د.علاء البسيوني

يهتم الموقع بنشر الثقافة العلمية خاصة في مجال العلوم الاقتصادية والاجتماعية، والاقتصاد الإسلامي.

الاقتصاد الإسلامي

edit

 

ماهية الاقتصاد الإسلامي وطبيعته كاقتصاد ضوابط:

‌أ.   الاقتصاد الإسلامي: هو ذلك الفرع من فروع علم الاجتماع الذي يدرس السلوك الإنساني باعتبار العلاقة بين الحاجات الإنسانية المتنوعة ووسائل إشباعها النادرة ذات الاستعمالات البديلة، وذلك في ضوء الضوابط الإسلامية.   

وبذلك فأن الاقتصاد الإسلامي اقتصاد ضوابط يستند إلى مجموعة من المبادئ والأصول التي وردت في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، والتي لا تقبل التعديل لأنها صالحة لكل زمان ومكان بصرف النظر عن تغير الظروف مثل إيجاب الزكاة وتحريم الربا.

‌ب.     طبيعة الاقتصاد الإسلامي:

الاقتصاد الإسلامي يوصف بأنه اقتصاد ضوابط بمعني أنه ليست له قوانين اقتصادية خاصة، فليس هناك قانون خاص للعرض والطلب في الاقتصاد الإسلامي يختلف عن قانون العرض والطلب في الاقتصاد الوضعي، أو غير ذلك من القوانين الاقتصادية، كما أنه لا يوجد قوانين عرض وطلب اشتراكية أو رأسمالية، فالقوانين الاقتصادية عامة وثابتة في كل النظم الاقتصادية، وإنما يكون الاختلاف بين النظم الاقتصادية في؛ نمط وتوزيع ملكية الموارد الاقتصادية التي تعبر عن فلسفته في تحقيق التنمية الاقتصادية، وآليات إدارة النشاط الاقتصادي (السوق؛ السلع والخدمات، المالية، النقدية) في كل نظام، وطرق توزيع وإعادة توزيع الدخل الناتج عن استخدام هذه الموارد الاقتصادية بين عناصر الإنتاج المساهمة في العملية الإنتاجية، والأفكار الاقتصادية التي تميز بين نظام اقتصادي وأخر.

 وما يميز الاقتصاد الإسلامي في هذا المجال أنه يؤمن بالملكية الخاصة والعامة معا بعكس النظام الاشتراكي الذي يؤمن بالملكية العامة ويجعلها القاعدة الأساسية له، والنظام الرأسمالي الذي يؤمن بالملكية الخاصة ويجعلها القاعدة الأساسية له، كما يتميز الاقتصاد الإسلامي باختلاف الأسس الفكرية التي يقوم عليها، وطرق توزيع وإعادة الناتج والدخل القومي، وأدواته المتميزة في إعادة توزيع الدخل والثروة في المجتمع بما يحقق العدالة الاجتماعية بين أفراد المجتمع.

وبالتالي فإن الأدوات المستخدمة في الفكر الوضعي هي نفسها المستخدمة في الفكر الإسلامي مع فارق كيفية التطبيق، والمقصود بكلمة اقتصاد ضوابط أنه ينظر إلى العلاقات والقوانين الاقتصادية في ضوء ضوابط الشريعة الإسلامية، فعندما ينظر الاقتصاد الإسلامي إلى دالة الاستهلاك فإنه يناقشها في ضوء ضوابط السلوك الاستهلاكي في الإسلام (كتحريم الإسراف، والتقتير، والتبذير، وإيجاب التوسط والاعتدال في الإنفاق الاستهلاكي) وتأثيرات ذلك على الاقتصاد، وكذلك عند النظر إلى دالة الادخار فإنه يناقشها في ضوء الالتزام بتحريم الاكتناز وإيجاب الزكاة وتأثيرات ذلك على الاقتصاد، إلى غير ذلك من فروع علم الاقتصاد.

 

    بقلم د.علاء بسيوني

يهدف هذا الفصل إلى التعرف على فكرة فائض القيمة وصاحب الاستحقاق فيها دراسة مقارنة بين الفكر الوضعي والإسلامي، وذلك من خلال النقاط التالية:

أولاً: فائض القيمة في الفكر الوضعي:

تعد فكرة فائض القيمة هي أساس الصراع بين الفكر الاقتصادي الرأسمالي والاشتراكي، ففي حين تجاهل الفكر الرأسمالي هذه الفكرة وركز منظروه مثل (ريكاردو) في بحث القيمة على كيفية توزيع العائد المتولد من العملية الإنتاجية على عناصر الإنتاج التي ساهمت في العملية الإنتاجية، كان منظر الفكر الاشتراكي (ماركس) يهدف من بحثه في القيمة إلى تحديد خالق فائض القيمة، ليوجد أساس الصراع بينه وبين من يسرق منه نتائج عمله، وخلص إلى أن فائض القيمة هو الربح الذي يزيد عن قيمة الأجور المدفوعة إلى العمال  والذي يذهب إلى جيوب الرأسماليين، وهو بتعبير آخر  الفرق بين الأجر الذي يدفع إلى العامل منتج السلعة وبين الثمن الذي تباع به، ـوهو ما يجب أن يكون لصالح الطبقة العاملة، ولكن الواقع يشير إلى العكس حيث  لا تظفر به الطبقة العاملة، ويسلبه منها أصحاب رؤوس الأموال الذين يعيشون عالة على الطبقة الكادحة. إذن، ففائض القيمة هو عبارة عن تملك الطبقة المسيطرة جزءً من إنتاج المجتمع وأخذه بدون مقابل. وقد اعتبر ماركس أن أخذ فائض القيمة هو السبب الرئيس في تناقضات المجتمع وشقائه، والمصدر الوحيد لقيام الطبقية في المجتمع، وتضخم الأموال عند البرجوازيين، الأمر الذي تتكون منه الرأسمالية التي شن عليها الحرب ودعا إلى تحطيمها.

ولتوضيح المقصود بفائض القيمة نأخذ المثال التالي:

بافتراض قيام أحد المنتجين بالجمع بين عناصر الإنتاج (الأرض، العمل، رأس المال، التنظيم) من أجل القيام بإنتاج سلعة ما وبيعها في السوق بمبلغ 100 جنيه، فإنه يحصل على ثمن هذه السلعة ويقوم بتوزيعه على عناصر الإنتاج التي ساهمت في العملية الإنتاجية على حسب مساهمة كل منها في العملية الإنتاجية، وبافتراض أن ذلك يكون على النحو التالي:

عنصر الإنتاج

نصيبه من العملية الإنتاجية

ما يحصل عليه في النظام الرأسمالي

ما يجب أن يحصل عليه في النظام الاشتراكي

الأرض

الريع أو الإيجار

25

25

العمل

الأجر

25

25

رأس المال

الأجرة أو سعر الفائدة

15

15

التنظيم

الربح أو الخسارة

35

15

المجموع

100

80

فائض القيمة

--

20

يتضح من المثال في الجدول السابق أنه وفقاً للفكر الاقتصادي الرأسمالي لا يوجد هناك مجال لفائض القيمة، حيث يقوم المنظم (رجل الأعمال) بدفع أنصبة باقي عناصر الإنتاج نظير مساهمتها في العملية الإنتاجية والباقي يكون من نصيبه هو نظير القيام بالعملية التنظيمية. أما الفكر الاقتصادي الاشتراكي فيرى أنه بافتراض حصول عنصر التنظيم على أجر المثل نظير مساهمته في العملية الإنتاجية وهو ما افترضنا أنه 15 جنيه بالمثال، فإنه يظهر لنا فائض القيمة وهو 20 جنيه بالمثال، وهو ما يمثل الفرق بين سعر بيع السلعة 100 جنيه وتكلفة عناصر الإنتاج التي ساهمت في العملية الإنتاجية 80 جنيه، وبالتالي تكون هناك مشكلة في التعرف على صاحب الاستحقاق لهذا الفائض، وهو ما نظر له الفكر الاشتراكي بأنه من حق العمال لينشئ أساس الصراع بين الفكر الرأسمالي والاشتراكي.

فالفكر الاشتراكي يرى أن فائض القيمة من حق الطبقة العاملة الذين استغلهم رجال الأعمال بالحصول على خدماتهم الإنتاجية بأقل من قيمتها في السوق، أو يرجع لمهارة العمال في الإنتاج، والتي لم يحصلوا على المقابل الحقيقي لها. ومن ثم فإن فكرة فائض القيمة أسست للصراع بين صاحب الاستحقاق الطبقة العاملة ومن يسرق منه فائض عمله رجال الأعمال (الطبقة البرجوازية)، وهذا ما دعي أصحاب التوجه الاشتراكي إلى فكرة التأميم وتحويل الملكيات الخاصة إلى العامة.

ثانياً: فائض القيمة في الاقتصاد الإسلامي:

يعترف الفكر الاقتصادي الإسلامي بوجود فائض القيمة، ولكنه يرى أنه ينبع من مصدرين هما:

المصدر الأول؛ الموارد الاقتصادية التي خلقها الله تعالى وتدخل في العملية الإنتاجية دون دفع مقابل لها، وهي المصدر الرئيسي لفائض القيمة وتدخل في إنتاج غالبية السلع، فالإنسان الذي يزرع مساحة من الأرض على سبيل المثال يدفع مقابل استخدامها الإيجار أو نسبة من المحصول، ويدفع أجور العمال، وأجرة الآلات التي يستخدمها، ويأخذ مقابل عمله، ولكنه في الحقيقة يستفيد من موارد اقتصادية عديدة لها تأثير كبير على مستوى الإنتاجية ولا يدفع مقابل استخدامها مثل؛ الشمس، والمناخ المناسب، والموقع الجغرافي وهذه العوامل لاشك أن لها تأثير كبير على مستوى الإنتاجية ومن ثم فائض القيمة.

المصدر الثاني؛ مهارة العمال واتقانهم لعملهم فوق المستوى المتوسط؛ وهذا إن وجد إنما ينعكس في صورة زيادة فائض القيمة، وهي الصورة الوحيدة لمشاركة عنصر العمل في إنتاج فائض القيمة، والعامل لا يقصد من وراء إتقانه في العمل المشاركة في الحصول على جزء من الفائض، وإنما يقصد الحصول على ثواب الله تعالى الذي يشكر له إخلاصه وعطاءه، فقد ورد أَنّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ:" إِنَّ اللَّهَ تعالى يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلا أَنْ يُتْقِنَهُ "(<!--).

أما الاستغلال – إذا وقع على العمال – فلن يكون مصدراً لفائض القيمة وإنما يبقى مقابله حقاً للعمال في ذمة صاحب العمل، وهو مطالب بدفع قيمة هذا العمل (الاستغلال) سواء كان راضياً أو بإجباره من ولي الأمر، ولن تبرأ ذمته منه حتى يؤديه إليهم، ومن حقهم أن يخاصموه إلى ولى الأمر، ومن واجب ولى الأمر أن يعيده إليهم، وإذا لم يحدث هذا في الدنيا فالله تعالى سيقوم بمخاصمة هذا المستغل يوم القيامة يقول (قَالَ اللَّهُ تعالى ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُعْطِه أَجْرَهُ)(<!--).

يستنتج مما سبق أن موقف الفكر الإسلامي من فائض القيمة؛ أن هناك فائض قيمة عن مجموع الجهود الإنسانية المبذولة، وليس هناك فائض قيمة من الناحية الحقيقية المتعلقة بذات الشيء وما دخل في تكوينه، فالمنتجات الجديدة إنما تحمل قيمة مكوناتها، بيد أن بعض هذه المكونات لم يبذل فيها جهد إنساني ما، وإنما تفضل الله تعالى به على الإنسان عندما أباح له الانتفاع بالسلع التي أوجدها سبحانه صالحة للإسهام في إتمام العمليات الإنتاجية دون أن يكون للعمل الإنساني دخل في صلاحيتها هذه.

أما عن صاحب الاستحقاق لفائض القيمة في الاقتصاد الإسلامي: فإن مصدر وطبيعة فائض القيمة وصاحب الاستحقاق فيه في الاقتصاد الإسلامي تختلف تماماً عن الفكر الماركسي، ويتضح ذلك من فلسفة توزيع العائد في الشريعة الإسلامية، والتي تقوم على أن الله تعالى هو الذي خلق الأرض بما فيها من موارد اقتصادية وأباح للإنسان الانتفاع بها وفقاً لمفهوم الاستخلاف، ومنها الموارد التي أوجدها الله سبحانه صالحة للإسهام في العملية الإنتاجية دون أن يكون للإنسان دخل في هذه الصلاحية، ومن ثم فإن الله تعالى هو صاحب الاستحقاق الأصلي في هذه الموارد وما ينتج عنها من فائض القيمة، وحيث أن الإنسان هو خليفته في أرضه، وأنه يجب على المُسْتَخْلَفْ وهو الإنسان أن يعمل وفق إرادة المُسْتَخْلِفْ وهو الله تعالى، يجب أن يتم التصرف في هذا الفائض وفق مراد الله تعالى، الذي أمرنا بالتصرف فيه على النحو التالي:

<!--في حالة انفرد عنصر إنتاجي واحد بالإنتاج فإنه لا يوجد خلاف على أن من حقه الحصول على كل الناتج، وليس ذلك إلا لعنصر العمل، وذلك بشرط أداء حق الله فيها الذي هو صالح المجتمع وهو الزكاة.

<!--في حالة اشترك أكثر من عنصر إنتاجي في العملية الإنتاجية، وهذا هو القائم في معظم عمليات الإنتاج، حيث يقوم شخص ما (المنظم أو رجل الأعمال) بالتأليف بين هذه العناصر من أجل إتمام العملية الإنتاجية، ومن ثم تبدأ عملية توزيع العائد كما تحددها الشريعة الإسلامية بأن يقوم المنظم بدفع مكافآت عناصر الإنتاج التي ساعدته في العملية الإنتاجية، متمثلة في: أجور العمال، الإيجار أو الريع مقابل استخدام الأرض، والأجرة مقابل استخدام رأس المال العيني، وبذلك تكون كل العناصر السابقة قد حصلت على المكافآت التي تتعادل مع جهودها في إنشاء القيمة.

هذا وبعد حصول كل مكون من مكونات القيمة على نصيبه العادل منها، يجب على المنظم التصرف في الجزء المتبقي وفائض القيمة وفق مراد الله تعالى فيه وهو الذي أمر بالبدء بالصرف منه على بند الزكاة التي هي حق الله وصالح المجتمع، والتي فرضها الله تعالى لتصرف على فئات معينه حددها في القرآن، ولكن الزكاة نسبة صغيرة ولا تستغرق فائض القيمة كله، لذلك جعل الله تعالى باقي فائض القيمة من حق (المنظم) صاحب المبادرة في العملية الإنتاجية، وهو الشخص الذي طلب فضل الله تعالى (الفائض) وسعى إليه وطلبه بوسائله، وتعرض للاستفادة من فضل الله تعالى، فهو من حق صاحب المبادرة التي أدت إلى إيجاد السلعة التي تحمل في جوفها أكثر مما دخل فيها من قيم مدفوعة المقابل، وليس ذلك إلا لرب العمل.


<!--[endif]-->

<!--)) عبدالرحمن بن أبي بكر السيوطي، الجامع الصغير في أحاديث البشير النذير، مرجع سابق، برقم: 1855.

<!--))  محمد بن إسماعيل البخاري، صحيح البخاري، مرجع سابق، برقم: 2227.

 

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 588 مشاهدة

     بقلم د.علاء بسيوني

تعد مشكلة التوزيع من أبرز وأخطر المشكلات الاقتصادية التي واجهتها المجتمعات قديماً وحديثاً شرقاً أو غرباً نظراً؛ لغياب أو صعوبة العثور على معيار عام "عادل" أو "كفء" للتوزيع، والرغبة في تكوين الثروة الخاصة. ويهدف الاقتصاد الإسلامي إلى توفير حد الكفاف المعيشية لكل من يعيش تحت مظلته مسلماً كان أو ذمياً، لذلك فإن التوزيع في الاقتصاد الإسلامي يقوم على أساس توفير الحاجات الأساسية للفرد كإنسان؛ أي ضمان حد الكفاية بغض النظر عن أدوات أو أشكال الإنتاج السائدة، ثم بعد ذلك يكون التوزيع بحسب الأوضاع الاقتصادية السائدة. وفيما يلي عرض لأهداف التوزيع في الاقتصاد الإسلامي ومراحله.

أولاً: أهداف التوزيع في الاقتصاد الإسلامي:

     يمكن القول إن عدالة التوزيع في الاقتصاد الإسلامي تقوم على المرتكزات التالية:

<!--تأمين حد الكفاية لجميع أفرد المجتمع: فضمان حد الكفاية لكل فرد يعيش في المجتمع المسلم أيا كانت ديانته، هو في الإسلام أمر جوهري، ففي غير الحالات العادية يتساوى الجميع من حيث توفير حد الكفاية، وما فوق ذلك يكون لكل تبعاً لعمله وجهده. فهو إلى جانب تقليل الفوارق بين الطبقات وتحقيق التكافل الاجتماعي الذي يساعد على تحقيق مستوى معين من الطلب الكلى يساهم في استمرار النمو واستقراره، وتوسط نسق الاستهلاك.

<!-- حصول كل من ساهم في العملية الإنتاجية على قيمة ما قدمه من خدمات: ويتم ذلك من خلال تحديد أسعار هذه الخدمات من خلال تفاعل قوى العرض والطلب على هذه الخدمات في السوق الحرة. ويلاحظ أن ضمان الحرية في السوق مرتبطة بعدد من العناصر منها تطبيق القيم الإسلامية التي تحد من الاحتكار بجميع أشكاله الظاهرة والمستترة، وتحرم الغش والغبن في المعاملات بأنواعها المختلفة، ورقابة ولى الأمر المستمرة على السوق من أجل تصحيح أي انحراف، يضاف إلى ذلك التراضي بين المستخدمين لخدمات الإنتاج وأصحابها، والبعد عن مصادر الكسب الحرام بجميع أشكاله، كل ذلك يضمن اقتصادياً ارتباط أنصبة خدمات الإنتاج بإنتاجيتها في كل المجالات، ويضمن أيضاً تحقيق الكفاءة والعدالة في توزيع الدخل بين أفراد المجتمع.

<!--تأمين التوازن الاجتماعي: يستهدف الإسلام حفظ توازن واستقرار المجتمع، لذلك فهو لا يسمح بطغيان فئة على أخرى، أو تمتع فئة من فئات المجتمع بالغنى الفاحش، وفئات أخرى لا تجد ما تسد به رمقها وذلك على كافة المستويات، لذلك فإن للإسلام مفهومه الخاص للتفاوت أي أنه متى توفرت الفرصة المتكافئة للعمل واكتساب الثروة، ومتى تم ذلك في ضوء الاعتبارات الموضوعية المعترف بها فإنه يقرر قيام التفاوت في الدخول والأجور والثروات.

<!--تشغيل طاقات وموارد المجتمع بالصورة المثالية التي تحقق أكبر مصلحة ممكنة للمجتمع: ومعنى ذلك عدم ترك مورد مالي معطل، وعدم ترك طاقة بشرية عاطلة، ولتحقيق ذلك احتوى هيكل التوزيع الإسلامي على كل من الملكية العامة والملكية الخاصة واحتوى على قيام المشروعات العامة والمشروعات الخاصة.

ثانياً: مراحل عدالة التوزيع في الاقتصاد الإسلامي:

من أجل توفير حد الكفاية لجميع أعضاء المجتمع وتحقيق العدالة في التوزيع يمر التوزيع في الاقتصاد الإسلامي بثلاثة مراحل هي على النحو التالي:

المرحلة الأولى: توزيع ما قبل الإنتاج: تكون قبل العملية الإنتاجية من خلال عدالة توزيع الموارد الاقتصادية وإمكانيات الإنتاج.

المرحلة الثانية: مرحلة التوزيع الوظيفي: تتم أثناء العملية الإنتاجية وفيها يتم تحديد أنصبة عوائد عوامل الإنتاج التي شاركت في العملية الإنتاجية.

المرحلة الثالثة: مرحلة إعادة التوزيع: فيها يتدخل الإسلام بتشريعه لمجموعة من التنظيمات لإعادة توزيع الدخل والثروة بين أعضاء المجتمع، بقصد تحقيق التوازن بين أفراد الجماعة، وتغطية احتياجات التضامن الاجتماعي.

وفى ظل هذه المراحل مجتمعة يحرص الإسلام على نوع أخر من التوزيع هو عدالة توزيع الموارد والثروة بين الأجيال. وفيما يلي تفصيل لهذه المراحل.

المرحلة الأولى: توزيع ما قبل الإنتاج (عدالة توزيع الموارد):

تعد مسألة توزيع عناصر الإنتاج أو ملكية الأموال الإنتاجية من أهم المرتكزات التي ميزت الاقتصاد الإسلامي عن الاقتصاد الوضعي. فالاقتصاد الإسلامي أقام فلسفة الملكية على مبدأ عام وهو أن المال مال الله والبشر مستخلفون فيه، وأباح لكل فرد من أفراد المجتمع حرية الاستفادة من الموارد الاقتصادية غير المستغلة التي جعلها الله سبحانه وتعالى مباحة للبشر ككل بشرط أن يأخذها بحقها ويؤدي حقها، ومن ثم يستطيع أي شخص من أفراد المجتمع الحصول على نصيبه العادل منها، مما يؤدي إلى عدالة توزيع الموارد الاقتصادية بين أعضاء المجتمع.

المرحلة الثانية: مرحلة التوزيع الوظيفي (توزيع الدخل بين عناصر الإنتاج):

تتم أثناء العملية الإنتاجية وفيها يتم تحديد أنصبة عوائد عوامل الإنتاج التي شاركت في العملية الإنتاجية، وفي ذلك تقوم نظرية الاقتصاد الإسلامي على مكافأة عناصر الإنتاج على قدر مساهمتها في العملية الإنتاجية بما يشجعها على المساهمة في العملية الإنتاجية قدر الإمكان، ويحقق مصلحة الأفراد والمجتمع وهو ما اصطلح على تسميته بالتوزيع الوظيفي.

ويقوم توزيع الدخل بين عناصر الإنتاج في الاقتصاد الإسلامي على أساس أن جميع عوامل الإنتاج سوف تحصل على نصيب عادل من الدخل الذي يتولد من النشاط الاقتصادي طبقاً لتفاعل قوى السوق. هذا وتكون حصة كل عنصر من عناصر الإنتاج عادلة للاعتبارات التالية:

<!--أن السوق الإسلامية سوق تنافسية لا تعرف الاحتكار ولا الضغوط ولا الإكراه ولا التسعير المجحف، وبالتالي فإن العامل سيبيع جهده لمن يعطيه أفضل أجر أو عائد، وكذلك مالك الأرض وصاحب المال.

<!--أن هذه السوق منضبطة؛ فلا مجال للغش أو التدليس أو أي صورة من صور الخداع التي تنتقص بها الحقوق.

<!--يوجد رقابة على تصرفات المتعاملين في السوق، ويحتكم إلى الضوابط والعرف عند الخروج عليها.

<!--أن صاحب السوق (أي المحتسب) يقضى للمتضرر عند النزاع بأجر أو عائد المثل أو ثمن المثل، وهي معاوضات عادلة مستقاة من الواقع السائد في السوق في الأحوال العادية، بل ويراعى فيها عدم الشطط والوكس فلا إجحاف بأحد تحقيقاً لقوله تعالى: {وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} (الأعراف آية 85).

 وهذا يعني أن توزيع عوائد الإنتاج على عناصر الإنتاج المشتركة في تحقيقه يتم بناء على قوي السوق، ووفقاً لظروف العرض والطلب والتراضي والاختيار، ويحقق العدالة في التوزيع تبعاً لدور كل عنصر وأهميته في العملية الإنتاجية، وذلك كما يلي:

<!--العدالة في تحديد مكافأة عنصر العمل:

اهتم الإسلام بالعمل سواءً كان ذهنياً أو يدوياً، ويقدر العمل المثمر ويحث عليه، ويبارك الجهد المبذول، ويكره البطالة والسؤال من غير تعب، بل ويحرم الاستجداء لغير حاجة، ويحث أيضاً على إنصاف العامل وعدم بخسه حقه وفيما يلي أهم القواعد الشرعية الخاصة بعدالة تحقيق مكافأة العمل:

<!--يشترط أن يكون الأجر محدداً أو معلوماً لطرفي المعاملة: لقوله ﷺ: «لا يُسَاوِمِ الرَّجُلُ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ، وَلا يَخْطُبْ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ، وَلا تَنَاجَشُوا، وَلا تَبَايَعُوا بِإِلْقَاءِ الْحَجَرِ، وَمَنِ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَلْيُعْلِمْهُ أَجْرَهُ»(<!--) وإذا قام شخص بعمل لآخر دون تسمية الأجر فإنه يستحق أجر المثل عند التنازع. فمن العدالة أن يتحدد بأجر المثل، والذي يتحدد بالنظر إلى شخص مماثل للأجير في ذلك وإلى زمان الإجارة ومكانها لأن الأجرة تختلف باختلاف الأعمال والأزمنة والأماكن، ولو اتفق الطرفان على خلاف أجر المثل فهذا جائز طالما في ظل التراضي الكامل بينهما، وعلى ذلك فإن أجر المثل يظهر أثره في حالة الخلاف بين العامل وصاحب العمل على تحديد الأجر أو عند قيامه بالعمل دون تسمية الأجر سلفاً أو محاولة أحد طرفي العقد التأثير على رضا الآخر.

<!--يتحدد الحد الأدنى للأجر بما يكفى الحاجات الأساسية للعامل طبقاً للبيئة التي يعيش فيها؛ ويسترشد في ذلك بقول الرسول ﷺ (مَنْ وَلِيَ لَنَا عَمَلًا وَلَيْسَ لَهُ مَنْزِلٌ، فَلْيَتَّخِذْ مَنْزِلًا، أَوْ لَيْسَتْ لَهُ زَوْجَةٌ فَلْيَتَزَوَّجْ، أَوْ لَيْسَ لَهُ خَادِمٌ فَلْيَتَّخِذْ خَادِمًا، أَوْ لَيْسَتْ لَهُ دَابَّةٌ، فَلْيَتَّخِذْ دَابَّةً، وَمَنْ أَصَابَ شَيْئًا سِوَى ذَلِكَ فَهُوَ غَالٌّ)(<!--) بأن المعتبر في تحديد الأجور هو حد الكفاية، بمعنى أن يحدد الأجر بما يكفى الحاجات الأساسية للعامل طبقاً للبيئة التي يعيش فيها، وذلك يمثل الحد الأدنى للأجر الذي يجب أن لا يقل عنه بأي حال من الأحوال، أما حده الأعلى أو الأمثل فيسترشد في تحديده بقول الرسول ﷺ؛ (فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ، وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ، فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ)(<!--) أي يتحدد الأجر بما يكفل للعامل الحاجات الأساسية طبقاً للبيئة التي يعيش فيها صاحب العمل أي أن تكون استفادة العامل من عمله كاستفادة صاحب العمل، وما بين الحد الأدنى والحد الأعلى يخضع لظروف العرض والطلب.

<!--التعجيل بدفع الأجر وعدم المماطلة: يتم دفع الأجر بمجرد الفراغ من العمل لقوله ﷺ «أَعْطُوا الْأَجِيرَ أَجْرَهُ قَبْلَ أَنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ»(<!--)، وما ورد في الحديث القدسي: قَالَ اللَّهُ تعالى ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُعْطِه أَجْرَهُ "(<!--) وبالتالي فكلما استوفى صاحب العمل جزءًا من المنفعة جاز للعامل المطالبة بأجره عن ذلك، لكن لما كانت المنفعة عرض لا يبقى زمانين لذلك ليس له المطالبة بالبدل إلا بمضي منفعة مقصودة كاليوم ونحوه، وهذا يعنى أن تدفع الأجور عن مدة لها وقع في الزمن كاليوم أو الأسبوع أو الشهر بما يوفر على المشروع الجهد والتكلفة لاحتساب الأجور ودفعها وبما يوفر للعامل المال اللازم لقيام حياته بصورة عادلة.

<!--العدالة في تحديد مكافأة عنصر رأس المال:

       لا شك أن المال ضرورة من ضروريات الحياة التي لا غنى للإنسان عنه، وهو من المقاصد الخمسة التي جاءت الشريعة الإسلامية لتحافظ عليها كمصالح عليا للإنسان. فالمال به يشبع الإنسان حاجاته الضرورية والحاجية والتحسينية. ورأس المال نوعان: رأس مال إنتاجي (عيني)، رأس مال نقدي. وتتحدد مكافئة كلا منهما كما يلي:

<!--رأس المال الإنتاجي الثابت مثل الآلات والمعدات؛ يمكن أن يؤجر فيحصل على أجر، وذلك لأنه عين يمكن استيفاء منفعتها مع بقاء عينها، لأن كل شيء عيني مالاً يمكن استيفاء منفعته مع بقاء عينه فإنه يجوز تأجيره. ويعنى ذلك أن المشروع الإنتاجي كما يمكنه أن يستأجر العمل يمكنه أن يستأجر الآلات والمعدات ويعطى لكل منهما أجراً أو أجرة محددة ثابتة. كما يمكن أن يدخل رأس المال الإنتاجي مشاركة في المشروع نظير حصة متفق عليها من الناتج(الأرباح).

<!--أما رأس المال النقدي: فله الحق في المشاركة في المشروع نظير الحصول على نصيب حصة شائعة من الأرباح وتحمل نصيب من الخسائر (ليس على فائدة لأنها محرمه)، كما هو الحال في صاحب رأس المال في المضاربة، وكذلك الشركاء في شركات الأموال، ولا يحق لصاحب رأس المال النقدي أن يحصل على أجر نظير رأسماله، حيث أن النقود لا يمكن استيفاء منفعتها دون استهلاكها وذهاب عينها. ويتم ذلك طبقاً لتفاعل قوى السوق، لأن الإسلام لا يتدخل لتحديد أنصبة العناصر المشتركة في الإنتاج، وإنما ترك تحديد هذا تعاقدياً بين الأطراف ومن ثم فإن تحديد مكافأة عنصر رأس المال تتم بصورة عادلة.

<!--العدالة في تحديد مكافأة الأرض:

جعل اللَّه سبحانه وتعالى الأرض صالحة لقيام الحياة عليها بما أودعه فيها من موارد وقوى طبيعية تتيح للإنسان استغلالها والانتفاع بها. والأرض هي التربة أو سطح الأرض، كما تشمل الموارد الطبيعية التي لم تتدخل فيها يد الإنسان وجهوده، ومقابل استخدام الأرض في العملية الإنتاجية يحصل مالكها على الريع (نسبة من العائد المتولد عن استخدامها في العملية الإنتاجية) يتحدد في ظل قواعد السوق الإسلامية السابقة.

كما يمكن أن يحصل مالك الأرض على الإيجار إذا قام بتأجيرها للزراعة أو غير ذلك ويحصل في نظير ذلك على عائد محدد سلفاً، لأنها عين يمكن استيفاء منفعتها مع بقاء أصلها، وتحصل على الريع إذا قدمها صاحبها لا على سبيل الإجارة وإنما على سبيل الحصول على جزء مما يتحقق من العائد مثل المزارعة، وذلك على أن يكون نسبة شائعة من العائد وليس عائد قطعة معينة من الأرض. ومن دقة العدالة في تحديد مكافأة الأرض يعترف الاقتصاد الإسلامي باختلاف القدرة الإنتاجية للأرض على إنتاج المحصول الواحد، وعلى إنتاجها أكثر من محصول، ويرجع ذلك إلى مجموعة من العوامل منها؛ خصوبة التربة، وطريقة الري، وموقع الأرض من الأسواق، ونوعية المحصول الممكن زراعته فيها.

المرحلة الثالثة: إعادة التوزيع (التوزيع التوازني):

هذه هي المرحلة الثالثة والأخيرة من مراحل التوزيع في الاقتصاد الإسلامي، والإجراء الذي ينظمه الإسلام هنا يهدف إلى تحقيق التوازن بين أفراد الجماعة الإسلامية، ويحدد مسؤولية الدولة باعتبارها ممثلة للجماعة الإسلامية، هذا ويرجع تسمية هذه المرحلة بالتوزيع التوازني على أساس ما يلي:

<!--أن المجتمع الإسلامي قد لا يملك كل ما يكفيه بمفهوم الكفاية، ولهذا يكون التوزيع المستهدف إسلامياً هو التوازن في حدود ما هو متاح من الموارد.

<!--أن المجتمع الإسلامي قد يملك موارد واسعة، وعلى أساس هذه الملكية الواسعة يكون المطلوب من التوزيع هو: تحقيق التوازن بين أفراد الجماعة الإسلامية، وليس مجرد توفير حد الكفاية.

<!--أن التوازن يتضمن معنى القصد فيه، بمعنى أنه لا يحقق نفسه، وإنما يحقق بالقصد من الأفراد، أو السلطة الممثلة للمجتمع، ولهذا يكون فيه معنى التضامن.

ويعد أهم البنود التي يستخدمها الاقتصاد الإسلامي في تحقيق التوزيع التوازني بين أفراد المجتمع ما يلي:

<!--الزكاة: إن هذه الفريضة الإسلامية الإجراء الأولي لمواجهة الاختلال في الجماعة الإسلامية، وأنه يتحقق فيها شروط الشمول فيمن تجب عليه وفيمن تجب له ممن يكون مستحقا لها وفيما تجب فيه، وأن الهدف من الزكاة هو؛ توفير حد الكفاية لكل فرد في الجماعة، ولكنها بسبب ظروف ما قد لا تستطيع توفير أو تأدية هذا الغرض، ولهذا تكمل بإجراءات أخرى.

<!--موارد ذات طبيعة خاصة: تشمل النفقات الواجبة، والوقف، والموارد الأخرى المماثلة، وزكاة الفطر، والأضحية، والكفارات والنذور. وأهم الاتجاهات التي يهمنا تسجيلها هنا بخصوص هذه الموارد هي:

<!--أن مسؤولية مواجهة التضامن الاجتماعي تبدأ من اللبنة الأولى وهي الأسرة.

<!--أن الوقف يتضمن موارد دائمة لمواجهة التضامن الاجتماعي.

<!--أن المنحى الفلسفي لموقف الإسلام من تشريع كفارات مالية، تكفيراً عن بعض التصرفات الخاطئة دينياً هو منحى متميز ومتفرد، إذ يجعل علاج بعض الأخطاء هو التكفير عنها ببذل بعض المال ووضعه في خدمة التضامن الاجتماعي للجماعة الإسلامية.

<!--أن هناك مناسبات معينة، ترتفع فيها الضرورة إلى سد حاجة المحتاج، ومن هنا شرع الإسلام موارد خاصة لهذه المناسبات مثل زكاة الفطر.

<!--صدقة التطوع: وأهم ما يعنينا منها أنها لمواجهة الطوارئ في الجماعة الإسلامية، وأنها تستهدف تكملة المرحلة السابقة. ونؤكد على أن أهم ما فيها:

<!--أنها لا تعني القعود عن العمل.

<!--أنها تعطي الفرصة لإظهار ذاتية المؤمن الخيرة.

<!--أنها لا تمس جوهر التشريع القائم على مواجهة التضامن الاجتماعي بإجراءات منظمة، ومن قبل سلطة محددة، وليس بإجراءات تنبني على التعميم.

<!--التوظيف: وأهم ما فيه أنه إجراء لمواجهة ظروف غير عادية، وأنه يشمل الجانبين اللذين تدور حولهما الالتزامات المالية، وإجراءات إعادة التوزيع وهما؛ جانب المصالح العامة، وجانب الضمان الاجتماعي.

ثالثاً: خطوات التوزيع التوازني:

التنظيم الإسلامي يسعى إلى الوصول إلى التوزيع التوازني من خلال ثلاثة خطوات أو مستويات معينة هي:

<!--المستوى الأول: إلزامي: ويتضمن مجموعة من الالتزامات المالية، التي يلزم بها من يملكون قبل من لا يملكون، ويهدف الإسلام من خلال هذا المستوى أن يضمن عن طريق الإلزام مواجهة التضامن الاجتماعي بين أفراد الجماعة الإسلامية، ويتوقع من خلال إجراءات هذه المرحلة أن يكون قد تم مواجهة التضامن الاجتماعي، ويجيء في هذه المرحلة: الزكاة والموارد الأخرى ذات الطبيعة الخاصة.

<!--المستوى الثاني: اختياري: وهذه الخطوة تجيء مكملة للخطوة السابقة، تجيء لسد حاجات طارئة لأفراد الجماعة الإسلامية لم تغطها المرحلة الأولى، ومادامت هذه المرحلة مكملة والتكميل يصعب معه تقدير مدى ما يلزم لمواجهته جاء التشريع الإسلامي في هذا الصدد على أساس أن يكون هذا المستوى اختيارياً، ويجيء هنا صدقة التطوع.

<!--المستوى الثالث: إلزامي: يأتي بمثابة المواجهة الأخير للتضامن الاجتماعي، وإعادة التوازن إلى الجماعة الإسلامية، وذلك حين تعجز المرحلتين السابقتين عن المواجهة الحاسمة والنهائية في هذا الصدد، ولم يكن من المتصور تنظيمياً أن تكون هذه المواجهة الأخيرة إلا بإجراءات إلزامية بعد أن عجز الاختيار عن العلاج النهائي، ويجيء في هذه المرحلة التوظيف.

رابعاً: عناصر ريادية في التوزيع التوازني:

      من النظر إلى التشريعات التي ينظم بها الإسلام مرحلة التوزيع التوازني نجد أن هناك بعض الاتجاهات التي تستحق إبرازها بصورة مركزة وقوية، باعتبارها عناصر تفوق وريادية في الإسلام، والتي منها ما يلي:

<!--اتجاهات رائدة فيمن يشملهم الضمان الاجتماعي في الإسلام:

إن أهم الاتجاهات الرائدة لتشريعات الضمان الاجتماعي في الإسلام، أنه يمتد ليشمل فئات ليس المعهود في النظم الوضعية تغطية احتياجاتها ومنها:

<!--المدين: إن الإسلام يمد الضمان الاجتماعي ليشمل المدينين، الذين استدانوا لمصلحة عامة كالصلح بين المؤمنين، أو لمصلحة خاصة. والإسلام يهدف بهذا إلى أمور محددة:

<!--أن ينمي رابطة التعاون بين أفراد الجماعة الإسلامية، وألا يخاف أحدهم من مد يد المعونة للفقير بإقراضه، فالمجتمع ممثلاً في الزكاة، ضامن أخير عند العجز.

<!--أن ينقذ من يهدد بالعجز عن ممارسة دوره الإنتاجي بسبب مديونيته (المشروعة).

<!--تشجيع المسلمين بحيث يسعى كل منهم للقضاء على الخصومات بين المتنازعين وهو أهم الاتجاهات، حتى ولو أدى ذلك أن يغرم، فالمجتمع ممثلا في الزكاة سيعوضه عن غرمه، ولو كان غير محتاج.

<!--ابن السبيل: وهو المسافر الذي نفدت أمواله، والسفر المشروع له صور كثيرة، فيعطي بمقدار ما يسد حاجته، والتشريع الإسلامي بهذا الاتجاه يستهدف تحقيق قيماً سلوكية داخل الجماعة الإسلامية.

<!--اتجاهات رائدة في موارد الضمان الاجتماعي في الإسلام:

حيث تشمل موارد الضمان الاجتماعي: الكفارات، ويعني ذلك أن الإسلام يجعل الخطأ يكفر عنه عمل خير موجه للمجتمع، ويتمثل هذا العمل الخير في تغطية بعض حاجات الضمان الاجتماعي، وذلك بإخراج كفارات مالية عن هذا الخطأ، وهذا منحى متميز وممتاز، وأهميته لا تتمثل في مقدار ما يوفر من موارد للضمان الاجتماعي، وإنما تكمن أهميته الحقيقية في المعنى الذي يهدف إليه والقيم التي يغرسها ويربيها في نفس المؤمن، من حيث دوره في الجماعة الإسلامية، ومسؤوليته عن توفير احتياجاتها حتى أن الله يغفر له خطأه إذا اشترك في تغطية هذه الاحتياجات.

<!--اتجاهات رائدة في المجال النفسي في تشريعات التوزيع التوازني:

ضمن مراحل التوزيع مرحلة سميت بالمرحلة الاختيارية، وهي التي تظهر فيها صدقة التطوع لمواجهة الضمان الاجتماعي، وكان ضمن التفسيرات التي قدمت لتوضيح هذا المنحى الفكري هو أن هذه المرحلة مقصود بها مواجهة ظروف استثنائية، أو ظروف تكميلية عند عجز الموارد السابقة عن تغطية الضمان الاجتماعي، فجعل الإسلام التشريع هنا يختبر ذاتية المؤمن، ومدى تقديره لمسؤوليته الجماعية.

ولكن بجانب ذلك، فإن هذا المنحى الفكري يشير إلى اتجاهات في النفس الإنسانية من حيث حبها أن تعطي حتى يتحقق الإشباع لهذا الجانب النفسي في الإنسان. وأيضا إن جعل هذه المرحلة اختيارية، يتوافق مع ضجر النفس الإنسانية من الإلزام، حتى ولو كان في الخير، ولم يكن مستساغا أن يترك الأمر كلية للنفس الإنسانية، بحيث تعطي إشباعها في هذا المجال، ولكن في الوقت نفسه، لم يكن يحتمل أن تحرم كلية من هذا الاختيار، فأعطى الإسلام لها القدر الممكن واللازم لإشباع هذا الجانب في النفس الإنسانية.

ملاحظة ختامية:

أن مراحل التي قدمت لعملية التوزيع في الفكر الإسلامي هي مجرد تصنيف لخطوات التوزيع، وليست إجراءات أو عمليات كل منها مستقلة ومنفصلة عن الأخرى، ولقد رأينا أن كل مرحلة من هذه المراحل تتضمن مجموعة من الإجراءات التي تحقق أو تقوم بالتوزيع فيها، وما نؤكده بالنسبة لهذه الإجراءات: أنه في مجموعها ككل تخدم هدف التوزيع في الإسلام ككل، وليست إجراءات منفصلة، بمعنى أن كل إجراء أو أكثر يخدم مرحلة من المراحل فحسب، وإنما نجد أن هذه الإجراءات وما فيها من اتجاهات وتأثيرات تكمل بعضها، كما أن القول بهذه المراحل لا يعني ترتيباً لسياسات الدولة الإسلامية في موضوع التوزيع، وإنما تعمل كلها معاً أو بعضها وفق ما تقتضيه مصلحة المجتمع المسلم.


<!--[endif]-->

<!--))  أحمد بن الحسين البيهقي، السنن الكبرى، مرجع سابق، ج 6، ص120.

<!--))  ابن كثير، عمدة التفسير، مرجع سابق، ج 1، ص433؛ مسند أحمد بن حنبل، مُسْنَدُ الْعَشَرَةِ الْمُبَشَّرِينَ بِالْجَنَّةِ، مُسْنَدُ الشَّامِيِّينَ، برقم 17656.

<!--))  محمد بن إسماعيل البخاري، صحيح البخاري، مرجع سابق، برقم 30.

<!--))  محمد ناصر الدين الألباني، صحيح سنن ابن ماجه، مرجع سابق، برقم: 1995؛ عبدالرحمن بن أبي بكر السيوطي، الجامع الصغير في أحاديث البشير النذير، مرجع سابق، برقم: 1159.

<!--))  محمد بن إسماعيل البخاري، صحيح البخاري، مرجع سابق، برقم: 2227.

 

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 2568 مشاهدة

    بقلم د.علاء بسيوني

يعد الإنتاج هو المحرك الأول لمستوى النشاط الاقتصادي، والمسؤول عن توفير السلع والخدمات التي يحتاج إليها المجتمع، وفيما يلي عرض سريع لمفهوم الإنتاج وأهدافه وضوابطه بين الاقتصاد الوضعي والإسلامي.

أولاً: مفهوم الإنتاج:

يعرف الاقتصاديون المعاصرون الإنتاج بمفهوم شامل بأنه (خلق المنفعة أو زيادتها) والتعريف بهذه الصياغة غير مقبول إسلامياً ولا يتفق مع حقيقة العملية الإنتاجية، ذلك أن للخلق في اللغة معنيان:

<!--أولهما؛ ابتداع الشيء على مثال لم يسبق إليه أو الإنشاء.

<!--ثانيهما؛ تقدير الأمور.

ولفظ الخلق الوارد في التعريف الاقتصادي للإنتاج ينصرف إلى إيجاد المنفعة وإنشاؤها من عدم، وهو لا يتفق مع الفكر الإسلامي الذي يطلق الخلق بهذا المعنى كصفة للَّه عز وجل دون غيره، فهو سبحانه الذي خلق الإنسان وما يعمل {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} (الصافات: الآية: 96) وخلق له الموارد {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} (البقرة: الآية: 29). وخلق المنافع من هذه الموارد {وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ} (النحل: الآية: 5)، {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} (الحديد: الآية: 25).

إذا فالجهد الإنساني في العملية الإنتاجية لا ينصرف إلى خلق المنفعة أو زيادتها بل ينصب على اكتشاف المنافع التي خلقها اللَّه في الموارد وتهيئتها بصورة تمكن من الانتفاع بها، وعلى ذلك يمكن تعريف الإنتاج من منظور إسلامي بأنه "بذل الإنسان جهده في الموارد لاكتشاف وتهيئة المنافع الموجودة بها". ومن ثم فالإنتاج يعنى تحويل المادة الخام أو نصف المصنعة إلى مادة تامة الصنع بحيث تحقق منفعة للفرد والمجتمع.

ثانياً: أهمية وضرورة الإنتاج في الإسلام:

مما لا شك فيه أن الإنتاج ضروري وهام لقيام حياة الإنسان حيث، أن اللَّه عز وجل خلق الموارد للإنسان في صورة يلزم معها صنعة الإنسان فيها حتى تصبح صالحة لإشباع حاجاته، ويتساوى في القول بذلك الفكر الوضعي والإسلامي، ولكن ما يميز الفكر الإسلامي في هذا المجال هو الارتقاء بالإنتاج وأهميته إلى درجة الوجوب الشرعي، بما له من إلزام ومسئولية أمام اللَّه عز وجل، يدل على ذلك ما يلي:

<!--أمر اللَّه عباده بإعمار الأرض؛ في قوله تعالى {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} (هود: الآية: 61) ويقول المفسرون في معنى ذلك أمركم من عمارتها بما تحتاجون إليه وفيه دلالة على وجوب عمارة الأرض للزراعة والغراس والأبنية. ولن يكون ذلك إلا بالنشاط الإنتاجي الذي أمر اللَّه به لأن "استعمركم فيها" أي طلب منكم عمارتها والطلب المطلق من اللَّه عز وجل لدى الأصوليين يدل على الوجوب.

<!--ما ورد عن رسول اللَّه في قوله (ما أَكَلَ أَحَدٌ طعامًا قطُّ، خيرًا من أن يأكلَ من عملِ يدِه، وإنَّ نبيَّ اللهِ داودَ عليهِ السلامُ كان يأكلُ من عملِ يدِه)(<!--)؛ وهذا ما يحث على العمل والإنتاج حتى يقوم به الإنسان بإشباع حاجياته، والإسلام يرتقي بالعمل إلى درجة العبادة لأنه بالعمل المنتج يستعين الإنسان على أداء باقي العبادات من صلاة وزكاة وصوم وحج .. إلخ، بل أن الرسول ﷺ في الحث على العمل والإنتاج يقول: (أطيبُ ما أكَلَ المؤمِنُ من عمَلِ يدِهِ)(<!--) (ما كسبَ الرَّجلُ كَسبًا أطيبُ من عملِ يدِه وما أنفقَ الرَّجلُ على نفسِه وأهلِه وولدِه وخادِمِه فهو صدَقةٌ)(<!--) وهذا ما يحث على العمل والإنتاج لابتغاء الرزق والثواب من الله تعالى، وينفر من البطالة حتى ولو كان لدى الإنسان ما يكفيه.

<!--أن لكل إنسان حقاً في أن يشبع حاجياته لكي يعيش ولكن في مقابل هذا الحق فإن عليه واجباً في أن يعمل لكي ينتج ما يحتاجه؛ ويصور أحد المفكرين المسلمين الحق في هذا المجال بأنه الاستهلاك والواجب بأنه الإنتاج، ويخلص من سرد قصة الرسول ﷺ مع السائل الذي أتاه يسأله يوما لقمة عيش فأشار عليه الرسول بأن يحتطب (ينتج) ليأكل من عمل يده وبذلك قدم الواجب وهو الإنتاج على الحق وهو الاستهلاك.

يستنتج من ذلك؛ أن الإسلام يرتقي بالإنتاج إلى درجة الوجوب الشرعي والعبادة الخالصة للَّه عز وجل، وبما أن الواجب مسئولية فإنه يثار تساؤل هنا حول على من تقع مسئولية الإنتاج في الإسلام وذلك ما سنوضحه في الفقرة التالية.

ثالثاً: المسئولية عن الإنتاج في الإسلام:

أن العمل في الإنتاج لابد أن يمارس على أنه مسئولية ذلك أنه إذا عدمت المسئولية فسد النظام، والقيام بأية مسئولية لابد أن يسبقها إقرار سلطة للمسئول بمعنى قدرته على تحمل المسئولية، ذلك أن المسئولية بدون سلطة تحميل فوق الطاقة وعجز عن أداء المسئولية، حيث تتطلب عملية الإنتاج مجموعة من العناصر هي؛ الموارد الاقتصادية، والقدرة على العمل والإنتاج، وبذل الجهد، والالتزام بالقيم. والموارد والقدرة في هذا المجال تمثلان السلطة، وبذل الجهد والالتزام بالقيم يمثلان المسئولية، إذا فمن يملك القدرة والموارد يكون هو المسئول عن الإنتاج، ولو نظرنا في النظم الاقتصادية المعاصرة طبقا لفلسفتها الأساسية نجد في النظام الرأسمالي تتركز الموارد في يد الأفراد (القطاع الخاص) وبالتالي فالإنتاج مسئولية القطاع الخاص طبقاً لفلسفة النظام، وفي النظام الاشتراكي تتركز الموارد في يد الدولة وبالتالي فالإنتاج مسئولية الدولة، أما في النظام الاقتصادي الإسلامي والذي يقر الملكية الخاصة والعامة وملكية الدولة فإننا نجد أن مسئولية الإنتاج تقع على كل من الإنسان الفرد والدولة وتتوزع هذه المسئولية طبقا للتحليل التالي:

<!--مسئولية الدولة عن الإنتاج:

أن دور الدولة في عملية الإنتاج أمر استراتيجي وهام وذلك لما تملكه من إمكانيات كبيرة وقدرة على التأثير في النشاط الاقتصادي القومي ومسئولية الدولة تتحدد هنا إجمالا في الآتي:

<!--القيام بتوفير القواعد الأساسية من المرافق العامة اللازمة لعملية الإنتاج: وذلك واجب أساسي ركز عليه المفكرون المسلمون مثل ما جاء في كتاب الإمام على بن أبى طالب إلى عامله على مصر الأشتر النخعي (وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج، لأن ذلك لا يدرك إلا بالعمارة ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد ولم يستقم أمره إلا قليلا)(<!--).

<!--ضرورة تدخل الدولة لمراقبة الإنتاج وللتأكد من أنه يوجه طبقاً للقيم الإسلامية: سواء من حيث اختيار مجالات الإنتاج أو أتباع الأساليب المشروعة والبعد عن الممارسات الحرام، ويدل على ذلك " نظام الحسبة " الذي كان أحد أركان الدولة الإسلامية ويقوم بوظيفة مراقبة الدولة للنشاط الاقتصادي في عمومه.

<!--ممارسة الدولة لبعض الأنشطة الاقتصادية: وإن كان بعض المفكرين المسلمين مثل ابن خلدون وابن الأزرق وأبو جعفر الدمشقي يرون إن اشتغال الدولة بالتجارة مضراً بالعمران مؤذن بخراب البلاد، إلا أن ذلك لا يمنع من القول إن الملكية العامة يجب أن تؤدى دورها ومسئوليتها في العملية الإنتاجية، على ألا تكون هي المنتجة الوحيدة بل يشترك معها الأفراد في تحمل هذه المسئولية، فالنظام الإسلامي والذي يقر الملكية الفردية والمشتركة يتسع لممارسة دور كل منها في الإنتاج.

<!--مسئولية الأفراد (القطاع الخاص) عن الإنتاج:

إن مسئولية الأفراد الذين يسر اللَّه لهم سبل امتلاك بعض الموارد الاقتصادية والقدرة البشرية (المال والعمل) عن الإنتاج مسئولية دينية، لما سبق قوله من أن الواجب على المسلمين إعمار الأرض ومن أن العمل المنتج في طلب الحلال يعتبر عباده خالصة للَّه عز وجل، ولأن المال في يد الأفراد أمانة فاللَّه عز وجل هو المالك الأصلي له ومن واجب الأمين أو المُسْتَخْلَفْ أن يعمل وفق إرادة المُسْتَخْلِفْ (المالك الأصلي) الذي أمرنا بعمارة الأرض.

وإذا كان الفلاسفة يقولون أنه يلزم أن تقترن المسئولية بالمحاسبة على أدائها فها هو الرسول ﷺ يؤكد أن الإنسان يسأل عما منحه اللَّه من موارد وقدرات بشرية في قوله؛ (لن تزول قدما عبدٍ يومَ القيامةِ حتَّى يُسأَلَ عن أربعِ خِصالٍ: عن عُمرِه فيما أفناه، وعن شبابِه فيما أبلاه، وعن مالِه من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن عِلمِه ماذا عمِل فيه)(<!--) أي أنه يسأل عن الطاقات التي أتيحت له مادية (ماله) وبشرية (بدنية العمر والشباب، وذهنية العلم).

وتجدر الإشارة إلى أن هذه المساءلة لا تكون في الآخرة فقط وإنما في الدنيا أيضاً من خلال واجبات ولى الأمر في إجبار من يملكون القدرة على العمل والإنتاج في حالة الاحتياج إليه، ويصور ابن تيمية ذلك في قوله؛ (والمقصود أن هذه الأعمال التي هي فرض على الكفاية متى لم يقم بها الإنسان صارت فرض عليه لاسيما إن كان غيره عاجزاً عنها، فإذا كان الناس محتاجين إلى فلاحة قوم أو نساجتهم أو بنائهم صار هذا العمل واجباً يجبرهم ولى الأمر عليه إذا امتنعوا عنه بعوض المثل)(<!--) وذلك مشروط لديه بتقاعس المنتجين وعدم كفاية المعروض من السلعة أو الخدمة سواء من الإنتاج المحلي أو الواردات.

وهكذا نرى أن الإسلام نظم الإنتاج كمسئولية حدد أطرافها ودور كل منهم بصورة تمكن من تحقيق أهداف الإنتاج التي توضحها في النقاط التالية.

رابعاً: أهداف الإنتاج:

تنحصر أهداف الإنتاج في العرف الاقتصادي في أهداف وصفية وأهداف عملية وكل منها ينقسم إلى أهداف عامة وأهداف خاصة، وبدون الدخول في تفاصيل هذه الأهداف فإننا سنحاول أن نوضح النظرة الإسلامية لها كأهداف وصفية وعملية عامة فقط والتي تتحدد في الآتي:

أهداف أولية: وتتمثل في تحقيق المنفعة وإشباع الحاجيات.

أهداف عليا: قيام حياة الإنسان وعبادة اللَّه عز وجل.

وليس هذا فقط ما يميز نظرة الإسلام إلى أهداف الإنتاج، بل أنه يختلف عن الأفكار الأخرى في وضع الضوابط الكفيلة بتحقيق الأهداف الأولية التي يقول بها. وفيما يلي مزايا النظرة الإسلامية إلى أهداف الإنتاج:

<!--من حيث اعتبار الإنتاج عبادة للَّه عز وجل: فإن ذلك يظهر في الآتي:

<!--أن اللَّه عز وجل يقول: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات: الآية: 56) وبالتالي يجب أن يكون ما يهدف إليه الإنسان في جميع أنشطته ومنها النشاط الاقتصادي هو عبادة اللَّه عز وجل، حيث أنه بدون الإنتاج لا يمكن للإنسان أن يشبع حاجياته ويحفظ حياته ليتمكن من أداء العبادات المقررة عليه.

<!--أن الإنتاج يمكن المسلمين من نشر الدعوة والدفاع عن المجتمع الإسلامي من غزو الآخرين فيمكنهم من تحقيق الاستقلال الاقتصادي والسياسي بكل أبعاده.

ويأتي أثر اعتبار أن الهدف الأسمى من الإنتاج هو عبادة اللَّه في ترشيد الإنتاج واستخدام الموارد الاقتصادية في أنشطة تتحقق العبادة، وفي البعد عن إنتاج الخبائث وسوء استخدام الموارد الاقتصادية لأن هذه معاص واللَّه لا يعبد بمعصية.

<!--من حيث الضوابط التي تحكم الأهداف الأولية للإنتاج: نجد الآتي:

<!--بالنسبة لهدف تحقيق المنفعة أو القيمة تضبط بضابط إسلامي عام وهو أن المنفعة يجب أن تكون معتبرة شرعاً وبالتالي تكون منفعة حقيقية وليست مزعومة ومن شأن هذا الضابط أن يمنع إنتاج سلع وخدمات يزعم البعض أن بها منافع مثل الخمر ودور الملاهي.

<!--بالنسبة لهدف إشباع الحاجيات الإنسانية، فمن المعروف أن الحاجات هي مجموعة غرائز وميول وشهوات، وأنه في غيبة الضوابط المحكمة من عقل ودين وقيم فإن الشهوات تفسد على الإنسان حياته لأنها مبنية على الغرائز الحيوانية والنهم والجشع، ويرجع أحد الكتاب الأمريكيين أن هذه الشهوات هي أحد أسباب ثلاثة للمأزق في الاقتصادات المعاصرة حيث يقول: " فالشهوات البرجوازية تعزز الميل إلى التملك وتخلق طلباً نهماً على السلع والخدمات لا يمكن إشباعه بالموارد المتاحة لا في الدول المتقدمة ولا في الدول النامية"(<!--) ويحدد أن العلاج لذلك يكون بالحد من هذه الشهوات بمساعدة القيم الأخلاقية، ولقد احتوى الإسلام على مجموعة من هذه القيم الأخلاقية الضابطة تتمثل فيما يلي:

<!--ضبط الغرائز والشهوات بالقناعة والزهد والرضا.

<!--ترشيد الاستهلاك بلا إسراف أو تبذير أو تقتير: والاسراف؛ هو زيادة الإنفاق على المباح من السلع والخدمات بالقدر الذي يفوق مستوى الطبقة الاجتماعية، أما التبذير؛ فهو الإنفاق على السلع والخدمات المحرمة شرعاً، أما التقتير؛ فهو الإمساك عن الإنفاق الواجب شرعاً مثل نفقة الزوجة والأولاد.

<!--تحريم الاستخدام الترفي للموارد والاستهلاك التفاخري.

<!--تحقيق العدالة في إشباع الحاجات لجميع أفراد المجتمع بدءً من حد الكفاية دون السماح بحدوث فجوات كبيرة في الإشباع بين أفراد المجتمع.

ويجمع ذلك كله آية كريمة حددت ضوابط التصرف في الموارد التي خلقها اللَّه للإنسان والتي يجمعها لفظ المال، وجاءت هذه الضوابط في أربعة معايير يلزم على المسلم مراعاتها في كل تصرف اقتصادي حتى يأتي تصرفه متفقاً مع الشريعة، ويؤدى إلى إسعاد الإنسان في حياته وآخرته، يقول الله سبحانه وتعالى { وَابْتَغِ فِيمَا ءَاتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} ( القصص: الآية 77)، ففي هذه الآية أربعة معايير هي:

<!--مراعاة الآخرة وذلك بأن يكون التصرف فيه طاعة للَّه ولا توجد فيه معصية له سبحانه؛ حتى ينال العبد الثواب ويتجنب العقاب من اللَّه في الآخرة، وهذا من شأنه الالتزام بالمعيار ضبط تصرفات الإنسان بالاتجاه نحو الخير والبعد عن الشر، ويوفر ضابط أخلاقي هام تفقده البشرية كثيراً في عالم اليوم.

<!--{وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} أي الحصول على أفضل إشباع ممكن، وهو المعيار الوحيد الذي وقفت عنده البشرية في ظل نظام السوق الذي يسود العالم الآن.

<!--{وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ}، ويحدد هذا المعيار المسئولية الاجتماعية نحو أعضاء المجتمع.

<!--{وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ}، وهذا ما يعم البشرية الآن نتيجة عدم مراعاة هذا المعيار فلقد تفاقمت مشكلة الفساد المادي ممثلاً في تلوث البيئة، والفساد الأخلاقي المتمثل في الفساد الاقتصادي الذي انتشر إلى حد واسع في جميع الدول الآن.

خامساً: ضوابط الإنتاج في الإسلام:

   تعد عملية الإنتاج إحدى جوانب السلوك الاقتصادي الإنساني، ومن المعروف أن سلوك الإنسان بصفة عامة يأتي محصلة لتفاعل نوعين من القوى هما:

<!--الدوافع وتمثل أساس الحركة لسلوك الإنسان.

<!--القيم وتمثل الضوابط على حركة الدوافع.

     ولقد جاء الإسلام بتنظيم كامل لهذه القوى بشكل يرشد السلوك الإنساني في مجموعه، فأقر الدوافع النابعة من فطرة الإنسان، لأن الإسلام لا يتصادم مع الفطرة الإنسانية، ولكنه يعمل على ضبطها بالقيم بحيث لا يسمح لها بالانطلاق العشوائي كما تتمثل في الجشع الاقتصادي، كما أنه لا يسمح بتحويل القيم إلى قوى ضاغطة على الدوافع فتحبسها فهي ضوابط ترشيديه وليست تحجيريه وفي هذه النقاط سوف نحاول تحدد مجموعة القيم الإسلامية التي تضبط السلوك الإنتاجي وذلك في على النحو التالي:

<!--الضوابط الدينية أو الأصولية:

ويقصد بها مجموعة الضوابط المستمدة من القواعد الأصولية في الدين الإسلامي، وتمثل عوامل حاكمة لكل جوانب السلوك البشري ومنه السلوك الإنتاجي، وتتلخص ضوابط الإنتاج في الإسلام من هذه الناحية فيما يلي:

<!--المشروعية: ويعنى بها الالتزام بالأحكام الشرعية، والتي تدور بين الحلال والحرام من واجب ومندوب ومباح ومكروه وحرام، فيجب على المسلم في كل سلوكه أن يلتزم بالابتعاد عن الحرام وتجنب المكروه وضرورة أداء الواجب والميل إلى أداء المندوب والمباح، وبتطبيق ذلك على السلوك الإنتاجي نجد الآتي:

<!--من حيث نوع الإنتاج يجب الالتزام بإنتاج السلع والخدمات التي تساعد على حفظ حياة الإنسان؛ بعناصرها الخمس "الدين والنفس والعقل والعرض والمال" وبتجنب التعامل في السلع والخدمات المحرمة أو المكروهة مثل الخمر والخنزير وأدوات الملاهي ودور الدعارة.

<!--من حيث أسلوب ممارسة الإنتاج يجب الالتزام بالأحكام الشرعية الخاصة بالتمويل وأشكال المشروعات وإحسان الإنتاج وإتقانه، كما يجب تجنب الممارسات الضارة والمحرمة شرعاً مثل التمويل بالربا والاحتكار والغش في المنتجات والإسراف في استخدام الموارد والإضرار بالطيبات الحرة "تلوث البيئة" والرشوة والاختلاس وخيانة الأمانة.

<!--مراعاة حق اللَّه (صالح المجتمع): إذا نظرنا إلى عملية الإنتاج وفق التصور الإسلامي نجد ملكية المال في الإسلام ملكية مزدوجة فهي للَّه عز وجل ملكية حقيقية وللبشر ملكية استخلاف وإنابة، مع مراعاة أن حق اللَّه في التصور الإسلامي هو حق المجتمع وبالتالي فيلزم على المنتجين مراعاة صالح المجتمع أداءً لحق اللَّه تعالى.

<!--تحقيق المصلحة: يعد المقصد العام من التشريع الإسلامي هو تحقيق مصالح الناس بكفالة ضرورياتهم وتوفير حاجياتهم وتحسيناتهم، والتي تلزم للحفاظ على مقومات الحياة الخمسة وهى؛ الدين والنفس والعقل والعرض والمال، وقد شرع الإسلام لكل واحد من هذه الخمسة أحكاماً تكفل إيجاده وتكوينه، وأحكاماً تكفل حفظه وصيانته، وبهاذين النوعين من الأحكام تحقق مصالح الناس وعلى ذلك فإنه يلزم أن يتوجه الإنتاج إلى حفظ هذه الأشياء وصيانتها بإنشاء دور العبادة ومعاهد العلم لحفظ الدين، ولإنتاج السلع اللازمة من مأكل وملبس ومسكن لحفظ النفس، ولحفظ العقل فإن إنشاء دور العلم، والبعد عن الاستثمارات في إنتاج الخمور والمخدرات، وأما حفظ العرض فيكون بتيسير الزواج بإنشاء المساكن والمشروعات التي تساعد الشباب على بدء حياتهم، وحفظ المال يكون عن طريق توجيهه إلى الاستثمارات التي تحقق أفضل إنتاجية ممكنة والبعد عن ضياعه بكل الصور.

<!--دفع الضرر: إذا كانت القاعدة السابقة تنظم المظهر الإيجابي للسلوك الإنتاجي فإن هذه القاعدة تحد من الجانب السلبي وتطالب بالابتعاد عنه وهو الضرر، وذلك أنه قد تصاحب عملية الإنتاج بعض الأضرار مثل تلوث البيئة، ولقد نظم الفقهاء استخدام هذه القاعدة في الآتي: الضرر يزال، ‏الضرر يدفع بقدر الإمكان، الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف، يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام، درء المفاسد أولى من جلب المصالح.‏

<!--التعاون: يعد التعاون قيمة إسلامية وأمر إلهي في قوله تعالى {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (المائدة: الآية: 2). ولقد حذر اللَّه تعالى المسلمين من التنازع والتشتت ورتب على ذلك نتيجة خطيرة هي الفشل في قوله تعالى: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} (الأنفال: الآية: 46) وأن كانت الظروف قد قسمت العالم الإسلامي سياسياً إلى عديد من الدول فإنه في مجال الاقتصاد يمكن أن يتم عمل مشترك بينها، حيث أنه لا توجد دولة في العالم يمكن أن تستقل ذاتياً بإنتاجها بل لابد لها من التعاون مع الآخرين تصديراً واستيراداً.

<!--الضوابط الاقتصادية:

أوضحنا في الفقرة السابقة بعض القيم الإسلامية التي تنظم وتضبط السلوك الإنساني للمسلم بصفة عامة، وبينا أثرها في ضبط السلوك الإنتاجي، وفي هذه الفقرة ننتقل إلى تحديد الضوابط الأكثر تخصيصاً بالنسبة للسلوك الإنتاجي والتي تتمثل فيما يلي:

<!--التنوع في الإنتاج:

تتسم اقتصادات غالبية الدول الإسلامية بخلل في هيكلها الإنتاجي يتمثل في التركيز على قطاع واحد وإهمال باقي القطاعات، وإذا كان الفكر الاقتصادي المعاصر يعطي أهمية كبرى للصناعة ثم الخدمات الإنتاجية ثم الخدمات العامة ثم الزراعة، فإن هذا الترتيب في الأهمية لم يكن كذلك على مر التاريخ ففي مذهب التجاريين كانت التجارة في مقدمة القطاعات وفي مذهب الطبيعيين تتصدر الزراعة عندهم المرتبة الأولي والأهم، وأخيراً ومنذ الثورة الصناعية في القرن السابع عشر الميلادي احتلت الصناعة المرتبة الأولي، وإذا نظرنا إلى الفكر الإسلامي نجد أن مشكلة المفاضلة في القطاعات لم تأخذ هذا الاختلاف الواضح كما يتضح من الآتي:

<!--النظر لكل القطاعات على أنها هامة وضرورية من الأصل لقيام حياة الناس: ويظهر ذلك في العديد من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تناولت الصناعة والزراعة والتجارة سواء في صورة تقريرية أو إخبارية أو تنظيمية. ثم تأتي أقوال المفكرين المسلمين لتؤكد هذه الحقيقة بضرورة الاهتمام بكل القطاعات فها هو الإمام الغزالي وهو يعدد أشغال الدنيا اللازمة لقيام حياة الناس يذكر جميع القطاعات بفروعها التفصيلية، فالقطاعات الرئيسية يسميها أصول الصناعات وهى التي تقوم على إنتاج السلع الاستهلاكية، ثم أمهات الصناعات وهى التي تقوم على إنتاج السلع الرأسمالية، ثم قطاع الخدمات الإنتاجية والعامة بل إنه لا يغفل عن سرد ما يحدث في المجتمع الاقتصادي من أنشطة لا تعد من قبيل الأعمال المنتجة ويسميها الحرف الخسيسة، بل إنه يذكر في آخر سرده لهذه الأنشطة أنها متجددة ولا تنتهي وسوف تظهر أنشطة جديدة حديث يقول " فانظر كيف ابتدأ الأمر من حاجة القوت والملبس والمسكن وإلى ماذا انتهى وهكذا أمور الدنيا لا يفتح منها باب إلا وينفتح بسببه أبواب أخر تتناهى إلى غير حد محصور"،(<!--). ويرى الغزالي أن كل الأنشطة الإنتاجية مهمة بقوله " فانتظام أمر الكل بتعاون الكل وتكفل كل فريق بعمل، ولو أقبل كلهم على صنعة واحدة لتعطلت البواقي وهلكوا "(<!--).

<!--وبالنظر إلى تقرير أفضلية قطاع على آخر: فإننا نلاحظ وعلى وجه العموم أن الأحاديث النبوية الشريفة أشارت مشيدة لكل القطاعات منها قوله ﷺ عن الزراعة " مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا فَيَأْكُلُ مِنْهُ طَيْرٌ أَوْ إِنْسَانٌ أَوْ بَهِيمَةٌ إِلَّا كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ"(<!--). كما نجد أيضا في كتاب الإمام على إلى عاملة الأشتر النخعي ضرورة الاهتمام بكافة القطاعات، فيقول عن الزراعة " تفقد أمر الخراج بما يصلح أهله فإن في صلاحهم صلاح لمن سواهم ولا صلاح لمن سواهم إلا بهم"، ويقول عن التجارة " أستوص بالتجار وأوصى بهم خيراً المقيم منهم والمضطرب بماله والمترفق ببدنه فأنهم مواد المنافع وأسباب المرافق وجلابها من المباعد والمطارح" وعن الصناعة يقول "فاستوص بذوي الصناعات وأوصى بهم خيرا ..." (<!--) ولأن الإسلام ليس مذهبا لعصر واحد أو لقوم بعينهم، بل للناس كافة وعلى مر الزمن لذلك لم يأخذ موقفاً في تفضيل قطاع على آخر بل طلب الاهتمام بكل القطاعات ثم ترك تحديد الأهمية النسبية لأي قطاع منها يحدده المسلمون بحسب الظروف والأحوال وهذا ما وعاه أحد المفكرين المسلمين منذ زمن بعيد حيث يقول "فحيث احتيج إلى الأقوات تكون الزراعة أفضل للتوسعة على الناس، وحيث احتيج إلى المتجر (التجارة) لانقطاع الطرق تكون التجارة أفضل، وحيث احتيج إلى الصنائع تكون هذه أفضل"(<!--) أي أن الهيكل الإنتاجي يجب أن يوزع بين القطاعات بحسب شدة الحاجة إليه، وباللغة الاقتصادية المعاصرة يعطى القطاع الذي يشتد الطلب على منتجاته ويقل المعروض منه الأهمية الأولي.

<!--تكوين الطاقة الإنتاجية والمحافظة عليها:

الأصل في الإنتاج أن يوجه إلى إشباع الحاجات الإنسانية من مأكل وملبس ولكن إنتاج هذه السلع يحتاج إلى آلات ومعدات وإنشاءات (التكوين الرأسمالي) الأمر الذي يتطلب توجيه جزء من النشاط الإنتاجي في المجتمع لصناعتها، والأمر لا يقف بالفكر الإسلامي عند حد التمييز بين نوعي المنتجات استهلاكية ورأسمالية، وإنما يتعداه إلى التوجيه والحث على الإضافات أو التكوين الرأسمالي وذلك بالحد من الميل الاستهلاكي والعمل على تكوين الطاقة بالإنتاجية وزيادتها والمحافظة عليها، ويظهر هذا التوجه من خلال النقاط التالية:

<!--ما ورد عن النبي ﷺ قوله: (سَبْعٌ يَجْرِي لِلْعَبْدِ أَجْرُهُنَّ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ وَهُوَ فِي قَبْرِهِ: مَنْ عَلَّمَ عِلْمًا أَوْ كَرَى نَهْرًا أَوْ حَفَرَ بِئْرًا أَوْ غَرَسَ نَخْلا أَوْ بَنَى مَسْجِدًا أَوْ وَرَّثَ مُصْحَفًا أَوْ تَرَكَ وَلَدًا يَسْتَغْفِرُ لَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ)(<!--) وفي هذا تشجيع على إنشاء الطاقات والبنى التحتية اللازمة للعملية الإنتاجية.

<!--ما ورد عن النبي ﷺ قوله: (لَا يُبَارَكُ فِي ثَمَنِ أَرْضٍ وَلَا دَارٍ لَا يُجْعَلُ فِي أَرْضٍ وَلَا دَارٍ)(<!--) وفي رواية (مَنْ بَاعَ دَارًا أَوْ عَقَارًا فَلَمْ يَجْعَلْ ثَمَنَهُ فِي مِثْلِهِ كَانَ قَمِنًا أَنْ لَا يُبَارَكَ فِيهِ)(<!--) وفي ذلك يحث النبي ﷺ على المحافظة على الثروة والطاقة الإنتاجية بالإحلال والتجديد.

 

<!--يقول الماوردي في تصوير بالغ وهو يؤكد على ضرورة بناء الطاقات الإنتاجية والإضافة إلى التكوين الرأسمالي للأجيال القادمة؛ (لولا أن الثاني يرتفق (ينتفع) بما أنشأه الأول حتى يصير به مستغنياً لأفتقر أهل كل عصر إلى إنشاء ما يحتاجون إليه من منازل السكنى وأراضي الحرث، وفي ذلك من الإعواز وتعذر الإمكان مالا خفاء به)

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 1235 مشاهدة

    بقلم د.علاء بسيوني

إن من الخصائص الجوهرية لتنظيم الإسلام للملكية تتمثل في إقامة الإسلام لهذا التنظيم على دعامتين رئيسيتين هما: الملكية الخاصة والملكية العامة. ووكل أمر إدارة كل نوع منهما إلى جهة معينة فوكل إدارة الكلية الخاصة إلى الأفراد، كي يمارس الفرد صلاحياته ويقوم بواجب عبادة الله تعالى بعمارة ما بيده من مال الله. ووكل إدارة الملكية العامة بأشكالها المتعددة إلى الدولة، تتصرف فيها بالطريقة التي تحقق مقصود الله تعالى من خلقها وهو عمارة الأرض لإشباع الحاجات وتحقيق التنمية الاقتصادية.

فهل يؤدى هذا التنظيم إلى تحقيق هذه الأهداف فعلا؟ هل إقامة الملكية على دعامتين متساندتين هما الملكية الخاصة والملكية العامة أكثر قدرة على تحقيق العمارة من اتخاذ الملكية الشكل الواحد سواء أكان الشكل الخاص أم الشكل العام؟

تنظيم الإسلام للملكية وتحقيق التنمية الاقتصادية:

    يعترف التنظيم الإسلامي للملكية بفطرة الإنسان فيقر الملكية الخاصة، كما يعترف بعجز الأفراد عن إدارة مرافق معينة أو عدم تحقق الصالح العام من وراء إدارتهم لها ومن ثم يقيم الملكية العامة، كما يفصل بين الملكية العامة وملكية الدولة ويحدد صلاحيات الدولة في إدارة الملكية العامة، ويفسح المجال أمام الملكية التكافلية لتقوم بدور رئيسي في تحقيق التكافل الاجتماعي بين أعضاء المجتمع، وكل هذا في إطار مفهوم الاستخلاف وعمارة الأرض. فلماذا اختار الإسلام هذا التنظيم للملكية؟

جانب من الفكر الإسلامي يرى أن السبب الجوهري لهذا الاختيار القاضي بربط ملكية بعض الأموال على بعض الأفراد والبعض الآخر على الجماعة أو الدولة هو اعتبار هذا التنظيم وسيلة إنمائية وحافزاً من حوافز التنمية.

فتنظيم الملكية في الإسلام بما يتضمنه من ملكية خاصة وعامة وما يتبع ذلك من حق للفرد والجماعة في الملكية الخاصة، وواجبات كل من الأفراد والدولة في إدارة الأموال التي بأيديهم وطرق اكتساب الملكية الخاصة كلها إجراءات تدور في حدود اعتبار التنظيم الإسلامي للملكية وسيلة لتحقيق التنمية الاقتصادية.

ومن ثم فإنه كلما كان القطاع أكثر قدرة على الإسهام في تحقيق التنمية كلما تمكن من أن يضم بين دفتيه قدراً أكبر من موارد المجتمع، وكلما قلت كفاءته كلما كان ذلك مدعاة لأن يتقلص دوره نسبياً، محافظة على القوى الدافعة لتحقيق التنمية الاقتصادية مع ملاحظة جوهرية هنا وهى أن الإسلام لا يبيح إلغاء واحد من أشكال الملكية، فوجود جميع أنواع الملكية في الاقتصاد الإسلامي جنباً إلى جنب هدفاً مقصوداً في حد ذاته، حيث يحقق وجود كل شكل مصالح لا يمكن أن تتحقق بدونه حتى إن المجتمع الذي ينكر أحد أنواع الملكية في الاقتصاد الإسلامي لا يعد مجتمعاً ملتزماً إسلامياً، وليس الإسلام في ذلك بدعاً من النظم فنمط الملكية كما بينا من قبل يحدد سمات النظام ويجعله اشتراكياً أو رأسمالياً أو إسلامياً، فالمجتمع الذي ينكر الملكية العامة لا يكون اشتراكياً، والذي ينكر الملكية الفردية لا يمكن أن يكون رأسمالياً، فكذلك من ينكر أحد أنواع الملكية في الاقتصاد الإسلامي لا يكون ملتزماً إسلامياً.

     والهدف الأن أن نبين كيف أن تنظيم الملكية في الاقتصاد الإسلامي يمثل أداة لتحقيق التنمية الاقتصادية؟ وذلك من خلال النقاط التالية:

<!--نشر نطاق الملكية الخاصة وتحقيق التنمية الاقتصادية.

<!--ملكية الاستخلاف ودورها في تحقيق التنمية الاقتصادية.

أولاً: نشر نطاق الملكية الخاصة وتحقيق التنمية الاقتصادية:

في البداية لا يعرف الإسلام سبباً لنشأة الملكية الخاصة ابتداء إلا العمل الذي يبذله الفرد فيدخل به الحياة والنماء على مرفق أو مورد تنقصه هذه الصفة، ويتحقق بذلك إضافة إلى رأس مال المجتمع والثروة المتاحة لأفراده، ومن ثم فإن نشأة أي ملكية خاصة في ظل الإسلام مرتبط لا محالة بزيادة ثروة المجتمع وبالتالي دخله القومي فهناك تلازم لا ينفك بين نشأة الملكية الخاصة ابتداء وتحقق عمارة على ظهر الأرض.

ولقد كانت طريقة اكتساب الملكية الخاصة هذه الوسيلة التي سلكتها الدولة الإسلامية في صدرها الأول لتحقيق التنمية الاقتصادية استغلالاً للتلازم بين نشأة الملكية الخاصة وتحقيق العمارة، ولقد عرفت هذه الوسيلة باسم "إحياء الموات" وما دلالة اللفظ على تحقيق التنمية الاقتصادية ببعيدة.

ولقد سلك النبي (صلى الله عليه وسلم) عدة طرق تصل كلها إلى نهاية واحدة تتمثل في جعل الملكية الخاصة للأرض مكافأة لكل من يدخلها حلبة الإنتاج. ولقد اتخذ النبي ﷺ العديد من الخطوات العملية لنشر نطاق الملكية الخاصة لتحقيق التنمية الاقتصادية وتحقيق التوازن الاقتصادي بين المهاجرين والانصار بعد الهجرة، من أهمها ما يلي:

<!--إصدار أمر تنفيذي بحق كل إنسان في ملكية الأرض الميتة التي يتمكن من إحيائها: فقال: (من أحيا أرضا ميتة فهي له)(<!--) وفي رواية أخرى (فهو أحق بها). والإحياء هو نقل الأرض من حالة تكون فيها غير منتجة لأي سبب من الأسباب إلى حالة تكون فيها منتجة، وبهذا جعل النبي ﷺ العمل المنقذ للأرض من عدم الاستغلال سبباً في تملكها ملكية خاصة.

<!--أضاف حافزاً معنوياً إلى جانب الحافز الاقتصادي والتملك بإحياء الموات: حيث لم يكتف النبي ﷺ بالملكية الخاصة في الأرض حافزاً على التنمية وإحياء الموات، وإنما أضاف إلى ذلك حافزاً معنوياً ذا أثر كبير في نفوس المسلمين بقوله: (مَن أحيا أرضًا ميتةً فله بها أجرٌ وما أكَلتِ العافيةُ فله بها أجرٌ)(<!--) فبعد أن أقر أن من أحيا أرضاً ميتة فهي له وهو أحق بها أضاف حافز معنوي لمن يقوم بعملية الأحياء أن له بذلك أجر عند الله سبحانه وتعالى لقاء ما عبد الله تعالى ببذل المجهود في تحقيق عمارة الأرض. وهذا شيء منطقي في ظل النظرية الإسلامية التي تقوم على أن البشر خلقوا لعبادة الله تعالى بعمارة الأرض، ومن يعبد الله تعالى له أجره الأخروي إلى جانب الأجر الدنيوي المتمثل في ملكية الأرض التي تم إحياؤها، وملكية ما ينتج عنها من ثمرات.

 يستنتج من هذا الحديث أيضاً أن الإحياء هدف في ذاته قبل أن يكون وسيلة للملكية، وأن الإسلام يستغل فطرة الإنسان التي فطر عليها من حب التملك وحب الحصول على ناتج عمله في تحقيق الهدف المقصود، بمعنى أن الإسلام لا يهتم بنشر الملكية الخاصة لذاتها وإنما لأنها الوسيلة التي تغرى الأفراد على بذل الجهد لتحقيق التنمية. ووجود الوعد بالأجر الأخروي على إحياء الأرض يجعل من المتصور إسلامياً أن يوجد من يمارس عملية الإحياء عبادة وطلباً للأجر الأخروي بجانب الأجر الدنيوي.

<!--مارس اقطاع الموات لبعض من رأى فيهم القدرة على عمارة الأرض: لم يكتفي النبي ﷺ بالدعوة النظرية إلى إحياء الموات، وحفز الهمم للقيام بها، وإنما سلك مسلكا عملياً أخر عندما مارس إقطاع الأرض لبعض من رأى فيهم القدرة على عمارة الأرض، والجديد في هذا الطريق أنه يضع الفرد الذي لديه القدرة على عملية الإحياء في مواجهة عملية الإحياء مباشرة، أي هو تكليف بالإحياء وليس مجرد دعوة إليه وسيحاسب الفرد على هذا التكليف بعد ثلاث سنوات فقد روى علقمة بن وائل عن أبيه (أَنّ النَّبِيَّ أَقْطَعَهُ أَرْضًا بِحَضْرَمَوْتَ)(<!--) وبعث معه معاوية ليقطعها إياه، وما ورد عن بلال بن الحارث أن النبي ﷺ أقطعه العقيق أجمع، وما روى عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ : (أَقْطَعَ فُرَاتَ بْنَ حَيَّانَ الْعِجْلِيَّ أَرْضًا بِالْيَمَامَةِ)(<!--).

فلماذا كان الإقطاع مع أن أي مسلم لديه الإذن بإحياء الأرض الموات وتملكها؟ الإجابة أن ذلك كان رغبة من النبي ﷺ في أن يضع الأفراد الذين يرى فيهم القدرة على تحقيق العمارة أمام مسئولية محددة يحاسبون عليها بعد فترة. والإقطاع هنا جهد ايجابي من الدولة تذهب به لتحقيق ما أوجب الله تعالى عليها من عمارة الأرض إلى مدى أبعد مما هو في الإحياء، فهي تسعى لتحقيق هذا الواجب باختيار ذوي المواهب في التعمير، فلا تنتظر أن يقوموا بأنفسهم بل تختارهم كأنها تكرمهم وتعرف لهم قيمة مواهبهم مستغلة ما لديهم من طموح فهو ضرب من التكليف سلكت إليه الدولة مسلك التشريف.

<!--تشريع حق الدولة في رفع يد المتحجر بعد ثلاث سنوات عن المورد الإنتاجي الذي لا يقوم بعمارته خلال هذه المدة، حتى يتيح الفرصة أمام يد أقدر على العمل والعمارة، فالإسلام لا يضع حدا أعلى للملكية الفردية من الناحية القانونية ولكنه يضع لها تحديد في مقدارها من زاوية أخرى، وهو قدرة الشخص على العمارة والاستغلال، فلا يبيح الفكر الإسلامي للفرد أن يتملك ما تعجز قدراته عن عمارته وإبقائه في حلبة الإنتاج على الدوام. ذلك أن تجاوز الملكية لهذا الحد فيه عدوان على السبب الذي شرعت من أجله ألا وهو تحقيق العمارة، فتملك الفرد ما لا يقدر على عمارته بوسيلة من الوسائل وبأكفأ الأساليب فيه افتيات على جهود التنمية وتعطيل لموارد لا ينبغي أن تتعطل وعلى الدولة أن تراقب ذلك. ودليل ذلك ما فعله عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع بلال بن الحارث، فعَنِ الْحَارِثِ بْنِ بِلالِ بْنِ الْحَارِثِ الْمُزَنِيّ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ " أَقْطَعَهُ الْعَقِيقَ أَجْمَعَ "، قَالَ: فَلَمَّا كَانَ زَمَانُ عُمَرَ, قَالَ لِبِلالٍ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ لَمْ يُقْطِعْكَ لِتَحْجُرَهُ عَنِ النَّاسِ، إِنَّمَا أَقْطَعَكَ لِتَعْمَلَ، فَخُذْ مِنْهَا مَا قَدَرْتَ عَلَى عِمَارَتِهِ وَرُدَّ الْبَاقِيَ.(<!--)

هذا هو موقف الإسلام ممن يستحوذ على موارد يعجز عن عمارتها، لأن الهدف من وضع الموارد تحت تصرف الفرد هو أن يعمل (أقطعك لتعمل) فإن لم يكن قادراً على جعل هذه الموارد داخل حلبة الإنتاج على الدوام، فإن الحل هو (خذ ما قدرت على عمارته)، ولا يحل لأحد أن يستحوذ على ما يعجز عن عمارته، إذ لو كان كذلك لما منعه عمر، وذلك لأنه يعد تضييعاً للمال والله ينهانا عنه ويكرهه لنا. وفضلاً عن ذلك فإن هذا الوضع يمثل "حمى" حرمه الإسلام عندما قال النبي ﷺ (حَمى النَّقيعَ، وقالَ: لا حِمى إلَّا للَّهِ ورسولِه)(<!--) أي أن الحمى لا يكون إلا لمصلحة عامة، ولا يكون لمصلحة خاصة.

وهكذا نرى هذا التوجيه يقوم دليلاً على أن تنظيم الملكية في الإسلام يهدف إلى تحقيق التنمية الاقتصادية، حيث لا يقبل الإسلام تحديداً لها بقدر تنتهي عنده إلا القدرة على العمارة وتحقيق التنمية.

<!--تكليف الدولة بأن تجعل تحت يد كل راغب ما يستخدم فيه قدرته على التعمير؛ وذلك بأن تنشر نطاق الملكية الخاصة بشتى السبل حتى تقيم بذلك الوضع الذي يطلبه الإسلام وتبتعد عن الوضع الذي يحذر منه. والوضع الذي يطلبه هو أن يكون المال متداولاً بين الناس جميعاً، والوضع الذي يحذر منه هو أن يكون المال دولة بين الأغنياء فقط، فهمهما كان سبب الاستحواذ عليه مشروعاً فإنه بوضعه الذي صار إليه يصبح غير مشروع، يقول الله تعالى معللاً قسمة الفيء على وجه خاص يشمل معظم فئات المجتمع (كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ) (الحشر: الآية: 7). أي حتى لا يكون المال وقفاً على فريق من الناس دون غيره، فاحتجاز المال لدى البعض وحرمان الأكثرية منه أمر محرم في الإسلام ونقيضه المتمثل في نشر نطاق الملكية الخاصة، أمر مقرر ومطلوب في الإسلام. ولكن ما السبيل إلى تنفيذ هذا التوجيه؟ هل تسلك الدولة إلى ذلك طريق نزع ملكيات الأغنياء وتوزيعها على الفقراء؟

إن الإسلام لو نصح بهذا ما كان أسلوبا إنمائيا، دافعا لجهود التنمية بالقدر المطلوب، ومن ثم " فلم يحدث في تاريخ الإسلام أن أخذ مال غنى وأعطى لفقير بغير رضاه مهما اشتدت الحاجة وبلغت الفاقة، والنبي ﷺ كان يقول (لألْقَيَنَّ اللهَ من قبْلِ أنْ أُعطِيَ أحدًا من مالِ أحَدٍ شيئًا بِغيرِ طِيبِ نفْسٍ، إنَّما البيْعُ عن تَراضٍ)(<!--).

فالإسلام لا يتبنى أسلوباً يقوم على توزيع ما بيد الأغنياء على الفقراء وإنما يتبنى أسلوباً يقوم على خلق رؤوس أموال إنتاجية، تملك للفقراء وتوقفهم في صف الأغنياء، حتى يستوي الجميع في الغنى، وبهذا السلوك يكون نشر نطاق الملكية الخاصة وسيلة لتحقيق التنمية الاقتصادية، لا وسيلة لتبديد طاقات الأمة، كما يفعل من يوزع أموال الأغنياء على الفقراء. ولكن من أين لنا بهذا الفهم؟ وما الدليل على ذلك؟

الإجابة هي أن هذا الفهم مستسقى من سلوك عهد النبي صلى الله عليه وسلم. فلقد واجه ﷺ وضعاً اقتصادياً صعباً بعد الهجرة يتمثل في تركز الثروة في يد فئة من المسلمين هم الأنصار، دون بقية المسلمين وهم المهاجرين الذين اضطروا لترك أموالهم وممتلكاتهم لكفار قريش في مكة أثناء الهجرة هرباً بدينهم، فكيف عالج النبي هذا الوضع الاقتصادي؟ هل عالجه بتوزيع ما بيد الأنصار على المهاجرين؟ وما كانوا ليمانعوا لو أمر النبي ﷺ بذلك، بل هم من طلبوا ذلك منه، أم ماذا؟

الإجابة هي أن النبي ﷺ لم يقم بتوزيع ما بأيدي الأنصار على المسلمين (المهاجرين) جميعاً، وما كان الأنصار ليمانعوا، بل لقد سألوه ذلك فرفض عليه الصلاة والسلام، فقد روى عن أبى هريرة قال: (قَالَتْ الْأَنْصَارُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اقْسِمْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ إِخْوَانِنَا النَّخِيلَ، قَالَ: لَا، فَقَالُوا: تَكْفُونَا الْمَئُونَةَ وَنَشْرَكْكُمْ فِي الثَّمَرَةِ، قَالُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا)(<!--) ولو كان الإسلام يقر نزع ملكية الأغنياء التي هي في حدود قدرتهم على العمارة علاجاً للتفاوت، لما اقر النبي ﷺ هذا التفاوت المؤقت في الوقت الذي لم يكن يجد فيه أدنى معارضة لو فعل، وكان ذلك سيكون بطيب نفس من الأنصار، أي أنه لا توجد عاقبة تخشى تتمثل في سخط الأغنياء لكن النبي ﷺ لم يفعل ذلك لأنه مشرع، فلا يجب أن يكون ذلك طريقاً يتبع من بعده وإنما لجأ ﷺ إلى الطريق التي يريد للمسلمين أن يتبعوه ألا وهو إيجاد مجالات جديدة وخلق رؤوس أموال إنتاجية جديدة، وتوجيه طاقات الناس نحو العمل المنتج وتشجيعهم على الإنتاج، بدلاً من التطلع إلى ما في أيدي الأغنياء حقداً وحسداً وتبديد طاقاتهم في هذا السبيل، وتلك هي سيرته العملية عليه الصلاة والسلام تتمثل في:

<!--دعا الناس إلى إحياء الموات: وهي دعوة إلى تعمير جديد وإحياء أرض ميتة تنمو بها الثروة العامة، ويحمل تشجيع الدولة للأفراد على الملكية الخاصة، وإثارة حوافزها في النفس فليس هو دعوة إلى تثمير ما بأيدي الناس من أموال بل دعوة إلى استحداث ملكيات جديدة باستحداث عمارة جديدة، ولقد كان لدعوته كبير الأثر، يدل على ذلك ما رواه أَسْمَرَ بْنِ مُضَرِّسٍ، قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ فَبَايَعْتُهُ، فَقَالَ: مَنْ سَبَقَ إِلَى مَا لَمْ يَسْبِقْ إِلَيْهِ مُسْلِمٌ فَهُوَ لَهُ، فَخَرَجَ النَّاسُ يَتَعَادَوْنَ يَتَخَاطُّونَ)(<!--)

<!--مارس إقطاع الأرض لبعض من رأى فيهم القدرة على العمارة: وقد بينا أن ذلك تكليف بالإحياء، وليس مجرد دعوة إليه، وأنه تكليف سلك إليه ﷺ مسلك التشريف، وهو ينتهي بخلق موارد جديدة، توقف القائم بذلك في صفوف الأغنياء.

<!--رفع يد المتحجر بعد ثلاث سنوات عن المورد الإنتاجي الذي لا يقوم بعمارته خلال هذه المدة، حتى يتيح الفرصة أمام يد أقدر على العمل والعمارة.

<!--دعوة صاحب الملكية إلى أن يحافظ عليها فلا يبددها، وينضم إلى ركب الفقراء: فإن باع عقاراً أو رأس مال منتج، فليكن هدفه من ذلك الحصول على أفضل منه، فإن لم يفعل فقد نزع البركة من هذا المال، لأن البركة تتمثل فيما تدره الأموال الإنتاجية من عائد، فإن حولها إلى مال استهلاكي، ضاع العائد الدوري، فكان ذلك هو عدم البركة، وفي ذلك يقول عليه الصلاة والسلام (مَنْ بَاعَ دَارًا أَوْ عَقَارًا فَلَمْ يَجْعَلْ ثَمَنَهُ فِي مِثْلِهِ كَانَ قَمِنًا أَنْ لَا يُبَارَكَ فِيهِ)(<!--)، وفي رواية : (لَا يُبَارَكُ فِي ثَمَنِ أَرْضٍ وَلَا دَارٍ لَا يُجْعَلُ فِي أَرْضٍ وَلَا دَارٍ)(<!--) وعلى هذا الهدى النبوي سار الخلفاء الراشدون، بدعوة الناس إلى العمل ويرشدونهم إلى استحداث ملكيات جديدة بإقطاعهم الأرض ومساعدتهم على عمارتها والعمل فيها. يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه مرشداً المسلمين الذين ينالون أعطيات دورية من الدولة : (فلو أنه إذا خرج عطاء أحد هؤلاء ابتاع منه غنما فجعله بسوادهم، فإذا خرج عطاءه ثانية ابتاع الرأس والرأسين فجعله فيها، فإن بقى أحد من ولده كان لهم شيء قد اعتقدوه)(<!--)، فهذا هو الادخار الذي يتحول إلى استثمار فيكون رأس مال، يضيف إلى الدخل القومي، وينشر نطاق الملكية الخاصة، ويحقق التنمية الاقتصادية.

كما أصدر عمر بن عبد العزيز أمراً تنفيذياً يقول فيه، انظر من قبلك من أهل الذمة قد ضعف عن أرضه، فأسلفه ما يقوى به على عمل أرضه. وكان سيدنا عمر بن الخطاب يستغل أرض الصوافي لحساب بيت المال مباشرة، فلما كان سيدنا عثمان أقطعها إقطاع إجارة، فزادت عائداتها من 9 مليون درهم إلى 50 مليون درهم، وخلق بذلك آلاف الفرص التي أغنت الآلاف من الناس.

تلك هي سبيل الإسلام في إقامة التوازن بين فئات المجتمع، سبيل تعمل على أن يكون لكل فرد في المجتمع ملكية ولا تسلك لذلك طريقاً تجرد فيه البعض لتعطى البعض الآخر، وإنما تحافظ على ملكية من يملك وتساعد من لا يملك على أن يمتلك بخلق الفرص الجديدة أمامه، وإغرائه على أن يبذل جهده في الإضافة إلى رأس مال المجتمع، فيا معشر الفقراء اعملوا فقد وضح الطريق، ولا تكونوا عالة على المسلمين.

ثانياً: ملكية الاستخلاف ودورها في تحقيق التنمية الاقتصادية:

تبين فيما سبق أن إقرار الملكية الخاصة في إطار التنظيم الإسلامي للملكية، واستخدمها كحافز لتحقيق التنمية الاقتصادية استغلالاً لفطرة الإنسان التي فطره الله عليها، محباً للخير (الملك) ساعياً للحصول عليه والاختصاص به. وكذلك فإن التنظيم الإسلامي للملكية يقر كلا من الملكية العامة وملكية الدولة ليستخدمهما في تحقيق التنمية الاقتصادية، فالإنسان وقد فطر على الإحساس بفرديته قد فطر أيضا على الإحساس بالانتماء إلى بني جنسه وتعاونه معهم، بالإضافة إلى وجود حاجات عامة تنشأ عن هذا الإحساس الفطري لدى الإنسان مما اقتضى أن يحتوي التنظيم الإسلامي للملكية على الملكية العامة.

ومن ناحية أخرى فإن تنفيذ سياسة استخدام الملكية الخاصة في تحقيق التنمية الاقتصادية، عن طريق استغلال حافز الطموح وحب التملك لا يتحقق إلا في وجود ملكية الاستخلاف وباقي أنواع الملكية في الاقتصاد الإسلامي، ذلك أن المزايا التي بينا حصول المجتمع عليها من الملكية الخاصة لا يمكن تحققها بدون وجود ملكية الاستخلاف والملكية العامة وملكية الدولة، حيث أن اتخاذ الملكية الخاصة شكلاً وحيداً للملكية يقضى على المزايا التي نحصل عليها منها في ظل وجود باقي الأنواع من الملكية. فوجود هذه الأنواع إلى جانب الملكية الخاصة يدفع صاحبها إلى الاهتمام بما يملك ويراقب قيامه على عمارتها، حتى إذا أهمل من أحيا أرضاً مواتاً فخربت نزعت ملكيته عنها وعادت إلى أصلها ملكية الاستخلاف صالحة لأن يقوم عليها ملكية خاصة لشخص أخر أو ملكية عامة أو ملكية الدولة، فوجود مبدأ الاستخلاف وصلاحية باقي الأنواع من الملكية لأن تحل محل الملكية الخاصة إذا انقضى حق صاحبها فيها هو الذي يدفع المهمل إلى العناية بملكيته الخاصة إذا كان يأتيه من بعضها ما يكفيه وزيادة؟

غير أن دور الملكية العامة وملكية الدولة لا يقتصر على ذلك بل إن لها دوراً ذاتياً أكثر ايجابية وأهمية يستمد من الموارد التي جعلها الإسلام ميدانا للملكية المشتركة فهي تضم: جزءً كبيراً من الأرض الزراعية الحية، وجميع الأراضي التي تضمها الدولة وليست بها حياة، وكل المعادن والثروات الكامنة في باطن الأرض والتي يقوم عليها معظم الأنشطة الإنتاجية في عالم اليوم.

هذه الضخامة التي عليها الموارد التي تنضوي تحت لواء الملكية العامة وملكية الدولة، توضح دورها الفعال في مجال تحقيق التنمية الاقتصادية، ولقد وَكَلَ الإسلام إدارة هذه الموارد وملكيتها إلى الجماعة ومن يمثلها هادفاً إلى تحقيق التنمية الاقتصادية، ذلك أن ما تتصف به هذه الموارد من النفع العام وإمكانية سيطرتها على كل أنواع الإنتاج في المجتمع يجعل السيطرة الفردية عليها غير محققة لصالح المجتمع. ولهذا كان وجودها في إطار الملكية العامة أو ملكية الدولة هو الكفيل بجعل طاقاتها موجهة لصالح المجتمع وتحقيق التنمية الاقتصادية. والفكر الإسلامي لا يكتفي بهذا الوضع الطبيعي الذي يفترض فيه أن يجعل هذه الملكية موجهة لتحقيق التنمية الاقتصادية وإنما يكلف ولى الأمر بإدارة هذه الموارد بما يحقق أهداف العمارة والتنمية، كتكليف الفرد بإدارة ما بيده من موارد خاصة سواء بسواء.

فالدولة في الإسلام مكلفة بأن تبعث الحياة والنماء في الموارد التي تسيطر عليها سواء بإحيائها بنفسها أو بتمكين الأفراد من إحيائها ومراقبة تنفيذ ذلك يقول أبو يوسف؛ (لا أرى أن يترك أرضا لا ملك لأحد فيها ولا عمارة حتى يقطعها الإمام فإن ذلك أعمر للبلاد وأكثر للخراج)(<!--)، فمهمة الدولة في تلك الموارد أن تجد السبيل المحقق لعمارتها وإن هي قصرت في ذلك فقد عصت أمر ربها.

وتجدر الإشارة إلى أن وجود الملكية العامة وملكية الدولة وفق التنظيم الإسلامي للملكية لا يستلزم تدخل الدولة المباشر في الإنتاج أي أنه لا تَلاَزُمْ بين الملكية المشتركة وبين التدخل الحكومي البيروقراطي المقيد لحرية القطاع الخاص، فالحقيقة أن صدر الإسلام قد عرف الملكية المشتركة لكنه آثر أن يعهد بإدارتها إلى القطاع الخاص كلما أمكن ذلك وكان متاحاً. وعليه فإن البيروقراطية المتلازمة مع الملكية العامة الاشتراكية، لا وجود لها في الإسلام إذ لا يلزم من الملكية المشتركة الإسلامية التدخل الحكومي في الإنتاج.


<!--[endif]-->

<!--))  الخراج لأبي يوسف، د ن، د ت، ص61.


<!--[endif]-->

<!--))  محمد ناصر الدين الألباني، إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل، المكتب الإسلامي، بيروت - لبنان، ط 1، 1399هـ، رقم الحديث: 1550.

<!--))  محمد بن حبان البستي، صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان، مرجع سابق، برقم: 5203.

<!--))  محمد ناصر الدين الألباني، صحيح سنن الترمذي، مرجع سابق، رقم الحديث: 1381.

<!--)) أبي عبيد القاسم بن سلام، كتاب الأموال، تحقيق: خليل محمد هراس، دار الفكر، بيروت – لبنان، د ت، برقم: 582.

<!--))  أحمد بن الحسين البيهقي، السنن الكبرى، مرجع سابق، ج 4، ص152؛ الأموال للقاسم بن سلام، مرجع سابق، برقم: 607.

<!--))  عبدالحق بن عبدالرحمن الإشبيلي، الأحكام الشرعية الصغرى، تحقيق: أم محمد بنت أحمد الهليس، مكتبة ابن تيمية - القاهرة، ط 1، 1413هـ، ص699.

<!--))  محمد ناصر الدين الألباني، صحيح الجامع الصغير وزيادته، تحقيق: زهير الشاويش، المكتب الإسلامي، بيروت - لبنان، ط 3، 1408هـ، برقم: 5029.

<!--))  محمد بن إسماعيل البخاري، صحيح البخاري، مرجع سابق، رقم الحديث: 2325.

<!--))  سليمان بن الأشعث أبو داود السجستاني، سنن أبي داود، مرجع سابق، برقم: 3071.

<!--))  محمد ناصر الدين الألباني، صحيح سنن ابن ماجه، مكتب التربية العربي لدول الخليج، ط 1، 1407هـ، رقم الحديث: 2035.

<!--))  محمد ناصر الدين الألباني، سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها، مرجع سابق، ج 5، ص429.

<!--))  ابن عساكر، تاريخ مدينة دمشق، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، د ت، ج ٤٤، ص 354.

    بقلم د.علاء بسيوني

لقد ورد في القرآن الكريم والسنة المطهرة العديد من الآيات والأحاديث التي تحث على العمل والتكسب الذي هو طريق التملك مثل قوله تعالى: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (الجمعة: الآية: 10)، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: (لَأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ فَيَأْتِيَ بِحُزْمَةِ الْحَطَبِ عَلَى ظَهْرِهِ فَيَبِيعَهَا فَيَكُفَّ اللَّهُ بِهَا وَجْهَهُ ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ أَعْطَوْهُ أَوْ مَنَعُوهُ)([1]) كما أن الأصل في المعاملات الحل والإباحة، ولا يحرم منها إلا ما قام الدليل على تحريمه وما عدا ذلك فيبقى على الأصل وهو الإباحة، وهذا مما يدل على سماحة الشريعة الإسلامية ويسرها.

وبالنظر في الأسباب التي شرعها الإسلام لاكتساب الملكية نجد أن آراء العلماء والمؤلفين قد تنوعت في تقسيمها، إلا أنه بالتأمل في تلك التقسيمات نجد أنها في الجملة لا تكاد تخرج عن الأقسام الآتية، مع العلم أنه يندرج تحت كل قسم منها فروع كثيرة:

القسم الأول: التملك مقابل عوض: ويدخل فيه المعاوضات بأنواعها، كالبيع، والإجارة، والسلم، ونحو ذلك.

القسم الثاني: التملك بغير عوض: ويدخل فيه عقود التبرعات كالوصية، والهبة، والميراث.

القسم الثالث: التملك بالاستيلاء أو بالعمل: فيدخل فيه إحراز المباح، وإحياء الموات، والصيد، والاحتطاب.

وفيما يلي نبذة موجزة لأهم أسباب الملكية:

<!--البيع: وهو مبادلة المال بالمال تمليكا وتملكاً. والبيع مشروع بالكتاب والسنة والإجماع: قال تعالى: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ) (البقرة: الآية: 275)، وردت أحاديث كثيرة عن النبي ﷺ تدل على مشروعية البيع وأنه من أطيب المكاسب ومن ذلك؛ أن النَّبِيُّ ﷺ سئل: أي الكسب أطيب؟ قال: (عملُ الرَّجلِ بيدِهِ، وكلُّ بَيعٍ مَبرورٍ)(<!--)

<!--السَلَم: وهو في اللغة السلف، وشرعاً هو عقد على موصوف في الذمة، مؤجل بثمن مقبوض في مجلس العقد، أو هو بيع آجل (السلعة) بعاجل (النقود).

<!--الإجارة: وهي عقد على منفعة مباحة معلومة، بشروط معينة.

<!--الوصيـــة بالمال: وهي التبرع بالمال بعد الموت.

<!--إحراز المباح: وهو كل ما خلقه الله تعالى في هذه الأرض مما ينتفع به الناس على الوجه المعتاد ولا مالك له مع إمكان حيازته وملكه، وهو متنوع فمنه الحيوانات والنباتات والجمادات، فالأموال المباحة التي لم تدخل في حيازة معصوم جعلتها الشريعة الإسلامية محلاً للملك، فمن استولى عليها بالوجه الشرعي فقد ملكها، ويتنوع الاستيلاء عليها بتنوع تلك الأموال ، فمنها ما يكون الاستيلاء عليه بالصيد، ومنها ما يكون بوضع اليد عليه كالاحتطاب، ومنها ما يكون بالإحياء أو بالإقطاع من ولي الأمر مثل الأراضي، ودليل ما ورد سمر بن مضرس الطائي قال أتيتُ النَّبيَّ ﷺ فبايعتُه فقال: (من سبق إلى ما لم يسبِقْ إليه مسلمٌ فهو له)(<!--).

<!--إحيـاء المــوات: والموات هو الأرض المنفكة عن الاختصاص وملك معصوم. وإحياء الموات: يعني إحياء الأرض الموات التي لم يُسْبَق إليها أحد بزرع أو بناء.  أو مشروع تجاري أو سياحي يقام عليها. وإحياء الموات مشروع بأدلة من السنة والإجمـاع منها؛ ما ورد عن جابر رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال؛ (مَن أحيا أرضًا ميتةً فهي له وما أكَلتِ العوافي منها فهو له صدقةٌ)(<!--). ويشترط لصحة إحياء الموات؛ أن يكون الموات ليس ملكاً لأحد وليس من اختصاص أحد، وألا تكون الأرض الموات مرفقاً عاماً لأهل البلد كمرعى، ومحتطب، ومناخ إبل، ومطرح رماد، فلا يجوز إحياؤه.

أما عن كيفية إحياء الأرض الموات: فإن الإحياء الذي يملك به الإنسان الأرض يختلف حسب المقصود منها، وحسب أعراف أهل البلد، فيرجع فيه إلى العرف والمقصود، فإحياء الموات للسكن يكون بتحويط البقعة بالبناء وسقف بعض الأرض وإكمال ما يلزم للسكن عادة، وإحياء الموات للزراعة يكون بتحويط الأرض وتسويتها وإيجاد الماء والغرس ونحو ذلك، ولا يحصل الإحياء بمجرد الحرث والزرع؛ لأنه لا يراد للبقاء بخلاف الغرس، وإحياء الموات المغمور بالماء بكون بحبسه ونزحه، لتكون صالحة للبناء أو الزراعة. وإحياء الموات المملوء بالحجارة أو الحفر يكون بنقل الحجارة منه، وتسوية الأرض، لتكون صالحة للبناء أو الزراعة. ومن حفر بئراً، فوصل ماؤها فقد أحياها، وله حماها ومرافقها المعتادة إذا كان ما حولها مواتاً، وهكذا. ويُرجع في ذلك كله إلى العرف، فما عده الناس إحياءً فإنه تُملك به الأرض الموات، فمن أحياها إحياءً شرعياً ملكها بجميع ما فيها، كبيرة كانت أو صغيرة، ومن احتجز أرضا وعجز عن إحيائها فللإمام أخذها وإعطاؤها لمن يقدر على إحيائها، واستثمار منافعها.

أما عن حكم استئذان الإمام في الإحياء: فإنه يجوز تملُّك الأرض الموات بالإحياء وإن لم يأذن فيه الإمام؛ لأن إحياء الأرض مباح كالصيد والكلأ والماء، فلا يشترط فيه إذن الإمام، لكن إن كثر النهب وخُشي الفساد والنزاع فللإمام تنظيمه بما يحقق المصلحة، ويدفع المفسدة، فلا ضرر ولا ضرار، وذلك لما ورد عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: (مَنْ أعْمَرَ أرْضاً لَيْسَتْ لأحَدٍ فَهُوَ أحَقُّ)(<!--).

أما حكم من أحيا أرض غيره دون علمه: إذا أحيا الإنسان أرضاً فاتضح أنها مملوكة لأحد خُيِّر مالكها، فإما أن يسترد ممن أحياها أرضه، بعد أن يؤدي إليه أجرة عمله، وإما أن يحيل إليه حق الملكية بعد أخذ ثمنها منه.

أما عن حكم تحجير الأرض الموات: فإن التحجير يعني أن يتم عمل صور من الحجارة على الأرض، والتحجر لا يفيد التملك، وإنما يفيد الاختصاص والأحقية عن غيره كأن يحيط الأرض بأحجار، أو شبك، أو خندق، أو بحاجز ترابي، أو بجدار ليس بمنيع، أو يحفر بئراً ولا يصل إلى الماء، أو يبني الجدار من جهة دون الجهات الأخرى ونحو ذلك، فهذا التحجير لا يفيد التملك، وإنما تفيد اختصاصه بها دون غيره؛ لأن الملك بالإحياء، وهذا ليس بإحياء، لكن يصير أحق الناس به، فمن فعل ذلك ضرب له ولي الأمر مدة لإحيائها، فإن أحياها إحياءً شرعياً وإلا نزعها من يده، وسلمها لمن يرغب في إحيائها.

أما عن ما لا يصح الاختصاص به: فإنه يوجد أنواع من الموارد يجب أن تبقى مشاعة مباحة مبذولة لعامة المنتفعين منها، ولا يجوز لأحد أن يختص بها، ولا يَمنع منها المحتاج إليها، وهي الماء والكلأ والنار وما اشترك معها في خصائصها لأنها من الأشياء الضرورية للناس، وذلك لقوله ﷺ {الْمُسْلِمُونَ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثٍ؛ الْمَاءِ وَالْكَلَإِ وَالنَّارِ{(<!--) وفيما يلي توضيح للمقصود بكل منها:

<!--الماء: فلا يصح تملك ماء السماء، وماء العيون، وماء الأنهار، ولا يجوز ولا يصح بيعه؛ لأن الناس شركاء فيه. أما إذا حازه الإنسان في بِرْكته، أو قِرْبته، أو في خزان، أو إناء، فيجوز بيعه.

<!--الكلأ: وهو الحشيش النابت في مشاع، سواء كان رطباً أو يابساً، وهو نبات البر، وعلف البهائم، فلا يصح بيعه، ولا يجوز منع الناس منه؛ لأن الناس شركاء فيه. فإذا جمعه وحصده تملَّكه، وجاز بيعه.

<!--النار: وهي من الأشياء المشاعة بين الناس، فلا يجوز بيعها، وإنما يجب بذلها لمحتاجها، سواء في ذلك وقودها كالحطب، أو جذوتها كالقَبَس. فهذه الثلاثة من المرافق العامة التي يجب بذلها، ويحرم منعها؛ لأن الله أشاعها بين خلقه، والضرورة تدعو إليها.

<!--الإقطـاع: هو إعطاء الإمام أرضاً مواتاً لمن يراه أهلاً لذلك، أو جعل الحاكم بعض الأراضي العامرة بالبناء أو الزراعة مختصة ببعض الأشخاص فيكون هذا الشخص أولى به من غيره بشروط معينة. والإقطاع مشروع إذا كان لمصلحة. والإقطاع ثلاثة أنواع:

<!--إقطاع التمليك: وهو إقطاع يقصد به تمليك الإمام لمن أقطعه.

<!--إقطاع إرفاق: وهو أن يقطع الإمام أو نائبه الباعة الجلوس في الطرق الواسعة والميادين ونحو ذلك مما ينتفعون به دون إضرار بالناس.

<!--إقطاع استغلال: وهو أن يقطع الإمام أو نائبه من يرى في إقطاعه مصلحة لينتفع بالشيء الذي أقطعه، فإذا فقدت المصلحة فللإمام استرجاعه.

وكل هذه الأقسام جائزة، ولا يُقطِع الإمام أي فرد إلا الشيء الذي يقدر على إحيائه؛ لأن في إقطاعه أكثر من ذلك تضييقاً على الناس في حق مشترك بينهم، ولا يُقطِع ما تعلقت به مصالح المسلمين كالملح، والنهر ونحوهما، فعَنْ وَائِلٍ بن حجر الحضرمي رَضِيَ اللهُ عَنْهُ (أَنَّ النَّبيَّ أَقْطَعَهُ أَرْضاً بحَضْرَمُوتَ)(<!--) وَعَنْ أسْمَاءَ بِنْتِ أبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قالتْ: (كُنْتُ أنْقُلُ النَّوَى مِنْ أرْضِ الزُّبَيْرِ الَّتِي أقْطَعَهُ رَسُولُ الله عَلَى رَأْسِي، وَهِيَ مِنِّي عَلَى ثُلُثَيْ فَرْسَخٍ. وَقال أبُو ضَمْرَةَ: عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أبِيهِ: أنَّ النَّبِيَّ أقْطَعَ الزُّبَيْرَ أرْضاً مِنْ أمْوَالِ بَنِي النَّضِيرِ)(<!--).


<!--[endif]-->

<!--))  محمد بن إسماعيل البخاري، صحيح البخاري، مرجع سابق، رقم الحديث: 1471.

<!--))  أحمد بن الحسين البيهقي، السنن الكبرى، دار المعرفة، بيروت - لبنان، 1413هـ، ج 5، ص263؛ محمد ناصر الدين الألباني، صحيح الترغيب والترهيب للمنذري، مكتبة المعارف، ط 1، 1421هـ، رقم الحديث: 1690.

<!--))  أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، تهذيب التهذيب، مؤسسة الرسالة، بيروت - لبنان، ط 1، 1416هـ، ج 1، ص 338؛ سليمان بن الأشعث أبو داود السجستاني، سنن أبي داود، تحقيق: عزت عبيد الدعاس، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، ط 1، 1389هـ، برقم 2672.

<!--))  محمد بن حبان البستي، صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان، مرجع سابق، برقم: 5025.

<!--))  محمد بن إسماعيل البخاري، صحيح البخاري، مرجع سابق، رقم الحديث: 2335.

<!--))  أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، هداية الرواة إلى تخريج أحاديث المصابيح والمشكاة، مرجع سابق، ج 3، ص214.

<!--))  محمد ناصر الدين الألباني، صحيح سنن الترمذي، مرجع سابق، رقم الحديث: 1381.

<!--))  محمد بن إسماعيل البخاري، صحيح البخاري، مرجع سابق، رقم الحديث، 3151.

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 959 مشاهدة

   بقلم د.علاء بسيوني

يؤمن الفكر الاقتصادي الإسلامي بكل من الملكية الخاصة والعامة وفقاً لمبدأ الاستخلاف على نحو يحقق التوازن بينهما، ويضاف إلى ذلك أنواع أخرى من الملكية مثل الملكية التكافلية وملكية الدولة، ولكل نوع من هذه الأنواع مجاله الخاص الذي يعمل فيه، وهدفه الذي يسعى إلى تحقيقه، كما أن القاعدة العامة للملكية في الاقتصاد الإسلامي هي ملكية الاستخلاف التي ينبثق عنها باقي أنواع الملكية في الاقتصاد الإسلامي، ويمكن عرض أنواع الملكية في الاقتصاد الإسلامي على النحو التالي:

<!--ملكية الاستخلاف: يقوم توزيع الملكية في الاقتصاد الإسلامي على أساس مبدأ الاستخلاف والذي يعني أن الأرض والسموات بما فيها وما عليها ملك لله تعالى الذي خلق الكون وهو القادر على التصرف فيه سواء بالإيجاد والعدم، أو الإحياء والإماتة أو غير ذلك،(<!--) أما ملكية البشر فهي ملكية استخلاف مشتقة من تفويض الله تعالى للإنسان بخلافته على الأرض وإطلاق يده في هذا الوجود تنعُّماً واستهلاكاً لكفاية ذاته وإحرازاً لوجوده،(<!--) وينقسم الاستخلاف إلى قسمين هما:

<!--استخلاف عام: للبشر كلهم في الأرض بدأ منذ أن هبط آدم عليه السلام وزوجته إلى الأرض، وهو ليس خاصاً بفئة دون أخرى. فالأصل اشتراك البشر جميعاً في الانتفاع بما أوجد الله في الأرض من خيرات وطيبات، فهم على حدٍ سواء فيها، إلا إذا كان هناك استخلاف خاص سواء للدول أو الأفراد.(<!--)

<!--استخلاف خاص: وهو أن تستقل أمة من الأمم أو فرد من الأفراد في ملكية شيء من الأشياء، بأن تستقل أمة من الأمم بإقليم من الأرض تُحَكِمْ فيه نفسها ويكون لها سلطان يحمي مصالحها ويدبر شئونها، وهذا النوع من الاستخلاف قائم على الاستخلاف العام. أما استخلاف الأفراد فهو استقلال الفرد في ملكية ما تحت يده من الأموال سواء كانت أموال ثابتة أو منقولة، فهو مستخلف فيها استخلافاً خاصاً، ومصدر هذا النوع من الاستخلاف يرجع إلى أحد أمرين هما:

<!--الاستخلاف العام: وذلك في حالة كون مصدر ملكية الفرد لهذا الشيء مباشراً من الموارد غير المستغلة المملوكة للمجتمع ملكية استخلاف كإحراز بعض المباحات والصيد، أو من إنتاج الفرد نفسه عن طريق استعماله وتفعيله لبعض المواد في الأرض كالزراعة والصناعة ونحوهما، فالأفراد وفقاً لمبدأ الاستخلاف العام قد جعل الله لهم سلطاناً مباشراً على ما في الأرض من خيرات وطيبات، ومكَّن لهم الانتفاع منها بما أعطاهم ووهبهم من القوى العقلية والجسمية.

<!--الاستخلاف الخاص: وذلك إذا كان مصدر ملكية الفرد للشيء من مالك سابق عليه كالإرث أو الوصية أو من عقد يترتب عليه انتقال الملكية، فيكون حل محل المستخلف السابق عليه فيما استُخلِف فيه.(<!--)

<!--الملكية الخاصة: هي نوع من الملكية الثابتة والمستقرة وفقاً لمبدأ الإستخلاف، وتعنى اختصاص المالك (أفراد أو مؤسسات) بما يقع تحت يده من الموارد الاقتصادية التي يجوز ملكها وتملكها، وثبوت حق الاستعمال والاستغلال والتصرف له في الأشياء المملوكة، بشرط الحصول عليها بطرق مشروعة، واستخدمها وفقاً لمراد المالك الأصلي لها وهو الله تعالى، وعدم وجود مانع شرعي يحول بين صاحب هذا الحق والتمتع بهذه الحقوق كالجنون والسفه.

والمال بطبيعته قابل للتملك، وقد يوجد ما يجعله غير قابل لذلك أحيانًا مثل: الأشياء التي لا يجوز تملكها أو تمليكها بأي حال من الأحوال كالأشياء التي خصصت للمصلحة العامة والنفع العام؛ كالطرق العامة، والحصون، والأنهار، ونحوها، فإذا زالت عنها صفة التخصيص عادت لحالتها الأصلية وأمكن تملكها.(<!--) وما لا يقبل التملك إلا بمسوغ شرعي؛ كالأموال الموقوفة، وأملاك بيت المال، وأموال الدولة، فكل ذلك لا يجوز بيعه ولا هبته إلا لمصلحة راجحة اقتضت ذلك.(<!--) وتتميز الملكية الخاصة في الإسلام بمجموعة من الخصائص من أهمها:

<!--الملكية الخاصة في الإسلام ملكية ثابتة ومستقرة ولا يجوز إلغاؤها أو التعدي عليها دون سند شرعي أو قانوني لتحقيق مصلحة عامة راجحة، حيث أن إقرار الملكية الخاصة أمر معلوم من الدين بالضرورة، ومترتب عليه العديد من التكاليف والنفقات والعقود الشرعية.(<!--)

<!--الملكية الخاصة حق كامل يشتمل على جميع الأعيان والحقوق والمنافع والمزايا التي تمنحها الشريعة لصاحبها: فهي تمكِّن صاحبها من التصرف فيما يمتلكه كيف ما يشاء وعلى أي نحوٍ يريده سواء كان بيعاً أو شراءً أو هبةً أو غير ذلك، ما لم يكن تصرفه ممنوعاً شرعاً كالإضرار بالغير أو الإنفاق على محرم.(<!--)

<!--أنه لا يوجد حد أو سقف معين لما يتملكه الإنسان ملكية خاصة في الإسلام: مادام يتملكه من خلال الوسائل المشروعة وفقاً للشريعة الإسلامية.

<!--الملكية الخاصة في الإسلام حقاً دائماً لصاحبهاً: لا تزول عنه بحال من الأحوال إلا برضاه ما لم يكن هناك مصلحة راجحة معتبرة شرعاً، كشفعة أو نزع الملكية للمصلحة العامة.

<!--الملكية الخاصة في الإسلام تعمل على تحقيق النمو الاقتصادي، حيث تدفع صاحبها إلى تنمية أمواله حرصاً على عدم تآكلها بفعل الزكاة على الأموال المكتنزة، ودون خوف أو حذر من مصادرة أمواله، أو غير ذلك.

هذا ويتم اكتساب الملكية الخاصة إما عن طريق الاستفادة من الاستخلاف العام؛ كإحراز المباحات والصيد، وإحياء الموات، والانتفاع بما أوجد الله في الأرض من خيرات وطيبات. أو الاستخلاف الخاص؛ بالحصول على ملكية الشيء من ملك سابق عليه كالإرث أو الوصية أو من عقد يترتب عليه انتقال الملكية من شخص إلى أخر.

وتجدر الإشارة إلى أنه ليس لولي الأمر أن يمنع التملك عن طريق إحياء الموات لأن الأرض الموات (غير المستغلة) ليست ملكاً لبيت المال، وإن كانت بحكم الولاية العامة في وضع يده، مما يستوجب إذنه منعاً للتزاحم، كما أن ولى الأمر إن منع الإحياء أو اشترط ثمناً للأرض الموات فإنه يعد بذلك معطلاً لأحكام الشريعة الإسلامية.(<!--)

هذا وتكمن أهمية إقرار الملكية الخاصة في الإسلام في تحقيق ما يلي:

<!--تحقيق حاجة الإنسان، وما تتطلبه الحياة الكريمة: حيث يعمل الإقرار بالملكية الخاصة وما يصاحبها من غريزة حب التملك على تحفيز الإنسان ودفعه في اتجاه العمل والإنتاج وطلب الرزق من أجل توفير احتياجاته الأساسية وما تتطلبه الحياة الكريمة.

<!--عمارة الأرض واستغلال مواردها: حيث أن عمارة الأرض واستغلال مواردها مرهون بزيادة العمل والإنتاج، ويعمل الإقرار بالملكية الخاصة على دفع أعضاء المجتمع إلى ذلك، وهو ما يحقق الهدف والمهمة التي أمرنا الله تعالى بها وهي عمارة الأرض واستغلال مواردها.

<!--إعداد القوة: حيث يعد المال من أهم مصادر القوة للإفراد والجماعات والمجتمعات، وفي إقرار الملكية الخاصة توجيه نحو السعي والزيادة في الرزق والذي ينعكس على قوة وقدرة المجتمع المسلم الداخلية والخارجية، ويندرج تحت بند الإعداد المأمور به في قوله تعالى (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ ) ( الأنفال : الآية 60).

<!--البذل والإنفاق في أوجه البر: إن التعبد والتقرب لله تعالي بالإنفاق في سبله تطوعا مرهون بقدرة الفرد المالية على الإنفاق والكسب، وبذلك فإن الملكية الخاصة تتيح للأفراد الحصول على الأموال التي تمكنهم من الإنفاق في سبيل الله تعالى.

<!--تحقيق التفاوت في الرزق: إن الإقرار بالملكية العامة وحدها لا يحقق التفاوت في الرزق الذي أشار الله تعالى إليه في قوله (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ۗ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) ( الأنعام : الآية 165) وقوله ( وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ ۚ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَىٰ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ ۚ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ) ( النحل: الآية 71) وفي هذا التفضيل والتفاوت في الرزق الكثير من المصالح والفوائد في الحياة الدنيا خاصة في مجال الاقتصاد، والكثير من الابتلاءات والاختبارات التي تعمل على تمحيص الناس وتمايزهم في الآخرة.

<!--الملكية العامة: هي الملكية التي يكون صاحبها مجموع الأمة أو الجماعة منها، دون النظر لأشخاص أفرادها على التعين، بحيث يكون الانتفاع بالأموال التي تتعلق بها لهم جميعاً، دون اختصاص أحد بها، فهي أموال محجوزة عن التداول،(<!--) توكل إدارتها للدولة وتشرف عليها بموجب ما تقتضيه المصلحة العامة، حيث تختص الدولة بإدارة وتنظيم كل ما لا يعرف له مالك أو لم يتعين له مالك، ولا يجوز للدولة أو الأفراد التصرف برقبتها أو الاستفراد بمنفعتها، ويشترك فيها عموم الناس شراكة إباحة،(<!--) ويدخل في هذا النوع من الملكية المباحات العامة من الثروات الطبيعية التي يجوز لجميع أفراد المجتمع التمتع بها وبخيراتها دون تمييز.(<!--) وتتميز الملكية العامة في النظام الاقتصادي الإسلامي بمجموعة من الخصائص من أهمها:

<!--الملكية العامة ملكية دائمة ومستقرة بدوام واستقرار مصلحة عموم المسلمين، والحق فيها مستقر للجماعة باعتبارها مؤلفة من أفراد المجتمع، وعلاقتها مع مصالح عموم المسلمين (المجتمع) وحاجاتهم كعلاقة العلة بالحكم فمتى وجدت العلة وهي المصلحة العامة وجد الحكم وهو الملكية العامة.

<!--الملكية العامة مقررة وفق ما شرعه الله تعالى ووضحته سنة رسوله ﷺ ولا يملك أحد التصرف فيها أو إلغاءها.

<!--ملكية الدولة: هي الملكية التي تكون للدولة، ومواردها لبيت مال المسلمين، يتصرف فيها ولي أمر المسلمين بموجب ما تقتضيه المصلحة العامة، ويجـوز للإمـام التصرف فيها بالإنفاق والبيع والإجارة وغيرهـا كالأموال الخاصة في يد أصحابـها.(<!--) فقد جعل الشرع ملكية بعض الموارد الاقتصادية ملكاً لعموم المسلمين عين بعضها على جهات معينة تصرف عليها كالزكاة، وترك بعضها لم يعين مصارفها يتصرف فيها ولى الأمر وفق اجتهاده مثل الفيء والخراج والجزية .. الخ.(<!--) وحيث أن الدولة من وجهة النظر الإسلامية هي المسئولة عن إدارة كل من الملكية العامة وملكية الدولة ينبغي التفرقة بينهما، وهو ما يقوم به البحث على النحو التالي:

<!--أن الملك في الملكية العامة يعود للأمة أما في ملكية الدولة يعود لمنصب الذي يباشر حكم الأمة.

<!--أن ملك الدولة يتمثل في المنشآت والأموال الخاصة بالدولة مثل العقارات والمباني والمؤسسات الحكومية والمصانع التي تنشئها، والتي يحق لولي الأمر التصرف في رقبتها بصفته وفقاً لما تمليه عليه المصلحة العامة، بناء على السلطات المخولة له من الجماعة. أما الملكية العامة فتشمل مختلف الأموال التي ينتفع بها كل أفراد المجتمع مثل المرافق العامة التي تخول مسؤولية إدارتها إلى الدولة دون منح الحق لولي الأمر بالتصرف في رقبتها.(<!--) وينعكس اختلاف الملكيتين في العناصر التالية:

<!--طريقة استثمار كل من الملكيتين والدور الذي تؤديه في بناء المجتمع المسلم: فالأراضي والموارد والثروات التي تمتلك ملكية عامة للأمة يجب على ولي الأمر استثمارها في إشباع الحاجات العامة والأساسية للمجتمع المسلم، وتحقيق المصالح العامة المرتبطة بالمجتمع ككل مثل؛ إنشاء الطرق والجسور، وحفر الترع، والمؤسسات الاجتماعية العامة، ولا يجوز استخدامها في تحقيق مصلحة جزء معين من الأمة ما لم ترتبط مصالحه بمصالح المجموع، كما لا يسمح بالصرف من ريع الملكية العامة على النواحي التي يعتبر ولي الأمر مسؤولاً عنها من حياة المواطنين في المجتمع المسلم. أما أملاك الدولة فيمكن استثمارها في مجال المصالح العامة للأمة أو لمصلحة معينة لفئة من فئات المجتمع أو لمصلحة أخرى يكون ولي الأمر مسؤولاً عنها.(<!--)

<!--الملكية العامة لا تسمح بظهور حق خاص للأفراد: فالموارد المملوكة ملكية عامة للأمة لا يكتسب الفرد فيها حقاً خاصاً حتى لو مارس عليها عملية الإحياء، أما ملكية الدولة فيمكن أن يكتسب الفرد فيها حقاً خاصاً على أساس العمل بمقدار ما تسمح به الدولة (بإذن الإمام) حتى وإن لم يمتلك رقبتها وظلت ملكاً للدولة.(<!--)

<!--أن ما يدخل في نطاق الملكية العامة للأمة لا يجوز لولي الأمر التصرف فيه ونقل ملكيته إلى الأفراد سواء بالبيع أو الهبة، بخلاف ملكية الدولة التي يجوز فيها ذلك وفقاً لما يقدره الإمام من المصلحة العامة.(<!--)  

<!--الملكية التكافلية: ويقصد بها الموارد الاقتصادية التي تحولت أو تتحول طبيعتها إلى شكل خاص من الملكية تخرج به من إطار الملكية الخاصة أو ملكية الدولة إلى نوع من الملكية العامة ذات الطبيعة الخاصة، سواء لعموم المسلمين أو لصالح فئة معينة من فئات المجتمع تعبداً لله تعالى، وإحساساً بالمسئولية الاجتماعية تجاه المجتمع أو الأمة الإسلامية، ويهدف هذا النوع من الملكية إلى تحقيق التكافل الاجتماعي بين أعضاء المجتمع المسلم، ويدخل في هذا النوع من الملكية الوقف والصدقات الجارية.

وتجدر الإشارة إلى أن هذا النوع من الملكية يعد ملكية تراكمية مؤبدة عبر الزمن، وهذا ما جعل نصيب هذه الملكية من الأراضي الزراعية في مصر والعديد من الدول يقدر بحوالي ثلث الأراضي الزراعية، حيث قدر حجم الأراضي الزراعية الموقوفة في مصر عام 1812م بـ 600 ألف فدان،(<!--) وصلت إلى 700 ألف فدان وفقاً لإحصاء سنة 1935م، ثم نقصت إلى 582.950 بعد صدور قانون الوقف رقم 48 لسنة 1946م وفقاً لإحصاء سنة 1952م.(<!--) هذا بالإضافة إلى العديد من آلاف العقارات والمباني والأراضي الموقوفة، وهذا ما يدل على كبر حجم هذا النوع من الملكية ودوره المؤثر في الحياة الاقتصادية والاجتماعية.

ويرى البحث أن الفرق بين الملكية التكافلية في الاقتصاد الإسلامي والملكية التعاونية في الاقتصاد الاشتراكي يمكن توضيحه من خلال ما يلي:

<!--الملكية التكافلية حق أصيل في الاقتصاد الإسلامي ولا يملك أحد وفقاً للشريعة الإسلامية إلغاؤها أو النيل منها، أما الملكية التعاونية فهي محكومة بالقوانين الاشتراكية التي تحدد حجمها ومدى السماح بها، حيث تسمح الدولة ببعض الملكيات الكبيرة للأفراد في شكل جمعيات تعاونية يشترك فيها الأفراد في الإنتاج والاستغلال واقتسام العائد بناء على مبدأ المساواة الاشتراكي، والتخطيط المركزي الإلزامي، وعادة ما يكون هؤلاء الأفراد ملزمين بتسليم منتجاتهم إلى الدولة.(<!--)

<!--الباعث في الملكية التكافلية باعث ديني أخلاقي، والغرض منها تعبدي لله تعالي، وتهدف إلى تحقيق التكافل الاقتصادي وتأمين حد الكفاية لجميع أعضاء المجتمع. أما في الملكية التعاونية فهو باعث اقتصادي، يهدف إلى الحصول على بعض الموارد الاقتصادية غير المسموح بتملكها نتيجة القوانين الاشتراكية.

<!--الملكية التكافلية في الإسلام تراكمية ولها أثارها الاقتصادية والاجتماعية المتعددة، وتكون شاملة إما للمجتمع بأثره أو لفئة معينة. أما الملكية التعاونية فهي محدودة التأثير، حيث أنها لا تشمل سوى الأفراد المشاركين فيها.

ملاحظات عامة حول نمط وتوزيع الملكية في الاقتصاد الإسلامي:

<!--الحرية المقيدة: فالإسلام يقر حرية الأفراد والجماعات في التملك والإنتاج والاستهلاك غير أن هذه الحرية مقيدة بما يتفق مع مصلحة الفرد نفسه ومصلحة المجتمع، فالحرية الاقتصادية من وجهة النظر الإسلامية حق يقابله واجبات والتزامات تجاه المجتمع تتمثل في الالتزام بالواجبات الشرعية، وعدم التصرف في المال الخاص تصرفاً يؤذي الغير.(<!--)

<!--لكل نوع من أنواع الملكية في الاقتصاد الإسلامي هدفه الخاص ومجاله الذي يعمل فيه: فملكية الاستخلاف تعمل على تحديد الإطار العام لامتلاك الموارد الاقتصادية والثروة داخل المجتمع، ورسم العلاقة بين المالك الأصلي لهذه الموارد وهو الله تعالى ومن استخلف لعمارة الأرض وإدارة الموارد الاقتصادية والثروة الموجودة بها، كما تعمل على فتح المجال أمام الراغبين في الاستفادة من فضل الله تعالى والحصول على نصيب من الموارد الاقتصادية المتاحة في المجتمع، مما يعمل على تحقيق التنمية الاقتصادية. أما الملكية الخاصة فتهدف إلى تحقيق النمو والتنمية الاقتصادية من خلال فتح المجال أمام الحافز الاقتصادي. والملكية العامة تهدف إلى تأمين الاحتياجات الأساسية لجميع أفراد المجتمع، بينما تعمل هي وملكية الدولة على تحقيق التوازن الاقتصادي في المجتمع. أما الملكية التكافلية فتهدف إلى إعادة التوزيع وتحقيق العدالة في توزيع الموارد الاقتصادية، وتوفير حد الكفاية لجميع أعضاء المجتمع عن طريق تحقيق التكافل والتوازن الاقتصادي والاجتماعي بين أعضائه.

<!--يحدد النمط العام لتوزيع الملكية في الاقتصاد الإسلامي لكل نوع من أنواع الملكية إطاره ونطاقه الخاص ومجاله الذي يعمل فيه، مما يحد من التعارض أو التضارب بينها في تحقيق الأهداف، وهذا ما يعمل على تحقيق التوازن والاستقرار الاقتصادي، ويساهم في تحقيق النمو والتنمية الاقتصادية.

<!--يقدم الاقتصاد الإسلامي المصلحة العامة للمجتمع على المصلحة الخاصة عند التضارب: وعدم إمكانية التوفيق بينهما.(<!--)

<!--يتحدد نصيب كل نوع من أنواع الملكية في الاقتصاد الإسلامي من الموارد الاقتصادية بتلقائية تامة: بناء على دوره الذي يقوم به في الحياة الاقتصادية والاجتماعية، وكفاءته في استخدام الموارد الاقتصادية لتحقيق أهدافه التي يسعى إليها.

<!--يحدد نمط الملكية في الاقتصاد الإسلامي مسئولية ولى الأمر أو الحكومة ومواردها وأهدافها الاقتصادية، ويحد من تدخلها وسيطرتها على الموارد الاقتصادية الأخرى، مما يعد تحجيماً لدور الحكومة في النشاط الاقتصادي. وبالتالي فإن دور الدولة في الاقتصاد الإسلامي لا يخضع للظروف والملابسات ولا للأهواء والتوجهات، ويتغير هذا الدور تلقائياً من حين لآخر تبعاً لأوضاع المجتمع خاصة من حيث الحجم والقوة، حيث أن مهمة الدولة في الإسلام تتجسد في أمر واحد هو رعاية المجتمع.(<!--)

<!--ملكية الاستخلاف متاحة للجميع ويزداد نصيب أي من الملكيات الأخرى بالاستفادة منها: وادخال أي كمية من الموارد الاقتصادية غير المستغلة (المملوكة للمجتمع ملكية الإستخلاف) تحت مظلته من خلال إدخال هذه الموارد في حلبة الإنتاج وتحويلها من موارد غير مستغلة إلى موارد مستغلة ومنتجة.

هذا ويمكن تصور توزيع الملكية في الاقتصاد الإسلامي في الشكل البياني التالي:

يتضح من الشكل؛ أن ملكية الاستخلاف هي القاعدة العامة للملكية في النظام الإسلامي، حيث أن المالك الأصلي لكل الموجودات هو الله تعالى وهو الذي كلف البشر بأمانة الاستخلاف وعمارة الأرض، أما الملكية الخاصة فتهدف إلى تحقيق التنمية الاقتصادية، ويسمح بها النظام الإسلامي في حدود قدرة الفرد على إدارة وعمارة ما تحت يده من موارد اقتصادية، وقضاء ما عليها من تكاليف شرعية، بشرط الحصول على هذه الملكية بوسائل معتبرة شرعاً، والإنفاق منها والتصرف فيها وفقاً للشريعة الإسلامية وإرادة الخالق تبارك وتعالى، فالملكية الخاصة في الإسلام يتمتع صاحبها بالحرية الاقتصادية المنضبطة بالتكاليف الشرعية. أما الملكية العامة في الاقتصاد الإسلامي فتهدف إلى تأمين الاحتياجات الأساسية لجميع أعضاء المجتمع، وتشمل الموارد الاقتصادية التي يشترك فيها عموم الناس شراكة إباحة، ويدخل فيها المباحات العامة من الثروات الطبيعية التي يجوز لجميع أفراد المجتمع التمتع بها وبخيراتها دون تمييز، وتوكل إدارتها للدولة وتشرف عليها بموجب ما تقتضيه المصلحة العامة، ولا يحق لولي الأمر التصرف في رقبتها. أما ملكية الدولة فتهدف إلى توفير موارد مالية لإيرادات الدولة ونفقاتها بعيداً عن فرض الضرائب والرسوم، وكذلك تحقيق التوازن الاقتصادي في المجتمع، وتتمثل في المنشآت والأموال الخاصة بالدولة مثل العقارات والمباني والمؤسسات الحكومية، والتي يحق لولي الأمر التصرف في رقبتها بصفته وفقاً لما تمليه عليه المصلحة العامة. أما الملكية التكافلية فتهدف إلى توفير حد الكفاية لجميع أعضاء المجتمع، وتحقيق التكافل والتوازن الاقتصادي والاجتماعي بين أعضائه، وتشمل الوقف والصدقات الجارية وتمويل مؤسسات المجتمع المدني.

هذا ويمكن تصور وظائف أنواع الملكية في الاقتصاد الإسلامي كما في الشكل البياني التالي:

v    النموذج الأمثل لنمط الملكية:

تهدف هذه الفقرة إلى تحديد النموذج الأمثل لنمط وتوزيع الملكية الذي يمكن من خلاله قياس أثر الاختلال في نمط الملكية على الاقتصاد المصري، ومن خلال العرض السابق لنمط وتوزيع الملكية في النظم الاقتصادية، يرى البحث أن نمط وتوزيع الملكية في النظام الاقتصادي الإسلامي يعد هو النموذج الأمثل، وأنه هو الأنسب لقياس أثر الاختلال في نمط الملكية في الاقتصاد المصري على التنمية الاقتصادية، وذلك للأسباب التالية:

<!--أن توزيع الملكية في الاقتصاد الإسلامي يحدد لكل نوع من أنواع الملكية إطاره ونطاقه الخاص ومجاله الذي يعمل فيه، مما يحد من التعارض أو التضارب بينها في تحقيق الأهداف، وهذا ما يعمل على تحقيق التوازن والاستقرار الاقتصادي، ويساهم في تحقيق النمو والتنمية الاقتصادية.

<!--أن نصيب كل نوع من أنواع الملكية في الاقتصاد الإسلامي من الموارد الاقتصادية يتحدد بتلقائية تامة: بناء على دوره الذي يقوم به في الحياة الاقتصادية والاجتماعية، وكفاءته في استخدام الموارد الاقتصادية لتحقيق أهدافه التي يسعى إليها.

<!--أن نمط الملكية في الاقتصاد الإسلامي يحدد مسئولية الدولة وتدخلها في الحياة الاقتصادية: من خلال تحديد مواردها وأهدافها الاقتصادية، والحد من تدخلها وسيطرتها على الموارد الاقتصادية الأخرى، مما يعد تحجيماً تلقائياً لدور الحكومة في النشاط الاقتصادي، وبالتالي فإن دور الدولة في الاقتصاد الإسلامي لا يخضع للظروف والملابسات ولا للأهواء والتوجهات، وهذا ما يفتقده تنظيم الملكية في النظم الاقتصادية الأخرى. كما أن هذا الدور يتغير تلقائياً من حين لآخر تبعاً لأوضاع المجتمع خاصة من حيث الحجم والقوة، وهذا ما يكسب التنظيم الإسلامي مرونة كافية لمواجهة الحالات الطارئة.

<!--أن التنظيم الإسلامي للملكية ترك الباب مفتوحاً للتوسع في أي من أنواع الملكية المستغلة الأربعة دون المساس أو الاعتداء على أي منها، وذلك من خلال ملكية الاستخلاف التي جعلتها الشريعة الإسلامية متاحة للجميع، ويزداد نصيب أي نوع من أنواع الملكية بإدخال أي كمية من الموارد الاقتصادية غير المستغلة (المملوكة للمجتمع ملكية الاستخلاف) تحت مظلته، بإدخالها في حلبة الإنتاج وتحويلها من موارد غير مستغلة إلى موارد مستغلة ومنتجة. وهذا ما يعطي مرونة ويخفف من حدة الصراع الطبقي، والتضارب بين المصلحة العامة والمصلحة الخاصة. بعكس النظم الاقتصادية الأخرى التي ركزت على تحويل ملكية الموارد المستغلة من شكل على أخر سواء بالتأميم والمصادرة، أو من خلال برامج الخصخصة الاقتصادية.

<!--أن نمط الملكية في الاقتصاد الإسلامي يضع لنا الإطار الفكري والفلسفي لمرحلتي التوزيع وإعادة التوزيع معاً، بخلاف النظم الأخرى التي تقوم فلسفتها على الاهتمام بمرحلة التوزيع فقط.

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 912 مشاهدة

    بقلم د.علاء بسيوني

يمكن التعرف على نمط وتوزيع الملكية في النظم الاقتصادية من خلال النقاط التالية:

<!--الملكية في النظام الرأسمالي:

يؤمن الفكر الاقتصادي الرأسمالي بالحرية الاقتصادية والتي تشمل حرية التملك والعمل والإنتاج، والاستهلاك،(<!--) وهذا ما دفعه إلى اعتماد مبدأ الملكية الخاصة للموارد الاقتصادية بشكل غير محدود، وجعلِها القاعدة العامة له، والتي لا يتم الخروج عليها إلا في ظروف استثنائية تقتضي خروج بعض الموارد الاقتصادية من إطار الملكية الخاصة ووضعها تحت سيطرة الدولة فيما يعرف بالملكية العامة.(<!--)

كما يؤمن الفكر الاقتصادي الرأسمالي أن نشر نطاق الملكية الخاصة هو الوسيلة الأنسب لتحقيق الرفاهية الاقتصادية والكفاءة في استخدام الموارد، وذلك من خلال الحافز الاقتصادي، وحرية المشروع، ودافع الربح، وجهاز السوق، وميكانيكية الأثمان، والمنافسة.(<!--) ويمكن التعرف على أهم المبررات التي يسوقها النظام الرأسمالي لتبنيه نمط الملكية الخاصة للموارد الاقتصادية، وكذلك أهم الانتقادات الموجهة إليه من خلال ما يلي:

<!--مبررات النظام الرأسمالي لتبني الملكية الخاصة:

يُنَظِرْ الفكر الرأسمالي لتبنيه الملكية الخاصة من خلال العناصر الآتية:

<!--أن اعتماد الملكية الخاصة ما هو إلا استجابة للقوانين الطبيعة والفطرة الإنسانية، حيث أن حب التملك غريزة أصيلة في الإنسان ولا يمكن التعايش بدونها، فهي الأساس المادي الذي يثبت للإنسان ذاته، ويلبي طموحاته في تأمين نفسه، والحصول على الحياة الكريمة، وتحقيق الرفاهية الاقتصادية له ولأسرته.(<!--)

<!--الملكية الخاصة ماهي إلا تطبيق لمبدأ الحرية الاقتصادية، وعدم تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي، الذي يشمل حرية الفرد في اختيار أساليب عمله وإنتاجه واستهلاكه، ويمكن أفراد المجتمع من التنافس فيما بينهم دون قيد، مما ينعكس ايجابياً على الحركة الاقتصادية في المجتمع.(<!--)

<!--الملكية الخاصة تعد حافزاً محرضاً للفرد على العمل والإنتاج، وتنمية ممتلكاته، وتحقيق مصالحه الشخصية، وهذا ما يعمل تلقائياً على تحقيق مصالح المجتمع وتنميته، حيث أن مصلحة المجتمع ما هي إلا تجميع لمصالح أفراده.(<!--)

<!--أن التفاوت الطبقي في الثراء والملكية أمر طبيعي يتفق مع الفطرة، حيث يتفاوت الناس في مستوى الذكاء والقدرات والميول والاستعدادات، وهذا ما يدفع الفقراء منهم إلى العمل وبذل الجهد حتى يكونوا أثرياء، فهو يشحذ هممهم من أجل التفوق.(<!--)

وتجدر الإشارة إلى أن الدول التي اتبعت النظام الرأسمالي قد تفاوتت في تقدير حدود الملكية الخاصة وتدخل الدولة في النشاط الاقتصادي، إلا أن الملكية الخاصة ظلت هي القاعدة العامة لها، كما اختلفت هذه النسب في كثير من الأحيان طبقاً للظروف الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، مثل؛ ظروف الحرب العالمية، وأزمة الكساد الكبير، كما تدخلت العديد من الدول الرأسمالية في النشاط الاقتصادي لعلاج بعض الاختلالات، سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة.

كما أن هناك العديد من الدول الرأسمالية التي فطنت إلى أهمية القطاع التكافلي في الحد من قسوة النظام الرأسمالي، ومن ثم فتحت المجال أمام هذا القطاع للقيام بدور في الحياة الاقتصادية والاجتماعية من خلال مؤسسات العمل الخيري مثل؛ مؤسسة الوقف الأمريكية (American Endowment Foundation)، ومؤسسة الثقة العالمية(World Trust Foundation) .(<!--) وبذلك يمكن تقسيم أنواع الملكية في النظام الرأسمالي إلى ما يلي:

<!--ملكية خاصة: تمثل القاعدة العامة للملكية، والفلسفة الاقتصادية للنظام الرأسمالي، وتستحوذ على غالبية الموارد الاقتصادية.

<!--ملكية عامة: حيث تتدخل الدولة بشكل محدود في النشاط الاقتصادي لتحقيق بعض التوازنات الاقتصادية أو لإنتاج بعض السلع التي لا يقبل القطاع الخاص على إنتاجها.

<!--ملكية تكافلية: بدأت تتسع في اقتصادات الدول الرأسمالية للحد من قسوة النظام الرأسمالي، وتتمثل في مؤسسات العمل الخيري. هذا ويمكن تصوير توزيع الملكية في المجتمع الرأسمالي في الشكل البياني التالي:

 

المصدر؛ من إعداد الباحث، بناء على العرض السابق.

يتضح من الشكل؛ أن الملكية الخاصة هي القاعدة العامة للملكية في النظام الرأسمالي، ويستثني منها جزء للملكية العامة بهدف تحقيق بعض التوازنات في الاقتصاد القومي والقيام ببعض المشروعات العامة التي لا يُقْبِلْ القطاع الخاص على القيام بها. وكذلك ظهرت في العقود الأخيرة أهمية متزايدة للقطاع التكافلي في بعض الدول الرأسمالية من أجل التخفيف من أثر تطبيق النظام الرأسمالي على الطبقات الفقيرة.

<!--الانتقادات الموجهة لنمط الملكية في النظام الرأسمالي:

هناك العديد من الانتقادات التي وجهت لفلسفة النظام الرأسمالي في توزيع الملكية من أهمها:

<!--اكتفي النظام الرأسمالي بإقرار الملكية الخاصة ومبدأ الحرية دون وضع ضمانات حقيقية أو واقعية تضمن تحقيق هذه الحريات وتركها لجهود الأفراد، الأمر الذي حرم الضعفاء من التملك والعمل، نتيجة لضعف جهودهم وامكانياتهم المادية والبشرية.(<!--)

<!--أدت الحرية المطلقة للأفراد في الإنتاج والاستهلاك ودافع الربح إلى توجيه النشاط الاقتصادي إلى زيادة إنتاج السلع الكمالية والترفيهية التي تشبع احتياجات الأغنياء على حساب السلع الضرورية التي تشبع احتياجات الفقراء، مما أدى إلى ارتفاع أسعار السلع الأساسية التي يحتاج إليها الفقراء، ومن ثم تزايد وطئة الفقر على هذه الفئة. بالإضافة إلى استغلال الفئات الغنية للفئات الفقيرة سواء في الحصول على خدماتهم في العملية الإنتاجية بأجور زهيدة، أو العمل في ظروف سيئة لساعات طويلة، كما حدث في أوروبا في بداية القرن التاسع عشر الميلادي.(<!--)

<!--سيطرة النزعة المادية على الحياة الاجتماعية في العالم الرأسمالي، ووقوف الدولة موقف المتفرج تجاه الآثار السلبية لتطبيق النظام الرأسمالي على الفقراء.

<!--اضطرت الدولة تحت ضغوط المطالب الشعبية والحركات الاجتماعية إلى إجراء بعض التعديلات والمعالجات الجزئية للنظام الرأسمالي للحد من قسوة الواقع الذي نجم عن تطبيق الرأسمالية الجامدة مثل الرعاية الصحية، وإعانات البطالة .. وغيرها.(<!--)

<!-- الملكية في النظام الاشتراكي:

تقع مسئولية تحديد شكل الملكية في النظام الاشتراكي على الصراع بين طبقات المجتمع أو ما يسميه الاشتراكيون بالجدلية التاريخية، التي تُحَقِقْ من خلال تناقضاتها البناءة مظاهر وعلاقات الإنتاج التي تُحَدِدْ شكل الملكية السائد في المجتمع، والأسلوب الذي بموجبه يتم توزيع الدخل والثروة على أفراده، فالقوى المنتجة هي التي تنشئ الوضع الاقتصادي الذي تتطلبه وتفرضه على المجتمع، الأمر الذي ينشأ عنه جميع الأوضاع الاجتماعية والسياسية التي تتطابق مع الوضع الاقتصادي وتتفق معه.(<!--) وقد أقامت الاشتراكية رؤيتها تجاه الملكية على أنقاض المفاهيم الرأسمالية خلال القرن الثامن عشر الميلادي، حيث قامت بإحلال الجماعة محل الفرد، وتدخل الدولة محل الحرية المطلقة، فتحولت ملكية وسائل الإنتاج إلى الملكية العامة، التي تدار عن طريق الدولة التي تمثل الشعب، لذلك أصبحت الملكية العامة هي القاعدة العامة للنظام الاشتراكي، ويمكن تقسيم الملكية في هذا النظام على النحو التالي:

<!--ملكية الدولة: حيث تمتلك الدولة غالبية وسائل الإنتاج وصلت إلى 90% في الاتحاد السوفيتي سابقاً، والتي تقوم بإدارتها عن طريق التخطيط المركزي لكل ما يتعلق بالنشاط الاقتصادي من إنتاج وتوزيع.(<!--)

<!--الملكية التعاونية: حيث تسمح الدولة ببعض الملكيات الكبيرة للأفراد في شكل جمعيات تعاونية يشترك فيها الأفراد في الإنتاج والاستغلال واقتسام العائد بناء على مبدأ المساواة الاشتراكي، والتخطيط المركزي الإلزامي، وعادة ما يكون هؤلاء الأفراد ملزمون بتسليم منتجاتهم إلى الدولة.(<!--)

<!--ملكية خاصة: تسمح بها الدولة في أضيق الحدود، وتكون في الأموال الاستهلاكية وبعض المشاريع الحرفية والزراعية الصغيرة.

وتلجأ الدولة التي تتجه إلى النظام الاشتراكي إلى تكوين الملكية العامة من خلال؛ تأميم بعض المشروعات والملكيات الخاصة لصالح الدولة بصفتها ممثلة للشعب، أو استثمار الدولة في إنشاء المشروعات العامة.

وتجدر الإشارة إلى أنه لا يوجد مجال للحديث عن الملكية التكافلية في النظام الاشتراكي، حيث أنه يعد نظاماً اجتماعياً بطبعه، كما أنه لا يمكن القول بأن الملكية التعاونية هي المناظرة للملكية التكافلية حيث يوجد اختلاف بينهما. فالملكية التعاونية وإن كانت تحتوي على شيء من التكافل إلا أنها تكون بين مجموعة محددة من الأفراد يقومون بتجميع ممتلكاتهم الفردية على سبيل المشاركة والتعاون فيما بينهم في إدارة واستثمار هذه الممتلكات على أن يتم تقسيم الربح بينهم، كما أنها ليست تراكمية. أما الملكية التكافلية فهي تراكمية عبر الزمن وتعبر عن انتقال الملكية من صورتها الخاصة إلى ملكية جماعية يتمكن من الاستفادة منها فئة معينة أو مجتمع بأثره. ويمكن تصور توزيع الملكية في النظام الاشتراكي كما في الشكل التالي:

 

المصدر؛ من إعداد الباحث، بناء على العرض السابق.

يتضح من الشكل؛ أن الملكية العامة هي القاعدة العامة للملكية في النظام الاشتراكي، وتعد الملكية التعاونية التي يسمح بها النظام الاشتراكي نوعاً من الملكية المشتركة لبعض الأفراد داخل المجتمع، أما الملكية الخاصة فيسمح بها النظام الاشتراكي في أضيق الحدود، وتكون في الأموال الاستهلاكية وبعض المشاريع الحرفية والزراعية الصغيرة. ويمكن التعرف على أهم المبررات التي يسوقها النظام الاشتراكي لتبنيه نمط الملكية العامة للموارد الاقتصادية، وكذلك أهم الانتقادات الموجهة إليه من خلال ما يلي:

<!-- مبررات الفكر الاشتراكي لتبني الملكية العامة:

 يسوق الفكر الاشتراكي لتبنيه الملكية العامة العديد من المبررات منها:

<!--أن الملكية الخاصة هي السبب الوحيد لنشأت الطبقية والصراع بين أفراد المجتمع، لذلك فإن إلغاء الملكية الخاصة شرط أساسي لزوال الطبقية واستحالة وجودها في المجتمع الاشتراكي.(<!--)

<!--عدم التوافق بين مصلحة الفرد ومصلحة الجماعة: يهاجم الفكر الاشتراكي نظرة الفكر الرأسمالي التي تقوم على التوافق بين المصلحة العامة والخاصة، حيث يرى أن مصلحة الجماعة ليست تجميعاً لمصالح الأفراد، وإنما هي مستقلة استقلالاً ذاتياً عنها، وقد يحدث التعارض بينهما، لذلك يجب اللجوء إلى الملكية العامة التي تنسجم مع مصلحة المجتمع، وتدار بواسطة سلطة جماعية.(<!--)

<!--تناقضات فائض القيمة والصراع بين العامل ومن يسرق منه فائض عمله: حيث يؤمن الفكر الاشتراكي بأن العامل هو الذي ينتج القيمة التبادلية كلها، إلا أن المالك (صاحب العمل) يشتري منه قوة عمله ويضطره إلى الاكتفاء بجزء منها فقط، ويسرق منه الجزء الباقي بوصفه فائضاً،(<!--) نظراً لقوة مركز المالك وحاجة العامل إليه، ولهذا ينشأ الصراع بينهما حتى يصبح تأميم الشركات والملكيات الخاصة ضرورة لا مفر منها، واحلال الملكية العامة محل الملكية الخاصة التي قسمت المجتمع إلى رأسماليين وعمال.

<!--أن المجتمع الإنساني الأول لم يعرف الملكية الخاصة: وأن كل فرد في الجماعة كان مالكاً لثروات الجماعة كما يملكها الأخرون.(<!--

<!--الانتقادات الموجهة لنمط الملكية في النظام الاشتراكي:

يعد من أهم الانتقادات التي وجهت لفلسفة النظام الاشتراكي في توزيع الملكية ما يلي:

<!--أن الاشتراكية لا تعتبر الملكية أساساً مصدراً من مصادر الدخل، فهي لا تعترف إلا بعنصر العمل عاملاً للإنتاج باعتباره المصدر الوحيد لقيمة السلع المنتجة، أما عنصري رأس المال والأرض فإنهما نوعاً من العمل الميت من وجهة نظر الاشتراكية لأنهما ينتجان عن العمل، أما عنصر التنظيم فهو عمل بالضرورة. إلا أن عناصر الإنتاج الأربعة موجودون ضمنياً في النظام الاشتراكي فعنصر رأس المال يظهر عند تقديم الفوائد على الأموال المودعة، أما عنصر الأرض فيظهر عند تقديم جزء من الريع بصور مختلفة، وكذلك عنصر التنظيم يظهر عند حصول الجهات التي تقوم بعملية التنظيم على بعض المكافأت.(<!--)

<!--أدي تهميش الملكية الخاصة وعدم السماح بها إلا في حدود ضيقة جداً إلى ضعف الحوافز الشخصية والمبادرات الفردية، مما أدى إلى ضعف بواعث الرقي الاقتصادي، والمساس بجوهر الحياة الانسانية عن طريق تحكم السلطة الحاكمة، وتفشي التعقيدات الإدارية، وضياع الحريات الشخصية.(<!--) فعنـدما تكـون كـل الأشـياء مشـاعاً لـن يكـون هنـاك أحـد يضـرب مثـالاً للحريـة أو يقـوم بـأي عمـل حـر لأن الحريـة تتوقـف علـى الاسـتعمال الـذي يعتمـد علـى الملكية.(<!--)

<!--أدت الملكية العامة والتخطيط المركزي إلى توجه معظم الدول التي تحولت إلى الاشتراكية إلى إعطاء الأولوية للصناعات الثقيلة على حساب الصناعات الخفيفة الموجهة لإنتاج السلع الاستهلاكية، مما أدى إلى ارتفاع أسعارها على نحو لم يتحمله أعضاء المجتمع.(<!--)

<!--أدي إلغاء الملكية الخاصة وتعارضه مع الفطرة الإنسانية، وتأميم الملكيات الخاصة، وظهور طبقة من البيروقراطية الإدارية حلت محل الطبقة الرأسمالية واستحوذت على امتيازات خاصة، وسياسة التسعير إلى ظهور ما يعرف باقتصاد الظل أو السوق السوداء، واختفاء السلع الأساسية من الأسواق، بالإضافة إلى انتشار الفساد، وحدوث العديد من الاضطرابات التي أدت إلى التخلي عن بعض سياسات النظام الاشتراكي، وتحول الدول إلى نظام السوق مرة أخرى.(<!--)

<!-- الملكية في الاقتصاد الإسلامي:

يؤمن الفكر الاقتصادي الإسلامي بكل من الملكية الخاصة والعامة وفقاً لمبدأ الاستخلاف على نحو يحقق التوازن بينهما، ويضاف إلى ذلك أنواع أخرى من الملكية مثل الملكية التكافلية وملكية الدولة، ولكل نوع من هذه الأنواع مجاله الخاص الذي يعمل فيه، وهدفه الذي يسعى إلى تحقيقه، كما أن القاعدة العامة للملكية في الاقتصاد الإسلامي هي ملكية الاستخلاف التي ينبثق عنها باقي أنواع الملكية في الاقتصاد الإسلامي، ويمكن عرض أنواع الملكية في الاقتصاد الإسلامي على النحو التالي:

<!--ملكية الاستخلاف: يقوم توزيع الملكية في الاقتصاد الإسلامي على أساس مبدأ الاستخلاف والذي يعني أن الأرض والسموات بما فيها وما عليها ملك لله تعالى الذي خلق الكون وهو القادر على التصرف فيه سواء بالإيجاد والعدم، أو الإحياء والإماتة أو غير ذلك،(<!--) أما ملكية البشر فهي ملكية استخلاف مشتقة من تفويض الله تعالى للإنسان بخلافته على الأرض وإطلاق يده في هذا الوجود تنعُّماً واستهلاكاً لكفاية ذاته وإحرازاً لوجوده،(<!--) وينقسم الاستخلاف إلى قسمين هما:

<!--استخلاف عام: للبشر كلهم في الأرض بدأ منذ أن هبط آدم عليه السلام وزوجته إلى الأرض، وهو ليس خاصاً بفئة دون أخرى. فالأصل اشتراك البشر جميعاً في الانتفاع بما أوجد الله في الأرض من خيرات وطيبات، فهم على حدٍ سواء فيها، إلا إذا كان هناك استخلاف خاص سواء للدول أو الأفراد.(<!--)

<!--استخلاف خاص: وهو أن تستقل أمة من الأمم أو فرد من الأفراد في ملكية شيء من الأشياء، بأن تستقل أمة من الأمم بإقليم من الأرض تُحَكِمْ فيه نفسها ويكون لها سلطان يحمي مصالحها ويدبر شئونها، وهذا النوع من الاستخلاف قائم على الاستخلاف العام. أما استخلاف الأفراد فهو استقلال الفرد في ملكية ما تحت يده من الأموال سواء كانت أموال ثابتة أو منقولة، فهو مستخلف فيها استخلافاً خاصاً، ومصدر هذا النوع من الاستخلاف يرجع إلى أحد أمرين هما:

<!--الاستخلاف العام: وذلك في حالة كون مصدر ملكية الفرد لهذا الشيء مباشراً من الموارد غير المستغلة المملوكة للمجتمع ملكية استخلاف كإحراز بعض المباحات والصيد، أو من إنتاج الفرد نفسه عن طريق استعماله وتفعيله لبعض المواد في الأرض كالزراعة والصناعة ونحوهما، فالأفراد وفقاً لمبدأ الاستخلاف العام قد جعل الله لهم سلطاناً مباشراً على ما في الأرض من خيرات وطيبات، ومكَّن لهم الانتفاع منها بما أعطاهم ووهبهم من القوى العقلية والجسمية.

<!--الاستخلاف الخاص: وذلك إذا كان مصدر ملكية الفرد للشيء من مالك سابق عليه كالإرث أو الوصية أو من عقد يترتب عليه انتقال الملكية، فيكون حل محل المستخلف السابق عليه فيما استُخلِف فيه.(<!--)

<!--الملكية الخاصة: هي نوع من الملكية الثابتة والمستقرة وفقاً لمبدأ الإستخلاف، وتعنى اختصاص المالك (أفراد أو مؤسسات) بما يقع تحت يده من الموارد الاقتصادية التي يجوز ملكها وتملكها، وثبوت حق الاستعمال والاستغلال والتصرف له في الأشياء المملوكة، بشرط الحصول عليها بطرق مشروعة، واستخدمها وفقاً لمراد المالك الأصلي لها وهو الله تعالى، وعدم وجود مانع شرعي يحول بين صاحب هذا الحق والتمتع بهذه الحقوق كالجنون والسفه.

والمال بطبيعته قابل للتملك، وقد يوجد ما يجعله غير قابل لذلك أحيانًا مثل: الأشياء التي لا يجوز تملكها أو تمليكها بأي حال من الأحوال كالأشياء التي خصصت للمصلحة العامة والنفع العام؛ كالطرق العامة، والحصون، والأنهار، ونحوها، فإذا زالت عنها صفة التخصيص عادت لحالتها الأصلية وأمكن تملكها.(<!--) وما لا يقبل التملك إلا بمسوغ شرعي؛ كالأموال الموقوفة، وأملاك بيت المال، وأموال الدولة، فكل ذلك لا يجوز بيعه ولا هبته إلا لمصلحة راجحة اقتضت ذلك.(<!--) وتتميز الملكية الخاصة في الإسلام بمجموعة من الخصائص من أهمها:

<!--الملكية الخاصة في الإسلام ملكية ثابتة ومستقرة ولا يجوز إلغاؤها أو التعدي عليها دون سند شرعي أو قانوني لتحقيق مصلحة عامة راجحة، حيث أن إقرار الملكية الخاصة أمر معلوم من الدين بالضرورة، ومترتب عليه العديد من التكاليف والنفقات والعقود الشرعية.(<!--)

<!--الملكية الخاصة حق كامل يشتمل على جميع الأعيان والحقوق والمنافع والمزايا التي تمنحها الشريعة لصاحبها: فهي تمكِّن صاحبها من التصرف فيما يمتلكه كيف ما يشاء وعلى أي نحوٍ يريده سواء كان بيعاً أو شراءً أو هبةً أو غير ذلك، ما لم يكن تصرفه ممنوعاً شرعاً كالإضرار بالغير أو الإنفاق على محرم.(<!--)

<!--أنه لا يوجد حد أو سقف معين لما يتملكه الإنسان ملكية خاصة في الإسلام: مادام يتملكه من خلال الوسائل المشروعة وفقاً للشريعة الإسلامية.

<!--الملكية الخاصة في الإسلام حقاً دائماً لصاحبهاً: لا تزول عنه بحال من الأحوال إلا برضاه ما لم يكن هناك مصلحة راجحة معتبرة شرعاً، كشفعة أو نزع الملكية للمصلحة العامة.

<!--الملكية الخاصة في الإسلام تعمل على تحقيق النمو الاقتصادي، حيث تدفع صاحبها إلى تنمية أمواله حرصاً على عدم تآكلها بفعل الزكاة على الأموال المكتنزة، ودون خوف أو حذر من مصادرة أمواله، أو غير ذلك.

هذا ويتم اكتساب الملكية الخاصة إما عن طريق الاستفادة من الاستخلاف العام؛ كإحراز المباحات والصيد، وإحياء الموات، والانتفاع بما أوجد الله في الأرض من خيرات وطيبات. أو الاستخلاف الخاص؛ بالحصول على ملكية الشيء من ملك سابق عليه كالإرث أو الوصية أو من عقد يترتب عليه انتقال الملكية من شخص إلى أخر.

وتجدر الإشارة إلى أنه ليس لولي الأمر أن يمنع التملك عن طريق إحياء الموات لأن الأرض الموات (غير المستغلة) ليست ملكاً لبيت المال، وإن كانت بحكم الولاية العامة في وضع يده، مما يستوجب إذنه منعاً للتزاحم، كما أن ولى الأمر إن منع الإحياء أو اشترط ثمناً للأرض الموات فإنه يعد بذلك معطلاً لأحكام الشريعة الإسلامية.(<!--)

هذا وتكمن أهمية إقرار الملكية الخاصة في الإسلام في تحقيق ما يلي:

<!--تحقيق حاجة الإنسان، وما تتطلبه الحياة الكريمة: حيث يعمل الإقرار بالملكية الخاصة وما يصاحبها من غريزة حب التملك على تحفيز الإنسان ودفعه في اتجاه العمل والإنتاج وطلب الرزق من أجل توفير احتياجاته الأساسية وما تتطلبه الحياة الكريمة.

<!--[if !suppo-->

    بقلم د.علاء بسيوني

يعد نمط الملكية هو المعبر الأول عن الفلسفة الاقتصادية لأي نظام اقتصادي، بالإضافة إلى أثره الهام على التنمية الاقتصادية في أي مجتمع، ويمكن التعرف على العلاقة بين الملكية والتنمية الاقتصادية من خلال دراسة مفهوم الملكية وأثرها على الحافز الاقتصادي وتوزيع الدخل والثروة، وذلك من خلال ما يلي:

<!--مفهوم الملك والملكية:

<!--الملك في اللغة: هو ما ملكت اليد من مال، وخول. والْمَلِكُ وَالْمُلْكُ وَالْمِلْكُ: هو احتواء الشيء والقدرة على الاستبداد به.(<!--) والملك ضربان هما؛ ملك التملك والتولي، وملك القوة على ذلك سواء تولي أم لم يتول، فمن الأول قوله تعالى: { قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} (سورة النمل: الآية: 34)، ومن الثاني قوله تعالى: {إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا} (سورة المائدة: الآية: 20) فجعل النبوة مخصوصة، والملك عاماً، فإن معنى الملك هنا هو القوة التي بها يترشح للسياسة، لأنه جعلهم كلهم متولين للأمر. ويقال أملكه الشيء وملكه إياه تمليكاً بمعنى واحد أي جعله ملكاً له، ويقال لي في هذا الوادي ملك أي مرعى، ومشرب، ومال وغير ذلك مما يملكـه.(<!--) فَتَمَلَكَ الشيء أي استبد به وتملكه قهراً، أما كلمة "ملكية" فهي مصدر صناعي صيغ من المادة منسوباً إلى الملك.(<!--)

ويستنتج من ذلك؛ أن معاني الملك أو الملكية تدور حول احتواء الشيء والقـدرة علـى حيازته والاستبداد به.

<!--مفهوم الملكية في الفكر الوضعي: هي حق يشمل ملك العين والمنفعة معاً أو ما يعبر عنه بالملك التام، ويحتوي مفهوم الملكية على ثلاثة عناصر هي؛ حق الاستعمال، والاستغلال، والتصرف في الأشياء المملوكة، بشرط ألا يستعملها استعمالاً تحرمه القوانين والأنظمة. ويقصد بحق الاستعمال: الحق في الانتفاع المباشر من الشيء المملوك، أما حق الاستغلال: فيعبر عن الحق في الانتفاع غير المباشر من الشيء المملوك كالإجارة أو غيرها، أما حق التصرف: فهو الحق في القيام بأي إجراء في الملك سواء كان مادياً كالبناء والحرث أو قانونياً كالبيع والرهن والهبة.(<!--) فالملكية تقضي باختصاص أو استئثار شخص ما - مادي أو معنوي- بحق الاستعمال، والاستغلال، والتصرف فيما يمتلكه إلا لمانع في حدود القانون، كما أن لمالك الشيء الحق في كل ثماره ومنتجاته وملحقاته ما لم يوجد نص أو اتفاق يخالف ذلك.(<!--)

ويلاحظ أن مفهوم الملكية في الفكر الوضعي يركز على حق الملكية والسلطات التي خولها القانون للشخص المالك دون الحديث عن حقيقة الملك وماهيته.

<!--مفهوم الملكية في الفكر الإسلامي: يدور مفهوم الملكية عند الفقهاء في فلك تعريفهم للملك، ويدور تعريفهم للملك حول كون الملك هو: الاختصاص الحاجز المانع المترتب على حكم شرعي يقتضي التمكين والإباحة لمن يملك الشيء بمطلق التصرف فيه والانتفاع به إلا لمانع شرعي.(<!--) أي أن ملك الشيء هو الاختصاص به اختصاصاً يمنع الغير من الانتفاع به أو التصرف فيه إلا عن طريق مالكه أو بالتوكيل نيابة عنه.

ويعرف بعض الفقهاء الملكية: بأنها العلاقة بين الإنسان الذي خلقه الله تعالى لعبادته، ولتعمير الارض وإصلاحها على ضوء المنهج المستقيم، وبين المال الذي خلقه الله تعالى وسيلة لتحقيق هدفي العبودية والتعمير، ولذلك فالملكية من الامور الاعتبارية النسبية مثل الأبوة والبنوة.(<!--)

ويري البحث أن الملكية في الفكر الاقتصادي الإسلامي: هي حق الاستعمال والاستغلال والاختصاص والتصرف الممنوح من الله تعالى (المالك الأصلي) لعباده وفقاً لمبدأ الاستخلاف وعمارة الأرض، بشأن الاختصاص وحرية التصرف فيما خلقه الله تعالى وجعله تحت أيديهم من الموارد الاقتصادية التي يجوز ملكها وتملكها، بشرط الحصول عليها بطرق مشروعة، واستخدامها وفقاً لمراد الله تعالى، والحفاظ على صفة الحياة فيها، وعدم وجود مانع شرعي يحول بين صاحب الملكية والتمتع بهذه الحقوق كالجنون والسفه. ومن النظر في هذا التعريف يتضح:

<!--أن حقيقة الملك إنما هي لله تعالى وهو المالك الأصلي: الذي خلق الكون وهو القادر على التصرف فيه سواء بالإيجاد والعدم، أو الإحياء والإماتة أو غير ذلك،(<!--) أما ملكية البشر فهي ملكية استخلاف مشتقة من تفويض الله تعالى للإنسان بخلافته على الأرض وإطلاق يده في هذا الوجود تنعُّماً واستهلاكاً لكفاية ذاته وإحرازاً لوجوده،(<!--) بدليل قوله تعالى: { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} (سورة البقرة: الآية:30)، وقوله: {هُوَ أَنشَأَكُم مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} (سورة هود: الآية:61)، وقوله: { وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ ءَامَنُوا مِنكُـمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} (سورة الحديد: الآية: 7).

<!--أن استخلاف الله تعالى للإنسان في الأرض عام في البشر لا يختص به فريقاً من الناس دون غيره: فالناس كلهم عباد الله؛ وتسخير الأرض وسائر الكون لهم جميعاً دون تخصيص، فكل إنسان له الحق أن يقوم بأمانة الاستخلاف ويستفيد من تسخير الكون لمصلحته بقدر استطاعته، بشرط أن يحسن أداء هذه الأمانة فيقوم بحقوقها ويؤدي واجباتها.(<!--)

<!--أن تسخير الله تعالى الأرض والكون للإنسان واستخلافه فيها يقتضيان انتفاع الإنسان بما خلق الله في الكون واستثماره لما في الأرض من خيرات وثمرات،(<!--) وذلك بما وهبه من الحواس والعقل وسائر الصفات الجسمية والعقلية التي تجعله أهلاً لذلك على تفاوت بين أفراد البشر.

<!--يتحمل كل إنسان نتيجة عمله ونشاطه وهو المسئول عنه مسئولية دنيوية بالنسبة لغيره من الناس؛ ومسئولية أخروية أمام الله عز وجل،(<!--) فالشريعة قد حددت معالم المسئولية الدنيوية من بيان الحقوق والواجبات في المعاملات وغيرها، وكذلك بينت الحدود والعقوبات.(<!--)

<!--حيث أن الملكية الأصلية للخالق تبارك وتعالي فإن توزيع عائد هذه الملكية يجب أن يتم وفق مراده سبحانه وتعالي: وهو الذي فرض نصيباً من هذا العائد ينفق على عباده الفقراء متمثلاً في فريضة الزكاة،(<!--) قال تعالى: {وَآتُوهُم مِن مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} (سورة النور: الآية:33) لذلك يجب على كل من يمتلك جزءاً من الموارد الاقتصادية أن يقوم بأداء هذه الفريضة.

<!--العلاقة بين الملكية والتنمية الاقتصادية:

يؤثر نمط وتوزيع الملكية السائد في أي المجتمع على التنمية الاقتصادية من خلال العديد من النقاط من أهمها ما يلي:

<!--الملكية تعمل على خلق الحافز الاقتصادي الذي يساعد في تحقيق التنمية: فالملكية الخاصة وغريزة حب التملك تعد محرضاً للفرد على العمل والإنتاج لتنمية أرباحه وتحقيق مصالحه الاقتصادية والشخصية، وهذا ما ينعكس بدوره على مصلحة المجتمع ومعدلات النمو الاقتصادي التي هي مؤشر رئيسي للتنمية. كما أن عدم وجود الملكية الخاصة يقتل روح المنافسة بين الأفراد والمؤسسات مما يؤثر سلباً على الحركة الاقتصادية في المجتمع.(<!--)

<!--نمط الملكية يحدد الجهات المسئولة عن عملية التنمية: يعبر نمط الملكية الموجود في المجتمع عن فلسفة النظام الاقتصادي السائد، ويحدد الجهات المسئولة عن تحقيق التنمية الاقتصادية، حيث أن القطاع الذي يمتلك الموارد الاقتصادية ويستطيع توجيهها إلى الأنشطة الاقتصادية المختلفة هو ذلك القطاع الذي تقع عليه مسئولية تحقيق التنمية الاقتصادية بمقدار ما يقع تحت يده من الموارد الاقتصادية للمجتمع،(<!--) وغالباً ما يكون هذا القطاع هو القطاع الرائد الذي تتبناه الدولة ويعبر عن فلسفتها الاقتصادية.

فإذا كان هناك دولة ما تسود فيها الملكية الخاصة للموارد الاقتصادية فإن القطاع الخاص يعد هو المسئول الأول عن تحقيق التنمية الاقتصادية وتكون مسئولية الدولة مسئولية ثانوية من خلال دورها في الإشراف والتوجيه، أما إذا كانت الملكية العامة هي السائدة في المجتمع فإن القطاع العام يكون هو المسئول عن تحقيق التنمية الاقتصادية وتكون الدولة مسئولة من خلال جهاز التخطيط القومي، أما إذا كانت الملكية في الدولة وفقاً للنظام المختلط فإن كل قطاع يكون مسئولاً في حدود ما هو متاح لديه من موارد اقتصادية، وهو ما يتشابه كثيراً مع رؤية الاقتصاد الإسلامي.(<!--)

<!--أثر الملكية على توزيع الدخل والثروة والتراكم الرأسمالي اللازم لتحقيق التنمية الاقتصادية: حيث يؤثر نمط الملكية السائد في المجتمع على توزيع الدخل المتولد من العملية الإنتاجية نتيجة مساهمة العناصر المملوكة في العملية الإنتاجية، مما يترتب عليه الحق في الحصول على جزء من ناتج العملية الإنتاجية، وهذا ما ينعكس على توزيع الدخل والثروة داخل المجتمع، مما يؤثر على قدرة الأفراد والمؤسسات على تكوين التراكم الرأسمالي، الذي يؤثر مرة أخري على ملكية الموارد الاقتصادية في المجتمع .. وهكذا.

وتتضح العلاقة بين الملكية والتنمية الاقتصادية من خلال مدى تأثير الملكية على توزيع الدخل الذي يؤثر على الطلب الاستهلاكي والتراكم الرأسمالي في المجتمع مما يؤثر على التنمية الاقتصادية. كما أن التنمية الاقتصادية يجب أن تكون مصحوبة بتحسن في توزيع الدخل لصالح الطبقات الفقيرة، وتحسن في نوعية الحياة، وتغير هيكلي في الإنتاج،(<!--) وهو ما يتطلب تغيراً في هيكل الملكية السائد في المجتمع، أو تغيراً في نسب عناصر الإنتاج، أو نصيب الملكية من الدخل المتولد عن العملية الإنتاجية.

<!--نمط الملكية يحدد الجهات المستفيدة من عملية التنمية الاقتصادية، ومدي تأثير ذلك على مستوى رفاهية المجتمع، من خلال تأثيره على توزيع الناتج القومي، فإذا كان توزيع الملكية في المجتمع لصالح فئة صغيرة فإن ذلك يدل غالباً على أن هذه الفئة تستحوذ على نسبة كبيرة من الناتج القومي، نظراً لتأثير الملكية على توزيع عائد العملية الإنتاجية .. والعكس صحيح. كما أن نجاح التنمية الاقتصادية يرتبط إلى حد كبير بحدوث تحسن في توزيع الدخل لصالح الطبقات الفقيرة، والتخفيف من ظاهرة الفقر،(<!--) وهذا ما يمكن أن يعبر عنه التغيير في توزيع الملكية وعوائدها بشكل كبير، وبالتالي يمكن اتخاذ التغير في توزيع الملكية وعوائدها مؤشراً لنجاح أو فشل عملية التنمية الاقتصادية.

<!--أن تطور الملكية هو المحـدد الأساسي للـنمط الاجتمـاعي السـائد في كـل حقبـة مـن حقـب التطـور الإنسـاني: فانتقـال البشـرية مـن المشـاعية إلى العبوديـة ومـن ثم إلى الإقطـاع وصـولاً إلى الرأسماليـة قـد يكـون نتـاج صـراع طبقـي (حـراك اجتماعي) أو حراك اقتصادي على أساس تطور مفاهيم التملك والسيطرة، حيث تعد الإشكالية بين من يمتلك وبين موضوع التملك نتاج حركة التناقضات بين العمل والتملك، أو العمل ورأس المال.(<!--)

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 184 مشاهدة

    بقلم د.علاء بسيوني

       في ضوء دراستنا للمشكلة الاقتصادية ومفهوم وطبيعة الحاجات الإنسانية والموارد الاقتصادية في الاقتصاد الوضعي والاقتصاد الإسلامي، يتضح لنا أثر الطبيعة التشاؤمية في الاقتصاد الوضعي والتفاؤلية في الاقتصاد الإسلامي، وهذا ما سوف نقوم بدراسته من خلال ما يلي:

<!--الطبيعة التشاؤمية في الاقتصاد الوضعي.

<!--الطبيعة التفاؤلية في الاقتصاد الإسلامي.

<!--التوظيفات الأخلاقية للتشاؤمية والتفاؤلية في الاقتصاد.

وذلك مع بيان أثر كل منهما على الحياة الاقتصادية

أولاً: الطبيعة التشاؤمية في الاقتصاد الوضعي:

إن المتأمل في التحليل الاقتصادي الذي اتسم به الاقتصاد في الفكر الوضعي يجد أنه يعكس ما يمكن تسميه بالتشاؤمية أي أن علم الاقتصاد في الفكر علم الوضعي تشاؤمي. والسؤال الذي نطرحه هو: ما الذي قاد التحليل الاقتصادي في الفكر الوضعي إلى التشاؤمية؟ وللإجابة على هذا التساؤل نجد أن المعتقدات الاقتصادية في الفكر الوضعي تتضمن أربعة عناصر تشاؤمية هي التي قادت إلى صفة التشاؤمية العامة، وهذا ما يمكن التعرف عليه من خلال ما يلي:

العنصر الأول: فشل تناسق المصالح:

      لقد كان آدم سميث (مؤسس علم الاقتصاد في الفكر الوضعي) متفائلاً بشأن تناسق المصالح بين الطبقات الاجتماعية، على اعتبار أنه يمكن التوافق بينها، حيث كان يؤمن بأنه لا يوجد تعارض بين مصلحة الفرد ومصلحة الجماعة على اعتبار أن مصلحة الجماعة ما هي إلا تجميع لمصالح الأفراد وأن الفرد وهو يسعي لتحقيق مصلحته الخاصة فإنه بالطبع يسعي لتحيق مصلحة الجماعة، لذلك كان يؤمن بالملكية الخاصة وعدم تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي. ولكن سرعان ما غاب هذا الاتجاه التفاؤلي في الاقتصاد الكلاسيكي، وترك مكانه لتحليل ريكاردو الذي كان متشائماً بشأن مستقبل تناسق المصالح الاجتماعية. وأصبح تحليل ريكاردو يمثل المعتقد الاقتصادي الكلاسيكي، وهكذا قاد تحليله الاقتصادي إلى العنصر الأول من عناصر التشاؤمية.

العنصر الثاني: حتمية اتجاه النظام إلى الأزمة:

     بناء على الاعتقاد بوجود المشكلة الاقتصادية ومحدودية الموارد الاقتصادية بالنسبة إلى الحاجات والرغبات الإنسانية، والذي يكون مسبباً عن الاتجاه المتناقص للأرباح، نتيجة الاضطرار إلى زراعة الأراضي غير الجيدة. ويعني هذا أن الأزمة أصبحت هي الاتجاه الحتمي للنظام الاقتصادي. وهكذا اكتسب علم الاقتصاد عنصراً آخر من عناصر التشاؤمية.

العنصر الثالث: الاتجاه الذي قاد إليه تحليل مالتس في نظرية السكان:

      يعد روبرت مالتس أول من أصّل لمشكلة الموارد الغذائية والتزايد السكاني، وذلك في مقاله الشهير الذي ألفه سنة 1798م بعنوان: (مقال عن مبدأ السكان) والذي أصبحت من أهم التحليلات الاقتصادية التي نبهت إلى خطورة الآثار الناجمة عن الزيادة المستمرة في عدد السكان. وتقوم هذه النظرية على دراسة العلاقة بين الموارد والسلع الغذائية والسكان، على اعتبار أن الغذاء ضرورة هامة وملحة للحياة الإنسانية، وتتلخص الأفكار التي تتضمنها نظرية مالتس للسكان في النقاط الأساسية التالية:

<!--يتحدد عدد السكان ويعتمد على كميات السلع الغذائية الضرورية لاستمرار الحياة الإنسانية.

<!--أشار مالتس إلى أن كميات الغداء هذه تتزايد في شكل متوليه عدديه (1، 2، 3، 4، ... الخ).

<!--أن تزايد عدد السكان موجود دائما وفي جميع الأحوال، وأن السكان يتزايدون في شكل متوالية هندسيه (1، 2، 4، 8، 16، 32، ... الخ).

    وبذلك فإن سكان العالم سيواجهون موقفاً صعباً تكثر فيه المجاعات والتخلف؛ وذلك لأن التزايد السكاني أكبر بكثير وبغير حدود من قدرة الأرض على إنتاج وسائل العيش، حيث أن الزيادة السكانية تتبع متوالية هندسية، بينما زيادة الغذاء تتبع متوالية عددية أو حسابية، وبذلك فإن العالم يسير نحو مستقبل مظلم بهيم مما يهدد أهل الكوكب بالمجاعات في المستقبل. ويشير مالتس في نظريته السكانية أن الحل يكمن في وجود نوعين من الموانع تعمل على الحد من الزيادة السكانية هما:

<!--موانع قهرية (موجبة): تؤثر مباشرة في عدد السكان مثل: المجاعات، والأمراض، والحروب، والأوبئة. وتنتشر هذه الموانع في الدول النامية الفقيرة وتقضي على جزء من السكان يعود بعدها التوازن بين السكان وكميات الغداء.

<!--موانع وقائية (إرادية): مثل الامتناع عن الزواج أو تأجيله، وتسود مثل هذه الموانع في الدول الصناعية المتقدمة وينتج عنها في النهاية توازن بين عدد السكان وكميات الغذاء.

ولقد تعرضت نظرية مالتس للسكان لعديد من الانتقادات من أهمها:

<!--لم يأخذ مالتس في عين الاعتبار الآثار التي قد تنشأ عن التغير والتطور في المستوي الفني والاكتشافات العلمية الحديثة التي أدت إلي زيادة الإنتاج بمعدلات أكبر بكثير من تلك التي توقعها مالتس.

<!--أدي انتشار المعرفة والوعي الثقافي إلى انخفاض في معدلات المواليد ليس لعدم الزواج أو تأجيله كما أشار مالتس، بل للاستخدام وسائل علمية حديثة في تنظيم وتحديد النسل.

<!--أن ما أشار إليه مالتس في نظرية السكان بأن معدل الزيادة في عدد السكان يفوق معدل الزيادة في المواد الغذائية دائماً غير صحيح، حيث نجد في الوقت الحاضر أن معدلات الزيادة في إنتاج المواد الغذائية يفوق معدلات الزيادة في عدد السكان في كثير من الدول وخاصة الصناعية منها.

يستنتج مما سبق؛ أن نظرية مالتس في السكان بما تتضمنه من موانع إيجابية ووقائية (حروب، ومجاعات، وأوبئة) تعد قمة في التشاؤم حول مستقبل المجتمع والنوع الإنساني ككل.

 العنصر الرابع: يتمثل في الاعتقاد في الندرة:

      إن المفاهيم المختلفة لعلم الاقتصاد بالمفهوم الوضعي تدور كلها حول معنى واحد هو الندرة، لذلك أصبحت الندرة هي موضوعه، بمعنى أن علم الاقتصاد هو العلم الذي يبحث في إدارة الموارد المحدودة والمتعددة الاستعمالات لتشبع الحاجات الإنسانية المتجددة واللانهائية، أي أنه علم يبحث في ندرة الموارد.

     بهذه العناصر الأربعة اكتملت دائرة التشاؤمية في علم الاقتصاد الوضعي، حيث يمثل العنصر الأول تشاؤماً حول تناسق المصالح بين طبقات المجتمع وبينها وبين الدولة، بينما يمثل العنصر الثاني تشاؤماً حول المستقبل الاقتصادي للنظام، في حين يمثل العنصر الثالث تشاؤماً حول مستقبل النوع الإنساني، بينما يمثل العنصر الأخير السبب والنتيجة للعناصر السابقة. ذلك أن ندرة الموارد الاقتصادية يمكن أن نعتبرها من وجه سبباً لهذه العناصر، ويمكن أن نعتبرها من الوجه الآخر نتيجة لتشاؤميتها.

ثانياً: الطبيعة التفاؤلية الاقتصاد الإسلامي:

إن بؤرة الارتكاز في تشاؤمية الاقتصاد الوضعي هي ندرة الموارد الاقتصادية في مقابل الحاجات الإنسانية، وقد ترجم هذا بأن الموارد الاقتصادية غير كافية لحفظ كل النوع الإنساني الموجود على سطح الأرض. ولكن هل يتفق الاقتصاد الإسلامي مع الاقتصاد الوضعي في هذه النظرة التشاؤمية؟؟ هذا هو محور حديثنا في هذه النقاط.

يمكن القول بأن الاقتصاد الإسلامي ذو طبيعة تفاؤلية، وينبع ذلك من طبيعة الأسس التي يقوم عليها الاقتصاد الإسلامي وفي مقدمتها الإيمان بالله تعالى، فالله تعالى هو المحيي المميت الرزاق ذو القوة المتين، وهو سبحانه الذي فرض بشريعته ضماناً اجتماعياً للإنسان ممثلاً في حد أدنى لتوفير كفايته، ولضمان ذلك أنزل في القرآن الكريم آيات تبطل قضية الندرة، وتعطي ضماناً للعباد بأن الله تعالى قد تكفل لهم بالرزق، وبالتالي فهي تبطل التشاؤمية، وكنتيجة لذلك فإنه تثبت التفاؤلية للاقتصاد الإسلامي بشأن الموارد الاقتصادية. فيقول اللَّه تعالى: {وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُون ٍ* وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِين َ* وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} (الحجر: الآية:19-21)، وقال تعالى: (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) (القمر: الآية:49)، وقال تعالى:(وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) (الذاريات: الآية:22-23) فالله سبحانه وتعالى في هذه الآيات يقول بأنه قد خلق كل شيء بقدر، وأنه قد جعل لنا فيها من المعايش ما يكفينا وغيرنا من الأنعام ومن لم نتكفل نحن برزقهم، كما يخبرنا أن عنده خزائن السموات والأرض وأنه ينزل الأرزاق وفق حكمته وإرادته، كما جعل الإيمان والتقوى من أسباب بركة الرزق في الدنيا بقوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) (الأعراف: الآية:96).

كما أن الاقتصاد الإسلامي ينظم العلاقات بين المصالح الاقتصادية، ويحدد آليات ونطاق عمل كل نوع من أنواع الملكية في الاقتصاد الإسلامي ودوره في التنمية الاقتصادية على نحو يحد ويمنع تضارب المصالح، ويحدد آليات الفصل بينها بحيث لا يطغي أي منهما على الأخر.

بالإضافة إلى أن الفكر الاقتصادي الإسلامي لا يؤمن بالمشكلة الاقتصادية على النحو الذي يشير إليه الاقتصاد الوضعي، فبالنسبة للاقتصاد الإسلامي فإن المشكلة الاقتصادية ليست في بخل الطبيعة كما يرى الاقتصاد الرأسمالي، ولكن الاقتصاد الإسلامي يرى أن السبب الرئيسي للمشكلة الاقتصادية هو سلوك الإنسان نفسه، حيث أنه هو المسئول عن الإنتاج والاستهلاك واستخدام الموارد الاقتصادية وفقاً لمراد الله تعالى، وتجدر الإشارة إلى أن الموارد الاقتصادية إذا تم استخدامها وفقاً لمراد الله تعالى وتوجيهاته فإنها تكفي لتلبية احتياجات الإنسان وزيادة، أما إذا تم استخدامها لتلبية الرغبات المحرمة واتباع الشهوات فإنها بالطبع تكون محدودة. وتكمن مسؤولية الإنسان عن المشكلة الاقتصادية في عدة جوانب وهي:

<!--التقاعس عن العمل: فالإنسان عندما يركن إلى الراحة وبهمل دوره ومسؤوليته في عمارة الأرض، يزيد من حدة المشكلة الاقتصادية.

<!--ظلم الإنسان وتعديه. فالإنسان بطغيانه وفساده في الأرض والمتمثل في هذا العصر بالفساد على المستوى الدولي عن طريق الاستعمار واستغلال الدول الضعيفة ونهب خيراتها، فالدول الرأسمالية بقيادة الولايات المتحدة تسيطر وتفرض قيودها وحصارها على كل الدول التي تسير في طريقها أو ترفض أوامرها.

<!--الفقر الروحي والمعنوي للأغلبية الساحقة من البشر: وما ينتج عن ذلك من اختلال في موازين القيم.

ثالثاً: التوظيفات الأخلاقية للتشاؤمية والتفاؤلية في الاقتصاد:

يمكن التعرف على أثر التشاؤمية والتفاؤلية على الحياة الاقتصادية من خلال العناصر التالية:

<!--التوظيفات الأخلاقية للتشاؤمية في الاقتصاد الوضعي:

     يمكن القول إن التشاؤمية في الفكر الاقتصادي الوضعي الفهم تحمل بصمة أخلاقية سالبة فكراً وسياسة وتطبيقاً، وذلك لما لها من أثر على التكوين الفكري لرواد الفكر الوضعي مما ينعكس على النظريات والسياسات الاقتصادية والسكانية التي جعلت المشكلة السكانية على نحو ما تصورها روبرت مالتس ضمن الأسس الفكرية لهذه العولمة، وجعل الإنسان الذي يؤمن بالفكر الوضعي لا يسع غيره أخلاقياً حيث يجعله دائماً وأبداً في تنافس وصراع مع الغير للحصول على نصيبه ن الموارد الاقتصادية.

<!--التوظيفات الأخلاقية للتفاؤلية في الاقتصاد الإسلامي:

 يمكن القول إن التفاؤلية في الفكر الاقتصادي الإسلامي تغرس قيماً أخلاقية موجبة، منها:

<!--الإيمان بأن الموارد الاقتصادية متوازنة مع البشر الموجودين على الأرض يجعل المسلم يسع الغير أخلاقياً؛ وهذا الأمر في غاية الأهمية. ولبيان هذه الأهمية نشير إلى قولٍ لفيلسوف فرنسا سارتر عندما قال: (الجحيم هم الآخرون). والمسلم لا يرى أن جحيميه هو الآخرون.

<!--الإيمان بالتفاؤلية في الاقتصاد بتوازن الموارد الاقتصادية مع السكان يجعل العمل هو القيمة الحاكمة في حصول كل إنسان على نصيبه من هذه الموارد؛ وبذلك لا تصبح الحرب وسيلة لأن يكون للإنسان نصيب في الموارد الاقتصادية، بل يصبح العمل هو الوسيلة، وهذه هي أحد القيم الموجبة في الاقتصاد، بل الحاكمة لقيم أخرى في الاقتصاد.

<!--الإيمان بالتفاؤلية في الاقتصاد فيما يتعلق بكفاية الموارد الاقتصادية لكل السكان هو الأساس الذي يقوم عليه السلام الاجتماعي في داخل المجتمع؛ وهذا الأمر يفهم بالإحالة إلى التطبيقات التي تلازمت مع التشاؤمية، ففي ظل التشاؤمية عملت فئات من السكان على طرد فئات من السكان لترك الوطن، محتجين بأن الموارد المتاحة ليست كافية لإعاشة الجميع، وقد استخدمت في عملية الطرد هذه ضغوط اقتصادية قاسية، وأحياناً ضغوط غير اقتصادية. بينما التفاؤلية في الاقتصاد المؤسسة على أن الموارد متوازنة مع البشر هي الأساس الذي يبنى عليه السلام الاجتماعي.

<!--التفاؤلية تعني أن الفقر قابل للقضاء عليه بالموارد الاقتصادية المتاحة، بينما تعني التشاؤمية أنه لا يمكن القضاء على الفقر؛ حيث أن الذي يؤمن بالتشاؤمية لا يكون قادراً على تقديم حلول فعالة للقضاء على الفقر، لأن وجود عالم بلا فقر لا يسعه تكوينه العقلي، وفي مقابل ذلك فإن الذي يؤمن بالتفاؤلية هو القادر على أن يسع فكرياً إمكانية وجود عالم بلا فقر، وبالتالي يستطيع أن يضع السياسات الاقتصادية التي تحقق ذلك.

    بقلم د.علاء بسيوني

أولاً: المشكلة الاقتصادية في الفكر الوضعي:

لا يتفق الفكر الوضعي على مفهوم محدد لعلم الاقتصاد وأفضل المفاهيم التي يعتمد عليها الكتاب لا يجد إجماعا عليه، بعكس كثير من العلوم الأخرى التي استقرت مفاهيمها. ولعل ذلك يرجع إلى الحداثة النسبية لعلم الاقتصاد أو موضوع العلم وهو السلوك الإنساني ذلك السلوك الذي يصعب وضعه في قوالب محددة جامدة أو لغير ذلك من الأسباب. وعلى أية حال فإن معظم الكتاب يرون فيما قدمه "ليونيل روبنز" مفهوماً مناسباً، حيث يرى أن علم الاقتصاد: هو العلم الذي يدرس السلوك الإنساني كعلاقة بين الموارد النادرة ذات الاستعمالات البديلة والحاجات أو الرغبات الإنسانية غير المتناهية.

ويرون من مزايا هذا المفهوم على غيره من المفاهيم التي قدمت لعلم الاقتصاد، أنه يضع أيدينا على أركان المشكلة الاقتصادية، تلك المشكلة التي تتألف في نظرهم من عنصرين هما: ندرة الموارد، وعدم تناهى الحاجات الإنسانية، وضرورة الاختيار بين البدائل المتاحة لإشباع هذه الحاجات وبالتالي فإن:

<!--السبب في نشأة علم الاقتصاد: هو وجود المشكلة الاقتصادية.

<!--المشكلة الاقتصادية: هي أن حاجات البشر ورغباتهم أكبر مما هو متاح لهم من موارد.

(الحاجات الإنسانية > الموارد المتاحة) وسوف ندرس كل منهما على حده.

الجانب الأول: الحاجات الإنسانية:

وهي تعبر عن حاجات البشر ورغباتهم، وتتميز بأنها متنوعة ومتجددة ولا حصر لها، وفيما يلي عرض لأهم خصائص الحاجات الإنسانية:

<!--أنها قابلة للإشباع: فالشخص الذي يشعر بحاجة إلى الطعام ويحصل عليه ويستهلكه يشعر بحالة من الإشباع ولو مؤقتة تثنيه عن الرغبة في الحصول على المزيد من هذه السلعة أو الخدمة.

<!--أنها تكون متجددة "متكررة": حيث أن أثر الإشباع يكون مؤقت وسرعان ما تتجدد رغبة الإنسان في الحصول على السلعة أو الخدمة التي سبق واستهلك منها ما أشبع حاجته في المرة الأولى كالطعام. 

<!--أنها قابلة للتطور من حيث الزمان والمكان: حيث أن الإنسان في حالة إشباعه لحاجة معينة كالغذاء والمسكن والملبس فإنه سرعان ما يبدأ في التطلع لما هو خير منها في المستقبل. كما أن التطور التاريخي يحكم إلى حد كبير نوع الحاجات الإنسانية وكيفية إشباعها، كما تتأثر الحاجات الإنسانية بعنصر المحاكاة والعادات والتقاليد فالحاجات الإنسانية للأفراد في العصور الوسطي تختلف عن حاجات الأفراد في العصر الحاضر ومن وقت لأخر.

<!--أنها عادة ما تكون متنافسة " حيث يكون إشباع واحدة منها على حساب إشباع الحاجات الأخرى كالأرز والمكرونة. أو متكاملة " كالشاي والسكر".

وتنقسم الحاجات الإنسانية إلى:

<!--حاجات خاصة: تهدف إلى إشباع حاجة خاصة بفرد معين.

<!--حاجات عامة " للمجتمع ككل ": ويتم إشباعها عن طريق الحكومة حيث لا يقبل الأفراد على الإنفاق عليها كالدفاع والأمن.

الجانب الثاني: الموارد الاقتصادية:

هي كل ما يتم الحصول عليه بمقابل مادي، وله سعر. أو هي كل ما يمكن أن يحقق منفعة مباشرة أو غير مباشرة أو غير مباشرة للإنسان، بشرط أن يكون نادراً ندرة نسبية. ويطلق على الموارد الاقتصادية (عناصر الإنتاج) وتقسم إلى ما يلي:

<!--عنصر الأرض: يقصد به جميع الموارد الاقتصادية التي خلقها الله تعالي وجعلها تحت أيدينا دون أن يكون للإنسان دخل في وجودها، فهي تشمل كل ما في الأرض من موارد طبيعية سواء داخلها أو خارجها.

<!--عنصر العمل: وهو كل مجهود ذهني أو جسماني يقوم به الأفراد بهدف الإنتاج المفيد من الناحية الاقتصادية.

<!--عنصر رأس المال: يقصد به الموارد التي أنتجها الإنسان من أجل مساعدته في العملية الإنتاجية كالآلات والمعدات والجسور والمباني. مع الإشارة إلى أن اعتبار سلعة ما ضمن عنصر رأس المال يتوقف على الغرض من انتاجها وطريقة استخدامها، فالسيارة على سبيل المثال إذا تم استخدمها في نقل السلع والخدمات أو العمال من مكان لأخر تعد سلعة رأسمالية، أما إذا استخدمت لأغراض التنقلات الشخصية كانت سلعة استهلاكية.

<!--عنصر التنظيم: ذلك النوع مع العمل الذي يقوم به المنظمون (رجال الأعمال) في التأليف بين عناصر الإنتاج من أجل القيام بالعملية الإنتاجية في سبيل الحصول على الربح.

وفي حالة توزيع العائد من العملية الإنتاجية على عناصر الإنتاج التي ساهمت في العملية الإنتاجية وفقا لمفهوم الاقتصاد الوضع يكون نصيب كل من هذه العناصر على التوالي (الريع "الإيجار" – الأجر – الفائدة – الربح أو الخسارة) بينما في الاقتصاد الإسلامي يكون التوزيع كما يلي (الريع "الإيجار" – الأجر – الأجرة – الربح أو الخسارة).

خصائص المشكلة الاقتصادية:

<!--الندرة النسبية للموارد: ويجب التفرقة بين الندرة النسبية والندرة المطلقة:

<!--الندرة المطلقة: تعنى عدم توافر المورد في الطبيعة.

<!--الندرة النسبية: تعنى أن المورد متوافر في الطبيعة ولكن ليس بالقدر الذي يكفي لإشباع كل الحاجات الإنسانية، وهي مجال علم الاقتصاد.

<!--الاختيار بين البدائل: ويعني أنه بما أن رغبات الأفراد والمجتمعات متعددة ويتم إشباعها بموارد محدودة، فإن هذه الرغبات تكون متضاربة مع بعضها، مما يتطلب ضرورة الاختيار بين الرغبات المختلفة أيها يتم إشباعه أولاً، وأيها يمكن تأجيله أو التضحية به. 

<!--التضحية: فحيث أن الموارد الاقتصادية ذات استخدامات بديلة، فأن استخدام مورد معين في مجال معين يكون على حساب التضحية باستخدامه في المجالات الأخرى. وتجدر الإشارة إلى أن التخفيف من حدة المشكلة الاقتصادية يتطلب تحقيق أقل تضحية ممكنة.  

يستنتج من ذلك أن السبب في نشأة علم الاقتصاد هـو وجود المشكلة الاقتصادية والسبب فيها هو الندرة النسبية للموارد.

الهدف من دراسة المشكلة الاقتصادية:

هو التخفيف من حدتها، وذلك من خلال الإجابة على التساؤلات الآتية:

<!--ماذا ننتج؟ أي ما هي السلع والخدمات التي سوف ننتجها، وما هي السلع والخدمات التي يمكن تأجيل إنتاجها أو الاستغناء عنها، وما هي الكميات التي سوف ننتجها من كل نوع.

<!--كيف ننتج؟ وهو سؤال يتعلق باختيار الطريقة التي سوف ننتج بها ما قررنا إنتاجه من السلع والخدمات، ويتوقف ذلك على المقارنة بين تكلفة استخدام عناصر الإنتاج، ونسب استخدامها في الإنتاج.

<!--لمن ننتج؟ وهو سؤال يتعلق بكيفية توزيع ما تم إنتاجه من سلع وخدمات، هل يتم توزيعه بالتساوي على أعضاء المجتمع، أم على حسب المساهمة في عملية الإنتاج، أم على حسب الملكية. والإجابة على هذا السؤال تختلف من مجتمع لأخر باختلاف الأنظمة الاقتصادية والسياسة السائدة.

<!--[if !supportLists]-->o    متى ننتج؟ وهو سؤال يتعلق بالفترة الزمنية للإنتاج هل ستخـصص الموارد لإنتاج السلع الاستهلاكية الحاضرة، أم ستخـصص لإنتاج سلع استثمارية تهدف إلى زيادة الإنتاج في المستقبل.

 أسلوب مواجهة المشكلة الاقتصادية في النظم الاقتصادية:

<!--النظام الرأسمالي: يؤمن بالحرية الاقتصادية لذلك يتولى جهاز الأسعار (الطلب والعرض) مسئولية مواجهة المشكلة الاقتصادية، لأنه من وجهة نظرهم يعكس رغبات المستهلكين، ويحقق الاستغلال الأمثل للموارد الاقتصادية المتاحة. إلا أن تحقيق ذلك يتطلب حرية انتقال عناصر الإنتاج بسهولة ويسر من نشاط لآخر، ويتطلب التوافق بين المصلحة الخاصة والمصلحة العامة.

<!--النظام الاشتراكي: يؤمن بالملكية العامة والتخطيط الاقتصادي لذلك يكون جهاز التخطيط في هذا النظام هو المسئول عن مواجهة المشكلة الاقتصادية، حيث أن هيئة التخطيط القومي تكون مسئولة عن عناصر الإنتاج ولديها من الدراسات الاقتصادية ما يمكنها من تقدير احتياجات المجتمع.

<!--النظام الاقتصادي الإسلامي: لا يؤمن بالمشكلة الاقتصادية على النحو الذي عرضناه في الفكر الوضعي، أي بندرة الموارد وتعدد الحاجات، ولكن المشكلة من وجهة نظر الاقتصاد الإسلامي هي مشكلة أخلاقية، تشمل ظلم الإنسان للإنسان، وسوء توزيع الدخل والثروة والموارد الاقتصادية المتاحة، وعدم الاستخدام الأمثل للموارد الاقتصادية، وذلك على النحو الذي سوف يتم دراسته في الدرس التالي.

ثانياً: المشكلة الاقتصادية وموقف الإسلام منها:

يختلف أساس المشكلة الاقتصادية ومرجعها في الفكر الإسلامي عن أساسها ومرجعها في الفكر الوضعي في الفكر الإسلامي، وهذا ما يلقي بظلاله على كل جوانب الدراسة الاقتصادية لدرجة أنه يمكن القول إن المشكلة الاقتصادية هي أساس الاختلاف بين الفكر الوضعي والفكر الإسلامي. وللتعرف على طبيعة هذا الاختلاف يمكن النظر إلى أسس المشكلة الاقتصادية ومرجعها في الفكر الوضعي وموقف الإسلام منها، وذلك على النحو التالي:

الأساس الأول: الندرة النسبية للموارد الاقتصادية:

يتمثل الأساس الأول للمشكلة الاقتصادية في الفكر الوضعي في الإيمان بندرة الموارد في الطبيعة بمعنى أن الموارد الاقتصادية المتاحة للإنسان إذا نسبت إلى احتياجاته منها فإنها لن تكون كافية لإشباعها وهذا ما يعرف بالندرة النسبية، فهل هذا الأساس مقبول إسلاميا أم لا؟

يقوم موقف الإسلام من الموارد الاقتصادية على الإيمان بأن الله تعالى أودع في الأرض من الموارد ما يكفي الإنسان، حيث يقول الله تعالى للبشر{وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإنسان لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} (إبراهيم: الآية: 34) كما يقول سبحانه عن الأرض { وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} (فصلت: الآية: 10) فالآية الأولى تقرر أن الإنسان قد منح كل ما تحتاجه حياته، وكل ما تتطلبه فطرته التي فطره الله تعالى عليها، والآية الثانية تقرر أن الله تعالى قد بارك في الأرض، ووضع فيها أقوات أهلها بدقة وإحكام، وأن هذه الأقوات متاحة لكل من يطلبها بوسائلها، ويسألها بقوانينها، وعليه فإنه لا يقبل إسلامياً القول بإن الموارد الاقتصادية المتاحة في الأرض أقل من حاجة الناس إليها، أي لا يقبل القول بندرة الموارد في الأرض.

ونستشهد بكتاب لمؤلفين بريطانيين هما فرانسيس مورلاييه وجوزيف كولينز يحمل عنوانا ذا دلالة في موضوع المشكلة الاقتصادية وهو (صناعة الجوع "خرافة الندرة") خلص إلى أن الاقتصاد الوضعي خلق الندرة وصدقها واتخذ منها سببا للمشكلة الاقتصادية والجوع في العالم، وأنها صناعة يمارسها البعض ويربح من ورائها كما يربح من صناعة السلاح وصناعة السجائر، ولقد لخص مؤلفا الكتاب خلاصة عملهما في قولهما: أثناء دراستنا وقراءاتنا ورحلاتنا وأحاديثنا وجدنا أن مفاهيم الندرة والذنب والخوف تقوم على أساس الخرافات وتعلمنا أنه ما من بلد في العالم يعد سلة غذاء ميؤوس منها، إن الضغط الرئيسي على إنتاج الغذاء هو التفاوت الكبير في السيطرة على موارد الغذاء في العالم، إذ تتناقص باستمرار سيطرة الجياع على عملية الإنتاج، والنتيجة تبديد هائل: قلة استخدام الأرض توسع المحاصيل الترفيه وغير الغذائية لإطعام غير الجائعين فعلاً، وإطعام أكثر من ثلث إجمالي قمح العالم وما لا يقل عن ربع صيد العالم من الأسماك للماشية، وطالما ظل لدينا نظام يقوم بنشاط يخلق الندرة من قلب الوفرة فإن القول بأننا نبلغ الحدود القصوى للطبيعة أسوأ من مجرد التضليل فالإيحاء بذلك يسمح للنظام الحالي الذي يولد الندرة بالاستمرار دون أن يفهم على حقيقته وفي نفس الوقت يجرى خداع الناس بصورة مرعبة عن النقص والانفجار السكاني.

ولا شك أن الذي أوقع الفكر الوضعي في هذه المسألة والقول بندرة الموارد الاقتصادية هو الخلط بين مفهوم الموارد الاقتصادية والسلع والخدمات، ذلك أن الإنسان لا يشبع حاجاته باستخدام الموارد الاقتصادية المتاحة مباشرة، حيث أن الله تعالى قد خلق الموارد الاقتصادية المتاحة (في معظمها) في صورة غير صالحة للإشباع المباشر للحاجات الإنسانية وإنما تحتاج إلى جهد الإنسان لكي يشتق منها السلع والخدمات التي تشبع حاجاته، ومن ثم فإن القول بأن الموارد غير كافية لإشباع الحاجات فيه قفز فوق مرحلة الإنتاج، وفيه تجاهل لدور الإنسان وتحميل المسئولية على الطبيعة والأرض وتبرئة لساحة الإنسان، وهذا خطأ واضح يقع فيه الفكر الوضعي ويصر عليه.

فليس هناك دليل مادي ولا منطق عقلي يعتمد عليه في القول بندرة الموارد الاقتصادية في الطبيعة وأنها أقل من احتياجات البشر إليها، لأننا ننسب الموارد الاقتصادية إلى حاجات الإنسان مع أن الذي ينبغي أن ينسب إليها هو الإشباع المباشر (السلع والخدمات) وليست الموارد، ومن ثم فإنه إذا حدث نقص في الإشباع فإن المسئول عن ذلك هو جهاز الإنتاج، الذي يقوم باشتقاق السلع والخدمات من الموارد الطبيعية بواسطة الجهد الإنساني، أي أنه إذا حدث نقص في الإشباع فإن المسئول عنه هو الإنسان وليست الموارد المتاحة. وللتدليل على وفرة الموارد الاقتصادية يمكن الرجوع إلى النقاط التالية:

<!--إن الموارد قد تكون وفيرة جداً في بلد ما ومع ذلك يعاني أهله من شظف العيش وانخفاض مستوى المعيشة: لأن البشر لم يستخدموا موارد الله تعالى الوفيرة في اشتقاق السلع والخدمات، وهذا هو الحال في الدول النامية، وعلى العكس من ذلك فقد تكون إحدى الدول (مثل اليابان) ذات موارد أقل من غيرها ولكن جهد البشر فيها يستطيع أن يشتق من هذه الموارد الكمية الكافية من السلع والخدمات لتحقيق مستوى طيب من المعيشة لسكانها.

<!--متى تم إحصاء الموارد الاقتصادية المتاحة حتى نقول بندرتها؟ ومن هو الذي قام بإحصاء دقيق للموارد الاقتصادية المتاحة في الأرض ثم نسبها إلى حاجات البشر على ظهرها وتبين له عدم كفاية الموارد للوفاء بهذه الحاجات؟ الإجابة: أن شيئاً من ذلك لم يحدث ومن ثم فإن القول بندرة الموارد الاقتصادية هو مجرد فرض لم تثبت صحته، ولن يمكن إثباته في أي يوم من الأيام، وإلا فمن ذا الذي يستطيع أن يحصر الموارد في المحيطات ومن الذي يمكنه تقدير حجم المعادن في باطن الأرض وفي كل يوم يكتشف من الموارد ما لم يكن معروفاً من قبل.

<!--إن البشر إذا استنفدوا موردا من الله عليهم بمورد بديل بناء على تقدير دقيق من حكيم خبير: فعندما لم تعد طاقة الحيوان كافية للوفاء بحاجة الإنسان فتح الله عليه بمعرفة الآلة واستخدام الفحم في إدارتها، وعندما أوشك الفحم على النفاذ عرفه الله تعالى على البترول كطاقة، وإذا انتهى عصر البترول فهناك الطاقة النووية وإذا كانت تقبل النفاد فهناك الطاقة الشمسية وهي لا تنتهي قبل أن ينتهي عمر الأرض. وهكذا في كل الميادين ما إن يوشك مورد على النفاد حتى يمن الله تعالى على البشر بمورد بديل تحقيقاً لقوله تعالى عن الأرض (وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ) (فصلت: الآية: 10)، ثم أن البشر أنفسهم هم أعظم مورد اقتصادي على وجه الأرض.

<!--إن موقف الفكر الوضعي يلقى بالمسئولية على الطبيعة ويصفها بالشح والبخل ويبرئ ساحة الإنسان، أما موقف الفكر الإسلامي فإنه يلقى بالمسئولية على الكائن المكلف بعمارة الأرض، أي على الإنسان لأن الله سبحانه وتعالى تفضل عليه وأودع في الأرض من الموارد الاقتصادية ما يكفيه، فإذا حدث نقص في الإشباع فإن المسئول عنه هو سلوك الإنسان وليس نقص الموارد في الأرض، لذلك يقول الله تعالى معقباً على تقريره بأنه أعطى الإنسان كل ما يحتاج إليه في حياته على ظهر الأرض: {إِنَّ الإنسان لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} (إبراهيم: الآية: 34) فهذا التعقيب إجابة عن سؤال مقدر هو: كيف يكون الله تعالى قد أعطى الإنسان كل ما يحتاجه إليه في حياته ثم نشاهد نقص الإشباع بل نشاهد المجاعات في بعض الأماكن؟ الإجابة هي: إن الإنسان لظلوم كفار، أي أنه إذا حدث نقص فإن السبب هو الإنسان إما لكفرانه بنعم الله تعالى وعدم استخدامه الموارد المتاحة أو استخدامها في غير ما خلقت له، وإما لتظالم البشر واستئثار البعض بما يزيد عن حاجاته (دولة كان أو فرداً) وحرمان الآخرين، أي أن نقص الإشباع إما أن يرجع إلى الكفر بنعم الله تعالى بعدم بذل الجهد المطلوب في تحويل الموارد إلى سلع وخدمات، أو يرجع إلى الظلم باحتجاز واحتكار السلع والخدمات بعد أن تم بذل الجهد، ولا يخرج النقص في الإشباع عن واحد من هذين السببين.

<!--إن القول بندرة الموارد الاقتصادية المتاحة كالقول بعدم وجود حل للمشكلة الاقتصادية: وذلك في الفكر الوضعي، إما في الفكر الإسلامي فإن المشكلة الاقتصادية ترجع إلى سلوك الإنسان ويترتب على ذلك أن المشكلة الاقتصادية في ظل الإسلام يمكن حلها، أما في ظل الفكر الوضعي فهي غير قابلة للحل لأنها ترجع إلى ما لا علاقة للإنسان به ولا قدرة له عليه وهو عدم وجود الموارد بالقدر الكافي لإشباع الحاجات. وإذا وجد حل في ظل الفكر الوضعي فإنه ينطوي على الحرمان بمعنى أن الإنسان عليه أن يتخلى عن إشباع بعض احتياجاته في مقابل أن يشبع بعضها الآخر، أما الحل في ظل الفكر الإسلامي فإنه لا ينطوي على شيء من الحرمان لأن الموارد تكفي الجميع إذ أن الحاجات محدودة وما على الإنسان إلا أن يبذل القدر الكافي من الجهد لكي يشتق منها السلع والخدمات التي تشبع كل حاجاته.

وتجدر الإشارة إلى أنه إذا كان الفكر الوضعي قد خلط في هذه القضية بين مفهوم الموارد الاقتصادية والسلع والخدمات مما ترتب عليه القول بندرة الموارد الاقتصادية، فإنه قد خلط أيضا بين مفهوم الحاجة والرغبة مما ترتب عليه القول بعدم تناهى الحاجات وهذا هو سبب نشأة الأساس الثاني للمشكلة الاقتصادية في الفكر الوضعي.

الأساس الثاني: عدم تناهى الحاجات الإنسانية:

يؤمن الفكر الوضعي بعدم تناهى الحاجات الإنسانية زاعماً بأن حاجات البشر ورغباتهم لا تقف عند حد، وأنه كلما أشبع الإنسان حاجاته ظهرت له حاجات جديدة ناهيك عن كرر نفس الحاجة مرة أخرى، أي أنها تعاود الظهور كلما أشبعت. أما الموقف الإسلامي من الحاجات الإنسانية فإنه يختلف عن ذلك اختلافاً جذرياً، حيث أنه يرى أن حاجات الإنسان تقبل الإشباع، وأنها يجب أن تقف عند حد معين لا تتجاوزه، وأن الذي لا يقبل الإشباع هو رغبات الإنسان وليس حاجاته، إذ أن الحاجة هي كل ما يحتاجه الإنسان في بناء حياته، أما الرغبة فهي كل ما يرغب فيه الإنسان ويجب الحصول عليه سواء كان بانياً لحياته أم مدمراً لها، فالرغبة الإنسانية تنقسم في المفهوم الإسلامي إلى:

<!--رغبة مشروعة: وهي التي تساهم في بناء الحياة وتمثل حاجة من حاجات الإنسان، كالطعام والشراب.

<!--رغبة غير مشروعة: وهي التي وإن رغب الإنسان في الحصول عليها فإنها لا تساهم في بناء الحياة بل ربما تكون مدمرة لها، كالسجائر والخمر والمخدرات، وأكل لحم الخنزير.

والذي يساهم في بناء الحياة الإنسانية ويعد حاجة من الحاجات الإنسانية محدود ومن ثم يكون متناهياً، ولا مجال للقول بأن الحاجات الإنسانية غير متناهية كما يقول الفكر الوضعي إذ هي محدودة وتقبل الإشباع كما يقول الفكر الإسلامي.

والحقيقة أن الذي أوقع الفكر الوضعي في هذا الخطأ هو الخلط بين مفهوم الرغبة والحاجة الإنسانية وإلباس الحاجة خصائص الرغبة، وهذا الخلط لدى الفكر الوضعي يرجع في الأساس إلى أنه يجعل من الإنسان مصدر التشريع ومعياراً لتحديد الصواب والخطأ، ومن ثم فكل ما يرغب الإنسان فيه ويحب الحصول عليه يجب على الموارد الاقتصادية أن تفي به، ورغبات الإنسان لا تقف عند حد، ومن ثم فمهما يبلغ حجم الموارد فلن يفي برغبات الإنسان، ومن هنا تظهر المشكلة الاقتصادية أما إذا قبلنا بالموقف الآخر في الفكر الإسلامي (وهو الصواب) وأن الرغبات لا ينبغي الخضوع لها إلا في الحدود البانية للحياة الإنسانية، وأن الرغبات غير المشروعة لا ينبغي الخضوع لها أو الاقتراب منها فإن الموارد تكون كافية بل تكون أكثر من حاجة الإنسان إليها.

ولقد قرر النبي ﷺ حقيقة عدم تناهى الرغبات ومحدودية الحاجات عندما قال: (ولَوْ أنَّ لِابنِ آدمَ وادِيًا من مالٍ، لابْتَغَى إليهِ ثانيًا، ولَوْ كان لهُ ثانيًا، لابْتَغَى إليهِ ثَالِثًا، ولا يَمْلَأُ جَوْفَ ابنِ آدمَ إِلَّا التُّرَابُ، ويَتُوبُ اللهُ على مَنْ تابَ)(<!--)، فالإنسان يرغب أن تكون له أودية من ذهب تتلوها أودية، ولكن هل هو في حاجة إلى هذه الأودية؟ بالقطع لا. ومع ذلك فإنه يرغب فيها ولا تنتهي رغبته عند تملكها بل يطلب من الأودية المزيد ولا تنتهي هذه هي الرغبة ولا تقف عند حد، أما الحاجة الإنسانية فقد أقرها النبي ﷺ بقوله (مَن أصبحَ منكم آمنًا في سربِهِ، مُعافًى في جسدِهِ عندَهُ قوتُ يومِهِ، فَكَأنَّما حيزت لَهُ الدُّنيا)(<!--) وهذه هي الحاجات الإنسانية التي أقرها النبي ﷺ تتمثل في؛ الأمن، والصحة، والقوت، وما يستلزمه تحقق هذه الثلاثة، وهي حاجات محدودة بلا شك.

يتضح من ذلك أن الحاجات في الفكر الإسلامي تقتصر على ما يبنى الحياة الإنسانية، وإشباع الرغبات المشروعة التي تسهم في بناء حياة الإنسان على وجه الأرض وجعلها أفضل وأقوم دون أن تصل إلى إشباع الرغبات غير المشروعة التي تكون مدمرة للحياة الإنسانية. فإذا عمد الإنسان إلى إشباع الرغبات غير المشروعة، وأطلق لنفسه العنان في ذلك، فإنه لن يجد ما يشبع كل هذا النهم ويحل به نقص الإشباع قطعاً، ليس لأن الحاجات غير متناهية وإنما لأنه تجاوز الحد بإشباعه الرغبات غير المشروعة، تلك التي لن تشبع في يوم من الأيام لأنها غير قابلة للإشباع في أصل خلقتها.

ومن ثم فإن المشكلة الاقتصادية من وجهة نظر الفكر الإسلامي ترجع إلى سلوك الإنسان وليس إلى بخل الطبيعة، حيث أن الموارد كافية ولكنها في حاجة إلى أن تصان من العبث بها أو إهدارها فيما لم تخلق له، ومن ثم فإن سلوك الإنسان حيالها يجب أن يخضع لتعليمات الله تعالى، لأنها هي الكفيلة بالمحافظة عليها من الإهدار أو التضييع فإذا اتصف سلوك الإنسان بشيء من ذلك فإن نقص الإشباع سيحل به ليس لأن الموارد غير كافية وإنما لأنه لم يستخدمها أو استخدمها في غير ما خلقت له، أي أهدرها فلم يستخدمها أو عبث بها وضيعها باستخدامها في غير ما خلقت له.

يستنتج مما سبق أن الحاجة وفقاً للفكر الوضعي هي شعور الفرد بأن شيئاً ما ينقصه ويحاول التخلص منه، فشعور الفرد بالحاجة للطعام يتساوى مع حاجته إلى الخمور مثلاً. بينما في الفكر الإسلامي فإن الحاجة تعني مطلب للإنسان تجاه الموارد بقصد إنماء طاقته وعمارة الكون، لأنه خلق لهدف العبادة والعمارة.

كما أن علم الاقتصاد في الفكر الوضعي هو العلم الذي يدرس سلوك الإنسان باعتباره علاقة بين موارد محدودة ورغبات متعددة، بحيث يحاول الفرد استخدام الموارد المحدودة والنادرة ذات الاستخدامات البديلة في إشباع الرغبات المختلفة. بينما علم الاقتصاد في الفكر الإسلامي هو العلم الذي يدرس الطريقة التي يتم بها ترشيد سلوك الفرد عند استخدامه الموارد لإشباع حاجاته وفق الضوابط الشرعية.


<!--[endif]-->

<!--))  محمد بن عيسى بن سورة الترمذي، الجامع الصحيح (سنن الترمذي)، مرجع سابق، برقم: 3793.

<!--))  محمد ناصر الدين الألباني، صحيح سنن الترمذي، تحقيق: زهير الشاويش، مكتب التربية العربي لدول الخليج، ط 1، 1408هـ، برقم: 2346.

 

      بقلم د.علاء بسيوني 

تبين من خلال ما سبق أن أمور الاقتصاد في الإسلام تصنف في مجموعتين: المجموعة الأولى: وتشمل كل ما يتعلق بالجوانب الفنية، والمجموعة الثانية: تشمل كل ما يعمل على علاقة الإنسان بأخيه الإنسان والتي من خصائصها الثبات فهي لا تخضع للتطور، وأن الأحكام الفقهية الاقتصادية التي تختص بهذه المجموعة ثابتة، وقد تمت الإشارة إلى أن ثبات الحكم في هذه المجموعة الاقتصادية لا يمنع التطور أو يعطله، وأن اعتبار كل ما جاء به الإسلام يحفز التطور والتقدم مع ثبات الحكم. وفي هذه الفقرة نواصل التعرف إلى المجموعة الثانية في الاقتصاد التي تعمل على علاقة الإنسان بأخيه الإنسان التي تستهدف تحقيق العدل. والعناصر الجديدة التي نرى إضافتها تشمل طبيعة الحكم الفقهي الاقتصادي وطبيعة هدفه.

أولاً: الطبيعة الكلية للحكم الفقهي الاقتصادي واستيعاب التطور:

    الحكم الفقهي المتعلق بالعبادات من طبيعته أنه جاء على نحو مفصل تفصيلاً كلياً، ويمكن أن نتعرف على هذه الطبيعة المفصلة من الصلاة، لقد شرعت الصلاة على نحو مفصل تفصيلاً كاملاً في الكتاب والسنة: فذكرت ماذا نلبس أثناء الصلاة، وإلى أي جهة نتجه، وكيف ندخل في الصلاة، وماذا نقول فيها، والأعمال المشروعة من ركوع وسجود، وكيف نخرج من الصلاة، وهذا يبين أن الحكم في العبادات جاء مفصلاً تفصيلاً كاملاً.

    أما الحكم الفقهي الاقتصادي فقد جاء في صورتين هما:

<!--الصورة الأولى: أحكام مفصلة تفصيلاً كاملاً مثل الميراث ومصارف الزكاة والثبات ومعه التفصيل هنا يهدف إلى تحقق العدل وتأمين التقدم ويرشده.

<!--الصورة الثانية: الأحكام ذات الطبيعة الكلية التي لا تخوض في التفصيلات، وذلك مثل قول الله عز وجل }وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (سورة البقرة: الآية: 275)، والهدف الذي يتحقق من كلية الحكم هو أن؛ التعميم الذي لا ينزل إلى التفصيلات الجزئية ولا يقيد الأجيال المقبلة بهذه التفصيلات والتطبيقات، بل يتركها حرة تقتبس الوضع الذي تتوافر فيه الملائمة العملية لحاجات كل زمان ومكان ما دامت تسوده التعاليم الكلية وينبثق عن توجهاتها. وهذه الطبيعة الكلية للحكم الفقهي الاقتصادي تحمل خاصيتين:(<!--)

<!--الخاصية الأولى: أن هذه الأحكام الكلية التي تعمل على أمور الاقتصاد ليست جامدة بحيث لا تقبل التطبيق إلا على أسلوب واحد، بل إنها تطبق في أنواع متعددة من العقود وتستوعب التطور.

<!--الخاصية الثانية: أن هذه الأحكام وإن كانت كلية إلا أن فيها درجة إلزام بالإيجاب أو المنع، فالزكاة ركن من أركان الإسلام وهي فريضة واجبة، بشأن الأموال التي تجب فيها الزكاة، وهي تتحدد بالقاعدة التالية: في كل مال نام حقيقة أو حكماً زكاة، فتحديد وعاء الزكاة على هذا النحو جعل الزكاة صالحة للتطبيق في كل زمان ومكان وقادرة على استيعاب التطور مع اختلاف الأنشطة الاقتصادية وتنوع الدخول وتنوع الثروات.

     وبذلك فإن الحكم الفقهي الكلي الاقتصادي يسع تطبيقات متعددة مع الاحتفاظ بهدف الحكم، لهذا السبب فإنه لا يعطل التطور أو يمنعه، بل إنه يسع التطور لكنه تطور مرشد بهدف الحكم. والطبيعة الكلية للحكم الفقهي الاقتصادي تجعله يسع أنواعاً من المعاملات التي تستجد مع التطور والتي تتفق مع الشروط والأهداف التي قال بها الفقهاء.

ثانياً: طبيعة الهدف في الحكم الفقهي الاقتصادي وتحقيق العدل:

اهتم علماء الفقه وعلماء أصول الفقه ببيان الهدف من الحكم الفقهي على وجه العموم ويدخل في ذلك الحكم الفقهي الاقتصادي. يقول الإمام ابن تيمية؛ الهدف من فقه المعاملات هو إيجاب ما لابد منه وتحريم ما فيه فساد".(<!--)  ويقول الإمام الشاطبي عن هدف الحكم الفقهي الاقتصادي تحقيق المقاصد الشرعية الثلاثة: الضرورية والحاجية والتحسينية. ويقول: أما الضرورة: فمعناها أنها لابد منها في قيام مصالح الدين والدنيا بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة بل على فساد وفوت حياة وفي الآخرة فوت النجاة والنعيم والرجوع بالخسران المبين، وهذا النوع من المقاصد جار في العبادات والمعاملات، ومن هذه المقاصد الضرورية في المعاملات انتقال الأملاك بعوض أو بغير عوض. أما المقاصد الحاجية: فإنه يفتقر إليها من حيث التوسعة ورفع الضيق المؤدي في الأغلب إلى الحرج والمشقة اللاحقة بفوت المطلوب، فإذا لم تراع دخل على المكلفين على الجملة الحرج، وهي جارية في العبادات والمعاملات، ومن أمثلتها في المعاملات القراض والمساقاة والسلم. أما المقاصد التحسينية: فمعناها الأخذ بما يليق من محاسن العادات وتجنب الأحوال التي لا تليق بالعقول الراجحة، وهي تجمع في قسم مكارم الأخلاق، وجاءت في العبادات والمعاملات، ومن أمثلتها في المعاملات، منع بيع فضل الماء والكلأ.(<!--)

ونحاول أن نوظف هذه الآراء التي قال بها علماء الفقه وأصول الفقه عن طبيعة الهدف في الحكم الفقهي الاقتصادي، والمطلوب هو عمل التوظيف في الموضوع الذي نتكلم عنه وهو الاقتصاد الإسلامي وتحقيق العدل، والآراء التي ذكرت تدل صراحة على أن الحكم الفقهي الاقتصادي يستهدف صلاح حال الدنيا وصلاح حال الآخرة. فصلاح حال الدنيا يدخل فيه العدل والتقدم الاقتصادي، الذي تعود منافعه على جميع أفراد المجتمع.

    ويتضح من ذلك أن طبيعة الهدف من الحل والحرمة في فقه الاقتصاد الإسلامي هو إقامة الحياة الاقتصادية على آداب حسنه من خلال تحريم ما فيه فساد، وإيجاب ما لا بد منه، وكراهة ما لا ينبغي، واستحباب ما فيه مصلحة راجحة، وأن هدف التشريع هو تحقيق مصالح الناس بكفالة ضرورياتهم وتوفير حاجياتهم وتحسينياتهم في المجتمع الذي يلتزم به.  

ومن ثم فإن قضية كفاءة الاقتصاد الإسلامي تبدو في تحقيق القضية التي واجهها الإنسان ولا يزال يواجهها في كل زمان ومكان وهي قضية ذات ركنين: ركن تحقيق العدل من حيث علاقة الإنسان بأخيه الإنسان، وركن تحقيق التقدم من حيث علاقة الإنسان بالكون الذي خلقه الله له وكلفه بإعماره والمناقشة التي جاءت في البحث تثبت كفاءة الاقتصاد الإسلامي في تحقيق هذه القضية بركنيها.


<!--[endif]-->

<!--))   رفعت العوضي، فقه الاقتصاد الإسلامي وطبيعة التشريع فيه، مرجع سابق، ص301.

<!--) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، ج 29، مرجع سابق، ص 15- 21.

<!--) الشاطبي، الموافقات، ج 2، مرجع سابق، ص9.

 

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 190 مشاهدة

     بقلم د.علاء بسيوني

نحاول من خلال هذه الفقرة التعرف على بعض تطبيقات هذه الأمور كما حدثت عبر مسيرة الحضارة الإسلامية، ومنها:

التطبيق الأول: أنتم أعلم بأمر دنياكم:

وهي واقعة حدثت في عصر سيدنا رسول الله عندما (مَرَّ بِقَوْمٍ يُلَقِّحُونَ، فَقَالَ، لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا لَصَلُحَ، قَالَ: فَخَرَجَ شِيصًا، فَمَرَّ بِهِمْ، فَقَالَ: مَا لِنَخْلِكُمْ، قَالُوا: قُلْتَ كَذَا وَكَذَا، قَالَ: أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ)(<!--) ومن هذا التطبيق نحصل على النتائج التالية:

<!--أساليب الإنتاج الفنية ليست موضع تشريع: ونؤسس على ذلك نتيجة أخرى هي أن تطبيق الاقتصاد الإسلامي لا يعوق التطور الفني في الإنتاج، بل إنه يسع كل التقنيات الحديثة.

<!--إعمال كل ما جاء به الإسلام بشأن العلم وتطبيقاته: يجعلنا نطور النتيجة السابقة بحيث تصبح على النحو التالي: الاقتصاد الإسلامي يشجع التطور الفني ويحفزه ويدفعه إلى الأمام. عندما نُعْمِل ما جاء به الإسلام من آداب تتعلق بالجانب الفني في الإنتاج وبالسلوكيات المرتبطة به فإننا نستطيع الوصول إلى النتيجة التالية: تطبيق الاقتصاد الإسلامي يرشد التطور والتقدم ويجعله في تلاؤم مع مصلحة المجتمع.

يستنتج من ذلك: أن الاقتصاد الإسلامي ومع اعتماده الشريعة ضمن مصادره يتمتع بخاصية استيعاب التطور الفني في أساليب الإنتاج وتطويره وترشيده.

التطبيق الثاني: استحداث نظام الدواوين في الدولة الإسلامية:

ففي عهد الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه اتسعت الدولة الإسلامية اتساعاً كبيراً، حيث فتحت بلاد فارس وبلاد أخرى غيرها كثيرة، وقد استلزم ذلك أن يتطور الجهاز الإداري للدولة، فأشار بعض الصحابة على الخليفة عمر بن الخطاب بإنشاء الدواوين، وهو نظام كان معمولاً به في الإمبراطورية الفارسية، وقد استجاب الخليفة عمر بن الخطاب لذلك وبدأ تطبيق نظام الدواوين في عصره بديوانين هما: ديوان الجند ، وديوان الخراج، وقد تطور هذا النظام تطوراً إيجاباً في ظل الحضارة الإسلامية ووصل عدد الدواوين في عصر الخلافة الأموية إلى أربعة، وفي عصر الخلافة العباسية إلى عشرة دواوين رئيسه وبجانبها دواوين فرعية أخرى شملت كل الحاجات المؤسسية لإدارة مالية الدولة.

ومن هذا التطبيق يستنتج أن الاقتصاد الإسلامي يستوعب كل تطور في المؤسسات التي يدار الاقتصاد من خلالها، بل إنه مع تطبيق الاقتصاد الإسلامي فإنه لا يوجد حظر على الاستفادة من تجارب الأمم الأخرى في المجال المؤسسي. ويضاف إلى ذلك أن التجربة التاريخية أثبتت أن المسلمين عندما استفادوا من تجارب الأمم الأخرى في هذا المجال فإنهم أضافوا إلى ذلك إضافات عميقة، حيث طوروا هذا الجانب المؤسسي وجعلوه وعاءً إدارياً ملائماً لاستيعاب تطور المجتمع على وجه العموم، وتطور الواقع أو الحياة الاقتصادية على وجه الخصوص.

     والنتيجة العامة لهذا التطبيق: هي أن الاقتصاد الإسلامي ومع اعتماده الشريعة ضمن مصادره يتمتع بخاصية استيعاب التطور في مجال المؤسسات وتطويرها.

التطبيق الثالث: قيام مؤسسات تؤدي وظائف استحدثها التطور الحضاري:

وهذا التطبيق يتعلق أيضاً بالجانب المؤسسي، ولكن في القطاع الخاص الذي يمتلكه ويديره الأفراد. فقد أثبتت الدراسات أنه في ظل الحضارة الإسلامية قامت مؤسسات تؤدي وظائف استحدثها التطور الحضاري ومن هذه المؤسسات: الصرافون، والتجار أصحاب المصارف، وهي مؤسسات قامت بدور هام في تسهيل التبادل التجاري والتطور الحضاري، انتشرت في العالم الإسلامي كله، ولم تقتصر وظائفها على داخل العالم الإسلامي وإنما امتدت هذه الوظائف بحيث تشمل العلاقات الاقتصادية التجارية بين التجار في العالم الإسلامي وبلاد أخرى في غير العالم الإسلامي، وكان من هذه الوظائف ما يقوم به الوكلاء التجاريون، وبلغ من تقدم هذه المؤسسات ووظيفة الائتمان التي تقدمها، ما يقال إن أول شيك ظهر في التاريخ جرى سحبه على يد صراف في بغداد في منتصف القرن الرابع الهجري، وإن الذي قام بسحبه هو سيف الدولة الحمداني أمير حلب الذي جاء زائراً إلى بغداد وأنه ذهب إلى دار بني خاقان فخدموه من دون أن يعرفوه، ولما هَّم بالانصراف كتب لهم رقعة (صك) وهذه الرقعة موجهة إلى صيرفي في بغداد بألف دينار، وعندما عرضوا هذه الرقعة على الصيرفي أعطاهم الدنانير في الحال فسألوه عن الرجل فقال سيف الدولة الحمداني.

     يستنتج من ذلك: أن الاقتصاد الإسلامي قادر على استيعاب التطور في المؤسسات التي يدار بها الاقتصاد، كما أن الممارسات الاقتصادية للمسلمين أفرزت بعض المؤسسات والمعاملات التي لم تكن معروفة من قبل.


<!--[endif]-->

<!--))  مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري، صحيح مسلم، مرجع سابق، رقم الحديث 2363. (شيصاً: تمر لم يتم نضجه لسوء تأبيره أو لفسادٍ آخَرَ. ويقال شيصت النخلة: فسدت وحملت تمرا رديئاً.

 

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 176 مشاهدة

      بقلم د.علاء بسيوني       

يهدف هذا الفصل إلى تعريف الدارس بطبيعة الحكم الفقهي في الاقتصاد الإسلامي، وكيف أن الحكم الفقهي ينبثق من القواعد الفقهية العامة ويهدف إلى تحقيق مقاصد الشريعة الإسلامية، بالإضافة إلى معرفة طبيعة التشريع في فقه الاقتصاد الإسلامي، ومنطقة الحل والحرمة وتأثيرات ذلك على الاقتصاد، وكيف أن طبيعة التشريع في فقه المعاملات تجعل غالبية الأحكام في الاقتصاد الإسلامي تقع في منطقة الإباحة وأنها قابلة للاجتهاد والتغيير عبر الزمان والمكان وظروف كل عصر من العصور، بالإضافة إلى معرفة طبيعة الحكم الفقهي في الاقتصاد الإسلامي وطبيعة هدفه وتفاعله في تحقيق العدل وتأمين التقدم الاقتصادي، ونحاول من خلال هذا الفصل استعرض بعض تطبيقات الأمور الفنية الاقتصادية في الحضارة الإسلامية.

أولاً: طبيعة التشريع في فقه الاقتصادي الإسلامي:

يعمل فقه الاقتصاد الإسلامي على تطبيق القواعد والمبادئ الرامية إلى دفع وتوجيه الموارد الاقتصاد لتحقيق مقاصد الشريعة وهي حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال، ومقاصد الشريعة: هي الأهداف التي يرمي إليها الشارع الحكيم أو هي المقصود بالتكاليف الشرعية، فالله سبحانه وتعالى لم يخلق هذا الكون عبثا ولم يتركه سدى، بل خلق الإنسان لعبادته وحده لا شريك له، وسخر هذا الكون لأداء وتسهيل هذه المهمة العظيمة فقال تعالى: "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ" (الذاريات: الآية: 56) وقال : " وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ" (الجاثية: الآية: 13)، وهذا من مظاهر تكريم الله تعالى للإنسان، كما قال تعالى: " وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا " (الإسراء: الآية : 70).

ولقد شرع الله للإنسان هذه الشرائع التي تهدف إلى تحقيق مصلحته الدنيوية والأخروية وتسهل عليه القيام بأداء المهمة التي كلفه بها والتي من أجلها خلق. وفي ذلك يقول الإمام الشاطبي؛ إن وضع الشرائع إنما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل معاً، والمحافظة على الضروريات والحاجيات والتحسينيات.(<!--)

ويهدف الاقتصاد الإسلامي إلى تحقيق العدل وتأمين التقدم، وينقسم من يعارض الاقتصاد الإسلامي إلى فريقين:

الفريق الأول: وهو من يعارض الإسلام من غير المسلمين، وهؤلاء يصنفون على أنهم يعارضون الاقتصاد الإسلامي صراحة وضمناً.

الفريق الثاني: هو من يعارض الاقتصاد الإسلامي من المسلمين، وينقسم هذا الفريق إلى مجموعتين:

<!--المجموعة الأولى: ترى أن إسهام الإسلام في الاقتصاد إنما يتمثل في الجانب الأخلاقي فحسب.

<!--المجموعة الثانية: ترى أن الاقتصاد الإسلامي بأحكامه الثابتة كانت له صلاحيته التطبيقية في العصر الذي جاء فيه التشريع الإسلامي، وقد انقطعت هذه الصلاحية في العصر الحاضر.

وهذا الفريق بقسميه أعلن صراحة أن الاقتصاد الإسلامي لا يمكن أن يصبح نظاماً، هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن تطبيقه يؤدي إلى تخلف الحياة الاقتصادية والعودة بها إلى ما كانت عليه عندما جاء الإسلام (في القرن السابع الميلادي).

ونحاول أن نثبت أن تطبيق الاقتصاد الإسلامي يحقق العدل والتقدم ويجيء ذلك من طبيعة التشريع فيه، وعندما يثبت أن الاقتصاد الإسلامي يحقق التقدم الاقتصادي ويدعمه، فإنه يثبت معه عدم صدق القول إنه يؤدي إلى العودة بالحياة الاقتصادية إلى الماضي وبالتالي إلى تخلفها، وقبل أن نتعرف على العناصر المحددة لطبيعة التشريع في الفقه الاقتصادي الإسلامي نتعرف على النقاط التالية:

أولاً: أسباب الاهتمام بطبيعة التشريع في الفقه الاقتصادي:

يوجد العديد من الأسباب التي تدفع الباحث في الاقتصاد الإسلامي نحو الاهتمام بطبيعة التشريع في الفقه الاقتصادي من أهمها ما يلي:(<!--)

<!--أن فهم الاقتصاد الإسلامي وصحة تطبيقه هما وليدا الفهم الصحيح لطبيعة التشريع في فقه هذا الاقتصاد، وقد اتفق الفقهاء على أن فقه المعاملات له طبيعة خاصة مقارنة بفقه العبادات، حيث أن العبادات الأصل فيها التوقف على ما جاء به الشرع والتقيد بالصورة التي أمر بها لأن الغرض منها هو التعبد والتقرب إلى الله، أما المعاملات فإن الأصل فيها تحقيق مصالح العباد في المعاش والحياة ورفع الحرج عنهم بعيداً عن الباطل والحرام.

<!--أن فقه المعاملات كان واحداً من الموضوعات التقليدية التي حاول أعداء الإسلام أن ينتقدوه من خلال هذا الفقه، حيث أشاع المستشرقين جمود هذا الفقه وعدم قدرته على مواجهة التطورات التي تستجد في المجتمعات الإسلامية، وأنه سبب التوتر الجوهري الناشئ بين أحكام الفقه وما استقر عليه العرف في موضوعات المعاملات المدنية، وهذا ما تجب مواجهته من خلال الفهم الصحيح لطبيعة فقه المعاملات.

<!--أن موضوع فقه المعاملات ألا وهو الاقتصاد الإسلامي قد تعرض أيضا للهجوم على الإسلام بالقول بأن الإسلام ليس به نظام اقتصادي، أو القول بأن الإسلام ليس له نظام اقتصادي كامل ومتناسق يقود به الحياة الاقتصادية، وإنما يكون النظام الاقتصادي ثم يكون للإسلام رأي فيه، وهذا ما يتطلب الفهم الجيد لطبيعة التشريع في فقه الاقتصاد الإسلامي للرد على هؤلاء.

وهذا ما يشير إلى ضرورة التعرف على طبيعة التشريع في الفقه الاقتصادي لفهم الاقتصاد الإسلامي والرد على هذه الشبهات.

ثانياً: العناصر المحددة لطبيعة التشريع في الفقه الاقتصادي:

هناك العديد من العناصر المحددة لطبيعة التشريع في الفقه الاقتصادي من أهمها ما يلي: (<!--)

<!--أن الأصل في المعاملات العفو (الإباحة):

يقول الإمام ابن تيمية: إن تصرفات العباد من الأقوال والأفعال نوعان؛ عبادات يصلح بها دينهم، وعادات يحتاجون إليها في دنياهم.(<!--) وباستقراء أصول الشريعة نعلم أن العبادات التي أوجبها الله أو أحبها لا يثبت الأمر بها إلا بالشرع، أما العادات فهي ما اعتاده الناس في دنياهم مما يحتاجون إليه والأصل فيه عدم الحظر فلا يحظر منه إلا ما حظره الله سبحانه وتعالى، وذلك لأن الأمر والنهي هما شرع الله، والعبادة لابد أن يكون مأموراً بها، فما لم يثبت أنه مأمور به كيف يحكم عليه بأنه عبادة ؟!، ولهذا كان الإمام أحمد وغيره من فقهاء أهل الحديث يقولون: إن الأصل في العبادات التوقيف فلا يشرع منها إلا ما شرعه الله تعالى وإلا دخلنا في معنى قوله تعالى { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ } (الشورى: الآية:21)

أما العادات فإن الأصل فيها العفو (الاباحة) فلا يحظر منها إلا ما حرمه الله وإلا دخلنا في معنى قوله تعالى: { قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ ۖ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} (يونس: الآية: 59)، فما لم يثبت من العادات أنه منهي عنه كيف يحكم عليه أنه محظور؟! لذلك فالناس يتبايعون ويستأجرون كيفما يشاءون ما لم يرد نصاً في الشريعة يحرم عليهم بعض الأعمال أو يحد من تصرفاتهم، فيبقون على الإطلاق الأصلي إلا إذا ورد نص يقيد حرياتهم. والعادات مصطلح يشمل كل ما يتعلق بأمور الحياة الدنيا من اقتصاد وسياسة وغيرها، وبذلك فإن الأصل في أغلب أمور الاقتصاد أنها مباحة.

يستنتج من ذلك أن الاقتصاد قسمان: القسم الأول يكون على الإباحة الأصلية، والقسم الثاني فيه أحكام، يفيد رأي الإمام ابن تيمية أن أغلب أمور الاقتصاد تصنف في القسم الأول، أي أنها مباحة. وبذلك فإن الإسلام قد ترك أكثر أمور الاقتصاد للإنسان يديرها بعقله وبتجربته ويطورها بنفسه، ويتفاعل معها وفيها بحيث يختار منها الأصلح والأنفع للحياة الاقتصادية، كما ترك أكثر أمور الاقتصاد لتتطور مع تطور كل مجالات الحياة بحيث لا تنقطع عنها، وتتفاعل معها للاستفادة من التراكم الحضاري للإنسان. وهذا يعني أن الاقتصاد الإسلامي لا يمنع التطور والتقدم الاقتصادي.

كما أن الاقتصاد الإسلامي ومع اعتباره للفقه ضمن مصادره يعمل على تأمين التقدم الاقتصادي، فهو يربط التقدم الاقتصاد بالتطور العام للإنسان، في ضوء ضوابط وتوجيهات كلية تعمل على تحقيق العدل وإقامة الأمور الاقتصادية على آداب حسنة تعمل على تحقيق التنمية والسلم الاقتصادي والاجتماعي، ويعني ربط الإسلام لهذه المنطقة في الاقتصاد بالتطور العام للإنسان أن الإسلام يؤمن التطور الصحيح فيها ويدعمه.

 

<!--طبيعة منطقة الإباحة وتفاعلها مع التقدم:

يقع الحكم الفقهي الاقتصادي في منطقتين هما؛ منطقة الإباحة، ومنطقة الأحكام، وهذا ما يجعل الاقتصاد الإسلامي يحقق العدل ويعمل على تحقيق التقدم والتطور الاقتصادي، وهذا ما يتضح بالتعرف على طبيعة كل من منطقة الإباحة ومنطقة الأحكام، حيث تنقسم أمور الاقتصاد إلى ما يلي:(<!--)

<!--أمور الاقتصاد التي تتعلق بعلاقة الإنسان بأخيه الانسان: وتشمل العقود والمعاملات والمواريث التي تحقق العدل أو تمنع الظلم، والعقود التي فيها غرر غير مقبول شرعاً، والعقود التي فيها جهالة تفضي إلى ظلم، والنشاط الاقتصادي الذي ينتج سلعة ضارة بالإنسان، هذه أمثلة لأمور الاقتصاد التي تتعلق بعلاقة الإنسان بأخيه الإنسان، والتي يمكن القياس عليها والاسترشاد بها.

وتتميز هذه المنطقة بأنها جاءت فيها أحكام ثابتة، لأنها تعمل على تحقيق العدل وتأمين التقدم، ويعبر عنها الإمام الشاطبي بقوله: إنها لابد منها في قيام مصالح الدين والدنيا بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة بل على فساد وتهارج وفوت حياة، وفي الآخرة فوت النجاة والنعيم.(<!--)

<!--أمور الاقتصاد التي تتعلق بالجوانب الفنية للحياة الاقتصادية: وهي تشمل كل ما يتعلق بالفن الإنتاجي في الزراعة أو الصناعة أو غيرها، وكل ما يتعلق بوسائل الاتصالات في الاقتصاد من بيوع وغيرها، وكل ما يتعلق بأساليب الصياغة والتحليل في علم الاقتصاد، وكل ما يتعلق بالمؤسسات مثل الدواوين والوزارات والأشكال القانونية للشركة والمصارف، وهذه مجرد أمثلة للأمور الفنية في الاقتصاد والتي يمكن القياس عليها والاسترشاد بها.

ولمعرفة أثر هذا التقسيم الاقتصادي على موضوع التقدم الاقتصادي في ظل الاقتصاد الإسلامي، نبدأ بالتساؤل التالي: هل يقع التقدم الاقتصادي في منطقة الجوانب الفنية للحياة الاقتصادية أم يقع في منطقة العلاقة بين الإنسان وأخيه الانسان؟ الإجابة على هذا التساؤل تحدد العلاقة التي تقوم بين الاقتصاد الإسلامي والتقدم الاقتصادي، وهل أن الاقتصاد الإسلامي يعيق التقدم والتطور أم لا؟، والإجابة أنه لا شك أن التقدم والتطور يقع في الجوانب الفنية في الحياة الاقتصادية بما فيها من أساليب إنتاج ووسائل اتصالات ومواصلات، وبما فيها من مؤسسات، وبما فيها من أشكال ونماذج للصياغات في العلوم، وذلك هو موضع التطور، والتطور في هذه الجانب ملموس وواضح، بل إن التطور في هذا الجانب في تتابع واستمرار، والعالم المعاصر يشهد طفرة غير مسبوقة في تطور أساليب الإنتاج والاتصالات، ويشهد تطوراً واضحاً فيما يتعلق بالمؤسسات.

 وأمور الاقتصاد التي تقع في هذه المنطقة (الجوانب الفنية) تركها الإسلام للإباحة الأصلية، أي أنها ربطت بالتطور العام للإنسان، وما دام الأمر على هذا النحو فإنه لا يقبل القول: إن تطبيق الاقتصاد الإسلامي يعوق التقدم في هذا الجانب أو يؤدي إلى تخلفه، بل إن الصحيح أن يقال: إن الإسلام يحض المسلم ويدفعه ويحفزه للتطور في هذا الجانب، وذلك بأمره بتحقيق العمران الذي ألزمه الله به في قوله تعالى {هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا } (سورة هود: الآية 61)، ويترتب على ذلك أن المسلم مطالب بتحقيق التقدم في جميع المجالات ومنها الاقتصاد، والصحيح أن يقال أيضاً: إن الإسلام بجانب أنه يعمل على تحقيق التقدم فإنه يعمل في الوقت عينه على تأمين هذا التقدم وذلك بإعمال الآداب الإسلامية. وتأمين التقدم يشمل أنواعاً متعددة: تأمين التقدم بحيث لا يكون ضاراً بالإنسان، أو بالبيئة التي يعيش فيها الإنسان وهكذا.

 

يستنتج من ذلك أن الاقتصاد الإسلامي ومع اعتماده للشريعة مصدراً من مصادره يحقق التقدم الاقتصادي ويدعمه في أمور الاقتصاد التي تركت للإباحة الأصلية والتي تشمل؛ أساليب الإنتاج والاتصالات والمؤسسات والصياغات في العلوم وغير ذلك.

<!--طبيعة منطقة الأحكام وتحقيقها للعدل:

تبين مما سبق أن أمور الاقتصاد فيها منطقتان:(<!--)

 المنطقة الأولى: تشمل الجوانب الفنية، وقد استنتجنا في الفقرة السابقة أن الاقتصاد الإسلامي يؤمن التقدم الاقتصادي ويدعمه ويحفزه في هذا الجانب الفني للاقتصاد.

 المنطقة الثانية: أمور الاقتصاد تشمل علاقات الإنسان بأخيه الإنسان، وهذا الجانب هو الذي نناقشه في هذه الفقرة لنثبت به أن الاقتصاد الإسلامي بأحكامه الثابتة يحقق العدل، وسنحاول أن نتعرف على ذلك بالإجابة على أكثر من تساؤل:

<!--التساؤل الأول: ماذا يدخل في هذه المنطقة؟ هذا تساؤل عن العناصر التي تدخل في علاقة الإنسان بأخيه الإنسان، إن الإجابة على هذا التساؤل تحدد العلاقات التي تقوم بين الإنسان وأخيه في عقود المعاملات الاقتصادية والمالية، أو العلاقات التي تقوم بين الإنسان وأخيه الإنسان في السلوك المتعلق بأمور الاقتصاد، أو النتائج التي تقع على الآخرين عندما يمارس الشخص نشاطه الاقتصادي، وهذه عناصر تدخل في الإجابة على التساؤل الخاص بالجانب الاقتصادي المتعلق بعلاقة الإنسان بأخيه الإنسان، ونفضل أن نحدد العناصر التي تدخل في هذا الجانب (الإنساني) من مدخل آخر وهو مدخل القيم الأخلاقية التي تحكم علاقة الإنسان بأخيه الإنسان، هذا التفضيل في الإجابة على هذا التساؤل له أسبابه، فعندما يكون الأمر متعلقاً بعلاقة الإنسان بأخيه الإنسان فإننا لا نتحدث عن آلة وسرعتها وطاقتها الإنتاجية وهكذا وإنما نتحدث عن قيمة تحكم هذه العلاقة، أو قيمة تترتب على هذه العلاقة، أو قيمة تقوم بها هذه العلاقة، أو قيمة يوزن بها الإنسان بشأن هذه العلاقة، أو قيمة يتفاضل بها الناس بشأن هذه العلاقة. وهذه أسباب تجعلنا نفضل مدخل القيم لتحديد العناصر التي تدخل في الجانب الاقتصادي المتعلق بعلاقة الإنسان بأخيه الإنسان.

    وتحليل التشريعات الاقتصادية التي جاء بها الإسلام تحليلاً قيمياً يكشف عن أنها تحمل العديد من القيم مثل: العدل وتكافؤ الفرص والمشروعية، وهذه أمثلة أو نماذج لقيم تحملها أو تحققها التشريعات الاقتصادية الإسلامية.

<!--التساؤل الثاني: هل هذه القيم متطورة أو تخضع للتطور؟، والتساؤل عن القيم على وجه العموم التي تدخل فيها القيم المتعلقة بالاقتصاد والتي ذكرنا بعضاً منها، فعلماء الإسلام يقولون عن القيم إنها ثابتة وعامة ودائمة، ويترتب على ذلك أن القيم لا تتطور، ولا تخضع للتطور. ونأخذ قيمة العدل كمثال فلا يمكن القول: إن العدل كان قديماً قيمة وهو الآن ليس قيمة أو يقال: إن العدل كان قديماً هو القيمة والآن مع التطور فإن الظلم أصبح هو القيمة المعتبرة، هذا هو المعنى الذي نريده بالقول: إن القيم لا تخضع للتطور.

معنى ذلك أن القيم لا تخضع للتطور، وبالتالي فإن موضوع هذا الجزء من الاقتصاد والذي يختص بعلاقة الإنسان بأخيه الإنسان لا يخضع للتطور. وأن العدل الاقتصادي قيمة ولن يحدث مع التطور أن يكون الظلم الاقتصادي هو القيمة البديلة، فمنع الاستغلال الاقتصادي من إنسان لإنسان قيمة، ولن يحدث مع التطور أن يصبح الاستغلال الاقتصادي من إنسان لإنسان هو القيمة، وتأسيس العقود بين الناس على اليقين هو القيمة ولن يحدث مع التطور أن يصبح الغرر هو القيمة أو أن تصبح الجهالة هي القيمة. واكتساب الثروة بالحلال هو القيمة ولن يحدث مع التطور أن يصبح اكتساب الثروة بالحرام هو القيمة. وهذه أمثلة لقيم معتبرة في جزء الاقتصاد الذي يتعلق بعلاقة الإنسان بأخيه الإنسان.

وهذا يدل على أن منطقة الأحكام الاقتصادية المتعلقة بالقيم بعيده كل البعد عن أن تكون معوقه للنشاط الاقتصادي.

<!--التساؤل الثالث: إذا كان الأمر متعلقاً بعلاقة الإنسان بالإنسان فمن الذي يأخذ الحكم على الآخر؟ لم يعط الإسلام الحق لإنسان لأن يحكم على الآخر ويتحكم فيه وإنما الحكم لله وحده سبحانه، والأمر على هذا النحو فيه كل الخير للبشرية، فالوقائع التاريخية قديماً وحديثاً شاهدة على أن الإنسان عندما أخذ حق الحكم في أمر هو فيه طرف فإنه لم يستطع أن يتجرد عن الهوى، وأن ينزع نفسه من مصالحه وارتباطاته وتحالفاته، ولذلك يكون الخير أن يبعد الإنسان أن يكون حكماً وأن يقبل أن يكون الحكم فوق الجميع ويحقق حكمه العدل للجميع وهذا الحكم هو الذي جاء به الإسلام في تشريعاته الاقتصادية.

<!--التساؤل الرابع: ما طبيعة التشريع الاقتصادي الإسلامي لأمور الاقتصاد التي تختص بعلاقة الإنسان بأخيه الإنسان؟ التشريع الإسلامي فيما يتعلق بهذه الأمور الاقتصادية جاء بأحكام محددة ثابتة، ومن أمثلة هذه الأحكام: الربا حرام، الاحتكار حرام، الرشوة حرام، البيع حلال، الزكاة ركن من أركان الإسلام، الميراث فريضة، وتحديد أنصبة الورثة ثابت ولا يتغير.

<!--التساؤل الخامس: ما طبيعة الملائمة بين أمور الاقتصاد التي تختص بعلاقة الإنسان بأخيه الإنسان وطبيعة التشريع الاقتصادي المتعلق بهذه الأمور؟ الملائمة بين الاثنين كاملة وتامة، فهذه المنطقة في الاقتصاد ثابتة ولا تخضع للتطور والأحكام التشريعية العاملة عليها ثابتة ولا تخضع للتطور، فالأحكام التشريعية الإسلامية هي التي جعلت أمور الاقتصاد التي تختص بعلاقة الإنسان بأخيه الإنسان قيماً ثابتة، وهذا يحقق الخير للمجتمع الإنساني.

<!--التساؤل السادس: هل ثبات الأحكام التشريعية التي تعمل على أمور الاقتصاد التي تختص بعلاقة الإنسان بأخيه الإنسان يعطل التطور ويمنع التقدم الاقتصادي؟ هذه المنطقة في الاقتصاد ليست منطقة تطور وإنما منطقة قيم ثابتة ولذلك يكون ثبات الأحكام في هذه المنطقة لا يعطل التطور ولا يمنعه، بل إن ثبات الأحكام العاملة على هذه المنطقة يدعم التطور ويرشده ويحفزه، والقيم الاقتصادية التي أشرنا إليها مع قيم أخرى كثيرة تؤمن التقدم وترشده وتحفزه، ونستطيع أن نقول: إن الثبات في الأحكام أفاد التغير في الواقع، فعندنا أحكاماً ثابتة لا تتغير مع التطور كما أن عندنا واقعاً اقتصادياً مطلوب تغييره باستمرار إلى الأفضل.

يستنتج من ذلك؛ أن الأحكام الثابتة عملت بالإيجاب على تطور الواقع.


<!--[endif]-->

<!--))  أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد الشاطبي، الموافقات، ج 2، دار ابن القيم- دار بن عفان، د ط، 1424هـ/ 2003م، ص9.

<!--))   رفعت العوضي، فقه الاقتصاد الإسلامي وطبيعة التشريع فيه، حولية كلية الشريعة والدراسات الإسلامية، جامعة قطر، العدد الخامس، 1407ه/ 1987م، ص295- 296.

<!--))   المرجع السابق، ص297.

<!--))  تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبدالحليم (بن تيمية)، مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، تحقيق، عبدالرحمن بن محمد بن قاسم، الناشر: مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة المنورة، السعودية، ج 29، ص 16، 17.

<!--))   رفعت العوضي، فقه الاقتصاد الإسلامي وطبيعة التشريع فيه، مرجع سابق، ص295- 296.

<!--))  الشاطبي، الموافقات، ج 2، مرجع سابق، ص 18.

<!--))   رفعت العوضي، فقه الاقتصاد الإسلامي وطبيعة التشريع فيه، مرجع سابق، ص295- 296.

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 597 مشاهدة
نشرت فى 4 إبريل 2019 بواسطة dralaabasuony

    بقلم د.علاء بسيوني

يقصد بمصادر الاقتصاد الإسلامي مراجعه، وأصوله التي يستمد منها، ويستند إليها، ولما كان الاقتصاد الإسلامي جزءً من الشريعة فهو يستمد قواعده وأحكامه من مصادرها. وتنقسم مصادره إلى قسمين:

<!--مصادر أصلية: وهي المصادر التي اتفق العلماء على الاحتجاج بها، والرجوع إليها لمعرفة حكم من أحكام الشرعية، وهي: القرآن الكريم، والسنة النبوية، والإجماع، والقياس.

<!--مصادر تبعية: وهي التي اختلف العلماء في حجيتها، وجواز الرجوع إليها عند استنباط الأحكام الفقهية المتعلقة بالفروع الاقتصادية... ولكنها في الجملة ترجع إلى المصادر الأصلية، وهي: الاستحسان، والاستصحاب، والمصالح المرسلة، والعرف، وشرع من قبلنا، ومذهب الصحابي، وسد الذرائع... الخ.

هذا وسوف تركز الدراسة على المصادر الأصلية باعتبارها أهم مصادر البحث في الاقتصاد الإسلامي. وبذلك يمكن عرض مصادر البحث في الاقتصاد الإسلامي على النحو التالي:

<!--القرآن الكريم:

وهو المصدر الأول والرئيسي للقواعد والمبادئ الاقتصادية، فقد وضع القرآن الكريم قواعد عامة وثابتة في المجال الاقتصادي، تتسم بالثبات، والاستمرار، وتَرَك التفصيل فيها للسنة، أو الاجتهاد، كقوله سبحانه وتعالى: ﴿وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ (البقرة : الآية: 275) فهذه الآية نصت على إباحة البيع بشكل عام، وحرمت الربا كذلك، ولم تفصل في أنواع البيوع أو الربا. وقوله تعالى:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَا تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ﴾ (النساء: الآية: 29). فقد نصت الآية على حرمة أكل أموال الناس بدون وجه حق، وأجازت الحصول عليها عن طريق التجارة المشروعة المبنية على التراضي. وقوله تعالى:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ﴾ (المائدة: الآية:1) فقد أوجبت الوفاء بالعقود والعهود بشكل عام ولم تبين أنواعها، إنما تركت التفصيل للسنة والاجتهاد.

ويلاحظ أن القرآن الكريم وضع بعض القواعد التفصيلية لأحكام اقتصادية جزئية، لا يجوز الاجتهاد فيها، مثل آيات المواريث التي فصلت أنصبة الورثة تفصيلاً دقيقاً، ولم تترك ذلك لتفصيل المجتهدين، قال سبحانه وتعالى:﴿ يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ...﴾ ( النساء: الآية: 11)، وهذا يعني أن المشرع سبحانه وتعالى في القرآن الكريم قد وضع بعض الإحكام الجزئية التي لا يجوز تغييرها أو الاجتهاد فيها بصورة تفصيلية وهي التي تتعلق بالحقوق والمواريث، واكتفي بذكر الخطوط العريضة للتشريع في غالبية الأحكام المتعلقة بالاقتصاد، وهو ما يعطي مرونة في التشريع، ويفتح باب الاجتهاد في هذا المجال، وبالتالي عدم تقييد الأجيال القادمة بالقوانين والتشريعات التي قد لا تتناسب مع ظروف المكان والزمان.

<!--السنة النبوية:

وهي كل ما ثبت عن النبي ﷺ من قول أو فعل أو تقرير. وهي المصدر الثاني من مصادر الاقتصاد الإسلامي، قال تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾ (الحشر: الآية: 7) وقال تعالى: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا﴾ (النساء: الآية: 65)، والسنة إما أن تكون مؤكدة لما ورد في القرآن، أو مفصلة لما جاء فيه، أو تأتي بأحكام جديدة لم ينص عليها القرآن الكريم. وقد جاءت بكثير من العقود والمعاملات التي تتعلق بالمعاملات المالية، مثل: البيع، والرهن، والشركات، والإجارة، وجاءت بكثير من الأحكام التي نظمت فروع النشاط الاقتصادي: كالإنتاج، والتبادل، والاستهلاك .. الخ.

<!--الاجتهاد:

وهو من المصادر يلجأ إليها العلماء لأخذ الأحكام المتعلقة بالجوانب الاقتصادية والفقهية عند عدم النص عليها في القرآن أو السنة النبوية المطهرة. ولما كانت الأصول الاقتصادية العامة المستمدة من القرآن الكريم والسنة النبوية ثابتة، وغير قابلة للإلغاء فإنها كانت أساساً يُستند إليه في استخراج الأحكام الاجتهادية التي يتوصل إليها المجتهدون من العلماء المسلمين تطبيقاً لتلك المبادئ والأصول.

<!--الكتب الإسلامية (كتب التراث):

   تعالج الكتب الإسلامية بموضوعاتها المختلفة الكثير من القضايا الاقتصادية سواء كانت متعلقة بالفقه الاقتصادي أو بالأفكار الاقتصادية، وذلك إما بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، ويمكن تصنيف كتب الفقه الإسلامي إلى:

<!--كتب الفقه العامة:

وهي التي تبحث في جميع أبواب الفقه التي يمكن الإفادة منها بمسائل أو قضايا الفقه الاقتصادي بخاصة، والأفكار الاقتصادية بعامة. وتجب الإشارة إلى أن الموضوعات الداخلة في فقه الاقتصاد الإسلامي قد تكون أيضا موضوعات في فقه علم آخر من العلوم الإسلامية، مثل القضاء أو السياسة، كما أن اعتبار موضوع ما من فقه الاقتصاد الإسلامي لا يستلزم عدم اعتباره من فقه علم آخر من العلوم الإسلام، بل إن اعتبار موضوع ما من فقه فرع محدد في الاقتصاد الإسلامي لا يمنع أن يكون فقها لفرع آخر من فروع هذا الاقتصاد، كما أن إبعاد أي موضوع في الفقه من أن يكون فقها للاقتصاد الإسلامي عملية قد تبدو في ظاهرها عملية تعسفية أو غير صحيحة، فكل موضوع في الفقه يمكن أن يكون فيه عناصر تعمل في الاقتصاد الإسلامي، فإذا أخذنا مثلا موضوع الوضوء فإنه قد يبدوا ليس له علاقة بالاقتصاد الإسلامي، ولكن عندما ندرس ترشيد الإسلام للاستهلاك نجد فيه بعض القواعد التي تدخل في ترشيد الاستهلاك، فقد ورد أن النَّبِيَّ ﷺ مَرَّ بِسَعْدٍ وَهُوَ يَتَوَضَّأُ، فَقَالَ: مَا هَذَا السَّرَفُ يَا سَعْدُ؟ قَالَ: أَفِي الْوُضُوءِ سَرَفٌ، قَالَ: نَعَمْ، وَإِنْ كُنْتَ عَلَى نَهْرٍ جَارٍ.(<!--) وفي هذا نهى عن الإسراف وأمر بترشيد الاستهلاك في الماء حتى لو كان المسلم يتوضأ على شاطئ نهر.

وإذا نظرنا إلى المؤلفات الفقهية المختلفة فإننا نجد الكثير من الموضوعات الاقتصادية التي تندرج تحت أبواب العبادات؛ كالزكاة، والصيام (الفدية، صدقة الفطر)، والحج (الفدية، الهدي)، والنذور، والأضحية، والكفارات، والنفقات... الخ أو المعاوضات، والمعاملات: كالبيوع، والربا، والصرف، والسلم، والإجازة، والهبة، والرهن، والوكالة، والكفالة، والوديعة، والقرض، والشركات بأنواعها. أو الملكية ومصادرها: مثل: إحياء الأرض الموات، والوقف، والميراث، والوصايا، والغصب، والعشور، والخراج، والجزية...الخ.

<!--كتب الفقه المتخصصة:

وهي ذلك النوع من الكتب الذي خصص لبحث موضوع واحد من موضوعات الفقه، مثل: كتاب الخراج لأبي يوسف، والأموال لأبي عبيد، وأحكام السوق للفقيه يحي بن عمر، والحسبة لشيخ الإسلام بن تيمية ... الخ. وتجب الإشارة إلى أن هذا النوع من الكتب لا يمكن حصره، حيث أنها كثيرة والفكر الإسلامي ثري ثراءً واسعاً في هذا النوع من المعرفة الفقهية.

أما كتب علوم القرآن والتفسير، وأحكام القرآن، وعلوم الحديث وشروحه، وأصول الفقه والتوحيد، والرقائق، والتزكية، والزهد... فيستفاد منها أيضاً في استنباط الأفكار الاقتصادية، أو تأصيلها. وهناك كتب مختصة في الفقه المالي والاقتصادي، ودور الدولة، وتدخلها في الاقتصاد، ويمكن أن نشير إلى بعضها باختصار: كتاب (الاكتساب في الرزق المستطاب) لمحمد بن الحسن الشيباني، و(الأحكام السلطانية والولايات الدينية) للماوردي، و(أحكام السوق) ليحيى بن عمر، و(التيسير في أحكام التسعير) للمجيلدي و(الخراج) لأبي يوسف، و(الطرق الحكمية) لابن قيم الجوزية، و(الحسبة) لابن تيمية... الخ.

وهناك كتب أخرى كالكتب الفلسفية مثل: كتابات الفارابي، وابن سينا، والغزالي، والتاريخية التي عالجت بعض الأحداث التاريخية التي أكدت أهمية العامل الاقتصادي، مثل: كتابات المقريزي، وابن خلدون، والتي نفيد منها أيضاً بما يسمى بالتاريخ الاقتصادي. أو تاريخ الأفكار الاقتصادية. والتراجم والسير التي يمكن استنباط بعض الأفكار الاقتصادية منها لبعض الأعلام.

        وتجدر الإشارة إلى ما يلي:

<!--أن ظهور كتب متخصصة ومستقلة في الفقه المالي والاقتصادي جاء مع بدايات التدوين في الفقه بصفة عامة؛ وهذا يعني أن الفقه المالي والاقتصادي كان واحداً من الموضوعات التي أولاها المسلمون الأوائل أهمية بالغة ترتفع إلى أهمية الموضوع نفسه، كما أن هذه الكتابات وهي تعكس طبيعة التشريع الإسلامي، قد واكبها واقع تطبيقي تطلب هذا النوع من الكتابة، وهذا يقدم دليلاً على أن الواقع الإسلامي في هذا التاريخ حكم بالاقتصاد الإسلامي، وهو ما يقدم دليلاً على وجود النظام الاقتصادي الإسلامي.

<!--أن بعض الكتب الفقهية المتخصصة كتبت بطلب من ولي الأمر في الدولة الإسلامية؛ مثل كتاب الخراج للقاضي أبي يوسف الذي كتب بناء على طلب من الخليفة العباسي هارون الرشيد، أو كتبها بعضا ممن تولى مسئوليات تشابه الوزارة مثل كتاب الأحكام السلطانية للماوردي، وهذا يعني أن هذه الكتب لم تكن تنظيراً للفقه المالي والاقتصادي فحسب بل كانت تمثل سياسات وبرامج مالية اقتصادية للدولة الإسلامية.

<!--أنه إذا كان التدوين في الفقه المالي والاقتصادي قد بدأ مع التدوين في الفقه العام فإنه قد تطور وازدهر معه أيضاً.

<!--أنه حتى في الفترات التي يقال إن الاجتهاد في الفقه قد توقف فيها فإن التدوين في كتب الفقه المالي والاقتصادي قد استمر؛ بدليل ظهور بعض الكتب في هذا الفرع مثل كتاب التيسير في أحكام التسعير لمؤلفه أحمد سعيد المجليدي.

<!--أن الكتابة في الفقه المالي والاقتصادي قد اتسعت أفقياً بحيث أنها تغطي كل فروع الاقتصاد المعروفة، ورأسياً حيث أن بعضها تخصص تخصصاً دقيقاً.

<!--أن الكتب المتخصصة في الفقه المالي والاقتصادي قد ظهرت في جميع المذاهب الفقهية المعروفة، وجميع الأقطار الإسلامية مما يعكس أهميتها.

<!--الخبرات الإنسانية النافعة التي تتفق مع الشريعة الإسلامية:

     يمكن الاستفادة من الخبرات والأفكار التي قدمها المفكرون في مذاهبهم الاقتصادية والاجتماعية المختلفة، وتوظيفها في خدمة الاقتصاد الإسلامي، بشرط ألا تتعارض هذه الأفكار والخبرات مع الشريعة الإسلامية ويمكن الاستناد لمشروعية الاستفادة من تلك الخبرات فالْكَلِمَةُ الْحِكْمَةُ ضَالَّةُ الْمُؤْمِنِ فَحَيْثُ وَجَدَهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا.

<!--[if !supportFootnotes]-->

 


<!--[endif]-->

<!--))  محمد ناصر الدين الألباني، سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها، مرجع سابق، ج 7، ص860.

 

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 1595 مشاهدة
نشرت فى 4 إبريل 2019 بواسطة dralaabasuony

    بقلم د.علاء بسيوني

يقوم الاقتصاد الإسلامي على مجموعة من الأسس العقائدية والتشريعية والأخلاقية والتي يمكن التعرف عليها على النحو التالي:

أولاً: الأسس العقائدية:

     العامل الاعتقادي هو الذي يؤثر في نفسية الفرد وسلوكه الاقتصادي، والاقتصاد الإسلامي ليس مجرد أحكام شرعية تُوَلِدْ مجموعة من المواقف تجاه المشكلات الاقتصادية المعاصرة؛ وإنما هو جزء من نظرية إسلامية متكاملة تنبثق من تصور اعتقادي يحدد المعالم والأهداف، ومن خلال ذلك التصور تتولد النظرية في المجالات التطبيقية العملية كنظام سواء في مجال التنظيم الاقتصادي أو السياسي أو الاجتماعي، وقد يجانبنا الصواب لو حاولنا اكتشاف النظرية الاقتصادية في الإسلام بعيداً عن العقيدة وامتدادها التكاملي والشمولي نحو الإنسان والمجتمع، ويعد الإسلام أكثر العقائد تأثيراً في ذات الإنسان لأنه يمثل العقيدة التي تجمع بين الجانب المادي والروحي والعقلي والوجداني، والجانب الاقتصادي يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالسلوك الفردي، لهذا فإنه من الضروري الربط بين هذا السلوك وبين النظرية الاقتصادية، خاصة أن العامل النفسي يقوم بدور فعال في الإنتاج والاستهلاك والإنفاق، وهذا ما يبرز دور العقيدة على السلوك الاقتصادي، ويقوم الجانب العقائدي في الاقتصاد الإسلامي على الأسس التالية:

<!--أن الإنسان بوجه عام مستخلف من الله عز وجل في هذه الأرض لعمارتها واستثمار خيراتها: بناء على تكليف الله له والسلطة التي أعطاه إياها، وإعطائه القدرة على تسخير مواردها واستثمار خيراتها قال تعالى: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً) (البقرة: الآية: 30). وجوهر الاستخلاف هو تفويض الله تعالى للإنسان بخلافته على الأرض وإطلاق يده في هذا الوجود تنعُّماً واستهلاكاً لكفاية ذاته وإحرازاً لوجوده، كما يتضح من آيات كثيرة الجامع فيها تقرير هذا التفويض، لذا فيد الإنسان مبسوطة على العالم وما فيه بما جعل الله له من سلطة الاستخلاف، كما يقرر ابن خلدون في مقدمته. وبناء على هذا الاستخلاف والتفويض تم تكليف للإنسان بعمارة الأرض بقوله تعالى: (هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) (هود: الآية: 61) (وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ ءَامَنُوا مِنْكُـمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ) (الحديد: الآية: 7)؛ فهي إذاً خلافة تلزم الإنسان بإدارة الموارد وعمارة الأرض على نحو ما يحدده المنهج الإلهي من خلال: المذهب الاقتصادي الإسلامي، الذي يحدد علاقة الإنسان بالثروة وعلاقة الإنسان بأخيه الإنسان في إطار العلاقة الإستخلافية المقدسة: علاقة الإنسان برب الوجود تبارك وتعالى.

وتعد فكرة الخلافة الإنسانية التي قررها القرآن الكريم من أهم الأفكار التي تقوم عليها النظرية الإسلامية في الاقتصاد وتمثل المنطق الذي يحدد العلاقة بين الإنسان وما سخره الله تعالى له من أموال وملكيات وسلطات، قال تعالى (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ) (الأنعام: الآية: 165).

<!--أن تسخير الله تعالى الأرض والكون للإنسان واستخلافه فيها يقتضيان انتفاع الإنسان بما خلق الله في الكون واستثماره لما في الأرض من خيرات وثمرات، وذلك بما وهبه من الحواس والعقل وسائر الصفات الجسمية والعقلية التي تجعله أهلاً لذلك على تفاوت بين أفراد البشر، ولذلك أطلق الله عز وجل على هذه المنافع لفظ طيبات (وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ) (الإسراء: الآية:70) وجعل الغاية من الخلق هي كفاية الإنسان قال تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (البقرة: الآية: 29)، وسخرها على نحو يمكن استفادة الإنسان منها فقال (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ) (البقرة: الآية: 22)، (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلا) (طه: الآية: 53)، (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ) ( لقمان: الآية: 20)، (وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ) (الجاثية: الآية: 12)، (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) (الملك: الآية 15)، والأنعام ذللت للإنسان ليفيد منها ركوباً وطعماً: (وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ) (يس: الآية:72)، بل وحمولة وفرشاً وعوامل في الحرث والسقي وزينة. (وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ) (الأعراف: الآية:10)، كل ذلك في سياق إعداد المستقر والمتاع اللازم للإنسان وفي هذا قال تعالى: (وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ) (البقرة: الآية 36).

<!--أن السعي في طلب الرزق والانتفاع بما خلق الله في الأرض والكون والنشاط الاقتصادي عملاً وإنتاجاً أو استثماراً أو استهلاكاً ليس غاية في ذاته في النظرية الإسلامية، بل هو وسيلة ضرورية تقضيها طبيعة الإنسان أو فطرته التي فطره الله عليها.

<!--أن استخلاف الله تعالى للإنسان في الأرض عام في البشر لا يختص به فريق دون غيره فالناس كلهم عباد الله؛ وتسخير الأرض وسائر الكون لهم جميعا كذلك دون تخصيص؛ ولكل فرد الحق في أن يقوم بأمانه الاستخلاف ويستفيد من تسخير الكون لمنافعه بقدر استطاعته وحسب قدرته ويحسن أداء هذه الأمانة فيقوم بحقوقها ويؤديها ولا يخون الأمانة.

<!--أن ما يقتنيه الإنسان نتيجة لكسبه من مال لا يعطى صاحبه امتيازاً خاصاً كما لا يلحق به فقدان المال أو الفقر غضاضة: فلا ينقص الفقر شيئاً من حقوقه الإنسانية والاجتماعية، حيث أنها ليست للأغنياء فقط، فليس للأغنياء أي امتياز أو حق زائد على غيرهم باعتبار أنهم أغنياء، ولا ينقص الفقر صاحبه حقاً من حقوقه، فالمال مال الله والبشر مستخلفون فيه
قال تعالى (وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ) (النور: الآية: 33).

<!--يتحمل كل إنسان نتيجة عمله ونشاطه وهو المسئول عنه مسئولية دنيوية بالنسبة لغيره من الناس؛ ومسئولية أخروية أمام الله عز وجل، قال تعالى (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) (المدثر: الآية: 38) فالشريعة قد حددت معالم المسئولية الدنيوية من بيان الحقوق والواجبات في المعاملات وغيرها وكذا بينت الحدود والعقوبات؛ ولكن المسلم يستشعر دائما مع المسئولية الدنيوية المسئولية الأخروية؛ وأنه سيقف أمام الله عز وجل فيحاسبه على الصغير والكبير والنقير والقطمير فيستشعر في ضميره رقابة الله عز وجل.

ثانياً: الأسس التشريعية:

لم يقتصر الإسلام على النصائح الأخلاقية في المجال الاقتصادي؛ بل دعم ذلك وأكمله وأيده بقواعد تشريعيه تنظم العلاقات المالية وتحدد الحقوق وتفرض الواجبات؛ كما أنه تميز عن الأنظمة الاقتصادية الوضعية بعدم الاقتصار على الإلزام الخارجي؛ وقد دعم قواعده الإلزامية بأسس ودوافع عقائدية ونفسية تولد في الإنسان حوافز داخلية لتنفيذ هذه القواعد وتوقظ فيه الضمير والشعور بالمسئولية بالنسبة لواجباته المالية.

وتختلف المصادر التشريعية للنظرية الإسلامية في الاقتصاد عن مصادر النظريات الاقتصادية المعاصرة مما يعطى للنظرية الإسلامية تميزا خاصاً من حيث المصادر الأساسية والمصادر التفسيرية، وهي التميز بالثبات والاستمرار والعموم فضلاً عن الأهداف الإنسانية للنظرية، وتنبع القواعد التشريعية للنظرية الاقتصادية الإسلامية من ثلاثة مصادر هي:

<!--القرآن الكريم:

وهو المصدر الرئيسي للقواعد الأساسية للنظرية في الإسلام، فهو المصدر الإلهي الذي يتسم بالثبات والاستمرار، وتعتمد النظرية الإسلامية في جوانبها المختلفة على التوجيه القرآني سواء في المجال الاعتقادي أو الأخلاقي أو التشريعي، فقد جاءت شاملة لكل ما يتعلق بحياة المسلم موجهة له الوجهة السليمة التي تسمو به عن مجرد النظرة المادية التي قد لا تشبع كل تطلعاته الوجدانية؛ محققه التوازن بين الجوانب المختلفة للحياة لكي تعبر عن المنهج الإنساني السليم للحياة البشرية. ولا شك أن من أهم أهداف التوجيه القرآني رفع الحرج عن الناس والتدرج بهم في التشريع مبتدئاً بالتوجيه الأخلاقي والعقلي مركزاً على الجانب الإيماني المتصل بالعقيدة الإسلامية ومنتهياً بإقرار المبادئ التشريعية التي يحتاج لها المجتمع الإسلامي ومن أثر هذا التدرج ربط الأحكام بمصالح الناس المتجددة والسائرة التطور التاريخي للمجتمع الإسلامي.

ويلاحظ في نهج القرآن الكريم أنه قد تناول الأحكام على وجه الإجمال والعموم تاركاً تفصيل الجزئيات للسنة أو الاجتهاد لكي يعطى في مجال التطبيق العملي مرونة وسعة ولم يتعرض القرآن الكريم للجزئيات إلا في بعض المواطن التي لا تخضع بحكم طبيعتها للتغير الزمني أو المكاني كالعبادات وأحكام المواريث ومن القواعد الإسلامية الهامة التي نص عليها القرآن الكريم قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ) (المائدة: الآية: 1) وقوله عز وجل (وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) (البقرة: الآية: 275) إلى غير ذلك من قواعد ومبادئ اقتصادية مهمة وردت في المصدر الإلهي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

<!--السنة النبوية الشريفة:

وهي المصدر البياني والتفسيري للمصدر القرآني قال تعالى (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) ( النحل: الآية: 44) فالسنة هي المصدر الثاني للتشريع بعد القرآن الكريم، والمرجع الثاني لعلوم الدنيا والدين؛ وفي السنة الكثير من الأحاديث المتعلقة بتنظيم العلاقات المالية كالبيع والتملك والإجارة والشركة والرهن وغيرها؛ كقوله ﷺ (البيِّعانِ بالخيارِ ما لم يتفرَّقا، فإنْ صدقا وبيَّنا بُورِك لهما في بيعِهما، وإن كَذبا وكَتما مُحِقت بركةُ بيعِهما)(<!--) وقوله (لَا تَلَقَّوُا الرُّكْبَانَ وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَلَا تَنَاجَشُوا، وَلَا يَبِعْ حَاضِرٌ لِبَادٍ، وَلَا تُصَرُّوا الْغَنَمَ، وَمَنِ ابْتَاعَهَا فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ بَعْدَ أَنْ يَحْتَلِبَهَا، إِنْ رَضِيَهَا أَمْسَكَهَا، وَإِنْ سَخِطَهَا رَدَّهَا وَصَاعًا مِنْ تَمْرٍ)(<!--) إلى غير ذلك من أحاديث شريفة وردت بكتب السنة ومتفق عليها.

<!--الاجـتـهاد:

      والاجتهاد ضرورة فرضتها كثرة المشكلات المستحدثة التي استجدت مع التطورات السياسية والاجتماعية بعد أتساع حركة الفتوحات الإسلامية، حيث ظهرت الحاجة الماسة إلى الاجتهاد خاصة بعد وفاة الرسول ﷺ لانقطاع الوحي الذي كان يمثل المصدر المتجدد للأحكام، ووجد الصاحبة أنفسهم أمام مشكلات مستحدثة فكان لابد من الاعتماد على الاجتهاد سواء في شكل إجماع صادر من الصحابة أو اجتهاد يمثل رأى فريق من الصحابة، والاجتهاد في المجال الاقتصادي والمالي حظي بكثير من الأهمية من علماء تخصصوا في الفقه الإسلامي.

ويجب ألا نغفل عن مسئولية الدولة في رسم السياسة الاقتصادية الملائمة لصالح المجتمع والمعبرة عن المقاصد الشرعية والحفاظ على المبادئ والقيم الأخلاقية، ومن هنا أقر التشريع الإسلامي مسئولية الدولة عن منع الاحتكار والاستغلال والظلم والتعامل بالربا والاتجار بالمواد المحرمة.

ثالثاً: الأسس الأخلاقية:

وهى تمثل الضلع الثالث للنظرية الإسلامية في الاقتصاد، حيث أنها تعد بمثابة بوتقة يصب فيها الاقتصاد الإسلامي فتضفي هذه الأسس سهولة ويسرا في تطبيق النظرية الإسلامية في الاقتصاد، فالنظرية الإسلامية في الاقتصاد لا تنفصل عن الجانب الأخلاقي سواء من حيث الوسائل والنظريات، أو من حيث المقاصد والأهداف، ولهذا فإن تدعيم المبادئ الأخلاقية يعد من أهم المقاصد الشرعية المعترف بها ويختلف التشريع الإسلامي عن التشريعات الوضعية في أنه لا يفصل بين القاعدة الأخلاقية والقاعدة التشريعية، وإذا ما تأملنا بعض نصوص القرآن الكريم والسنة المطهرة فمن الممكن الوصول إلى بعض القيم الأخلاقية ومنها ما يلي:

<!--التزام الصدق والأمانة وحظر الغش: فالمسلم بطبيعته يقوم في تعامله على الوضوح والصدق فهذه القيم تنبع من عقيدته فهو دائماً صادق في تعاملاته كلها مع ربه ونفسه وأسرته ومجتمعه وقد حثت الشريعة الإسلامية على الصدق والأمانة في المعاملة قال تعالى (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) (النساء: الآية: 58) وقوله عز وجل (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ) (البقرة: الآية: 283) ويقول ﷺ (مَن غشَّنا فليس منَّا والمكرُ والخداعُ في النَّارِ)(<!--)،(التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الأَمِينُ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ)(<!--).

<!-- حسن المطالبة: من أعظم ما تبرز فيه القيم الأخلاقية في الاقتصاد الإسلامي هو حسن المطالبة بالدين فالدين هم بالليل ومذلة بالنهار؛ ولم يلجأ إليه الإنسان إلا نتيجة ظروف قاسية تهدد حياته وأسرته وقد أمر الإسلام الدائن بأن يحسن في طلب الدين حتى لا يزيد الهم على المدين وان يتفهم ظروفه ويقيل عسرته؛ كما قال تعالى (وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)( البقرة: الآية 280) ليرسم إطار التقاضي بين الدائن والمدين فلا تنقطع أواصر المحبة بينهم. وحتى لا ترتبك المعاملات بسبب مطل المدينين؛ وصيانة للحقوق عرف الفقه الإسلامي نظام الحجر على المفلس عندما يصير المدين عاجزاً عن الوفاء بديونه ويتوقف عن الدفع.

<!--الوفاء: يأمر الإسلام بالتزام الوفاء لمن يباشر النشاط الاقتصادي فيحض القرآن الكريم على حسن الكيل والميزان؛ وما كان اهتمام القرآن بمثل هذا الأمر إلا دليلاً على خطورته على العلاقات الإنسانية والروابط الاقتصادية وحرصاً على أن يقوم النشاط الاقتصادي على أسس سليمة تدعم المجتمع قال تعالى (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً((الإسراء: الآية 35) وقوله تعالى (وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ((المطففين: الآية 1) ففي هذه الآيات نهى شديد ووعيد بالعذاب لمن يطفف في الميزان.


<!--[if !supportFootnotes]-->

 


<!--[endif]-->

<!--))  محمد بن إسماعيل البخاري، الجامع الصحيح المسند من حديث رسول الله وسننه وأيامه (صحيح البخاري)، تحقيق: محب الدين الخطيب، المكتبة السلفية، القاهرة، ط 1، 1400هـ، رقم الحديث: 2110.

<!--))  المرجع السابق، رقم الحديث: 2150.

<!--)) محمد بن حبان البستي، صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان، مرجع سابق، برقم: 5559.

<!--))  محمد بن عيسى بن سورة الترمذي، الجامع الصحيح (سنن الترمذي)، تحقيق: أحمد بن محمد شاكر، دار الكتب العلمية، د ط، د ت، رقم الحديث: 1209.

 

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 648 مشاهدة
نشرت فى 4 إبريل 2019 بواسطة dralaabasuony

هناك مجموعة من القواعد التي يتميز بها الاقتصاد الإسلامي من أهمها:

<!--المشاركة في تحمل المخاطر:

وهي قاعدة أساسية في الاقتصاد الإسلامي وعماد من أعمدته، وتعد من الصفات المميزة له عن غيره من النظم الاقتصادية، فالمشاركة في تحمل المخاطر هي أساس الاستحقاق في الربح والخسارة في الاقتصاد الإسلامي، وهي قاعدة توزيع الدخل المتولد من العملية الإنتاجية على عناصر الإنتاج التي ساهمت في تحقيقه خاصة عنصر رأس المال والعمل، وهي الأساس الذي يحقق العدالة في التوزيع، ويترتب على هذه القاعدة:

<!--عدم جواز الاستحقاق في الحصول على جزء من الأرباح إلا إذا تحمل جزء من الخسائر في حالة فشل المشروع، وبالتالي فلا يستحق صاحب رأس المال الحصول على معدل فائدة على أمواله إذا لم يتحمل جزءً من المخاطر المترتبة على احتمال نجاح أو فشل المشروع، بعكس النظم الاقتصادية الأخرى التي تجيز لصاحب رأس المال الحصول على معدل فائدة على أمواله بغض النظر على نجاح أو فشل المشروع.

<!--توزيع المخاطر على كل المشاركين في المشروع، مما يخفض التكاليف الاستثمارية، وهذا ما يحفز المنظمين (رجال الأعمال) على الدخول في مشروعات جديدة تعمل على زيادة الطاقة الإنتاجية والناتج القومي، وتوفير السلع والخدمات التي يحتاجها المجتمع، حيث يعد معدل الفائدة عبئاً إضافياً على القائمين بالمشروع، ويمثل إزاحة هذا العبء ميزة تصب في زيادة الكفاءة والجدوى الاقتصادية للمشروعات.

<!--أن إعمال قاعدة المشاركة في تحمل الربح والخسائر وعدم الإقرار بجواز الاستحقاق في معدل الفائدة يعمل على خفض تكلفة السلع المنتجة، حيث يعد معدل الفائدة تكلفة إضافية يعمل المنظمون وأصحاب المشروعات على إضافتها إلى سعر السلعة، مما يرفع من نسبة التضخم، وبذلك فإن إعمال هذه القاعدة يخفض من تكاليف الإنتاج ويقلل من نسبة التضخم.  

<!--استقلال الموارد الاقتصادية للدولة وعدم مشروعية فرض ضرائب إلا في حالات استثنائية وبصفة مؤقته:

يحدد نمط الملكية في الاقتصاد الإسلامي مسئولية ولى الأمر أو الحكومة ومواردها وأهدافها الاقتصادية، ويحد من تدخلها وسيطرتها على الموارد الاقتصادية الأخرى، مما يعد تحجيماً لدور الحكومة في النشاط الاقتصادي. ومن ثم فإن دور الدولة في الاقتصاد الإسلامي لا يخضع للظروف والملابسات ولا للأهواء والتوجهات، ويتغير هذا الدور تلقائياً من حين لآخر تبعاً لأوضاع المجتمع خاصة من حيث الحجم والقوة، حيث أن مهمة الدولة في الإسلام تتجسد في أمر واحد هو رعاية المجتمع.(<!--) ويتميز النظام الاقتصادي الإسلامي عن غيره من النظم الاقتصادية في التفرقة بين الملكية العامة وملكية الدولة وتخصيص بعض الموارد الاقتصادية للدولة تستخدم ايراداتها في تغطية النفقات العامة للدولة مثل؛ (الخراج، خمس الغنائم والركاز، والفيء، والزكاة، والجزية، وعشور التجارة) بالإضافة إلى بعض الموارد الأخرى، التي تستخدم حصيلتها في تغطية النفقات العامة للدولة.

ومن ثم فإن النظام الاقتصادي الإسلامي يعمل على الحد من دور الدولة في النشاط الاقتصادي من جهة مما يعمل على خفض الالتزامات والنفقات العامة، وتوفير موارد لإيرادات الدولة من جهة أخرى بعيداً عن فرض الضرائب على الرعية إلا في حالات استثنائية (ضريبة التوظيف) التي تفرض على الأغنياء لمواجهة حالات مؤقته كالحروب، والمجاعات، وعجز الموارد الاقتصادية للدولة عن تلبية نفقاتها وتوفير حد الكفاية المعيشية لجميع أفراد المجتمع مما يضر بالرعية. وما دون ذلك فإن فرض الضرائب (المكوس) على الرعية من الأمور المنهي عنها في الشريعة الإسلامية، لما ورد عن النبي ﷺ قوله (لا يدخلُ الجنَّةَ صاحبُ مَكْسٍ)(<!--) وقال (إنَّ صاحبَ الْمَكسِ في النَّارِ)(<!--)

<!--أن وجود كل نوع من أنواع الملكية في الاقتصاد الإسلامي هدف ومقصود في حد ذاته، ولا يجوز لأحد الاعتداء على أي منها أو إلغاؤها:

تقسم الملكية في الاقتصاد الإسلامي إلى خمسة أنواع في إطار العلاقة الإستخلافية بين المالك الأصلي لكل الموجودات والكائنات وهو الله تعالى والإنسان الذي جعله خليفة على أرضه تكليفاً وتشريفاً، وهذه الأنواع هي:

<!--ملكية الإستخلاف: والتي تكون في سائر الموارد الاقتصادية غير المستغلة والتي تكون مملوكة لعموم المجتمع ملكية استخلاف ويستطيع أي فرد من أفراد المجتمع الاستفادة منها أو الاستئثار بها بشرط أن يأخذها بحقها ويحولها من مورد غير مستغل وإدخالها في إطار الموارد المستغلة.

<!--الملكية الخاصة: وهي ما تكون لفرد أو لمجوعة من الأفراد الطبيعيين أو الاعتباريين، حيث يؤمن النظام الاقتصادي الإسلامي بالملكية الخاصة ويحميها، فمن حق الأفراد تملك الأرضي والعقارات ووسائل الإنتاج المختلفة مهما كان نوعها وحجمها. بشرط ألا يؤدي هذا التملك إلى الإضرار بالمصلحة العامة، وألا يكون في الأمر احتكاراً لسلعة يحتاجها الناس. وهو بذلك يخالف النظام الاشتراكي الذي يحجم من الملكية الخاصة ويضع ثقف معين لها، ومراحلها المتطورة من الشيوعية التي كانت تعتبر أن كل شيء مملوك للشعب على المشاع، مع الأخذ في الاعتبار أن فكرة الشيوعية لم ولن تتحقق بشكل عملي، بل هي مجرد حلم كان يراود أنصار المذهب الاشتراكي.

<!--الملكية العامة: هي الملكية التي يكون صاحبها مجموع الأمة أو الجماعة منها، دون النظر لأشخاص أفرادها على التعين، بحيث يكون الانتفاع بالأموال التي تتعلق بها لهم جميعاً، دون اختصاص أحد بها، فهي أموال محجوزة عن التداول،(<!--) حيث تظل المرافق المهمة لحياة الناس في ملكية الدولة أو تحت إشرافها وسيطرتها من أجل توفير الحاجات الأساسية لحياة الناس ومصالح المجتمع، ودليل ذلك ما روى عن النبي ﷺ قوله (النَّاسُ شرَكاءُ في ثلاثٍ: في الكلَأِ والماءِ والنَّارِ)(<!--). وهو يخالف في ذلك النظام الرأسمالي الذي يحجم من الملكية الخاصة ويبيح للأفراد تملك كل شيء وأي شيء.

<!--ملكية الدولة: هي الملكية التي تكون للدولة، ومواردها لبيت مال المسلمين، يتصرف فيها ولي أمر المسلمين بموجب ما تقتضيه المصلحة العامة، ويجـوز للإمـام التصرف فيها بالإنفاق والبيع والإجارة وغيرهـا كالأموال الخاصة في يد أصحابـها.(<!--) فقد جعل الشرع ملكية بعض الموارد الاقتصادية ملكاً لعموم المسلمين عين بعضها على جهات معينة تصرف عليها كالزكاة، وترك بعضها لم يعين مصارفها يتصرف فيها ولى الأمر وفق اجتهاده مثل الفيء والخراج والجزية .. الخ.(<!--)

<!--الملكية التكافلية: ويقصد بها الموارد الاقتصادية التي تحولت أو تتحول طبيعتها إلى شكل خاص من الملكية تخرج به من إطار الملكية الخاصة أو ملكية الدولة إلى نوع من الملكية العامة ذات الطبيعة الخاصة، سواء لعموم المسلمين أو لصالح فئة معينة من فئات المجتمع تعبداً لله تعالى، وإحساساً بالمسئولية الاجتماعية تجاه المجتمع أو الأمة الإسلامية، ويهدف هذا النوع من الملكية إلى تحقيق التكافل الاجتماعي بين أعضاء المجتمع المسلم، ويدخل في هذا النوع من الملكية الوقف والصدقات الجارية.

وحيث أن لكل نوع من أنواع الملكية في الاقتصاد الإسلامي هدفه الخاص ومجاله الذي يعمل فيه فإن الاعتداء على أي نوع من أن أنواع الملكية في الاقتصاد الإسلامي أو إلغاؤها غير مقبول من الناحية الإسلامية إلا بمسوغ شرعي.

<!--وجود الزكاة كموارد اقتصادي للدولة:

ينفرد النظام الاقتصادي الإسلامي عن غيره من النظم الاقتصادية في وجود الزكاة كمورد اقتصادي للدولة، وهي أشبه ما يكون بالضرائب على الدخل فيما يفوق النصاب المقرر في الشريعة الإسلامية على النحو الذي أقره الفقهاء. كما يتميز النظام الاقتصادي الإسلامي عن الأنظمة الأخرى بفرضه الزكاة على الأموال المكتنزة، مما يعمل على دفع أصحابها إلى استخدامها في النشاط الاستثماري بدلاً من الاكتناز الذي يحرم الأمة من استغلال هذه الفوائض في التنمية الاقتصادية، حيث تؤدي هذه الضريبة على الأموال غير المستغلة إلى دفع أصحابها على الدخول بها في المجالات الاستثمارية بدلاً من أن تتآكل سنوياً بفعل الزكاة، مما يدفع عجلة الاقتصاد والإنتاج للدوران.

<!--دور القطاع الخيري أو التطوعي في الاقتصاد:

يهتم الاقتصاد الإسلامي بما يسمى بالقطاع الثالث والذي يشمل الوقف والصدقات التطوعية، كقطاع ثالث في الاقتصاد يقف إلى جانب القطاع العام والخاص في تلبية احتياجات المجتمع، ويعمل على تحقيق التضامن والتكافل الاجتماعي بين أفراد المجتمع، ويحقق الاستقرار الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، ويعمل على حماية المجتمع من الداخل، وهو ما لم يفطن الغرب إليه إلا في أواخر القرن العشرين، وتتزايد أهمية دور هذا القطاع في العصر الحاضر يوماً بعد يوم، وتعد الصدقات والأوقاف من خصائص الاقتصاد الإسلامي التي تعمل على تحقيق التكافل الاجتماعي، وتغطية حاجات الفقراء والمساكين والتخفيف من الأعباء المالية الملقاة على عاتق الدولة.

<!--تغليب المنفعة العامة على المنفعة الخاصة عند التضارب:

يعطي الإسلام الأولوية لتحقيق المنفعة العامة على الخاصة عند التضارب، فإذا تعارضت المصلحة العامة مع المصلحة الخاصة لأحد الأشخاص وجب على ولي الأمر تغليب المصلحة العامة لعموم المسلمين على المصلحة الشخصية لهذا الفرد. وذلك تطبيقاً لحديث الرسول ﷺ " لا ضرر ولا ضرار"(<!--) ويشترط لذلك أن تكون المصلحة حقيقية وأن يتم ترجيح المصلحة إلى مقاصد الشريعة وفقا للكتاب والسنة والإجماع.

وتجدر الإشارة إلى أن التمييز بين ما يقع ضمن الممتلكات العامة أو الفردية ليس معناه التفرقة بين الممتلكات العامة والخاصة ولكن التمييز يعنى تبعاً للقاعدة الفقهية دفع الضرر العام بالضرر الخاص.


<!--[if !supportFootnotes]-->

 


<!--[endif]-->

<!--))  إسماعيل علوى، عادل مياح، الحرية الاقتصادية وتدخل الدولة في النشاط الاقتصادي من المنظور الإسلامي، مرجع سابق، ص12.

<!--))  أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، هداية الرواة إلى تخريج أحاديث المصابيح والمشكاة ومعه تخريج الألباني للمشكاة، تحقيق: علي بن حسن بن عبدالحميد الحلبي، دار ابن القيم، الدمام، السعودية، ط 1، 1422هـ، ج 3، ص468؛ عبدالرحمن بن أبي بكر السيوطي، الجامع الصغير في أحاديث البشير النذير، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، د ن، د ت، برقم 14540.

<!--))  محمد ناصر الدين الألباني، سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها، مكتبة المعارف، ط 1، د ت، برقم 3405.

<!--))  صليحة بن عاشور، نظرية الملكية بين التشريع الاقتصادي الإسلامي والقانون، مجلة العلوم الإنسانية، جامعة محمد خضير بسكرة، الجزائر، مارس 2006م، ص15.

<!--))  أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، بلوغ المرام من أدلة الأحكام، دار الفيحاء، دمشق، سوريا، ط 2، 1417هـ ، ص 272.

<!--))  صليحة بن عاشور، نظرية الملكية بين التشريع الاقتصادي الإسلامي والقانون، مرجع سابق، ص15.

<!--)) إبراهيم عبداللطيف إبراهيم العبيدي، الملكيات الثلاث: دراسة عن الملكية العامة والملكية الخاصة وملكية الدولة في النظام الاقتصادي الإسلامي، إدارة البحوث، دائرة الشئون الإسلامية والعمل الخيري بدبي، الإمارات العربية المتحدة، ط 1، 1430ه/ 2009م ، ص115.

<!--))  عبدالرحمن بن رجب الحنبلي، جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثاً، تحقيق: شعيب الأرناؤوط وآخر، مؤسسة الرسالة، بيروت- لبنان، ط 1، 1411هـ ، ج 2، ص211.

 

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 196 مشاهدة

 

    بقلم د.علاء بسيوني

يتميز الاقتصاد الإسلامي بعدة خصائص تميزه عن غيره من النظم الأخرى، ويمكن تصنيفها كما يلي:

<!--أنه اقتصاد رباني من حيث المصدر والهدف: 

<!--ربانية المصدر: الاقتصاد الإسلامي ليس كالاقتصاد الرأسمالي أو الاشتراكي مستمد من الفكر الوضعي للاقتصاديين أمثال آدم سميث أو كينز أو كارل ماركس أو غيره، حتى لو اتفق معهم على بعض النقاط فهو يتميز بكونه رباني المصدر، فهو مستمد من مصادر الشريعة المختلفة وهي القرآن الكريم والسنة المطهرة ثم الاجتهاد.

<!--ربانية الهدف: حيث يهدف الاقتصاد الإسلامي إلى تحقيق مراد الله تعالى بعمارة الأرض، وسد الحاجات الدنيوية وتوفير حد الكفاية المعيشية للإفراد والمجتمعات، طبقاً لشرع الله الذي استخلف الإنسان في التصرف في المال والانتفاع به، فالمسلم يدرك أن المال ملكاً لله تعالى فيكون إرضاء مالك المال هدفاً يسعى إليه المسلمون في نشاطهم الاقتصادي.

<!--أنه اقتصاد أخلاقي:

      حيث أنه لا يفصل بين الأخلاق والاقتصاد كما في الأنظمة الوضعية الأخرى التي تؤكد على الفصل بين النشاط الاقتصاد والأخلاق، فرجل الاقتصاد الرأسمالي والاشتراكي لا يعنيه أن يكون النشاط الاقتصادي أخلاقياً أو غير أخلاقي، حلالاً أم حراماً، عدلاً أم ظلماً (مع الأخذ في الاعتبار أن النظم الوضعية لا تقر الجوانب غير الأخلاقية. أما الاقتصاد الإسلامي فإنه يقرن بين الاقتصاد والقيم الأخلاقية، فالنشاط الاقتصادي يجب أن يكون مشروعاً ومتوافقاً مع الأولويات الإسلامية واحتياجات المجتمع، كما يلتزم المسلم في نشاطه الاقتصادي بالصدق والأمانة وعدم الغش والغبن والقصد والاعتدال في الأمور كلها مثل الإنتاج والاستهلاك والتداول، بالإضافة إلى التشريعات الاقتصادية الإسلامية التي تضفي عنصر الأخلاق على الاقتصاد مثل الزكاة والوقف والصدقة والتي تؤدي إلى العدالة في توزيع الدخل والثروة لصالح الطبقات الفقيرة. 

<!--أنه اقتصاد يتصف بالتوازن:

سواء كان التوازن بين مصلحة الفرد ومصلحة الجماعة، أو التوازن بين الروح والمادة، أو التوازن في عملية الرقابة، وفيما يلي توضيح لأهم صور التوازن في الاقتصاد الإسلامي:

<!--التوازن بين مصلحة الفرد ومصلحة الجماعة:

حيث أن لكل إنسان دوافعه ورغباته الخاصة فإن ما يراه محققاً لمصلحته الخاصة قد يتعارض مع مصالحة الجماعة، وتتفاوت الاقتصادات الوضعية في موقفها من هاتين المصلحتين، أما الاقتصاد الإسلامي: فإنه يعترف بكل من الملكية الخاصة أو الفردية، والملكية العامة أو الجماعية على شكل يحقق التوازن بينهما، ويحدد وظائف كل منها وموارده حتى لا يطغى أي منهما على الأخر، وبذلك فإنه يحقق الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي، كما أنه في تنظيمه للعلاقة بين العامل ورب العمل يحقق التوازن بين العامل وصاحب العمل، وصاحب رأس المال وصاحب العمل، ويوازن بين المنتج والمستهلك، ويوازن بين الفئات الاجتماعية على شكل غير متوفر في الأنظمة الوضعية.     

<!--التوازن بين الروح والمادة:

    الإنسان له احتياجاته المادية والروحية، ويكون سعيداً بتلبيته هذه الاحتياجات تلبية متوازنة، وفي الاقتصادات الوضعية يختل التوازن بين هذه الاحتياجات لعدم وجود عنصر الأخلاق وسيادة الانحلال والنزعة الاستهلاكية في التصرفات البشرية، والحرص الشديد على الحصول على السلع المادية وعدم الاهتمام بالجانب الروحي. أما الاقتصاد الإسلامي فانه يوازن بين الجانب الروحي والجانب المادي، حيث أنه في الجانب الأول منع التفرغ للعبادة وجمع بين العبادة والعمل، وجعل العمل عبادة حيث أن المسلم وهو يعمل يكون متجها إلى الله مخلصاً، يقول تعالى (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (سورة الجمعة: الآية: 10)، كما يقيم النشاط الاقتصادي على أساس من الدين ويتخذ من الدين سنداً للأفراد والدولة عند ممارستهم للنشاط الاقتصادي. وفي الجانب الثاني حيث تعد المادة وسيلة من وسائل الإشباع الروحي وخادمة ومسخرة للفرد والمجتمع، فالإسلام يدعوا إلى زيادة النشاط الاقتصادي والسعي في الأرض بشرط عدم الإفساد، يقول سبحانه تعالى (وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) (سورة القصص: الآية: 77). 

<!--التوازن في الرقابة (الرقابة المزدوجة):

     لضبط أداء أي نظام اقتصادي، لا بد من وجود نوع من الرقابة على أفعال الناس وتصرفاتهم الاقتصادية، فإذا لم يوجد أي نوع من الرقابة غالباً ما ينفلت الناس، وفي الأنظمة الاقتصادية الوضعية لا يوجد سوى نوع واحد من الرقابة وهو الرقابة البشرية من خلال السلطة التنفيذية، إما في النظام الإسلامي فإنه يوجد ما يعرف بالرقابة المزدوجة: رقابة الحكام على المحكومين، ورقابة ذاتية نابعة من العنصر الإيماني والثقافي للأفراد في هذا النظام، وفيما يلي بيان لمشروعية هذه الأنواع من الرقابة في النظام الإسلامي:

 

  •  الرقابة البشرية (رقابة السلطة التنفيذية): وقد أسس لها النبي صلى الله عليه وسلم، وهي رقابة من جانب أولى الأمر على الأسواق وعلى النشاط الاقتصادي بطريقة واضحة، حيث كان ﷺ يراقب أسواق المدينة المنورة ونشاطها الاقتصادي بنفسه، كما عين من يفعل ذلك في أسواق مكة بعد فتحها .. وذلك ما اصطلح عليه بوظيفة المحتسب، وتختص هذه الوظيفة بمراقبة الموازين والمكاييل والصحة والنظافة والنهي عن المحرمات كالربا والغش والتطفيف وعدم الاتجار في الخمر والخنزير، وفض المنازعات بين المتعاملين في الأسواق. ويمارس المحتسب عمله على درجات مختلفة؛ تبدأ بالتعريف بالمخالفة، ثم الوعظ والتخويف بالله، ثم التعنيف بالقول دون فحش، ثم التغيير باليد، ثم التهديد بإلحاق الأذى، ثم مباشرة التوبيخ، ثم الضرب والتعزير.  
  •  الرقابة الذاتية: وهذا النوع من الرقابة أشد من رقابة السلطة التنفيذية وأكثر فاعلية وهي الضمير، ويرتبط هذا النوع من الرقابة في الغالب بدرجة التدين والالتزام، فالمسلم يجب أن يتصف بالرقابة الذاتية على تصرفاته وأفعاله ومنها التصرفات الاقتصادية، ولقد رسخ لهذا المفهوم في كثير من الآيات والأحاديث، حيث يقول سبحانه وتعالى (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) (النساء: الآية:1)، وعند ذكر منزلة الإحسان قال عليه السلام :" أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فأنه يراك" و "مَن غشَّنا فليس منَّا والمكرُ والخداعُ في النَّارِ" وأحاديث كثيرة لتعظيم أمر الرقابة الذاتية.
<!--[if !supportLists]-->

 

    وتجدر الإشارة إلى أن هذا النوع من الرقابة غير موجود في الأنظمة الوضعية، حيث أنها انفصلت تماماً عن الدين، وليس للدين عندهم أي تأثير على النشاط الاقتصادي أو غيره، وهو ما يكسب الاقتصاد الإسلامي ميزة في هذا المجال، ويجعل الرقابة فيه متوازنة وأشد تأثيراً.

<!--أنه يجمع بين الثبات والمرونة (الملائمة):

     يوجد في الاقتصاد الإسلامي أمور ثابتة لا تتغير مهما اختلفت ظروف الزمان والمكان، وهي تلك التي جاء بها نص ثابت وقاطع في أي من مصادر الاقتصاد الإسلامي، مثل إيجاب الزكاة وتحريم الربا وجواز البيع ... الخ، وهذا ما يضفي على الاقتصاد الإسلامي قدراً من الثبات في القواعد والتشريع. كما أنه يوجد في التشريع الاقتصاد الإسلامي متسع لاستيعاب باقي المستجدات الزمنية والمكانية حيث اتسمت قواعد الاقتصاد الإسلامي بالعموم الذي لا يصل إلى الفرع، ورسمها للخطوط العريضة دون الدخول في تفاصيل مقيدة مما يترك فسحة للاجتهاد والتطوير، حيث ينطلق الاجتهاد في الاقتصاد الإسلامي من قاعدة: أن الأصل في العبادات الحظر على ما جاء به الشارع سبحانه وتعالى، أما المعاملات فإن الأصل فيها الإباحة إلا ما جاء فيه نص يقيده، وهذا ما يضفي على التشريع للاقتصاد الإسلامي قدراً كبيراً من المرونة. فنجد الإسلام قد اتسع ليشمل كل ما يجد من معاملات طالما خلت من الربا والميسر والغرر الفاحش. وهناك أمثلة كثيرة على تغير الفتاوى واختلافها حسب ظروف الزمان والمكان، فيقال هذا اختلاف زمان ومكان وليس اختلاف حجة وبرهان. وبالتالي، فإن النظام الإسلامي به من الشرع ما يتلائم مع مستجدات كل عصر.

      وقد تميز الاقتصاد الإسلامي عن غيره بالجمع بين الثبات والمرونة، بما لديه من ثوابت، وما يتميز به من مرونة في التشريع، على عكس المناهج الأخرى التي ليس لديها ثوابت، بل هي نفسها تتغير! فلقد رأينا كيف تزحف الملكية العامة في الدول الرأسمالية، والملكية الخاصة في النظم الاشتراكية الماركسية .. مخالفين بذلك الأسس والمبادئ والفلسفة التي قامت عليها هذه النظم.

<!--الحرية المقيدة:

تعد الحرية الاقتصادية مناطاً كبيراً للخلاف في الفلسفة الاقتصادية بين النظام الاقتصادي الرأسمالي والاشتراكي والاقتصاد الإسلامي، وهذا ما يمكن توضيحه من خلال ما يلي:

<!--الحرية الاقتصادية في النظام الرأسمالي:

تعد الحرية الاقتصادية المطلقة من أبرز معالم النظام الاقتصادي الرأسمالي، الذي يأخذ بمبدأ الملكية الخاصة بشكل غير محدود، فالاقتصاد الرأسمالي يكفل للفرد الحرية الاقتصادية المطلقة في أن يزاول ما يشاء من أعمال وبالأسلوب الذي يختاره في ضوء مصلحته الشخصية فقط، وطبقاً لما تهدف إليه الرأسمالية من وراء مبدأ الحرية الاقتصادية: أن تجعل الفرد هو العامل الوحيد في الحركة الاقتصادية، حيث أنه ما من أحد أعرف منه بمصلحته الشخصية، ولا أقدر منه على اكتسابها، وعلى هذا الأساس تؤمن الرأسمالية بحرية التملك لعناصر الإنتاج، كما تسمح للأفراد باستغلال ممتلكاتهم على الوجه الذي يروق لهم، ولقد أدت هذه الحرية المطلقة إلى بروز عدة مساوئ للنظام الاقتصادي الرأسمالي.

<!-- الحرية الاقتصادية وموقف النظام الاشتراكي منها:

     يؤمن النظام الاشتراكي بالملكية العامة ويقف من الحرية الاقتصادية موقف العداء ويرى أنها سبب البلاء وأم الفساد، لذلك يرى ضرورة إلغائها ومصادرتها، فالدولة يجب أن تمتلك كل أدوات الإنتاج كما أنها تقوم بعملية التوزيع، وبذلك يكون الاقتصاد الاشتراكي قد أخذ من مبدأ الحرية الاقتصادية موقفاً يناقض موقف النظام الرأسمالي.

وبالتالي فإن هذا النظام يكون قد قتل في الإنسان الحافز على الإنتاج، وحطم فيه كل دافع على العمل والتنمية، حيث أنه حكم بالإعدام على غريزة حب التملك التي هي من أقوى الغرائز الإنسانية التي تدفع بالإنسان إلى العمل الجاد.

<!--الحرية الاقتصادية في الاقتصاد الإسلامي:

الإسلام يقر الحرية الاقتصادية والملكية الخاصة وحرية الأفراد والجماعات في التملك والإنتاج والاستهلاك غير أن هذه الحرية مقيدة بما يتفق مع مصلحة الفرد نفسه ومصلحة المجتمع، فالحرية الاقتصادية من وجهة النظر الإسلامية حق يقابله واجبات والتزامات تجاه المجتمع تتمثل في الالتزام بالواجبات الشرعية، وعدم التصرف في المال الخاص تصرفاً يؤذي الغير. فالملكية الخاصة في الإسلام مقيدة بالضوابط الشرعية وهذا ما يتفق مع مصلحة الفرد، والفطرة الإنسانية، وطبيعة النفس البشرية وحب التملك، مما يحفز عملية التنمية ويحقق العدالة بين الجهد والجزاء، وكذلك يتفق مع مصلحة المجتمع من خلال تحفيز عملية التنمية وكبح جماح رغبات الأفراد وميولهم في الحدود التي لا تضر بالمجتمع، من خلال:

  •      مراعاة أحكام الإسلام في الحلال والحرام.
  •     الالتزام بالواجبات الشرعية: كالزكاة، والنفقة على الزوجة والأبوين والأبناء، الإنفاق في سبيل الله.
  •     عدم التصرف في المال تصرفاً يؤذي الغير.
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 168 مشاهدة
نشرت فى 2 إبريل 2019 بواسطة dralaabasuony

 

يتميز الاقتصاد الإسلامي بعدة خصائص تميزه عن غيره من النظم الأخرى، ويمكن تصنيفها كما يلي:

<!--أنه اقتصاد رباني من حيث المصدر والهدف: 

<!--ربانية المصدر: الاقتصاد الإسلامي ليس كالاقتصاد الرأسمالي أو الاشتراكي مستمد من الفكر الوضعي للاقتصاديين أمثال آدم سميث أو كينز أو كارل ماركس أو غيره، حتى لو اتفق معهم على بعض النقاط فهو يتميز بكونه رباني المصدر، فهو مستمد من مصادر الشريعة المختلفة وهي القرآن الكريم والسنة المطهرة ثم الاجتهاد.

<!--ربانية الهدف: حيث يهدف الاقتصاد الإسلامي إلى تحقيق مراد الله تعالى بعمارة الأرض، وسد الحاجات الدنيوية وتوفير حد الكفاية المعيشية للإفراد والمجتمعات، طبقاً لشرع الله الذي استخلف الإنسان في التصرف في المال والانتفاع به، فالمسلم يدرك أن المال ملكاً لله تعالى فيكون إرضاء مالك المال هدفاً يسعى إليه المسلمون في نشاطهم الاقتصادي.

<!--أنه اقتصاد أخلاقي:

      حيث أنه لا يفصل بين الأخلاق والاقتصاد كما في الأنظمة الوضعية الأخرى التي تؤكد على الفصل بين النشاط الاقتصاد والأخلاق، فرجل الاقتصاد الرأسمالي والاشتراكي لا يعنيه أن يكون النشاط الاقتصادي أخلاقياً أو غير أخلاقي، حلالاً أم حراماً، عدلاً أم ظلماً (مع الأخذ في الاعتبار أن النظم الوضعية لا تقر الجوانب غير الأخلاقية. أما الاقتصاد الإسلامي فإنه يقرن بين الاقتصاد والقيم الأخلاقية، فالنشاط الاقتصادي يجب أن يكون مشروعاً ومتوافقاً مع الأولويات الإسلامية واحتياجات المجتمع، كما يلتزم المسلم في نشاطه الاقتصادي بالصدق والأمانة وعدم الغش والغبن والقصد والاعتدال في الأمور كلها مثل الإنتاج والاستهلاك والتداول، بالإضافة إلى التشريعات الاقتصادية الإسلامية التي تضفي عنصر الأخلاق على الاقتصاد مثل الزكاة والوقف والصدقة والتي تؤدي إلى العدالة في توزيع الدخل والثروة لصالح الطبقات الفقيرة. 

<!--أنه اقتصاد يتصف بالتوازن:

سواء كان التوازن بين مصلحة الفرد ومصلحة الجماعة، أو التوازن بين الروح والمادة، أو التوازن في عملية الرقابة، وفيما يلي توضيح لأهم صور التوازن في الاقتصاد الإسلامي:

<!--التوازن بين مصلحة الفرد ومصلحة الجماعة:

حيث أن لكل إنسان دوافعه ورغباته الخاصة فإن ما يراه محققاً لمصلحته الخاصة قد يتعارض مع مصالحة الجماعة، وتتفاوت الاقتصادات الوضعية في موقفها من هاتين المصلحتين، أما الاقتصاد الإسلامي: فإنه يعترف بكل من الملكية الخاصة أو الفردية، والملكية العامة أو الجماعية على شكل يحقق التوازن بينهما، ويحدد وظائف كل منها وموارده حتى لا يطغى أي منهما على الأخر، وبذلك فإنه يحقق الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي، كما أنه في تنظيمه للعلاقة بين العامل ورب العمل يحقق التوازن بين العامل وصاحب العمل، وصاحب رأس المال وصاحب العمل، ويوازن بين المنتج والمستهلك، ويوازن بين الفئات الاجتماعية على شكل غير متوفر في الأنظمة الوضعية.     

<!--التوازن بين الروح والمادة:

    الإنسان له احتياجاته المادية والروحية، ويكون سعيداً بتلبيته هذه الاحتياجات تلبية متوازنة، وفي الاقتصادات الوضعية يختل التوازن بين هذه الاحتياجات لعدم وجود عنصر الأخلاق وسيادة الانحلال والنزعة الاستهلاكية في التصرفات البشرية، والحرص الشديد على الحصول على السلع المادية وعدم الاهتمام بالجانب الروحي. أما الاقتصاد الإسلامي فانه يوازن بين الجانب الروحي والجانب المادي، حيث أنه في الجانب الأول منع التفرغ للعبادة وجمع بين العبادة والعمل، وجعل العمل عبادة حيث أن المسلم وهو يعمل يكون متجها إلى الله مخلصاً، يقول تعالى (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (سورة الجمعة: الآية: 10)، كما يقيم النشاط الاقتصادي على أساس من الدين ويتخذ من الدين سنداً للأفراد والدولة عند ممارستهم للنشاط الاقتصادي. وفي الجانب الثاني حيث تعد المادة وسيلة من وسائل الإشباع الروحي وخادمة ومسخرة للفرد والمجتمع، فالإسلام يدعوا إلى زيادة النشاط الاقتصادي والسعي في الأرض بشرط عدم الإفساد، يقول سبحانه تعالى (وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) (سورة القصص: الآية: 77). 

<!--التوازن في الرقابة (الرقابة المزدوجة):

     لضبط أداء أي نظام اقتصادي، لا بد من وجود نوع من الرقابة على أفعال الناس وتصرفاتهم الاقتصادية، فإذا لم يوجد أي نوع من الرقابة غالباً ما ينفلت الناس، وفي الأنظمة الاقتصادية الوضعية لا يوجد سوى نوع واحد من الرقابة وهو الرقابة البشرية من خلال السلطة التنفيذية، إما في النظام الإسلامي فإنه يوجد ما يعرف بالرقابة المزدوجة: رقابة الحكام على المحكومين، ورقابة ذاتية نابعة من العنصر الإيماني والثقافي للأفراد في هذا النظام، وفيما يلي بيان لمشروعية هذه الأنواع من الرقابة في النظام الإسلامي:

<!--الرقابة البشرية (رقابة السلطة التنفيذية): وقد أسس لها النبي صلى الله عليه وسلم، وهي رقابة من جانب أولى الأمر على الأسواق وعلى النشاط الاقتصادي بطريقة واضحة، حيث كان ﷺ يراقب أسواق المدينة المنورة ونشاطها الاقتصادي بنفسه، كما عين من يفعل ذلك في أسواق مكة بعد فتحها .. وذلك ما اصطلح عليه بوظيفة المحتسب، وتختص هذه الوظيفة بمراقبة الموازين والمكاييل والصحة والنظافة والنهي عن المحرمات كالربا والغش والتطفيف وعدم الاتجار في الخمر والخنزير، وفض المنازعات بين المتعاملين في الأسواق. ويمارس المحتسب عمله على درجات مختلفة؛ تبدأ بالتعريف بالمخالفة، ثم الوعظ والتخويف بالله، ثم التعنيف بالقول دون فحش، ثم التغيير باليد، ثم التهديد بإلحاق الأذى، ثم مباشرة التوبيخ، ثم الضرب والتعزير.  

<!--الرقابة الذاتية: وهذا النوع من الرقابة أشد من رقابة السلطة التنفيذية وأكثر فاعلية وهي الضمير، ويرتبط هذا النوع من الرقابة في الغالب بدرجة التدين والالتزام، فالمسلم يجب أن يتصف بالرقابة الذاتية على تصرفاته وأفعاله ومنها التصرفات الاقتصادية، ولقد رسخ لهذا المفهوم في كثير من الآيات والأحاديث، حيث يقول سبحانه وتعالى (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) (النساء: الآية:1)، وعند ذكر منزلة الإحسان قال عليه السلام :" أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فأنه يراك" و "مَن غشَّنا فليس منَّا والمكرُ والخداعُ في النَّارِ" وأحاديث كثيرة لتعظيم أمر الرقابة الذاتية.

    وتجدر الإشارة إلى أن هذا النوع من الرقابة غير موجود في الأنظمة الوضعية، حيث أنها انفصلت تماماً عن الدين، وليس للدين عندهم أي تأثير على النشاط الاقتصادي أو غيره، وهو ما يكسب الاقتصاد الإسلامي ميزة في هذا المجال، ويجعل الرقابة فيه متوازنة وأشد تأثيراً.

<!--أنه يجمع بين الثبات والمرونة (الملائمة):

     يوجد في الاقتصاد الإسلامي أمور ثابتة لا تتغير مهما اختلفت ظروف الزمان والمكان، وهي تلك التي جاء بها نص ثابت وقاطع في أي من مصادر الاقتصاد الإسلامي، مثل إيجاب الزكاة وتحريم الربا وجواز البيع ... الخ، وهذا ما يضفي على الاقتصاد الإسلامي قدراً من الثبات في القواعد والتشريع. كما أنه يوجد في التشريع الاقتصاد الإسلامي متسع لاستيعاب باقي المستجدات الزمنية والمكانية حيث اتسمت قواعد الاقتصاد الإسلامي بالعموم الذي لا يصل إلى الفرع، ورسمها للخطوط العريضة دون الدخول في تفاصيل مقيدة مما يترك فسحة للاجتهاد والتطوير، حيث ينطلق الاجتهاد في الاقتصاد الإسلامي من قاعدة: أن الأصل في العبادات الحظر على ما جاء به الشارع سبحانه وتعالى، أما المعاملات فإن الأصل فيها الإباحة إلا ما جاء فيه نص يقيده، وهذا ما يضفي على التشريع للاقتصاد الإسلامي قدراً كبيراً من المرونة. فنجد الإسلام قد اتسع ليشمل كل ما يجد من معاملات طالما خلت من الربا والميسر والغرر الفاحش. وهناك أمثلة كثيرة على تغير الفتاوى واختلافها حسب ظروف الزمان والمكان، فيقال هذا اختلاف زمان ومكان وليس اختلاف حجة وبرهان. وبالتالي، فإن النظام الإسلامي به من الشرع ما يتلائم مع مستجدات كل عصر.

      وقد تميز الاقتصاد الإسلامي عن غيره بالجمع بين الثبات والمرونة، بما لديه من ثوابت، وما يتميز به من مرونة في التشريع، على عكس المناهج الأخرى التي ليس لديها ثوابت، بل هي نفسها تتغير! فلقد رأينا كيف تزحف الملكية العامة في الدول الرأسمالية، والملكية الخاصة في النظم الاشتراكية الماركسية .. مخالفين بذلك الأسس والمبادئ والفلسفة التي قامت عليها هذه النظم.

<!--الحرية المقيدة:

تعد الحرية الاقتصادية مناطاً كبيراً للخلاف في الفلسفة الاقتصادية بين النظام الاقتصادي الرأسمالي والاشتراكي والاقتصاد الإسلامي، وهذا ما يمكن توضيحه من خلال ما يلي:

<!--الحرية الاقتصادية في النظام الرأسمالي:

تعد الحرية الاقتصادية المطلقة من أبرز معالم النظام الاقتصادي الرأسمالي، الذي يأخذ بمبدأ الملكية الخاصة بشكل غير محدود، فالاقتصاد الرأسمالي يكفل للفرد الحرية الاقتصادية المطلقة في أن يزاول ما يشاء من أعمال وبالأسلوب الذي يختاره في ضوء مصلحته الشخصية فقط، وطبقاً لما تهدف إليه الرأسمالية من وراء مبدأ الحرية الاقتصادية: أن تجعل الفرد هو العامل الوحيد في الحركة الاقتصادية، حيث أنه ما من أحد أعرف منه بمصلحته الشخصية، ولا أقدر منه على اكتسابها، وعلى هذا الأساس تؤمن الرأسمالية بحرية التملك لعناصر الإنتاج، كما تسمح للأفراد باستغلال ممتلكاتهم على الوجه الذي يروق لهم، ولقد أدت هذه الحرية المطلقة إلى بروز عدة مساوئ للنظام الاقتصادي الرأسمالي.

<!-- الحرية الاقتصادية وموقف النظام الاشتراكي منها:

     يؤمن النظام الاشتراكي بالملكية العامة ويقف من الحرية الاقتصادية موقف العداء ويرى أنها سبب البلاء وأم الفساد، لذلك يرى ضرورة إلغائها ومصادرتها، فالدولة يجب أن تمتلك كل أدوات الإنتاج كما أنها تقوم بعملية التوزيع، وبذلك يكون الاقتصاد الاشتراكي قد أخذ من مبدأ الحرية الاقتصادية موقفاً يناقض موقف النظام الرأسمالي.

وبالتالي فإن هذا النظام يكون قد قتل في الإنسان الحافز على الإنتاج، وحطم فيه كل دافع على العمل والتنمية، حيث أنه حكم بالإعدام على غريزة حب التملك التي هي من أقوى الغرائز الإنسانية التي تدفع بالإنسان إلى العمل الجاد.

<!--الحرية الاقتصادية في الاقتصاد الإسلامي:

الإسلام يقر الحرية الاقتصادية والملكية الخاصة وحرية الأفراد والجماعات في التملك والإنتاج والاستهلاك غير أن هذه الحرية مقيدة بما يتفق مع مصلحة الفرد نفسه ومصلحة المجتمع، فالحرية الاقتصادية من وجهة النظر الإسلامية حق يقابله واجبات والتزامات تجاه المجتمع تتمثل في الالتزام بالواجبات الشرعية، وعدم التصرف في المال الخاص تصرفاً يؤذي الغير. فالملكية الخاصة في الإسلام مقيدة بالضوابط الشرعية وهذا ما يتفق مع مصلحة الفرد، والفطرة الإنسانية، وطبيعة النفس البشرية وحب التملك، مما يحفز عملية التنمية ويحقق العدالة بين الجهد والجزاء، وكذلك يتفق مع مصلحة المجتمع من خلال تحفيز عملية التنمية وكبح جماح رغبات الأفراد وميولهم في الحدود التي لا تضر بالمجتمع، من خلال:

<!--مراعاة أحكام الإسلام في الحلال والحرام.

<!--الالتزام بالواجبات الشرعية: كالزكاة، والنفقة على الزوجة والأبوين والأبناء، الإنفاق في سبيل الله.

<!--عدم التصرف في المال تصرفاً يؤذي الغير.

 

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 326 مشاهدة
نشرت فى 2 إبريل 2019 بواسطة dralaabasuony

يهدف الاقتصاد الإسلامي إلى تحقيق مجموعة من الأهداف من أهمها:

1. تحقيق حد الكفاية المعيشية:

     يهدف الإسلام في نظامه الاقتصادي إلى توفير مستوى ملائم من المعيشة لكل إنسان، وهو ما يعرف في الفقه الإسلامي "بتوفير حد الكفاية"، وهنا ينبغي التفريق بين مفهوم حد الكفاية في الاقتصاد الإسلامي وحد الكفاف في الاقتصاد الوضعي، حيث أن؛

  • حد الكفاف في الاقتصاد الوضعي: مفهوم مطلق يقتصر على سد الضّروريّات القصوى التي تبقي الإنسان على قيد الحياة وقادراً على العمل والإنتاج وتشمل ما يحتاج إليه الإنسان من طعام وملبس ومسكن، وهو مفهوم مطلق حيث يحدد عدد وحدات العملة التي تنقل أي فرد داخل المجتمع من حالة الفقر إلى الغنى دون النظر إلى الاعتبارات الاجتماعية.
  • حد الكفاية في الاقتصاد الإسلامي: مفهوم نسبي يتحدد في ضوء ضابط إنفاق الطبقة الاجتماعية، ويتعدى مستوى الضروريات ويشمل كل ما لابد للإنسان منه على نحو يليق بحاله من زواج وتعليم وعلاج وقضاء دين، وما يتزين به من ملابس وحلي وغير ذلك. ومعنى أنه مفهوم نسبي أن لكل فرد أو أسرة أو فئة في المجتمع حد الكفاية الخاص بها والذي ينقلها من حالة الفقر إلى الغنى، فحد الكفاية لبائع الخضروات يقتصر على ما يوفر له حياة كريمة ويوفر له رأس مال بسيط يعمل به، وحد الكفاية لصاحب الحرفة أو المهنة يمتد ليشمل توفير متطلبات وأدوات مهنته، وحد كفاية لإمام المسجد يمتد ليشمل مظهره على النحو الذي يليق به، لذلك ورد عن النبي ﷺ أنه قال: " مَن وَلِيَ لنا عَمَلًا وليس له مَنزِلٌ فلْيَتَّخِذْ مَنزِلًا، أوْ ليستْ له زَوجةٌ فلْيَتزَوَّجْ، أوْ ليس له خادِمٌ فلْيَتَّخِذْ خادِمًا، أوْ ليس له دابَّةٌ فلْيَتَّخِذْ دابَّةً، ومَن أصابَ شيئًا سِوى ذلك فهو غالٌّ "

هذا ومن شدة حرص الشريعة الإسلامية على توفير حد الكفاية المعيشية لجميع المواطنين فرض الإسلام موارد مالية معينة (كالزكاة، والفيء، وخمس الغنائم) لتسهم في تحقيق الكفاية المعيشية للذين لا يقدرون على تحقيق حد الكفاية لأنفسهم، فهذا الحد يطلق عليه حد الغنى.

<!--التوظيف الأمثل للموارد الاقتصادية:

     يعد التوظيف الأمثل للموارد الاقتصادية من الأهداف الرئيسية لأي نظام اقتصادي، ويتحقق التوظيف الأمثل للموارد الاقتصادية في الاقتصاد الإسلامي من خلال عدة طرق أهمها ما يلي:

  •  توظيف الموارد الاقتصادية في إنتاج الطيبات من الرزق وعدم إنتاج السلع أو الخدمات الضارة أو المحرمة.
  •  التركيز على إنتاج الضروريات والحاجيات التي تسهم في حماية مقاصد الشريعة، وفقاً لمبدأ الأولويات (إنتاج السلع الضرورية ثم التحسينية ثم الكمالية) وعدم الإفراط في إنتاج السلع والخدمات الكمالية.
  • إبعاد الموارد الاقتصادية عن إنتاج السلع والخدمات التي تتطلب إنفاقاً ذا طبيعة إسرافية.

وهذا ما يتحقق من خلال العمل على تحقيق العدالة في توزيع الناتج (الدخل) المتولد من العملية الإنتاجية على الفئات المستحقة، والعمل على إعادة توزيع الدخل القومي لصالح الطبقات الفقيرة مما يوجه الطلب القومي نحو شراء السلع الضرورية وفقاً للأولويات الاقتصادية.

<!--الحد من التفاوت في توزيع الدخل والثروة:

الإسلام ينبذ اكتناز الأموال ويحرم الاحتكار والربا والقمار والرشوة والغش وكل أشكال الاستغلال والأنانية التي يكون الفقير هو ضحيتها، لذلك يفرض الزكاة والنفقات الواجبة ويحث على الوصية والوقف والصدقات التطوعية بشكل يعمل على تحقيق توزيع عادل للدخل والثروة في المجتمع ويرتقي بحال الفقير.

<!--تحقيق القوة المادية والدفاعية للأمة الإسلامية:

بما يكفل لها الأمن والحماية ويدرأ عنها العدو المتربص باستقلالها والمستنزف لطاقاتها الاقتصادية، حيث يعد امتلاك المال والقوة الاقتصادية من أهم الوسائل التي تعمل على تحقيق الاستقلالية والقوة المادية والدفاعية لأي مجتمع.

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 1841 مشاهدة
نشرت فى 2 إبريل 2019 بواسطة dralaabasuony

يقوم الاقتصاد الإسلامي على مبادئ أساسية تميزه عن النظم الاقتصادية الأخرى، ويجعله يختلف عنها من حيث المنهج والأسس التي يقوم عليها وهما:

  1.  أن المال مال الله ونحن مستخلفون فيه: حيث يقوم التصور الإسلامي للملكية على مبدأ الاستخلاف في المال، حيث أن الله تعالى خلق بني آدم وجعلهم مستخلفين في الأرض بقوله " وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ " (سورة البقرة: الآية: 36)، وبذلك فإن الإنسان هو خليفة الله تعالى في أرضه والمسئول عن تحقيق مراد الله فيها، ومسئول عن عمارة الأرض وفق المنهج الإلهي بقوله تعالى ""هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا" (سورة هود: الآية: 61). فنحن مسئولون عن هذا المال، كسباً وإنفاقاً، أمام الله في الآخرة، وأمام الناس في الدنيا، فلا يجوز أن نكتسب المال من حرام أو ننفقه في معصية، أو فيما يضر الناس.
  2.  أن النقود ما هي إلا أداة لقياس القيمة ووسيلة للتبادل التجاري: وليست سلعة من السلع، فلا يجوز بيعها أو شراؤها (ربا الفضل) ولا تأجيرها (ربا النسيئة(، وبذلك فإن الاقتصاد الإسلامي بتحريه للربا (سعر الفائدة) يختلف من حيث المبدأ عن الاقتصاد الاشتراكي والرأسمالي والذي يعد التعامل بمعدل الفائدة هو الأساس الذي يقوم عليه، والعمود الفقري له.
  3. الحرية المقيدة: يشير مصطلح الحرية الاقتصادية إلى؛ حرية العمل والتجارة، والانطلاق من القيود التي من شأنها أن تفوق الاقتصاد أو تحد من حرية العمل والتجارة، والاقتصادي الإسلامي يحترم هذه الحرية الاقتصادية ويعتبرها من الحقوق الأساسية للإنسان، وإن كان يضعها في إطار جلب المصالح ودرء المفاسد، حيث يسمح الإسلام للإنسان بالحرية في النشاط الاقتصادي ولكنها حرية مقيدة بحدود من القيم الأخلاقية، والضوابط الشرعية لتحقيق هدف اقتصادي.
  4. أن وجود جميع أنواع الملكية في الاقتصاد الإسلامي هدف ومقصود في حد ذاته، حيث أن لكل نوع من أنواع الملكية (الاستخلاف، الخاصة، العامة، الدولة، التكافلية) في الاقتصاد الإسلامي هدفه ونطاقه الخاص ومجال عمله الذي يعمل فيه، ولا يصح الاعتداء أو التضييق على أي منها، إلا بسند شرعي.
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 135 مشاهدة
نشرت فى 2 إبريل 2019 بواسطة dralaabasuony

dralaabasuony

dralaabasuony
يهدف هذا الموقع إلى تنشيط الثقافة العلمية وفتح المجال المناقشات العلمية البناءة من أجل إثراء المعرفة والعلمية وخدمة المجتمع، وذلك من خلال مناقشة العديد من الموضوعات الاقتصادية والاجتماعية »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

29,820