الشيخ سعد بن داوود غاب عن أحبابه(<!--)
كم من جميع أشت الدهر شملهم *** وكل شمل جميع سوف ينتثر !
كل صفاء في هذا الوجود لاشك أن يعقبه كدر وحزن قد يطول مكثه بين جوانح من يفجع في غال أوفقد حبيب، فسير قوافل الراحلين عن الدنيا في استمرار إلى أن ينفد البشر ويخلو أديم الأرض منهم قاطبة، وهذه سنة المولى في خلقه إلى يوم النشور، فيجازى كل إنسان بما عمل، فالسعيد من يرحل بزاد من التقى ليسهل عليه العبور على متن صراط المتقين إلى دار النعيم المقيم، فجدير بالمسلم أن يستعد للسؤال في ذاك الموقف الرهيب الذي تشخص فيه الأبصار، وتذهل كل مرضعة عما أرضعت لهول يوم الحساب الذي لاينفع فيه مال ولابنون إلا من أتى الله بقلب سليم، فمن سعادة المرء أن يحبب الله له الإخلاص في العبادة منذ فجر حياته، وإطالة المكث داخل مساجد الله يتلو كلامه بتدبر وخشوع آناء الليل وأطراف النهار، والإكثار من النوافل، والمدارسة في اقتناص العلوم النافعة..، وهذا هو شأن الشيخ سعد بن محمد بن داوود الذي تزامن غروبه ورحيله عن الدنيا مع غروب شمس يوم الجمعة 3/2/1432هـ بعد حياة حافلة بالعلم النافع والعمل الصالح، حيث قضى زهرة شبابه في اقتناص العلوم والآداب، والتدريس، وكان محبوبا لدى زملائه وتلامذته الذين حزنوا عليه حزنا شديدا على غيابه عن نواظرهم، فطبيعته – يرحمه الله – الهدوء ولين الجانب، وتبسيط شرح المواد التي تولى تدريسها وتثبيتها في أذهانهم.
ولقد ولد -رحمه الله -في محافظة حريملاء وعاش في أكنافها بين أحضان والديه هو وشقيقاه فضيلة الشيخ عبدالعزيز، والاستاذ حمد -متعهما الله بالصحة والعافية - ورغم فقد بصره مبكرا إلا أنه عاش مطمئنا وراضيا بأقدار الله، فلم يعقه ذلك عن شق طريقه في الحياة، حيث وهبه المولى نفاذ البصيرة، وسرعة الحفظ لكلام الله الذي تلقاه في حريملاء لدى المقريء الشيخ محمد بن عبدالله الحرقان -رحمه الله-حيث حفظ القرآن كاملا في زمن وجيز، وفي العقد الثاني من عمره شرع في طلب العلم بجانب أخيه عبدالعزيز على قاضي البلد -آنذاك -الشيخ عبدالرحمن بن سعد -رحمه الله -وحفظ شطراً من المتون المعروفة مثل كتاب التوحيد، وثلاثة الأصول، والعقيدة الواسطية، ومتن الرحبية في علم الفرائض والمواريث، مع الإعراب في مباديء اللغة العربية على ضوء متن الأجرومية، وعند افتتاح المعهد العلمي بالرياض شخص مع أخويه فالتحق بالمعهد، واستمر في الدراسة حتى نال الشهادة العالية بكلية الشريعة عام 1379هـ، ثم عين مدرسا بمعهد شقراء وقتاً من الزمن، وكان بصحبته شقيقه الأستاذ حمد الطالب بالمعهد -آنذاك – وبعد ذلك تم نقله إلى معهد الرياض العلمي، وأخيرا مدرسا بمعهد إمام الدعوة، واستمر حتى أنهى الخدمة النظامية تاركا أثرا طيبا في نفوس تلامذته، وذكراً حسناً مع زملائه ورفاق دربه.
وإنما المرء حديث بعده *** فكن حديثا حسنا لمن وعى
وكان هو وشقيقيه فضيلة الشيخ عبدالعزيز والأستاذ حمد متآلفين ومتلازمين منذ طفولتهم لايفرقهم إلا ظروف العمل وأوقات راحتهم..، وأخيراً فرقهم هادم اللذات ومفرق الجماعات.. !
وكل أخ مفارقه أخوه *** لعمر أبيك إلا الفرقدان
وكان رحمه الله مواظبا على الصلوات الخمس ومكانه دوما خلف الإمام، ويختم القرآن في كل أسبوع، ولايبرح المسجد بعد صلاة الفجر حتى يصلي ركعتي الإشراق ومعه شقيقيه عبدالعزيز وحمد، وصديقهم الأخ الفاضل عبدالله بن إبراهيم الخميس الذي رحل أخيرا، كما أنه يجلس لبعض الطلاب للقراءة عليه في كتاب التوحيد والفقه، وقد عرف عنه حب الإنفاق في أي مشروع خيري يعرض عليه فلا يتردد في ذلك أبدا، ومن صفاته الحميدة أنه واسع الصدر ذو دعابة مقبولة يؤنس بها محدثه، ولنا مع الشيخ سعد (أبو سليمان) ذكريات جميلة لايمحها ماح، فهو يعتبر صديق وزميل دراسة لا زميل فصل لتقارب مراحل الدراسة - تغمده الله بواسع رحمته وأسكنه فسيح جناته وألهم ذويه وأبناءه وبناته وإخوته وعقيلته الصبر والسلوان -(إنا لله وإنا إليه راجعون) وختاما بيت من الشعر:
فاسعد ودم في نعيم لانفاد له *** ياتابعاً ما أتى عن سيد البشر
الشيخ عبدالرحمن بن محمد المبارك وأريج ذكره الطيب (<!--)
لعمرك ماللناس في الموت حيلة *** ولا لقضاء الله في الخلق مدفع
كثير من بني البشر ممن لهم دور إيجابي في الحياة سواء أكان علمياً أم أدبياً، أم مادياً يستفيد منهم مجتمعهم فيما يقدمونه من أعمال إنسانية وصلة لإرحامهم، أو نشاطات تجارية تنفع الجميع، فإن ذكرهم يبقى طريا على تعاقب الأيام والليالي، بل ويعتبر العلماء بمنزلة المدرسة في إضاءة الصدور من معينهم العلمي الصافي، فهم قدوة حسنة لمعاصريهم ولاحقيهم من الأمم المتتابعة لما يفيضونه عليهم من علوم نافعة وتوجيهات سديدة، فمن أولئك العلماء الأجلاء شيخنا الفاضل عبدالرحمن بن محمد بن ناصر المبارك – رفيق درب والدنا الشيخ عبدالرحمن بن محمد الخريف رحمهما الله – الذي ولد في حريملاء عام 1318هـ ونشأ في كنف والده الشيخ العالم الجليل محمد بن ناصر المبارك رائد الحركة العلمية في حريملاء -آنذاك -المتوفى عام 1333هـ تقريبا الذي تخرج على يديه عدد كبير من العلماء والقضاة والمرشدين في زمن يفتقر إلى العلماء والقضاة، وكان مسجده كخلية نحل من طلاب العلم الذين يفدون إلى حريملاء من البلدان المجاورة ومن سدير والزلفي والقصيم، وحتى من بعض بلاد فارس، وقد وجه جلالة الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه -نخبة منهم إلى عدد من المدن والبلدان للقضاء ونشر العلم في أوساط البلاد وأطرافها، بل وأمد بلدان الخليج ببعض القضاة، وعمر الشيخ عبدالرحمن حينئذ ثلاثة عشرعاما، وقد حفظ القرآن الكريم على يديه قبل وفاته -يرحمهما الله -وقد تأثر به في علمه وحبه للقراءة وإجالة النظر في بطون الكتب، وحفظ بعض المتون مثل ثلاثة الأصول، وجزء من كتاب التوحيد، ومتن العقيدة الواسطية ومباديء في العربية -متن الأجرومية -رغم صغر سنه، وبعد وفاة والده الشيخ محمد رغب في التزود من فيض العلوم فرحل إلى مدينة الرياض ودرس على علمائها ومن أبرزهم الشيخ عبدالله بن عبداللطيف بن عبدالرحمن آل الشيخ، والشيخ سعد بن حمد بن عتيق، الشيخ محمد بن عبداللطيف بن عبدالرحمن آل الشيخ، والشيخ حمد بن فارس في العربية والنحو وغيرهم -حمهم الله جميعا -، وبعد ذلك تم اختياره من قبل الملك عبدالعزيز ليذهب مع شويش بن ضويحي المعرقب مدير جيش الحكومة ليكون كاتبا وإماما ومرشدا، ثم بعد ذلك اختير ليذهب إلى هجرة عرجاء ليكون قاضيا وإماما لهم، وبعد ذلك تم تعيينه من قبل الملك عبدالعزيز أميرا لحريملاء مسقط رأسه وموطنه الأصلي، ثم عين في عرجاء مرة أخرى بناءً على إلحاح من الأهالي ومكث فيها الى أن تم تعيينه أميرا وقاضيا للدرعية عام1361هـ، ومكث فيها قرابة عشر سنين حتى طلب الإقالة من الملك سعود -رحمه الله – وفي أثناء مكثه في الدرعية جلس للتعليم ونشر العلم، وقد قرأ عليه عدد من الطلبة من أشهرهم عبدالرحمن بن محمد الحصان، وسليمان بن عبدالله الطويل، وحمود الحمود، وعلي بن عبدالعزيز العليان، وعبدالله بن علي المقحم، وناصر بن عبدالله بن دخيل وأخيه فهد -رحم الله الجميع -والشيخ عبدالعزيز بن عبدالله السالم وغيرهم، ثم اختير من قبل الشيخ عمر بن حسن آل الشيخ ليعمل في رئاسة هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مديرا للشئون الدينية بها ومكث بها الى أن بلغ سن التقاعد، وقد توفي صباح يوم الأربعاء الموافق 15/6/1400هـ، وقد كان طول حياته محبا للخير آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر لا تأخذه في الله لومة لائم -رحمه الله رحمة واسعة-وله من الأبناء ابن واحد هو الشيخ عبدالعزيز وعدد من البنات، وكان -رحمه الله-من خواص وأصفياء والدنا العالم الزاهد الشيخ عبدالرحمن بن محمد الخريف، وقد ظلا أكثر من أربعة عقود من الزمن متحابين ومتآلفين قلّ أن يفترقا سوى فترة من الزمن تخللها عملهما في السلك القضائي في بعض المواقع، حيث أن الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه -قد عين والدنا قاضيا في (قرية العليا) الواقعة في الجاني الشمالي الشرقي من المملكة عام 1347هـ ثم نقله الى (سنام) بمنطقة القويعية، وبعد ذلك طلب الإعفاء من الملك عبدالعزيز لظروفه العائلية فأعفاه بعد إلحاح وإقناع، أما الشيخ عبدالرحمن بن محمد المبارك فقد عينه قاضيا وإماما في هجرة (عرجاء) كما أسلفنا آنفا، واستمر بها وقتا من الزمن معززا ومكرما لدى أهلها لما يتمتع به من هيبة وسماحة خلق، فهو يرى والدنا مرجعا له ولبعض قضاة حريملاء وطلاب العلم بها وما جاورها من البلدان -آنذاك - لغزارة علمه وسعة أفقه، وطول باعه في المسائل الفقهية والعقيدة السمحة وعلوم الحديث بل وإلمامه بجميع العلوم عموما لغة وشرعا، ولقد استفاد الشيخ (أبو عبدالعزيز) منه فوائد جمة لطول ملازمته له وإنصاته لما يتفوه به من حكم وأمثال، وسماعه له أثناء قراءته في بعض كتب المطولات والسير بالمسجد قبل صلاة العشاء من كل ليلة، والتعليق على بعض الموضوعات وإيضاحها للعامة والخاصة، المسترشدين، حيث إن المسجد يحفل بحضور كثيف من أصحاب الفلاحة وسائر العمال يأتون من نواحي عدة من أطراف البلاد للاستفادة وللمعرفة بأمور دينهم والاستئناس بسماع قصص الأوائل وماجرى بينهم في تلك العصور والحقب البعيدة، رغم متاعبهم الجسمانية في حقولهم ومزارعهم، وظل التواصل بينهما إلى أن فرقتهما الأيام والليالي، ولنا مع الشيخ (أبو عبدالعزيز) ذكريات جميلة راسخة ومقيمة في طوايا النفس مدى الأيام، وكنت أنا ونجله الشيخ عبدالعزيز في صغرنا نصحبهما -أي والدينا -إذا دعيا إلى القهوة ليلا أو لتناول الريوق وفك الريق -أي الفطور حاليا -بعد طلوع الشمس ونسعد بشرب الحليب والزنجبيل، أما الشاي فلم يتوفر في تلك العصور، بل إنه يندر، أو أكل ما تيسر من الأطعمة الشعبية في ذلك الزمن المتباعد، وقد يحصل علينا بعض الملاحظات والتوجيهات الأبوية للالتزام بالأدب إذا لاحظا علينا بعض التصرفات والحركات ورفع الصوت والقهقهة التي قد تخرج منا بأدنى سبب شأننا في ذلك شأن الأطفال، وقد تحمر العين علينا للكف عن الضحك فنتوقف مؤقتا أو نستمر فيه غير قادرين على كبحه ثم نضطر إلى مغادرة المجلس لإفراغ شحنات الضحك فيكون ذلك سببا في حرماننا من تناول ما تيسر من شراب أو طعام، وقد استفدنا من بعض الأحاديث، والقصص التي تجري بينهما في المجالس، وفي المسجد ولم نعي معانيها وأهدافها، وظلت أصداء أصواتهما لاصقة في جدار الذاكرة حتى كبرنا فأدركنا بعضا منها، منها على سبيل المثال أن الشيخ - آبا عبدالعزيز- قد سأل شخصا عن شيء مّا فقال لاطال عمرك فنهره قائلا: اسكت سكتة لطيفة ثم قل لا طال عمرك أو لا وأطال الله عمرك، وذلك يدل على رهافة حس الشيخ وإدراكه للأساليب البلاغية بفطرته قبل رؤيته مصنفات كتب البلاغة، وفي مجال آخر انتقد أحد الشباب في تسرعه وتعجله وعدم تدبره فيما أقدم عليه مجانبا الصواب، فما كان من الشيخ -يرحمه الله -إلا أن هز رأسه متمثلا بقول الشاعر أبي يعقوب الخريمي:
إن الأمور اذا الأحداث دبرها *** دون الشيوخ ترى في بعضها خللا
إن الشبــــاب لهــم في الأمر معجلة *** وللشــيوخ أناة تدفع الزللا
وهذه العجالة القصيرة نبذه عن حياته وسيرته العطرة، فالذكريات الجميلة مع شيخنا الشيخ (أبو عبدالعزيز) يطول مداها، غفر الله له وأسكنه فسيح جناته.
رحم الله أبا ناصر العجلان (<!--)
هو الموت ما منه ملاذ ومهرب *** متى حط ذا عن نعشه ذاك يركب !
قال الله في محكم كتابه العزيز "كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون" الآية (57) العنكبوت، وهذه سنة الله في خلقه: حياة ثم موت فبعث ليوم الحساب يوم يجازى كل بما عمل، فالسعيد من يرحل بزاد من التقى، سليم الصدر راجيا عفو ربه ومغفرته ورضوانه، هذه الدعوات كثيرا ما يكررها الصديق الكريم محمد بن عبدالله العجلان الذي سبقنا إلى مراقد الراحلين حيث فاضت روحه الطاهرة الساعة الثانية قبل صلاة فجر يوم السبت 9/3/1432هـ رحمه الله وأديت عليه الصلاة بعد صلاة عصر يوم السبت بجامع الملك خالد بأم الحمام بالرياض، وقد اكتظ بجموع غفيرة من المصلين رجالا ونساء راجين له المغفرة وطيب الإقامة بجدثه إلى أن يأذن الله لجميع الخلائق بالنهوض في اليوم الموعود لإحصاء ما سطره الملكان لكل إنسان من حسنات وسيئات، ثم يفترقان فريق في الجنة وفريق في السعير، فنرجو من المولى أن يكون (أبو ناصر في زمرة المغفور لهم الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) ولقد ولد ببلده (القرينة) بمحافظة حريملاء ودرس في الكتاب لدى المقرئ حمد بن سعد المقرن، وعمل في صغره مع والده في مزرعته بأم السلم، ولقد نشأ في طاعة الله منذ فجر حياته ولسانه دوما رطبا بذكر الله، محبا للعمل الخيري ومعرضا عن مساوئ الناس واصلا رحمه طيب المعشر مع أسرته وجيرانه، وكثيرا ما ينفح جلسائه من أشعاره المشتملة على الحكم والأمثال والعظات، واتسم شعره بسهولة اللفظ وعمق المعنى والحث على الإستقامه والاستعداد لما بعد الموت، فقد احتفظت ببعض تلك القصائد في شريط للاستئناس بسماعها، وعاش محبوبا لدى مجتمعه ومحبيه، وقد رزقه الله من الذرية الصالحة ثلاثة أبناء: (ناصر -رحمه الله -ومنصور وسليمان، وست بنات) متع الله الجميع بالصحة والعافية، ومن وفائه الحضور من مقر إقامته في مدينة الهياثم بالخرج إلى مزرعة شقيقه فضيلة الشيخ إبراهيم بن عبدالله العجلان قاضي التمييز -سابقا -ليأنس برؤية أخيه الشيخ إبراهيم ويتلذذ بتذكر أيام طفولتهما بين أحضان والديهما رغم ما يعانيه من بعد المسافة بين البلدين، فمزرعة الشيخ إبراهيم ملتقى لأقربائه وأصحابه وزملائه في أواخر كل أسبوع في غالب الأيام، ولا يخلو ذاك الملتقى من فوائد جمه شرعية وأدبية، كما أن أبا ناصر يتحف الحضور ببعض قصائده ومنظوماته المؤثرة التي تؤنس الحضور وتذكرهم بأيام الله ليغتنموا الاستفادة من مواسمها قبل الرحيل عن الوجود:
ولا خير في الدنيا لمن لم يكن له *** من الله في دار القرار نصيب
فهو أنس المجالس حلو الطرفة والفكاهة، وكثيرا ما يأخذه الأستاذ الفاضل عبدالله بن محمد الشدي – أبو أحمد – لصلة القرابة بينهما وليأنس به وبقصصه الشائقة في رحلاته الداخلية وأسفاره لمزارعه الكثيرة في وادي الدواسر وفي حريملاء، والحمادة قرب محافظة شقراء وغيرها من النخيل والمزارع، وقد عمل أبو ناصر -رحمه الله -ببلدية الهياثم وقتا من الزمن وإماما بمسجد في حيهم -آنذاك -كما قام بالإشراف على مزارع صاحب السمو الملكي الأمير مشعل بن عبدالعزيز بالمنيصف قرب الهياثم، لما توسم فيه من صلاح وأمانة بشؤون الفلاحة، فالأسرة المالكة – يحفظها الله – تعنى بالزراعة وبغرس فسائل النخيل بصفة عامة بدءا من الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه -ليستفيد منها أبناء الوطن وعابري السبيل لعلمهم بمضاعفة أجر أصحاب الفلاحة وغرس النخيل، ومما يؤثر عن الملك عبدالعزيز أنه في أثناء مروره بحريملاء مع طريق محاذيا لنخل والدنا الشيخ -رحمه الله -وهو ممتطيا صهوة حصانه قبيل جذاذ ثمار النخيل فشاهد قنوان التمر في منظر جميل وهي متربعة على عسب النخيل تنوء بأحمالها، فقال لمن حوله قفوا (صاحب هذا النخل لا يجوع أبدا) وهذه الشهادة تعتز بها منطقة حريملاء من ملك أحب رعيته فتفانوا في حبه والدعاء له – تغمده الله بواسع رحمته ورضائه. ولنا مع (أبو ناصر) ذكريات جميلة ومواقف طريفه لا تنسى مدى العمر، ولا ننسى أفضاله وإكرامه لنا أثناء حضورنا لرئاسة لجان الاختبارات بالدلم والهياثم في بداية التسعينات الهجرية بصحبة العم عبدالله القضيب – رحمه الله – فقد دعانا لتناول طعام الغداء في منزله واشترطنا عليه ألا يتكلف، ولكنه أبا إلا أن يفاجئنا بكبش سمين، ولئن غاب عن نواظرنا فإن ذكره الطيب يعبق في أرجاء نفوسنا – رحمه الله – وأسكنه فسيح جناته وألهم ذويه وأهله ومحبيه الصبر والسلوان.
الشيخ صالح الراجحي لاقى وجه ربه(<!--)
والناس ألف منهم كواحد *** وواحد كالألف إن أمر عنا
جادة الموت عامرة بمرور الملايين من البشر وقوافل الراحلين على اختلاف أديانهم وأجناسهم، بل وأعمارهم صغارا وكبارا بدون تميز في ذاك المضمار مضمار الموتى، وإنما التفاضل والذكر الحسن فيمن يرحل بزاد من التقى، وقد ترك آثارا طيبة محمودة يدوم أجرها له، ونفعها للمسلمين على تعاقب الملوين مثل تشييد المساجد والمساكن للضعفة والمساكين، والتوسع في غرس فسائل النخيل التي تعتبر من أركان الأمن الغذائي الطويل الأمد.. ينتفع بها الحاضر والبادي، مع ما يؤمن من عقارات عدة في كثير من المواقع يصرف ريعها على المؤسسات الخيرية والجمعيات التي تعنى برعاية الأيتام والمساكين، ومساعدة الشباب في زواجهم وأحوالهم المادية، بل ومن يحتاج من الأقربين – وهم أحق بالمعروف - ولقد أحسن الشاعر المقنع الكندي حيث يقول:
وإذا رزقت من النوافل ثروة *** فامنح عشيرتك الأداني فضلها
وما ذكرناه في هذه الأسطر ينطبق تماما على الشيخ الفاضل الراحل/ صالح بن عبدالعزيز الراجحي الذي غادر الحياة مأسوفا على فراقه يوم السبت 9/3/1432هـ، وصلي عليه بعد صلاة عصر يوم الأحد 10/3/1432هـ بجامع الراجحي الكبير المتربع على حافة الطريق الدائري الشرقي بمدينة الرياض، وقد اكتظ بألاف المصلين رجالا ونساء بعد حياة طويلة حافلة بالكفاح وبالأعمال الجليلة المشرفة في كثير من مناحي الحياة، فالشيخ الراجحي – يرحمه الله – لا يضارعه ولا يماثله أحد من المحسنين في البذل السخي في أوجه البر والإحسان وبناء المساجد وتشييدها تشييدا حضاريا يصعب عدها وحصرها في كثير من المدن والأرياف داخليا وخارجيا، وكل أعماله الخيرية تتسم بالجزالة والمثالية: -كالبدر من حيث التفت رأيته -! ، وهذه السجية والأريحية مِنٌة من الله عليه، فهو محظوظ ومغبوط، ونرجو من المولى مضاعفة حسناته والبركة في ذريته وأسرته، ولقد وعى حقيقة قول الشاعر:
خذ من تراثك ما استطعت *** فإنما شركاؤك الأيام والوراث
ويقول الأخر مثنيا :
تقاسم الناس حسن الذكر فيك كما *** تركت مالك بين الناس مقتسما
فقد قدم الكثير وأبقى الأكثر – تغمده الله بواسع رحمته ومغفرته – وقد عاش متواضعا في هندامه وملبسه ومركبه واثقا من نفسه وشاكرا المولى على نعمائه وأفضاله، ومن الشواهد الحميدة على تبسطه في شؤونه الخاصة في المأكل والمشرب وحفظ النعم بدون سرف ولا تقتير:
لا خير في الإفراط والتفريط *** كلاهما عندي من التقصير
ولقد حضرت يوما حفل زواج إحدى كريماته منذ عقود من الزمن على الشاب الأديب/ سعود بن عبدالله العمران في قصره الواقع على شارع الأمير أحمد بن عبدالعزيز بحي الملك فهد شمال مدينة الرياض، وكان الحفل متواضعا جدا، وكان بإمكان الشيخ صالح أن يضع على كل صينية (جملا) ولكن تقديره لنعمة الخالق جعلها وليمة متواضعة في صحون صغيرة وفوق كل واحد منها مقدار كيلو لحم وشطر دجاجة وشيء من الفواكه، فأنس الحضور بما قدم ودعوا له بالبركة في أسرته وماله، فيا ليت كل صاحب مناسبة أن يقتصد كي يكون قدوة للجميع، فمحبة الشيخ ساكنة في قلوب محبيه وعارفيه ، ولقد أجاد الشاعر التنوخي حيث يقول:
كأنك من كل النفوس مركب *** فأنت إلى كل الأنام حبيب
فعلى أي حال فإن أعماله الخيرية الجبارة واهتمامه بغرس النخيل جيدة النوعية التي يربو على عدها أكثر من مائة ألف نخلة بمنطقة القصيم ومزارع القمح رحبة المساحات التي يعود نفعها على الجميع فتعد من محاسنه وإخلاصه لوطنه وبنيه:
وغدا توفى النفوس ما عملت *** ويحصد الزارعون ما زرعوا
والشكر موصول لإخوته الكرام ولأبنائه البررة وأسرة الراجحي عموما، لما يبذلونه لصالح البشرية جزاهم الله خيرا، وتغمد الراحل بواسع رحمته وأسكنه فسيح جناته وألهم ذويه وأسرته ومحبيه الصبر والسلوان.
<!--[if !supportFootnotes]--><!--[endif]-->
(<!--) نشرت في صحيفة الجزيرة، يوم السبت 11 صفر 1432هـ الموافق 15 يناير 2011م.
(<!--) نشرت في صحيفة الجزيرة، يوم السبت 9 ربيع الأول 1432هـ الموافق 12 فبراير 2011م.
(<!--) نشرت في صحيفة الجزيرة، يوم الخميس 14 ربيع الأول 1432هـ الموافق 17 فبراير 2011م.
(<!--) نشرت في صحيفة الجزيرة، يوم الثلاثاء 19 ربيع الأول 1432هـ الموافق 22 فبراير 2011م.