بقلم د.علاء بسيوني
يعد نمط الملكية هو المعبر الأول عن الفلسفة الاقتصادية لأي نظام اقتصادي، بالإضافة إلى أثره الهام على التنمية الاقتصادية في أي مجتمع، ويمكن التعرف على العلاقة بين الملكية والتنمية الاقتصادية من خلال دراسة مفهوم الملكية وأثرها على الحافز الاقتصادي وتوزيع الدخل والثروة، وذلك من خلال ما يلي:
<!--مفهوم الملك والملكية:
<!--الملك في اللغة: هو ما ملكت اليد من مال، وخول. والْمَلِكُ وَالْمُلْكُ وَالْمِلْكُ: هو احتواء الشيء والقدرة على الاستبداد به.(<!--) والملك ضربان هما؛ ملك التملك والتولي، وملك القوة على ذلك سواء تولي أم لم يتول، فمن الأول قوله تعالى: { قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} (سورة النمل: الآية: 34)، ومن الثاني قوله تعالى: {إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا} (سورة المائدة: الآية: 20) فجعل النبوة مخصوصة، والملك عاماً، فإن معنى الملك هنا هو القوة التي بها يترشح للسياسة، لأنه جعلهم كلهم متولين للأمر. ويقال أملكه الشيء وملكه إياه تمليكاً بمعنى واحد أي جعله ملكاً له، ويقال لي في هذا الوادي ملك أي مرعى، ومشرب، ومال وغير ذلك مما يملكـه.(<!--) فَتَمَلَكَ الشيء أي استبد به وتملكه قهراً، أما كلمة "ملكية" فهي مصدر صناعي صيغ من المادة منسوباً إلى الملك.(<!--)
ويستنتج من ذلك؛ أن معاني الملك أو الملكية تدور حول احتواء الشيء والقـدرة علـى حيازته والاستبداد به.
<!--مفهوم الملكية في الفكر الوضعي: هي حق يشمل ملك العين والمنفعة معاً أو ما يعبر عنه بالملك التام، ويحتوي مفهوم الملكية على ثلاثة عناصر هي؛ حق الاستعمال، والاستغلال، والتصرف في الأشياء المملوكة، بشرط ألا يستعملها استعمالاً تحرمه القوانين والأنظمة. ويقصد بحق الاستعمال: الحق في الانتفاع المباشر من الشيء المملوك، أما حق الاستغلال: فيعبر عن الحق في الانتفاع غير المباشر من الشيء المملوك كالإجارة أو غيرها، أما حق التصرف: فهو الحق في القيام بأي إجراء في الملك سواء كان مادياً كالبناء والحرث أو قانونياً كالبيع والرهن والهبة.(<!--) فالملكية تقضي باختصاص أو استئثار شخص ما - مادي أو معنوي- بحق الاستعمال، والاستغلال، والتصرف فيما يمتلكه إلا لمانع في حدود القانون، كما أن لمالك الشيء الحق في كل ثماره ومنتجاته وملحقاته ما لم يوجد نص أو اتفاق يخالف ذلك.(<!--)
ويلاحظ أن مفهوم الملكية في الفكر الوضعي يركز على حق الملكية والسلطات التي خولها القانون للشخص المالك دون الحديث عن حقيقة الملك وماهيته.
<!--مفهوم الملكية في الفكر الإسلامي: يدور مفهوم الملكية عند الفقهاء في فلك تعريفهم للملك، ويدور تعريفهم للملك حول كون الملك هو: الاختصاص الحاجز المانع المترتب على حكم شرعي يقتضي التمكين والإباحة لمن يملك الشيء بمطلق التصرف فيه والانتفاع به إلا لمانع شرعي.(<!--) أي أن ملك الشيء هو الاختصاص به اختصاصاً يمنع الغير من الانتفاع به أو التصرف فيه إلا عن طريق مالكه أو بالتوكيل نيابة عنه.
ويعرف بعض الفقهاء الملكية: بأنها العلاقة بين الإنسان الذي خلقه الله تعالى لعبادته، ولتعمير الارض وإصلاحها على ضوء المنهج المستقيم، وبين المال الذي خلقه الله تعالى وسيلة لتحقيق هدفي العبودية والتعمير، ولذلك فالملكية من الامور الاعتبارية النسبية مثل الأبوة والبنوة.(<!--)
ويري البحث أن الملكية في الفكر الاقتصادي الإسلامي: هي حق الاستعمال والاستغلال والاختصاص والتصرف الممنوح من الله تعالى (المالك الأصلي) لعباده وفقاً لمبدأ الاستخلاف وعمارة الأرض، بشأن الاختصاص وحرية التصرف فيما خلقه الله تعالى وجعله تحت أيديهم من الموارد الاقتصادية التي يجوز ملكها وتملكها، بشرط الحصول عليها بطرق مشروعة، واستخدامها وفقاً لمراد الله تعالى، والحفاظ على صفة الحياة فيها، وعدم وجود مانع شرعي يحول بين صاحب الملكية والتمتع بهذه الحقوق كالجنون والسفه. ومن النظر في هذا التعريف يتضح:
<!--أن حقيقة الملك إنما هي لله تعالى وهو المالك الأصلي: الذي خلق الكون وهو القادر على التصرف فيه سواء بالإيجاد والعدم، أو الإحياء والإماتة أو غير ذلك،(<!--) أما ملكية البشر فهي ملكية استخلاف مشتقة من تفويض الله تعالى للإنسان بخلافته على الأرض وإطلاق يده في هذا الوجود تنعُّماً واستهلاكاً لكفاية ذاته وإحرازاً لوجوده،(<!--) بدليل قوله تعالى: { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} (سورة البقرة: الآية:30)، وقوله: {هُوَ أَنشَأَكُم مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} (سورة هود: الآية:61)، وقوله: { وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ ءَامَنُوا مِنكُـمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} (سورة الحديد: الآية: 7).
<!--أن استخلاف الله تعالى للإنسان في الأرض عام في البشر لا يختص به فريقاً من الناس دون غيره: فالناس كلهم عباد الله؛ وتسخير الأرض وسائر الكون لهم جميعاً دون تخصيص، فكل إنسان له الحق أن يقوم بأمانة الاستخلاف ويستفيد من تسخير الكون لمصلحته بقدر استطاعته، بشرط أن يحسن أداء هذه الأمانة فيقوم بحقوقها ويؤدي واجباتها.(<!--)
<!--أن تسخير الله تعالى الأرض والكون للإنسان واستخلافه فيها يقتضيان انتفاع الإنسان بما خلق الله في الكون واستثماره لما في الأرض من خيرات وثمرات،(<!--) وذلك بما وهبه من الحواس والعقل وسائر الصفات الجسمية والعقلية التي تجعله أهلاً لذلك على تفاوت بين أفراد البشر.
<!--يتحمل كل إنسان نتيجة عمله ونشاطه وهو المسئول عنه مسئولية دنيوية بالنسبة لغيره من الناس؛ ومسئولية أخروية أمام الله عز وجل،(<!--) فالشريعة قد حددت معالم المسئولية الدنيوية من بيان الحقوق والواجبات في المعاملات وغيرها، وكذلك بينت الحدود والعقوبات.(<!--)
<!--حيث أن الملكية الأصلية للخالق تبارك وتعالي فإن توزيع عائد هذه الملكية يجب أن يتم وفق مراده سبحانه وتعالي: وهو الذي فرض نصيباً من هذا العائد ينفق على عباده الفقراء متمثلاً في فريضة الزكاة،(<!--) قال تعالى: {وَآتُوهُم مِن مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} (سورة النور: الآية:33) لذلك يجب على كل من يمتلك جزءاً من الموارد الاقتصادية أن يقوم بأداء هذه الفريضة.
<!--العلاقة بين الملكية والتنمية الاقتصادية:
يؤثر نمط وتوزيع الملكية السائد في أي المجتمع على التنمية الاقتصادية من خلال العديد من النقاط من أهمها ما يلي:
<!--الملكية تعمل على خلق الحافز الاقتصادي الذي يساعد في تحقيق التنمية: فالملكية الخاصة وغريزة حب التملك تعد محرضاً للفرد على العمل والإنتاج لتنمية أرباحه وتحقيق مصالحه الاقتصادية والشخصية، وهذا ما ينعكس بدوره على مصلحة المجتمع ومعدلات النمو الاقتصادي التي هي مؤشر رئيسي للتنمية. كما أن عدم وجود الملكية الخاصة يقتل روح المنافسة بين الأفراد والمؤسسات مما يؤثر سلباً على الحركة الاقتصادية في المجتمع.(<!--)
<!--نمط الملكية يحدد الجهات المسئولة عن عملية التنمية: يعبر نمط الملكية الموجود في المجتمع عن فلسفة النظام الاقتصادي السائد، ويحدد الجهات المسئولة عن تحقيق التنمية الاقتصادية، حيث أن القطاع الذي يمتلك الموارد الاقتصادية ويستطيع توجيهها إلى الأنشطة الاقتصادية المختلفة هو ذلك القطاع الذي تقع عليه مسئولية تحقيق التنمية الاقتصادية بمقدار ما يقع تحت يده من الموارد الاقتصادية للمجتمع،(<!--) وغالباً ما يكون هذا القطاع هو القطاع الرائد الذي تتبناه الدولة ويعبر عن فلسفتها الاقتصادية.
فإذا كان هناك دولة ما تسود فيها الملكية الخاصة للموارد الاقتصادية فإن القطاع الخاص يعد هو المسئول الأول عن تحقيق التنمية الاقتصادية وتكون مسئولية الدولة مسئولية ثانوية من خلال دورها في الإشراف والتوجيه، أما إذا كانت الملكية العامة هي السائدة في المجتمع فإن القطاع العام يكون هو المسئول عن تحقيق التنمية الاقتصادية وتكون الدولة مسئولة من خلال جهاز التخطيط القومي، أما إذا كانت الملكية في الدولة وفقاً للنظام المختلط فإن كل قطاع يكون مسئولاً في حدود ما هو متاح لديه من موارد اقتصادية، وهو ما يتشابه كثيراً مع رؤية الاقتصاد الإسلامي.(<!--)
<!--أثر الملكية على توزيع الدخل والثروة والتراكم الرأسمالي اللازم لتحقيق التنمية الاقتصادية: حيث يؤثر نمط الملكية السائد في المجتمع على توزيع الدخل المتولد من العملية الإنتاجية نتيجة مساهمة العناصر المملوكة في العملية الإنتاجية، مما يترتب عليه الحق في الحصول على جزء من ناتج العملية الإنتاجية، وهذا ما ينعكس على توزيع الدخل والثروة داخل المجتمع، مما يؤثر على قدرة الأفراد والمؤسسات على تكوين التراكم الرأسمالي، الذي يؤثر مرة أخري على ملكية الموارد الاقتصادية في المجتمع .. وهكذا.
وتتضح العلاقة بين الملكية والتنمية الاقتصادية من خلال مدى تأثير الملكية على توزيع الدخل الذي يؤثر على الطلب الاستهلاكي والتراكم الرأسمالي في المجتمع مما يؤثر على التنمية الاقتصادية. كما أن التنمية الاقتصادية يجب أن تكون مصحوبة بتحسن في توزيع الدخل لصالح الطبقات الفقيرة، وتحسن في نوعية الحياة، وتغير هيكلي في الإنتاج،(<!--) وهو ما يتطلب تغيراً في هيكل الملكية السائد في المجتمع، أو تغيراً في نسب عناصر الإنتاج، أو نصيب الملكية من الدخل المتولد عن العملية الإنتاجية.
<!--نمط الملكية يحدد الجهات المستفيدة من عملية التنمية الاقتصادية، ومدي تأثير ذلك على مستوى رفاهية المجتمع، من خلال تأثيره على توزيع الناتج القومي، فإذا كان توزيع الملكية في المجتمع لصالح فئة صغيرة فإن ذلك يدل غالباً على أن هذه الفئة تستحوذ على نسبة كبيرة من الناتج القومي، نظراً لتأثير الملكية على توزيع عائد العملية الإنتاجية .. والعكس صحيح. كما أن نجاح التنمية الاقتصادية يرتبط إلى حد كبير بحدوث تحسن في توزيع الدخل لصالح الطبقات الفقيرة، والتخفيف من ظاهرة الفقر،(<!--) وهذا ما يمكن أن يعبر عنه التغيير في توزيع الملكية وعوائدها بشكل كبير، وبالتالي يمكن اتخاذ التغير في توزيع الملكية وعوائدها مؤشراً لنجاح أو فشل عملية التنمية الاقتصادية.
<!--أن تطور الملكية هو المحـدد الأساسي للـنمط الاجتمـاعي السـائد في كـل حقبـة مـن حقـب التطـور الإنسـاني: فانتقـال البشـرية مـن المشـاعية إلى العبوديـة ومـن ثم إلى الإقطـاع وصـولاً إلى الرأسماليـة قـد يكـون نتـاج صـراع طبقـي (حـراك اجتماعي) أو حراك اقتصادي على أساس تطور مفاهيم التملك والسيطرة، حيث تعد الإشكالية بين من يمتلك وبين موضوع التملك نتاج حركة التناقضات بين العمل والتملك، أو العمل ورأس المال.(<!--)