د.علاء البسيوني

يهتم الموقع بنشر الثقافة العلمية خاصة في مجال العلوم الاقتصادية والاجتماعية، والاقتصاد الإسلامي.

authentication required

    بقلم د.علاء بسيوني

       في ضوء دراستنا للمشكلة الاقتصادية ومفهوم وطبيعة الحاجات الإنسانية والموارد الاقتصادية في الاقتصاد الوضعي والاقتصاد الإسلامي، يتضح لنا أثر الطبيعة التشاؤمية في الاقتصاد الوضعي والتفاؤلية في الاقتصاد الإسلامي، وهذا ما سوف نقوم بدراسته من خلال ما يلي:

<!--الطبيعة التشاؤمية في الاقتصاد الوضعي.

<!--الطبيعة التفاؤلية في الاقتصاد الإسلامي.

<!--التوظيفات الأخلاقية للتشاؤمية والتفاؤلية في الاقتصاد.

وذلك مع بيان أثر كل منهما على الحياة الاقتصادية

أولاً: الطبيعة التشاؤمية في الاقتصاد الوضعي:

إن المتأمل في التحليل الاقتصادي الذي اتسم به الاقتصاد في الفكر الوضعي يجد أنه يعكس ما يمكن تسميه بالتشاؤمية أي أن علم الاقتصاد في الفكر علم الوضعي تشاؤمي. والسؤال الذي نطرحه هو: ما الذي قاد التحليل الاقتصادي في الفكر الوضعي إلى التشاؤمية؟ وللإجابة على هذا التساؤل نجد أن المعتقدات الاقتصادية في الفكر الوضعي تتضمن أربعة عناصر تشاؤمية هي التي قادت إلى صفة التشاؤمية العامة، وهذا ما يمكن التعرف عليه من خلال ما يلي:

العنصر الأول: فشل تناسق المصالح:

      لقد كان آدم سميث (مؤسس علم الاقتصاد في الفكر الوضعي) متفائلاً بشأن تناسق المصالح بين الطبقات الاجتماعية، على اعتبار أنه يمكن التوافق بينها، حيث كان يؤمن بأنه لا يوجد تعارض بين مصلحة الفرد ومصلحة الجماعة على اعتبار أن مصلحة الجماعة ما هي إلا تجميع لمصالح الأفراد وأن الفرد وهو يسعي لتحقيق مصلحته الخاصة فإنه بالطبع يسعي لتحيق مصلحة الجماعة، لذلك كان يؤمن بالملكية الخاصة وعدم تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي. ولكن سرعان ما غاب هذا الاتجاه التفاؤلي في الاقتصاد الكلاسيكي، وترك مكانه لتحليل ريكاردو الذي كان متشائماً بشأن مستقبل تناسق المصالح الاجتماعية. وأصبح تحليل ريكاردو يمثل المعتقد الاقتصادي الكلاسيكي، وهكذا قاد تحليله الاقتصادي إلى العنصر الأول من عناصر التشاؤمية.

العنصر الثاني: حتمية اتجاه النظام إلى الأزمة:

     بناء على الاعتقاد بوجود المشكلة الاقتصادية ومحدودية الموارد الاقتصادية بالنسبة إلى الحاجات والرغبات الإنسانية، والذي يكون مسبباً عن الاتجاه المتناقص للأرباح، نتيجة الاضطرار إلى زراعة الأراضي غير الجيدة. ويعني هذا أن الأزمة أصبحت هي الاتجاه الحتمي للنظام الاقتصادي. وهكذا اكتسب علم الاقتصاد عنصراً آخر من عناصر التشاؤمية.

العنصر الثالث: الاتجاه الذي قاد إليه تحليل مالتس في نظرية السكان:

      يعد روبرت مالتس أول من أصّل لمشكلة الموارد الغذائية والتزايد السكاني، وذلك في مقاله الشهير الذي ألفه سنة 1798م بعنوان: (مقال عن مبدأ السكان) والذي أصبحت من أهم التحليلات الاقتصادية التي نبهت إلى خطورة الآثار الناجمة عن الزيادة المستمرة في عدد السكان. وتقوم هذه النظرية على دراسة العلاقة بين الموارد والسلع الغذائية والسكان، على اعتبار أن الغذاء ضرورة هامة وملحة للحياة الإنسانية، وتتلخص الأفكار التي تتضمنها نظرية مالتس للسكان في النقاط الأساسية التالية:

<!--يتحدد عدد السكان ويعتمد على كميات السلع الغذائية الضرورية لاستمرار الحياة الإنسانية.

<!--أشار مالتس إلى أن كميات الغداء هذه تتزايد في شكل متوليه عدديه (1، 2، 3، 4، ... الخ).

<!--أن تزايد عدد السكان موجود دائما وفي جميع الأحوال، وأن السكان يتزايدون في شكل متوالية هندسيه (1، 2، 4، 8، 16، 32، ... الخ).

    وبذلك فإن سكان العالم سيواجهون موقفاً صعباً تكثر فيه المجاعات والتخلف؛ وذلك لأن التزايد السكاني أكبر بكثير وبغير حدود من قدرة الأرض على إنتاج وسائل العيش، حيث أن الزيادة السكانية تتبع متوالية هندسية، بينما زيادة الغذاء تتبع متوالية عددية أو حسابية، وبذلك فإن العالم يسير نحو مستقبل مظلم بهيم مما يهدد أهل الكوكب بالمجاعات في المستقبل. ويشير مالتس في نظريته السكانية أن الحل يكمن في وجود نوعين من الموانع تعمل على الحد من الزيادة السكانية هما:

<!--موانع قهرية (موجبة): تؤثر مباشرة في عدد السكان مثل: المجاعات، والأمراض، والحروب، والأوبئة. وتنتشر هذه الموانع في الدول النامية الفقيرة وتقضي على جزء من السكان يعود بعدها التوازن بين السكان وكميات الغداء.

<!--موانع وقائية (إرادية): مثل الامتناع عن الزواج أو تأجيله، وتسود مثل هذه الموانع في الدول الصناعية المتقدمة وينتج عنها في النهاية توازن بين عدد السكان وكميات الغذاء.

ولقد تعرضت نظرية مالتس للسكان لعديد من الانتقادات من أهمها:

<!--لم يأخذ مالتس في عين الاعتبار الآثار التي قد تنشأ عن التغير والتطور في المستوي الفني والاكتشافات العلمية الحديثة التي أدت إلي زيادة الإنتاج بمعدلات أكبر بكثير من تلك التي توقعها مالتس.

<!--أدي انتشار المعرفة والوعي الثقافي إلى انخفاض في معدلات المواليد ليس لعدم الزواج أو تأجيله كما أشار مالتس، بل للاستخدام وسائل علمية حديثة في تنظيم وتحديد النسل.

<!--أن ما أشار إليه مالتس في نظرية السكان بأن معدل الزيادة في عدد السكان يفوق معدل الزيادة في المواد الغذائية دائماً غير صحيح، حيث نجد في الوقت الحاضر أن معدلات الزيادة في إنتاج المواد الغذائية يفوق معدلات الزيادة في عدد السكان في كثير من الدول وخاصة الصناعية منها.

يستنتج مما سبق؛ أن نظرية مالتس في السكان بما تتضمنه من موانع إيجابية ووقائية (حروب، ومجاعات، وأوبئة) تعد قمة في التشاؤم حول مستقبل المجتمع والنوع الإنساني ككل.

 العنصر الرابع: يتمثل في الاعتقاد في الندرة:

      إن المفاهيم المختلفة لعلم الاقتصاد بالمفهوم الوضعي تدور كلها حول معنى واحد هو الندرة، لذلك أصبحت الندرة هي موضوعه، بمعنى أن علم الاقتصاد هو العلم الذي يبحث في إدارة الموارد المحدودة والمتعددة الاستعمالات لتشبع الحاجات الإنسانية المتجددة واللانهائية، أي أنه علم يبحث في ندرة الموارد.

     بهذه العناصر الأربعة اكتملت دائرة التشاؤمية في علم الاقتصاد الوضعي، حيث يمثل العنصر الأول تشاؤماً حول تناسق المصالح بين طبقات المجتمع وبينها وبين الدولة، بينما يمثل العنصر الثاني تشاؤماً حول المستقبل الاقتصادي للنظام، في حين يمثل العنصر الثالث تشاؤماً حول مستقبل النوع الإنساني، بينما يمثل العنصر الأخير السبب والنتيجة للعناصر السابقة. ذلك أن ندرة الموارد الاقتصادية يمكن أن نعتبرها من وجه سبباً لهذه العناصر، ويمكن أن نعتبرها من الوجه الآخر نتيجة لتشاؤميتها.

ثانياً: الطبيعة التفاؤلية الاقتصاد الإسلامي:

إن بؤرة الارتكاز في تشاؤمية الاقتصاد الوضعي هي ندرة الموارد الاقتصادية في مقابل الحاجات الإنسانية، وقد ترجم هذا بأن الموارد الاقتصادية غير كافية لحفظ كل النوع الإنساني الموجود على سطح الأرض. ولكن هل يتفق الاقتصاد الإسلامي مع الاقتصاد الوضعي في هذه النظرة التشاؤمية؟؟ هذا هو محور حديثنا في هذه النقاط.

يمكن القول بأن الاقتصاد الإسلامي ذو طبيعة تفاؤلية، وينبع ذلك من طبيعة الأسس التي يقوم عليها الاقتصاد الإسلامي وفي مقدمتها الإيمان بالله تعالى، فالله تعالى هو المحيي المميت الرزاق ذو القوة المتين، وهو سبحانه الذي فرض بشريعته ضماناً اجتماعياً للإنسان ممثلاً في حد أدنى لتوفير كفايته، ولضمان ذلك أنزل في القرآن الكريم آيات تبطل قضية الندرة، وتعطي ضماناً للعباد بأن الله تعالى قد تكفل لهم بالرزق، وبالتالي فهي تبطل التشاؤمية، وكنتيجة لذلك فإنه تثبت التفاؤلية للاقتصاد الإسلامي بشأن الموارد الاقتصادية. فيقول اللَّه تعالى: {وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُون ٍ* وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِين َ* وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} (الحجر: الآية:19-21)، وقال تعالى: (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) (القمر: الآية:49)، وقال تعالى:(وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) (الذاريات: الآية:22-23) فالله سبحانه وتعالى في هذه الآيات يقول بأنه قد خلق كل شيء بقدر، وأنه قد جعل لنا فيها من المعايش ما يكفينا وغيرنا من الأنعام ومن لم نتكفل نحن برزقهم، كما يخبرنا أن عنده خزائن السموات والأرض وأنه ينزل الأرزاق وفق حكمته وإرادته، كما جعل الإيمان والتقوى من أسباب بركة الرزق في الدنيا بقوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) (الأعراف: الآية:96).

كما أن الاقتصاد الإسلامي ينظم العلاقات بين المصالح الاقتصادية، ويحدد آليات ونطاق عمل كل نوع من أنواع الملكية في الاقتصاد الإسلامي ودوره في التنمية الاقتصادية على نحو يحد ويمنع تضارب المصالح، ويحدد آليات الفصل بينها بحيث لا يطغي أي منهما على الأخر.

بالإضافة إلى أن الفكر الاقتصادي الإسلامي لا يؤمن بالمشكلة الاقتصادية على النحو الذي يشير إليه الاقتصاد الوضعي، فبالنسبة للاقتصاد الإسلامي فإن المشكلة الاقتصادية ليست في بخل الطبيعة كما يرى الاقتصاد الرأسمالي، ولكن الاقتصاد الإسلامي يرى أن السبب الرئيسي للمشكلة الاقتصادية هو سلوك الإنسان نفسه، حيث أنه هو المسئول عن الإنتاج والاستهلاك واستخدام الموارد الاقتصادية وفقاً لمراد الله تعالى، وتجدر الإشارة إلى أن الموارد الاقتصادية إذا تم استخدامها وفقاً لمراد الله تعالى وتوجيهاته فإنها تكفي لتلبية احتياجات الإنسان وزيادة، أما إذا تم استخدامها لتلبية الرغبات المحرمة واتباع الشهوات فإنها بالطبع تكون محدودة. وتكمن مسؤولية الإنسان عن المشكلة الاقتصادية في عدة جوانب وهي:

<!--التقاعس عن العمل: فالإنسان عندما يركن إلى الراحة وبهمل دوره ومسؤوليته في عمارة الأرض، يزيد من حدة المشكلة الاقتصادية.

<!--ظلم الإنسان وتعديه. فالإنسان بطغيانه وفساده في الأرض والمتمثل في هذا العصر بالفساد على المستوى الدولي عن طريق الاستعمار واستغلال الدول الضعيفة ونهب خيراتها، فالدول الرأسمالية بقيادة الولايات المتحدة تسيطر وتفرض قيودها وحصارها على كل الدول التي تسير في طريقها أو ترفض أوامرها.

<!--الفقر الروحي والمعنوي للأغلبية الساحقة من البشر: وما ينتج عن ذلك من اختلال في موازين القيم.

ثالثاً: التوظيفات الأخلاقية للتشاؤمية والتفاؤلية في الاقتصاد:

يمكن التعرف على أثر التشاؤمية والتفاؤلية على الحياة الاقتصادية من خلال العناصر التالية:

<!--التوظيفات الأخلاقية للتشاؤمية في الاقتصاد الوضعي:

     يمكن القول إن التشاؤمية في الفكر الاقتصادي الوضعي الفهم تحمل بصمة أخلاقية سالبة فكراً وسياسة وتطبيقاً، وذلك لما لها من أثر على التكوين الفكري لرواد الفكر الوضعي مما ينعكس على النظريات والسياسات الاقتصادية والسكانية التي جعلت المشكلة السكانية على نحو ما تصورها روبرت مالتس ضمن الأسس الفكرية لهذه العولمة، وجعل الإنسان الذي يؤمن بالفكر الوضعي لا يسع غيره أخلاقياً حيث يجعله دائماً وأبداً في تنافس وصراع مع الغير للحصول على نصيبه ن الموارد الاقتصادية.

<!--التوظيفات الأخلاقية للتفاؤلية في الاقتصاد الإسلامي:

 يمكن القول إن التفاؤلية في الفكر الاقتصادي الإسلامي تغرس قيماً أخلاقية موجبة، منها:

<!--الإيمان بأن الموارد الاقتصادية متوازنة مع البشر الموجودين على الأرض يجعل المسلم يسع الغير أخلاقياً؛ وهذا الأمر في غاية الأهمية. ولبيان هذه الأهمية نشير إلى قولٍ لفيلسوف فرنسا سارتر عندما قال: (الجحيم هم الآخرون). والمسلم لا يرى أن جحيميه هو الآخرون.

<!--الإيمان بالتفاؤلية في الاقتصاد بتوازن الموارد الاقتصادية مع السكان يجعل العمل هو القيمة الحاكمة في حصول كل إنسان على نصيبه من هذه الموارد؛ وبذلك لا تصبح الحرب وسيلة لأن يكون للإنسان نصيب في الموارد الاقتصادية، بل يصبح العمل هو الوسيلة، وهذه هي أحد القيم الموجبة في الاقتصاد، بل الحاكمة لقيم أخرى في الاقتصاد.

<!--الإيمان بالتفاؤلية في الاقتصاد فيما يتعلق بكفاية الموارد الاقتصادية لكل السكان هو الأساس الذي يقوم عليه السلام الاجتماعي في داخل المجتمع؛ وهذا الأمر يفهم بالإحالة إلى التطبيقات التي تلازمت مع التشاؤمية، ففي ظل التشاؤمية عملت فئات من السكان على طرد فئات من السكان لترك الوطن، محتجين بأن الموارد المتاحة ليست كافية لإعاشة الجميع، وقد استخدمت في عملية الطرد هذه ضغوط اقتصادية قاسية، وأحياناً ضغوط غير اقتصادية. بينما التفاؤلية في الاقتصاد المؤسسة على أن الموارد متوازنة مع البشر هي الأساس الذي يبنى عليه السلام الاجتماعي.

<!--التفاؤلية تعني أن الفقر قابل للقضاء عليه بالموارد الاقتصادية المتاحة، بينما تعني التشاؤمية أنه لا يمكن القضاء على الفقر؛ حيث أن الذي يؤمن بالتشاؤمية لا يكون قادراً على تقديم حلول فعالة للقضاء على الفقر، لأن وجود عالم بلا فقر لا يسعه تكوينه العقلي، وفي مقابل ذلك فإن الذي يؤمن بالتفاؤلية هو القادر على أن يسع فكرياً إمكانية وجود عالم بلا فقر، وبالتالي يستطيع أن يضع السياسات الاقتصادية التي تحقق ذلك.

dralaabasuony

dralaabasuony
يهدف هذا الموقع إلى تنشيط الثقافة العلمية وفتح المجال المناقشات العلمية البناءة من أجل إثراء المعرفة والعلمية وخدمة المجتمع، وذلك من خلال مناقشة العديد من الموضوعات الاقتصادية والاجتماعية »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

20,480