أنجال الزميل الخليوي أهاجوا لي الذكريات (<!--)
لك الله لا توقظ الذكريات *** وخل الأسى في الحنايا دفينا
قد تكون بعض ذكريات الإنسان مع أحبته وأصدقائه ساكنة ومقيمة في طوايا نفسه لا حراك لها، وفجأة يجيء لها باعث فتنهض منتبهة لأي سبب ما، وخاصة التي تقادم عهد رصدها وإيداعها في مستودعات الذاكرة، فبمجرد زيارة أبناء زميلي وصديقي الأستاذ الراحل عبدالله بن علي الخليوي ـ رحمه الله ـ ورؤيتي لهم مباركين لي بحلول عيد الفطر المبارك، فقد طوح بي الخيال إلى تصور شخصه في محيا كل واحد منهم وفي طليعتهم أبنه الشاب الدكتور/ خالد الشيخ الداعية الإسلامي المعروف عبر برنامج التلفاز...، فلم أتمالك دفع عبراتي فرحاً بوفائهم لي، ومتذكراً أيامنا الجميلة مع والدهم الذي رحل وطوته يد المنون عنا!! ، فما أحلى وفائهم لوالدهم بتواصلهم مع زملائه وأحبته، وكأنه يرحمه الله قد أوصاهم بالوفاء معهم حين أحس بدنو أجله بأن لا ينسوا أحبته متمثلاً بهذا البيت:
نبادله الصداقة ماحيينا *** وإن متنا سنورثها البنينا
ولقد سعدت برؤيتهم بمنزلي ، فكان كل واحد منهم يسارق النظر نحو محياي مستحضرين صورة والدهم وكأنه بجانبي في ذاك المجلس والشمل جامع لنا...!!
إن القلوب إذا صفت مرآتها *** وإن حجبت ترى بها منظورا
وكانت هواتفهم لا تني متواصلة معي طيلة الأعوام السالفة، وخاصة في مواسم الأعياد، وفي بعض المناسبات ـ فجزاهم الله عني خيرا ـ ورحم الله والدهم ووالدتهم التي لحقت به في هذا العام منذ شهور قلائل فأمسى منزلهما مظلما بعد ما خلا من شخصيهما، وهكذا طبع الليالي والأيام:
طبعت على كدر وأنت تريدها *** صفواً من الأقذاء و الأكدار
فلقد عشنا معاً متحابين ومتجاورين في المقاعد الدراسية بعد عودتي من دار التوحيد بالطائف، بداً من عام 1373هـ بالمعهد العلمي بالرياض حتى نلنا الشهادة العالية بكلية اللغة العربية عام 1378هـ، ونعتبر ثاني دفعة من الكلية، فلا نفترق إلا بعد انتهاء الحصص الدراسية اليومية، ومع ذلك يحصل التواصل في منازلنا وخاصة في أواخر الأسبوع في غالب الأيام..، وبعد التخرج تفرقت أجسامنا، وكل واحد من الزملاء أمسى تحت نجم كما يقال ممتطياً سفينة عمله في كثير من المواقع خارج مدينة الرياض، ومشتغلا بما وكل إليه من أعمال، فانقطع التواصل بيننا نسبياً وذلك لتباعد المواقع ووعورة الطرق - آنذاك -وقلة وسائل التواصل من هواتف ومراكب أرضية أي قبل أن تشرق شمس الحضارة المادية على ربوع هذا الوطن الرحب المناكب الحبيب إلى قلوبنا مرددين هذا البيت:
الدهر لائم بين ألفتنا *** وكذاك فرق بيننا الدهر
وبعد إنعام المولى على هذه البلاد بوفرة الخيرات والتوسع الحضاري في جميع جوانب الحياة والرفاهية أخذ يسهل التواصل والتقارب بين الناس وبين الزملاء والأصدقاء، وهذا من نعم الله ثم بجهود ولاة أمر هذه البلاد التي تنعم بالأمن والرخاء، ولقد ولد الزميل عبدالله الخليوي ـ أبو عبدالعزيزـ بمدينة الرس إحدى كبريات مدن القصيم وترعرع في أكنافها بين لداته وأقرانه حتى أكمل المرحلة الابتدائية فيها بتفوق، ثم شخص إلى مدينة الرياض عام 1371هـ للالتحاق بالمعهد العلمي مع لفيف من زملائنا أبناء مدينة الرس أمثال الأخوة: محمد بن صالح العميل، وعبدالله المحمد العقل، وعبدالله العبدالرحمن الرشيد، وعبدالعزيز المحمد الفواز (رحمهما الله ) وصالح الحمد المالك ، ومنصور البراهيم المالك، وناصر بن صالح العمري، وعبدالعزيز الصالح الرشيد، وعبدالله المحمد الرشيد، وغير من لم نستحضر اسمه الآن، وكل هؤلاء الزملاء الفضلاء من مدينة الرس، رحم الله الراحلين منهم وأسعد الباقين الحاضرين على قائمة الانتظار منا..! ، وبعد حصول الأستاذ عبدالله العلي على الشهادة العالية عام 1378هـ -كما أسلفنا -صدر قرار تعيينه مدرسا بالمعهد العلمي بالأحساء وظل هناك فترة من الزمن..، ثم انتقل إلى وزارة البترول المتربعة على شارع المطار القديم (شارع الملك عبدالعزيز بالرياض) واستمر في عمله حتى أنهى الخدمة النظامية بها ومكث بمدينة الرياض حتى توفاه الله في 30/5/1418هـ -رحمه الله -وكان محبوبا لدى زملائه ومعارفه لما يتحلى به من دماثة الخلق ولين الجانب، والتفاني في حبه للعمل، وإنجاز المعاملات التي تحال إليه، فطابعه المرونة والفهم للأنظمة المالية والإدارية مما كان سببا في نجاحه بتسيير أعماله بيسر وسهولة، ولنا مع (أبو عبدالعزيز) رتل من الذكريات الحبيبة إلى نفوسنا لا تغيب عن خاطري، ولا يمحوها تعاقب الملوين، فالمجال لا يتسع لذكرها كلها مثل جلساتنا لاستذكار الدروس في عدد من المساجد، وفي بعض الرحلات البرية وليالي السمر بها وما يتخللها من مساجلات شعرية، وتبادل الطرائف وأحاديث الفكاهة، وفي تسلق الجبال والآكام (أحياناً):
ويا ظل الشباب وكنت تندى *** على أفياء سرحتك السلام
ومما حز في نفسي وأبكاني رؤيتي له بالمستشفى المركزي بالرياض وهو في العناية المركزة وفي حالة حرجة، فوقفت عليه بعد إلحاح على حارس القسم بأن ألقي عليه نظرة وأدعو له، فقلت له وهو في شبه غيبوبة يصارع سكرات الموت: أنا زميلك عبدالعزيز الخريف فما كان منه إلا أن أومأ برأسه إيماءة مودع وتحسر، وكأنه يخاطبني من شدة حبه لي بهذا البيت الذي كله وفاء:
سأصفيك ودي في الحياة فإن أمت *** يودك عظمٌ في التراب دفين
رحمك الله أبا عبدالعزيز وتغمدك بواسع رحمته ومغفرته.
الأستاذ المبارك (أبو هشام ) ذكرى باقية (<!--)
رحلوا فأية عبرة لم تسكب *** أسفا، وأي عزيمة لم تغلب
كم هو مؤلم ومحزن فقد رفاق الصبا والصغر، وتواريهم عن أنظار أحبتهم في باطن الأرض!، فكلما فكر الإنسان في تلك الأيام الفارطة، والسويعات الجميلة التي قضاها أيام طفولته مع أولئك الزملاء ورفاق العمر فإنه قد يجهش بالبكاء، ولاسيما من كان ذا صلة بهم: قرابة أو جوارا، فحزنه يطول بتذكرهم كلما خلا بنفسه، ثم يأذن لشريط ذكرياته معهم وما قد جرى بينهم من تآلف وتواصل في تلك الحقب بعيدة المدى، وما يتخللها من مرح ومزاولة للألعاب المحببة إليهم ولأمثالهم في مسارح لهوهم ومراتع صباهم، ولاسيما في أوقات الآصال وفي أوائل الليالي المقمرة – أي قبل وجود المصابيح الكهربائية– وتعتبر تلك الفترة العمرية من أحلى أيامهم وأبقاها صدى بين جوانحهم ومسارب خواطرهم:
أيام كنت أناغي الطير في جذل *** لا أعرف الدنيا وبلواها
فمن أولئك الزملاء زميل الصغر الأستاذ الفاضل/ راشد بن عبدالله المبارك الذي سبقنا إلى مراقد الراحلين في 24/7/1420هـ -تغمده الله بواسع رحمته – فقد ظل فقده هاجس النفس منذ أن رحل عنا إلى الدار الباقية هو ومن سار على دربه من أحبه ورفاق درب، فغيابه أحدث فجوة واسعة وفاصلة في منظومة الزملاء والأصدقاء الذين سعدنا بصحبتهم ورؤيتهم بين حين وآخر، ولقد بدأ حياته الدراسية في إحدى مدارس الكتاب لتحفيظ القرآن الكريم وتعلم الخط بحريملاء لدى المقريء (المطوع) الشيخ محمد بن عبدالله الحرقان – رحمه الله – وفي أثناء تلك الفترة توفي والده عبدالله أحد أمراء حريملاء الأخيار، ومما هو جدير بالذكر أن والدنا الشيخ عبدالرحمن بن خريف – رحمه الله – قد رآه في المنام بعد وفاته – أي عبدالله- وكأنه في بستان نخل بحريملاء يسمى (سعادة) محتضنا قنوان تمر بأعلى النخلة فأثنى عليه فقال هذه الرؤيا بشرى خير له – يرحمه الله-، ثم طلب خاله الشيخ ناصر بن حمد الراشد الرئيس العام لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمكة المكرمة – آنذاك -حضوره هو وشقيقه مبارك فاحتضنهما داخل بيته واهتم برعايتهما – يرحمه الله – فألحقهما بالمدرسة الرحمانية حتى نالا الشهادة الابتدائية عام 1369هـ بعد ذلك ألحقهما بدار التوحيد بمدينة الطائف عام 1370هـ لعلمه بمتانة مناهجها في المواد الدينية واللغة العربية، ثم انتقلا إلى الرياض بعد افتتاح المعهد العلمي 1371هـ مع لفيف من الزملاء أمثال: سعد بن عبدالعزيز الصفيان، وعبدالعزيز بن صالح أبو حيمد، صالح بن سليمان الحميدى، وغير أولئك من الشباب، حتى نال الشهادة العالية بكلية اللغة العربية عام 1377هـ ويعتبر من الدفعة الأولى بها..، وقد حظي هو وزملاؤه بتكريمهم في حفل بهيج أقامه الرئيس العام لكليتي الشريعة واللغة العربية سماحة الشيخ المفتي محمد بن ابراهيم آل الشيخ وأخوه فضيلة الشيخ عبداللطيف برعاية جلالة الملك سعود -رحمهم الله جميعا -فاستلموا الجوائز من يد جلالته وهي عبارة عن ساعات يدوية ثمينة احتفظ كل واحد منهم بهديته تذكارا خالدا لذلك الحفل المميز الذي يدل على عناية ولاة أمر هذه البلاد بطلاب العلم وتشجيعهم، والفرح بتفوقهم حيث شد على أيديهم قائلا أنتم رجال الغد..، ثم عين مدرسا بالمعهد العملي بالرياض لمدة عامين، وبعد ذلك انتقل إلى جهاز وزارة المعارف موجها، ثم أعير مدرسا ضمن البعثة السعودية للجزائر عامي 1385-1386هـ، وبعد انتهاء مدة الإعارة عاد إلى نفس عمله بالوزارة، وأخيرا عين مديرا عاما للتعليم الأهلي – تعليم الكبار-حتى تقاعد وأخلد للراحة إلى أن توفاه الله – رحمه الله – كما كان عضوا فاعلا من أعضاء اللجنة الأهلية القدامى الذين تحقق الشيء الكثير من مطالباتهم الجهات العليا لتطوير مدينة حريملاء: مثل افتتاح المستشفى العام مبكرا وعدد من المدارس، والمعهد العلمي، والسد العملاق، والضمان الاجتماعي، والإسراع بمد الطريق صوب حريملاء بل وجميع متطلبات البلاد وما جاورها..، كل ذلك تحقق في ظل حكومتنا الجليلة الحريصة على تطوير المدن الصغيرة والأرياف لتقل الهجرة إلى أوساط المدن وتخفيف الزحام عنها ولقد أجاد الشاعر حيث يقول:
إذا الحمل الثقيل توزعته *** أكف القوم خف على الرقاب
كما كان – أبو هشام يرحمه الله– من المشجعين والمشوقين لي على الالتحاق بدار التوحيد بالطائف التي تعتبر أول مؤسسة علمية أسسها جلالة الملك عبدالعزيز واعتنى بطلابها – طيب الله ثراه – وأمله أن تخرج أفواجا متتابعة من العلماء والقضاة والخطباء في المساجد في كبريات المدن والأرياف، وقد اختار مدينة الطائف أن تكون مقرا لها رغم بعدها عن منطقة نجد لاعتدال جوها وطيب مناخها، ولأجل أن يبتعد الطلاب عن مشاغل أهليهم ليتفرغوا في النهل من حياض العلوم النافعة على أيدي نخبة مختارة من فطاحل علماء الأزهر، وبعض العلماء الأجلاء من الداخل..، كما أن طلابها يحظون برعاية خاصة واهتمام بالغ من جلالته، ولقد كان لنا مع الأستاذ الراحل راشد وشقيقه الأستاذ مبارك أجمل الذكريات وأمتعها حيث يتخلل تلك الفترة الزمنية رحلات متعددة ومسامرات أدبية تبهج النفوس وتصقل المواهب، فجونا في تلك الأزمان جو علم وثقافة، كما أن أبا هشام له باع طويلة في الخطابة والارتجال، أذكر جيدا اختياره لإلقاء كلمته أمام جلالة الملك سعود -يرحمه الله – في أثناء تشريفه لمدينة حريملاء عام 1374هـ، كما ألقى في تلك المناسبة السعيدة الشيخ محمد بن صالح بن سلطان وكيل وزارة الدفاع -آنذاك -كلمة ترحيبية ارتجالية ضافية نالت إعجاب الحضور – رحم الله الجميع –، كما عرف عن الأستاذ راشد الإخلاص والتفاني في أداء جميع الأعمال التي زاولها بكل جد ونشاط، فهو موصوف ببشاشة المحيا ولين الجانب وحب العمل الخيري.. ولئن غاب عنا أبو هشام فإن ذكره العاطر باقٍ في نفسي:
فإن تكن الأيام فرقن بيننا *** فلقد بان محمودا أخي ، يوم ودعا
رحمك الله أبا اسماعيل (<!--)
(الأخ ابراهيم بن عبدالله الزريعي رحمه الله)
وما المرء الا كالهلال وضوئه *** يوفي تمام الشهر ثم يغيب
الإنسان حينما تغرب شمسه عن الدنيا قد يحس بفقده، وغيابه الطويل الأبدي فيذكر، وينظر إليه من جوانب عدة، إما لعلمه أو لكرمه وإحسانه، أو لبذل جاهه ونفع من حوله نفعا لايضر بأحد..، فإن حبه وذكره الحسن يبقى في النفوس طويلا، "فأبو إسماعيل" إبراهيم بن عبدالله الزريعي الذي انتقل الى دار النعيم بعد منتصف ليلة الخميس 27/11/1431هـ -رحمه الله -قد وصف بالكرم وسماحة الخلق منذ فجر حياته، يألفه أقرانه، وأترابه، وجيرانه، وجميع من له صلة به..، وأذكر جيدا أنه لايجبن أمام كثرة من يؤم حريملاء "آنذاك" من زوار وضيوف وخاصة في مناسبات الأعراس والحضور برفقة المتزوجين رغم أنه متوسط الحال ماديا، ومع ضيق مجلسه إلا أن صدره أرحب، فالمنازل في سالف الأيام كلها طينية ومحدودة المساحة، فيقل من يستقبلهم لتناول القهوة لضيق مجالسهم، وعدم توفر لوازم القهوة، فأبو إسماعيل "يرحمه الله" يتشجع ويدعوهم لدخول مجلسه وإذا ضاق فرش ما تيسر من بسط وحصر أمام منزله، فهو بعمله هذا المشرف يمتص جزءا من وقتهم ريثما يحين وقت العشاء أو الغداء، فيعطي سمعة طيبة عنه وعن أهالي بلده، ولله در الشاعر حيث يقول:
وما الخصب للأضياف أن يكثر القرى *** ولكنما وجه الكريم خصيب
ولن تجود يد إلا بما تجد، وكرم النفس متأصل في شعاب نفسه حتى قبيل وفاته فإن مجلسه الداخل في مزرعته ـ دوما ـ عامر بحضور صحبه ورفاقه ومن يمر به..، وخاصة في أطراف النهار، وأوائل الليل، فيتخلل تلك السويعات سويعات الآصال والأماسي مسامرات وأحاديث مرحة وقصص طريفة، وكأن الذي يمر محاذيا تلك الخيمة ذات العماد، وقد خلت من صاحبها ومن جلسائه يتأوه حزنا موميا بمقدمة رأسه متمنيا رجوع تلك الليالي الجميلة، ولكن هيهات له رجوع من مضى لسبيله:
وليست عشيات الحمى برواجع *** عليك ولكن خل عيناك تدمعا!!
فحال الدنيا تجمع وتفرق وسرور يعقبه كدر وهكذا طبع الليالي..، ولقد درس في صغره القرآن الكريم وتعلم الخط والأملاء بإحدى مدارس الكتاب، وبعد ما كبر التحق بالمدرسة الليلية بحريملاء مسقط رأسه، بعد ذلك شخص إلى المنطقة الشرقية لطلب المعيشة فألفى على معالي الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن بن عدوان مدير المالية وممثل الحكومة لدى شركة أرامكو – آنذاك – فتوسم فيه الحيوية والنباهه فوجهه للعمل بخفر السواحل فأدى عمله بكل نشاط وإخلاص فترة من الزمن، ثم عاد الى مدينة الرياض فاشتغل في بعض المهن التي تدر عليه الخير الوفير، بعد ذلك استبد به الحنين الى مهوى رأسه حريملاء ثم عاد إليها فعمل بالبلدية وقتا من الزمن ثم انتقل الى فرع الزراعة حتى تقاعد، وكان محبوبا لدى زملائه في العمل لطيب عشرته، وحسن تعامله، وسلوكه مع الجميع، ومن طيب نفسه وحبه لعمل الخير أنه كان يلوح بالتبرع ببعض أعضاء جسمه..، عندما يدنو أجله المحتوم، ولكن تدهور حالته الصحية وتعدد أمراضه بعد وفاة شريكة حياته ورفيقة دربه أم أولاده التي رحلت عنه منذ عام تقريبا، فأصبح بعدها في عزلة يعاني وحشة الفراق، فلم يتسن له ذلك، فربنا كريم يجازيه بما نوى، فالأعمال بالنيات، وكنا نحاول تسليته لتخفيف ما بداخله وبين جوانحه من لوعات الفراق مكررين على مسمعه هذا البيت:
فلاتبكين في إثر شيء ندامة *** اذا نزعته من يديك النوازع !
ولنا معه ذكريات لاتنسى وأجملها صحبتنا له في مواسم القنص والصيد، وكان ولوعا بحب الرحلات والصيد ليلا للأرانب قبل صدور قرار المنع..، فكنت أذهب معه لنشاركه متعة الصيد في غابات شعيب حريملاء وفي شعيب الحيسية المتاخم له، فهو ملاح حاذق في طرد الأرانب، فأشفق عليه لتخفيف السرعة مذكرا له بقول الشاعر العربي:
إذا كان رأس المال عمرك فاحترز *** عليه من الإنفاق في غير واجب
ولقد حزن الكثير من رفاقه ومحبيه على فراقه وإضجاعه بعيدا عنهم في باطن الأرض إلى نهوض جميع الخلائق ليوم الحساب، والعزاء في ذلك أنه قد خلف ذرية صالحة وذكرا حسنا:
وإنما المرء حديث بعده *** فكن حديثا حسنا لمن وعى
رحم الله أبا إسماعيل وألهم ذويه وأبناءه وبناته ومحبيه الصبر والسلوان. (إنا لله وإنا إليه راجعون).
الى رحمة الله: أيها الجليس الأنيس(<!--)
(الأخ / إبراهيم بن عبدالله الشبانات رحمه الله)
ذهب الذين تكملوا أجالهم *** ومضوا ، وحان من أخرين ورود
الإنسان السوي في هذه الحياة مدني بالطبع لا تتم سعادته إلا بمحادثة ذوي العقول الراسخة، وبصحاب ورفاق درب يأنس بهم ويأنسون به، فبينما كنت منسجما في حديث مع أحد الزملاء إذا برنين هاتف الأخ الفاضل/ عبدالله بن صالح الخنيني معزيا في صديقنا وحبيبنا الأخ الكريم/ إبراهيم بن عبدالله الشبانات (أبو عبدالعزيز) الذي لبى داعي المولى يوم الأحد 16/11/1431هـ، وكان لذاك البنأ وقع مؤلم ومحزن في نفسي لما له من مكانة عالية في قلبي وفي قلوب محبيه، ولقد أحدث غيابه عن ساحة مجالس رفاقه وجيرانه فراغا واسعا لما يتمتع به من طلاقة محيا، ولطافة في إيراد الأحاديث الشائقة والقصص الطريفة التي تعمر المجالس والمنتديات الادبية التي تثري حصيلة سامعيها، وخاصة الناشئة من الشباب لما يطرح فيها من قصص وعظات وعبر عن الأقدمين، وما جرى في تلك الحقب البعيدة من أحداث وأهوال ترسم صورا في مخيلاتهم لأولئك، وكأنهم قد عاشوا بينهم، فالأحاديث اللطيفة تقرب للأذهان ما بعد...، ولقد ولد-أبو عبدالعزيز يرحمه الله -في بلده روضة سدير، وترعرع في أكنافها بين أحضان والديه، وعند بلوغه السابعة من عمره ألحقه والده بأحد الكتاب، ومشاطرا لوالديه في مزاولة بعض الأعمال التي تهمهم ماديا وتكسبه الخبرة، والتعود على تحمل المسئولية في قابل الأيام، وبعد برهة من الزمن شخص إلى مدينة الرياض وعمل فنيا بشركة الكهرباء بكل جد ومهارة وإخلاص حتى تقاعد، وكان لبقا ولطيفا في تعامله مع الأخرين، محبوبا لدى جيرانه وعارفيه..، وكان لي معه بعض الذكريات في كثير من المناسبات وخاصة ما يدور بيننا من مداعبات خفيفة حول ما بداخل مكتبة نجله الأكبر الأستاذ/عبدالعزيز (دار عالم الكتب للطباعة والنشر) التي تحتضن الكثير من نفائس الكتب قائلا له سأقوم بهجوم غير مسلح عليها ولا أستغني عنك في الحصول على مفاتيحها إذا نام وعلق ثوبه فقال لك ذلك، فهو لين العريكة سمح المحيا، ومما حز في نفسه أن فاجأه المرض قبل وفاته بشهور فأقعده رهن منزله فعز عليه مفارقة مجالس صحبه وجيرانه وجماعة مسجده، فحينما علم أصحابه وجيرانه بما حل به تأثروا كثيرا، فأخذوا يتقاطرون على منزله للاطمئنان على صحته فوجدوه صابرا محتسبا راضيا بقضاء الله وقدره فيأنس بحضورهم متناسيا ما يكابده من آلام ومتاعب جمة موغلة في جسمه، وبداخل طوايا نفسه، فإذا هموا بالانصراف عنه أخذ يتابعهم بنظرات ملؤها الحزن واليأس، وكأنها نظرات مودع...؛ لأنه يتوقع حضور شعوب إليه في كل لحظة لما يحس به من آلام شديدة تجنها أضلاعه، ولايدري ما الله صانع فيه حينما ينزله أحبابه وأبناؤه في لحد من الأرض، ثم يتركونه وحيدا بعيدا عنهم وعن أسرته ورفاقه، وكان آخر لقائي به في ليلة الأحد 16/10/1431هـ، أي قبل وفاته بشهر بقصر الرياض للاحتفالات في مناسبة زواج إحدى كريمات الدكتور/ وليد بن محمد الشباني على الشاب عبدالعزيز بن محمد العجاجي، وقد حضره مشاركا في أفراحهم (وهو جد للعروس) تجملا ووفاء، ولقد حاولت أن أملأ عيني من محياه البشوش خشية أن لا أراه بعد تلك الليلة مستحضرا هذا البيت:
خذا الزاد ياعيني من نور "وجهه" *** فما لكما فيه سوى اليوم منظر!
تغمده الله بواسع رحمته، وألهم ذويه وأبناءه وبناته وإخوته وزوجته(أم عبدالعزيز) وجميع محبيه الصبر والسلوان(إنا لله وإنا اليه راجعون).
الصديق حمد بن عبدالرحمن المبارك وسيرته الحسنه(<!--)
حبيبٌ عن الأحباب شطت به النوى *** وأي حبيب ما أتى دونه البعدُ !
إن الإنسان بطبيعته حينما يخلد إلى الراحة بعيدا عن الهموم وعن مشاغل الحياة، قد يخطر بباله ذكر محاسن بعض أحبابه ورفاقه، وما يتبع ذلك من مواقف طريفة، وذكريات حبيبة إلى قلبه، فيحلو له أن يمررها بخاطره تلذذاً بذكر الماضي البعيد التي رصدت فيه وتصورت في مُخيلته، فهي تعتبر من ساعات العمر التي يضئ سناها أغوار النفس سطوعا وإشراقا، ويتمنى لو عادت تلك الأيام ولياليها، ولكن عودُها متعذر حتما...، فيحسن بالمرء أن يعزي النفس عزاء جميلا، فمن أولئك الأحبة الذين غابوا عنا وأضمرتهم الأرض وسكنوا باطنها الأخ الحبيب إلى قلوبنا حمد بن عبدالرحمن المبارك – أبو عبدالله – الذي رحل عن الدنيا إلى الدار الباقية في 12 ربيع الأول عام 1408 هـ رحمه الله.
فلقد كان لفقده بالغ الحزن والأسى في نفسي، وفي نفوس أسرته وأهله أسفا على بعده عنهم، فهادم اللذات لا يني في انتزاع من تناهت مدته في الدنيا، وهذه سنة المولى في خلقه ، ولكن النفوس جبلت على إسبال العبرات حزنا على فقد غاليها من والدين وأبناء و أخوة...، فمنذ سنوات ليست بعيدة كان (أبو عبدالله) دالهاً مغتبطاً بصحبة أحبته ورفقته، يقضون ساعات فراغهم في تجاذب أطراف الأحاديث الشائقة، وفي المطارحات والمساجلات الشعرية، وتعتبر تلك الجلسات الممتعة من أجمل ساعات العمر وأيامه المشرقة في نفوسهم، ففاجأه مرض قطع آماله في الحياة..، وقد فارقهم فراقا أبديا مقيما وحيدا في لحد من الأرض مجاورا قوما رقوداً لا حراك بهم ولا تزاور بينهم.
وقد درس – أبو عبدالله – كأمثاله بالكتاب مبكرا بمهوى رأسه بمدينة حريملاء، فلما ختم القرآن الكريم على يد المقرئ الشيخ محمد بن عبدالله الحرقان، فكر في طلب المعيشة رغم حداثة سنه فلم ير بداً من السفر إلى مكة المكرمة في طريقه صوب مدينة الوجه المطلة على ساحل البحر الأحمر، فعمل بالإمارة هناك عام1360 هـ عند أحد أعمامه الأمير علي بن عبدالله المبارك فلما لمس في أعطافه الذكاء والفطنة عينه كاتبا في مكتبه الخاص فاستفاد من توجيهات الأمير وإيماءاته مما أكسبه حذقا وحنكة ومرونة..، ثم تنقل في عدة مناصب و إمارت منها: أملج عام 1362هـ ثم في ضبا و القنفذه، ثم إمارة نجران بعد ذلك عاد إلى الرياض فالتحق بالمعهد العلمي حيث نال شهادة الكفاءة بتفوق صادق عليها سماحة المفتي الشيخ محمد بن إبراهيم، ثم ابتعث للدراسة في جمهورية مصر العربية، وتخرج من معهد الإدارة بالقاهرة بمستوى مرتفع مما عزز حصيلته العلمية، واتساع أفاق المعرفة والثقافة لديه...، ثم عمل بوزارة المالية، ثم إدارة المراقبة المالية، وانتقل بعد ذلك مديرا عاما لإدارة المعاهد والكليات العلمية تحت رئاسة سماحة مفتي الديار السعودية الشيخ محمد بن إبراهيم ونائبه الشيخ عبداللطيف بن إبراهيم آل الشيخ – رحمهم الله جميعا – وكان محل الثقة لديهما لحسن تسيير العمل، وتذليل ما قد يعترضه من عقبات، وما قد يحصل بين الطلاب ومعلميهم، فيحل ذلك بسهولة ورضى الجميع..، فهو رجل محنك عركته الحياة عبر المناصب التي تربع عليها في مواقع كثيرة بجدارة، وحسن تعامله مع الأخرين، وكأني بلسان حال كل أصحاب المدن التي عمل بها حينما رحل عنهم إلى مواقع أخرى، يتمنون طول إقامته بينهم لطيب عشرته وإخلاصه في أعماله المنوطة به، وتواضعه الجم واحترامه للصغير والكبير...، فمن يمر بموقع عمله وقد رحل عنه يردد في خاطره معنى هذا البيت:
يعزُ علي حين أدير عيني *** أَفتش في مكانك لا أراكا
كل ذلك حبا له وأسفا على مفارقته ذاك المكتب الذي ألفوا رؤيته فيه وهو ينجز أعمال المراجعين بكل مرونة وبوجه بشوش، ثم تم نقله إلى إمارة منطقة الرياض بموافقة صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبدالعزيز – حفظه الله -وذلك بعد موافقة سماحة المفتي -آنذاك -الشيخ محمد بن إبراهيم – رحمه الله – وذلك في غرة ربيع أول عام 1382 هـ مديرا لمكتب سموه، ثم مديرا عاما لديوان الإمارة. وأخيرا صدر أمر من وزير الداخلية بتعيينه رئيسا لبلدية حائل رغبة في تطوير المدينة وما حولها إلى أن تقاعد عام 1399هـ وفعلا كان له أثر مشرف ونشاط ملحوظ في ارض الجبلين (أجا وسلمى).
فقد بدأت آثار التطور في أنحاء المدينة بتدرج، وإيجاد بعض المشاريع الهامة في تلك الفترة الوجيزة التي قضاها في ربوع منطقة حائل، كما أن له بصمات خير وبركة في تلك المواقع التي سعد بالخدمة فيها، وعلى سبيل المثال لا الحصر مشاركته في تأسيس جمعية البر بجانب رجل البر والإحسان صاحب السمو الملكي أمير منطقة الرياض الأمير المحبوب سلمان بن عبدالعزيز متعه الله بالصحة ولباس العافية. كما لا أنسى تفضله عليّ بتحرير إخلاء طرفي من إدارة المعاهد والكليات بعد إقناع فضيلة الشيخ عبداللطيف بن ابراهيم -يرحمه الله -حيث رشحت مديرا لمعهد المعلمين بحريملاء وافتتاحه عام 1379هـ بطلب من الأستاذ الراحل ناصر بن حمد المنقور (رحمه الله) مدير عام وزارة المعارف -آنذاك -لندرة الجامعيين في تلك الأعوام، ولي مع (أبو عبدالله) ذكريات جميلة باقية في مضمر النفس مدى الأيام، ومع بعض أصدقائه الأستاذ راشد بن عبدالله المبارك (يرحمه الله) وشقيقه الأستاذ مبارك، والأستاذ ناصر بن محمد العمراني، والأخ عبدالعزيز بن مهيزع (أبو عبدالقادر) ولفيف من الصحب، وكنا نقضي شطرا من أوقات فراغنا في تبادل الزيارات، والأخذ بأطراف الحديث في موضوعات شتى، وأحيانا نقوم ببعض الرحلات القصيرة في أحد جوانب مدينة الرياض أو في شعيب حريملاء الحافل بأشجار الطلح الظليلة للترويح والاستجمام وراحة البال في أثناء دراستنا بالمعهد العلمي وكليتي الشريعة واللغة العربية، فجونا في ذاك الزمن جو فرح ومرح:
(زمن) صحبت به الشبيبة والصبا *** ولبست ثوب العمر وهو جديد
والموجب لكتابة هذه الكلمة الوجيزة اطلاعي على ما كتب عن سيرته العطرة الذاتية بمجلة إمارة الرياض في العدد 10 / رمضان وشوال عام 1431هـ فقد أهاجت لي الذكريات معه وتذكر أيامنا الجميلة بصحبته (غفر الله له).
<!--[if !supportFootnotes]--><!--[endif]-->
(<!--) نشرت في صحيفة الجزيرة، يوم الأربعاء 27 شوال 1431هـ الموافق 6 أكتوبر 2010م.
(<!--) نشرت في صحيفة الجزيرة، يوم السبت 22 ذوالقعدة 1431هـ الموافق 30 أكتوبر 2010م.
(<!--) نشرت في صحيفة الجزيرة، يوم الأحد 8 ذوالحجة 1431هـ الموافق 14 نوفمبر 2010م.
(<!--) نشرت في صحيفة الجزيرة، يوم الثلاثاء 24 ذوالحجة 1431هـ الموافق 30 نوفمبر 2010م.
(<!--) أرسلت للنشر في صحيفة الجزيرة، يوم الجمعة 20 ذوالحجة 1431هـ الموافق 26 نوفمبر 2010م.