د.علاء البسيوني

يهتم الموقع بنشر الثقافة العلمية خاصة في مجال العلوم الاقتصادية والاجتماعية، والاقتصاد الإسلامي.

authentication required

    بقلم د.علاء بسيوني

أولاً: المشكلة الاقتصادية في الفكر الوضعي:

لا يتفق الفكر الوضعي على مفهوم محدد لعلم الاقتصاد وأفضل المفاهيم التي يعتمد عليها الكتاب لا يجد إجماعا عليه، بعكس كثير من العلوم الأخرى التي استقرت مفاهيمها. ولعل ذلك يرجع إلى الحداثة النسبية لعلم الاقتصاد أو موضوع العلم وهو السلوك الإنساني ذلك السلوك الذي يصعب وضعه في قوالب محددة جامدة أو لغير ذلك من الأسباب. وعلى أية حال فإن معظم الكتاب يرون فيما قدمه "ليونيل روبنز" مفهوماً مناسباً، حيث يرى أن علم الاقتصاد: هو العلم الذي يدرس السلوك الإنساني كعلاقة بين الموارد النادرة ذات الاستعمالات البديلة والحاجات أو الرغبات الإنسانية غير المتناهية.

ويرون من مزايا هذا المفهوم على غيره من المفاهيم التي قدمت لعلم الاقتصاد، أنه يضع أيدينا على أركان المشكلة الاقتصادية، تلك المشكلة التي تتألف في نظرهم من عنصرين هما: ندرة الموارد، وعدم تناهى الحاجات الإنسانية، وضرورة الاختيار بين البدائل المتاحة لإشباع هذه الحاجات وبالتالي فإن:

<!--السبب في نشأة علم الاقتصاد: هو وجود المشكلة الاقتصادية.

<!--المشكلة الاقتصادية: هي أن حاجات البشر ورغباتهم أكبر مما هو متاح لهم من موارد.

(الحاجات الإنسانية > الموارد المتاحة) وسوف ندرس كل منهما على حده.

الجانب الأول: الحاجات الإنسانية:

وهي تعبر عن حاجات البشر ورغباتهم، وتتميز بأنها متنوعة ومتجددة ولا حصر لها، وفيما يلي عرض لأهم خصائص الحاجات الإنسانية:

<!--أنها قابلة للإشباع: فالشخص الذي يشعر بحاجة إلى الطعام ويحصل عليه ويستهلكه يشعر بحالة من الإشباع ولو مؤقتة تثنيه عن الرغبة في الحصول على المزيد من هذه السلعة أو الخدمة.

<!--أنها تكون متجددة "متكررة": حيث أن أثر الإشباع يكون مؤقت وسرعان ما تتجدد رغبة الإنسان في الحصول على السلعة أو الخدمة التي سبق واستهلك منها ما أشبع حاجته في المرة الأولى كالطعام. 

<!--أنها قابلة للتطور من حيث الزمان والمكان: حيث أن الإنسان في حالة إشباعه لحاجة معينة كالغذاء والمسكن والملبس فإنه سرعان ما يبدأ في التطلع لما هو خير منها في المستقبل. كما أن التطور التاريخي يحكم إلى حد كبير نوع الحاجات الإنسانية وكيفية إشباعها، كما تتأثر الحاجات الإنسانية بعنصر المحاكاة والعادات والتقاليد فالحاجات الإنسانية للأفراد في العصور الوسطي تختلف عن حاجات الأفراد في العصر الحاضر ومن وقت لأخر.

<!--أنها عادة ما تكون متنافسة " حيث يكون إشباع واحدة منها على حساب إشباع الحاجات الأخرى كالأرز والمكرونة. أو متكاملة " كالشاي والسكر".

وتنقسم الحاجات الإنسانية إلى:

<!--حاجات خاصة: تهدف إلى إشباع حاجة خاصة بفرد معين.

<!--حاجات عامة " للمجتمع ككل ": ويتم إشباعها عن طريق الحكومة حيث لا يقبل الأفراد على الإنفاق عليها كالدفاع والأمن.

الجانب الثاني: الموارد الاقتصادية:

هي كل ما يتم الحصول عليه بمقابل مادي، وله سعر. أو هي كل ما يمكن أن يحقق منفعة مباشرة أو غير مباشرة أو غير مباشرة للإنسان، بشرط أن يكون نادراً ندرة نسبية. ويطلق على الموارد الاقتصادية (عناصر الإنتاج) وتقسم إلى ما يلي:

<!--عنصر الأرض: يقصد به جميع الموارد الاقتصادية التي خلقها الله تعالي وجعلها تحت أيدينا دون أن يكون للإنسان دخل في وجودها، فهي تشمل كل ما في الأرض من موارد طبيعية سواء داخلها أو خارجها.

<!--عنصر العمل: وهو كل مجهود ذهني أو جسماني يقوم به الأفراد بهدف الإنتاج المفيد من الناحية الاقتصادية.

<!--عنصر رأس المال: يقصد به الموارد التي أنتجها الإنسان من أجل مساعدته في العملية الإنتاجية كالآلات والمعدات والجسور والمباني. مع الإشارة إلى أن اعتبار سلعة ما ضمن عنصر رأس المال يتوقف على الغرض من انتاجها وطريقة استخدامها، فالسيارة على سبيل المثال إذا تم استخدمها في نقل السلع والخدمات أو العمال من مكان لأخر تعد سلعة رأسمالية، أما إذا استخدمت لأغراض التنقلات الشخصية كانت سلعة استهلاكية.

<!--عنصر التنظيم: ذلك النوع مع العمل الذي يقوم به المنظمون (رجال الأعمال) في التأليف بين عناصر الإنتاج من أجل القيام بالعملية الإنتاجية في سبيل الحصول على الربح.

وفي حالة توزيع العائد من العملية الإنتاجية على عناصر الإنتاج التي ساهمت في العملية الإنتاجية وفقا لمفهوم الاقتصاد الوضع يكون نصيب كل من هذه العناصر على التوالي (الريع "الإيجار" – الأجر – الفائدة – الربح أو الخسارة) بينما في الاقتصاد الإسلامي يكون التوزيع كما يلي (الريع "الإيجار" – الأجر – الأجرة – الربح أو الخسارة).

خصائص المشكلة الاقتصادية:

<!--الندرة النسبية للموارد: ويجب التفرقة بين الندرة النسبية والندرة المطلقة:

<!--الندرة المطلقة: تعنى عدم توافر المورد في الطبيعة.

<!--الندرة النسبية: تعنى أن المورد متوافر في الطبيعة ولكن ليس بالقدر الذي يكفي لإشباع كل الحاجات الإنسانية، وهي مجال علم الاقتصاد.

<!--الاختيار بين البدائل: ويعني أنه بما أن رغبات الأفراد والمجتمعات متعددة ويتم إشباعها بموارد محدودة، فإن هذه الرغبات تكون متضاربة مع بعضها، مما يتطلب ضرورة الاختيار بين الرغبات المختلفة أيها يتم إشباعه أولاً، وأيها يمكن تأجيله أو التضحية به. 

<!--التضحية: فحيث أن الموارد الاقتصادية ذات استخدامات بديلة، فأن استخدام مورد معين في مجال معين يكون على حساب التضحية باستخدامه في المجالات الأخرى. وتجدر الإشارة إلى أن التخفيف من حدة المشكلة الاقتصادية يتطلب تحقيق أقل تضحية ممكنة.  

يستنتج من ذلك أن السبب في نشأة علم الاقتصاد هـو وجود المشكلة الاقتصادية والسبب فيها هو الندرة النسبية للموارد.

الهدف من دراسة المشكلة الاقتصادية:

هو التخفيف من حدتها، وذلك من خلال الإجابة على التساؤلات الآتية:

<!--ماذا ننتج؟ أي ما هي السلع والخدمات التي سوف ننتجها، وما هي السلع والخدمات التي يمكن تأجيل إنتاجها أو الاستغناء عنها، وما هي الكميات التي سوف ننتجها من كل نوع.

<!--كيف ننتج؟ وهو سؤال يتعلق باختيار الطريقة التي سوف ننتج بها ما قررنا إنتاجه من السلع والخدمات، ويتوقف ذلك على المقارنة بين تكلفة استخدام عناصر الإنتاج، ونسب استخدامها في الإنتاج.

<!--لمن ننتج؟ وهو سؤال يتعلق بكيفية توزيع ما تم إنتاجه من سلع وخدمات، هل يتم توزيعه بالتساوي على أعضاء المجتمع، أم على حسب المساهمة في عملية الإنتاج، أم على حسب الملكية. والإجابة على هذا السؤال تختلف من مجتمع لأخر باختلاف الأنظمة الاقتصادية والسياسة السائدة.

<!--[if !supportLists]-->o    متى ننتج؟ وهو سؤال يتعلق بالفترة الزمنية للإنتاج هل ستخـصص الموارد لإنتاج السلع الاستهلاكية الحاضرة، أم ستخـصص لإنتاج سلع استثمارية تهدف إلى زيادة الإنتاج في المستقبل.

 أسلوب مواجهة المشكلة الاقتصادية في النظم الاقتصادية:

<!--النظام الرأسمالي: يؤمن بالحرية الاقتصادية لذلك يتولى جهاز الأسعار (الطلب والعرض) مسئولية مواجهة المشكلة الاقتصادية، لأنه من وجهة نظرهم يعكس رغبات المستهلكين، ويحقق الاستغلال الأمثل للموارد الاقتصادية المتاحة. إلا أن تحقيق ذلك يتطلب حرية انتقال عناصر الإنتاج بسهولة ويسر من نشاط لآخر، ويتطلب التوافق بين المصلحة الخاصة والمصلحة العامة.

<!--النظام الاشتراكي: يؤمن بالملكية العامة والتخطيط الاقتصادي لذلك يكون جهاز التخطيط في هذا النظام هو المسئول عن مواجهة المشكلة الاقتصادية، حيث أن هيئة التخطيط القومي تكون مسئولة عن عناصر الإنتاج ولديها من الدراسات الاقتصادية ما يمكنها من تقدير احتياجات المجتمع.

<!--النظام الاقتصادي الإسلامي: لا يؤمن بالمشكلة الاقتصادية على النحو الذي عرضناه في الفكر الوضعي، أي بندرة الموارد وتعدد الحاجات، ولكن المشكلة من وجهة نظر الاقتصاد الإسلامي هي مشكلة أخلاقية، تشمل ظلم الإنسان للإنسان، وسوء توزيع الدخل والثروة والموارد الاقتصادية المتاحة، وعدم الاستخدام الأمثل للموارد الاقتصادية، وذلك على النحو الذي سوف يتم دراسته في الدرس التالي.

ثانياً: المشكلة الاقتصادية وموقف الإسلام منها:

يختلف أساس المشكلة الاقتصادية ومرجعها في الفكر الإسلامي عن أساسها ومرجعها في الفكر الوضعي في الفكر الإسلامي، وهذا ما يلقي بظلاله على كل جوانب الدراسة الاقتصادية لدرجة أنه يمكن القول إن المشكلة الاقتصادية هي أساس الاختلاف بين الفكر الوضعي والفكر الإسلامي. وللتعرف على طبيعة هذا الاختلاف يمكن النظر إلى أسس المشكلة الاقتصادية ومرجعها في الفكر الوضعي وموقف الإسلام منها، وذلك على النحو التالي:

الأساس الأول: الندرة النسبية للموارد الاقتصادية:

يتمثل الأساس الأول للمشكلة الاقتصادية في الفكر الوضعي في الإيمان بندرة الموارد في الطبيعة بمعنى أن الموارد الاقتصادية المتاحة للإنسان إذا نسبت إلى احتياجاته منها فإنها لن تكون كافية لإشباعها وهذا ما يعرف بالندرة النسبية، فهل هذا الأساس مقبول إسلاميا أم لا؟

يقوم موقف الإسلام من الموارد الاقتصادية على الإيمان بأن الله تعالى أودع في الأرض من الموارد ما يكفي الإنسان، حيث يقول الله تعالى للبشر{وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإنسان لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} (إبراهيم: الآية: 34) كما يقول سبحانه عن الأرض { وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} (فصلت: الآية: 10) فالآية الأولى تقرر أن الإنسان قد منح كل ما تحتاجه حياته، وكل ما تتطلبه فطرته التي فطره الله تعالى عليها، والآية الثانية تقرر أن الله تعالى قد بارك في الأرض، ووضع فيها أقوات أهلها بدقة وإحكام، وأن هذه الأقوات متاحة لكل من يطلبها بوسائلها، ويسألها بقوانينها، وعليه فإنه لا يقبل إسلامياً القول بإن الموارد الاقتصادية المتاحة في الأرض أقل من حاجة الناس إليها، أي لا يقبل القول بندرة الموارد في الأرض.

ونستشهد بكتاب لمؤلفين بريطانيين هما فرانسيس مورلاييه وجوزيف كولينز يحمل عنوانا ذا دلالة في موضوع المشكلة الاقتصادية وهو (صناعة الجوع "خرافة الندرة") خلص إلى أن الاقتصاد الوضعي خلق الندرة وصدقها واتخذ منها سببا للمشكلة الاقتصادية والجوع في العالم، وأنها صناعة يمارسها البعض ويربح من ورائها كما يربح من صناعة السلاح وصناعة السجائر، ولقد لخص مؤلفا الكتاب خلاصة عملهما في قولهما: أثناء دراستنا وقراءاتنا ورحلاتنا وأحاديثنا وجدنا أن مفاهيم الندرة والذنب والخوف تقوم على أساس الخرافات وتعلمنا أنه ما من بلد في العالم يعد سلة غذاء ميؤوس منها، إن الضغط الرئيسي على إنتاج الغذاء هو التفاوت الكبير في السيطرة على موارد الغذاء في العالم، إذ تتناقص باستمرار سيطرة الجياع على عملية الإنتاج، والنتيجة تبديد هائل: قلة استخدام الأرض توسع المحاصيل الترفيه وغير الغذائية لإطعام غير الجائعين فعلاً، وإطعام أكثر من ثلث إجمالي قمح العالم وما لا يقل عن ربع صيد العالم من الأسماك للماشية، وطالما ظل لدينا نظام يقوم بنشاط يخلق الندرة من قلب الوفرة فإن القول بأننا نبلغ الحدود القصوى للطبيعة أسوأ من مجرد التضليل فالإيحاء بذلك يسمح للنظام الحالي الذي يولد الندرة بالاستمرار دون أن يفهم على حقيقته وفي نفس الوقت يجرى خداع الناس بصورة مرعبة عن النقص والانفجار السكاني.

ولا شك أن الذي أوقع الفكر الوضعي في هذه المسألة والقول بندرة الموارد الاقتصادية هو الخلط بين مفهوم الموارد الاقتصادية والسلع والخدمات، ذلك أن الإنسان لا يشبع حاجاته باستخدام الموارد الاقتصادية المتاحة مباشرة، حيث أن الله تعالى قد خلق الموارد الاقتصادية المتاحة (في معظمها) في صورة غير صالحة للإشباع المباشر للحاجات الإنسانية وإنما تحتاج إلى جهد الإنسان لكي يشتق منها السلع والخدمات التي تشبع حاجاته، ومن ثم فإن القول بأن الموارد غير كافية لإشباع الحاجات فيه قفز فوق مرحلة الإنتاج، وفيه تجاهل لدور الإنسان وتحميل المسئولية على الطبيعة والأرض وتبرئة لساحة الإنسان، وهذا خطأ واضح يقع فيه الفكر الوضعي ويصر عليه.

فليس هناك دليل مادي ولا منطق عقلي يعتمد عليه في القول بندرة الموارد الاقتصادية في الطبيعة وأنها أقل من احتياجات البشر إليها، لأننا ننسب الموارد الاقتصادية إلى حاجات الإنسان مع أن الذي ينبغي أن ينسب إليها هو الإشباع المباشر (السلع والخدمات) وليست الموارد، ومن ثم فإنه إذا حدث نقص في الإشباع فإن المسئول عن ذلك هو جهاز الإنتاج، الذي يقوم باشتقاق السلع والخدمات من الموارد الطبيعية بواسطة الجهد الإنساني، أي أنه إذا حدث نقص في الإشباع فإن المسئول عنه هو الإنسان وليست الموارد المتاحة. وللتدليل على وفرة الموارد الاقتصادية يمكن الرجوع إلى النقاط التالية:

<!--إن الموارد قد تكون وفيرة جداً في بلد ما ومع ذلك يعاني أهله من شظف العيش وانخفاض مستوى المعيشة: لأن البشر لم يستخدموا موارد الله تعالى الوفيرة في اشتقاق السلع والخدمات، وهذا هو الحال في الدول النامية، وعلى العكس من ذلك فقد تكون إحدى الدول (مثل اليابان) ذات موارد أقل من غيرها ولكن جهد البشر فيها يستطيع أن يشتق من هذه الموارد الكمية الكافية من السلع والخدمات لتحقيق مستوى طيب من المعيشة لسكانها.

<!--متى تم إحصاء الموارد الاقتصادية المتاحة حتى نقول بندرتها؟ ومن هو الذي قام بإحصاء دقيق للموارد الاقتصادية المتاحة في الأرض ثم نسبها إلى حاجات البشر على ظهرها وتبين له عدم كفاية الموارد للوفاء بهذه الحاجات؟ الإجابة: أن شيئاً من ذلك لم يحدث ومن ثم فإن القول بندرة الموارد الاقتصادية هو مجرد فرض لم تثبت صحته، ولن يمكن إثباته في أي يوم من الأيام، وإلا فمن ذا الذي يستطيع أن يحصر الموارد في المحيطات ومن الذي يمكنه تقدير حجم المعادن في باطن الأرض وفي كل يوم يكتشف من الموارد ما لم يكن معروفاً من قبل.

<!--إن البشر إذا استنفدوا موردا من الله عليهم بمورد بديل بناء على تقدير دقيق من حكيم خبير: فعندما لم تعد طاقة الحيوان كافية للوفاء بحاجة الإنسان فتح الله عليه بمعرفة الآلة واستخدام الفحم في إدارتها، وعندما أوشك الفحم على النفاذ عرفه الله تعالى على البترول كطاقة، وإذا انتهى عصر البترول فهناك الطاقة النووية وإذا كانت تقبل النفاد فهناك الطاقة الشمسية وهي لا تنتهي قبل أن ينتهي عمر الأرض. وهكذا في كل الميادين ما إن يوشك مورد على النفاد حتى يمن الله تعالى على البشر بمورد بديل تحقيقاً لقوله تعالى عن الأرض (وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ) (فصلت: الآية: 10)، ثم أن البشر أنفسهم هم أعظم مورد اقتصادي على وجه الأرض.

<!--إن موقف الفكر الوضعي يلقى بالمسئولية على الطبيعة ويصفها بالشح والبخل ويبرئ ساحة الإنسان، أما موقف الفكر الإسلامي فإنه يلقى بالمسئولية على الكائن المكلف بعمارة الأرض، أي على الإنسان لأن الله سبحانه وتعالى تفضل عليه وأودع في الأرض من الموارد الاقتصادية ما يكفيه، فإذا حدث نقص في الإشباع فإن المسئول عنه هو سلوك الإنسان وليس نقص الموارد في الأرض، لذلك يقول الله تعالى معقباً على تقريره بأنه أعطى الإنسان كل ما يحتاج إليه في حياته على ظهر الأرض: {إِنَّ الإنسان لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} (إبراهيم: الآية: 34) فهذا التعقيب إجابة عن سؤال مقدر هو: كيف يكون الله تعالى قد أعطى الإنسان كل ما يحتاجه إليه في حياته ثم نشاهد نقص الإشباع بل نشاهد المجاعات في بعض الأماكن؟ الإجابة هي: إن الإنسان لظلوم كفار، أي أنه إذا حدث نقص فإن السبب هو الإنسان إما لكفرانه بنعم الله تعالى وعدم استخدامه الموارد المتاحة أو استخدامها في غير ما خلقت له، وإما لتظالم البشر واستئثار البعض بما يزيد عن حاجاته (دولة كان أو فرداً) وحرمان الآخرين، أي أن نقص الإشباع إما أن يرجع إلى الكفر بنعم الله تعالى بعدم بذل الجهد المطلوب في تحويل الموارد إلى سلع وخدمات، أو يرجع إلى الظلم باحتجاز واحتكار السلع والخدمات بعد أن تم بذل الجهد، ولا يخرج النقص في الإشباع عن واحد من هذين السببين.

<!--إن القول بندرة الموارد الاقتصادية المتاحة كالقول بعدم وجود حل للمشكلة الاقتصادية: وذلك في الفكر الوضعي، إما في الفكر الإسلامي فإن المشكلة الاقتصادية ترجع إلى سلوك الإنسان ويترتب على ذلك أن المشكلة الاقتصادية في ظل الإسلام يمكن حلها، أما في ظل الفكر الوضعي فهي غير قابلة للحل لأنها ترجع إلى ما لا علاقة للإنسان به ولا قدرة له عليه وهو عدم وجود الموارد بالقدر الكافي لإشباع الحاجات. وإذا وجد حل في ظل الفكر الوضعي فإنه ينطوي على الحرمان بمعنى أن الإنسان عليه أن يتخلى عن إشباع بعض احتياجاته في مقابل أن يشبع بعضها الآخر، أما الحل في ظل الفكر الإسلامي فإنه لا ينطوي على شيء من الحرمان لأن الموارد تكفي الجميع إذ أن الحاجات محدودة وما على الإنسان إلا أن يبذل القدر الكافي من الجهد لكي يشتق منها السلع والخدمات التي تشبع كل حاجاته.

وتجدر الإشارة إلى أنه إذا كان الفكر الوضعي قد خلط في هذه القضية بين مفهوم الموارد الاقتصادية والسلع والخدمات مما ترتب عليه القول بندرة الموارد الاقتصادية، فإنه قد خلط أيضا بين مفهوم الحاجة والرغبة مما ترتب عليه القول بعدم تناهى الحاجات وهذا هو سبب نشأة الأساس الثاني للمشكلة الاقتصادية في الفكر الوضعي.

الأساس الثاني: عدم تناهى الحاجات الإنسانية:

يؤمن الفكر الوضعي بعدم تناهى الحاجات الإنسانية زاعماً بأن حاجات البشر ورغباتهم لا تقف عند حد، وأنه كلما أشبع الإنسان حاجاته ظهرت له حاجات جديدة ناهيك عن كرر نفس الحاجة مرة أخرى، أي أنها تعاود الظهور كلما أشبعت. أما الموقف الإسلامي من الحاجات الإنسانية فإنه يختلف عن ذلك اختلافاً جذرياً، حيث أنه يرى أن حاجات الإنسان تقبل الإشباع، وأنها يجب أن تقف عند حد معين لا تتجاوزه، وأن الذي لا يقبل الإشباع هو رغبات الإنسان وليس حاجاته، إذ أن الحاجة هي كل ما يحتاجه الإنسان في بناء حياته، أما الرغبة فهي كل ما يرغب فيه الإنسان ويجب الحصول عليه سواء كان بانياً لحياته أم مدمراً لها، فالرغبة الإنسانية تنقسم في المفهوم الإسلامي إلى:

<!--رغبة مشروعة: وهي التي تساهم في بناء الحياة وتمثل حاجة من حاجات الإنسان، كالطعام والشراب.

<!--رغبة غير مشروعة: وهي التي وإن رغب الإنسان في الحصول عليها فإنها لا تساهم في بناء الحياة بل ربما تكون مدمرة لها، كالسجائر والخمر والمخدرات، وأكل لحم الخنزير.

والذي يساهم في بناء الحياة الإنسانية ويعد حاجة من الحاجات الإنسانية محدود ومن ثم يكون متناهياً، ولا مجال للقول بأن الحاجات الإنسانية غير متناهية كما يقول الفكر الوضعي إذ هي محدودة وتقبل الإشباع كما يقول الفكر الإسلامي.

والحقيقة أن الذي أوقع الفكر الوضعي في هذا الخطأ هو الخلط بين مفهوم الرغبة والحاجة الإنسانية وإلباس الحاجة خصائص الرغبة، وهذا الخلط لدى الفكر الوضعي يرجع في الأساس إلى أنه يجعل من الإنسان مصدر التشريع ومعياراً لتحديد الصواب والخطأ، ومن ثم فكل ما يرغب الإنسان فيه ويحب الحصول عليه يجب على الموارد الاقتصادية أن تفي به، ورغبات الإنسان لا تقف عند حد، ومن ثم فمهما يبلغ حجم الموارد فلن يفي برغبات الإنسان، ومن هنا تظهر المشكلة الاقتصادية أما إذا قبلنا بالموقف الآخر في الفكر الإسلامي (وهو الصواب) وأن الرغبات لا ينبغي الخضوع لها إلا في الحدود البانية للحياة الإنسانية، وأن الرغبات غير المشروعة لا ينبغي الخضوع لها أو الاقتراب منها فإن الموارد تكون كافية بل تكون أكثر من حاجة الإنسان إليها.

ولقد قرر النبي ﷺ حقيقة عدم تناهى الرغبات ومحدودية الحاجات عندما قال: (ولَوْ أنَّ لِابنِ آدمَ وادِيًا من مالٍ، لابْتَغَى إليهِ ثانيًا، ولَوْ كان لهُ ثانيًا، لابْتَغَى إليهِ ثَالِثًا، ولا يَمْلَأُ جَوْفَ ابنِ آدمَ إِلَّا التُّرَابُ، ويَتُوبُ اللهُ على مَنْ تابَ)(<!--)، فالإنسان يرغب أن تكون له أودية من ذهب تتلوها أودية، ولكن هل هو في حاجة إلى هذه الأودية؟ بالقطع لا. ومع ذلك فإنه يرغب فيها ولا تنتهي رغبته عند تملكها بل يطلب من الأودية المزيد ولا تنتهي هذه هي الرغبة ولا تقف عند حد، أما الحاجة الإنسانية فقد أقرها النبي ﷺ بقوله (مَن أصبحَ منكم آمنًا في سربِهِ، مُعافًى في جسدِهِ عندَهُ قوتُ يومِهِ، فَكَأنَّما حيزت لَهُ الدُّنيا)(<!--) وهذه هي الحاجات الإنسانية التي أقرها النبي ﷺ تتمثل في؛ الأمن، والصحة، والقوت، وما يستلزمه تحقق هذه الثلاثة، وهي حاجات محدودة بلا شك.

يتضح من ذلك أن الحاجات في الفكر الإسلامي تقتصر على ما يبنى الحياة الإنسانية، وإشباع الرغبات المشروعة التي تسهم في بناء حياة الإنسان على وجه الأرض وجعلها أفضل وأقوم دون أن تصل إلى إشباع الرغبات غير المشروعة التي تكون مدمرة للحياة الإنسانية. فإذا عمد الإنسان إلى إشباع الرغبات غير المشروعة، وأطلق لنفسه العنان في ذلك، فإنه لن يجد ما يشبع كل هذا النهم ويحل به نقص الإشباع قطعاً، ليس لأن الحاجات غير متناهية وإنما لأنه تجاوز الحد بإشباعه الرغبات غير المشروعة، تلك التي لن تشبع في يوم من الأيام لأنها غير قابلة للإشباع في أصل خلقتها.

ومن ثم فإن المشكلة الاقتصادية من وجهة نظر الفكر الإسلامي ترجع إلى سلوك الإنسان وليس إلى بخل الطبيعة، حيث أن الموارد كافية ولكنها في حاجة إلى أن تصان من العبث بها أو إهدارها فيما لم تخلق له، ومن ثم فإن سلوك الإنسان حيالها يجب أن يخضع لتعليمات الله تعالى، لأنها هي الكفيلة بالمحافظة عليها من الإهدار أو التضييع فإذا اتصف سلوك الإنسان بشيء من ذلك فإن نقص الإشباع سيحل به ليس لأن الموارد غير كافية وإنما لأنه لم يستخدمها أو استخدمها في غير ما خلقت له، أي أهدرها فلم يستخدمها أو عبث بها وضيعها باستخدامها في غير ما خلقت له.

يستنتج مما سبق أن الحاجة وفقاً للفكر الوضعي هي شعور الفرد بأن شيئاً ما ينقصه ويحاول التخلص منه، فشعور الفرد بالحاجة للطعام يتساوى مع حاجته إلى الخمور مثلاً. بينما في الفكر الإسلامي فإن الحاجة تعني مطلب للإنسان تجاه الموارد بقصد إنماء طاقته وعمارة الكون، لأنه خلق لهدف العبادة والعمارة.

كما أن علم الاقتصاد في الفكر الوضعي هو العلم الذي يدرس سلوك الإنسان باعتباره علاقة بين موارد محدودة ورغبات متعددة، بحيث يحاول الفرد استخدام الموارد المحدودة والنادرة ذات الاستخدامات البديلة في إشباع الرغبات المختلفة. بينما علم الاقتصاد في الفكر الإسلامي هو العلم الذي يدرس الطريقة التي يتم بها ترشيد سلوك الفرد عند استخدامه الموارد لإشباع حاجاته وفق الضوابط الشرعية.


<!--[endif]-->

<!--))  محمد بن عيسى بن سورة الترمذي، الجامع الصحيح (سنن الترمذي)، مرجع سابق، برقم: 3793.

<!--))  محمد ناصر الدين الألباني، صحيح سنن الترمذي، تحقيق: زهير الشاويش، مكتب التربية العربي لدول الخليج، ط 1، 1408هـ، برقم: 2346.

 

dralaabasuony

dralaabasuony
يهدف هذا الموقع إلى تنشيط الثقافة العلمية وفتح المجال المناقشات العلمية البناءة من أجل إثراء المعرفة والعلمية وخدمة المجتمع، وذلك من خلال مناقشة العديد من الموضوعات الاقتصادية والاجتماعية »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

20,480