بقلم د.علاء بسيوني
تبين من خلال ما سبق أن أمور الاقتصاد في الإسلام تصنف في مجموعتين: المجموعة الأولى: وتشمل كل ما يتعلق بالجوانب الفنية، والمجموعة الثانية: تشمل كل ما يعمل على علاقة الإنسان بأخيه الإنسان والتي من خصائصها الثبات فهي لا تخضع للتطور، وأن الأحكام الفقهية الاقتصادية التي تختص بهذه المجموعة ثابتة، وقد تمت الإشارة إلى أن ثبات الحكم في هذه المجموعة الاقتصادية لا يمنع التطور أو يعطله، وأن اعتبار كل ما جاء به الإسلام يحفز التطور والتقدم مع ثبات الحكم. وفي هذه الفقرة نواصل التعرف إلى المجموعة الثانية في الاقتصاد التي تعمل على علاقة الإنسان بأخيه الإنسان التي تستهدف تحقيق العدل. والعناصر الجديدة التي نرى إضافتها تشمل طبيعة الحكم الفقهي الاقتصادي وطبيعة هدفه.
أولاً: الطبيعة الكلية للحكم الفقهي الاقتصادي واستيعاب التطور:
الحكم الفقهي المتعلق بالعبادات من طبيعته أنه جاء على نحو مفصل تفصيلاً كلياً، ويمكن أن نتعرف على هذه الطبيعة المفصلة من الصلاة، لقد شرعت الصلاة على نحو مفصل تفصيلاً كاملاً في الكتاب والسنة: فذكرت ماذا نلبس أثناء الصلاة، وإلى أي جهة نتجه، وكيف ندخل في الصلاة، وماذا نقول فيها، والأعمال المشروعة من ركوع وسجود، وكيف نخرج من الصلاة، وهذا يبين أن الحكم في العبادات جاء مفصلاً تفصيلاً كاملاً.
أما الحكم الفقهي الاقتصادي فقد جاء في صورتين هما:
<!--الصورة الأولى: أحكام مفصلة تفصيلاً كاملاً مثل الميراث ومصارف الزكاة والثبات ومعه التفصيل هنا يهدف إلى تحقق العدل وتأمين التقدم ويرشده.
<!--الصورة الثانية: الأحكام ذات الطبيعة الكلية التي لا تخوض في التفصيلات، وذلك مثل قول الله عز وجل }وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (سورة البقرة: الآية: 275)، والهدف الذي يتحقق من كلية الحكم هو أن؛ التعميم الذي لا ينزل إلى التفصيلات الجزئية ولا يقيد الأجيال المقبلة بهذه التفصيلات والتطبيقات، بل يتركها حرة تقتبس الوضع الذي تتوافر فيه الملائمة العملية لحاجات كل زمان ومكان ما دامت تسوده التعاليم الكلية وينبثق عن توجهاتها. وهذه الطبيعة الكلية للحكم الفقهي الاقتصادي تحمل خاصيتين:(<!--)
<!--الخاصية الأولى: أن هذه الأحكام الكلية التي تعمل على أمور الاقتصاد ليست جامدة بحيث لا تقبل التطبيق إلا على أسلوب واحد، بل إنها تطبق في أنواع متعددة من العقود وتستوعب التطور.
<!--الخاصية الثانية: أن هذه الأحكام وإن كانت كلية إلا أن فيها درجة إلزام بالإيجاب أو المنع، فالزكاة ركن من أركان الإسلام وهي فريضة واجبة، بشأن الأموال التي تجب فيها الزكاة، وهي تتحدد بالقاعدة التالية: في كل مال نام حقيقة أو حكماً زكاة، فتحديد وعاء الزكاة على هذا النحو جعل الزكاة صالحة للتطبيق في كل زمان ومكان وقادرة على استيعاب التطور مع اختلاف الأنشطة الاقتصادية وتنوع الدخول وتنوع الثروات.
وبذلك فإن الحكم الفقهي الكلي الاقتصادي يسع تطبيقات متعددة مع الاحتفاظ بهدف الحكم، لهذا السبب فإنه لا يعطل التطور أو يمنعه، بل إنه يسع التطور لكنه تطور مرشد بهدف الحكم. والطبيعة الكلية للحكم الفقهي الاقتصادي تجعله يسع أنواعاً من المعاملات التي تستجد مع التطور والتي تتفق مع الشروط والأهداف التي قال بها الفقهاء.
ثانياً: طبيعة الهدف في الحكم الفقهي الاقتصادي وتحقيق العدل:
اهتم علماء الفقه وعلماء أصول الفقه ببيان الهدف من الحكم الفقهي على وجه العموم ويدخل في ذلك الحكم الفقهي الاقتصادي. يقول الإمام ابن تيمية؛ الهدف من فقه المعاملات هو إيجاب ما لابد منه وتحريم ما فيه فساد".(<!--) ويقول الإمام الشاطبي عن هدف الحكم الفقهي الاقتصادي تحقيق المقاصد الشرعية الثلاثة: الضرورية والحاجية والتحسينية. ويقول: أما الضرورة: فمعناها أنها لابد منها في قيام مصالح الدين والدنيا بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة بل على فساد وفوت حياة وفي الآخرة فوت النجاة والنعيم والرجوع بالخسران المبين، وهذا النوع من المقاصد جار في العبادات والمعاملات، ومن هذه المقاصد الضرورية في المعاملات انتقال الأملاك بعوض أو بغير عوض. أما المقاصد الحاجية: فإنه يفتقر إليها من حيث التوسعة ورفع الضيق المؤدي في الأغلب إلى الحرج والمشقة اللاحقة بفوت المطلوب، فإذا لم تراع دخل على المكلفين على الجملة الحرج، وهي جارية في العبادات والمعاملات، ومن أمثلتها في المعاملات القراض والمساقاة والسلم. أما المقاصد التحسينية: فمعناها الأخذ بما يليق من محاسن العادات وتجنب الأحوال التي لا تليق بالعقول الراجحة، وهي تجمع في قسم مكارم الأخلاق، وجاءت في العبادات والمعاملات، ومن أمثلتها في المعاملات، منع بيع فضل الماء والكلأ.(<!--)
ونحاول أن نوظف هذه الآراء التي قال بها علماء الفقه وأصول الفقه عن طبيعة الهدف في الحكم الفقهي الاقتصادي، والمطلوب هو عمل التوظيف في الموضوع الذي نتكلم عنه وهو الاقتصاد الإسلامي وتحقيق العدل، والآراء التي ذكرت تدل صراحة على أن الحكم الفقهي الاقتصادي يستهدف صلاح حال الدنيا وصلاح حال الآخرة. فصلاح حال الدنيا يدخل فيه العدل والتقدم الاقتصادي، الذي تعود منافعه على جميع أفراد المجتمع.
ويتضح من ذلك أن طبيعة الهدف من الحل والحرمة في فقه الاقتصاد الإسلامي هو إقامة الحياة الاقتصادية على آداب حسنه من خلال تحريم ما فيه فساد، وإيجاب ما لا بد منه، وكراهة ما لا ينبغي، واستحباب ما فيه مصلحة راجحة، وأن هدف التشريع هو تحقيق مصالح الناس بكفالة ضرورياتهم وتوفير حاجياتهم وتحسينياتهم في المجتمع الذي يلتزم به.
ومن ثم فإن قضية كفاءة الاقتصاد الإسلامي تبدو في تحقيق القضية التي واجهها الإنسان ولا يزال يواجهها في كل زمان ومكان وهي قضية ذات ركنين: ركن تحقيق العدل من حيث علاقة الإنسان بأخيه الإنسان، وركن تحقيق التقدم من حيث علاقة الإنسان بالكون الذي خلقه الله له وكلفه بإعماره والمناقشة التي جاءت في البحث تثبت كفاءة الاقتصاد الإسلامي في تحقيق هذه القضية بركنيها.
<!--[endif]-->
<!--)) رفعت العوضي، فقه الاقتصاد الإسلامي وطبيعة التشريع فيه، مرجع سابق، ص301.
<!--)) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، ج 29، مرجع سابق، ص 15- 21.
<!--)) الشاطبي، الموافقات، ج 2، مرجع سابق، ص9.