإبصار، وجعلهم يسيرون في مواكب الحياة مع نظائرهم المبصرين جنباً الى جنب، يحدوهم الأمل الآن بأن تتقدم الوسائل الحديثة فتفتح لهم أبواباً جديدة تخدم عالم المكفوفين خدمة أوسع في عصر خلفه الدكتور الفاضل ناصر بن علي الموسى الذي وقف حياته خدمة لذوي الإعاقات عامة، وجلب كل حديث في تطوير مسيرة تعليم أولئك تطويراً عصرياً – وفقه الله -وأعانه على مواصلة دوره القيادي البناء في إسعادهم وإسعاد الأجيال اللاحقة المتتابعة في ظل حكومتنا الحبيبة إلى قلوبنا.

فالشيخ الغانم قد أنهى دوره في الحياة بكل جد وإخلاص وأمانة تاركاً ذكراً جميلاً في شعاب نفوس تلامذته وزملائه ومحبيه، ومما حز في نفسه فقد بصره وعمره لم يتجاوز السادسة، ورغم ذلك كله شق طريقه بكل عزم ومثابرة حتى تربع على مناصب هامة وعالية نفع الله به أجيالاً من ذوي الإعاقة البصرية والسمعية

mager22

فقد ورثاء ( عبد العزيز بن عبد الرحمن الخريف )

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 226 مشاهدة
نشرت فى 30 سبتمبر 2013 بواسطة mager22

عبد العزيز بن عبد الرحمن الخريف

mager22
عبد العزيز بن عبد الرحمن الخريف **** ولد ونشأ في حريملاء , 80كم شمال غربي مدينة الرياض . درس في حلقات العلم على المشايخ بالرياض . بدأ الدراسة النظامية بدار التوحيد بالطائف 1371 - 1372 هـ . أنهى التعليم الثانوي بالمعهد العلمي بالرياض عام 1374 هـ . كلية اللغة العربية »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

30,360