د.علاء البسيوني

يهتم الموقع بنشر الثقافة العلمية خاصة في مجال العلوم الاقتصادية والاجتماعية، والاقتصاد الإسلامي.

    بقلم د.علاء بسيوني

يعد الإنتاج هو المحرك الأول لمستوى النشاط الاقتصادي، والمسؤول عن توفير السلع والخدمات التي يحتاج إليها المجتمع، وفيما يلي عرض سريع لمفهوم الإنتاج وأهدافه وضوابطه بين الاقتصاد الوضعي والإسلامي.

أولاً: مفهوم الإنتاج:

يعرف الاقتصاديون المعاصرون الإنتاج بمفهوم شامل بأنه (خلق المنفعة أو زيادتها) والتعريف بهذه الصياغة غير مقبول إسلامياً ولا يتفق مع حقيقة العملية الإنتاجية، ذلك أن للخلق في اللغة معنيان:

<!--أولهما؛ ابتداع الشيء على مثال لم يسبق إليه أو الإنشاء.

<!--ثانيهما؛ تقدير الأمور.

ولفظ الخلق الوارد في التعريف الاقتصادي للإنتاج ينصرف إلى إيجاد المنفعة وإنشاؤها من عدم، وهو لا يتفق مع الفكر الإسلامي الذي يطلق الخلق بهذا المعنى كصفة للَّه عز وجل دون غيره، فهو سبحانه الذي خلق الإنسان وما يعمل {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} (الصافات: الآية: 96) وخلق له الموارد {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} (البقرة: الآية: 29). وخلق المنافع من هذه الموارد {وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ} (النحل: الآية: 5)، {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} (الحديد: الآية: 25).

إذا فالجهد الإنساني في العملية الإنتاجية لا ينصرف إلى خلق المنفعة أو زيادتها بل ينصب على اكتشاف المنافع التي خلقها اللَّه في الموارد وتهيئتها بصورة تمكن من الانتفاع بها، وعلى ذلك يمكن تعريف الإنتاج من منظور إسلامي بأنه "بذل الإنسان جهده في الموارد لاكتشاف وتهيئة المنافع الموجودة بها". ومن ثم فالإنتاج يعنى تحويل المادة الخام أو نصف المصنعة إلى مادة تامة الصنع بحيث تحقق منفعة للفرد والمجتمع.

ثانياً: أهمية وضرورة الإنتاج في الإسلام:

مما لا شك فيه أن الإنتاج ضروري وهام لقيام حياة الإنسان حيث، أن اللَّه عز وجل خلق الموارد للإنسان في صورة يلزم معها صنعة الإنسان فيها حتى تصبح صالحة لإشباع حاجاته، ويتساوى في القول بذلك الفكر الوضعي والإسلامي، ولكن ما يميز الفكر الإسلامي في هذا المجال هو الارتقاء بالإنتاج وأهميته إلى درجة الوجوب الشرعي، بما له من إلزام ومسئولية أمام اللَّه عز وجل، يدل على ذلك ما يلي:

<!--أمر اللَّه عباده بإعمار الأرض؛ في قوله تعالى {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} (هود: الآية: 61) ويقول المفسرون في معنى ذلك أمركم من عمارتها بما تحتاجون إليه وفيه دلالة على وجوب عمارة الأرض للزراعة والغراس والأبنية. ولن يكون ذلك إلا بالنشاط الإنتاجي الذي أمر اللَّه به لأن "استعمركم فيها" أي طلب منكم عمارتها والطلب المطلق من اللَّه عز وجل لدى الأصوليين يدل على الوجوب.

<!--ما ورد عن رسول اللَّه في قوله (ما أَكَلَ أَحَدٌ طعامًا قطُّ، خيرًا من أن يأكلَ من عملِ يدِه، وإنَّ نبيَّ اللهِ داودَ عليهِ السلامُ كان يأكلُ من عملِ يدِه)(<!--)؛ وهذا ما يحث على العمل والإنتاج حتى يقوم به الإنسان بإشباع حاجياته، والإسلام يرتقي بالعمل إلى درجة العبادة لأنه بالعمل المنتج يستعين الإنسان على أداء باقي العبادات من صلاة وزكاة وصوم وحج .. إلخ، بل أن الرسول ﷺ في الحث على العمل والإنتاج يقول: (أطيبُ ما أكَلَ المؤمِنُ من عمَلِ يدِهِ)(<!--) (ما كسبَ الرَّجلُ كَسبًا أطيبُ من عملِ يدِه وما أنفقَ الرَّجلُ على نفسِه وأهلِه وولدِه وخادِمِه فهو صدَقةٌ)(<!--) وهذا ما يحث على العمل والإنتاج لابتغاء الرزق والثواب من الله تعالى، وينفر من البطالة حتى ولو كان لدى الإنسان ما يكفيه.

<!--أن لكل إنسان حقاً في أن يشبع حاجياته لكي يعيش ولكن في مقابل هذا الحق فإن عليه واجباً في أن يعمل لكي ينتج ما يحتاجه؛ ويصور أحد المفكرين المسلمين الحق في هذا المجال بأنه الاستهلاك والواجب بأنه الإنتاج، ويخلص من سرد قصة الرسول ﷺ مع السائل الذي أتاه يسأله يوما لقمة عيش فأشار عليه الرسول بأن يحتطب (ينتج) ليأكل من عمل يده وبذلك قدم الواجب وهو الإنتاج على الحق وهو الاستهلاك.

يستنتج من ذلك؛ أن الإسلام يرتقي بالإنتاج إلى درجة الوجوب الشرعي والعبادة الخالصة للَّه عز وجل، وبما أن الواجب مسئولية فإنه يثار تساؤل هنا حول على من تقع مسئولية الإنتاج في الإسلام وذلك ما سنوضحه في الفقرة التالية.

ثالثاً: المسئولية عن الإنتاج في الإسلام:

أن العمل في الإنتاج لابد أن يمارس على أنه مسئولية ذلك أنه إذا عدمت المسئولية فسد النظام، والقيام بأية مسئولية لابد أن يسبقها إقرار سلطة للمسئول بمعنى قدرته على تحمل المسئولية، ذلك أن المسئولية بدون سلطة تحميل فوق الطاقة وعجز عن أداء المسئولية، حيث تتطلب عملية الإنتاج مجموعة من العناصر هي؛ الموارد الاقتصادية، والقدرة على العمل والإنتاج، وبذل الجهد، والالتزام بالقيم. والموارد والقدرة في هذا المجال تمثلان السلطة، وبذل الجهد والالتزام بالقيم يمثلان المسئولية، إذا فمن يملك القدرة والموارد يكون هو المسئول عن الإنتاج، ولو نظرنا في النظم الاقتصادية المعاصرة طبقا لفلسفتها الأساسية نجد في النظام الرأسمالي تتركز الموارد في يد الأفراد (القطاع الخاص) وبالتالي فالإنتاج مسئولية القطاع الخاص طبقاً لفلسفة النظام، وفي النظام الاشتراكي تتركز الموارد في يد الدولة وبالتالي فالإنتاج مسئولية الدولة، أما في النظام الاقتصادي الإسلامي والذي يقر الملكية الخاصة والعامة وملكية الدولة فإننا نجد أن مسئولية الإنتاج تقع على كل من الإنسان الفرد والدولة وتتوزع هذه المسئولية طبقا للتحليل التالي:

<!--مسئولية الدولة عن الإنتاج:

أن دور الدولة في عملية الإنتاج أمر استراتيجي وهام وذلك لما تملكه من إمكانيات كبيرة وقدرة على التأثير في النشاط الاقتصادي القومي ومسئولية الدولة تتحدد هنا إجمالا في الآتي:

<!--القيام بتوفير القواعد الأساسية من المرافق العامة اللازمة لعملية الإنتاج: وذلك واجب أساسي ركز عليه المفكرون المسلمون مثل ما جاء في كتاب الإمام على بن أبى طالب إلى عامله على مصر الأشتر النخعي (وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج، لأن ذلك لا يدرك إلا بالعمارة ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد ولم يستقم أمره إلا قليلا)(<!--).

<!--ضرورة تدخل الدولة لمراقبة الإنتاج وللتأكد من أنه يوجه طبقاً للقيم الإسلامية: سواء من حيث اختيار مجالات الإنتاج أو أتباع الأساليب المشروعة والبعد عن الممارسات الحرام، ويدل على ذلك " نظام الحسبة " الذي كان أحد أركان الدولة الإسلامية ويقوم بوظيفة مراقبة الدولة للنشاط الاقتصادي في عمومه.

<!--ممارسة الدولة لبعض الأنشطة الاقتصادية: وإن كان بعض المفكرين المسلمين مثل ابن خلدون وابن الأزرق وأبو جعفر الدمشقي يرون إن اشتغال الدولة بالتجارة مضراً بالعمران مؤذن بخراب البلاد، إلا أن ذلك لا يمنع من القول إن الملكية العامة يجب أن تؤدى دورها ومسئوليتها في العملية الإنتاجية، على ألا تكون هي المنتجة الوحيدة بل يشترك معها الأفراد في تحمل هذه المسئولية، فالنظام الإسلامي والذي يقر الملكية الفردية والمشتركة يتسع لممارسة دور كل منها في الإنتاج.

<!--مسئولية الأفراد (القطاع الخاص) عن الإنتاج:

إن مسئولية الأفراد الذين يسر اللَّه لهم سبل امتلاك بعض الموارد الاقتصادية والقدرة البشرية (المال والعمل) عن الإنتاج مسئولية دينية، لما سبق قوله من أن الواجب على المسلمين إعمار الأرض ومن أن العمل المنتج في طلب الحلال يعتبر عباده خالصة للَّه عز وجل، ولأن المال في يد الأفراد أمانة فاللَّه عز وجل هو المالك الأصلي له ومن واجب الأمين أو المُسْتَخْلَفْ أن يعمل وفق إرادة المُسْتَخْلِفْ (المالك الأصلي) الذي أمرنا بعمارة الأرض.

وإذا كان الفلاسفة يقولون أنه يلزم أن تقترن المسئولية بالمحاسبة على أدائها فها هو الرسول ﷺ يؤكد أن الإنسان يسأل عما منحه اللَّه من موارد وقدرات بشرية في قوله؛ (لن تزول قدما عبدٍ يومَ القيامةِ حتَّى يُسأَلَ عن أربعِ خِصالٍ: عن عُمرِه فيما أفناه، وعن شبابِه فيما أبلاه، وعن مالِه من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن عِلمِه ماذا عمِل فيه)(<!--) أي أنه يسأل عن الطاقات التي أتيحت له مادية (ماله) وبشرية (بدنية العمر والشباب، وذهنية العلم).

وتجدر الإشارة إلى أن هذه المساءلة لا تكون في الآخرة فقط وإنما في الدنيا أيضاً من خلال واجبات ولى الأمر في إجبار من يملكون القدرة على العمل والإنتاج في حالة الاحتياج إليه، ويصور ابن تيمية ذلك في قوله؛ (والمقصود أن هذه الأعمال التي هي فرض على الكفاية متى لم يقم بها الإنسان صارت فرض عليه لاسيما إن كان غيره عاجزاً عنها، فإذا كان الناس محتاجين إلى فلاحة قوم أو نساجتهم أو بنائهم صار هذا العمل واجباً يجبرهم ولى الأمر عليه إذا امتنعوا عنه بعوض المثل)(<!--) وذلك مشروط لديه بتقاعس المنتجين وعدم كفاية المعروض من السلعة أو الخدمة سواء من الإنتاج المحلي أو الواردات.

وهكذا نرى أن الإسلام نظم الإنتاج كمسئولية حدد أطرافها ودور كل منهم بصورة تمكن من تحقيق أهداف الإنتاج التي توضحها في النقاط التالية.

رابعاً: أهداف الإنتاج:

تنحصر أهداف الإنتاج في العرف الاقتصادي في أهداف وصفية وأهداف عملية وكل منها ينقسم إلى أهداف عامة وأهداف خاصة، وبدون الدخول في تفاصيل هذه الأهداف فإننا سنحاول أن نوضح النظرة الإسلامية لها كأهداف وصفية وعملية عامة فقط والتي تتحدد في الآتي:

أهداف أولية: وتتمثل في تحقيق المنفعة وإشباع الحاجيات.

أهداف عليا: قيام حياة الإنسان وعبادة اللَّه عز وجل.

وليس هذا فقط ما يميز نظرة الإسلام إلى أهداف الإنتاج، بل أنه يختلف عن الأفكار الأخرى في وضع الضوابط الكفيلة بتحقيق الأهداف الأولية التي يقول بها. وفيما يلي مزايا النظرة الإسلامية إلى أهداف الإنتاج:

<!--من حيث اعتبار الإنتاج عبادة للَّه عز وجل: فإن ذلك يظهر في الآتي:

<!--أن اللَّه عز وجل يقول: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات: الآية: 56) وبالتالي يجب أن يكون ما يهدف إليه الإنسان في جميع أنشطته ومنها النشاط الاقتصادي هو عبادة اللَّه عز وجل، حيث أنه بدون الإنتاج لا يمكن للإنسان أن يشبع حاجياته ويحفظ حياته ليتمكن من أداء العبادات المقررة عليه.

<!--أن الإنتاج يمكن المسلمين من نشر الدعوة والدفاع عن المجتمع الإسلامي من غزو الآخرين فيمكنهم من تحقيق الاستقلال الاقتصادي والسياسي بكل أبعاده.

ويأتي أثر اعتبار أن الهدف الأسمى من الإنتاج هو عبادة اللَّه في ترشيد الإنتاج واستخدام الموارد الاقتصادية في أنشطة تتحقق العبادة، وفي البعد عن إنتاج الخبائث وسوء استخدام الموارد الاقتصادية لأن هذه معاص واللَّه لا يعبد بمعصية.

<!--من حيث الضوابط التي تحكم الأهداف الأولية للإنتاج: نجد الآتي:

<!--بالنسبة لهدف تحقيق المنفعة أو القيمة تضبط بضابط إسلامي عام وهو أن المنفعة يجب أن تكون معتبرة شرعاً وبالتالي تكون منفعة حقيقية وليست مزعومة ومن شأن هذا الضابط أن يمنع إنتاج سلع وخدمات يزعم البعض أن بها منافع مثل الخمر ودور الملاهي.

<!--بالنسبة لهدف إشباع الحاجيات الإنسانية، فمن المعروف أن الحاجات هي مجموعة غرائز وميول وشهوات، وأنه في غيبة الضوابط المحكمة من عقل ودين وقيم فإن الشهوات تفسد على الإنسان حياته لأنها مبنية على الغرائز الحيوانية والنهم والجشع، ويرجع أحد الكتاب الأمريكيين أن هذه الشهوات هي أحد أسباب ثلاثة للمأزق في الاقتصادات المعاصرة حيث يقول: " فالشهوات البرجوازية تعزز الميل إلى التملك وتخلق طلباً نهماً على السلع والخدمات لا يمكن إشباعه بالموارد المتاحة لا في الدول المتقدمة ولا في الدول النامية"(<!--) ويحدد أن العلاج لذلك يكون بالحد من هذه الشهوات بمساعدة القيم الأخلاقية، ولقد احتوى الإسلام على مجموعة من هذه القيم الأخلاقية الضابطة تتمثل فيما يلي:

<!--ضبط الغرائز والشهوات بالقناعة والزهد والرضا.

<!--ترشيد الاستهلاك بلا إسراف أو تبذير أو تقتير: والاسراف؛ هو زيادة الإنفاق على المباح من السلع والخدمات بالقدر الذي يفوق مستوى الطبقة الاجتماعية، أما التبذير؛ فهو الإنفاق على السلع والخدمات المحرمة شرعاً، أما التقتير؛ فهو الإمساك عن الإنفاق الواجب شرعاً مثل نفقة الزوجة والأولاد.

<!--تحريم الاستخدام الترفي للموارد والاستهلاك التفاخري.

<!--تحقيق العدالة في إشباع الحاجات لجميع أفراد المجتمع بدءً من حد الكفاية دون السماح بحدوث فجوات كبيرة في الإشباع بين أفراد المجتمع.

ويجمع ذلك كله آية كريمة حددت ضوابط التصرف في الموارد التي خلقها اللَّه للإنسان والتي يجمعها لفظ المال، وجاءت هذه الضوابط في أربعة معايير يلزم على المسلم مراعاتها في كل تصرف اقتصادي حتى يأتي تصرفه متفقاً مع الشريعة، ويؤدى إلى إسعاد الإنسان في حياته وآخرته، يقول الله سبحانه وتعالى { وَابْتَغِ فِيمَا ءَاتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} ( القصص: الآية 77)، ففي هذه الآية أربعة معايير هي:

<!--مراعاة الآخرة وذلك بأن يكون التصرف فيه طاعة للَّه ولا توجد فيه معصية له سبحانه؛ حتى ينال العبد الثواب ويتجنب العقاب من اللَّه في الآخرة، وهذا من شأنه الالتزام بالمعيار ضبط تصرفات الإنسان بالاتجاه نحو الخير والبعد عن الشر، ويوفر ضابط أخلاقي هام تفقده البشرية كثيراً في عالم اليوم.

<!--{وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} أي الحصول على أفضل إشباع ممكن، وهو المعيار الوحيد الذي وقفت عنده البشرية في ظل نظام السوق الذي يسود العالم الآن.

<!--{وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ}، ويحدد هذا المعيار المسئولية الاجتماعية نحو أعضاء المجتمع.

<!--{وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ}، وهذا ما يعم البشرية الآن نتيجة عدم مراعاة هذا المعيار فلقد تفاقمت مشكلة الفساد المادي ممثلاً في تلوث البيئة، والفساد الأخلاقي المتمثل في الفساد الاقتصادي الذي انتشر إلى حد واسع في جميع الدول الآن.

خامساً: ضوابط الإنتاج في الإسلام:

   تعد عملية الإنتاج إحدى جوانب السلوك الاقتصادي الإنساني، ومن المعروف أن سلوك الإنسان بصفة عامة يأتي محصلة لتفاعل نوعين من القوى هما:

<!--الدوافع وتمثل أساس الحركة لسلوك الإنسان.

<!--القيم وتمثل الضوابط على حركة الدوافع.

     ولقد جاء الإسلام بتنظيم كامل لهذه القوى بشكل يرشد السلوك الإنساني في مجموعه، فأقر الدوافع النابعة من فطرة الإنسان، لأن الإسلام لا يتصادم مع الفطرة الإنسانية، ولكنه يعمل على ضبطها بالقيم بحيث لا يسمح لها بالانطلاق العشوائي كما تتمثل في الجشع الاقتصادي، كما أنه لا يسمح بتحويل القيم إلى قوى ضاغطة على الدوافع فتحبسها فهي ضوابط ترشيديه وليست تحجيريه وفي هذه النقاط سوف نحاول تحدد مجموعة القيم الإسلامية التي تضبط السلوك الإنتاجي وذلك في على النحو التالي:

<!--الضوابط الدينية أو الأصولية:

ويقصد بها مجموعة الضوابط المستمدة من القواعد الأصولية في الدين الإسلامي، وتمثل عوامل حاكمة لكل جوانب السلوك البشري ومنه السلوك الإنتاجي، وتتلخص ضوابط الإنتاج في الإسلام من هذه الناحية فيما يلي:

<!--المشروعية: ويعنى بها الالتزام بالأحكام الشرعية، والتي تدور بين الحلال والحرام من واجب ومندوب ومباح ومكروه وحرام، فيجب على المسلم في كل سلوكه أن يلتزم بالابتعاد عن الحرام وتجنب المكروه وضرورة أداء الواجب والميل إلى أداء المندوب والمباح، وبتطبيق ذلك على السلوك الإنتاجي نجد الآتي:

<!--من حيث نوع الإنتاج يجب الالتزام بإنتاج السلع والخدمات التي تساعد على حفظ حياة الإنسان؛ بعناصرها الخمس "الدين والنفس والعقل والعرض والمال" وبتجنب التعامل في السلع والخدمات المحرمة أو المكروهة مثل الخمر والخنزير وأدوات الملاهي ودور الدعارة.

<!--من حيث أسلوب ممارسة الإنتاج يجب الالتزام بالأحكام الشرعية الخاصة بالتمويل وأشكال المشروعات وإحسان الإنتاج وإتقانه، كما يجب تجنب الممارسات الضارة والمحرمة شرعاً مثل التمويل بالربا والاحتكار والغش في المنتجات والإسراف في استخدام الموارد والإضرار بالطيبات الحرة "تلوث البيئة" والرشوة والاختلاس وخيانة الأمانة.

<!--مراعاة حق اللَّه (صالح المجتمع): إذا نظرنا إلى عملية الإنتاج وفق التصور الإسلامي نجد ملكية المال في الإسلام ملكية مزدوجة فهي للَّه عز وجل ملكية حقيقية وللبشر ملكية استخلاف وإنابة، مع مراعاة أن حق اللَّه في التصور الإسلامي هو حق المجتمع وبالتالي فيلزم على المنتجين مراعاة صالح المجتمع أداءً لحق اللَّه تعالى.

<!--تحقيق المصلحة: يعد المقصد العام من التشريع الإسلامي هو تحقيق مصالح الناس بكفالة ضرورياتهم وتوفير حاجياتهم وتحسيناتهم، والتي تلزم للحفاظ على مقومات الحياة الخمسة وهى؛ الدين والنفس والعقل والعرض والمال، وقد شرع الإسلام لكل واحد من هذه الخمسة أحكاماً تكفل إيجاده وتكوينه، وأحكاماً تكفل حفظه وصيانته، وبهاذين النوعين من الأحكام تحقق مصالح الناس وعلى ذلك فإنه يلزم أن يتوجه الإنتاج إلى حفظ هذه الأشياء وصيانتها بإنشاء دور العبادة ومعاهد العلم لحفظ الدين، ولإنتاج السلع اللازمة من مأكل وملبس ومسكن لحفظ النفس، ولحفظ العقل فإن إنشاء دور العلم، والبعد عن الاستثمارات في إنتاج الخمور والمخدرات، وأما حفظ العرض فيكون بتيسير الزواج بإنشاء المساكن والمشروعات التي تساعد الشباب على بدء حياتهم، وحفظ المال يكون عن طريق توجيهه إلى الاستثمارات التي تحقق أفضل إنتاجية ممكنة والبعد عن ضياعه بكل الصور.

<!--دفع الضرر: إذا كانت القاعدة السابقة تنظم المظهر الإيجابي للسلوك الإنتاجي فإن هذه القاعدة تحد من الجانب السلبي وتطالب بالابتعاد عنه وهو الضرر، وذلك أنه قد تصاحب عملية الإنتاج بعض الأضرار مثل تلوث البيئة، ولقد نظم الفقهاء استخدام هذه القاعدة في الآتي: الضرر يزال، ‏الضرر يدفع بقدر الإمكان، الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف، يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام، درء المفاسد أولى من جلب المصالح.‏

<!--التعاون: يعد التعاون قيمة إسلامية وأمر إلهي في قوله تعالى {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (المائدة: الآية: 2). ولقد حذر اللَّه تعالى المسلمين من التنازع والتشتت ورتب على ذلك نتيجة خطيرة هي الفشل في قوله تعالى: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} (الأنفال: الآية: 46) وأن كانت الظروف قد قسمت العالم الإسلامي سياسياً إلى عديد من الدول فإنه في مجال الاقتصاد يمكن أن يتم عمل مشترك بينها، حيث أنه لا توجد دولة في العالم يمكن أن تستقل ذاتياً بإنتاجها بل لابد لها من التعاون مع الآخرين تصديراً واستيراداً.

<!--الضوابط الاقتصادية:

أوضحنا في الفقرة السابقة بعض القيم الإسلامية التي تنظم وتضبط السلوك الإنساني للمسلم بصفة عامة، وبينا أثرها في ضبط السلوك الإنتاجي، وفي هذه الفقرة ننتقل إلى تحديد الضوابط الأكثر تخصيصاً بالنسبة للسلوك الإنتاجي والتي تتمثل فيما يلي:

<!--التنوع في الإنتاج:

تتسم اقتصادات غالبية الدول الإسلامية بخلل في هيكلها الإنتاجي يتمثل في التركيز على قطاع واحد وإهمال باقي القطاعات، وإذا كان الفكر الاقتصادي المعاصر يعطي أهمية كبرى للصناعة ثم الخدمات الإنتاجية ثم الخدمات العامة ثم الزراعة، فإن هذا الترتيب في الأهمية لم يكن كذلك على مر التاريخ ففي مذهب التجاريين كانت التجارة في مقدمة القطاعات وفي مذهب الطبيعيين تتصدر الزراعة عندهم المرتبة الأولي والأهم، وأخيراً ومنذ الثورة الصناعية في القرن السابع عشر الميلادي احتلت الصناعة المرتبة الأولي، وإذا نظرنا إلى الفكر الإسلامي نجد أن مشكلة المفاضلة في القطاعات لم تأخذ هذا الاختلاف الواضح كما يتضح من الآتي:

<!--النظر لكل القطاعات على أنها هامة وضرورية من الأصل لقيام حياة الناس: ويظهر ذلك في العديد من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تناولت الصناعة والزراعة والتجارة سواء في صورة تقريرية أو إخبارية أو تنظيمية. ثم تأتي أقوال المفكرين المسلمين لتؤكد هذه الحقيقة بضرورة الاهتمام بكل القطاعات فها هو الإمام الغزالي وهو يعدد أشغال الدنيا اللازمة لقيام حياة الناس يذكر جميع القطاعات بفروعها التفصيلية، فالقطاعات الرئيسية يسميها أصول الصناعات وهى التي تقوم على إنتاج السلع الاستهلاكية، ثم أمهات الصناعات وهى التي تقوم على إنتاج السلع الرأسمالية، ثم قطاع الخدمات الإنتاجية والعامة بل إنه لا يغفل عن سرد ما يحدث في المجتمع الاقتصادي من أنشطة لا تعد من قبيل الأعمال المنتجة ويسميها الحرف الخسيسة، بل إنه يذكر في آخر سرده لهذه الأنشطة أنها متجددة ولا تنتهي وسوف تظهر أنشطة جديدة حديث يقول " فانظر كيف ابتدأ الأمر من حاجة القوت والملبس والمسكن وإلى ماذا انتهى وهكذا أمور الدنيا لا يفتح منها باب إلا وينفتح بسببه أبواب أخر تتناهى إلى غير حد محصور"،(<!--). ويرى الغزالي أن كل الأنشطة الإنتاجية مهمة بقوله " فانتظام أمر الكل بتعاون الكل وتكفل كل فريق بعمل، ولو أقبل كلهم على صنعة واحدة لتعطلت البواقي وهلكوا "(<!--).

<!--وبالنظر إلى تقرير أفضلية قطاع على آخر: فإننا نلاحظ وعلى وجه العموم أن الأحاديث النبوية الشريفة أشارت مشيدة لكل القطاعات منها قوله ﷺ عن الزراعة " مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا فَيَأْكُلُ مِنْهُ طَيْرٌ أَوْ إِنْسَانٌ أَوْ بَهِيمَةٌ إِلَّا كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ"(<!--). كما نجد أيضا في كتاب الإمام على إلى عاملة الأشتر النخعي ضرورة الاهتمام بكافة القطاعات، فيقول عن الزراعة " تفقد أمر الخراج بما يصلح أهله فإن في صلاحهم صلاح لمن سواهم ولا صلاح لمن سواهم إلا بهم"، ويقول عن التجارة " أستوص بالتجار وأوصى بهم خيراً المقيم منهم والمضطرب بماله والمترفق ببدنه فأنهم مواد المنافع وأسباب المرافق وجلابها من المباعد والمطارح" وعن الصناعة يقول "فاستوص بذوي الصناعات وأوصى بهم خيرا ..." (<!--) ولأن الإسلام ليس مذهبا لعصر واحد أو لقوم بعينهم، بل للناس كافة وعلى مر الزمن لذلك لم يأخذ موقفاً في تفضيل قطاع على آخر بل طلب الاهتمام بكل القطاعات ثم ترك تحديد الأهمية النسبية لأي قطاع منها يحدده المسلمون بحسب الظروف والأحوال وهذا ما وعاه أحد المفكرين المسلمين منذ زمن بعيد حيث يقول "فحيث احتيج إلى الأقوات تكون الزراعة أفضل للتوسعة على الناس، وحيث احتيج إلى المتجر (التجارة) لانقطاع الطرق تكون التجارة أفضل، وحيث احتيج إلى الصنائع تكون هذه أفضل"(<!--) أي أن الهيكل الإنتاجي يجب أن يوزع بين القطاعات بحسب شدة الحاجة إليه، وباللغة الاقتصادية المعاصرة يعطى القطاع الذي يشتد الطلب على منتجاته ويقل المعروض منه الأهمية الأولي.

<!--تكوين الطاقة الإنتاجية والمحافظة عليها:

الأصل في الإنتاج أن يوجه إلى إشباع الحاجات الإنسانية من مأكل وملبس ولكن إنتاج هذه السلع يحتاج إلى آلات ومعدات وإنشاءات (التكوين الرأسمالي) الأمر الذي يتطلب توجيه جزء من النشاط الإنتاجي في المجتمع لصناعتها، والأمر لا يقف بالفكر الإسلامي عند حد التمييز بين نوعي المنتجات استهلاكية ورأسمالية، وإنما يتعداه إلى التوجيه والحث على الإضافات أو التكوين الرأسمالي وذلك بالحد من الميل الاستهلاكي والعمل على تكوين الطاقة بالإنتاجية وزيادتها والمحافظة عليها، ويظهر هذا التوجه من خلال النقاط التالية:

<!--ما ورد عن النبي ﷺ قوله: (سَبْعٌ يَجْرِي لِلْعَبْدِ أَجْرُهُنَّ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ وَهُوَ فِي قَبْرِهِ: مَنْ عَلَّمَ عِلْمًا أَوْ كَرَى نَهْرًا أَوْ حَفَرَ بِئْرًا أَوْ غَرَسَ نَخْلا أَوْ بَنَى مَسْجِدًا أَوْ وَرَّثَ مُصْحَفًا أَوْ تَرَكَ وَلَدًا يَسْتَغْفِرُ لَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ)(<!--) وفي هذا تشجيع على إنشاء الطاقات والبنى التحتية اللازمة للعملية الإنتاجية.

<!--ما ورد عن النبي ﷺ قوله: (لَا يُبَارَكُ فِي ثَمَنِ أَرْضٍ وَلَا دَارٍ لَا يُجْعَلُ فِي أَرْضٍ وَلَا دَارٍ)(<!--) وفي رواية (مَنْ بَاعَ دَارًا أَوْ عَقَارًا فَلَمْ يَجْعَلْ ثَمَنَهُ فِي مِثْلِهِ كَانَ قَمِنًا أَنْ لَا يُبَارَكَ فِيهِ)(<!--) وفي ذلك يحث النبي ﷺ على المحافظة على الثروة والطاقة الإنتاجية بالإحلال والتجديد.

 

<!--يقول الماوردي في تصوير بالغ وهو يؤكد على ضرورة بناء الطاقات الإنتاجية والإضافة إلى التكوين الرأسمالي للأجيال القادمة؛ (لولا أن الثاني يرتفق (ينتفع) بما أنشأه الأول حتى يصير به مستغنياً لأفتقر أهل كل عصر إلى إنشاء ما يحتاجون إليه من منازل السكنى وأراضي الحرث، وفي ذلك من الإعواز وتعذر الإمكان مالا خفاء به)

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 924 مشاهدة

dralaabasuony

dralaabasuony
يهدف هذا الموقع إلى تنشيط الثقافة العلمية وفتح المجال المناقشات العلمية البناءة من أجل إثراء المعرفة والعلمية وخدمة المجتمع، وذلك من خلال مناقشة العديد من الموضوعات الاقتصادية والاجتماعية »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

20,688