بقلم د.علاء بسيوني
تعد مشكلة التوزيع من أبرز وأخطر المشكلات الاقتصادية التي واجهتها المجتمعات قديماً وحديثاً شرقاً أو غرباً نظراً؛ لغياب أو صعوبة العثور على معيار عام "عادل" أو "كفء" للتوزيع، والرغبة في تكوين الثروة الخاصة. ويهدف الاقتصاد الإسلامي إلى توفير حد الكفاف المعيشية لكل من يعيش تحت مظلته مسلماً كان أو ذمياً، لذلك فإن التوزيع في الاقتصاد الإسلامي يقوم على أساس توفير الحاجات الأساسية للفرد كإنسان؛ أي ضمان حد الكفاية بغض النظر عن أدوات أو أشكال الإنتاج السائدة، ثم بعد ذلك يكون التوزيع بحسب الأوضاع الاقتصادية السائدة. وفيما يلي عرض لأهداف التوزيع في الاقتصاد الإسلامي ومراحله.
أولاً: أهداف التوزيع في الاقتصاد الإسلامي:
يمكن القول إن عدالة التوزيع في الاقتصاد الإسلامي تقوم على المرتكزات التالية:
<!--تأمين حد الكفاية لجميع أفرد المجتمع: فضمان حد الكفاية لكل فرد يعيش في المجتمع المسلم أيا كانت ديانته، هو في الإسلام أمر جوهري، ففي غير الحالات العادية يتساوى الجميع من حيث توفير حد الكفاية، وما فوق ذلك يكون لكل تبعاً لعمله وجهده. فهو إلى جانب تقليل الفوارق بين الطبقات وتحقيق التكافل الاجتماعي الذي يساعد على تحقيق مستوى معين من الطلب الكلى يساهم في استمرار النمو واستقراره، وتوسط نسق الاستهلاك.
<!-- حصول كل من ساهم في العملية الإنتاجية على قيمة ما قدمه من خدمات: ويتم ذلك من خلال تحديد أسعار هذه الخدمات من خلال تفاعل قوى العرض والطلب على هذه الخدمات في السوق الحرة. ويلاحظ أن ضمان الحرية في السوق مرتبطة بعدد من العناصر منها تطبيق القيم الإسلامية التي تحد من الاحتكار بجميع أشكاله الظاهرة والمستترة، وتحرم الغش والغبن في المعاملات بأنواعها المختلفة، ورقابة ولى الأمر المستمرة على السوق من أجل تصحيح أي انحراف، يضاف إلى ذلك التراضي بين المستخدمين لخدمات الإنتاج وأصحابها، والبعد عن مصادر الكسب الحرام بجميع أشكاله، كل ذلك يضمن اقتصادياً ارتباط أنصبة خدمات الإنتاج بإنتاجيتها في كل المجالات، ويضمن أيضاً تحقيق الكفاءة والعدالة في توزيع الدخل بين أفراد المجتمع.
<!--تأمين التوازن الاجتماعي: يستهدف الإسلام حفظ توازن واستقرار المجتمع، لذلك فهو لا يسمح بطغيان فئة على أخرى، أو تمتع فئة من فئات المجتمع بالغنى الفاحش، وفئات أخرى لا تجد ما تسد به رمقها وذلك على كافة المستويات، لذلك فإن للإسلام مفهومه الخاص للتفاوت أي أنه متى توفرت الفرصة المتكافئة للعمل واكتساب الثروة، ومتى تم ذلك في ضوء الاعتبارات الموضوعية المعترف بها فإنه يقرر قيام التفاوت في الدخول والأجور والثروات.
<!--تشغيل طاقات وموارد المجتمع بالصورة المثالية التي تحقق أكبر مصلحة ممكنة للمجتمع: ومعنى ذلك عدم ترك مورد مالي معطل، وعدم ترك طاقة بشرية عاطلة، ولتحقيق ذلك احتوى هيكل التوزيع الإسلامي على كل من الملكية العامة والملكية الخاصة واحتوى على قيام المشروعات العامة والمشروعات الخاصة.
ثانياً: مراحل عدالة التوزيع في الاقتصاد الإسلامي:
من أجل توفير حد الكفاية لجميع أعضاء المجتمع وتحقيق العدالة في التوزيع يمر التوزيع في الاقتصاد الإسلامي بثلاثة مراحل هي على النحو التالي:
المرحلة الأولى: توزيع ما قبل الإنتاج: تكون قبل العملية الإنتاجية من خلال عدالة توزيع الموارد الاقتصادية وإمكانيات الإنتاج.
المرحلة الثانية: مرحلة التوزيع الوظيفي: تتم أثناء العملية الإنتاجية وفيها يتم تحديد أنصبة عوائد عوامل الإنتاج التي شاركت في العملية الإنتاجية.
المرحلة الثالثة: مرحلة إعادة التوزيع: فيها يتدخل الإسلام بتشريعه لمجموعة من التنظيمات لإعادة توزيع الدخل والثروة بين أعضاء المجتمع، بقصد تحقيق التوازن بين أفراد الجماعة، وتغطية احتياجات التضامن الاجتماعي.
وفى ظل هذه المراحل مجتمعة يحرص الإسلام على نوع أخر من التوزيع هو عدالة توزيع الموارد والثروة بين الأجيال. وفيما يلي تفصيل لهذه المراحل.
المرحلة الأولى: توزيع ما قبل الإنتاج (عدالة توزيع الموارد):
تعد مسألة توزيع عناصر الإنتاج أو ملكية الأموال الإنتاجية من أهم المرتكزات التي ميزت الاقتصاد الإسلامي عن الاقتصاد الوضعي. فالاقتصاد الإسلامي أقام فلسفة الملكية على مبدأ عام وهو أن المال مال الله والبشر مستخلفون فيه، وأباح لكل فرد من أفراد المجتمع حرية الاستفادة من الموارد الاقتصادية غير المستغلة التي جعلها الله سبحانه وتعالى مباحة للبشر ككل بشرط أن يأخذها بحقها ويؤدي حقها، ومن ثم يستطيع أي شخص من أفراد المجتمع الحصول على نصيبه العادل منها، مما يؤدي إلى عدالة توزيع الموارد الاقتصادية بين أعضاء المجتمع.
المرحلة الثانية: مرحلة التوزيع الوظيفي (توزيع الدخل بين عناصر الإنتاج):
تتم أثناء العملية الإنتاجية وفيها يتم تحديد أنصبة عوائد عوامل الإنتاج التي شاركت في العملية الإنتاجية، وفي ذلك تقوم نظرية الاقتصاد الإسلامي على مكافأة عناصر الإنتاج على قدر مساهمتها في العملية الإنتاجية بما يشجعها على المساهمة في العملية الإنتاجية قدر الإمكان، ويحقق مصلحة الأفراد والمجتمع وهو ما اصطلح على تسميته بالتوزيع الوظيفي.
ويقوم توزيع الدخل بين عناصر الإنتاج في الاقتصاد الإسلامي على أساس أن جميع عوامل الإنتاج سوف تحصل على نصيب عادل من الدخل الذي يتولد من النشاط الاقتصادي طبقاً لتفاعل قوى السوق. هذا وتكون حصة كل عنصر من عناصر الإنتاج عادلة للاعتبارات التالية:
<!--أن السوق الإسلامية سوق تنافسية لا تعرف الاحتكار ولا الضغوط ولا الإكراه ولا التسعير المجحف، وبالتالي فإن العامل سيبيع جهده لمن يعطيه أفضل أجر أو عائد، وكذلك مالك الأرض وصاحب المال.
<!--أن هذه السوق منضبطة؛ فلا مجال للغش أو التدليس أو أي صورة من صور الخداع التي تنتقص بها الحقوق.
<!--يوجد رقابة على تصرفات المتعاملين في السوق، ويحتكم إلى الضوابط والعرف عند الخروج عليها.
<!--أن صاحب السوق (أي المحتسب) يقضى للمتضرر عند النزاع بأجر أو عائد المثل أو ثمن المثل، وهي معاوضات عادلة مستقاة من الواقع السائد في السوق في الأحوال العادية، بل ويراعى فيها عدم الشطط والوكس فلا إجحاف بأحد تحقيقاً لقوله تعالى: {وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} (الأعراف آية 85).
وهذا يعني أن توزيع عوائد الإنتاج على عناصر الإنتاج المشتركة في تحقيقه يتم بناء على قوي السوق، ووفقاً لظروف العرض والطلب والتراضي والاختيار، ويحقق العدالة في التوزيع تبعاً لدور كل عنصر وأهميته في العملية الإنتاجية، وذلك كما يلي:
<!--العدالة في تحديد مكافأة عنصر العمل:
اهتم الإسلام بالعمل سواءً كان ذهنياً أو يدوياً، ويقدر العمل المثمر ويحث عليه، ويبارك الجهد المبذول، ويكره البطالة والسؤال من غير تعب، بل ويحرم الاستجداء لغير حاجة، ويحث أيضاً على إنصاف العامل وعدم بخسه حقه وفيما يلي أهم القواعد الشرعية الخاصة بعدالة تحقيق مكافأة العمل:
<!--يشترط أن يكون الأجر محدداً أو معلوماً لطرفي المعاملة: لقوله ﷺ: «لا يُسَاوِمِ الرَّجُلُ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ، وَلا يَخْطُبْ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ، وَلا تَنَاجَشُوا، وَلا تَبَايَعُوا بِإِلْقَاءِ الْحَجَرِ، وَمَنِ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَلْيُعْلِمْهُ أَجْرَهُ»(<!--) وإذا قام شخص بعمل لآخر دون تسمية الأجر فإنه يستحق أجر المثل عند التنازع. فمن العدالة أن يتحدد بأجر المثل، والذي يتحدد بالنظر إلى شخص مماثل للأجير في ذلك وإلى زمان الإجارة ومكانها لأن الأجرة تختلف باختلاف الأعمال والأزمنة والأماكن، ولو اتفق الطرفان على خلاف أجر المثل فهذا جائز طالما في ظل التراضي الكامل بينهما، وعلى ذلك فإن أجر المثل يظهر أثره في حالة الخلاف بين العامل وصاحب العمل على تحديد الأجر أو عند قيامه بالعمل دون تسمية الأجر سلفاً أو محاولة أحد طرفي العقد التأثير على رضا الآخر.
<!--يتحدد الحد الأدنى للأجر بما يكفى الحاجات الأساسية للعامل طبقاً للبيئة التي يعيش فيها؛ ويسترشد في ذلك بقول الرسول ﷺ (مَنْ وَلِيَ لَنَا عَمَلًا وَلَيْسَ لَهُ مَنْزِلٌ، فَلْيَتَّخِذْ مَنْزِلًا، أَوْ لَيْسَتْ لَهُ زَوْجَةٌ فَلْيَتَزَوَّجْ، أَوْ لَيْسَ لَهُ خَادِمٌ فَلْيَتَّخِذْ خَادِمًا، أَوْ لَيْسَتْ لَهُ دَابَّةٌ، فَلْيَتَّخِذْ دَابَّةً، وَمَنْ أَصَابَ شَيْئًا سِوَى ذَلِكَ فَهُوَ غَالٌّ)(<!--) بأن المعتبر في تحديد الأجور هو حد الكفاية، بمعنى أن يحدد الأجر بما يكفى الحاجات الأساسية للعامل طبقاً للبيئة التي يعيش فيها، وذلك يمثل الحد الأدنى للأجر الذي يجب أن لا يقل عنه بأي حال من الأحوال، أما حده الأعلى أو الأمثل فيسترشد في تحديده بقول الرسول ﷺ؛ (فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ، وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ، فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ)(<!--) أي يتحدد الأجر بما يكفل للعامل الحاجات الأساسية طبقاً للبيئة التي يعيش فيها صاحب العمل أي أن تكون استفادة العامل من عمله كاستفادة صاحب العمل، وما بين الحد الأدنى والحد الأعلى يخضع لظروف العرض والطلب.
<!--التعجيل بدفع الأجر وعدم المماطلة: يتم دفع الأجر بمجرد الفراغ من العمل لقوله ﷺ «أَعْطُوا الْأَجِيرَ أَجْرَهُ قَبْلَ أَنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ»(<!--)، وما ورد في الحديث القدسي: قَالَ اللَّهُ تعالى ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُعْطِه أَجْرَهُ "(<!--) وبالتالي فكلما استوفى صاحب العمل جزءًا من المنفعة جاز للعامل المطالبة بأجره عن ذلك، لكن لما كانت المنفعة عرض لا يبقى زمانين لذلك ليس له المطالبة بالبدل إلا بمضي منفعة مقصودة كاليوم ونحوه، وهذا يعنى أن تدفع الأجور عن مدة لها وقع في الزمن كاليوم أو الأسبوع أو الشهر بما يوفر على المشروع الجهد والتكلفة لاحتساب الأجور ودفعها وبما يوفر للعامل المال اللازم لقيام حياته بصورة عادلة.
<!--العدالة في تحديد مكافأة عنصر رأس المال:
لا شك أن المال ضرورة من ضروريات الحياة التي لا غنى للإنسان عنه، وهو من المقاصد الخمسة التي جاءت الشريعة الإسلامية لتحافظ عليها كمصالح عليا للإنسان. فالمال به يشبع الإنسان حاجاته الضرورية والحاجية والتحسينية. ورأس المال نوعان: رأس مال إنتاجي (عيني)، رأس مال نقدي. وتتحدد مكافئة كلا منهما كما يلي:
<!--رأس المال الإنتاجي الثابت مثل الآلات والمعدات؛ يمكن أن يؤجر فيحصل على أجر، وذلك لأنه عين يمكن استيفاء منفعتها مع بقاء عينها، لأن كل شيء عيني مالاً يمكن استيفاء منفعته مع بقاء عينه فإنه يجوز تأجيره. ويعنى ذلك أن المشروع الإنتاجي كما يمكنه أن يستأجر العمل يمكنه أن يستأجر الآلات والمعدات ويعطى لكل منهما أجراً أو أجرة محددة ثابتة. كما يمكن أن يدخل رأس المال الإنتاجي مشاركة في المشروع نظير حصة متفق عليها من الناتج(الأرباح).
<!--أما رأس المال النقدي: فله الحق في المشاركة في المشروع نظير الحصول على نصيب حصة شائعة من الأرباح وتحمل نصيب من الخسائر (ليس على فائدة لأنها محرمه)، كما هو الحال في صاحب رأس المال في المضاربة، وكذلك الشركاء في شركات الأموال، ولا يحق لصاحب رأس المال النقدي أن يحصل على أجر نظير رأسماله، حيث أن النقود لا يمكن استيفاء منفعتها دون استهلاكها وذهاب عينها. ويتم ذلك طبقاً لتفاعل قوى السوق، لأن الإسلام لا يتدخل لتحديد أنصبة العناصر المشتركة في الإنتاج، وإنما ترك تحديد هذا تعاقدياً بين الأطراف ومن ثم فإن تحديد مكافأة عنصر رأس المال تتم بصورة عادلة.
<!--العدالة في تحديد مكافأة الأرض:
جعل اللَّه سبحانه وتعالى الأرض صالحة لقيام الحياة عليها بما أودعه فيها من موارد وقوى طبيعية تتيح للإنسان استغلالها والانتفاع بها. والأرض هي التربة أو سطح الأرض، كما تشمل الموارد الطبيعية التي لم تتدخل فيها يد الإنسان وجهوده، ومقابل استخدام الأرض في العملية الإنتاجية يحصل مالكها على الريع (نسبة من العائد المتولد عن استخدامها في العملية الإنتاجية) يتحدد في ظل قواعد السوق الإسلامية السابقة.
كما يمكن أن يحصل مالك الأرض على الإيجار إذا قام بتأجيرها للزراعة أو غير ذلك ويحصل في نظير ذلك على عائد محدد سلفاً، لأنها عين يمكن استيفاء منفعتها مع بقاء أصلها، وتحصل على الريع إذا قدمها صاحبها لا على سبيل الإجارة وإنما على سبيل الحصول على جزء مما يتحقق من العائد مثل المزارعة، وذلك على أن يكون نسبة شائعة من العائد وليس عائد قطعة معينة من الأرض. ومن دقة العدالة في تحديد مكافأة الأرض يعترف الاقتصاد الإسلامي باختلاف القدرة الإنتاجية للأرض على إنتاج المحصول الواحد، وعلى إنتاجها أكثر من محصول، ويرجع ذلك إلى مجموعة من العوامل منها؛ خصوبة التربة، وطريقة الري، وموقع الأرض من الأسواق، ونوعية المحصول الممكن زراعته فيها.
المرحلة الثالثة: إعادة التوزيع (التوزيع التوازني):
هذه هي المرحلة الثالثة والأخيرة من مراحل التوزيع في الاقتصاد الإسلامي، والإجراء الذي ينظمه الإسلام هنا يهدف إلى تحقيق التوازن بين أفراد الجماعة الإسلامية، ويحدد مسؤولية الدولة باعتبارها ممثلة للجماعة الإسلامية، هذا ويرجع تسمية هذه المرحلة بالتوزيع التوازني على أساس ما يلي:
<!--أن المجتمع الإسلامي قد لا يملك كل ما يكفيه بمفهوم الكفاية، ولهذا يكون التوزيع المستهدف إسلامياً هو التوازن في حدود ما هو متاح من الموارد.
<!--أن المجتمع الإسلامي قد يملك موارد واسعة، وعلى أساس هذه الملكية الواسعة يكون المطلوب من التوزيع هو: تحقيق التوازن بين أفراد الجماعة الإسلامية، وليس مجرد توفير حد الكفاية.
<!--أن التوازن يتضمن معنى القصد فيه، بمعنى أنه لا يحقق نفسه، وإنما يحقق بالقصد من الأفراد، أو السلطة الممثلة للمجتمع، ولهذا يكون فيه معنى التضامن.
ويعد أهم البنود التي يستخدمها الاقتصاد الإسلامي في تحقيق التوزيع التوازني بين أفراد المجتمع ما يلي:
<!--الزكاة: إن هذه الفريضة الإسلامية الإجراء الأولي لمواجهة الاختلال في الجماعة الإسلامية، وأنه يتحقق فيها شروط الشمول فيمن تجب عليه وفيمن تجب له ممن يكون مستحقا لها وفيما تجب فيه، وأن الهدف من الزكاة هو؛ توفير حد الكفاية لكل فرد في الجماعة، ولكنها بسبب ظروف ما قد لا تستطيع توفير أو تأدية هذا الغرض، ولهذا تكمل بإجراءات أخرى.
<!--موارد ذات طبيعة خاصة: تشمل النفقات الواجبة، والوقف، والموارد الأخرى المماثلة، وزكاة الفطر، والأضحية، والكفارات والنذور. وأهم الاتجاهات التي يهمنا تسجيلها هنا بخصوص هذه الموارد هي:
<!--أن مسؤولية مواجهة التضامن الاجتماعي تبدأ من اللبنة الأولى وهي الأسرة.
<!--أن الوقف يتضمن موارد دائمة لمواجهة التضامن الاجتماعي.
<!--أن المنحى الفلسفي لموقف الإسلام من تشريع كفارات مالية، تكفيراً عن بعض التصرفات الخاطئة دينياً هو منحى متميز ومتفرد، إذ يجعل علاج بعض الأخطاء هو التكفير عنها ببذل بعض المال ووضعه في خدمة التضامن الاجتماعي للجماعة الإسلامية.
<!--أن هناك مناسبات معينة، ترتفع فيها الضرورة إلى سد حاجة المحتاج، ومن هنا شرع الإسلام موارد خاصة لهذه المناسبات مثل زكاة الفطر.
<!--صدقة التطوع: وأهم ما يعنينا منها أنها لمواجهة الطوارئ في الجماعة الإسلامية، وأنها تستهدف تكملة المرحلة السابقة. ونؤكد على أن أهم ما فيها:
<!--أنها لا تعني القعود عن العمل.
<!--أنها تعطي الفرصة لإظهار ذاتية المؤمن الخيرة.
<!--أنها لا تمس جوهر التشريع القائم على مواجهة التضامن الاجتماعي بإجراءات منظمة، ومن قبل سلطة محددة، وليس بإجراءات تنبني على التعميم.
<!--التوظيف: وأهم ما فيه أنه إجراء لمواجهة ظروف غير عادية، وأنه يشمل الجانبين اللذين تدور حولهما الالتزامات المالية، وإجراءات إعادة التوزيع وهما؛ جانب المصالح العامة، وجانب الضمان الاجتماعي.
ثالثاً: خطوات التوزيع التوازني:
التنظيم الإسلامي يسعى إلى الوصول إلى التوزيع التوازني من خلال ثلاثة خطوات أو مستويات معينة هي:
<!--المستوى الأول: إلزامي: ويتضمن مجموعة من الالتزامات المالية، التي يلزم بها من يملكون قبل من لا يملكون، ويهدف الإسلام من خلال هذا المستوى أن يضمن عن طريق الإلزام مواجهة التضامن الاجتماعي بين أفراد الجماعة الإسلامية، ويتوقع من خلال إجراءات هذه المرحلة أن يكون قد تم مواجهة التضامن الاجتماعي، ويجيء في هذه المرحلة: الزكاة والموارد الأخرى ذات الطبيعة الخاصة.
<!--المستوى الثاني: اختياري: وهذه الخطوة تجيء مكملة للخطوة السابقة، تجيء لسد حاجات طارئة لأفراد الجماعة الإسلامية لم تغطها المرحلة الأولى، ومادامت هذه المرحلة مكملة والتكميل يصعب معه تقدير مدى ما يلزم لمواجهته جاء التشريع الإسلامي في هذا الصدد على أساس أن يكون هذا المستوى اختيارياً، ويجيء هنا صدقة التطوع.
<!--المستوى الثالث: إلزامي: يأتي بمثابة المواجهة الأخير للتضامن الاجتماعي، وإعادة التوازن إلى الجماعة الإسلامية، وذلك حين تعجز المرحلتين السابقتين عن المواجهة الحاسمة والنهائية في هذا الصدد، ولم يكن من المتصور تنظيمياً أن تكون هذه المواجهة الأخيرة إلا بإجراءات إلزامية بعد أن عجز الاختيار عن العلاج النهائي، ويجيء في هذه المرحلة التوظيف.
رابعاً: عناصر ريادية في التوزيع التوازني:
من النظر إلى التشريعات التي ينظم بها الإسلام مرحلة التوزيع التوازني نجد أن هناك بعض الاتجاهات التي تستحق إبرازها بصورة مركزة وقوية، باعتبارها عناصر تفوق وريادية في الإسلام، والتي منها ما يلي:
<!--اتجاهات رائدة فيمن يشملهم الضمان الاجتماعي في الإسلام:
إن أهم الاتجاهات الرائدة لتشريعات الضمان الاجتماعي في الإسلام، أنه يمتد ليشمل فئات ليس المعهود في النظم الوضعية تغطية احتياجاتها ومنها:
<!--المدين: إن الإسلام يمد الضمان الاجتماعي ليشمل المدينين، الذين استدانوا لمصلحة عامة كالصلح بين المؤمنين، أو لمصلحة خاصة. والإسلام يهدف بهذا إلى أمور محددة:
<!--أن ينمي رابطة التعاون بين أفراد الجماعة الإسلامية، وألا يخاف أحدهم من مد يد المعونة للفقير بإقراضه، فالمجتمع ممثلاً في الزكاة، ضامن أخير عند العجز.
<!--أن ينقذ من يهدد بالعجز عن ممارسة دوره الإنتاجي بسبب مديونيته (المشروعة).
<!--تشجيع المسلمين بحيث يسعى كل منهم للقضاء على الخصومات بين المتنازعين وهو أهم الاتجاهات، حتى ولو أدى ذلك أن يغرم، فالمجتمع ممثلا في الزكاة سيعوضه عن غرمه، ولو كان غير محتاج.
<!--ابن السبيل: وهو المسافر الذي نفدت أمواله، والسفر المشروع له صور كثيرة، فيعطي بمقدار ما يسد حاجته، والتشريع الإسلامي بهذا الاتجاه يستهدف تحقيق قيماً سلوكية داخل الجماعة الإسلامية.
<!--اتجاهات رائدة في موارد الضمان الاجتماعي في الإسلام:
حيث تشمل موارد الضمان الاجتماعي: الكفارات، ويعني ذلك أن الإسلام يجعل الخطأ يكفر عنه عمل خير موجه للمجتمع، ويتمثل هذا العمل الخير في تغطية بعض حاجات الضمان الاجتماعي، وذلك بإخراج كفارات مالية عن هذا الخطأ، وهذا منحى متميز وممتاز، وأهميته لا تتمثل في مقدار ما يوفر من موارد للضمان الاجتماعي، وإنما تكمن أهميته الحقيقية في المعنى الذي يهدف إليه والقيم التي يغرسها ويربيها في نفس المؤمن، من حيث دوره في الجماعة الإسلامية، ومسؤوليته عن توفير احتياجاتها حتى أن الله يغفر له خطأه إذا اشترك في تغطية هذه الاحتياجات.
<!--اتجاهات رائدة في المجال النفسي في تشريعات التوزيع التوازني:
ضمن مراحل التوزيع مرحلة سميت بالمرحلة الاختيارية، وهي التي تظهر فيها صدقة التطوع لمواجهة الضمان الاجتماعي، وكان ضمن التفسيرات التي قدمت لتوضيح هذا المنحى الفكري هو أن هذه المرحلة مقصود بها مواجهة ظروف استثنائية، أو ظروف تكميلية عند عجز الموارد السابقة عن تغطية الضمان الاجتماعي، فجعل الإسلام التشريع هنا يختبر ذاتية المؤمن، ومدى تقديره لمسؤوليته الجماعية.
ولكن بجانب ذلك، فإن هذا المنحى الفكري يشير إلى اتجاهات في النفس الإنسانية من حيث حبها أن تعطي حتى يتحقق الإشباع لهذا الجانب النفسي في الإنسان. وأيضا إن جعل هذه المرحلة اختيارية، يتوافق مع ضجر النفس الإنسانية من الإلزام، حتى ولو كان في الخير، ولم يكن مستساغا أن يترك الأمر كلية للنفس الإنسانية، بحيث تعطي إشباعها في هذا المجال، ولكن في الوقت نفسه، لم يكن يحتمل أن تحرم كلية من هذا الاختيار، فأعطى الإسلام لها القدر الممكن واللازم لإشباع هذا الجانب في النفس الإنسانية.
ملاحظة ختامية:
أن مراحل التي قدمت لعملية التوزيع في الفكر الإسلامي هي مجرد تصنيف لخطوات التوزيع، وليست إجراءات أو عمليات كل منها مستقلة ومنفصلة عن الأخرى، ولقد رأينا أن كل مرحلة من هذه المراحل تتضمن مجموعة من الإجراءات التي تحقق أو تقوم بالتوزيع فيها، وما نؤكده بالنسبة لهذه الإجراءات: أنه في مجموعها ككل تخدم هدف التوزيع في الإسلام ككل، وليست إجراءات منفصلة، بمعنى أن كل إجراء أو أكثر يخدم مرحلة من المراحل فحسب، وإنما نجد أن هذه الإجراءات وما فيها من اتجاهات وتأثيرات تكمل بعضها، كما أن القول بهذه المراحل لا يعني ترتيباً لسياسات الدولة الإسلامية في موضوع التوزيع، وإنما تعمل كلها معاً أو بعضها وفق ما تقتضيه مصلحة المجتمع المسلم.
<!--[endif]-->
<!--)) أحمد بن الحسين البيهقي، السنن الكبرى، مرجع سابق، ج 6، ص120.
<!--)) ابن كثير، عمدة التفسير، مرجع سابق، ج 1، ص433؛ مسند أحمد بن حنبل، مُسْنَدُ الْعَشَرَةِ الْمُبَشَّرِينَ بِالْجَنَّةِ، مُسْنَدُ الشَّامِيِّينَ، برقم 17656.
<!--)) محمد بن إسماعيل البخاري، صحيح البخاري، مرجع سابق، برقم 30.
<!--)) محمد ناصر الدين الألباني، صحيح سنن ابن ماجه، مرجع سابق، برقم: 1995؛ عبدالرحمن بن أبي بكر السيوطي، الجامع الصغير في أحاديث البشير النذير، مرجع سابق، برقم: 1159.
<!--)) محمد بن إسماعيل البخاري، صحيح البخاري، مرجع سابق، برقم: 2227.