(((((( شاعر ))))) و ((((( ناقد ))))))
رؤية ثانية لقصائد الغزل
اليوم شاعرنا (((( دكتور وأستاذ وشاعر من الدرجة الاولى الدكتور بومدين جلالي - الجزائر))))
وناقدنا استاذ متخصص في الادب العربي((( الاستاذ صالح أحمد )))
لحْظة بحْرية ...
ــــــــــــــــــــــ
ذات صيْفٍ، وبهــاءُ الجوّ جــودُ، /// وشبابــي في تسانيــه السُّعودُ،
وغرامـــي بالتي كانتْ حياتي /// - دونما ريْبٍ – سرورٌ وصُعودُ،
بحُبـــورٍ قدْ ركبْنــــا لطف بحرٍ /// فرحلنـــا وصدى الوجْدِ ردودُ.
يــا لَها مِنْ فتنة تعْزف لحْناً /// من هيامي، ومساءُ الصمْتِ عودُ !
تتغنّـى بالأمانـي دون صوْتٍ، /// ورياضُ الروح عطـرٌ ووُرودُ !
كعَروس البحْر والمبْسمُ شَـــــوْقٌ /// من جلالٍ، وتساميــه شرودُ.
متْعة الإحْساس والحسِّ معاً، مِنْ /// سحرها بتّ بإشــراقي أجودُ
فرسمْتُ الشِّعر رقْصاً كالتهاني /// في المعاني حينَ بالحُبّ تسودُ.
آيــةٌ بحْريَّةٌ، والوحْــــيُ مـــدٌّ /// بعْدَ جــزْرٍ فيـــهما نُبْـــلٌ وَدودُ
خلفها بدْرُ سماءٍ خاسفٍ من /// نورها، والنبْض في قلــبي رُعودُ
غيْرة العــاشق هزّتْني بريحٍ /// صرْصرٍ والعشقُ في ذاتي وَقودُ
فوضعْت اليد فوق البدْر توّاً /// وفؤادي قال : للصبْــــــر حُدودُ
ضحكتْ ذاتُ المباهي ثم قالتْ : /// إنْ رغبْتَ الآن هيّــا سنعودُ
ومددْنا لتغاريـــــدِ الأمانــي /// لهْف حبّ في تجلّيــــــه الوجودُ
هي ذي بعض حكايـا الأمس لمّا /// كان فينـا ما الأنا عنْه يذودُ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بقلم الأستاذ الدكتور بومدين جلالي - الجزائر
ا((( القراءة النقديه )))
((الاستاذ صالح أحمد )))
غزلية وجدانية راقية... ذكّرتني بالأندلسيات الراقية الرقيقة... إذ معظم الموشحات الأولى (الموزونة على أوزان الخليل) جاءت على بحر الرمل.. هذا البحر الذي تنساب ايقاعاته بليونة وعذوبة.. مموسقة كخرير جدول رقراق...
وقد أضاف شاعرنا الراقي للقصيدة رونقا آخر، إضافة إلى رونق موسيقى تفعيلة الرمل (فاعلاتن) إنه رونق التأنق في اختيار الألفاظ والتعابير المتوافقة تماما مع إيقاع الوزن... وانسيابية المعنى.. وروح الموضوع... ما خلق جوا عذبا مريحا لطيفا في القصيدة... وجعلها تتسلل إلى ذائقة القارئ قسرا..
انه الفن الشعري الأصيل النابع عن وعي ودراية وتجربة وحس عالٍ وذائقة متميزة حساسة...
يخطئ من يظن أن الشعر يكتفي بالمتاح والمطروق من الفاظ وتعابير اللغة.. بل للحقيقة.. إن تخيّر الالفاظ بعناية وإحساس من شأنه ان يضيف رونقا وجمالا وجاذبية للشعر.. وقد ابدع شاعرنا في ذلك أيّما ابداع.. فهو على ما يبدو من المغرمين باختلاق التعابير الجديدة الموحية والجميلة.. فدعونا نتابع أقواله الرائعة :
- "وبهاء الجو جودُ" ... صورة راقية.. مبتكرة... الجو يجود بالبهاء ويسخو بقوة..
- " وشبابــي في تسانيــه السُّعودُ" تسانيه.. السناء تعني البريق.. الإشعاع.. السمو والعلو والشموخ... سعد شباب في تسانيه.. في دوام بريقه وشموخه... صورة تعبيرية راقية جدا
- "لطف بحرٍ" اعتدنا أن نقرأ تعابير عن البحر .. تعبر عن هياجه.. أو صخبه.. أو هدوئه.. أما أن يكون طبع البحر لطف.. فصورة مبتكرة أبدع شاعرنا من خلالها بإيصال الصورة الراقية.. بحبورنا.. بفرح لقائنا.. جاد البحر بلطف..
- " فرحلنـــا وصدى الوجْدِ ردودُ" : ما أبدعه من تعبير.. رحلنا في لطف البحر.. لم نتكلم.. لم نعبر.. تركنا لوجدنا أن يرد على حبورنا بالصدى... صدى قلوبنا..
- "ومساءُ الصمْتِ عودُ" : هكذا تكتمل الصورة الراقية.. مساء الصمت عود يعزف ألحان نبضنا بصمت وجداني عميق ..
- "تتغنّـى بالأمانـي دون صوْتٍ" : إصرارا منه على توضيح الصورة التعبيرة.. لأنها على ما يبدو تلامس صدى في نفسه.. يأتينا بهذا التعبير الشارح والمفسر.. تتغنى بالأماني.. الأماني هي شاغل أرواحنا.. ولكن دون صوت.. إذ لا فائدة للصوت حين تتكلم الأرواح ..
- "ورياض الروح عطر وورود": رياض الروح.. ما لا تراه العين.. ولا تبلغه الحواس الجسدية.. انه حس عميق يتولد في الروح ويسمو بها.. عطرا ونشيدا وصفاء
- "المبسم شوق من جلال" ما أروعها من صورة.. البسمة تحكي كل لغات الشوق.. ولكن بجلال .. باحترام وشموخ "وتساميه شرودُ": وحين يتسامى عن الدنيا.. عن اللذة العابرة .. يشرد إلى عالم روحاني يسمو فيه معنى الشوق عن كل معنى مألوف.. أو متخيّل..
- "متْعة الإحْساس والحسِّ معاً" من التعابير غير الموفقة –برأيي المتواضع- لا أدري: هل قصد بالاحساس (الإحساس الجسدي.. المرتبط بالحواس الخمس..؟" عندها تكون الصورة مستهجنة غريبة.. فما دام تحدث في كل الأبيات الماضية واللاحقة عن الحس الروحي والتسامي الروحي .. فلم أقحم الحواس هنا..؟ وإن كان يقصد الإحساس باللحظة.. بالموقف.. والحس الروحي الوجداني الذي يقف وراءه.. فالجمع بينهما أيضا مستهجن لأن كلا المعنيين يؤدي نفس الأحساس في نفس القاارئ.. وجمعهما يدخله في ارتباك شعوري...
- "بتّ بإشــراقي أجودُ" كلما ازددت إحساسا بالمتعة.. كلما ازددت إشراقا... تعبير في غاية الجمال.. والدقة والعذوبة
- "فرسمْتُ الشِّعر رقْصاً" الرسم بالكلمات.. وليس فقط.. بل الرقص بالكلمات.. كلمات الشعر تتراقص في وعيي .. كالتهاني
- "آية بحرية" لك أن تتخيل البحر حين يتحول في وعي الشاعر إلى آية.. آية من جمال.. من رقة.. من سحر..من عذوبة.... وهو يوضح الصورة بقوله: " والوحْــــيُ مـــدٌّ /// بعْدَ جــزْرٍ فيـــهما نُبْـــلٌ وَدودُ".. ما يوحي إلي بهذه الآيات رسول من المد والجزر اللطيف النبيل الودود... كأنما يريد أن يقول: أحس البحر بنا فبات كل شيء فيه ودود ليوافق إحساسنا ويكمل بهجتنا بكل نبل..
- "خلفها بدْرُ سماءٍ خاسفٍ من /// نورها، والنبْض في قلــبي رُعودُ"
- "فوضعْت اليد فوق البدْر توّاً /// وفؤادي قال : للصبْــــــر حُدودُ"
- إنه شاعر حاذق.. يريد للقارئ أن يتتبع المعاني معه بحس ووعي.. "خلفها بدر سماءٍ" لينبه ذهن القارئ أن المقصود هنا البدر العادي الذي نراه في السماء.. أما في قوله (فوضعت اليد فوق البدر.. فإنما يقصد الحبيبة التي ترافقه رحلة الأشواق..
- "ومددْنا لتغاريـــــدِ الأمانــي /// لهْف حبّ في تجلّيــــــه الوجودُ".. مرة أخرى يؤكد على أن المتعة لم تتعد الأمنية.. التي تغرد في النفوس والقلوب وتسكن الوجدان والشعور... "في تجليه الوجود" في تجلي هذه المشاعر.. معنى وقيمة الوجود والحياة.. نعم: لا معنى للحياة إن خلت من تغاريد الأماني ونقاء الحس وسمو الشعور.. وتساني الوجد والشوق..
- "هي ذي بعض حكايـا الأمس لمّا /// كان فينـا ما الأنا عنْه يذودُ"... ما أبدعها من خاتمة: إنها حكايا الأمس.. التي بتنا نفتقدها اليوم.. حيث طغت الماديات.. على الوجد والحس والصفاء والنقاء .. هذا الذي كنا نذود عنه.. ندافع عنه بكل ما أوتينا.. إنه النقاء والبهاء.. وصفاء الحس ونقاء الشعور .. وشموخ الأماني..
قصدية مبنية بقوة.. بتأمل.. وفكر عميق.. وخبرة متميزة.. وإحساس عال .. ووجدان صادق راقٍ عظيم...
لشاعرنا التحية والاحترام
نشرت فى 1 أغسطس 2018
بواسطة magaltastar
الأخلاق في رواية
"عائد إلى حيفا"
غسان كنفاني
الأدب روح الأمة، لهذا هو أبقى من التنظيرات السياسية والخطب الرنانة، اقترح الزملاء في ملتقى بلاطة الثقافي مناقشة رواية "عائد إلى حيفا" ورغم أنني قرأتها أكثر من مرة، إلا أنها تبقى مثير وتثرينا فكريا وعاطفيا/أخلاقيا، تم تناول الرواية وبقية أعمال "كنفاني" من أكثر من كاتب وبأكثر من وجه، حتى يبدو لنا أن الكتابة عن الرواية شيء من العبث، لعدم وجود ما يقال بعد الذي قيل، لكن أردت في هذه الورقة أن أشير إلى الجوانب الأخلاقية في الرواية، تلك الجوانب التي تحفز القارئ على الفعل وعدم البقاء ساكنا.
من هذه الجوانب حديث "سعيد" عن الأبواب كل الأبواب يجب أن تفتح من جهة واحدة، وأنها إذا ما فتحت من الجهة الأخرى فيجب اعتبارها مغلقة لا تزال" ص9، الراوي هنا يوضح أهمية سلوك الطريق السليم لتحقيق الهدف، وإذا ما سلك السالك طريق غير هذا الطريق فإنه لم يصل، لأن الوسيلة مهمة كما هي الغاية، وهنا يتم إلغاء مقولة "الغاية تبرر الوسيلة" وعندما تبدأ "صفية" زوجة "سعيد" بالحدث عن "حيفا" يقول لها "سعيد": ""أنت لا ترينها، إنهم يرونها لك" ص10، كدليل أن المشاهد التي تأتي بشكل طبيعي هي المقبولة، وتلك التي تأتي بعد دفع صاحبها دفعا، لتكون مشاهدته تأخذ شكل الإجبار/الإكراه لا تكون مشاهد طبيعة/حرة، لهذا يجب عدم اعتبارها مشاهدة طبيعية/حرة.
وعندما يتناقش "سعيد وصفية" حول زيارة "حيفا" نجد "سيعد" يقول لهذا: "لا أريد الذهاب إلى حيفا، إن ذلك ذل، وهو إن كان ذلا واحدا لأهل حيفا فبالنسبة لي ولك هو ذلان، لماذا نعذب أنفسنا" ص25، وهذا الجلد للذات ينم عن مشاعر الصدق مع الذات، الاعتراف بأن هناك جريمة حدثت وهما يتحملان المسؤولية عنها، وهذا الجانب الأخلاقي لا يكون إلا عند النبلاء المتمسكين بالقيم والأخلاق.
ونجد الجانب الأخلاقي عند فارس اللبدة" عندما أخذ صورة أخيه الشهيد "بدر" من منزله الذي عاد إليه بعد هزيمة 67: "انتابه شعور مفاجئ بأنه لا يملك الحق في الاحتفاظ بتلك الصورة، ولم يستطع أن يفسر الأمر لنفسه، إلا أنه طلب من السائق العودة إل يافا" ص59 وهذا الموقف يشير إلى الجانب الأخلاقي والمبدئي الذي يتمتع به "فارس" رغم عدم قدرته على تفسير إعادة الصورة.
وهذ الموقف نجده عند الرجل الذي اسكن البيت ووجد الصورة معلقة على الجدار، فاحتفظ بها في مكانها احتراما للشهيد،: "كنت استأجرت البيت بسببها" ص57، ونجد احترام الشهيد "بدر" من خلال:
"ـ "بدر"؟
ـ أجل سميناه على اسم اخيك الشهيد" كل هذا الوفاء يؤكد على الجوانب الأخلاقية التي يتمتع بها ساكن البيت وفارس اللبدة معا".
كل هذا يجعل من الروية ذات بعد أخلاقي مهم وضروري للفلسطيني الذي يسعى لتحرير وطنه من الاحتلال، وهنا نطرح سؤال هل هذه الجوانب مهمة للفلسطيني؟ وهل تساعده في عملية التحرر؟، اجزم أن هذه القيم والمبدئ لو استمرت المحافظة عليها من (القيادات) الفلسطينية لما آلت إليه أحوالنا إلى هذا المستوى.
الرواية من منشورات دار الوطن، مصر، سنة الطبعة2016.
من هذه الجوانب حديث "سعيد" عن الأبواب كل الأبواب يجب أن تفتح من جهة واحدة، وأنها إذا ما فتحت من الجهة الأخرى فيجب اعتبارها مغلقة لا تزال" ص9، الراوي هنا يوضح أهمية سلوك الطريق السليم لتحقيق الهدف، وإذا ما سلك السالك طريق غير هذا الطريق فإنه لم يصل، لأن الوسيلة مهمة كما هي الغاية، وهنا يتم إلغاء مقولة "الغاية تبرر الوسيلة" وعندما تبدأ "صفية" زوجة "سعيد" بالحدث عن "حيفا" يقول لها "سعيد": ""أنت لا ترينها، إنهم يرونها لك" ص10، كدليل أن المشاهد التي تأتي بشكل طبيعي هي المقبولة، وتلك التي تأتي بعد دفع صاحبها دفعا، لتكون مشاهدته تأخذ شكل الإجبار/الإكراه لا تكون مشاهد طبيعة/حرة، لهذا يجب عدم اعتبارها مشاهدة طبيعية/حرة.
وعندما يتناقش "سعيد وصفية" حول زيارة "حيفا" نجد "سيعد" يقول لهذا: "لا أريد الذهاب إلى حيفا، إن ذلك ذل، وهو إن كان ذلا واحدا لأهل حيفا فبالنسبة لي ولك هو ذلان، لماذا نعذب أنفسنا" ص25، وهذا الجلد للذات ينم عن مشاعر الصدق مع الذات، الاعتراف بأن هناك جريمة حدثت وهما يتحملان المسؤولية عنها، وهذا الجانب الأخلاقي لا يكون إلا عند النبلاء المتمسكين بالقيم والأخلاق.
ونجد الجانب الأخلاقي عند فارس اللبدة" عندما أخذ صورة أخيه الشهيد "بدر" من منزله الذي عاد إليه بعد هزيمة 67: "انتابه شعور مفاجئ بأنه لا يملك الحق في الاحتفاظ بتلك الصورة، ولم يستطع أن يفسر الأمر لنفسه، إلا أنه طلب من السائق العودة إل يافا" ص59 وهذا الموقف يشير إلى الجانب الأخلاقي والمبدئي الذي يتمتع به "فارس" رغم عدم قدرته على تفسير إعادة الصورة.
وهذ الموقف نجده عند الرجل الذي اسكن البيت ووجد الصورة معلقة على الجدار، فاحتفظ بها في مكانها احتراما للشهيد،: "كنت استأجرت البيت بسببها" ص57، ونجد احترام الشهيد "بدر" من خلال:
"ـ "بدر"؟
ـ أجل سميناه على اسم اخيك الشهيد" كل هذا الوفاء يؤكد على الجوانب الأخلاقية التي يتمتع بها ساكن البيت وفارس اللبدة معا".
كل هذا يجعل من الروية ذات بعد أخلاقي مهم وضروري للفلسطيني الذي يسعى لتحرير وطنه من الاحتلال، وهنا نطرح سؤال هل هذه الجوانب مهمة للفلسطيني؟ وهل تساعده في عملية التحرر؟، اجزم أن هذه القيم والمبدئ لو استمرت المحافظة عليها من (القيادات) الفلسطينية لما آلت إليه أحوالنا إلى هذا المستوى.
الرواية من منشورات دار الوطن، مصر، سنة الطبعة2016.
نشرت فى 31 يوليو 2018
بواسطة magaltastar
موسوعة شعراء العربية
المجلد التاسع- الجزء الثاني
شعراء العصرالحديث
بقلم د. فالح الكيــلاني
.
( الشاعر حســــام الآلـــوســــي )
.
هو الدكتور الفيلسوف حسام محي الدين عبد الحميد الالوسي الكيلاني .
ولد حسام الألوسي عام \1934 وقيل 1936 في مدينة ( تكريت ) مركز محافظة صلاح الدين العراقية، من عائلة دينيـة معروفـة تنتسب الى الاسرة الكيلانية وتشكل جزءا منها .
أكمل حسام الكيلاني دراسته الابتدائية والثانوية في تكريت ثم انتقل بعدها عام \ 1952م إلى بغداد لاكمال دراسته الجامعية فدخل الى كلية الاداب – قسم الفلسفة في جامعة بغداد . وبعد تخرجه عين مدرسا بوزارة التربية في المدارس الثانوية فعمل مدرسا في متوسطة ( طويريج) في قضاء طويريج في محافظة بابل، ثم نقل الى ثانوية تكريت ثم نقل ثانوية كربلاء،
في عام\ 1961م سافر حسام الآلوسي ببعثة على نفقة الدولة إلى انكلترا لاكمال دراسته العليا، فدخل (جامعة كمبرج) فاكمل دراسته فيها وحصل على شهادة الدكتوراه عام\ 1965م وقدم اطروحته (مشكلة الخلق في الفكر الإسلامي) .
وبعد عودته من انكلترا عين استاذا في قسم الفلسفة في جامعة بغداد في عام \1968م، ثم ترأس قسم الفلسفة فيها ، وشغل عدة مناصب منها عضو الهيئة الادارية لجمعية العراق الفلسفية، والمسؤول عن الجانب العلمي والانتاج العلمي في الجمعية، ونائب رئيس الجمعية الفلسفية العربية التي مقرها في (الأردن)، وعضو مشارك في الجمعية المصرية الفلسفية. ورئيس قسم الدراسات الفلسفية في بيت الحكمة في بغداد منذ عام 2006م حتى وفاته .
كذلك أشرف كذلك على العديد من طلبة الدراسات العليا، في شهادات الماجستير والدكتوراه، وخلال مسيرته التدريسية، عمل مستشارا لمجلة دراسات معاصرة في( كندا)، كما عمل مستشارا لمجلة( أوراق فلسفية ) التي تصدرها جماعة ( أوراق فلسفية ) في ( جامعة القاهرة ) وعضو الهيئة الادارية ل ( جمعية العراق الفلسفية)، والمسؤول عن الجانب العلمي والانتاج العلمي في الجمعية. ونائب رئيس (الجمعية الفلسفية العربية )التي مقرها الاردن، وعضو مشارك في( الجمعية المصرية الفلسفية).ورئيس قسم الدراسات الفلسفية في (بيت الحكمة) ببغاد. كما درّس في (جامعة بنغازي) في ليبيا و( جامعة صنعاء) في اليمن . وعمل في الفلسفة في عدة مؤسسات علمية مثل( المجمع العلمي العراقي)، و(هيئة الرواد) و(بيت الحكمة) ببغداد.
حسام الآلوسي أشتهر انه فيلسوف وعرف بذلك اهتم بكتاباته في الفلسفة الإسلامية، الا انه كان شاعرا ينظم الشعر ، وقد انسحبت كتاباته الفلسفية في شعره فكانت تسوده نزعة تأملية وفلسفية تصوفية . في قصيد ته (رؤياك) تتضح هذه الرؤيا التأملية الصوفية واضحة وجلية ولو عدنا الى تكوينه العائلي لوجدناه حقا يتمتع بهذه الرؤيا الواضحة من خلال انتسابه الى العائلة الالوسية التي ترجع باصولها الى الاسرة الكيلانية المعروفة بالتصوف ومما يقوله الالوسي في قصيدته :
رؤياك رؤيا النور من بعد العمى
أو مثل غيث فوق يمس قد هما
تـمضي الشهور ولا أراك كـأنـما
أنا في الحضيض وأنت في أعلى السما
إنـي لـفي شوق إليك وإنما
حكم المروءة أن أعف وأحرما
ظمئي إليك يزيد في قلبي الظمـا
ويزيدني ظمأ رضاي بذي الظما
قال عنه الناقد العراقي فاضل ثامر رئيس اتحاد الأدباء والكتاب في العراق:
(عرفنا الدكتور الالوسي مفكرا وفيلسوفا على درجة كبيرة من الوعي والثقافة كما تعرفنا على الوجه الآخر له، وهو ان يكون شاعرا يمتلك موهبة شعرية كبيرة، كما ان الآلوسي وبرغم كل ما قدمه لم يفهم كما يفترض ان يفهم فيه، فهو ينحدر من عائلة دينية لكنه تمرد بسبب موجات الشك واليقين التي تعتليه، فانتقل إلى الفكر الليبرالي وصار يحمل مفهوما عقلانيا وعلمانيا، )
الشاعر حسام الآلوسي في ديوانه ( زمن البوح ) - وهو الديوان الوحيد الذي اصدره في حياته ديوان رائع وجميل وكبير وعدد صفحاته (730 ) صفحة - قدم فيه العديد من القصائد العمودية حيث كان يكتب الشعر العمودي التقليدي ففي بعض قصائده اقترب من بعض الشعراء الرومانسيين، وكانت قصائده تتسم بالصراحة المعهودة حين تناول في شعره الجانب الشخصي سواء على مستوى العائلة أو على مستوى الاصدقاء ربما نسميها بالقصائد ( الاخوانية ) كما تناول الاوضاع في بلاده بقصائد وطنية مثل قصيدته المهداة إلى الزعيم العراقي الراحل عبد الكريم قاسم أو قصيدته التي حملت عنوان (الشهداء الثلاثة ).
ويؤكد العارفون في منظمة اليونسكو والعالمين العربي والاسلامي فضله ونتاجاته الفلسفية الكبيرة، كما هومعروف الذاكرة العلمية العراقية كواحد من الفلاسفة العراقيين الكـبار
وقد نهل من علمه وفلسفته الباحثون العراقيون والعرب .
حسام الالوسي كان شاعرا ايضا وقد أصدر مجموعته الشعرية الوحيدة عام \2009 بعنوان (زمن البوح)، ضمت أكثر من سبعين قصيدة عمودية . اذ تتسم قصائده بمسحة الحزن والالم وشعوره بالغربة في هذا العالم ، وكشف إن سبب شعوره المرير بهذه الوحدة هو توزعه بين الشك واليقين والايمان ونقيضه، فهو يقول عن ديوانه :
(هذا الديوان يحمل غربة عن الزمن وعن الآخرين وعن تراثي، وأنا ليس كما يراني الناس منتظماً، فأنا أعرف أنني ربما ضللت الطريق، وحين تجدوني وحدي، فأنا كذلك في الديوان وفي سلوكي، حيث أنكم ستجدون في القصائد انساناً يتكلم بعقله في بيت شعر ما، وفي بيت آخر يتحدث بقلبه).
اختار الفيلسوف حسام الآلوسي في اخريات حياته ليكون بعيدا عن انظارعن المهتمين بالشأن الثقافي أو العلمي وخاصة حين داهمه المرض مدة عام قبل وفاته. اذ اشتكى من مرض شخصه الأطباء بأنه قصور في الشريان التاجي من القلب فانتابته الكآبة وأحس بدنو اجله فاستهل وداعه لاحبائه شعرا لمن كان يكن لهم الحب والشـوق في قلبـه الكبير كالحياة وبما وسع . فناشـد ابنتيه وزوجته واحفاده وجيرانه واقاربه وبغداد الحبيبة فيعلن وداعه لهم وداع مجبر مسير لا مخير فيقول :
سلام على الدنيا وبغداد والدار
سلام على الأحفاد والآل والجار
سلام على كلتا ابنتي وزوجتي
ومن سوف بعدي يكتوون بناري
وما حالهم بعد ارتحالي عنهمو
على مضض مني ودون خــيا ر
ولو كنت مختارا بقلبي وضعتهم
مدى الدهر ابغي خيرهم وأداري
ولكن جسمي لم يعد مثل أمسه
ونبض فؤادي فــاتر متـــــــــوار
ولكن بالرغم من حركته الدؤوب ومشاركته في المنتديات الثقافية اذ ان اسمه كان لامع في مجال الفلسفة،وتخرج على يديه المئات من الطلبة وطلبة الدراسات العليا وقد اصبح بعضهم زملاء له، فقد فضل ان يكون في عزلة عن الناس أواخر حياته، حتى وافته المنية.
توفي في بغداد، يوم الاثنين الثاني من ذي الحجة سنة \1434 – الموافق للسابع من شهر تشرين الاول ( أكتوبر) 2013م عن عمر ناهز الـسابعة والسبعين من العمر.
ترك علما نافعا في الفلسفة والشعر فمن مؤلفاته :
1- حوار بين الفلاسفة والمتكلمين، بغداد 1967م، بغداد - بيروت 1980م.
2- مشكلة الخلق في الفكر الإسلامي، 1968م، باللغة الإنكليزية.
3- الاسرار الخفية في العلوم العقلية، تحقيق ودراسة، بيروت 1975م.
4- من الميثولوجيا إلى الفلسفة او بواكير الفلسفة قبل طاليس، الكويت 1973م.
5- الزمان في الفكر الديني والفلسفي القديم، بيروت 1980م.
6- دراسات في الفكر الفلسفي الإسلامي، بيروت 1980م.
7- فلسفة الكندي وآراء القدامى والمحدثين فيه، بيروت 1975م.
8- التطور والنسبية في الأخلاق- دار الطليعة بيروت 1989م.
9- الفلسفة والإنسان، جامعة بغداد 1990م.
10- الفلسفة اليونانية قبل أرسطو، جامعة بغداد 1990م.
11- مبادئ علم الاجتماع والفلسفة، 1990م.
12- مدخل إلى الفلسفة، بيروت 2005م.
13- حول العقل والعقلانية، عمان 2005م.
14- الزمان في الفكر الديني والفلسفي وفلسفة العلم، بيروت 15- زمن البوح - ديوان شعر
يتسم شعره باسلوبه الشيق ومعانيه الرائعة المختلطة من الشعر والفلسفة وبين الفردية والجماعية ونراه يعبرعن شعره الذي يعتز به بمقدمة ديوانه فيقول :
( الشعر أمر ضروري، فهو أنا ويعبر عني بمستوى ما تعبر عني كتبي المطبوعة نفسها، والتي تطبع، والتي تنتظر الإكمال، والتي تصل إلى ثلاثين كتابا بمستوى ما تعبر عنه مقالاتي ولقاءاتي مع الصحفيين، وهي كثيرة جدا، ولا يخلو أسبوع او شهر من واحد او أكثر منها في الصحف العراقية، وأيضا في الصحافة العربية حينما أشارك في مؤتمر او مؤسسة ثقافية في الأردن او جمهورية مصر العربية او حينما كنت في ليبيا، وبمستوى ما تعبر عنه مشاركاتي نفسها في المؤتمرات العربية في طول العالم العربي وعرضه، ولكنني أقول انني في شعري اعبر عن نفسي بشكل مباشر وواضح، وأكثر شفافية إذا أمكن استعمال هذه الكلمة التي كنت اجهل معناها إلى وقت قريب )
لذا نلاحظ ان شعر الالوسي كتب في اربعة مراحل اساسية حددها بنفسه في ديوانه وبين اعتزازه بها فهي :
المرحلة الأولى : تشمل قصائده التي نظمها قبل عام 1952 ، وتشمل أواخر الدراسة المتوسطة والثانوية، وفي هذه المرحلة كتب رباعياته على طريقة الشاعر الايراني عمر الخيام، وفيها مناجاة لله، وبعض قصائد من شعر وطني وعواطف إنسانية، وتأملات فلسفية وشعر مناسبات، وقصائد شعر عمودي وشعر مقطوعات.
المرحلة الثانية : مرحلة دراسته الجامعية في كلية الآداب والتخرج فيها، ومزاولته التدريس في التعليم الثانوي ثم السفر لإكمال دراسة الدكتوراه بجامعة كمبردج في بريطانيا ، والقصائد في هذه المرحلة تتناول هموم الوطن والعاطفة والعقل، وتهتم بتسجيل أحداث سياسية وثورات في الوطن العربي وفي مصر والعراق، والصراع السياسي داخل القوى السياسية العراقية، والحنين إلى الوطن والأهل، ونلاحظ اهتمامه بالصورالشعرية وحسن في الأسلوب، وتزداد قصائد ه طولا ويميل بعضها إلى المقاطع المختلفة القوافي،على غرارالشعر المهجر الذي اعتمد في اغلبه مقاطع .
المرحلة الثالثة : وبداية مرحلتها عودته من انكلترا حيث مارس التدريس في جامعات عراقية وعربية، وتضم هذه المرحلة أربع عشرة قصيدة من الشعر الحديث او الحر والعمودي، وتتميز قصائده بهذه الفترة بشحنات عاطفية كبيرة وتعبر عن شدة غربة وشوق وحنين، وتتناول في متنها قضايا عائلية وشخصية مؤثرة في نفسيته ومشاعره وذات طابع يخيم عليها الحزن .
المرحلة الرابعة: هي مرحلة عمله التدريسي في جامعات اليمن من منتصف عام 1999 إلى عام 2003وهي اصغر الفترات وتتميز بارتباط قصائد هذه المرحلة بالمراحل قبلها حيث انه كان يحسب كل مرحلة صدى لوضعه الفكري والوجداني وصدى للأوضاع الاجتماعية والسياسية المحلية والعالمية، وكل مرحلة مختلفة عن الأخرى من حيث السبك والأداء الفني، فيقول عن هذه الرحلة :(مرحلة اليمن وهي المرحلة الرابعة – تعبر عني وعن مجمل الخلفية الاجتماعية والسياسية والفكرية وقوميا وعالميا تماما، كما ان شعر المراحل السابقة يؤدي المهمة نفسها مهما اختلفت الرؤية ) .
وكان شخصا متسامحا في مجرايات اموره يهتم باحترام ودي لآراء الآخرين، وذلك ويعتبر هذه الآراء مساهمة في الحقيقة الشاملة، واستعداد عقلي او قاعدة سلوكية قوامها ترك حرية التعبير عن الرأي لكل فرد مهما كان فالاحترام والقبول لديه يتوزع بتنوع واختلاف الثقافات العالمية، كواجب اخلاقي وضرورة سياسية وقانونية فيجعل السلام ممكناً وتساعده على استبدال ثقافة الحرب بثقافة السلام. وهي نظرة قلما نجدها لدى الاخرين .
ومن الواضح ان شعره اشبه بشعر فلاسفة الاسلام في العصور القديمة فشعره يشكل امتدادا لشعر الفلاسفة الذين جمعوا بين الشعر والفلسفة مثل ابن سينا وبعض المتصوفين، وبعض شعراء المهجر، و بعض فلاسفة الشرق والغرب الذين نجحوا في الجمع بين العقلية والوجدانية ، فكان يهرع للشعر بحسه ووجدانه . لاحظه يقول :
اسفاً على ما مرّ من ايامي
مزقت اوراقي وصنت كلامي
فلقد غوى عقلي ، وآمن داخلي
وأنا الى لقيا الحقيقة ضامي
سأسير في دربين ، علّ توّحدا
في الدرب يطلع قادم الايام
وفي شعره نلاحظ عاطفة جياشة تنبثق من قلب الشاعرنحو أهله ومحبيه ووطنه وامته فقصائد ه جميلة رائعة جديرة ان تحمل في طياتها التامل في الحياة وفلسفتها بروح شاعرية عذبة .
واختم بحثي بهذه الابيات من قصيدته الطويلة :
سلام على الدنيا وبغداد والدار
سلام على الأحفاد والآل والجار
سلام على كلتا ابنتي وزوجتي
ومن سوف بعدي يكتوون بناري
وما حالهم بعد ارتحالي عنهمو
على مضض مني ودون خــيا ر
ولو كنت مختارا بقلبي وضعتهم
مدى الدهر ابغي خيرهم وأداري
ولكن جسمي لم يعد مثل أمسه
ونبض فؤادي فــاتر متـــــــــوار
قسوت على نفسي لأسعد لحمتي
ويمضي إلى بر الأمان صغاري
ولم ادخر للعلم وقتا وهمــة
ويــــسرته للمستــــضيء بنـــــاري
وخضت بحار الفكر اغرق تارة
وأنجو بنفسي تــــارة وأداري
فيا أسفا امضي وأنسى وينتهي
جميــع الذي أعليته لــــــدثاري
سلام على تكريت مهد طفولتي
وداري وعند النهر يسكن داري
سلام على الديوان في العصر يزدهي
برواده من زائـر ومــزار
ويتلو عليهم والدي وشيـــوخنا
من الآي أو من مسلم وبخار ي
سلام على بغداد عمرا سكنتها
فطبت بها عيشا وطاب جواري
يقولون عند الموت يصدق ميت
ومن بات يورى ليس قط يواري
ألا كل ما أدريه دنيا أعيشها
وماذا وراء القبر لســت بـــدار
وأخرى بها ادري اشتهاء دوامها
ولو أنها من علـــقم ومـــرار
أرى هذه الدنيا على اللؤم وطدت
وكل مــسار ينتهي بخــسـا ر
وتبدو لذي فكر ســوي ومنطق
سفينا هوى في البحر دون قرار
ولكنـها كل المـــتاح وأننا
أساري وماذا يرتجى بإسار
ابنتي أما صرت في القبر ثاويا
فلا تجزعا أو تقنطا وحذار
ادخرت بجهد ما قدرت ادخاره
وما أنا بالآتي المريب بدار
فكونا معا إن المسالك وعرة
وقد ربما تـــــسلمكما لعثار
وفي كل عـــام اذكراني وطوفا
بقبري مرارا واجلـــسا بجواري
أعيدا شريط العمر بيني وبينكم
وثم أسهبا في ذكر حال صــغاري
.
امير البيــــــــــــــان العربي
د فالح نصيف الحجية الكيلاني
العـــــراق- ديالى - بلــــــد روز
*****************************************
نشرت فى 30 يوليو 2018
بواسطة magaltastar
الأسئلة في رواية
"الأعراف برزخ بين جنتين"
أنور السباعي
رواية تتناول الوضع السوري بعد الأزمة التي حدثت في عام 2011، الشيخ "محمد إسماعيل (البلقيني) وغياث" هما الشخصيتان الرئيستان في الرواية، ورغم التباين الفكري بينهما إلا أنهما يلتقيان في العديد من المواقف، حتى يبدوان وكأنهما شخص واحد في نهاية الرواية.
الحرب سبب كل الشرور على الأرض وسبب خراب الإنسان، خرابه نفسيا واجتماعيا، فما بالنا أن كانت هذه الحرب أهلية؟ ما جرى في سورية أخطر حدث تعرضت له في العصر الحديث، فلا الاحتلال العثماني ولا الاستعمار الغربي بعد 1921 ولا هزيمة 48 و67 كانت أخطر على سورية وشعبها مما جرى بعد عام 2011، فقد تم تخريب الإنسان وتحويله إلى ماكنة تمارس التخريب والقتل وتشويه الحقيقة، وهذا بالتأكيد سينعكس على الأرض، على المكان والجغرافيا، فكان الخراب مزدوج، خراب إنساني/اجتماعي وخراب مكاني/جغرافي.
هذا الخراب يتم مناقشته بكافة تفاصيله داخل السجن، وهذا (السجن خمس نجوم) طعام وشراب، مشروبات روحية وسجائر، تلفاز وخدمة مميزة، ورغم أن الراوي يُخرج الأحداث من نطاق السجن، عندما يتناول الطريقة التي تم فيها تخريب "البلقيني" وتحوله إلى رجل يخدم المخابرات، إلا أنها تدور داخل السجن، وهذا ما يجعل كافة الآراء والأفكار والتحليلات والأحداث والشخصيات أسيرة، معتقلة، فتبدو لنا وكأنها مجرد صوت، غير قادر على الفعل الحقيقي على الأرض، وهذا ما يجعلنا نربط بين واقع السجن/سورية من جهة وبين الأحداث والشخصيات من جهة أخرى.
وهنا نطرح سؤال لماذا جعل الراوي السجن خمس نجوم، بينما الخارج في حالة انهيار وخراب؟ وهل لهذا الأمر علاقة بما قلنا سابقا: أن الراوي أرادنا أن نعتبر رواية "الأعراف" مجرد صوت فقط، لن يغير في ما يجري على أراض الواقع؟ وهل لهذا علاقة بفكرة "الأعراف" الدينية التي تجعل فئة من الناس لا هم في الجنة ولا في الجحيم؟، هل "سجن خمس نجوم" هو الأعراف بالنسبة "البلقيني وغياث"؟، وهل التباين في وجهات النظر، الدينية والمادية، السائدة والمتمردة، القديمة والجديدة، النظرية والواقعية بينهما ثم توافقهما يعطي اشارة إلى أن الإنسان السوري النقي هو من سيعمر البلاد من جديد، والمقصود بالتعمير هنا تعمير مدنها وناسها معا؟، وهل الجنة المنشودة هي سورية؟، اعتقد الرواية التي تثير مثل هذه الأسئلة بالتأكيد هي رواية غير عادية وتتجاوز المألوف.
الطرح الجديد
الأفكار احدى الوسائل التي تسهم في خلق الأحداث، فهي أما ترفع من مكانة الإنسان والمكان، وإما العكس، وما يحدث في دولنا من خراب يجعلنا نتساءل، هل الدين وجد للخراب؟، هل صحاب دين معين، بالضرورة عليهم أن يفرضوا دينهم على الآخرين؟، هل كل دين مخالف لديننا هو دين غير اخلاقي/شرير/مُحرف؟.
هناك مجموعة من الأفكار الجديدة حول جوهر الإيمان يقدمها لنا "غياث" يقول:
"ـ أنا أؤمن بخالق للكون، خلقني وخلق كل ما أراه وأعرفه، لكن ليس بالضرورة هو الله. ..قد تجد الحب عند كل الآلهة، لكن الخالق نفسه لا دين له، وأجيبك بلا، فأنا لا أؤمن بأي إله تعرفه، أنا لي إلهي الخاص...حتى أنا لا أجرؤ على الادعاء بأني أمتلك الحقيقة الكاملة، فالحقيقة غيمة كبيرة تملأ الأفق، كلنا يراها وفق هواه، كطفل يرى فيها آماله وأحلامه وكوابيسه، الحقيقة غيمة من المرايا، كل إنسان يراها كما يرى نفسه، والإله الذي تؤمن به، هو أنت في قمة تطرفك، هو أنت في الصيغة المثلى، والأفكار والعقائد هي أشياء عابرة في ذهني، لا اتملكها، فليس هناك صك ملكية بالأفكار، والدين ليس هوية نتوارثها، الدين فكرة في الذهن، يجب أن نعاملها بحيادية، دون يا التملك، ص35و36و37، طرح "غياث" اجتماعي المدني، لا يهتم بشكل الدين، بل بجوهره، ويرفض فكرة "ياء" التمليك للدين وللأفكار والعقائد، كما أنه يحلل طبيعة وأثر الدين على الأفراد، فهم في حقيقة الأمر يرون/يجدون أنفسهم/ذاتهم في هذا الدين، كل المؤمنين بالإله وغير المؤمنين عنده سواسية، فهو يهتم بجوهر الإنسان.
"غياث" يتجاوز مفهوم التعامل مع الإله (كتجار) إلى فكرة التعامل مع الإله الروحي/ إله نحبه ونعشقه لذاته: "أنا لا أؤمن به لأني أخشى ناره أو أرجو حورياته، بل أومن بوجوده لأنه حقيقة ـ سبحانه ـ أراه في كل ومضة حياة، في كل كبد رطبة في هذه المعمورة، أراه في تنهد قلبي حين أتذكر ابتسامة زوجتي، أو في رجفان روحي حين استنشق ضحكات لبنتي، الله هو حلم متوشح بالغياب، مدون على ملامحي منذ ولدت" ص40و41، وهنا نجد التماثل مع الفكرة الصوفية عن الله، فهو أكبر وأعظم من أن نتعامل معه كتجار أو كعبيد، فذات الله بطبيعتها جميلة وخيرة، فلماذا لا نحبها ونتعامل معها على أساس هذا الحب وهذا الجمال المنبثق بذاته ومن ذاته؟.
وإذا ما توقفنا عند الألفاظ المستخدمة آنفا، سنجدها بمجملها جاءت جميلة وناعمة وهادئة، "ومضة، حياة، رطبة، أراه، تنهد، قلبي، ابتسامة، زوجتي، روحي، استنشق، ضحكات، لبنتي، حلم، متوشح، مدون" وهذا ما يجعل طرح غياث" منسجما ومتوافق شكلا ومضمونا ولغتا، بحيث تجتمع الأفكار مع الأداة ومع الشكل لخدمة فكرة، أن ذات الله تمثل الخير والجمال معا.
كما أن "غياث" لا يحدد (شكل) هذا الدين/الأفكار بل يهتم بجوهرها، بما تتركه من أثر في العقل والنفس، "...لذت بالفلسفة، وارتضيت بها دينا آخر، "دينتي أنا" وعبدت إلها آخر "إلهي أنا"" ص57، وكأنها يقول أن العقل هو مصدر الحقيقة، مصدر الأفكار، وليس لأي دين (خارجي) أن يفرض أفكاره على الناس.
كما نجد "غياث" يحرص على الفكر الذي يثير الأسئلة أكثر من حرصه على الفكر الذي يعطي الأجوبة: "...أفضل وصفي بالزنديق على أن أكون مؤمنا غبيا، أفضل عذابات اللايقين على راحة اليقين الكاذب، أفضل أن تكون عندي أسئلة بدون أجوبة، على أن تكون لدي أجوبة لا يمكن السؤال عنها" ص110، من هنا يقربنا الراوي من فكرة الشكل، فكرة ضرورة أن تكون أفكارنا ناتجة عن عملية تفكير وليست تلقين، لهذا هناك تفصيل وتوضيح وتركيز على فكرة الأسئلة وأهميتها.
أسئلة القضاء والقدر
هناك مجموعة من الأسئلة يطرحها "البلقيني" حول الدين الإسلامي تحديدا، منها ما هو متعلق بالقضاء والقدر، الجبر والاختيار، واعتقد أن طرحها مشروع، لأنه يفتح الباب امام التفكير والتحرر من سلطة التحريم، سلطة تحديد التفكير والأفكار، "هل الإنسان أرادة أم لا؟، هل هو مخير أم مسير؟. هو يقول: (فمن يهد اله فهو المهتد) إذاً فالموضوع هو عبارة عن قرار: أنا لن أهديك فإذاً أنت لن تهتدي، وأنت في النار.
لماذا الحساب إذاً يا الله؟ إذا كان هو قرارك ابتداءً إذا كنت أنت تهدي من تشاء، فما ذنبي إن لم تهدن؟." ص81، لكي نكون موضوعيين مما قاله "غياث" علينا أن نتقدم من حالته النفسية، فهو يبدو لنا مضطرب ومنفعل، لهذا نجده في كلامة الاحتجاج على تفسير القضاء والقدر على أنه من الله، وليس للإنسان أي دور، فإذا كان هذا الكلام صحيحا، فما دور الفرد فيما يجري من أحداث؟ وأين تقع مسؤوليته؟ وما هي حدود تلك المسؤولية إن كانت اجتماعية أم دينية؟، وإذا ما نسبنا الخراب أو العمار إلى الله فقط فأين دور الإنسان؟, ولا بد هنا من أن نتقدم من فكر "بن رشد" الذي تحدث عن السبب الأكبر "الله" والسبب الأصغر الإنسان، فالله خالق الكون وما فيه، وهو من أوجده، لكن الإنسان هو المسؤول عن أعماله وافعاله، وهو من يعمر أو يخرب، يبني أو يهدم.
حجم ونوع الخراب في سورية لم يتوقعه أحد، هذا ما قاله "أدونيس"، الفكر الديني لذي ينسب كل شيء إلى الله، ـ حتى الخراب والقتل ـ ليس مقبولا منطقيا أو دينيا، فهل الله الذي من صفاته الخير والرحمة، يُحدث هذا الحجم والكم من الخراب والموت؟، أم أن البشر، الأفراد والجماعات هم من يقوم به وينسبوه زورا وبهتانا إلى الله؟، يوضح لنا "البلقيني" مسؤولة الأفراد والجماعات عما آلت إليه الأحوال في سورية من هذه المثل: "ـ حسنا، تخيل أني أملك تلك الآلة ـ آلة الزمن ـ فسافرت بها إلى المستقبل، فعلمت أنك في اللحظة الفلانية ستخرج في مظاهرة وأنك ستعتقل... فقمت وسجلت ذلك كله في كتاب، في دفتر مدرسي رخيص، وعدت إلى الزمن الحالي، ففتحت ذلك الدفتر وبدأت أتلو عليك لحظة بلحظة: أنت في يوم كذا ستقوم بفعل كذا، في لحظة كذا ستقوم بكذا...فهل أنت الفاعل في حياتك؟ أم أنا؟، أنا من كتب عليك الكفر أم أنت؟، هل أنا من فرض عليك أن تخرج في تلك المظاهر أم أنت؟" ص84و85، بهذا الشكل يقدمنا الراوي من حقيقة أننا مسؤولين عن افعالنا واعمالنا، فنحن من يفعل الخير والشر، وليس الله، وهذا رد على من يحاول أن ينسب الخراب والدمار إلى الله، لأننا نحن من يقوم بالفعل وليس احدا غيرنا، فالرد على الفكر القدري/الجبري هو ضرورة ملحة في الحالة السورية والحالة العربية، لأن هناك من يعمل على تبرأتنا مما آلت إله أحوالنا، ونسب كل ما يجري إلى الله.
ويؤكد "غياث" على أن الإنسان هو المسؤول عن اعماله من خلال طرحه: "فأنا مؤمن بالله، ولكني أومن به كخالق للكون، خلقه وخلق قوانينه ثم دخل في عزلة أبدية كأي درويش" ص112، علينا أن لا نهتم بالشكل الذي جاءت به الفكر، بل بجوهرها، بمعنى أن نركز على ذات الفكرة، ف"غياث" يهتم بدورنا نحن في الحياة وليس بدور الله، بما نفعله نحن وليس بما فعله الله، فالله فعل فعلته بخلق الكون ما فيه وما عليه، ولكن نحن من يفعل الآن وليس الله.
الإسلام السياسي
بعد وفاة الرسول "ص" حدثت خلافات بين المسلمين ونشبت حروب طاحنة ما زلنا ندفع ثمنها إلى غاية الآن، وما يحدث في دولنا يعد أحدى مظاهر استمرار تلك الحروب التي حصلت بين المسلمين في السابق، طرق هذا الباب مهم جدا وضروري، فهل يعقل أن تستمر حروب أكثر من ألف وأربعمائة سنة؟ إذن طرق باب الخرفات والحروب ضروري لنا لنتخلص من الحرب الأهلية وقذارتها، ينبش "غياث" هذه الحرب فيقول: "...ولعلك تعلم أن قاتل عثمان صاحبي من أهل بدر... ثم لما مات عثمان، ترسخ الانقسام أكثر، فاشتعلت الحروب الأهلية التي لا نهاية لها، بداية بمعركة الجمل تحت قيادة عائشة ومعها من الرعيل الأول "طلحة والزبير" ...انتصر علي بن ابي طالب في معركة الجمل، ولكن الوضع لم يهدأ، فانتفض معاوية مدعيا الثأر لعثمان، متلحفا بقميصه،... من يومها انطلقت المقولة (قميص عثمان) كناية عن استخدام المبادئ للوصول إلى الأهداف السياسية... ثم قامت حرب صفين التي يقال أنها أوقعت "سبعين ألفا من القتلى في الفريقين" ثم كان رفع المصاحف، ثم التحكيم، ثم وقعة الحرة ومقتل الحسين، ثم هدم واستباحة الكعبة ومقتل عبد الله بن الزبير" ص132، كل هذه الاحداث يعمل الجميع على التغاضي أو القفز عنها، بحجة أنها فتنة، فإذا كانت فتنة وانتهت، فالف سلام لها وعليها، ولكن إذا ما زالت مشتعلة، ونحن وقودها، أليس من الأولى أن نطفئها ونتخلص من شرها؟، هذا هو اقعنا وعلينا مواجهته، علينا أن نطرح الأسئلة على ما حصل/كان في الماضي وما يحصل الآن، فنحن لا نريد تاريخا دينيا ورديا، بل نريده كما هو، بحقيقته المرة قبل الحلوة، وهذا ما أوضحه "غياث" عندما قال: "كل هذ الأحداث في القرن الأول، هذا ما فعله سلفكم الصالح، لقد كان القرن الأول قرنا متخما بالحروب والأهلية، لا توجد صفحة واحدة في تاريخكم إلا والدماء تقطر منها، تاريخ معظمة أسود، تاريخ مكتوب بمداد من الدم، ثم يقول لك الإسلاميون بأنهم يريدون أن يقيموا دولة " الخلافة الراشدة" أي خلافة راشدة بحق الجحيم؟ تقولون بأن الصحابة كلهم صالحون، كلهم صالحون وقد فعلوا ما فعلوا! بالله عليك؟ لو لم يكونوا صالحين فماذا كانوا سيفعلون؟" ص 133، هذه الأسئلة هي المهمة، هي من تجعلنا قادرين على التخلص وانهاء من حرب "علي ومعاوية" حرب "طلحة والزبير ومعاوية" وهذا ما يؤكد على ضرورة أن يكون فهمنا للدين يعتمد على التفكير والتحليل وليس على التلقين، أو على الأفكار الجاهزة، فما يحدث في وطن "غياث" سورية، يأخذ عين الشكل والوسيلة، وعين الأفكار، وعين الطريقة التي استخدمها "معاوية وطلحة والزبير" في حروبهم، فما كان نتيجة ذلك إلا الخراب وتفشي الموت والقتل.
البعض يقول أن ما يجري في المنطقة العربية مجرد "عاصفة في فنجان" وستزول قريبا، وأن الإسلام لا يأمر بقتل الناس وتدمير البيوت، وأن من يقومون بهذه الأعمال ليسوا مسلمين، محاولين ترقيع ما يجري والقفز عنه، وهم بهذا يخدمون عدم الكشف عن حقيقة ما جرى في السابق ويجري الآن، ما حدث بين "علي ومعاوية" وما يجري بيننا الآن، فهناك رابط بينهما وهو الهروب إلى الأمام، من خلال التمسك بالشكل على حساب الجوهر: "...أمتنا لم تمر بمنعطف، هي فقط تعيش في دوار، منذ وجدت وهي تدور حول ذاتها، كما تدور حول الكعبة. في كل عام تخرج الأبحاث نفسها التي نوقشت منذ ألف عام، يظهر في السوق كتاب "الموسيقى حرام" ثم بعد شهر يخرج شيخ آخر ببحث مضاد "الموسيقى حلال" ثم في العام الذي بعده نعود إلى نقطة البداية، ونتابع الدوران إلى ما لا نهاية" ص135، أليس هذا واقعنا، العالم يفكر في الاختراعات والاكتشافات الجديدة التي تسهل على المجتمع وتجعله أكثر رفاهية، ونحن ما زلنا عالقين في شباك "الموسيقى حلال أم حرام"، أليس هذا هو الجهل بعينه؟، أليس هذا هو كفر حقيقي وواقعي وعملي؟ اعتقد أن "غياث" محق تماما فيما يقدمه من اسئلة، فعلينا أن نبحث عن اجابة لها، لكي نكون (مسلمين) كما أرادنا الله، لا كما أرادنا اصحاب الإسلام السياسي.
الإسلام العصري/الحديث
مهم جدا استمرار الحوار والنقاش، فهو الوسيلة للوصول إلى الحقيقة، والتي ستشكل خلاصنا، خلاصنا مما كنا فيه ومما نحن فيه، يواجهنا "غياث" بحقيقة نظرتنا للتاريخ، للماضي الذي يعد أهم أسباب مشاكلنا وتخلفنا، فنحن ننظر إلى الوراء وليس إلى الأمام، كما أن هذا الوراء نراه بصورة وردية، لكنه في حقيقة الأمر أسود وقاتم، نراه ونجد فيه الأمل، وهنا تمكن أهم مشكلة في العقل العربي، يجعل أمله في ماضي انتهى لم يعد له وجود: "أنتم تنظرون للتاريخ نظرة مطلقة، نظرة جامدة، كأنكم تتحدثون إلى صنم، بينما نحن معشر الكفار ننظر إليه نظرة نسبية،...ننظر إليها في مكانها في التاريخ، هي مرتبطة بزمانها ارتباط الثغر بالابتسامة. أنت تريدون أخذنا إلى ذلك العصر، بينما نحن نريد "ربما" أن تأتي بذلك العصر إلى اليوم" ص140، هذا النبش للحقيقة يجعلها أقرب إلى الواقع منها إلى الوهم/الخيال، حقيقة أننا نفكر بطريقة خاطئة، وأن العقل والمنطق يوجب علينا أن نكون أكثر تحررا من هيمنة الماضي/التاريخ.
ويقدم هذا السؤال الذي الصعب والذي نتجاهله كثيرا: "هل تعلم يا شيخي أن الإمام أحمد بن حنبل جلس ثمان سنوات في باب الحيض حتى فهمه!!. ...هل باب الحيض يشبه باب الفيزياء النووية مثلا؟" 196، مثل هذا الطرح ضروري في عصرنا، فهل يعقل أن نظل مستمرين في البحث في قضايا جانبية/شكلية بينما قضايانا الأساسية والحيوية مهملة؟، فهل البحث في قضايا الحيض/الوضوء/الصلاة أهم من البحث في قضايا التخلف والتقهقر العربي؟ أليس البحث عن حلول لمشاكل البطالة والتعليم أهم؟.
يتقدم أكثر "غياث" في طرح الأسئلة ويضعنا أمام سؤال متعلق بالله: "إذا كان الله بتلك القدرة، والقرآن هو كلامه، فعل يعجز عن توصيف نفسه؟ لماذا يخبرنا مثلا "بأنه على العرش استوى"؟ هل لنتقاتل فيما بيننا حول الاستواء؟ هل هو حقيقي؟ هل هو مجازي؟ هل استوى بمعنى استولى؟ أم بمعنى قعد؟ ماذا يريد؟ ألم يكن باستطاعته أن يكون أكثر تحديدا ووضوحا؟ كأن يقول مثلا: أنا استوليت على العرش الذي هو جهاز التحكم بالكون... لماذا يخبرني أصلا بأنه استوى على العرش؟ ماذا سأستفيد من هذه المعلومة؟" ص212، اعتقد أن المقصود من وراء هذه الأسئلة ليس التشكيك بقدرات الله أو بكتابه القرآن الكريم، بل المقصود هو الابتعاد عن مواطن الخلاف التي تثير الصراعات والتي تأخذ مجهودا فكريا ووقتا، وتستنزف طاقاتنا الفكرية، فتجنب تناول هذا الأمور يتناسب وطبيعة العصر الذي نحن فيه، هذا ما يريده "غياث" من طرح هذه الأسئلة.
ويقدمنا أكثر من صفات وقدرات الله من خلال الحديث هذا الطرح: "بل يقول لي: (لما خلقت بيدي)، يا رب! وهل لك أيدي؟ كأيدينا!.
...هو نفسه يقول (ليس كمثله شيء) فإذاً اليد هي "القدرة"...لماذا لا يقول (خلقت بقدرتي) وانتهى الموضوع، فلا يبقى أي مكان للتأويل" 213، وهنا أيضا بريدنا "غياث" تجنب البحث في الشكل والاهتمام بجوهر الله، بقدراته بعيدا عن التفاصيل التي لا تسمن ولا تغني من جوع، على هذا الاساس يجب أن نفهم ما يريده "غياث" من طرح هذه الأسئلة.
ونجد عصرنة الإسلام من خلال هذا الطرح: "إلهي لن يلعن امرأة لأنها نتفت بضع شعرات من حاجبها، أو تعطرت في الطريق إلى موعد ضربه قلبها، إلهي لن يدخل رجلا صالحا النار لأنه أطال ثوبه، أو لبس ذهبا وحريرا، إلهي جميل" ص310، اجزم أنا بحاجة إلى أفكار غياث الآن، فهي من يخرجنا من حالة التخبط والدوران الذي نقوم به منذ أن فرض عليها الطواف حول الكعبة وحتى هذه الساعة.
حقيقة غياث
من خلال ما سبق يمكننا القول أن "غياث" يتجنب ويدعو للابتعاد عن الخلافات حول طبيعة/شكل الله، والاهتمام بفكرة أن هناك الله خالق الكون وما فيه، وهو يمتلك قدرات لا يمكن لنا نحن البشر أن نتخيلها، فالله مطلق، وليس نسبي، ولا يمكن أن نشبهه بشيء، وأن تم هذا التشبيه فالمقصود منه تقريب قدراته لذوي الفهم البسيط، وليس الأخذ بها على انها كذلك، من هنا يدعونا "غياث" إلى تجنب الخلاف على هذه المسائل اليقينية، والاهتمام بما هو يخصنا، متعلق بنا، بطريقتنا ونهجنا في الحياة.
الأرق/الهم/الحال الذي يتعب "غياث" هو الحياة، الإنسان، الوطن: "أنا أتعذب يا شيخي، يعذبني الطفل الجائع في مجاهل الكون، على أي كوكب كان، حساسية دمعي عالية لآهات الفقراء، يا ليتني كنت مت القلب، يا ليتني كنت بلا روح، كنت أتلقى التعذيب مرتين في أفرع الأمن، مرة حين يعذبون جسدي، ومرة حين أسمع صراخ زملائي، هو الألم نفسه، سواء وقع علي أو على أي إنسان آخر، لا فرق عندي، كل صفعة تقع على خذ إنسان هي صفعة للإنسانية كلها، هي وصمة عار في وجه الله" ص214، فهذه القضايا التي يجب أن تناقش، أن يتم إيجاد حول لها، وليس تلك المتعلقة بالضوء والصلاة وصفات الله، الهم الإنساني يجب أن يكون هو الباعث لتلك الأسئلة التي تبدو للوهلة الأولى أنها تمرد على الدين وعلى الله.
الأخلاق
"غياث" يهتم بالجانب الإنساني، بما هو متعلق بحياة الإنسان، بصرف النظر عن دينه أو عقيدته، فأي عمل يخدم الإنسان هو معه، والخلاق هي الجانب الذي يراعي العلاقة البشرية، وهي من تجعلنا نحكم على هذا الفرد جيد أو سيء، فهو يعتبر أن الإنسان مجبول من "من لحم ودم وخطيئة" ص247، ويعتبر الدين، أي دين ما هو إلا وسيلة لتطوير التعامل الأخلاقي الإنساني: "لم تكن الأخلاق يوما مرتبطة بدين ما، ولا يوجد دين إلا ويحث على مكارم الأخلاق. ... كلما قل تدين الناس كلما زادت أخلاقهم" ص247و248، وعلى هذا الأساس يجب أن يظهر دين الإنسان من خلال أخلاقه وسلوكه، وليس من خلال شكل الصلاة أو الصيام أو الكلام الذي يصدر عنه، ويمكننا الاستنتاج من قول "غياث" أنه يدعو إلى مجتمع متعدد ومتنوع، بمعنى مجتمع مدني يعيش فيه الجميع تحت قانون واحد، تجمعهم الأرض والعلاقة الاجتماعية، التي ستتكلف بحل كل التباينات بين أفراد المجتمع الواحد.
وبما يخص الدين الإسلامي نجده يطرح أفكار بحاجة إلى وقفة لنتأكد من أخلاقيتها إنسانيا، وليس دينيا، يقول: "لا تبحث عن الأخلاق في موروث فقهي يرى المرأة سلعة، والسبي متعة، والحرب خدعة، والابداع بدعة، والسياسة طاعة، لا تبحث عن الأخلاق في موروث فقهي يرى العين تزني، والأذن تزني، واليد تزني، والقلب يزني، والكل يزني،لا تبحث عن الأخلاق في موروث فقهي يرى عورة الأمة بين الركبتين والسرة، وعورة الحرة من أخمص القدمين إلى آخر شعرة، ونكاح القاصرات ومفاخذة الصغيرات"ص250، أليس هذا حال واقعنا، أليس هذا حال الأخلاق الإسلامية، هل يعقل أن يكون هناك قانون يقبل أن يتزوج شيخ بعمر الستين من فتاة بعمر العشرين؟ وهل يعقل أن يتم مضاجعة فتيات بعمر ثلاثة عشر أو أربعة عشر وتكون هذه المضاجعة شرعية؟ هل يعقل أن يكون هناك لرجل أربع نساء يضاجعهن كيفما شاء وأينما شاء؟، ألس هذه الأفكار بحاجة إلى البحث في جوانبها الأخلاقية قبل الشرعية، وهل يعقل أن يكون الشرع قاصر إلى هذه الدرجة؟ وهذا ما يطرحه "غياث" وعلينا أن نفكر/نتوقف عند اسئلته قبل أن نحكم على أفكاره.
الجنس والدين
هناك نظريات فلسفية تجعل الجنس هو الباعث والمحفز للعديد من الأفعال، إن كانت سلبية أم ايجابية، لهذا هو الأكثر أهمية في حياة البشر، وهو فعلا شيء حيوي وأساسي في الحياة، لكن كيف يجب أن نتعاطى مع هذه الحاجة؟، وهل يجب أن نجعل الجنس هو هدف/غالية نسعى إليها وبها لإشباع غريزتنا؟ أم يجب التعامل معه كما نتعامل مع أمور الحياة الأخرى؟/ يقول "غياث": "الإنسان الكامل ليس بحاجة إلى الدين، هو كامل كالإله الذي خلقه، أخلاقه كامنة في روحه، ليس بحاجة إلى نار تردعه أو جنة تستفز خياله المريض، هو يقوم بالصواب لأنه صواب، لا لأن الكواعب الأتراب ينتظرنه في السرير، ...وأنتم عبارة عن قنبلة من الكبت تبحث عن جنة حتى تنفجر بها، إلهكم يخلق لكم الحور العين لتفرغوا بها شهوتكم المكبوتة كأي صاحب فندق في شارع المرجة، يا إلهي كم شوهتم الله، كم أصبح قبيحا بعد أن أضفيتم صفاتكم عليه" ص250و251، أليست هذه الأفكار هي من تدفع البعض ليفجر نفسه في سوق أو في مسجد أو كنيسة لأن هناك سبعين من الحور العين ينتظرنه مباشرة بعد أن يضغط على الزر؟.
ويخبرنا "غياث" عن حديث يتداوله البعض يؤكدون به على أن (الجنس) فعل عادي، ويمكن أن يقوم به الإنسان في أي وقت أو أي مكان وحتى تحت أي ظرف: "...أن رسول الله عليه الصلاة والسلام كان مع أصحابه فرأى امرأة، فأتي امرأته زينب وهي تمعس منيئه لها، "فقضى حاجته" ثم خرج إلى أصحابه فقال، إن المرأة تُقبل في صورة شيطان وتدبر في صورة شيطان، فإذا أبصر أحدكم امرأة فليأت أهله فإن ذلك يرد ما في نفسه.... استحلفكم بالله أيها الناس، لو كان أحد كبار مشايخنا جالسا معكم في المسجد، فمرت امرأة عليه في الطريق، فلم يتمالك نفسه حتى ذهب إلى بيته فجامع زوجته، ثم عاد ليخبركم بما فعل، بالله عليكم، استحلفكم بالله، أترضون هذا له؟ هل يوجد خسة ووضاعة أشد من هذه الخسة والوضاعة؟ بالله عليكم أترضونا لمشايخكم ولآبائكم؟ حتى ترضونها لنبيكم عليه الصلاة والسلام؟" ص276، إذا كان هذا الحديث صحيح أو ضعيف، أليس من الواجب أعادة النظر فيه؟، حسب المنطلقات التي تناولها "غياث"، أليس تجنب مثل هذا الحديث ومحوه يخدم فكرة نقاء وقدسية "الرسول؟.
علامات قيام الساعة/الآخرة
أيضا من المسائل التي يهتم وتهم المسلمين علامات الساعة/القيامة، وقد كتب فيها مئات من الكتب، لكن هل هذه العلامات تهمنا الآن؟، وهل لنا فائدة منها؟ أم انها مجرد تضيع للوقت وللجهد؟ـ أليس تناول هذه الأفكار والكتب يخدم أولا وأخيرا فكرة أن العربي متعلق/متربط بالسماء ولا تهمه الأرض، فدعوه يبحث في تلك العلامات لعله يجد ضالته فيها!!: "أيها الناس، تعالوا أعد عليكم أشراط الساعة.
أولا "خروج الدجال": تأكدوا أن الدجال لا يستطيع منافسة أهل السياسة وتجار الدين، فلا نفع من خروجه.
ثانيا "نزول عيسى عليه السلام": سوف يقوم الناس بصلبه وقتلته بتهمة الردة وزعم النبوة.
ثالثا "يأجوج ومأجوج": السياسيون يأكلون الأخضر واليابس، بل ويستطيعون شرب مياه البحر الميت، فهم بين أظهرنا الآن.
رابعا "ذو السويقتين": الكعبة منطقة استثمار سياحي من الدرجة الأولى، فلن يضطر إلى سرقة كنز الكعبة، سيعطوه فندقا هناك، وسيسكت.
خامسا "دابة الأرض": أنتم ترونها أيام الجمع، أحيانا، تخطب على المنابر." ص277و278، هذا تفنيد للاهتمام بعلامات الساعة، ف"غياث": يريدنا أن نترك هذا المسائل التي لا تسمن ولا تغني من جوع، وأن نهتم بما يجري في واقعنا، فعلامات (ساعتنا) قريبة جدا، من خلال وجود هؤلاء الفاسدين والمفسدين الذي يتحكمون بمقدراتنا، من خلال وجود هؤلاء الارهابين الذي يحرقون الأخضر قبل اليابس، من خلال وجود قوات الامريكية في أرضنا، من خلال تهريب ثروتنا النفطية والبشرية إلى الغرب الاستعماري، من خلال صرف ملاين الدولارات على الملاهي والملاعب والملابس وأدوات التجميل، من خلال عقد صفقات سلاح وهمية أو سلاح فاسد لا يصلح لصيد عصفور على الشجرة، هذه هي ساعتنا، وهي قريبة جدا.
خطبة والوداع
بعد وفاة ابنة "البلقيني" يقوم بدور النبي، فيخطب خطبته الأخير في الناس، كما فعل النبي في خطبة والوداع، فالبلقيني يعي تماما أنه بعد هذه الخطبة سيزج به في السجن، ويمكن أن تنتهي حياته بأي طريقة يحددها النظام، فبعد أن كشف أوراقه كاملة امام الناس، وبين الجرائم التي اقترفها، يقوم بالاعتراف بما فعله لعل وعسى يُغفر له، من الناس ومن رب الناس.
سنجد تناص مع خطبة الرسول في أكثر من نقطة، يقول "البلقيني": "أيها الناس أسمعوا وعوا، لن تروا صدقا كصدقي هذا، في يومي هذا، في موقفي هذا، ...أيها الناس أنتم ملح الأرض وعيال الله، ...أنتم المؤمنون ونحن المنافقون، ...أنتم أول من ضحى وأول من ضحى به، ...فكتاب الله سهل الفهم، قريب من العقل، يفتك بالقلب، فعليكم بكتاب ربكم، لا تحيدوا عنه قيد شعرة...وأعلموا أنكم لستم بحاجة إلينا، ...فلا يضحكوا عليكم بعد اليوم، الحلال بين والحرام بين، وما تشابه عليكم فاستفتوا قلوبكم، ولا تتركوا هؤلاء الكهنة يقودوكم كالنعاج... أيها الناس أبو بكر في النار، عمر بن الخطاب في النار، علي بن أبي طالب في النار، وانتم في النار، إذا ظللتم تقتتلون على السؤال العقيم "هل هم في الجنة أم في النار"؟...كفوا عن اجترار الماضي، أخرجوا من سجن الأمس، في المستقبل متسع للجميع،...الوطن كبير، يسعنا بكل ملامحنا، ...هو اكبر من جراحنا...من دمائنا...من تاريخنا كل علم لا يداوي مريضا، كل فتوى لا تطعم جائعا، كل إيمان لا يدفئ مشردا، هو مهزلة... إن دمائكم وأموالكم عليكم حرام، إلى أن تلقوا ربكم...وإن كل الطائفية موضوع، ولكن لكم رؤوس أعاملكم، لا تظلمون ولا تظلمون...وإن كل دم كان في الطائفية موضوع، وإن أول دمائكم أضع هو دم الحسين... إن الشيطان قد يئس أن يعبد في أرضكم هذه أبدا، ولكنه رضي بالاغتسال في بحر دمائكم، رضي بأن يقتل بعضكم بعضا...إن الإنسان هو أخ الإنسان، ...فلا تظلموا أنفسكم، اللهم هل بلغت، اللهم اشهد."ص348 -353، وإذا ما وضعنا هذه الخطبة أمام خطبة الرسول سنجد هناك توافيق بينهما، وكأن "البلقيني" أراد بها أن تأخذ خطبته عين المكانة التي اخذتها خطبة الرسول.
فما هي العناصر المشتركة بينهما؟، سنجد في الخطبتين مخاطبة الناس "أيها الناس" ونجد الدعوة للابتعاد عن القتل وسفك الدماء، والاعتداء على الأموال أو الأعراض، ونجد دعوة للتحرر من الارث الماضي خاصة المواقف السلبية فيه، والتقدم من الحياة العصرية/المستقبلية بكل صدر رحب بعيدا عن التقوقع على الذات، ونجد تحذير من الشيطان الذي يعمل بكل السبل والوسائل للنيل من الناس، ونجد تحذيرا من الكهنة ورجال الدين الذين يثيرون الفساد والجهل بين الناس، ونجد الدعوة لنشر السلام والأمن بين الناس، كل هذا يجعل خطبة "البلقيني" خطبة وداع في الحالة السورية والحالة العربية.
وإذا ما توقفنا عن هذه الخطبة سنجدها تتوافق مع أفكار "غياث" في العديد من القضايا، خاصة تلك المتعلقة بحرية المعتقد وضرورة الاهتمام بحياة الناس، وعدم التعدي عليهم أو على ممتلكاتهم، ونجدهما يتوافقان على فكرة التحرر من التاريخ/الماضي والعمل للمستقبل، ونجد الطرح (المتطرف) خاصة عندما يتحدث "البلقيني" عن عمر وأبو بكر وعلي، وهذا الأسلوب اختص به "غياث" ليثر المتلقي ويجعله يتوقف عند ما يطرحه من أفكار.
وهناك توافق آخر بينهما يتمثل في أن لكلا منها بنت واحدة، بنت "البلقيني" "فاطمة" تتعرض لشذية قاتلة، وابنت "غياث" "هاجر" مريضة بمرض خطير، وعندما يتبرع "البلقيني بقلب بنته "فاطمة" لبنت "غياث" "هاجر" يمكننا القول أن البنتين توحدتا معا، فالثانية تعيش بقلب الأولى، ونجد في هذا المشهد ما يؤكد على أن هناك عملة اندماج/توحد بين الشخصيتين، "غياث والبلقيني": "غياث يضمني إلى صدره بقوة، يشم آخر أحلامه، يتأوه، يحاول أن يعثر في غرة شعري على ضحكة عالقة فيه من ابنته، من ابنتي، وأنا أتنفس، أبكي قداري الأخيرة.
كانت روحي تلامس روحه، لم يبقى شيء فينا إلا وتوحد، حبنا الأزلي استحال رخاما لقبر واحد، ضحكتنا صارت واحدة، لقد أختلط الكحول بالنيكوتين، رائحتنا صارت واحدة، والقيء المدمى بالأمس صار واحدا" ص373، وهنا نطرح سؤال، هل كانت هناك شخصيتين أم شخصية واحدة تحدثت بالنيابة عنهما؟ أم أن الهم الواحد جعلهما يلتقيان رغم تبيانهما في الأفكار والسلوك؟ اعتقد أن اهتمام الرواية بالجانب الإنساني يجعل النهاية مناسبة تماما، وتعطي دفعة إضافية لضرورة أن نحترم ونقبل الأفكار والأشخاص الآخرين، فالهم الإنساني قادر على أن يوحدنا ويدمجنا معا، بحيث تنتهي وتلغى حتى السمات الخاصة بنا، كل هذا يحصل أن مارسنا حياتنا الاجتماعية، حياتنا المدنية، دون تدخل "رجال الدين/السياسيين" بنا، فدعونا نحيا كما نحن.
الرواية من منشورات كتابنا للنشر، لبنان، الطبعة الأولى 2017
نشرت فى 30 يوليو 2018
بواسطة magaltastar
الصور في قصيدة
"عبق الروح"
هادي زاهر
من المحفزات على التقدم من النص الأدبي الصور الشعرية التي تجذب المتلقي وتمتعه، وكما أن الألفاظ البياض لها مكانتها في القصيدة، وإذا ما كان الموضوع متعلق بالمرأة التي تعد أهم عنصر من عناصر الفرح، يمكننا القول أننا أمام نص كامل ومتكامل، إن كان على مستوى الشكل أو المضمون.
العنوان بحد ذاته يشكل حالة من التألق، فهو متعلق بالروح وجمالها ويعطي مدلول عاطفي طيب، وإذا ما دخلنا إلى فاتحة القصيدة سنجدها تبدأ ب:
"تعالي اقاسمك وردة الحب
فإن عبيره فوق احتمالي،"
رغم أن فعل الأمر دائما يشير إلى شيء من السيادية والتي يكون وقعها على المتلقي صعب، إلا أن تكملة الفعل تلغي تلك القسوة وتجعله فعل محبب وشيق، فهناك وردة وذات عبير طيب، سيتقاسمها الحبيب مع المحبوبة.
كما أننا نجد حاجة الحبيب للعون، فهو لا يستطيع أن يقوم بحمل عبء هذا العبير لوحده، وهذا ما يلغي فعل الأمر ويحول طالبه من حالة القوة إلى حالة الضعف، بمعنى أن من يطلب هو بحاجة للمساعدة، ويطلب من موضع ضعف وليس من موقع قوة.
بعدها يأخذنا الشاعر إلى عالم الصور:
"أصوب نبضي على غصنه المتعالي
لأكون مثل هذا العنق المتعالي"
التصويب هنا يعطي معنى الهدف/الغاية، البوصلة/الوسيلة التي يسترشد بها الشاعر للوصول إلى مبتغاه، فهذا الجمع بين الغاية والوسيلة ما كان ليكون لولا أن هناك حالة توحد بين الشاعر والغصن، فقد تعلق نبض قلبه بذلك الغصن العالي ليرفع مكانة الشاعر، وهنا نأخذ فكرة أن الشاعر لا يجد ذاته إلا من خلال الغصن/الحبيبة، وهذا ما يشير إلى حالة التكامل بينهما.
"يا قطن كل هذه الجروح
ولا شيء ينقصني سوى أنت
ونقصي فيه اكتمال"
هنا تكتمل لنا الصور، صورة حقيقة الحاجة/النقص، فالشاعر بدونها يبقى مجروح، متألم، وفي حضورها/وجودها يكون معافى سليما وكاملا. وعندما استخدم صيغة النداء "يا" أراد به أن ينبه المحبوبة وأيضا المتلقي ويشعرهما بحالة الأزمة التي يمر بها.
الصورة الأجمل جاءت من خلال:
"كم أنت بعيدة
وأقرب من القصيدة
إذا همست بها يفيض بروحي نيل
مكتمل الجمال" فهناك حاجة عند الشاعر لكتابة القصيدة، لكن بعد الحبيبة تجعل الكتابة تحمل شيء من الألم، ورغم أن هناك متعة ستأتي من الكتابة إلا أن البعد عن الحبيبة يحول دون اكتمل الشاعر، كشاعر أو كحبيب.
بعد هذه المشاعر كان لا بد من تقديم وصف لهذه الحبيبة التي هام بها الشاعر:
"عيناك مؤنثة بقدسية إله
يفيض علي من كل تجاه"
الشاعر يصر على تقديم محبوبته بهيئة كاملة الأنوثة، وعندما ربط بين عينها والإله اراد بذلك أن يشير إلى وجود شيء من القدسية لهذا المحبوبة، لهذا نجد مباشر يقول:
"هنا سأقيم الصلاة
لأعيش لذة الوصال"
فربط الدافع للقيام بالصلاة بالمحبوبة يعطيها شيء من قدسية، وعبادة/صلاة الشاعر ليست صلاة عادية، بل صلاة خاصة، لهذا نجده يستخدم "لذة الوصال" فهو هنا يقوم بالعبادة ويشعر بلذة/بمتعة هذا العبادة، وهناك فقط تكون العبادة ناتجة عن الحب، وليس عن الخوف من النار أو طمع في الجنة، فالعبادة بحد ذاتها تمنح الشاعر المتعة، وهناك يكون قد وصل إلى ذروة الحب، التوحد، حب الله وحب الحبيبة التي جعلته بهذا الوضح/الحال.
"تعالي خذيني من نبض لهفتي
من نشيد الأناشيد في شفتي
من قفص الغيم ربما نمطر
وترتعش كروم الدوالي"
الخاتمة جاءت بشكل مذهل، فهناك ايحاء باكتمال التلاحم بينهما "ترتعش كروم الدوالي" والتي تعطي مدلول إلى العلاقة الروحية والجسدية، وإذا ما أخذنا ما سبقها "نشيد الأناشيد في شفتي" والتي تعطي معنى التغني بالحبيب من خلال قصائد الغزل والحب، يمكننا القول أن الشاعر قدم صورة رومنسية كاملة، قبل وأثناء قيام العلاقة الجسدية بينهما، كل هذا يجعلنا نقول ان القصيدة كانت مميزة وممتعة ورائعة، إن كان من خلال الصور أو المعاني التي تحملها، أو من خلال الألفاظ التي استخدمها الشاعر والتي خدمة الصور والفكرة التي أراد تقديمها.
القصيدة منشورة في مجلة "شذى الكرمل" السنة السادسة، العدد الثاني
حزيران 2018
نشرت فى 28 يوليو 2018
بواسطة magaltastar
الروتين المفيد في صناعة رواية عظيمة
فراس حج محمد/ فلسطين
كتاب "يوم من حياة كاتب" يوضح عنوانه الفرعي أن "59 كاتبا يتحدثون عن روتين الكتابة" فيه، وشاركوا في الإجابة على سؤال كيف يكون "يوم الكتابة" في حياة كل واحد من هؤلاء الكتاب، يقع الكتاب في (270) صفحة، وصادر عن دار تكوين، عام 2017، وترجمه علي زين. لم يكن من بين هؤلاء الكتاب أي كاتب مسرحي، مع أن هناك من عمل في إعداد السيناريوهات الدرامية، لم يبرز أحد من الكتاب أيضا ككاتب قصة قصيرة، وكان هناك بضع من كتاب أدب الأطفال. أما الشعراء فكان هناك (8) شعراء، وثلاثة منهم روائيون أيضا، وغلب حديث اثنين منهم عن الرواية، وكان من بين هؤلاء الثمانية شاعر مذيع.
في هذه الخريطة الإبداعية وتوزيعها على الأجناس الأدبية وأثر كتابها في الحياة الثقافية، يستطيع الدارس أن يثبت بعض المحلوظات القابلة للدراسة وإبداء الآراء فيما يخص الفنون الأدبية بشكل عام. يلاحظ أولا غياب كامل لكتاب المسرح، وضياع شخصية كاتب القصة القصيرة وإدماجها في السياق الروائي، كما ويلاحظ تقلص النشاط الشعري وتواضع حضور الشعراء. وسبق أن تحدثت عن غياب هذه الفنون من الحياة الثقافية العربية، وها هي الحياة الثقافية العالمية تشترك معها في هذا الملمح، واكتسحت الرواية كل الميادين، وقلبت الأوضاع الثقافية، وكأن العصر هو عصر السرد الروائي فقط، وما عدا ذلك فهو مكمل لهامش المشهد، إن غاب لا يسأل عنه، ولماذا يسأل عنه وهو لا يشكل ظاهرة لافتة؟
إذن نحن أمام كتاب يكرس وبشكل تلقائي طبيعي حضور ظاهرة الرواية في المشهد الثقافي العالمي، وما قدمه هذا الكتاب من أفكار هو ككل الكتب المشابهة، يسعى من خلال تقديم الشهادات الإبداعية التعرف على عملية الكتابة الروائية، وكيفية عمل الروائيين، والأماكن التي يكتبون فيها، والظروف التي ولدت فيها كتاباتهم، ومعاناتهم في النشر، والحرص على تجويد العمل، واختلاق وقت للكتابة مهما كانت الظروف، فـ "الكاتب الذي لا يكتب منتظرا تحقق الظروف المثالية للكتابة، سوف يموت دون أن يكتب كلمة واحدة". فالحياة بطبيعتها، وما فيها من متطلبات ومسؤوليات ليست ظرفا مواتيا للكتابة في الأعم الأغلب. فلا يوجد كاتب كتب في ظل ظروف مريحة نفسيا وماديا واجتماعيا، فـ"هنري ميلر"، وهو ليس من الكتاب المشمولين في هذا الكتاب، كان متسولا في فترة من فترات حياته، وكان يعيش على الاحتيال لتوفير وجبات طعامه، وأحيانا كان يبت جائعا. فليس الكاتب العربي هو وحده من يعاني، كل الكتاب من طينة واحدة.
يبدو في هذه الشهادات تعريفا عمليا للإلهام، فهو القدرة على الكتابة واستدعائها متى أراد الكاتب، وتحدث بعضهم عن "الحبسة في الكتابة"، والمشتتات والملهيات، من الإنترنت والهاتف والبريد الإلكتروني والتلفاز، يعترف بعضهم بأن له حسابا على الفيسبوك وتويتير، ولكنهم جميعا يخصصون أوقاتا محددة لزيارتها، لا يقعون تحت تأثيرها، ولا يسمحون لها أن تفسد عليهم العمل، وقد يضطرون إلى قطع الخدمات كلها عن أجهزتهم وهم غارقون في الكتابة. فالكاتب شخص مخلص لعمله، لا يحب أحد أن يفسد عليه متعة التركيز.
بدت الكتابة لدى الكتاب صنعة بالغة القيمة، فهم يكتبون المسودات ويراجعونها، ولذلك، قد تجد عند أحدهم مسودتين أو أكثر للرواية الواحدة، ويستخدمون دفاتر لتسجيل الملاحظات، يواظبون على الكتابة، ويعبرون عن حبهم لها، ويلاحظ القارئ إصرار بعضهم على النجاح مهما كلفه الأمر من تعب، ريموند تاليس يعترف أن أعماله رفضت (138) مرة من الناشرين، ولكنه لم ييأس، واصل الكتابة ونجح. كلهم يعتبر الرواية عملا صعبا، ويحتاج للتركيز والعزلة، والانقطاع عن الناس، حتى لو كتبوا في الحدائق العامة أو في القطارات أو على متن الطائرات. ففي لحظة ما لم يعد لتلك الأصوات تأثير، فيتلاشى العالم الخارجي، ولم يعد الكاتب شاعرا به، فهو في عمل يبعده عن كل ما يحيط به.
بعض الكتاب يدينون لأطفالهم ولزوجاتهم في الكتابة، مارك هادون كانت زوجته تشاركه في تحرير كتبه، بل يقول "إن زوجتي أكثر براعة مني في التحرير"، أما هوارد جيكبسون فيقول: "أنا شخص نكرة، أستيقظ في 10:30 صباحا، لأستمتع بمحادثات طويلة مع زوجتي". وآخر لا يتوانى عن الاعتناء بالأطفال وتحميمهم واصطحابهم إلى المدرسة وإعداد الطعام لهم أو قراءة القصص قبل النوم. لم يكونوا أساطير، وكانوا واقعيين وعاديين.
ظهر خلال تلك الشهادات ثلاثة حيوانات صاحبت هؤلاء الكتاب، وهي الكلب والقط والدب. كانوا يستمتعون بالتنزه وهم بصحبة الكلب، ويولون عنايتهم للقط والدب وهم داخل المنزل. لم يكن كلهم متفرغين للكتابة، كان بعضهم موظفين. يقول ألين دو بوتون: "إن العمل يتيح فرصة إظهار أخلاقنا الدمثة".
الكتاب مهم لكل من يريد أن يصبح كاتبا، أو أنه يشعر بالملل أو الفشل من صنعة الكتابة، عليه الإنصات لما يقوله هؤلاء الكتاب الكبار، فهم أيضا شعروا بالملل والاكتئاب، وخواء الأفكار، ولكنهم كانوا يعالجون أنفسهم، كل على طريقته. إما بالتنزه أو بلعب التنس أو بالبحث على الإنترنت أو الرد على رسائل البريد الإلكتروني، أو قراءة الجريدة التي قد تكون عاملا مهما لاقتناص فكرة ما. يقول نديم أسلم: "أطالع كذلك الجرائد، فالكثير مما يرد في كتبي يأتي من الحياة الواقعية".
لم يكن للكاتبات معاناة خاصة مميزة، فهن يكتبن كما يكتب الكتاب، ولهن الطقوس نفسها أو المتقاطعة مع الكل، أشارت بعضهن إلى كتاب فرجينيا وولف "غرفة تخص المرء وحده"، فهن لا يردن هذه الغرفة اليوم، وإن كانت إحداهن بحاجتها هي كحاجة أي كاتب آخر للعزلة وإتمام العمل، ولم يشكل الزواج فوبيا أو معضلة بالنسبة لهن، ولا حتى إنجاب الأطفال ورعايتهم.
وبالمجمل، هناك مجموعة من الأفكار النافعة للكتاب من خلال هذه الشهادات، ألخصها فيما يأتي:
إن الإنترنت والهاتف والبريد الإلكتروني أشد أعداء الكتاب، وخاصة وقت العمل، وأن البحث مهم لإنجاز الرواية وضرورة العيش في المكان الذي يريد أن يكتب عنه الكاتب، لأنه "من الوقاحة أن تكتب عن مكان لا تعرفه". الكتابة على الحاسوب مهمة، ولكن الأهم من ذلك الكتابة بخط اليد أو على الآلة الكاتب التقليدية. من المهم مراجعة ما يُكتب وقراءته مرات متعددة للتخلص من الزوائد التي تشوه العمل، وضرورة عمل نسخ احتياطية على الحاسوب لكل
المسودات التي يكتبها الكتاب، لربما احتاج إليها عند التعديل. وبدا هؤلاء الكتاب أيضا قراء نهمين، ويمتلكون مكتبات ومراجع، وحريصون على دقة ما يوردون في كتبهم من معلومات، فهم ليسوا اعتباطيين، ولا يهتمون فقط بالحكاية وأنها عمل متخيل. بل لا بد من أن تكون المعلومات الواردة فيها معلومات صحيحة ودقيقة.
يساهم الكتاب ككل الكتب المشابهة في إضاءة عوالم الكتاب، ويشكل مع غيره من الكتب رافدا مهما من الروافد اللازمة لدراسة العملية الإبداعية وكيفية تشكلها، ففكرته ليست طازجة، فقد سبقه مثلا كتب كثيرة، منها "لماذا نكتب- عشرون من الكتاب الناحجين يجيبون على أسئلة الكتابة"، تحرير ميريدن ماران، وترجمه عدة مترجمين، أضف إلى كتب أخرى كثيرة مخصصة لجمع الحوارات من مثل كتاب "أصوات الرواية" و"الروايات التي أحب" للمترجمة العراقية لطفية الدليمي، وكتاب "صحبة لصوص النار" الذي ترجمت حواراته الكاتبة اللبنانية جمانة حداد.
وليس بعيدا عن فلسفة الكتاب وفكرته، كتاب "كيف تكتب الرواية" لجبرائيل غارسيا ماركيز وترجمه صالح علماني، مع أن هذا الكتاب لا يتحدث عن كيفية كتابة ماركيز للرواية إلا في مقال واحد هو الذي احتل عنوانه عنوان الكتاب، إلا أن يضيء العوالم الخفية والنفسية للكاتب، تلك الإضاءات التي تساعد النقاد والدارسين على فهم الطريقة التي يكتب بها والأفكار ومصادرها وكيف يشكلها حتى تصير رواية تستحق الطباعة والقراءة والإشادة بها وترجمتها. فالرواية لكي تكتب كما يقول ماركيز: "يجب أن تعاش بكل تفاصيلها صغيرة أو كبيرة، حينها فقط يمكن لها أن تولد كأفضل ما يكون". وهذا ما حاول توضيحه كتاب "يوم من حياة كاتب"، حتى استحقت أعمالهم الأدبية الفوز بالجوائز العالمية، وكانت جديرة بالترجمة، والانتشار، وأن تطبع منها ملايين النسخ.
حتى تصبح روائيا عظيما يجب عليك أن تتعب، فالرواية لا تكتب للتسلية ولا لتمضية وقت الفراغ، ولا تكتب لتمنح لقب روائي، ولا لتفوز بجائزة البوكر أو كتارا أو غيرها. تكتب لأنها تصنع عالما مفعما بالخيال الواقعي الذي لا يوجد إلا بها.
نشرت فى 27 يوليو 2018
بواسطة magaltastar
توحد الرامز والمرموز في قصدية النص/ قراءة إنعام كمونة
فلاح بهادر الضوء المتين/ جاسم آل حمد الجياشي
يعد الرمز من اهم عناصر النص الحديث والذي يعطي بعدا دلاليا لمضمون ما لرؤيا الشاعر ومخاض الفكرة فينحى بأيحاء معين يتوارى خلف رمزية المرسل ليشد القارئ / والمتلقي للبحث والتأويل في مضمار المعرفة وهذا ما يغني تطلعات الشاعر لبث رسالته الأدبية لقصدية تشي بأشارة ما على ان يكون الرمز ببنية النص مترابط بالأشارات والدلائل في نسق النص بترابط الفكرة ,والرمز انواع ممكن ان يكون اصطلاحا لغويا او علامة علمية او تراث واسطورة او فلسفة روحية, اضافة ان الرمز يتفجر من مكنونات النفس الملمة بثقافات عدة ,ولكل رمز ظرف بحدث معين مرتبط بواقع الوجود يجسده الشاعر بأفق خياله وفيض تأمله بروح وجدانية ممزوجة برؤياه وبسلطة معرفتة واحساس يتشكل بفلسفة الشاعر المقتدرة لتكثيف الفكرة ,وليوضح من ايحاء الغموض يدعو القارئ للأسترسال بمتعة لفك أحجية ما يرمي له الشاعر ويغوص في كنه ترابط الرمز والدلالة , وبهذا يشترك مع منظومة اللغة بالوظيفة التواصلية وهناك عدة تعريفات للرمز لأختار منها ما يفضي للدراسة وجزء ما يعنيه الرمز بقول الدكتور أحمد غنام :( الرمزية بنية مركبة تركيبا خاصا ولذلك فأن كل محاولة لتعريف الرمز ليست الا نوعا من المجازفة الفكرية لأنه لا يعدو كونه محاولة للأقتراب من معنى الرمز أكثر مما هو دخول في حقيقته ) , ويبقى اختيار الشاعر للرمز ليبث طيفا دلاليا بكناية خفية للقارئ, وقد اتفق على تعريفه في كل القواميس اللغوية بشكل متقارب ومتفق عليه في الجوهري ..وابن سينا في مختار الصحاح ..والقاموس.. المحيط للفيروز أبادي.. وما جاء تعريفه اكثر وضوحا في لسان العرب لأبن منظور (الرمز: تصويت خفي باللسان كالهمس ويكون تحريك الشفتين بكلام غير مفهوم باللفظ من غير إبانة بصوت إنما هو إشارة بالشفتين وقيل الرمز إشارة وإيماء بالعينين والحاجبين والشفتين والفم والرمز في اللغة كل ما أشرت اليه مما يبان بلفظ بأي شئ أشرت اليه بيد أو بعين ورمز برمز ويرمز رمزا ), وللرمزمقاربات عدة مابين الشاعر والموضوع والمؤول ثلاثية الأبعاد لا نرمي اليها بعمق التفسير بل نأمل برؤيانا الأستقرائية بما يتضمنه المعنى والدلالة وما يخوض بتفكيره كل قارئ ومزجها بنفسيته والواقع وبهذا سننستقرأ جزء من سيرة ذاتية لمعاناة خاصة وعامة نرى من خلالها نزر قليل من عتب الأنسانية على طبيعة حياة قد ننعته بالقدر فلا يشفي غليل الأماني ولايروي طموح الحلم ,فلنتابع ألم حروف الجياشي وغيره ...
_ العنوان ومضة متوهجة الأشارة برمزية أسم شاعر عراقي معروف يليه فاصل مائل وافقي اعتدنا رؤيتها باسلوب الشاعرالجياشي ليمنحنا التروي بالأستقراء واستقطاب ذهن القارئ حتما للكشف عن رؤى الشاعر, ثم يشير الى لميزة وخاصية الرمز بوصفه (الضوء المتين ) بانزياح متفرد يوحي بالأنسجام مع المرموز, وبهذا كَوَنَ دلالة اصطلاحية للتعبيرعن البعد الدلالي للرمز اكثر وضوحا بخاصية التماثل وكما ميز الفيلسوف الفرنسي أندريه لالاند في موسوعته الفلسفية بثلاث أبعاد للرمز احدها (قد يعبر الرمز عن خاصة التماثل بين الأشياء كأن يدل الرمز على شئ آخر يماثله في الجوهر والدلالة والشكل ) ,فالضوء اقترن بصفة المتين يشي بسيمائية فلسفة لرمز تضمنته هذه العبارة بمستوى دلالي حسي مباشر , وبما يوحي لحياة متوهجة مثابرة قوية فالضوء هو الشمس والنهار والبقاء والأشراق الأبدي وهو الأفصاح عن دواخل الذات الوجدانية تجاه الرمز بدقة تصوير لصورة ذهنية حساسة لتجسيد واقع بغية التآزر الصادق ببيان اللغة واستعارة راقية , وما يؤكد ما سبق العنوان من رسالة خطابية موجهة لرمز الشاعر فلاح بهادر ...
_ يرى إبراهيم مدكورالرمزية في المعجم الفلسفي ( الرمز هو علامة يتفق عليها للدلالة على شئ أو فكرة ما ومنه الرموز العددية والجبرية ويقابل الحقيقة والواقع ) وقد جسد الجياشي بخيال خلاب واقع مرير لمعاناة مستشرية في محيطه بدلالة موجزة تشي بتفاصيل قصدية لمضمون النص ليبهرنا باختزال وتكثيف استهلالي لخبايا النص, اضافة من الوهلة الأولى جعلنا نتسائل ما مدى عمق وامتداد العلاقة بين الرمز والشاعر وعن قصة هذه العلاقة وقصدية الشاعر ؟ قد تكون جزء من سيرة ذاتية للشاعرتشابهت مع سيرة الرمز, أيمكن ان يرى الشاعر نفسه في الرمز ليعبر عن مكنوناته الحسية تجاه أمر ما ؟ وما مدى التشابه في هذا الأمر وما السر ؟ لننحو للنص لنستشف الجواب !...
_ النص دفقة شعورية عاطفية مؤثرة إنسانية الدلالة وجدانية الأحتواء يشيرللتنفيس عن الذات الصامتة بأيحاء عميق للمواساة المساندة والشعور بالمعاناة الصابرة ,وغربة الروح بأعماق الذات وتوحدها مع الوجع افتراضا وتوحدا ,ومن استهلال النص
تعالَ /ــ واشبُك أصابع
يدكَ في يدي
ودعِنا /ــ نُكملَ دربَ
صبرنا الندي
_ الأشارة لفعل الأمر( تعال / واشبُك) هي دعوة للمساندة بغدق العطاء رغم طول الصبر على الأبتلاء,ثم يشير الى( واشبُك أصابع)ايحاء للتلاحم العميق , مترفع بقدرة مخيلة برياضة روحية لفلسفة حياة فكرية باعتقاد بمبادئ القوى الأنسانية حين تتظافرتسمو لمُثل الأماني القدسية , فعندما تتعانق الأصابع تتكاتف الأرواح وتنصهر سويا بقوة الأحساس تلتئم الجروح وتشفى الرتوق ,فاختيار معجمية الأصابع من جوهر العقل المنزه بالصبر والقوة لحدس الشاعر ودلالة من فيض الخيال لأمر معقول بذات مبصرة اضافة لدلالة اخرى لأستخدامه هذه المفردة ليس بسطحية المعنى وانما بما تخبئ من دلالات عدة للأصابع وما تشد لتقف ارجل الروح بكبرياء وانتصار وما يشير لأستكمال الحياة سويا بدعم ارادة فاعلة بدافع حيوي لسايكولوجية معاناة ووجع محمول على اكتاف الأنسانية بلا أمل نزوحه , ودلالة للصداقة الوطيدة ان تكون الروح فداه والمال والولد!! ...
_وما زال بسلاسة الخطاب متعمدا صياغة إيقاع الأنفعال المؤثر نافذا في ذهنية القارئ مرتسما بصيغة فنية رائعة البساطة قوية الأيحاء مكثفة المضمون يقول :
سيان يا صديقي /ــ إن
طالَ أو قصُرَ
إنتظار الموعدِ
وبمسحة الآسى الامبالي ظاهريا يكتم أحساس الألم بالفراق الآتي بتهكم عن موعد ما ,واي موعد ينتظره ؟ موعد رحيل لابد منه !! ,أيكون أشد لوعة من انتظاره بمواساة الروح فالزمن تشابهت ايامه على سلم الوداع, الزمن من يسرق كل أحلام العمر المتأنية , وينتهك كل المواعيد بلا استئذان , فلسفة نضوج المواجهة لقدر معاند, ونرى بمهارة نسقية أضفى التضاد (طالَ أو قصُرَ) على التشكيل النصي جمالية فنية وبراعة في نقل المشاعر والأحاسيس للقارئ
_ (هذا الخبيث !!) وبعلامات الأستغراب المكررة تدل على الأنفعال والتوتر وبمسحة حزن غايرة المطاف نلتقطها من غمر الأحساس مما يجذب المتلقي للتوقف والتمعن , وايضا دلالة لغرس الأمل والتفاؤل بمحاكاة لطيفة حميمية المفردة بمعجمية(حبيبي) وبسرد رصين تشهق له الأنفاس لسماع التالي ورغم الصور السردية بخصوصية الأيحاء الا انها دفق شعوري بشعرية ذهنية واعية عبر مزاوجة الجناس في قفلات السرد بتشكيلات صوتية متجانسة مثل ( يدي = ندي ),فاضفى تناغما جماليا وترابطا عذبا شد دلالات واشارات بنسق النص بأسلوب متكامل الأنسياب بحرفية الشعرية ...
_ كما إن استخدام الضمائر دل على أنتقال الخطاب الموجه من الخصوصية الى العمومية ب( دعنا,صبرنا)فالضمير(نا)للجماعة ويمكن ان يكون للمثنى ولكن واقع تعاطف الشعور مع الآخرين وبمايتعايش مع محيطه وبيئته لا ينفك عنه من ترادف الموقف وقساوته بمرور الوقت نكتشف ان الشاعر يعاني بصمت وكتمان لكنه يزرع البسمة حوله ويمدنا بعطاء دائم دون ان يعلمنا او يشكو بما يعاني بصمت السريرة !!...
_ يرنو الشاعر بفكرة التصدي لهذا الخبيث نحو أمل ما (أن أُبدي لهُ جَزَعاً) فيخطو بعيدا عن الجزع واليأس ويتعايش مع قدره بحكمة وثقة بايمانه بالله وتواصل ودعم الأحبة, فمنح المتلقي بهذه الصورة قوة أيحائية تفيض رؤيا روحية عميقة بعقيدة شديدة التفاؤل ,وقد أكد الأمل ومزجه بالعطاء بمعجمية مكررة كما في (فلا تجزع ياصديقي)فلم تخل بتوازن النص بل عكست مقدرة الشاعر بترسيم الأيحاء بتكثيف متمرس الخبرة نابع من رهافة الأحساس صور جمالية متماسكة متقدة فنيا مؤثرة شعوريا ببساطة التركيب وجماله وانهمار الأيقاع وتآلف الدلالات بشعرية الوعي والمزاوجة بين الأحاسيس المتآزرة والمتأزمة الحدث ...
_ الخاتمة :-
وبخيال رحب نرسو في خاتمة رائعة مرهفة الأحاسيس برؤيا الوعي بتخيل مبدع يتجلى رقة حالمة بالاصراروالتحدي الطاعن بعدم الأستسلام تعطره مشاعر المحبة ونسغ الود ليوافق تكيفه مع ذاك الألم الذي افشى سره سحر الجواب فيبدو إيحاء الفكرة ببساطة جميلة وخلق نبيل بخاتمة مبهرة تبدي وطيد العلاقة بين الرامز والمرموز بزمن مستمر يغزل مدى الصداقة بالإيثار ليبقى الرمز ضوءً مدى الوجود نرى الأيحاء المبهر تأثيره على ذهنية المتلقي بتأويلات شتى نتركها للقارئ بخاتمة مفتوحة على كل الأفتراضات والرؤى بغد لكل يوم وهذا ما يعني بنص مفتوح قصده الشاعر ليلهمنا التوقع والتفاعل لنقاش وحدس المستقبل ...
_ نص صريح الفكرة واضح الأيحاء مفعم بالأحساس والأهتمام بألم الآخر يسيل بعذوبة الأنسانية , استطاع الشاعر بمهارته العالية ان يجسد بصور شعرية فنية مدى وفاءه لذكريات الصداقة بمشاعر وجدانية شفيفة بادراكا قيما لصديقه وبأيحاء متمكن الأشارة لمكانة الصداقة متمثل بالأخلاص والحنين لرفقة مستمرة , بليونة ايقاع مزلزل لأحساس القارئ
بوركت حروف الأماني لليوم وغد لكما.. الشاعر والمفكراستاذ جاسم الجياشي والرمز المضئ الشاعر استاذ فلاح بهادر وسلامة العافية .
إنعام كمونة
--------------------
فلاح بهادر /ــ الضوء المتين!!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ جاسم آل حمد الجياشي
تعالَ /ــ واشبُك أصابع
يدكَ في يدي
ودعِنا /ــ نُكملَ دربَ
صبرنا الندي
فداكَ /ــ الروح
والمال والولدِ
سيان يا صديقي /ــ إن
طالَ أو قصُرَ
إنتظار الموعدِ
قد /ــ تعجب ممَ أقولُ
ياحبيبي ..
لكنَ /ــ هذا الخبيث!!
رافقني /ــ منذ سنينٍ كتمتهُ
وطالما رغِبَ /ــ أن أُبدي
لهُ جَزَعاً /ــ فلم يَجِدِ
لإنكَ والشرفاء أمثالكَ
كنتم /ــ لي بعد الله
العزم والإيمان /ــ والمددِ
فلا تجزع ياصديقي /ــ لإنكَ
باقٍ /ــ يا تَوأم الروح
حرفاً عفيفاً غزلت
به أمسي /ــ و يومي
وستغزل اصابعك الكريمة
ضوء غدي..
جاسم آل حمد الجياشي
نشرت فى 26 يوليو 2018
بواسطة magaltastar
مناقشة رواية ضحى
ضمن الجلسة نصف الشهرية التي تعقدها اللجنة الثقافية في دار لفاروق تم مناقشة رواية "ضحى" للروائي الفلسطيني "حسين ياسين"، وقد افتتح الجلسة الأستاذ "رائد الحواري" مرحبًا بالروائي "حسين ياسين" ومتمنى الشفاء العاجل للروائي "محمد عبد الله البيتاوي"، وتحدث عن الرواية فقال: تكمن أهمية هذه الرواية بتضمنها لأحداث تاريخية نجهلها ولا نعرف عنها، ويمكننا القول أن رواية "ضحى" تعد رواية مميزة، لتناول ثلاث نساء جمعتهن القدس، فكانت "ضحى" تمثل وترمز للمرأة الفلسطينية التي أعطت الكثير، لكن واقعها المحلي والعربي اضطهدها ومارس سطوته عليها، فكانت نهايتها مأساوية كحال الفلسطيني تمامًا، أما بخصوص اللغة فهي لغة سهلة وتتناسب وطبيعة شخصيات الرواية.
ثم فتح باب النقاش فتحدث الشاعر "جميل دويكات" قائلاً: الكاتب يكتب نفسه أو شيئًا منها، أو يكتب حدثًا أثر عليه، فالقسم الأول من الرواية "تانيا" جاء بشكل سلس وناعم، وهذا ما منح الرواية شيء من الإبعاد عن القسوة والألم الذي كان في "ضحى وماري تريز" وهذا يعد ذكاء من الراوي، الذي عرف كيف يبدأ روايته، ونجد لغة الراوية جميلة وشيّقة من خلال استخدام الأمثال الشعبية وبعض المقتطفات الشعرية، كل هذا يجعل الرواية مميزة، كما أن اهتمام الكتاب بالمرأة يُحسب له وللرواية، حيث أنه قدمها لنا بصورة فاعلة وحيوية.
وتحدث الأستاذ سامي مروح فقال: من يقرأ الرواية يندمج في أحداثها، وهذا ميزة لها، فالراوي يتحدث بلغة سهلة تتناسب وطبيعة الشخصيات الروائية، فهي لغة سهلة وجاءت دون تكلف، يقنعنا الراوي بأن هذه لغة الشخصيات وليست لغته، وأنه لم يتدخل فيها، وبما أن الأحداث متعلقة بفلسطين فهذا يجعلها رواية فلسطينية، بمعنى أنها تتناول القضية الفلسطينية، من هنا نجد الجغرافيا الفلسطينية حاضرة فيها، إضافة إلى تناول الراوي لمناطق أخرى، ونجده يوظف "الغجرية" بشكل رمزي، وهذا يخدم فكرة الحرية التي تناولتها الراوية، وتعامله مع المرأة كان بشكل منصف، فقدّمها لنا كما هي في واقعنا، تعطي دون أن تأخذ، وتعمل بشكل متفان، وبما أن الراوية تتحدث عن ثلاث نساء فهذا يشير إلى مكانتها، فهي امرأة قوية وقادرة على الصمود أمام الصعاب والتكيف مع الأوضاع مهما كانت متقلبة، وقد لفت انتباهي أن الراوي قدّم المغول المسلمين بصورة عصرية بينما المغول غير المسلمين فكانوا أقل منزلة، ونجد هذه الرواية تتلاقى مع رواية "مجانين بيت لحم" "لأسامة العيسة" التي يتناول فيها أحداث واقعية وأماكن جغرافية وتراثية، وهذا طبعًا يُحسب للرواية التي تقدم معلومات بصيغة أدبية، وأيضًا، هذه الرواية تتباين مع رواية "علي" لأنها أقرب إلى ثلاث روايات، ورغم تقاطعها في موضوع القدس، إلا أنه يمكننا القول أنها ثلاث روايات وليس رواية واحدة.
أما الأستاذ "محمد شحادة" فقال: رواية "ضحى" عمل أدبي مميز، فهناك مخزون ثقافي ومعرفي يمكن الرجوع له للاستفادة منه، خاصة ما جاء عن (الفلسطينيين الألمان) الذي تعرضوا للتهجير والتشريد كما حدث معنا تمامًا، ففي القسم الأول "تانيا" يشعر القارئ أنه يعيش في روسيا، حيث استطاع الراوي أن يقدم لنا مشاهد مقنعة وجذابة عن تلك البقة من العالم، من خلال حديثه عن الثلج والجبال والسهول، كما أن اللغة التي استخدمها تتناسب وطبيعة الرواية، فهي لغة سهلة وجذابة في ذات الوقت، أما في "ماري تيز" فيتحدث عن الألمان والحالة الاجتماعية التي عاشوها في فلسطين، فنجدهم جزء من طبيعة التنوع والتعدد الموجود في المجتمع الفلسطيني، وهذا الطرح الأهم في الرواية، المجتمع في فلسطين متعدد ومتنوع ويقبل بعضه بعضًا، أما صورة الغلاف فالمرأة هي في الصدر، بينما "الحطة والعقال" معلقان على الحائط، وهذا يشير إلى غياب الرجل وأن المرأة هي صاحبة الفعل ومركز الأحداث، وهذا ينسجم تمامًا مع أحداث الرواية، ونجد لغة الشخوص تتناسب وطبيعة الشخصية، وهذا يشير إلى تحرير الشخصيات من هيمنة الراوي، أما بخصوص الأخطاء فالرواية تكاد تخلو من الأخطاء اللغوية والمطبعية.
أما الأستاذ "نضال دروزة" فقال: أن الراوية أقرب إلى القصة، الحوارات شبهة معدومة وكأنها قصة سردية، خاصة عندما تحدث عن روسيا، أما موضوع الألمان في فلسطين والقدس فهو موضوع جديد ولم يكن مطروح، وحتى معروف للكثير منا، وهذه الإضافة تُحسب "للرواية" ومثل هذا التوثيق نحن في أمس الحاجة له لنؤكد أن فلسطين وشعبها كانوا يتعاموا مع الآخرين بمدنية وعصرية، بعيدًا عن عقلية القبلية، أما بخصوص اللغة فالراوي استخدم لغة عالية وسهلة في ذات الوقت، فنجد بعض المقاطع الشعرية وأيضًا بعض الأمثال الشعبية، وهذا ما يجعلها قريبة من القارئ الذي يجد فيها كل ما يريد، وموضوع الرواية بحد ذاته مهم وحيوي، فتناول ثلاث نساء في رواية شيء جميل، كما أن إعطائهن دور البطولة المطلقة يجعل الرواية شكلاً ومضمونًا رواية مهمة.
وقدم الشاعر "عمار دويكات" ورقة نقدية جاء فيها:
"قراءة في رواية ضحى لحسين ياسين عمار دويكات: إن تذوق النص الأدبي يُعد من أروع ما يكون، فقد يزيد الشعور بالحياة والجمال، وخاصة عندما يكون الكاتب متمكنًا من عقال اللغة الأدبية والفنية التصويرية الرائعة، ومتحكمًا بحركاته وانفعالاته، وممتلكًا من المعلومات التاريخية والحكايات التراثية، والكم الهائل من الأحداث السياسية والاجتماعية، ما يؤهله ليكتب نصًا يصلح أن يكون مرجعًا أدبيًا توثيقيًا. رواية ضحى رواية توثيقية تاريخية وطنية اجتماعية، مكانها مساحات ممتدة من الجبال والسهول والأسواق، بل إن الأماكن التي وردت في الرواية تكاد لا تحصى، وبذات الوقت سيطر الكاتب على التدرج والإيقاع في سرد الأزمنة وتنقل بين دول كثيرة ليصل إلى نقطة السيادة الكبرى وهي القدس. المرأة في الرواية لها الدور الطليعي، ومصدر الضوء والإلهام للكاتب، وهذا يتجلى في عنوانها، ومن المفارقة الرائعة أن الرواية تسلط الضوء على دورة المرأة وليست العربية فقط بل تتعدد الأجناس والديانات والأعراق لكنها كلها تلتقي في رئتي القدس. ولعل أهم ما ورد في الرواية هو توثيق الكاتب للوجود الألماني في القدس، فالمستعمرة الألمانية التي بُنيت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، في ظل الدولة العثمانية، وما لاقاه الألمان من قمع وتشريد والذي يشبه إلى حد كبير ما لاقوه الفلسطينيون، وكأن الكاتب يريد حشد كل ظواهر الاستبداد ليكوّن الحالة الحقيقية التي مرت بها فلسطين التاريخية في الحقبة الزمنية التي يجهلها الكثير حتى من المثقفين. لقد أخرجنا الكاتب من الروتين الذي قد يكون في سردية الكتب التاريخية، ووضعنا في بحر المتعة والانجذاب والتفاعل مع الكثير من الأحداث التاريخية والتي يصل تأثيرها ليومنا هذا. النهايات المفتوحة في الرواية أضافت للرواية المزيد من المتعة والتذوق الأدبي وفتح الباب على حدائق التخيل والتوقع ورسم النهايات التي يرديها القارئ حسب ذوقه ومدى تأثره بالنص.
تطور شخصيات الرواية كان متقنًا مسيطرًا عليه ومقنعًا. عنوان الرواية: قد يُخيل للبعض أن العنوان كان بعيدًا عن المضمون، فدور ضحى كان دورًا كغيره من الأدوار لدى الشخوص الكثيرة في الرواية، فلماذا كانت هي العنوان؟ في تقديري ضحى هي القدس ذاتها، فهي لقيت ما لقيته ضحى الثائرة من ظلم وتعسف وضياع. مآخذ على الرواية: -إن الصفحات المائة الأولى كانت تتعلق بالوجود في روسيا، وقد أفاض الكاتب بالكثير من التفاصيل والتي قد لا يكون لها مبررًا، إذ أن التفاصيل مثلاً التي تتعلق بالقدس وحيفا ويافا لها مدلولها المكاني والزماني والسياسي، أما التفاصيل التي تتعلق بروسيا مثلاً، قد تكون زائده وغير مبررة. -لقد اتخذ الكاتب لقاء الراوي عبد الباقي بشخص في الفندق (ألفيي) من أصول ألمانية ليدخل في تفاصيل كثيرة وكبيرة عن طريق حكاية قصة والدته، ليسهب بالسرد، وقد تكون السرعة في التواصل مع الألماني في الفندق مستعجلة، إذ كان بإمكان الكاتب أن يطور هذه الشخصية ومدى انسجامها مع الراوي ليستطيع التقدم في النص. -لقد كان للجنس في الرواية وخاص في المئة الصفحة الأولى حضورًا مباشرًا وغير مباشر، فهناك كسر وخدش للحياء، فكان بإمكانه التلميح بدون الولوج في تفاصل قد لا يرغبها البعض منا. - لم يتطرق الكاتب لأسباب النزاع بين الأمة الألمانية والعالم، وإلى مدى الفظاعة التي مارسها الألمان بحق البشرية، وهذا بالطبع ليس دفاعًا عن أحد، ولكن لإنصاف الواقع. في النهاية لقد استطاع الكاتب في هذه الرواية أن يكون شاعرًا وروائيًا ومؤرخًا"
في نهاية اللقاء تحدث الروائي "حسين ياسين" شاكرًا الحضور ودار الفاروق على ما تبذله من مجهود في خدمة الثقافة والمثقفين، ثم قال: في هذه الجلسة أخذت الرواية حقها من البحث والنقاش وهذا أسعدني، فقليلة هي تلك الجلسات التي تتناول رواية بهذه الطريقة من البحث، أما السر الأدبي وراء كتابة "ضحى"، فهو أنني ابن فلسطين ولا أعرف أن أكتب إلاّ عنها، كنت في "الطالبية" حيث كانت شاهدت أجمل بيوت فلسطين، وعندما سألت عن سعر البيت كان في حدود عشرين مليون دولار أمريكي، وهنا خطر على بالي سؤال: "أين أصحاب هذه البيوت؟" من هنا جاءت فكرة كتابة "ضحى"، فالألمان الذين أقاموا في فلسطين وكانوا جزء أساسي من الشعب الفلسطيني، تم تهجيرهم كما تم تهجير الفلسطينيين تمامًا، فكان مصير الأحياء الألمانية كحال المناطق الفلسطينية، فهم يتماثلون معنا في التشرد والتهجير، كما أن الطريقة العنصرية التي تعاملت بها دولة الاحتلال معهم تتماثل مع طريقتها في التعامل معنا نحن الفلسطينيين، فقد استمرت المفاوضات بينهم وبين الحكومة الألمانية عشر سنوات، وكانت ألمانيا الاتحادية في حينها تسعى للتخلص من تهمة "العداء للسامية" التي لصقت بها بأي ثمن، فكان الثمن على حساب (الفلسطينيين الألمان) وعلى حساب ممتلكاتهم.
وعندما تم الانهاء من كتابة "ضحى وماري تيز" وجدت أن أحداثها قاسية ومؤلمة، فارتأيت أن أكتب شيء يخفف من حدة تلك القسوة، فكتب "تانيا"، أما بخصوص "ضحى" فهي تمثل كل فلسطين، كانت حياتها سعيدة وهادئة، حتى جاء الاستعمار الإنجليزي الذي مهّد لقيام دولة الاحتلال، وكان الشيوعيين هم الأكثر عداء للإنجليز وأكثرهم تنظيمًا وفاعلية، من هنا وجدت أن أكتب "ضحى" الفتاة التي قاومت الإنجليز، لكن بعد الاحتلال نجدها تذهب إلى الأردن ثم إلى العراق ثم إلى بيروت ثم إلى قرطاج وهناك يتم قتلها على يد رجل سكّير، فكل محطة وصلتها "ضحى" تمثل واقع الشعب الفلسطيني وما تعرض له على يد الأنظمة في تلك الدول، فقد تم المتاجرة بها في العراق، وفي لبنان وجدت ذاتها مع "الساحلي" من خلال العمل الفدائي، وهناك "العجمي" الذي يمثل إيران ودورها في ركب الموجهة سعيًا وراء مصالحه وليس مصلحة "ضحى/فلسطين" وما كان مقتل "ضحى" في قرطاج إلاّ إشارة لأوسلو ما أحدثه من قتل للقضية، أما بخصوص اللغة فقد بذلتُ مجهودًا كبيرًا لتكون لغة تتناسب وطبيعة الشخصيات، وما جاء في الصفحة 214، يمثل وجهة نظري.
وفي نهاية الجلسة تقرر أن تكون الجلسة القادمة يوم السبت الموافق 4/8/2018 لمناقشة ديوان "أنت وحدك أغنية" للشاعر "فراس حج محمد"
نشرت فى 24 يوليو 2018
بواسطة magaltastar
على كراسي العرش
{الحبُّ متعته أنْ تَنْجَرِحَ مِنْ وَجَعِ اللّذّة!}
فراس حج محمد/ فلسطين
(1)
أناديها: ارتعشي عليّْ
وكوني كلّ شيء فيّْ
واكتبي سطرين في جسدي على وثيرٍ عسجديّ
فكلّ ما في الكون يغدو هائما بين يديّْ
(2)
هوت عواصفها
تهاوت مثل عاصمة فتحت مساربها
وأجرت في بهاء اللّيل نهريْها
وأروت شفتيّْ
(3)
ما بين ملابسٍ شفّافة نشوى
وبين أصابعي عدوى عدوّ شرسٍ
حرَري الأعضاء من غُرَزِ الخيوطْ
واغزلي جسدي قطعتين صغيرتينِ:
واحدةً لزرّ الوردْ
وأخرى هاربةً لطير الصّدرْ
وغطّيني بشعركِ اللّيليّْ
أستحمّ بلونِ زهرْ
(4)
تعالِي استعمري لغتي
وغنّي لي أغانيَ حبّْ
تعالَيْ
واسكبي هذا الرّحيق على ليلٍ وقطعة نردْ
تعاليْ
وازرعي نهديكِ في صدري بحق الرّبّْ
تعاليْ
والبسي عُريي بعمق القلبْ
تعاليْ
أستلذَّ بحدّك الماسيّ كي أحظى بعنفِ الرّدْ
تعاليْ
فالهوى يشفى على ثغرٍ تعمّد بالتحام الحدِّ تحت الحدّْ
(5)
انعجني فيّ بعنفْ
واتركي اللّطف لأصحاب الصّورْ
وانثري شبق الضّرامِ على هذا الجسدْ
وارتحلي كلّ مساء في مساماتي
ألفُ عامٍ ليس تكفي كي أعيد بناء ذاتي
أيّتها اللّذةُ انهمري عليَّ
وحلّليني
فكّي من يديَ الضّعيفةِ كلّ قَيْدْ
حرّري هذا الضّبابَ من الكثافةِ
واغسليني
واعتلي برجي المغمّس بالنّدى
وانتصبي مثل ضوء باذخٍ يُهدى
بعَرْف النّدّ
أحبٌكِ أيّتها المذوبة في دمي كدفقةِ شهدْ
(6)
قليلُكِ النّهــرُ يـجري في
شــراييني
فهــاتِ كـــأسَكِ رشفاتٍ
تُــــروّيني
لا أطلبُ الكلّ يكفي الرّوحَ
دفءُ يدٍ
فاللهُ يعلــم شوقَ الكــــــافِ
للنّـــونِ
(7)
هيّئي لي فراش اللّذة الكبرى
أصارعُ موج بحركْ
أستغيث رائحةَ المجون على مجونكْ
أركبُ قارباً من صنع سحر يدكْ
إلى عمق المحيطِ اللّولبيّ على مشارف حبّتين من ثمركْ
أسبحُ في الشّبقِ اللّانهائيّْ
وأرمي كلّ أوجاعي لأسماك البحار الجائعةْ
كلّما عاينتُ أرضَ النّهر والمجرى
استعدتُ عميق دفئكْ
(8)
نهداكِ يأتلقان مثل ضوء الفرقدِ
ويختمران نهر حياةْ
وزهرة ثغركِ الوردِيّ
زغاريدٌ بعزف الآهْ
فكرة تصحو بألفيْ رغبةٍ
تلملمني كما زبد المياهْ
(9)
مثل النّهار جديدةٌ
مثل السَّماء مديدةٌ
مثل الرّياح عنيدةٌ
مثل الملاك بهيّةٌ
مثل الغزال شريدةٌ
مثل الضّياء نقيّةٌ
مثل المعاني الغامضاتِ شهيّةٌ
هي كلّما حكّ اشتياقي شهوتي
طارت حماماً وامتقعتُ بأنّتي
(10)
قبل أن ينبتَ عمري في متاهات التّعرّي
لم أكن أدري
كنتُ مشغولاً أغنّي:
"لستُ أدري، لستُ أدري"
جئتِ نصّاً فلسفيٍّاً شارحاً عقلي وصدري
صرتُ أدري "أنّني بالفعل أدري"
أَوَتدري يا الحبيبةُ أنّكِ الوحيُ؟
أتدري؟
(11)
حالة منّي كأنّكَ بعضي
لا، فإنّكَ أنتَ إنّي
مجبولةٌ خُصلُ الشَّعر على إصبعيكَ
كجملةِ شِعري!
منذورةٌ غيمتي في الرّبيع على قافيتينْ
ولحنُ نايكَ فَنّي
مصقولةٌ تلك المسافةُ بيننا
فكأنّه
بل إنّه لا شيء بيني وبيني
فيكَ منّي ليلتان طويلتان
بل طول دهرٍ
وفرحُ كأسٍ يغنّي
(12)
وأنا المجرّد منّي
المعاد ترتيبه على وهنٍ كأنّي
حفنة من شظايا
ورشفة من خمر دنِّ
(13)
سأكون نهر إيقاعٍ فأجري المياه على صدرها
في تربة لحمها الفضيّ أغمسُ قافية القصيدة
أجتازها
حاملا مائي المقدّسْ
أعجنُ الطّين بالطّينِ
أتلو على مسامعها المزاميرْ
"داود" يأتي هنا ليغنّي لها مقطعين من لغة "الزّبور"
سأكونُ كما السّكونْ
واقفا مثل عصفور على خصلة شَعرها الذّهبيّ
وتنتهي لغتي إلى حرفينِ
يبتلّان في ماء الذّهولْ
أصبحُ الشّاعرَ النّهرَ هناكْ
وتكتملُ الحقيقةْ…!
(14)
أحبّك أيّتها الخضراءُ
مثلُ الشَّجرةْ
الممنوحةُ ألقاب اللّغات الخُضرِ
في عناوين الكتبْ
الممزوجةُ من مجاز ومطرْ
أسطورة على ضفافِ الأنبياءِ
جرياً في نَهَر!
أيّتها الصّورةُ الأيقونةُ الحرْفيّة اللّا تُعرّف في اختبارات الصّورْ
أيّتها الأثيرة كالصّباح الحلو يُغرق صورتي
لغتي
فيضُ القمرْ
أيّتها العصفورةُ النّاعمة الرّوح
والملمسُ الضّوءْ
تعلّقُ لون ريشتها عليّ
غيما وأشعارا وظلّا من شجرْ
(15)
أحتاج لأكثركْ
أحتاج دفء يدكْ
أحتاج بحراً هائجاً كيما يغرغرني الموجُ بعمق شهيتكْ
أحتاج ليلاً كاملاً
كي تنبت الأشجارُ أوراقاً على ضفافِ رهافتكْ
أحتاجُ ضوءاً هارباً من زرقة الأفلاكْ
لأشاهد الأسماءَ تتلى في اكتمال محارتكْ
أحتاج سمرتك الشّهيّة في دمي
كأساً لذيذاً في طقوس غوايتكْ
أحتاجني وتراً ونايْ
أحتاج أكثر أكثركْ!
(16)
هكذا
رفعتْ مقامَ قافيتي على كراسي العرشْ
"واستبدّتْ مرّةً واحدةً"
فكنتُ عرّافا غنائيّاً جميل الطّيْشْ
تموز/ 2018
فراس حج محمد
نشرت فى 21 يوليو 2018
بواسطة magaltastar
الثنائيات في رواية
"حامل الوردة الأرجوانية
أنطوان الدويهمي
مهام النظام الرسمي العربي، مراقبتنا، ملاحقتنا، البحث عن الأشخاص الذين نقيم معهم علاقة، كشف طبيعة هذه العلاقة، فرض الأعمال التي يجب أن نقوم بها، يمنعنا من السفر، يعتقلنا، يعذبنا، يعدمنا، وحتى أنه يقرر كيف وطبيعة وطريقة زواجنا، من نتزوج ومن أي بلد، فهو يتماثل بدور (الرب)، القادر والمتحكم بكل ما يصدر أو يقوم به (العبد)، لهذا عندما يفتش في أوراقنا الشخصية يعتبر عملا طبيعيا، وعندما يفرض علينا نوع وشكل ومضمون ما نكتبه، أيضا يعتبر عملا طبيعيا، وعندما يوجهنا لكتابة موضوع بعينه علينا أن نتقبل ذلك بروح الرضا، (فالرب) خصنا بهذه المهمة (الربانية) والتي سنؤجر عليها وندخل (الفردوس) بعد أن "فتحت أبوابها"!!، وإذا خالفنا ما يطلبه (الرب)، فبالتأكيد سيكون (الجحيم) هو البديل.
الترغيب والترهيب، الثواب والعقاب، الجنة والجحيم، الملائكة والشياطين، حاضرة في ثقافتنا، في تفكيرنا، في طريقة تعاملنا، لهذا نعتبرها مسألة طبيعية، وعلينا عدم البحث فيها أو مناقشتها، والتسليم بها أمر بديهي، لأنها حقيقة مطلقة، هكذا جاءت في الكتاب المقدس وفي القرآن الكريم، وعندما يعمل بها (الحاكم بأمر لله) ويطبقها على (رعيته)، يكون ذلك جزء من عمل (رباني)، يرضي الله، ويرفع مكانة (الحاكم بأمره).
بعد أكثر من ثمانية عقود على (استقلال) الدول العربية ما زال المواطن العربي يتعرض لعين الطريقة التي عُومل بها أيام الاستعمار الغربي، وكأن الزمن توقف عند عام 1921، والأشخاص بقوا هم أنفسهم، لكن أدوات القهر والمراقبة والتعذيب تطورت وأصبحت (عصرية)، فلا يبدي (الاستعمار/النظام) مجهودا كبيرا في عملية المراقبة والبحث والسيطرة على الأفراد والجماعات، فأداة القهر تطورت وسهلت ووفرت الكثير من الوقت والجهد على الاستعمار/النظام، بمعنى أن شكل وسيلة القهر تغير، لكن جوهر القهر ثابت، كما أن الجهة التي قامت بفعل القهر تغيرت، فبدل المستعمر الغربي، استُبدل ب(حكام) منا، فهل يعقل أن نرى (الغرب الكافر/المعادي/أل...) يتجاوز كل الخلافات والتباينات فيما بين دوله ويؤسس أوروبا الموحدة، يحق لأي مواطن في القارة أن يتنقل فيها دون أي قيود، ونحن أبناء المنطقة العربي ما زلنا نخضع لفكرة (التصريح) عندما نريد الذهاب من مدينة إلى أخرى، ويجب أن يسمح لنا (الرب) بهذا الأمر!!.
مقدمة كان لا بد منها لنتذكر بأن الإنسان في المنطقة العربية (كتب عليه) الشقاء والقهر "إلى يوم يبعثون" وإلا لماذا هذا النوع من الأدب الذي يتناول القمع والاعتقال والتعذيب والإخفاء في "غياهب السجون"؟، لولا وجود واستمرار الاعتقال والتعذيب.
الراوي
الرواية تتحدث عن كاتب مرموق، يشارك في أربع مقالات في احدى المجلات الرسمية وباسم مستعار، وعندما يُعرض عليه مكافأة مالية نظير تلك المقالات، يرفضها، "فأنا لا استطيع قبض ثمن المقالات الأربع، لقد حاولت جاهدا اقناع نفسي بذلك، ... كان هناك في العمق ذاتي رفض مطلق لمد يدي إلى هذا المال، لا طاقة لي، مهما رغبت ومهما فعلت، على تجاوزه، أمر يتخطى وعيي وإرادتي، هكذا أقبض ثمن المقالات، وقررت التوقف نهائيا عن الكتابة في "مرآة الشرق" ص105، مسألة طبيعة أن يكون لكاتب بهذه الافكار وهذه المشاعر، فهو شخص حساس ومرهف المشاعر، ومن حقه الطبيعي أن يكتب أو يمتنع عن الكتابة، ومن حقه أن يقبل أو يرفض المكافأة، فالكُتاب لهم عالمهم الخاص ولا يجوز لأيا كان أن يتدخل فيما يكتبونه.
لكن ما هي الأسباب التي جعلت "الراوي" يمتنع عن الاستمرار في الكتابة ورفض المكافأة؟: "وأني لو قبضت هذا المال لما عد صفائي هو نفسه، فماذا يفيدني إن ربحت العالم وخسرت صفاء نفسي؟ كانت ستدحل إلي مادة ثقيلة لا عهد لي بها، تضرب خفة وجداني، وتعلق بكل ما يعبر فضائي من مشاعر وأفكار ورغبات وأحلام وصور، فكيف أعود أنا هو أنا؟، كما أدركت أن مال "مرآة الشرق" هو في العمق خيانة لذكرى والدي، ولصورة والدتي، ولطفولتي، وللمربين الذين زودوني بالعالم في ذلك العهد الذي لم يعد موجودا اليوم ولا هم عادوا موجودين، هو خيانة لكل من عرفت وأحببت طوال حياتي، وأني لو قبضت هذا المال لاهتزت علاقتي بالأسفار، وتخربت، ولما عدت أستقل القطار الذي أحبه كثيرا، وتخربت، .. ولما عدتُ أتأمل من نافذته، بالحرية والشغف نفسيهما، السهول الندية، والقرى المائلة على التلال وفي فسحة الحقول، والطيور العابرة فوق البحيرات ومجاري الأنهر...من كان سيحرر نفسي هواء نفسي من هذا الثقل الملوث؟" ص106، في البداية نجد الأسباب نفسية، فهو يشعر بأن هذا المال ملوث، وسيفقده عالمه الجميل، وسيفقده ذاته ككاتب وكإنسان، ثم يقدمنا أكثر طبيعة هذه الأسباب التي جعلته بهذه المشاعر، فهناك ماضي ينتمي إليه الكاتب يجعله لا يقبل هذه المكافأة والاستمرار في رفد "مرآة الشرق" بالمقالات، فالأب والأم والمربين والمعلمين الذين أخذ منهم وعنهم القيم والمبادئ تجعله يحول دون قبول المال والاستمرار في كتابة، وهذا المال وهذه الكتابة تجعله يفقد علاقة الحميمة مع الطبيعة، مع الشعور بالحرية، ومن ثمة سيفقد ذاته ككاتب وكإنسان.
الأهم فيما تقدم أن الراوي يركز على الناحية النفسية، وليس على المادية، وكأنه بهذا يضعنا أمام فكرة الثنائية، المادة/المال من جهة والروح/القيم من جهة ثانية، وهي أيضا فكرة لها علاقة بالجنة والنار، الطريق إلى الجنة فيه التعب والجهد، والطريق إلى النار سهل وسلس.
آنا والراوي
هناك علاقة حميمة بين الراوي وبين "آنا" فهما يعيشان حالة ثنائية، فهما متفقان على عدد من الأشياء ويختلفان على اشياء أخرى، "فعلاقة آنا بأراضي الشرق هي علاقة المسافر، العابر، المكتشف، وعلاقتي بها هي علاقة المقيم، المتجذر، المتألم، والرؤيتان لا تنسجمان" ص11، الحركة عكسية، والشعور تجاه الأرض متعاكس، فآنا سائحة على هذه الأرض، والراوي مقيم، راسخ وثابت فيها. وهذه ثنائية المشاعر تجاه الشرق.
ثنائية الفعل والمفعول
الطبيعة تقوم على المتناقضات، "الصيف والشتاء، الخريف والربيع، الخير والشر، الراوي يقدم فكرته عن واقع الحياة: " ...تعبر كلها عن رؤية واحدة، راسخة، للحياة البشرية، قائمة على ثنائية مطلقة لا هوادة فيها، هي ثنائية القاتل والمقتول، والراعب والمرعوب، والجلاد والضحية" ص98، فهل الحياة لا تكون إلا بوجود هذه الثنائيات؟ أم أننا نستطيع أن نجعلها أجمل دون هذا المتناقضات؟
ثنائية الزمن
الإنسان يعيش زمنه، لكن في المنطقة العربية يجبروننا أن نكون/نعيش زمن ماضي، يرجعوننا إلى التاريخ، فيكون هذا الزمن عبئ أضافي علينا: "مسألتي مسألة الإنسان الذي يجد نفسه رغما منه في انهيارات التاريخ، كنت أود الاقامة في فسحة التأمل المستقرة التي أنشدها، لكن الانهيارات هي حولي من القوة بحيث لم يعد من مجال لأي فسحة" ص172، فحتى الانجازات التي تحققت في الماضي تكون عبئ، وتشكل حالة من الألم، لأنها تجعلنا نقارن ما نحن فيه من بؤس، بما كانا في من مجد، وهذا يعذب الإنسان أكثر، ويجعله يشعر بالهوة التي تفصله بين ما كان نعيم وما هو الآن من جحيم.
ثنائية المكان/الحالة
للكاتب عالمه/مكانه الخاص، إن كان كإنسان أو ككتاب، فالإنسان يجد ذاته في: "أن ما يميز علاقتي بالأمكنة في الغرب عما هي عليه في بلادي، أمران أساسيان: الجمالية والحرية، الجمالية لأني حين عودتي ذهلت أمام فظاعة التشويه والبشاعة اللذين أحدثهما الإنسان في الطبيعة، وفي هذا الموطن، الذي كان منذ أقدم الأزمان رمز الجمال الأرضي في المخيلة البشرية... كما أن المرء يتمتع بحرية داخلية في حله وترحاله في أنحاء الطبيعة الغربية لا تتوافر له في بلادناـ المجزأة، الموزعة وفقا لعصبيات القرى والمناطق والمذاهب والطوائف، حيث يشع المتنقل في أرجائها، كأنه مطالب في كل مكان وفي كل وقت، بتوضيح من هو وماذا يريد" ص121، فهناك ثنائية في المكان، وفي الشعور والاحساس الذي يُحدثه ويتركه في الراوي، المكان في الغرب يمنح الشعور بالحرية والجمالية معا، وفي "بلادنا" تم تشويه المكان/الجغرافيا، وأيضا الإنسان فيه مشوه ومختل، وعلى القادم/السائح/ تقديم كافة التفاصيل المتعلقة بحياته وأسباب تجواله/تنقله.
لكن للمكان في الغرب أيضا خصوصية، فلا يمكن التعاطي معه بعين الطريقة في كافة الأوقات والأزمان، فوقت الصباح غير وقت الظهيرة، وفي الشتاء غير الصيف: "حرصنا على الدوام على عدم إخبار أحد، وعدم إعلام المقربين إلينا، وحين نستقل القطار للذهاب إلى هناك، كنا نشعر كأنها رحلة إلى أعماق ذاتنا، حيث الاندماج الأمثل بين جسدينا وروحينا، ... وكنا نختار أوقات السنة الأكثر ملاءمة للعزلة حيث يخلو المكان من الزوار والسياح، فغالبا ما كنا وحدنا في الفندق" ص131، مثل هذه التفاصيل تشير إلى أن الراوي يحمل مشاعر خاصة، استثنائية، فهو يتعاطى مع المكان بطريقة استثنائية مميزة، فرغم جمال الطبيعة والمكان، ورغم الحرية التي يتمتع بها الإنسان، إلا أنه أختارة جمالية استثنائية، وأختار وقت معين، لكي يكون الاندماج الجسدي والروحي في كماله المطلق.
ونتوقف هنا عند "الجسدي والروحي" فالثنائية حاضرة فيهما، ورغم أنهما يحملان معنى حالتين متناقضتين، إلا أن الراوي يعمل على توحيدهما والجمع بينهما، وهذا يعود إلى أن الحديث يدور عن علاقة الراوي ب"آنا" عن علاقة الرجل بالمرأة، وهما أيضا يمثلان حالة ثنائية.
يقدم لنا الراوي حالة فريدة للثنائية، حالة الشعور بالغربة عن المكان وعن المجتمع الذي ينتمي إليه: "تعلمين، أشعر هنا أني في بلد محتل، وهو محتل من أبنائه أنفسهم، وقد تسربت روح الاستبداد إلى معظمهم وسلبتهم ذواتهم، فأضحوا بلا هوية وفي غربة عن أرضهم" ص170، فالثنائية هنا تكمن في اغتراب الراوي عن مجتمعه وعن وطنه، واغتراب المجتمع عن نفسه، عن ذاته، بمعنى أن المجتمع يعيش في نفس المكان الذي ينتمي له، لكنه يخربه ويشوهه ويدمره، ونجد الراوي يعي هذا الخراب ويعيشه، رغم أنه لا يشارك فيه، بينما المجتمع الذي يقوم بالخراب والتشويه لا يشعر به ولا يعمل ليحد منه أو إيقافه.
وهناك حالة من الغربة تجاه المكان تتمثل في: "هي قبل كل شيء أرض طفولتي وصباي الأول، وأرض والدي وأجدادي، التي طالما حلمت بها من بعيد، ولم استطع التأقلم مع ما آلت إليه ولا إعادة بناء حيلاتي فيها، وكما كنت أحلم بهنا حين كنت هناك، صرت أحلم بهناك حين أصبحت هنا" ص125، ثنائية مستديمة ومتواصلة، فعندما يكون هنا يكون هناك، وعندما يكون هناك يكون هنا، فالعلاقة بالمكان غير مستقرة وتعبر عن حالة (الاضطراب) وعدم الاستقرار عند الراوي، وعدم الاستقرار هذا يشير إلى إنسانية الراوي، وعدم قبوله بما هو كائن، عدم قبوله التشويه الذي يحصل على الجغرافيا وما عليها، إن كان بناء، عمران إسمنتي، أم حياة اجتماعية بشرية
ونجد صورة أخرى لثنائية المكان جاءت بهذا الشكل: "هل أقول أن كل هذه الابنية التي أجهدوا أنفسهم في تشيدها منذ ربع قرن، هي في نظري خراب بخراب؟ وإن شجرة سنديان أو صنوبر واحدة هي في عرفي أهم بما لا يقاس من بناء شاهق" ص18، المكان الأخضر بالنسبة للراوي أهم بما لا يقاس من المكان المشيد بالإسمنت والحديد، وهذا الحالة تعكس ثنائية المكان، شكل المكان بالنسبة للراوي يختلف تماما عن شكل المكان بالنسبة للمجتمع.
ويقدم لنا الراوي فكرة جديدة عن علاقة الإنسان بالمكان: "...شعوري بأن هذا البيت ليس لي وحدي، بل هو ملك كل الذين عاشوا فيه من أهلي على مر الزمان، وبأن تعلقهم به وبحديقته لا يزال موجودا وإن فارقوا الحياة؟ فمن قال إن المشاعر تزول مع أصحابها؟" ص19، ثنائية الوجود لمن هم غابوا/ماتوا وبين الراوي الحاضر تعد حالة فريدة، فهو يشارك الأموات في حقهم/حبهم للمكان.
والطبيعة الثائرة لها مكانة عند الراوي: " ...بينما يهدر البحر هدرا على وقع الرعود وصفير الرياح وانهمار المطر الشديد، لم يكن جموح الطبيعة سبب يقظتي، بل على عكس ذلك، كانت العاصفة تؤنس سهادي، كما في كل مرة، وتشعرني بقوة أني حي" ص39، نجد الراحة والمتعة والشعور بالحرية تتجاوز التفسير العقلي، فهل يعقل أن يكون صوت الرعد وهدير الموج، أصوات جميلة/محبوبة/مرغوبة؟، أعتقد شكل هذه الأشياء هو غير محبب، لكن جوهرها مرغوب ومحبوب، ويعود ذلك لأنها تعبر عن حالة الرفض/التمرد/الثورة على ما هو كائن، ساكن، وأيضا بهذا الحيوية وهذه الأصوات تؤكد على حيويتها وفاعلتها وحضورها في الحياة ووجودها، كل هذا يجعل الراوي يقدمها على أنها صورة جميلة للحياة.
السجن والراوي
للمكان وقع متباين على الإنسان، فهو أحيانا يكون جميلا وأحيانا يكون ومؤلما، عندما يتم اعتقال الراوي في "حصن الميناء" يكون بهذا الشعور: "أدركت أني معتقل في "حصن الميناء" فارتاحت نفسي قليلا إلى المكان الذي لم أكن أتخليه سجنا قط، في كل مرة كنت اتنزه فيها على شاطئ النخلتين، كنت أرنو من بعيد إلى "حصن الميناء"" ص24، الملفت للنظر أن الراوي عندما تحدث عن وطنه ـ وهو حر ـ استخدم تعبير الاغتراب والألم، بينما نجده هنا يستخدم وصف جميل رغم أنه في الأسر.
الراوي يخلق لنفسه مكان/عالم خاص به، رغم وجوده في السجن، إلا أنه يخلق لنفسه عالم جديد: " فحين أكون وحيدا لا أكون معزولا،... ذكرت مدى وحدتي التي أخترتها انفسي داخل هذا المجتمع، داخل هذه المدينة" ص28، فالراوي يتحرر من ضيق المكان إلى الفسحة التي يعطيها لذاته، لنفسه، فالوحدة تمنحه الراحة والتأمل، والتحرر من وقع المجتمع عليه.
ثنائية الكتابة
النص الأدبي واحد، لكن، يقرأهُ كلا حسب رؤيته الخاصة، وهذه القراءة تخضع لظرف، للمكان، للزمان الذي يُقرأ فيه، كما تخضع لتعدد القراء، فلكل قارئ مفهوم خاص، لغة خاصة، حالة خاصة، وهنا تحدث الإشكالية، فالشخص المتسلط يميل إلى لغة القسوة والشدة، والإنسان البسيط يريد لغة سهلة، والأديب بحاجة إلى لغة جميلة، يحاول الراوي أن يوضح/يفسر/يحلل لماذا هذا الاهتمام به وبكتاباته دون سواها: "ليس لأنها مكتوبة بالفرنسية... بل لأنها مصوغة بلغة أدبية، بينها وبين لغة جهاز الطاغية هوة لا تُردم" ص161، فالثنائية واضحة بين لغة "الطاغية" ولغة الراوي، فالأول يصر ويريد ـ حتى اللغة ـ أن تكون حسب إرادته، والثاني يستخدم لغة خاصة متميزة عن تلك اللغة الرسمية الدارجة، فالراوي يستخدم لغة، و"للطاغية" يستخدم لغة أخرى. بمعنى أن لكلا منهما عالم/لغة خاصة.
الطاغية/النظام
كما قلنا في البداية أن الرواية تتحدث عن الاعتقال السياسي، لهذا نجد الراوي يقدم لنا صورة هذا النظام وما يمارسه من أعمال: "فمن المعلوم أن النظام يعتقل من يشاء لسنوات، من دون أي تحقيق أو محاكمة، ويمكن أن يختفي خلالها السجين فلا يُعرف مكانه ولا مصيره، وهناك عشرات الألوف من المفقودين" ص66، هذه الصورة العامة للنظام، لكن لماذا تم تناول الراوي للطاغية؟ وما هي الاسباب التي جعلته يتعرض للاعتقال؟ "رفضي القاطع قبض المال المخصص لي وأنا في امس الحاجة إليه وعزوفي المفاجئ والنهائي عن الكتابة في المجلة" ص108، يبدو أن المسألة طبيعي، كاتب لا يريد أن يكتب لمجلة "مرآة الشرق" فما الضرر بذلك؟ وما هي المشكلة؟ وأين هي؟، سلوك طبيعي لأي كاتب، حتى لأي إنسان، اليوم يقبل القيام بهذا العمل، وغدا يجد نفسه غير منسجم مع عمله، فيأخذ البحث عن عمل جديد، لكن النظام الرباني يرفض أن يكون هناك من يعارضه أو يرفض له طلب، لهذا نجد النظام يمارس سطوته من خلال: "...ثابر رئيس التحرير على مكالمتي بالهاتف، ...لقاء رواتب وامتيازات كبيرة، عرض علي مضاعفة أجري، ثم في اتصال آخر، طلب مني تحديد المبلغ الذي أريد، فهم موافقون مسبقا عليه" ص109.
يرفض الراوي هذا الاغراءات، مما يجعل النظام يسخط عليه، وهنا تكون الواقعة، يتم اعتقال الراوي في السجن، تأخذ الاحتجاجات على اعتقاله في الظهور، ومع هذا نجد النظام: " كل ما صدر من بيانات الاستنكار الموقعة من مئات المثقفين، ذهبت أدراج الرياح، ما يهم النظام منها هو فقط التقصي عن محركها ومحاسبتهم، إن لم يكن اليوم فغدا، حتى لا يعود من يجرؤ على التضامن مهما بلغ شأو الظلم" ص158، وكأن الراوي يخبرنا أن طبيعة وتركيبة النظام تدفعه للتوغل أكثر في غيه وظلمه، وواهما كل من يفكر بإمكانية تغير هذا الواقع، هذه الطبيعة للنظام.
عنوان الرواية
عنوان الرواية "حامل الوردة الأرجوانية" لا يشير بأي شكل من الاشكال إلى أن موضوعها سيكون عن الاعتقال، لكن بعد أن ندخل إلى متن الرواية، نجد أحداث مخالفة لما تحمله فكرة العنوان، وهنا تُحدث فينا الرواية فكرة التباينات/الثنائيات الراسخ في عقنا ووعينا، فكرة الجنة والنار، بحيث نمحي وجود المنطقة الوسطى، ففي ثقافتنا السائد "أما أبيض أو أسود" وهذا ما يجعلنا نتعامل مع الآخرين، أما كأصدقاء أو اعداء، فلا يوجد اشخاص على الحياد.
الرواية من منشورات الدار العربية للعلوم ناشرون، دار المدى، الطبعة الثانية/ 2014
نشرت فى 21 يوليو 2018
بواسطة magaltastar
البساطة في مجموعة
"ينزع المسامير ويترجل ضاحكا"
رسمي أبو علي
دائما التواصل بين الكتاب يكون مثمرا، قبل أيام كتب الروائي "محمد جميعان" خبر "اجراء عملية قلب ل"رسمي أبو علي"، وتحدث عن أيضا "وفاة ابنته "أوميدا"، بالتأكيد مثل هذه الأحداث ترهق الإنسان وتتعبه، فما بالنا إن حدثت لكاتب/أديب يحمل مشاعر مرهف، يمكن لأي شيء أن يؤثر فيها ويجرحها، إضافة إلى أنه في العقد السابع من العمر؟، كما أن "محمد جميعان" وضع أول صفحة من القصة "حكاية طويلة جدا اسمها أوميدا" التي يتحدث فيها القاص عن الدوافع وراء اختيار هذا الاسم لابنته، كل هذا جعلني اهتم بالقصة أولا ثم بالمجموعة القصصية ثانيا، وأردت بذلك أن أخفف شيء من الألم الذي أصاب القاص، من خلال الكتابة عن مجموعته القصصية، فالفضل في هذه الكتابة يعود أولا وأخيرا ل"محمد جميعان" الذي بخبره حفزني على القراءة والكتابة.
المجموعة تنقسم إلى ثلاثة اجزاء، مرحلة بيروت 1977 -1982، الجزء الثاني: مرحلة ما بعد بيروت 1983 -1987، الجزء الثالث العودة إلى عمان 1987 – 1993، في هذا المجموعة نجد العديد من المحطات التي مر بها "رسمي أبو علي"، واعتقد بأنها في غالبيتها أحداث واقعية، لكن تم صياغتها بشكل أدبي، قصصي، من هنا سنجد القاص يكتب ببساطة، لكنها بساطة ممتعة وشيقة، ويمكن لأي قارئ أن يتناول المجموعة في وجبة واحدة، وإذا ما أضفنا إلى ذلك بعض القصص جاءت بأسلوب ساخر خاصة تلك التي تناولت شخصية الكردي العراقي "أبو روزا" يمكننا القول بأننا امام مجموعة قصصية ذات طابع خاص، بحيث تتميز بطريقة تقديمها بتنوع أسلوبها.
"أبو روزا"
يتناول القاص هذه الشخصية في أكثر من قصة وهي "الأحلام السكايلابية السعيدة، النهاية المحتملة لدون دوان آخر، أبو روزا معتقلا، شيء من الملح، أبو روزا بوذيا، وكلها جاءت بشكل ساخر ممتع، ففي قصة "أحلام السكايلابية" نجد القاص يبدأ في رفع أحلام (اليقظة) عند "أبو روزا" من خلال قوله: "إذا أكلامك الله سبحانه وتعالى بكيلو غرام من "سكايلاب" يسقط على نافوخك فستظل غنيا إلى ولد الولد" ص65، يأخذ صاحبنا "أبو روزا" بطرح الأسئلة حول طبيعة المبلغ، "وهل سيكون شيكا أم نقدا" ص66، واثناء الحوار نجد بساطة القاص من خلال تناول لأفعال "أبو روزا": " "لطش" واحدة أخرى من سجائري" ص65، وهذا ما يجعل القصة قريبة جدا من القارئ، وتبدو لنا وكأنها تروى من قبل صديق مقرب لنا، وإلا ما كان استخدم الفاظ محكي" لطش" لكن أحلام "أبو رزا" لم تتوقف عند المال، بل تناولت الخلاص من حالة التشرد، من خلال حصوله على جواز سفر امريكي: "
ـ جواز سفر؟
ـ أي، جواز سفر أميركي، شو رأيك؟ بعد أن يأخذ القاص من "أبو روزا" إلى الجنة يعيده إلى واقعه من خلال: "سيمر وقت طويل ولن يسقط شيء على رأس صديقي" ص68، الجميل في مثل هذه القصص أنها تحكي عن شخص عادي، يحلم بالخلاص من واقعه البائس، لكن الطريقة التي قُدمت فيها كانت ساخرة، وتعبر عن حجم الأمل عند المواطن العربي، فالقصة تقدم واقعنا البائس ـ بطريقة ساخرة ـ وتجعلنا نحلم، حتى لو بدى الحلم غير منطقي أو واقعي، فيكفينا أن نحلم لنتغلب على بؤسنا ومأساتنا.
في قصة "النهاية المحتملة لدون جوان آخر" يجعل القاص "أبو روزا" الرجل شرقي الفقير يحلم أحلام العاشق، فيبدأ القاص يحدثه عن الفتاة الشقراء الغنية التي تستهويه: "قلت له: تجلس بنوع من التثاقل ودون أن تنظر إليها تتناول علبة سجائرك وتشعل سيجارة دون أن تحاول أن تقدم لها واحدة" ص82، وهنا يبدي "أبو روزا" محتجا، ردة فعل طبيعية: "ليش؟ لماذا لا أعزم عليها بسيجارة؟" ص82، فتكون الاجابة:
" ..حتى تفهم أنك لست من ذلك النوع السخيف من الرجال الذين لا يكفون عن عرض خدماتهم" ص82، ثم يقدمه إلى مرحلة جديدة بحيث يجلس معها على مائدة ملوكية فيها ما لذ وطاب: " الوسكي بالثلج هو المشروب المفضل في هذه الحالة ولا تنسى المكسرات وأطباق اللوز والفستق التي خرجت لتوها من المحمص" ص84، وهنا يبدي صاحبنا ردة فعل: "هنا أمسك صديقي بمعدته وتوسل إلي أن أكف" ص84، لكنه يصر على امتاعنا بالحديث عن "أبو روزا" الذي يفترض أن يدخل بيتها وتكون أمامه مائدة "بضع دجاجات محمرة، ... قطعة خاروف محمرة بالفرن على الطريقة الإيطالية، ولا تنسى السلطات العربي" ص85، هذا البائس أمام هذا الحديث نجده: "وصل صديقي إلى حالة البكاء الفعلي وهو يشد على معدته بشدة متوسلا إلي أن أرحمه قليلا" ص85، لكن المفاجأة كانت بنهاية هذا الجلسة مع العشيقة: "... يفاجئك زوجها والمسدس في يده، فيطلق عليك عددا من الرصاص ترديك قتيلا.
ـ ها تريد أن تقتلني إذن؟ صرخ أبو روزا باستنكار.
ـ طبعا وهل تعتقد أنني أرسلك في هذه الرحلة الأسطورية بلا مقابل" ص85، من هنا نقول نحن أمام قصص استثنائية، مميزة، القاص يضع لنفسه أسلوب خاص به، بعيدا عن أي تقليد.
المدينة
في هذه المجموعة نجد حضور المدينة "بيروت، دمشق، عمان" بشكل طاغي، بحيث يغيب الريف تماما إذا ما استثنينا قصة "لو كان إبراهيم هناك" فكافة الأحداث تجري في المدن، وهذا ما نجده غالبة القصص التي تتحدث عن الحياة في المدينة، ولهذا نجد تعلق القاص بحياة الريف من خلال قصة "الشجرة" التي بسببها يفضل أن يستأجر بيت أقل امتيازات من البيت الثاني: "أما هذه الشجرة، بيضة القبان التي رجحت الكفة فكانت في الواقع شجرة لوز" ص131، من هنا نقول أن القاص استكفى من حياة المدن، ويحن إلى جذوره، إلى قرية المالحة التي تركها مجبرا في عام 1948.
المجموعة ضمن كتاب "رسمي أبو علي، الأعمال الأدبية، دار مجدلاوي للنشر والتوزيع، عمان الأردن، الطبعة الأولى 2008.
نشرت فى 19 يوليو 2018
بواسطة magaltastar
الخفة في قصيدة
"بين الفاء وبين النون"
مازن دويكات
عندما تجتمع السهولة والبساطة لنتقدم من العمق، من الجوهر، بالتأكيد نكون أمام حالة استثنائية، أمام أسلوب مميز، هذا ما يفعل الشاعر "مازن دويكات، الذي تميز بقدرته على كتابة الومضات والأدب الساخر، يفتتح الشاعر قصيدته:
"بين" الفاءِ" وبين" النونِ
رأيتكِ يا كاملة الأوصافْ"
من خلال هذين الحرفين يبدأ المتلقي بالبحث عما بينهما من حروف، وهنا تحدث عملية التفكير، التوقف، فنحن أمام سؤال وعلينا أن نجيب عليه، وبما أن الحديث يدور حول "كاملة الأوصاف" فهي تشير إلى هناك أنثى، إلى المرأة وهذا يجعل المتلقي يتقدم أكثر إلى تلك تفاصيل المتعلقة ب"كاملة الأوصاف"، وبعد هذه الإثارة وهذه الوقفة يسهل الشاعر علينا هذه الاحجية فيقربنا أكثر من الاجابة من خلال المقطع التالي والذي جاء:
"كان المتوسطُ بينَ يديكِ
يقبلُ أغصانَ الزيتونِ
ويداعبُ أوراقَ الصفصافْ"
الشاعر يقربنا من مكان، فيجعلنا نتجه نحو الجغرافيا، وعندما ذكر "الزيتون" حدده أكثر، وعندما أضاف "الصفصاف" اعطنا اشارة إلى أنه مكان يقع على شرق المتوسط.
بعد درس الجغرافيا يقربنا مرة ثانية من درس الحروف واللغة، يقول:
ورأيتُ "اللامَ" على شفتيكِ تحوّل "لا""
و"السين" المسنونةُ سهمٌ
في الأحشاءِ وفي الأطرافْ
و"الطاء" طيورٌ جارحةٌ تنقرُ في الليلِ
عيون الحرسِ الأجلافْ
و"الياءُ" يمامٌ يهدلُ فوقَ الشرفات
وعلى الأعرافْ"
إذن من خلال تجميع الأحرف يتكون الكلمة "فلسطين"، والجميل في الأمر أنه قدمها لنا بطريقة بسيطة وسهلة، لكنها عميقة، تجعلنا نتقدم من "فلسطين" وما يحدث فيها، فهناك سهم يخترق الاحشاء، وطيور تنهش اللحم، وحمامة ما زالت تهدل بالحنين، أليس هذا واقع فلسطين؟.
يعيدنا الشاعر إلى الاحجية من خلال:
"جئتُ وفي شفتي كلمةٌ
وأخافُ إذا بحتُ بها كاملة
والله أخافْ"
فلماذا هذا الخوف؟، وما الداعي له؟، وهل هو خوف حقيقي؟، أم خوف مجازي؟، لنستمع إلى تتمة الاحجية:
"فلذا سأهربها حرفاً حرفاً
كالسلعِ الممنوعة والعملةِ,
حينَ يهربها الصرّافْ"
يبدو أن هناك كلام ممنوع، لهذا نجد الشاعر يتخذ كل الاحتياطات الآزمة لإيصاله وتقديمه سالما:
": اقتربي مني يا سيدتي واستمعي"
الشاعر يحيرنا أكثر من خلال "اقتربي لسيدتي" ولكنه في ذات الوقت يقربنا من النص أكثر من خلال مخاطبته للمرأة التي تستهوينا، فماذا سيقول لها؟:
"ألفٌ...حاءٌ...باءْ...كافْ"
الجميل في تقطيعات الشاعر لكلمة "أحبك" أنها جاءت مزدوجة الدلالة، "أحبك فلسطين، أحبك سيدتي/امرأتي" بهذه الطريقة يمتعنا الشاعر "مازن دويكات" بشعره السلس والسهلة، ويستوقفنا بعمق الأفكار التي يحملها.
القصيدة منشورة على صفحة الشاعر على الفيس.
نشرت فى 16 يوليو 2018
بواسطة magaltastar
المرأة في كتاب
"هكذا قتلتُ شهرزاد"
جمانة حداد
تبادل الكتب يتماثل مع تبادل الخبرات، حيث نحصل على معرفة بطرق أسهل وبجهد اقل، كما أن النتائج الايجابية تكون مؤكدة، "فراس حج محمد" يوفر علي الوقت من خلال تقديم بعض الكتب أو نصوص أدبية، فكتاب "جمانة حداد" والتي لم أعرفها من قبل، يمثل تكملة لكتاب "نوال السعداوي" "الأنثى هي الأصل" لكن هذا الكتاب جاء يطرح حقوق المرأة الأدبية والمعرفية، أكثر منه لحقوقها القانونية، كما أنه صيغة بطريقة أدبية وليس حسب المنهج علمي/البحثي، الذي يستند على الأرقام والمعطيات العلمية البحتة.
تحدثنا الشاعرة عن المنطلقات والدوافع التي جعلتها تقدم على تذليل الصعوبات لتحقيق هدفها بإصدار مجلة "جسد" والتي تخصصت بالأدب الإيروتيكي، فهي عاشت في مجتمع شرقي محافظ، يعمل غلى إخضاع المرأة جسديا وفكريا واجتماعيا وقانونيا وسياسيا لسلطة الرجل، فالفتاة تنشأ وهي تحت (حماية الأب، الأخ، الأسرة، العائلة، المجتمع، الدولة، الدين، الطائفة" بحيث تفقد كيانها الخاص تماما، لأنها حسب المفهوم العام (حرمة)، ومن هنا ستتعرض لأقسى أنواع (العقاب) إذا ما خرجت على العرف/العادة/القانون/المجتمع/الطائفة/الدين، تحدثنا "جمانة حداد" عن شيء من هذا الظلم الواقع على المرأة: فتقول: "قمع المرأة وحجب كيانها وكتم صوتها وشل قدرتها وتسليعها في بورصة الذكر...غسل الأدمغة وتخديرها بأدوات الجهل والتخويف... انظمة مهينة تعتبر المرأة كائنا بشريا من الدرجة الثانية، وجد ليخدم، أو ليتسلى به، أو ليمتع، أو ليطيع... أنظمة تميزية ترى في المساواة بين الرجل والمرأة هرطقة.. (شرفنا هذا المرتبط حصريا بما بين فخذي امرأة)" ص2، والكتابة تستند إلى نصوص دينية من الكتب السماوية لتؤكد حقيقة أن المرأة تم التعاطي معها كشيء ناقص وأقل من الرجل، فتقول: "وأنه بين الرسل الاثني عشر، لم يختر المسيح أي امرأة...لا زال البابا متمسكا بذكورة كنيسة البطريركية" ص6، من هنا نجدها تتخذ هذا الموقف المتمرد على الفكر الديني فتقول: " ما دام من المحرم على المرأة أن تكون رأس الكنيسة الكاثوليكية، فلن اعتبر نفسي عضوة في الكنيسة الكاثوليكية، وما دام الرجال المسلمون لا يرتدون البرقع بدورهم، فسأظل أفضح البرقع كأداة قمع وإلغاء مهينة لكينونة المرأة" ص7، بهذه الحدية نجد "جمانة حداد"، فهي نصيرة المرأة لانتزاع حقوقها كاملة كما هو حال الرجل.
وإذا ما توقفنا عند ما جاء سابقا، سنجدها تطالب بحرية فكرية/سياسية/دينة اجتماعية، وأخرى حرية جسدية، بمعنى أنها تحرر العقل والجسم معا، فهي عندما تحارب "البرقع" فهو تحارب شكل من اشكال المفروضات/الواجبات التي يضعها المجتمع على المرأة ويجبرها على الالتزام به والخضوع له، وهي لا تعارض ان ترتدي المرأة أي لبس ما دامت هي من يختاره، لكنها تعارض أن يفرض عليها اللبس، ومن هنا علينا أن نفهم طبيعة التمرد عند "جمانة حداد" فتمردها وثورتها ليس على الشكل بل على الجوهر، وهي بهذا تقطع الطريق أمام كل من يحاول أن يصنفها على أنها (متحررة جسديا) وتريد أن تجعل المرأة مشاع.
لهذا نجدها تعبر عن سخطها على الواقع العربي فتقول: "أن تكون عربيا اليوم يعني أيضا... مواجهة سلسة لا متناهية من طرق المسدودة أو المأزق: مأزق التوتاليتارية، مأزق الفساد السياسي، مأزق المحسوبيات، مأزق البطالة، مأزق الفقر، مأزق التمييز الطبقي، مأزق التفرقة الجنسية، مأزق الديكتاتورية، مأزق التطرف الديني، مأزق كره النساء وتعدد الزوجات" ص12، وكأنها بهذا تقول أن المجتمع العربي لا يمكن أن يتحرر إذا ما بقى نصفه الآخر في الحياد، ولا يشارك بفاعلية لإزالة هذه المأزق التي تثقل كاهلنا وتجعلنا في حالة تقهقر مستمرة.
تقدمنا "جمانة حداد" من أهم وسيلة للثورة وللتغيير، والوسيلة المتاحة للتخفيف من وطأة ثقل الواقع عليها:
"امرأة عربية تقرأ الماركي دو ساد
الكتاب هو المكان الوحيد في العالم الذي يمكنه أن يلتقي فيه غريبان، بحميمية كاملة" مي زيادة" ص26، وهذا الوسيلة (احدى الوسائل) ـ وليس كلها ـ التي يمكن ان تستخدم للتخفيف والخروج من واقع الحال على الإنسان، فهناك وسائل أخرى، المرأة/الرجل، الطبيعة، التمرد/الثورة، وهي ما نجدها في الأعمال الأدبية، فالكثير من الكتاب يستخدمونها مجتمعة أو بعضها ليتحرروا من ثقل الواقع المفروض عليهم.
المتاح أمام المرأة العربية، خاصة تلك التي تعيش في المدينة هو الكتاب، القراءة والكتابة، لهذا نجدها تهيم ب"كنت أحلم بدوستويفسكي وسالنجر وإيلوار، أولئك كانوا الغرباء الذين اشتهيتهم وسكنوا خيالي، لا نجوم السينما ومشاهير نجوم البوب" ص27، فالكتاب، لم يعرفه، يمثل عالم آخر يحررنا من ذاتنا قبل أن يحررنا من واقعنا، ويجعلنا نعيش في عالم رحب وأفق واسع، "أحببت القراءة لأسباب متنوعة،: كنت أقرأ لأتنفس، أقرأ لأعيش (حياتي كما حياة الآخرين) أقرأ لأسافر نحو البعيد، لأهرب ن واقع مرير، لأكبت دوي انفجارات الحرب اللبنانية، لأتجاهل صراخ والدي وخلافاتهما اليومية، ...أقرأ لأفهم، لأنسج الأمل، لأصنع الخطط، أقرأ لأومن، لأحب، لأحترف الرغبة والتوق والشهوة" ص28، لهذا القراءة والكتابة هما عالم آخر لمن يريد أن يتحرر، ليمن يريد أن يخرج من بؤس الواقع وهوله.
وتدعونا إلى التقدم من عالم الكتب، مهما كانت الأفكار التي تطرحها: "لا تخشين الكتب، حتى أكثرها انشقاقا عن المألوف، حتى تلك التي تبدو "خليعة" أو "لا أخلاقية" في الظاهر...بأن القراءة هي إحدى أهم الأدوات التحررية التي يمكن أي شخص، وأي امرأة عربية معاصرة على وجه التحديد، أن يستغلها" ص32، إذا ما توقفنا عند عبارة "في الظاهر" يمكننا أن نعلم بأن "جمانة حداد" لا تريدنا أن نأخذ أو نهتم بالشكل فحسب بل بالجوهر أيضا، فيمكن أن يكون وراء الشكل الشاذ جمال، ووراء الرذيلة فضيلة، من هنا علينا ان نقرأ قراءة نقدية تحليلية وليست قراءة (شكلية/مقدسة).
الكاتبة تجد ضالتها في "الماركي دو ساد" والذي أوصلها إلى: "خيالك مملكتك، كل شيء في الرأس، كل شيء ممكن في الكتابة، شرعي النوافذ ولا تخشي أن تنتهكي وتهلوسي" ص30، هذا الاكتشاف لم يأتي بسهولة، بل جاء بعد جهد وتعب، فعلينا أن لا نمر عليه مرور الكرام.
واقعنا في المنطقة العربية في غاية البؤس، فما عاشته "جمانة حداد" في لبنان في فترة 1975 إلى 1990، عاشه السوري والليبي واليمني منذ عام 2012 وحتى الآن، وعاشه العراقي قبلهما من عام 2003 إلى غالية الساعة، إذن الحالة العربية تتكرر وتتوالد من جديد، لكن بأشكال أكثر وحشية، وأبعد مساحة جغرافية ، بمعنى أننا نتهاوى أكثر على مستوى الكم والنوع.
الحالة التي مرت بها "جمانة حداد" يمكننا أن نسقطها على بقية المنطقة العربية، فعندما تتحدث عن "لبنان" هي تتحدث عن العراق، عن سورية، عن اليمن ،عن ليبيا، من هنا نجدها ناقمة على هذه الواقع وعلى هذه الحرب/الحروب المدمرة والمهلكة: "أنا احتقر طفولتي، بودي لو أنساها برمتها، باستثناء القراءات الملهمة التي رافقتني خلال هذه المرحلة وجعلتها أخف وطأة، لن احتفظ ولو بتفصيل واحد عنها" ص 34، هل تناول "جمانة حداد" للحرب الأهلية جاء من فراغ؟ أم أنه يشير ـ بطريقة ما ـ إلى أن من يتحمل مسؤوليتها هم الذكور، ولهذا نجدها تتمرد عليهم وعلى كل ما يصدر عنهم ومنهم؟.
تقدمنا أكثر من حقيقة قيادة الذكور للمجتمع وما أحدثوه من خراب وموت، فتقول: "...حربا فتكت بالأشخاص، دمرت بيوتا وأسر كاملة، وباتت مصنعا لإنتاج الأرامل والثكالى واليتامى، حربا جعلت الوقت يمر ثقيلا، بطيئا، لكأننا في مستنقع من الوحل... حربا أحالتني إنسانية عفنة من الداخل.
هذا الجروح هي الثمن الذي يدفعه كل من وُلد، مثلي، تحت سماء بيروت" ص35، الكاتبة تصرحنا بحقيقة نتائج قيادة الذكور للمجتمع، للدولة، وكأنها بهذا تقول ـ بطريقة غير مباشرة ـ اتركوا لنا نحن معشر النساء حريتنا ـ لأننا مهما فعلنا لن نحدث ما أحدثتموه أنتم من خراب وقتل وتدمير.
وإذا كانت ما تناولته في السابق يتحدث عن حالة عامة، فها هي تحدثنا عن ذاتها، عن مديتها بيروت، فتقول: "..إلا أنني لا أشعر بأي انتماء إليها كمدينة ومكان، ربما لأنني لم أرى منها، منذ طفولتي وحتى شبابي على امتداد 15 عاما، وأكاد أقول حتى اليوم، سوى وجهها البشع، الشرير، القاسي، أي وجه الحرب، والدمار، والموت، والخوف، والقلق، والركض إلى الملاجئ، لم العلب في شوارعها، لم أتمرغ في ترابها، لم اتنزه على كورنيشها، ولم أعش غليانها" ص35، إذا كان هذا حال المرأة في لبنان، بلد الحرية والتعدد والتنوع، فكيف سيكون حالها في العراق أو ليبيا أو اليمن وحتى في سورية؟.
إذن الحرب أكثر الأعمال الشريرة التي يقدم عليها البشر، ولا يمكن أن يمحى آثارها من الذاكرة، ويبقى أثرها النفسي إلى انتهاء حياة من عاشها، ومع كل هذا كانت "جمانة حداد" قدسية في تعاملها مع الحرب، لم تقبل أن تكون "الحرب" مطية/وسيلتها لتحقيق مجدها كشاعرة:
"لم لا تكتبين عن الحرب في قصائدك؟"
فتكون إجابتي الأولى: "لست مستعدة بعد"
وإجابتي الثانية: "أخجل من استغلال الحرب لزيادة نسبة الإقبال على كتاباتي" ص36، فالكاتبة هنا تؤكد على تمسكها بالمثل والقيم حتى في حالة الحرب، والتي تجعل كل شيء مباح، حتى القتل، فالكاتبة/الأنثى في الحرب تتمسك بالقيم، حتى تلك المتعلقة بالجانب الأدبي، بينما الذكور يشعلونها ويتقدون بنارها، وهنا المفارقة الكبير بين الجنسين، الذكور والنساء.
وتقدمنا الكاتبة اكثر من ذاتها والكيفية التي تفكر بها من خلال هذا الموقف:
"سألني أحد أصدقائي مرة: "ما هو مكانك المفضل في العالم؟/ فأجبته فورا: "رأسي. وبعد فمن يدري، لعل مدينتي الحقيقية هي، بكل بساطة... أناي! (وحضن الرجل الذي أحب، عندما أكون واقعة في الغرام" ص38، الكاتب تتناول العناصر المخففة الأخرى والتي تخرجنا من قتامة الواقع، فهي تتحدث عن الرجل وعن الطبيعة/المدينة، وبما أنها تمارس التمرد/الثورة وتكتب وتقرأ، فتكون قد استخدمت كافة العناصر، لتخفيف ما علق بها من تشويهات.
ثورة "جمانة حداد" جاءت من خلال تناولها لألفاظ ومواضيع محرمة، السياسة، الجنس، الدين، الثالوث المقدس في المجتمعات العربية: "أول مرة أوردت فيها كلمة "قضيب" في قصيدة، كنت في الخامسة والعشرين... قرأها والدي... علا صوته وراح يعترض ويحتج،: "كيف تتجرئين على كتابة مثل هذه الترهات الشنيعة ثم نشرها بتوقيعك؟" فأجبته: في الحقيقة يا أبي، لقد ضقت ذراعا بسلسلة الاستعارات التي لا تنتهي، وبشتى الكنايات والألقاب المستخدمة لوصف العضو الذكري" ص40، إذا ما توقفنا عند هذا الحوار يمكننا أن نجد منطق الكاتبة هو الأصوب، فقد استنفذت الكلمات ولم يعد لها مكانة، كما أنها وجدت في استخدام لفظ "القضيب": "يتملكني شعور بالغضب والخزي والغثيان، فهي تذكرني بكم حرمت النساء في ثقافتنا من التعبير عن أجسادهن لمدة طويلة جدا، يثير حنقي الإخصاء الخبيث الذي تعرضت له" ص41، من هنا يمكننا أن نصل إلى حقيقة ما تريده "جمانة حداد"، فعلينا أن نتجاوز الشكل، المظهر الخارجي ـ رغم أهميته في هذه المسألة ـ فهي تريد أن تحصل على حرياتها كما حصل الرجل على حريته، وأن تكون نظيرة للرجل تماما، فما هو متاح له متاح لها، ورغم أن هذا الطلب يعد مرحليا، ولا يعبر عن حقيقة مطلب النساء، حقيقة غائبة عنا، أو حقيقة نحن نتعمد على تجاهلها أو نسيانها، وهي ان قيادة مجتمع الذكور أدت إلى الكوارث والخراب والموت والتشرد، فأصبح من المحتم والضروري أن يتم إزالة الذكور من القيادة وتسليمها للنساء، إذا ما أخذنا هذا الأمر بعين الاعتبار يمكننا أن نصل إلى موضوعية مطلب الكاتبة بالتحدث عن الاشياء بأسمائها.
الشاعر يكتب القصيدة أم القصيدة تُكتب الشاعر؟، تجيبنا "جمانة حداد":
"هل نحن نختار، نحن الكتاب، مواضيعنا حقا، أم هي التي تختارنا؟"
شخصيا أنا مقتنعة بكل صراحة بالاحتمال الثاني" ص45، وهنا تقدمنا الكاتبة أكثر من حقيقة وموضوعية ما تكتبه، فهي كمرأة لها جسدها ورغبات وحاجات خاصة، ولها أن تعبر عما تشعر به كتابتا/شعرا، فهي تكتب ما يمليه عليها جسدها، حاجتها: "عندما أكتب، أشعر بأنني أكتب بجسدي وعليه، بأظافري ومنها، وأن كلماتي تنفجر من مسامي وتنحفر على جلدي نفسه، إنها رحلة صيد شرسة وعنيفة ودموية بقدر ما هي مغامرة تأمل رقيقة وهامسة وخفرة كذلك قراءتي، ترن أصداؤها لحمي الحي بقدر ما ترن في عقلي الواعي واللاواعي." ص42 بهذه المشاعر وهذا المنطق يمكننا أن نتفق مع طرح الكاتبة وننحاز إلى موقفها في هذا الشكل من الكتابة، فهي أولا: إذ تتمرد على واقعها كمرأة، وثانيا: تتماثل مع حقيقة فعل الكتابة، "القصيدة تُكتبني"، وثالثا: تجعلنا نتجاوز الأفكار التي تهتم بالشكل على حساب المضمون، فترفع من مكانتنا الذهنية وتقدمنا من حالة إنسانية نقية بعيدة عن المُلوثات والتشويهات السائدة.
وتلخص لنا موقفها كشاعرة من الكتابة بهذه العبارات:
"أجل، لا يزال عرب كثيرون يتحدثون عن "طهر" الأدب وفضيلته، بينما يحرمون الكتاب حرية التعبير، هل ثمة عهر أكثر فظاعة من حرمان الكاتب كلماته؟
فلنسم الأشياء بأسمائها: الرقابة عملية اغتصاب" ص43.
"فنحن لا نكتب الشعر للحاق بركب الموجات السائدة، ولا نكتب الشعر جريا وراء أطياف الشهرة، إننا نكتب الشعر لنكون أحرارا" ص46.
وهي ترفض بشكل مطلق الرقابة، إن كانت ذاته أم خارجية، لأنها تحد من حرية التعبير عند الكاتب، وكما أنه لم يعد لها داع، فعصر النت والفضاء المفتوح جعل : "أي رقابة في زمن صرنا نحصل فيه، بكبسة زر بسيطة، على كل المعلومات التي نريد وأكثر" ص 51، وترد على موقف بعض الجهات التي تدعو إلى ضرورة التقيد بالعرف والعادة وبما هو سائد، حفاظا على (القيم والمثل)، فتقول: " العقل العربي في أزمة، ولأنه كذلك، يريد من الجميع أن يكونوا غارقين في الأزمة مثله، ... هذا العقل لا يستطيع تحمل الأسئلة" ص51.
بكل موضوعية نحن كذلك، إن كنا كمجتمع أم كأفراد، فنحن نعيش في أزمة، ونهرب من أزمة لنجد انفسنا في أزمة جديدة، بحيث صرنا نشكل أزمة مركبة ومتداخلة، وبتنا، لا يمكن أن نتحرر مما نحن فيه بالمطلق، هذا هو واقع المجتمع العربي، ومن يحاول أن (يجادل) في هذا الأمر فعليه أن ينظر إلى ما نحن فيه على كافة الاصعدة.
ولتوضيح أكثر ما تقدمه "جمانة حداد"، تحدثنا بالطريقة بسيطة عن أفكارها، لألى يُؤخذ تأسيسها لمجلة "جسد" وسيلة لتشويه أفكارها، أو لتشويه سلوكها: "اعتقد أن نموذج الأنثى التي تعامل جسدها كلحم رخيص لا يقل إذلالا وإهانة عن نموذج المرأة المحجبة، فكلاهما يمحو الكيان الحقيقي للمرأة.
أن تكون المرأة امرأة يعن إذاً أن تكون ذاتها، لا أي ذات أخرى" ص56، هذا رد على كل من يحاول اللعب على الحبل، أو يريد أن يأخذ الأمور إلى ما هو أبعد، فهي ضد الإجبار، الفرض، الغصب الذي يُمارس على المرأة، كما أنها ضد المرأة التي تفكر بطريقة ساذجة، تلك التي يفكر بها العامة، "المرأة جسد وجد للمتعة".
توضح موقفها أكثر فتقول: "إنني أؤيد كل التأييد المرأة التي تطهو إذا كان الطهو نابعا من رغبتها وقرارها الخاص، لكنني ضد المرأة التي تطهو إذا كان الطهو متوقعا منها ومفروضا عليها، لا لشيء إلا لكونها امرأة" ص59، توضيح رائع وبسيط، ويجعلنا نأخذ بالمضمون وليس بالشكل، "جمانة حداد" ليس ضد العمل/الفعل، بل هي ضد دوافع وحيثيات هذا الفعل/العمل، وهذا هو لب الموضوع، الأخذ بالجوهر وليس بالشكل.
ونجدها تأخذنا إلى حقيقة ما نفعله بالنساء من خلال اقتباس قول ل"وجيهة الحويدر" والتي تقول فيه: "سأكف عن المطالبة بحقوق المرأة السعودية حين أرى رجالا سعوديين بالغين يجرجرون إلى مراكز الشرطة حين يقودون سارتهم، وحين ترتدي المرأة السعودية ملابس بيضاء مريحة، بينما أجبر الرجل السعودي على لبس وشاح أسود، وقفازات سوداء، ورداء أسود، يحوله إلى كتلة سوداء، وحين يقال إن له مكانين في الدينا، البيت والقبر" ص63، بهذه الصرخة المدوية يمكننا أن نعترف بأن هناك ظلم مُورس ويمارس على المرأة، ليس في السعودية فحسب بل في كل المنطقة العربية، وردا على ما طرحه بعض الأفراد على أن "جمانة حداد" ما كانت لتكتب بهذا الشكل لو لم تكن من اتباع الديانة المسيحية، فتقول: "كان يجب أن تختبروا تمييز الكنيسة ضد جنس النساء، وتشهدوا عن كثب على الأصول المسيحية التي لا تقل شأنا عن الأصول الإسلامية" ص65 وتلخص موقفها من الديانات قائلة: "كل الديانات تمسي مؤذية (مؤذية لفطرتك، لنمط حياتك، لقدرتك على الاختيار، ومؤذية لصحتك) عندما تنقلها من دائرة الغذاء الروحي إلى حلقة حياتك الشخصية، حيث ستقضي، لا مالحة، على كل فرصتك في الحرية والتوازن وإصدار الاحكام الموضوعية التي كان يمكن أن تحظى بها" ص65، بهذا ترد على من يحاول أن يقفز إلى الأمام، هاربا من أن المجتمع العربي برمته، الذي يتعامل مع المرأة ككيان/كجنس ثاني، لا يمكن أن يتماثل/يتساوى فيه الرجل والمرأة بالمطلق.
والكاتبة تتقدم أكثر في رؤيتها للدين فتقتبس قال "هدى شعراوي": "عندما يقترح الدين نظيرا أنثويا لله، سأكن احتراما أكبر له حينذاك" ص69، بهذا القول يمكننا أن نختم كتاب "هكذا قتلتُ شهرزاد"، ولكنن قبل نختم نذكر بأن علينا ان نأخذ بالجوهر وليس بالشكل، بالدوافع والأسباب وليس بالفعل المجرد.
الكتاب من مشورات دار الساقي، نسخة إلكترونية.
نشرت فى 14 يوليو 2018
بواسطة magaltastar
"ريتا" على الحاجز
فراس حج محمد/ فلسطين
خمسة أيام في الأسبوع ذهابا وإياباً نمر عن حاجز زعترة اللعين، حيث يكون "أولاد العم" الشرسين منتظرين في المحطات الثلاث المنتشرة في منطقة الحاجز، ثمة صبايا يهوديات صغيرات في السن يلبسن التنانير القصيرة، فتبدو سياقنهن البيضاء والسمراء، نأخذ باستغابتهن واشتهائهن ونتذكر عهد السبايا البائد، وكيف ستكون هذه أو تلك سبية ننعم بها لو دارت الأيام وانتصرنا. أعود وأتراجع إذ لا يحسن بنا أن نسبي نساء "أبناء العم"، حتى وهن جميلات وشهيات.
في هذا الصباح ثمة جندي ومجندة يقفان كحارسين في واحدة من المحطات المركونة على يمين الشارع الرئيسي، المجندة تتحدث بطلاقة وتشير بإحدى يديها واليد الأخرى على الزناد، والجندي الذي لا "يحلم بالزنابق البيضاء" ينصت باهتمام. قلت في نفسي: "كأنها تتحدث حديثا خاصا، ربما كانت تتحدث بأحاديث حميمية عن ليلة حمراء ما زالت روائح شهوتها عالقة على جسدها الأسمر النحيل. سألتُني: "ولماذا أفترض أنهما يتحدثان بأحاديث ماجنة؟" فأجبت نفسي بسخرية: "لأننا سفلة". هل فعلا نحن سفلة، والعرب لا يعرفون غير هذه الأحاديث؟ ألا يتحمل "أبناء العمومة" أوزارهم التي يحملوننا إياها؟ فلو لم يحتلوا بلادنا لم نفكر فيهم هذا التفكير الأبله؟ ما لنا وما لهم؟ لماذا يصرون على أن يكرهونا أكثر، ونكرههم بلا حد؟ فهل علينا من حرج لو انتقمنا منهم بنسائهم على طريقة مصطفى سعيد في رواية "موسم الهجرة إلى الشمال"؟
قلت وأنا ساه لاه: "لعلها جريمة مضاعفة أن تفكر باشتهاء امرأة صهيونية ومجندة إسرائيلية تحمل أفكارا عنصرية غير إنسانية، وتستبيح الدم الفلسطيني بأقل من ثانية وتكون على أتم استعداد لاقتناص الضحايا.
تعود إلى الذاكرة كتابات كثيرة عن اليهوديات وحضورهن في الأدب العربي والرواية الفلسطينية، و"إشكالية الأنا والآخر" في ما كتبه المتوكل طه في كتابه "رمل الأفعى" عن السجانة السوداء الوحيدة في معتقل النقب الصحرواي. وكيف كان يفكر بها الأسرى في هذه الصحراء القاحلة الخالية من الماء والخضرة والوجه الحسن. إذ تبدو على ما هي عليه من دمامة أجمل ما يكون، فهي كل النساء في تلك الصحراء اللاهبة، على الرغم من عداوتها في سياق الاحتلال وظروف السجن الذي يعطي الصحراء دلالة مكثفة وقاسية.
وكذلك ما كتبته عائشة عودة في كتابها "ثمنا للشمس"، عندما لعبت مرة مع الممرض "يودا" التنس في سجن غزة، ورمقها بنظرة انتزعت كامل أحشائها، واعترض عليهن الشباب في القسم المقابل عندما علموا بالحادثة، فأخذتهن العزة، فكيف يسمح هؤلاء الشباب لأنفسهم أن يكونوا أوصياء عليهن؟ وكانت الأسيرات يملن إلى السجان بعاطفة مكتومة يفضحها السرد والأحاديث البينية، وتأخذ الأسيرات بالمقارنة بين مديرة السجن السابقة القاسية "ريا" وبين المدير الجديد الألطف منها شكلا وتعاملا.
وبالطبع ستقفز قصيدة محمود درويش عن "ريتا" اليهودية، محبوبة الشاعر الأولى:
"بين ريتا وعيوني بندقية
والذي يعرف ريتا ينحني
ويصلي
لإله في العيون العسلية"
هل ستكون كل يهودية إسرائيلية صهيونية هي ريتا وكلنا عشاقا محتملين؟ ها هي ريتا الحديثة تتمسك بالزناد على حاجز زعترة وعلى كل حاجز، وبيننا وبينها غابة من البنادق وأنهار دم، لكنها لم تمنع أفكارنا من أن تتحرش بجسدها، فنستبيح هذا الجسد ونصبح كالراوي العليم نعلم بما تفكر فيه، دون أن نقترب منها وسيظل لحمها ورائحة دمها محرماً علينا حرمة أبدية سياسية وعرقية ودينية، على العكس من لحمنا ودمنا المتاح لها ولزملائها وزميلاتها بسهولة وسرعة كلما اهتاج بهم الحنين ليأخذوا حصتهم من دمنا ويذهبوا إلى نومهم حالمين، ونذهب نحن إلى صور شهدائنا ناقمين على ما نحن فيه من بؤس وهدر كرامة واستباحة دم.
وتبقى ريتا هي ريتا، و"جسم ريتا كان عرساً في دمي" كلما مررت عن حاجز عسكري تقف عليه مجندة إسرائيلية مهيأة لتغتال في الصباح زقزقة العصافير إن اشتهت لرائحة الدم العربي، أسأل نفسي لو حل السلام بيننا وبين "أولاد العمومة": هل ستكون محبوبتي الأخيرة امرأة أخرى وبالصدفة يكون اسمها ريتا؟ ساعتئذ سأكون عاشقا مختلفا، وستكون ريتا امرأة جميلة تضع يدها على كتفي لتشرب نخب دمي الحلال، ولن يكون للحاجز أي معنى أو قيمة.
نشرت فى 13 يوليو 2018
بواسطة magaltastar
للزملاء وعامة القراء الذين يحبون المحاورات الثقافية ................... إليكم :
حوار الدكتورة عزيزة شراد (جامعة الجزائر) مع الأستاذ الدكتور بومدين جلّالي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تقديم : ارتأينا من خلال هذا الحوار الوقوف مع البرفيسور بومدين جلالي (أستاذ الأدب المقارن بجامعة الدكتور مولاي الطاهر / سعيدة ) للحديث حول الصلات التي تربط الأدب بالفنّ عموما، وانفتاح المتن الأدبي على المتون الفنية الأخرى، خصوصا البصرية (اللوحة التشكيلية)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
د . عزيزة شراد - س1 : -
لا شك أن الصلات التي تربط الفنون بعضها ببعض عرفت منذ القدم ، و المؤكد أن النقاد لم يغفلوا هذا الموضوع ، فمن من هؤلاء تحدث عن علاقة الفنون وصلاتها؟
أ . د . بومدين جلالي - ج 1 : -
"" الشعر ضرب من التصوير "" هذا ما قال الجاحظ قديما، ويمكن أن نقول اليوم "" التصوير ضرب من الشعر "" بعكس المقولة بناء على أسبقية فن التصوير على فن الأدب ... فالقصيدة صورة والصورة قصيدة في مشهدية حيّة داخل تعانُق الألوان أو تلامُسِ الكلمات... ولعل ذلك هو ما قاربه بلوتارك / Plutarque قبل ذلك بقرون حين قال "" الشعر تصوير ناطق والتصوير شعر صامت "" ... وهو أيضا ما اشتغل عليه لاحقا شارل- أنتوان كويبال / Charles-Antoine Coypel في القرن الثامن عشر حين استوحى لوحاته من المسرح ...
وهكذا نرى أن العلاقة بين الفنون لها من قاربها عند الإغريق مع بلوتارك وعند العرب مع الجاحظ وعند الفرنسيبن مع كويبال، وتبقى القائمة مفتوحة ... مع التنبيه إلى أن هذا المنحى لم يكن عاما لأن هناك من رأى أن الفنون متوازيات ...
د . عزيزة شراد - س2 : -
إنّ مجال البحث عن علاقات انفتاح النص الأدبي على الفنون من ضمن ما ندد به الاتجاه الجمالي الفني الذي ثار على الاتجاه التاريخاني ، فكيف استطاع الأدب المقارن احتواء هذا المجال الفني وجمعه بالأدب؟
أ . د . بومدين جلالي - ج 2 : -
الاتجاه التاريخي الوضعي أسس مقارباته النقدية المقارنية على مقارنة الأدبي بالأدبي فقط كما نظّر لذلك جوزيف تكست، وفرنان بالدينسبرغر، وبول هازارد ، وبول فان تيغم ، وماريوس فرنسوا غويار ، وغيرهم ... وربط ذلك بالصلات التاريخية الثابتة بين اللغات والثقافات والحضارت كالترجمة ومعرفة اللغات الأجنبية والجوار وما يجري هذا المجرى بمشروطية التلقي الإيجابي وما ينجر عنه من تأثير وتأثر بما بينهما من هجرة للأفكار والجماليات ومختلف التقنيات الإبداعية، وكان الهدف من ذلك هو تصحيح كتابة التاريخ الأدبي وإيجاد مساحات للتحاور بغية التعارف والتعايش بين الأنا والآخر إلا أن الإغراق في الدوغمائية حوّل الأدب المقارن من أدبيته التأسيسية إلى مجرد تاريخ للعلاقات الأدبية الأبدية بين الدول والحضارات ... وهذا ما جعل الاتجاه الجمالي الفني - النقد الجديد - يبرز معرضا مقوضا للتاريخية الوضعية مع رونيه ويلك وأوستين وارن وهنري ريماك وأوين أولريدج وغيرهم بعودته إلى أدبية الأدب الموجودة في البنيات الجمالية للنصوص ودفع الأمر كثيرا إلى الأمام باشتغال مقارنيته على جمع الأدبي باللاأدبي كالرسم والنحت والسينما وما إلى ذلك، لكن هذا الدفع المتوسع بغير حدود جعل الأدب المقارن يخرج مرّة ثانية من أدبيته ويختلط بما يجاوره من فنون وعلوم إنسانية، وكانت الإشارات الأولى إلى ذلك مع ستيفن توتوسي في تأليفه المنظّرة للتحول الذي حدث مع أواخر القرن العشرين من النقد الأدبي المقارن إلى النقد الثقافي المقارن ...
د . عزيزة شراد- س 3 : -
يعتبر التلاقح بين النصوص أمرا طبيعيا عرف منذ القدم مع النقاد القدامى بما يعرف بالسرقات الأدبية ، وعند الغرب بالنص الجامع و الحوارية و التناص ، ولكن عند الخروج من حيز التعالقات النصية (أدبيا) والتحري عنها من خلال فنين من طبيعتين مختلفتين تماما ، هل يصح أن يطلق عن ذلك تناصا؟
أ . د . بومدين جلالي - ج 3 : -
التبادل والتفاعل - بين المبدعين في إبداعاتهم - الواردان بمسميات متعددة في نص السؤال أصبحا حاليا تحصيل حاصل ومن أكثر الأمور طبيعية في كل الثقافات البشرية بما فيها من إبداع أدبي... وإذا ما خرجنا من الأدب إلى غيره من مختلف الفنون فالإشكال القائم ليس هو استعارة مصطلح التناص من عدمه ... فالتبادل التفاعلي موجود بين الفنون كلها، فكما تهاجر النصوص من لغة إلى لغة تهاجر أيضا دلالاتها وجمالياتها من فن إلى فن، ولنا الأسوة الكاملة في ألف ليلة وليلة العربية، ففنتازيتها الأسلوبية وسحريتها الإيحائية نشأتا عربتين بتأثيرات الديانات والثقافات الشرقية المتعددة المتنوعة ثمّ خرجتا تدريجيا إلى معظم اللغات والثقافات البشرية ونشأ عن ذلك - بداية - تيار أدبي ألف ليلاوي في الكتابات العالمية ثم خرج ذلك التيار من الأدبي الخالص ودخل إلى اللاأدبي بتنوعاته الواسعة كمسرح خيال الظل والرسم الفني / الزخرفة والنحت / العمارة والموسيقى وغيرذلك، وانتهى خلال العصر الحديث في الفن السابع / السينما، وأخص بالذكر في هذا المجال الأفلام الكرتونية مع والت ديزني ومن حذا حذوه ... ويمكن أن ندرج هذا في محاكاة المحاكاة مع المحافظة على الخصوصية الذاتية لكل فن قائم ذاته ... وآخر مقارن عربي تحدث عن موضوع السينما هذا وعلاقته بالأدب، بمنهجية دقيقة ومعرفة راسخة، هو سعيد علوش في مقاربته لجدل النصي بالسينمائي ... ومن الدراسات الجيدة التي اشتغلت على الأدبي واللاأدبي مؤلف عثمان بلميلود الموسوم بـ "" صورة الصحراء الجزائرية بين إتيان دينيه (رسام) وإيزابيل إبرهارت (كاتبة) "" ... وقد تحدثت مطولا عن هذه الدراسة في الفصل الثاني من الباب الثالث في كتابي "" النقد الأدبي المقارن في الوطن العربي "" الذي صدر في 2012 .
د . عزيزة شراد - س4 : -
من بين النظريات التي أكدت وحدة الفنون الجميلة ما جاء به إتيان سوريو الذي يشدد على العلاقة التآلفية بين الفنون ، ما هي قراءتكم لذلك ؟
أ . د . بومدين جلالي - ج 4 : -
إتيان سوريو لم يطرح نظرية بمفهوم النظرية الدقيقة وإنما قدّم فلسفة جمالية استنتاجا من مقارنته بين الفنون الجميلة كما فعل مثلا في كتبه "مستقبل علم الجمال" و" الكون السينمائي" و"الشعر الفرنسي والرسم" وغيرها... وهو في مجمل مقارباته يعرض مختلف علاقات التآلف بين الفنون ... ويكمن فضل منجزه في كونه أخرج هذا التآلف الموجود بين مختلف أشكال التعبير الفني من دائرة التجزيء الذي لا يرى الأمور في شموليتها والانطباع السريع الذي لا يقف على التفاصيل من إطار الإرهاصات العامة التي تمّ تناولها في الإجابة عن السؤال الأول إلى إطار الطرح الفلسفي المحدد لمفاهيمه ... وهذا أمر جيد من منظور ثلاثة مستويات، أولها مستوى المبدع الأديب أو الرسام أو النحات أو الموسيقي أو غير ذلك الذي انفتح الأفق أمامه ولم يبق حبيس فنه، وثانيها مستوى الناقد الذي أصبح بإمكانه مقاربة فن معين بأدوات فن أو فنون أخرى من غير حرج، وثالثها مستوى المتلقي المثقف ثقافة عامة الذي أتيحت له فرصة الاستمتاع بالقطعة التي تحرك تلافيفه وفق رؤى متعددة مختلفة متكاملة ، مثلا لقد أصبح بإمكان المتلقي أن يتذوق تحفة من التحف الفنية بالأحاسيس التي تصلح للأدب والموسيقى والنحت والرسم وغير ذلك كما يحدث حين مشاهدة فيلم سينمائيّ عظيم تلتقي فيه وتتآلف بعبقرية جماليات الفنون كلها أو جلها ...
د . عزيزة شراد - س5 : -
قال الشاعر : الشعر كالرسم إلهام وإبداع والرسم كالشعر إشراق وإشعاع وهنا نقف عند حوارية بين خطابين أحدهما مقروء و الآخر مرئي تجعلنا نسلم بالعلاقة بين فن مادي وفن آخر مجرد يصفها الفنان التشكيلي محمد بوكرش بالعلاقة التي تصل حد الوحدة والتكامل ، إن كان كذلك فكيف يتم التعامل مع هذا النوع من المقارنات من منظور الأدب المقارن؟
أ . د . بومدين جلالي - ج 5 : -
الفنان محمد بوكرش رسّام نحّات من صنف الكبار، وله مني أنيق الإعجاب وعميق التقدير ... وفيما يخص ما ذهب إليه من أنّ العلاقة بين الفنون "" تصل حد الوحدة والتكامل "" كما نصّ على ذلك سؤالك، فأنا أختلف معه اختلافا جذريا في الجزء الأول من العبارة وأتفق معه اتفاقا تاما في جزئها الثاني ... فالفنون يمكنها أن تتضاهي أو تتحاكى أو تتقارب أو تتشارك في استثمار تيمة معينة ولكنها لا يمكن أبدا أن تصل إلى الوحدة التي أشار إليها الفنان في الجزء الأول من عبارته لأن موادها الأولية مختلفة ( الكلمة للأدب، النغم للموسيقى، المادة الصلبة للنحت، اللون للرسم، الحركة للرقص، إلخ )، وتقنيات تشكيلها فنيا مختلفة، وطرق إنجازها مختلفة، وقيمتها الجمالية مختلفة، ومساراتها الوجودية مختلفة، وتأثيراتها في المتلقي مختلفة، وغاياتها القريبة والبعيدة مختلفة، ولا يمكن أن تتحول هذه الاختلافات المتعددة بينها وحتى على مستوى الفن الواحد منها إلى "" وحدة "" في نهاية المطاف، اللهم إلا إذا كانت هذه "" الوحدة "" ذات دلالة لم ترد ضمن معنى من معاني القواميس الجامعة للغة المنطوقة والمفسرة لإحالاتها في الحياة ... و"" التكامل"" الوارد في الجزء الثاني من العبارة أمر صحيح واقع وذلك بحكم أن الفنون - إجمالا وتفصيلا، من قديم الزمان إلى راهنه إلى مستقبله - لها أهداف ذات طابع تطهيري ترقوي إمتاعي إستئناسي مرتبط بإنسانية الإنسان، وهذا ما لا يستطيع تحقيقه فن واحد، إن على مستوى البشرية قاطبة أو حتى على مستوى الفرد الواحد منها في مراحل وجودية مختلفة، ومن التكامل بين الفنون يمكن للإنسان المتحضّر أن يتطهر ويترقى ويستمتع ويستأنس طوال دوام الدوام .
نشرت فى 11 يوليو 2018
بواسطة magaltastar
- دراسة ٌ موجزة لروايةِ " يلا نغني " للأديب " صبحي خميس " - ( بقلم " حاتم جوعيه - المغار - الجليل - فلسطين )
أودُّ في هذه المقالةِ ان أقدِّمَ دراسة ً موجزة ًعن روايةِ الكاتب والأديبِ التقدُّمي والملتزم " صبحي خميس " بعنوان : " يلا نغنَّي " وسأحاولُ أن أركِّزَ فيها الأضواءَ على أبعادِ وأهدافِ هذه الروايةِ ، من جميع النواحي ، وعلى شخصيَّةِ وحياةِ الكاتب الذي تعكسُهُ الرِّواية ُ نفسها .
معرفتي بالكاتب الروائي الصديق " صبحي خميس " واسعة وشاملة عرفتهُ صديقا مخلصًا مثقفا ومناضلا ووفيًّا لأفكارهِ ، ملتزمًا في مواقفهِ الوطنيَّةِ وتطلعاتهِ الإنسانيَّةِ النبيلة المشرفةِ ...يتحلَّى بمعرفةٍ وثقافةٍ واسعةٍ ،إضافةٍ إلى ذلك كرمهُ وعطاؤُهُ اللامحدود المادِّي والمعنوي . وكانت نقطة ُ البدءِ في معرفتي بهِ من خلال قراءاتي واطلاعي لدراساتهِ ومقالاتهِ الأدبيَّةِ والإجتماعيَّة والسياسيَّة والفكريَّة التي كانت تنشرُ في معظم الصحفِ والجرائد العربيَّة المحليَّة ، في الفترةِ من سنة 1987، وهي بدايةِ مشوارهِ في عالم الكتابةِ والإنتشار، ولغايةِ أواسط سنوات الألفين ..حيث أثبتَ نفسهَ يومها كتابيًّا وإبداعيًّا ونضاليًّا رغم كلِّ الحواجز والسدود التي وقفت في طريقهِ ، فأصبحَ اسمهُ لامعًا يحتلُّ الصفحات الأولى في الصحف والجرائد ..وهنالك للكثير من المقالات والإفتتاحيات الرئيسيَّة وكلمات العدد الخاصَّة للعديدِ من الجرائد والمجلات المحليَّة كان يكتبها هو بنفسِهِ ولا يكشفُ ويعلنُ عن ذلك ، حيث كانت تنشر تلك المقالات الرئيسيَّة الهامَّة باسم الصحيفةِ نفسها ... وفجأة ً وبدون سابق إنذار غاب قلمُ صبحي عن مسرح الكتابةِ ، والكثيرون بدؤُوا يتساءلون لماذا هذا الغياب المفاجىء الذي يطرح أكثر من سؤال وسؤال ، سيَّما وأنَّ مقالاته وكتاباته المنشورة ، خاصَّة السياسيَّة والادبيَّة منها ذات الطابع القومي والوطني والإنساني المقاوم ، المترعة بالأمل والمجد والإباء قد اخذت حيِّزًا واسعا واحدثت ضجَّة ً قويّة ً محليًّا .. وأشيرُ هنا إلى الحوار الودِّي الساخن والبنَّاء الذي ابتدأهُ معهُ عمُّهُ الكاتب المرحوم " صليبا خميس " والكاتب الإبداعي الكبير المعروف المرحوم " إميل حبيبي " حول موضوع "حرب الخليج " ... هذا وقد أجمع العديدُ من المثقفين المعروفين والقراء الذين واكبوا تلكَ المقالات آنذاك أنَّ صبحي خميس كان في تحليلاتهِ وردودِهِ الكتابيَّة من أعمق المحللين المحلِّيِّين نهجًا وأكثرهم رؤية ًعلميَّة ً . وقد ادارَ ظهرَهُ لبعض الأشخاص الحاقدين الذين حاولوا النيلَ منه ظلما وافتراءً قائلاً لهم بكلِّ وضوح ٍ : " ليسَ لديَّ وقتٌ للعقول والأفكار الرَّجراجة " . كانَ شجاعًا جريئا وأثبتَ انهُ قدوة ٌ وكفىءٌ للشجاعةِ العقلانيَّة والمواقف الصَّعبة الحرجة . وهذا الأمرُ برزَ بوضوح حينما انطلقت وظهرت روايتهُ " يَلاَّ نغنِّي " إلى النور كاسرًا فيها كلَّ الحواجز داحرًا العصابات والمافيات الأدبيَّة التي فرضت هيمنتها وغطرستها محليًّا في مجال النشر والإعلام، خاصَّة ً أولئك الذين قال عنهم :" فسادُ السَّمكة يبدأ من الرأس ".. والكلام واضحٌ . وهذه الرواية أثارت وما زالت تثيرُ الكثيرَ من الرُّدودِ والنقاش الحار حول الشكل والمضمون ، كان فيها مبدعًا رائدًا مُخلصًا لفنِّهِ وعطائهِ ... حيث نجدُ في كلِّ كلمةٍ في روايتهِ مدى إخلاصهِ العميق لأعزِّ ما عنده : الإنسان والأرض "- كلّ هذا في أساليب روائيَّة " متعدِّدة مبتكرة ، الأمر الذي يتطلبُ الدراسة العميقة لهذه المغامرةِ الأدبيَّةِ الرَّائدة التي كسرَ بها جميعَ القوالب الأدبيَّة الروائيَّة المألوفة التقليديَّة وكان لسانُ حالهِ يقولُ لنا : ( " أتركوانا نقفل القرن العشرين وهيَّا بنا إلى عام ( 2000 ) ... عام الثورة التيكنيلوجيَّة " ) . وهنا يجبُ الوقوفُ وقفة تأمُّل ٍ عميقةٍ لما يريدُهُ كاتبنا " صبحي خميس " الذي أتمنَّى لهُ التوفيق والتقدم المستمر في عالم الكتابةِ .. وأرجو أن يكونَ في مستوى ما تنبَّات به إحدى الصحف المحليَّة سابقا " أندكس هجليل " التي قالت عنهُ " بأنّكَ ستكون العنوانَ " . وليسَ عندي ذرة ُ شكٍّ بأنَّهُ سيصبحُ ليسَ عنوانا فقط ، بل مدرسة ً تحوي الكرامة َ والمروءَة َ والمحبَّة والإبداع والرُّؤيا العميقة الفلسفيَّة على فهم كلِّ ما يدورُ بكلِّ حركةٍ من حركاتِ التاريخ ( محليًّا وشرق أوسطيًّا ودوليًّا ) .
أمَّأ بالنسبةِ للرواية " يلاَّ نغنِّي " فيجتمعُ فيها عنصران هامَّان هما : البعدُ الوطني القومي والبُعد العاطفي والإنساني . فيها يتحدَّثُ كاتبنا بإسهاب عن الحبِّ الجوهري الروحي بشكل واضح ٍ ، من خلال أحداثِ الروايةِ الدراميَّة... يثبتث أنَّهُ في زماننا هذا ...عصر التيكنيلوجيا .. عصر المادَّة والبيزنس والرُّوتين المُمِلّ القاتل يمكنُ أن يوجدَ مثلُ هذا الحبّ العميق البريىء ، وانَّ حبَّ الإنسان الصَّادق لحبيبتِهِ لا يختلفُ في جوهرهِ ومعاناتِهِ عن حبِّ الإنسان لأرضِهِ ووطنهِ . فمفهوم الحبّ الحقيقي عند "صبحي خميس " هو الإنتماء والهويَّة والكيان والمصير المشترك . وبدون العواطف الجيَّاشة والحُبّ السَّامي المتعالي والمُنزَّه عن عالم المادَّة ( عالم الغش والخداع والإستغلال ) فحياة الإنسان ليسَ لها أيَّة ُ قيمةٍ جوهريَّة . الحبُّ هو العطاء والفداء والبذل بلا حدود والتفاني من أجل الحبيب ...وهو همزة الوصل بين الإنسان والحقيقة والخالق . والشَّيىء الغريب والمُثيرُ والمُمَيَّز في هذه الرواية والشَّاذ عن الكثير غيرها من الروايات المحليَّة أنهُ يوجدُ فيبها عنصرُ الإثارة والجاذبيَّة والتشويق بشكل ٍ قويٍّ خلاب آسر . ومعظم الذين قرؤُوا رواية " صبحي خميس " حسب ما سمعت - بالإضافةِ إلى رأيي وذوقي الشَّخصي - قرؤُوها في نفس ٍ واحدٍ دون انقطاع وتوقُّفٍ حتى أتوا على نهايتِها ... على عكس غبرها من الرواياتِ والقصص القصيرة أو الطويلة أو حتى روايات الكتاب الكبار أيضًا مثل:( نجيب محفوظ ، إحسان عبد القدوس.. وغيرهما ) الذين نقرأ رواياتهم وكتبهم بشكل متقطع دائما ، وقد ننهي قراءة القصَّة في يوم أو في أسبوع أو شهر، وكثيرًا ما يُصيبنا الجُهدُ والملل والإعياء أثناء القراءة المتواصلةِ ... وليس كلامي هذا تملُّقا للصديق صبحي خميس بل هي الحقيقة . إنَّ رواية "يلاَّ نغنِّي" تتمتعُ وتتحلَّى بجميع مقوِّماتِ القصَّة أو الرّواية الإبداعيّة الحديثة المتطوِّرة والناجحة على جميع المستويات : من ناحيةِ الأسلوب الأدبي الجميل المبتكر والمستوى الفنِّي، والصُّورالحسيَّة الجماليَّة المُعبِّرة والكلام السَّلس المتناسق في المفردات والعبارات،والتعابير البلاغيَّة الجميلة والأجواء الرُّومانسيَّة الشَّاعريَّة ، والإنسياب في تسلسل الأحداثِ ، والبعد القومي والإنساني والفلسفي للحياةِ في مجرى أحداثِ الرِّوايةِ ، والحوار الفلسفي الدرامي الفكري المنطقي المثير والبنَّاء بين شخصيَّات وأبطال الروايةِ ونرى ونلمسُ أيضًا في جوِّها وطيَّاتِها الكرمَ الاخلاقي العربي،والنظرة َالإنسانيَّة الشموليَّة ،والعادات والتقاليد والفيلكلور الفلسطيني المحلِّي . ولكن هناك بعض التمرُّد أو الخروج عن المألوف وروتين الحياة التقليديَّة ، من خلال العلاقة بين بطل وبطلة ِ الرواية - القصَّة ... ولكن هذا الشَّيىء قد يحدثُ في مجتمعنا .. ويعطي ويُقدِّمُ كاتبنا تحليلا ومُبَرِّرًا منطقيًا مقبولاً لتلك العلاقة لا يتنافى مع القيم والنظرةِ الإنسانيّة ، على عكس ما اتِّهمَ بهِ كاتبنا حيثُ جعلَ بعضُ النويقدين والحاقدين من هذه القصَّة فرصة ً وذريعة ً سانحة ً للطعن والنَّيلِ منهُ . كما أنَّ الشخصيَّات والأحداث السِّياسيَّة التي يذكرُها الكاتب واقعيَّة ( من صميم واقعنا ) ونراها ونلمسها يوميًّا في حياتِنا، وأيضًا بالنسبةِ للأجهزةِ الإعلاميَّة والأطر السِّياسيَّةِ والفكريَّة ... إلخ . ولكنهُ جاءَ بأسماءٍ مستعارة ووظفها في روايتهِ ترمزُ للشخصيَّاتِ التي يعنيها ويقصدُها، ووفِّقَ في هذا.
لقد كتبَ عن هذه الرِّواية " يلاَّ نغنِّي " بعضُ هواةِ الكتابةِ الدخيلين على النقدِ الأدبي . والمعروف محليًّا أنَّهُ لا يوجدُ عندنا نقدٌ أدبيٌّ موضوعيٌّ بالمفهوم الحقيقي للنقدِ كما هو في الدول العربيَّة ، ومعظمُ ما نقرؤُهُ في الصحفِ والمجلاتِ ووسائل الإعلام المحليَّة هو خربشات وتخبيصاتٌ فقط ، يفتقرُ إلى البحثِ والتحليل وبعيد عن جوهر وعالم النقد العلمي والموضوعي البنَّاء ولا تربطهُ رابطة ٌ وعلاقة ٌ مع أسس وأصول ونظرياتِ النقد المعروفة والمتفق عليها . والنقدُ المحلِّي عندنا ( في الداخل ) ينبثقُ من دافعين : دافع النفاق والتملُّق والكذب ومسح الجوخ عندما تكونُ هنالك مصالح شخصيَّة ومكاسب مُعيَّنة ، أو من دافع الحقد الأرعن والطعن والتشهير الأعمى . وأريدُ أن أشيرَ هنا إنَّ جميعَ من كتبوا عن روايةِ صبحي خميس هم غير مؤَهَّلين لمهنةِ النقد الأدبي ، وبعضهُم جاءَ نقدُهُ على شكلِ التهَّجُّم ومن دافع الحقدِ الشَّخصي والكراهيةِ كما يبدو ( ولغايةٍ في نفس يعقوب ).. وربَّما لعقدٍ ورواسب دفينة لديهم ( تحتاج إلى محلِّل نفسي ) .. والبعضُ كتب عنهُ دون أن يقرأ كتابهُ إطلاقا ويطَّلعَ عليهِ ، مستعملاً وَمُوجِّهًا ضدَّهُ أقذرَ الشَّتائم والعبارات السوقيَّة النابية ( بشكل ٍ شخصي ) . ولكن جميع ما كتبَ لا يُؤَثِّرَ سلبيًّا على انطلاقةِ كاتبنا الأدبيَّةِ والثقافيَّة وتحليقهِ في أجواءِ عالم الكتابةِ والفنِّ والإبداع . والمهمُّ في نهايةِ المطاف هو العطاء والمستوى الإبداعي وليسَ ما يسطِّرُهُ ويبتدعُهُ المشعوذون والحاقدون والمُغرضون والعملاء المأجورون والمُستكتبون .
- وأخيرًا : إنَّ هذه الرواية تحتاجُ إلى وقفةٍ أخرى طويلةٍ وإلى دراسةٍ عميقةٍ شاملةٍ لنعطيها حقها ونعطي الكاتب والأديب الصديق " صبحي خميس " ما يستحقّ .
..ولا أريدُ الإطالة- وأخيرًا وليسَ آخرًا نهنِّىءُ الكاتبَ المبدع صبحي خميس بروايته " يلاَّ نغنِّي " ونتمنَّى أن يتحفنا قريبا بالمزيد من الإصداراتِ والرِّوايات والكتب الأدبيَّة الجديدة لأنه توقف فترة عن الكتابةِ والنشر وللأسف وترك المجال مفتوحا أمام الدخيلين والمتطفلين على الثقافة والأدب المحلي واليوم هم كثر،وهؤلاء بينهم وبين الأدب والثقافة والإبداع مسافة مليون سنة ضوئية.. ولكن وللأسف الشديد تقام لهؤلاء المتطفلين ومسوخ الأدب ، في الآونة الأخيرة ، النداوات والأمسيات التكريمية المكثفة لإشهار كتبهم وإصداراتهم التافهة والعقيمة من قبل المنتديات والجمعيات التسكيفيَّة المحليَّة المشبوهة والمأجورة التي تعمل بشتى الوسائئل على تشويهِ المشهد الثقافي المحلي وتدمير ووأد الأدب والإبداع الحقيقي الهادف والملتزم،ولهذا يتجاهلون الكتاب والشعراء الكبار المبدعين والوطنيين الصادقين ويعتّمون عليهم ولا يقيمون لهم أيَّة أمسية تكريمية، وأكبر مثال على ذلك الكاتب والأديب الكبير والفذ الأستاذ صبحي خميس الذي أثرى الساحة الأدبية والثقافية بإبداعاته الرائدة والخالدة ..
( بقلم : حاتم جوعيه - المغار - الجليل )
نشرت فى 10 يوليو 2018
بواسطة magaltastar
الطفل والحرب في رواية
"الكوربه"
صافي صافي
الكتاب الجيد هو الذي يذكرنا بخطائنا، خاصة تلك التي ما زلنا ندفع ثمنها، فهو لا يقبل أن يتجاهل الماضي، ويصر على تقديمه بواقعية، لنكون واعين بما حدث، وليقربنا اكثر من الحقيقة، حقيقة الواقع، حقيقة المأساة، حقيقة الخيانات التي تمت، وليس القفز عنه أو إغماض العين، فاحتلال أهم مدينة عربية ودينية ليس بالأمر البسيط، ويجب الوقوف عنده كثيرا، لنعرف حقيقة ما جرى، وكيف سقطت المدينة المقدسة، المدينة الأهم، وهل فعلا كان النظام الرسمي العربي على قدر المسؤولية، واتخذ الاحتياطات العسكرية للدفاع عنها، أم أنه تعامل معها كشيء عادي، كشيء يخضع للمساومة؟.
في هذه الرواية سنجد شيء يجيبنا على السؤال السابق، فالقدس ليست مدينة عادية، وليست كأي مدينة، لهذا يخصها "صافي صافي" برواية "الكوربه" فالكوربة مفرق طرق على احدى القرى المحيطة للقدس، والتي تمر منها دبابة عربية فتسقط الدبابة وتكون بهذه الصورة: "أصبح المدفع دون فاعلية، مثل طفل استسلم للنوم بجانب أمه، أعياه التعب ونام، وأصبحت الدبابة مثل الأم المريضة التي لا تستطيع إنقاذ نفسها، فكيف تفعل ذلك مع ابنها، وها هم الرجال قد أتوا لمساعدتها على النهوض" ص69، هذا المشهد يصور حقيقة ما جرى في حرب 67 وكيف كانت الدبابات العربية تحارب.
والجميل في الأمر أن الراوي يقدم صورة الدبابة قبل ان تسقط وتنقلب، والطريقة التي كان ينظر الطفل "علي" إليها، فقد استهوته الدبابة ومدفعها الكبير: "رأيت الحياة من خلال المدفع، وظننت أن قطعة القماش هذه تشبه لباسا يستر بها عورته، يزيلها حين يود التخلص من الزائد فيه، فما ماسورة المدفع بالنسبة لي إلا عضو المدفع الذكري، سيقوم بمهمته ويخلق حياة جديدة، كان طويلا، أطول من عضو الحمار، ... الأعضاء الكبيرة من علامات الذكورة، والمدفع من علامات القوة والبطش والحياة" ص34، إذا ما توقفنا عند المشهد السابق، نجد "علي" يستخدم لفظ "ذكور" وليس رجل، وكأنه به أراد أن يفقد صفة الرجولة عن المدفع، وعن جنود الدبابة، كما أنه يركز على الشكل/المظهر وليس على الجوهر/المضمون، كحال العرب، الذين يتمسكون بالشكل على حساب الجوهر، فما أعجبه هو طول المدفع وليس فعاليته.
هذا ما كان عند المشاهدة الأولى للدبابة ولمدفعها الطويل، وفي المشاهدة الثانية، وبعد ان اطلق المدفع ثلاث قذائف على "تل أبيب" كان بهذه الصورة: "دققت في المدفع من جديد،.. كانت ماسورته طويلة، أطول مما قدرت في المرة الأولى، وكان رأسها مغطى ثانية ب "الشادر" الجيشي لكنه أكثر انحاء في عودته مما كان في ذهابه، لماذا يغطون رأسه الآن، أيخشون أن تعشعش فيه الطيور وهو عائد! ... لماذا يعود المدفع مثل الرجل الخجول! ذهب وهو مرفوع الرأس، فلماذا يخفضه! هل يخجل من سكان هذه القرية وهو عائد قبل أن يدمر "تل أبيب"! هل يخجل بسبب عدم إلقائه سوى ثلاث قذائف! لماذا يحنى رأسه الآن والمعركة لم تنته!" ص44و45، عندما تأتي هذه التساؤلات من طفل نعلم حقيقة صدقها، فهي تساؤلات بريئة، وتعبر عن خياله، عن منطقه البسيط، بعيدا عن الشعارات الكبيرة والمصطلحات الحربية والعسكرية، لكنها توصل لنا حقيقة المعركة التي حدثت في عام 67، والطريقة التي حارب فيها العرب، وكيف كانت حربهم، دبابة تطلق ثلاث قذائف وتعود أدراجها، بهذه الصورة التي تعبر حقيقة وواقع تلك الحرب، فرغم الرمز الذي جاء على لسان "علي" إلا أنه يعبر عن حقيقة الحرب وعن "الجيش المحارب".
منطق الطفل المرتبط بالعضو الذكري، هي التي تسيطر عليه، لهذا نجده يعود بنا إلى هذا العضو مشبها حالة الدبابة ومدفعها بعد أن علقت في "الكوربه" فيقول: "توقفت الدبابة، اهتز المدفع، اهتز قليلا ثم بدأ يسكن، فإذا حجر آخر يسقط، اهتز من جديد، اهتز أكثر، اهتز .. اهتز .. اهتز .. مال يمينا ويمينا، ثم مال يمينا أكثر وأكثر، تعلق بين الدبابة و "الرمى التحتاني" أصبحت مؤخرته معلقة في الهواء، ... دار برأسه نحو الجنوب، واتجهت ماسورته نحو السماء، ولا تزال مؤخرته معلقة في الهواء، كان أشبه برجل يقضي حاجته على طرف سلسلة" ص48، فنجده يستخدم كثيرا كلمة "اهتز" وكأنه فعلا العضو بعد الانتهاء من عملية التبول، وبصورة أدق حالة العضو بعد الانتهاء من حاجته، فيقوم الفرد بالتلاعب به كيفما يريد، ما على العضو إلا الانصياع لليد التي تهزه، ونجد ايضا منطق الطفل وخياله هو الذي يحدثنا، لهذا نجده جميلا وبريئا وممتعا، كل هذا لا يخفف من أثر واقعية الحدث وحقيقة ما جرى في حرب 67، من هنا نقول أن الراوي استطاع أن يتجاوز الطرح الواقعي العادي، من خلال جعل الطفل "علي" هو الراوي للأحداث، ومثل هذا المنطق/الحديث هو ممتع ومقنع، كما أنه يبعدنا الطرح المباشر، وإذا ما علمنا ان الحدث يتناول هزيمة عسكرية واحتلال وطن، يمكننا أن نعلم أهمية استخدم منطق الطفل في رواية الأحداث.
وعندما يحدثنا عن واقع الإعلام العربي في حرب 67، والتضخيم الذي استخدم، والوهم الذي زرعه، ثم السقوط المدوي، يمكننا أن نعلم حجم الألم الذي أصاب المواطن العربي بعد تلك الحرب: "سمعت أن المدفعة "دكت" تل أبيب "دكا" ولم أعرف أن هذا الدك كان من قبل طاقم الدبابة التي انقلبت قبل ساعات" ص55، هذا التساؤل يتماثل تماما مع المجرى الحقيقي للحرب ومنحى الإعلام الرسمي العربي، الذي تحدث عن نصر محقق وهزيمة نكراء للمحتل، لكن الواقع كان على النقيض تماما، والملفت للنظر أن الراوي يتحايل على الطرح المباشر ويتجاوزه من خلال "علي" ذلك الطفل البريء، الذي يقدم أسئلته بعفوية، لكنها تستوقفنا، وتجعلنا نعيد التفكير بحقيقة ما جرى في عام 67.
الجيش العربي
الجيوش العربية تعكس واقع المجتمع العربي والطريقة التي يفكر ويتصرف بها، فهي جزء من تكوين المجتمع، لكنه الجزء الأكثر واقعية، الجزء الذي يعكس حقيقية الخلل في التفكير والسلوك، لهذا تجدنا في حالة تقهقر مستمر، واقع الجيش الرسمي العربي يقدمه "علي" من خل هذه المشهد: " ...كان القائد يصرخ فيهم، يمين؟، يسار، يمين، يسار، وإذا ما انحرف أحدهم عن الصف، أو قدم اليسار على اليمين، هجم عليه القائد، وضربه بعصاه في مرحلة لاحقة كنت أراهم وهم يحملون بواريد خشبية، ويأمرهم القائد، تفا سلاح، جنبا سلاح، أرضا سلاح، وكانوا يطيعونه" ص24، هذا هو الجيش العربي، الجيش الذي يدافع عن الأوطان ويحمي الشعب ويدحر العدو!!.
وهذه هو شكل ومضمون الجيش العربي، هكذا تدرب وتعلم ليخوض الحرب، فكيف كانت حربه؟ وكيف مارس فنون القتال؟، ومن هم اعداءه؟ وعلى من مارسه سطوته؟، يجيبنا "علي" فيقول: "... كما لم أحب قائد الشرطة في "دير عمار" فهو الذي جاء برفقة رجاله قبل حوالي السنة، وكانوا يحملون عصيا، وبدأوا يضربوننا، كنا في مظاهرة نظمها الكبار لا أعرف غرضها بالضبط، هتفنا يومها: رأس روس، يا أبو قصير جاسوس، بعت الوطن بالفلوس" ص24، منطق الطفل هو الجميل، وهو ممتع، رغم مشاهدة القسوة والألم والمأساة التي يحملها، وهنا تكمن عبقرية الراوي الذي يعرف كيف يقدم مادة قاسية وصعبة بشكل سلسل وسهل.
" عمي إبراهيم... وقال أيضا: الدول العربية متواطئة مع اليهود وبريطانيا، برر طرحه بقوله: كنت أتجول حول القرية، فإذا بأحد أفراد الجيش العربي ينظر بالناظور نحو اليهود ، فقلت له: لا حاجة للناظور، فها هم أمامنا مباشرة، فقال: من أي بلدة أنت؟ قلت: من "بيت نبالا" فأخرج من جيبه خريطة، وقال: أتعرف أين يقع "جبل الأقرع"؟ قلت: نعم، قال خذ ربعك واطلع من "جبل الأقرع" إلى الشرق" ص30، إذا ما توقفنا عند هذا السرد وما سبقه يمكننا أن نجد الفرق بينهما، فهنا نجد الحديث صريح ومباشر، فما جاء هو على لسان "العم إبراهيم" يفتقد تلك البساطة والسلاسة التي يتحدث بها "علي" فجاءت العبارات صادمه وموجعة ومباشرة.
وعندما يأتي إلى الحديث عن واقع (المعارك) التي خاضها الجيش العربي يقول: "قال كبريهم، وهو "سعيد":
"ـ نحن مكلفون بإلقاء هذا العدد من القذائف فقط، هذه القذائف الثلاث هي ما نملكه.
سأل "عمي إبراهيم"
ـ كم عدد المحاور التي تعملون فيها؟
؟ـ لا أعرف بالضبط، ربما بعدد الدول العربية المشاركة في الحرب.
ـ وكم هو عدد الدول العربية المشاركة؟
ـ ربما سبع
ـ وهل كل دبابة تلقي بثلث القذائف الواجب إلقاؤها؟" ص43، حالة مزرية لواقع الجيوش والجنود العرب، فهم لا يحسنون سوى تنفيذ الأوامر، وما دونه هم في حل منه، لهذا نجدهم ينسحبون متقهقرين إلى الخطوط الخلفية، تاركين الأرض والشعب مباح للعدو.
ونجد أيضا الطرح المباشر والواقعي لما كان في حرب 67، والصورة والواقعية لتلك (الجيوش وللجنود)، وهذا ما يسبب الألم لنا، فليعد بنا "علي" إلى لغته البسيطة والسهلة، لعله يخفف علينا من وطأة هذا الواقع البائس.
الحرب
عندما يحدثنا الطفل "علي" عن الحرب يمكننا أن نعلم حقيقتها، حقيقة الهول الذي تحدثه، ما تتركه من ألم وخوف عليه، يحدثنا عن الحرب فيقول: "ركضت بكل ما استطعت من قوة... ركضت مثلما ركضت يوم لحقني العربيدان، ركضت بكل سرعة، وقع الفأس مني، ووقعت أنا الآخر وأنا أحاول التقاطع قبل وصوله الأرض، "تكعفلت" كما "تتكعفل" دجاجة عند مطاردتها، شعرت بأن أحدهم يطاردني، لم أره يوما، أسمه الحرب، والحرب لا تعني لسي سوى الموت والتشرد كما حدث مع أبي وأمي وإخواني وأخواتي الكبار، الحرب تعني أن الجيران سيتفرقون، والأقارب سيبتعدون عن بعضهم بعضا، والأصدقاء سيسبحون جزءا من الماضي" ص21و22، لو تأملنا هذا الكلام يمكننا أن نصل إلى حقيقة وقع الحرب وقسوتها، خاصة إذا علمنا أن المتحدث هو طفل وهو الطرف المهزوم وليس المنتصر، فحتى الطرف المنتصر تكون الحرب مؤلمة وقاسية عليه، فما بالنا على طفل ومنهزم؟.
الحرب تحول كل ما هو جميل إلى شيء بشع ومشوه، فهل هناك أجمل وامتع من الغناء؟، لكن هذا الغناء الذي يمنحنا الفرح والسعادة نجده يتحول إلى حالة من الألم والعذاب، هذا ما أحدثته الحرب 67 بنا، فحولت الغناء إلى حالة عذاب تضاف إلى ما لحق بنا من تشرد موت: "ـ ..عمري ضايع يحسبوه علي، ... أبو سمرة زعلان ليش، ... فكرني يا حبيبي بالموعد الجميل، ... نعم إن لها مذلقا غير الذي عرفناه من قبل، إنها "تكيدنا" بدل أن تواسينا، فهذه اغانينا نحن وليست أغانيهم، إنها تمرغ رؤوسنا في الوحل، بدل أت ترفعها، هل كان المغنون يقصدون ذلك" ص88و89، من خلال هذا التفكير للطفل يمكننا أن نعلم حجم المأساة التي حلت على المواطن العربي، فهذه الأغاني متداولة عند كل المجتمعات العربية، بما يعني أن المأساة أصابت الجميع دون استثناء، واعتقد أن الراوي نجح تماما في إيصال فكرة وقع الهزيمة علينا، فإذا كان الطفل أخذته أفكاره إلى هذا الأمر فكيف بالكبار؟
"علي"
إذا كانت الجيوش الكبيرة والمنظمة هزمت شر هزيمة، فكيف كان حال الطفل "علي"؟ وهل هو عينة من تلك الجيوش؟ ويتماثل معها في خذلانها وفي ضعفها؟ أم أنه يشكل حالة أخرى؟، يخوض "علي" معركة غير متكافئة مع أحد طلاب المدرسة، ورغم أن هذا الطالب هزم كل من واجهه: "وكان فتى في مثل عمري ضخم الجثة، قوي، يحثه الكبار على مبارزو أي شخص في مثل عمره أو أكبر منه، وكان يستغرق الأمر منه مجرد ثوان فينهي الصراع لصالحه، ... وكانوا يصفقون كلما "بطح" وادا، كنت أود أن نقطع المسافة تلك بسرعة، أصل إلى بيت ولا ينتبه إلي الكبار" ص109، فأمر انتصاره اصبح محسوما وحتميا، و "علي" أخذته تلك الهزائم إلى الشعور بضرورة الابتعاد عن هذه المواجهة، والحفاظ على ماء الوجه، لكن وبعد أن تفرض عليه المواجهة ، يقرر أن لا يكون مهزوما كما هو حال من سبقه من المصارعين، فنجده بهذه الصورة: "كان الدور دوري، فماذا أفعل؟ حرت، كان من السهل علي أن أعلن استسلامي قبل بدء المعركة، وبذلك تعلن النتيجة قبل بدايتها، وكان من الصعب علي قبول المبارزة، لا اعرف كيف فكرت، فإذا أنا ألقي بحقيبة الكتب جانبا معلنا القبول، ... راح الآخرون يشجعون الفتى الضخم، صممت أن أصمد أن أبذل قصارى جهدي، أنا أعرف أني لا استطيع التغلب عليه، لكن المطلوب مني أن أمنعه من التغلب عبي أو على الأقل أن اطيل من وقت المبارزة... طال الوقت، يا الله كم مرة من الوقت وأنا أحاول تجنب أن يعرقلني بإحدى رجليه، أو يجرني بيديه القويتين، شعرت بمرور الوقت أني أكثر ثقة بنفسي، ...رحت اكز تفكري في الخطط للتغلب على هذا الثور . صرت أخذه شمالا ويمينا، ... شد جسدي وشددت جسده، ...تسمرنا في وقفتنا دون أن يستطيع أحد التغلب على الآخر، فإذا الكبار يهتفون لنا ويعلنون تعادلنا، حملت حقيبتي بثقة، ورحت أسير كما الكبار" ص109و110، وكأن "علي" يريد أن يقول انه انتصر، أو حافظ على ماء الوجه عندما فرضت عليه المواجهة، فرغم ضعفة، ورغم القوة البدنية للخصم، ورغم الأثر النفسي الذي احدثه، إلا أنه استطاع أن يثبت ويصمد أمام هذا "الثور" بينما الجيوش العربية وما أخذته من جرعات معنوية، ما حصلت عليه من تدريب وإعداد إلا أنها انهزمت في المعركة، وهناك تكمن فكرة أن الإنسان العربي كفرد يمكنه أن يحقق الانتصار ويتجاوز واقعه، بينما النظام الرسمي العربي هو الذي يُقدم على الهزيمة وعلى التقهقر، وهذه الفكرة كافية لنتأكد بضرورة معرفة حقيقة هذا النظام.
الرواية من منشورات اتحاد الكتاب الفلسطينيين، القدس/ رام الله، سنة الطباعة 2005.
نشرت فى 10 يوليو 2018
بواسطة magaltastar
الرسالة الخامسة
ما زلنا نعيش مرحلة ما قبل الماقبل
السبت: 7-7-2018
فراس حج محمد/ فلسطين
الغالية المحبة، الناظرة إلى هذا الأفق، أسعدت روحا ووقتا وجمالا وشعرا وشعورا. أما بعد:
فقد كانت فخامتنا تعتقد أن فخامتكم في شغل عنّا، ولذلك اقتضى الصّمت لحين الفراغ من بعض أعمالكم. هنا صار التقدير غير صحيح بالمطلق وخسرنا حديث فخامتكم. لكن لا بأس سنعوض هذا الآن، فهيا... فقد كنت معتقدا أن الصمت حاجة ضرورية، وإذا بالصمت موجع كالكلام سواء بسواء، إذن فلنتحدث، لعل وجع الكلام أقل شرا من وجع الصمت.
هذه هي المحاولة الثالثة التي أهمّ فيها بكتابة رسالة أخرى. منذ الرسالة الأخيرة، وأنا أشعر بعدم الرغبة في الكتابة، حاولت أمس كتابة رسالة لم تكن جيدة ولا سلسة، كتبت فقرتين، شعرت بالتعب، حذفت الرسالة، ولذتُ إلى الصمت.
بي رغبة بين الحين والآخر في الحديث إليك عن نفسي، ولكن ما جدوى ذلك، وأنت غارقة فيما أنت غارقة فيه، كما أخبرتني في الظروف العائلية والعمل؟ ربما ستقرئين، أما أنك ستكتبين ردا، فقد غدا نادر الحدوث. ليس الأمر مقلقا، ولكنه مرحب به بكل تأكيد لو حدث وكتبتِ.
مرّ أسبوع شديد القتامة والبؤس، مرت زوبعة انتخابات اتحاد الكتاب، لم تخلّف كثيرا من الغبار، رأي هنا ورأي هناك، ولكن بالمجمل انتصر المتنفّذون وأصحاب القرار التنظيمي في فرض القائمة الموحدة لمنظمة التحرير الفلسطينية، وفشل المستقلون جميعا، لقد كنا كأننا مكمّلون للعبة الديمقراطية الشكلية، فُرض على المقترعين من الكتّاب أن يختاروا واحدا وعشرين مرشحا من أصل ثمانية وعشرين، وإلا فإن الصوت لن يحسب، وستلغى الورقة، كما حدث وتم إلغاء أحد عشر صوتا انتخابيا، لهذا السبب، وبالتالي سيكون سلفا فوز القائمة الموحدة. بعض المرشحين انسحبوا بعد إنجاز القائمة، وحدي ربما الذي كنت أراهن على اللاشيء في تلك المعمعة كلها. انتهت الانتخابات، وسقطنا، ولله الحمد والمِنّة.
لست نادما بالتأكيد، إنها تجربة، عرفت فيها الكثير من الخفايا عن قرب، وتعرفت أكثر على الكتاب، وتعرفوا عليّ، بدوت معروفا قليلا في أوساط كتاب الضفة الغربية، وحصلت نتيجة جيدة على الرغم من أنها لا تؤهلني للمنافسة، حصلت على (32) صوتا من أصل (62) صوتا معتمدا، ولكن الفشل الحقيقي جاء من غزة، إذ لم أحصل على أي صوت من هناك. هل يعقل أن كتاب غزة لم يسمعوا بي، وسمعوا بكل المرشحين الآخرين، وخاصة المستقلين، إذ أمْر كتّاب القائمة قد غدا محسوما أصلا قبل الاقتراع. ثمة خلل بالتأكيد، فالمستقلون أيضا حصلوا على أصوات من كتاب غزة إلا أنا. ما الذي جرى؟ لست أدري. على كل حال، فإنني لو حصلت على أصوات من هناك ستظل النتيجة هي هي، فَشَلَ المستقلين جميعا. حيث حصل أقل مرشح في القائمة على مئة صوت من أصوات الناخبين هنا وهناك.
لم تزعجني بالتأكيد هذه النتيجة، فهي معروفة سلفا، وقد انتهى الأمر بالنسبة لي، وستكون المرة الأولى والأخيرة التي أترشح فيها لأي انتخابات قادمة، تدخل فيها الفصائلية اللعبة فتفرض عبر الديمقراطية الشكلية ما تريد، لنصبح شهّاد زور ليس أكثر. ما أزعجني جدا تشفّي بعض الكتّاب، أحدهم جاءني مزهّوا كمراهق سخيف، قائلا لي بعبارة تنضح بالغباء: (Hard Luck)، أعاد عليّ العبارة مرتين في زمنين متقاربين، وأنا أيضا كنت غبيا، وقد انتظرت حتى صدور النتائج. كاتب آخر، جاءني وقال: "يكفيك شرف المحاولة". بالطبع يكفيني شرف المحاولة. هذه المواقف هي التي جعلتني أقول: لا فائدة من الانتخابات إذا كانت العقلية ما زالت عقلية قبلية، فقد حل الحزب والتنظيم محل عبس وذبيان وتغلب، وصار منطق الانتخابات عينه هو ما قاله المثقف والشاعر القديم: "وما أنا إلا من غزية إن غوت غويت، وإن ترشد غزية أرشدِ"، هذا هو ما التفت إليه الدكتور عادل الأسطة وقد شارك مؤخرا في مؤتمر بعنوان "ما بعد في الأدب والنقد واللغة"، كتب لامزا غامزا هذه الإحالة على الحداثة وما بعد الحداثة: "كيف نناقش ما بعد الحداثة في مجتمع بلا حداثة؟ كنا نناقش "ما بعد" ونحن نَرْسَخُ في "ما قبل الماقبل" -إذا صح التعبير-".
لم ينتبه الدكتور عادل إلى الانتخابات في منشوراته الأخيرة، لعله أعطاها ظهره، لكنها لن تخرج عما قاله، فهذه الطينة من تلك المطينة، كما يقول المثل الشعبي. ولو أعارها شيئا من الاهتمام في خربشاته الفيسبوكية لقال فيها ما قاله سعد زغلول لزوجته وهو على فراش الموت: "مفيش فايدة يا صفية".
العزيزة، الغالية:
كنت متوترا بعض الشيء يوم الخامس من تموز، لم أستطع أن أكلمك أو ألتقي بك، كنت متوقعا رؤيتك، لكن على ما يبدو جرت الرياح بما تشتهي سفن الفصائل، فتهنا عن أنفسنا وضاع منا أمل الحداثة وما بعد الحداثة، فلا تطمحي بكبير تغيير في حياتنا العربية، فيكفي أننا إلى الآن لدينا القدرة على أن نكتب، مُتَحدّين أقدارنا التي وُضعنا في سياق رياحها العاتية التي تدفع السفينة كل يوم خطوتين، بل عشرا إلى الوراء، أرجو ألا نموت غرقا في وحل "ما قبل الما قبل". هل كنت سأغير؟ أي حلمِ يقظةٍ كنت أغرق فيه؟
رسائلك الثلاث الأخيرة، كانت مُشَفّرة، لم أستطع فكّ رموزها، لا أدري أين الخلل، حاولي أن تكتبي لي، طمأنة عنك وعن أحوالك. دمت بألق وحبّ وجمال.
أُقَبِّلُكِ لِأَحْيا
فراس حج محمد
نشرت فى 8 يوليو 2018
بواسطة magaltastar
التقديم الجميل في كتاب
"الملقب مطيع وولده ازدادا قناعة"
إبراهيم مالك
من ميزات العمل الأدبي الجيد تحقيق المتعة للقارئ، ومن ثمة تأتي الفكرة/المعرفة، في هذا الكتاب هناك متعة حاضرة ومستديمة تبدأ من فاتحة الكتاب وحتى الخاتمة، كما أن طريقة واسلوب تقديم الأفكار عند "إبراهيم مالك" كانت مميزه، فهذا الكتاب فيه شيء من السرد الطويل، ما يشبه السرد الروائي، وفيه ما يلامس الخاطرة والمقالة، وفيه شيء من النقد الأدبي، ويتناول الأسطورة أيضا، ونجده واقعا، وأحيانا أخرى نجده رمزيا، احيانا يقدم أفكارا بطريقة عادية، وأخرى يقدمها بالإيحاء، وهو يجمع بين الاسطورة وبين الفلسفة وبين التاريخي والواقعي، بين الأممي/العالمي وبين الوطني/المحلي، فلا يوجد أي فواصل أو فصول في الكتاب، فالكاتب يقدمه لنا كوحدة واحدة رغم تنوع وتعدد المواضيع والأفكار، وتعدد الاشكال الأدبية، كل هذا يجعل من الكتاب منسجما على مستوى الأفكار/المضمون وبين الشكل الأدبي المستخدم، فكلاهما يخدم فكرة التعدد والتنوع في الأدب وفي الأفكار الاجتماعية.
الجمع بين الأسطورة وبين الفلسفة
التوحيد بين ما تحمله الأسطورة افكار وبين الأفكار الفلسفية الحديثة ليس بالأمر السهل، لكن "إبراهيم مالك" يقدمهما لنا بطريقة مذهلة، يقول عن "طائر الفينيق":
"... بات مُنذُها حالما ومقتنعا بضرورة انتفاض الإنساني على ما حوله من رماد ذاته المحروقة،
وهذا الانتفاض يشترط فهم ذاته،
حين تنشأ ضرورة حياة,
ضرورة التجديد الذاتي، فهذه الضرورة كذلك، هي شرط حياة، وبعد الانتفاض على الذات وما فيها من سلبيات يبدأ التحقيق المحيي" ص16و17، فكرة خروج الحي من الميت، أو تجديد الحياة مما هو قديم، فكرة وجدت منذ القدم، ونجد ذلك في الملحمة السومرية "في العلا عندما" فبعد أن ينتصر الإله "مردوخ" على "تيامات وإبسو" يقوم بخلق الكون وما فيه من جسديهما، لكن ربطها بما جاء بجدلية "ماركس وهيجل " هو الشيء المذهل والمدهش:
"تعلمت منه جدلية الحياة،
جدلية الطبيعة وأهميتها طاهرة الشيء ونقيضه،
فلا حياة بلا موت ولا موت بلا حياة،
وعندها أدركت،
أن الموت هو شرط حياة
وأن ى نور بلا ظلمة
وأن لا شيء يتبدل إلا إذا أنوجد نقيضه" ص82، وهذا الجمع هو الأجمل، فالكاتب يعطس سياق الحياة بطريقة سلسلة، فرغم الهوة الزمنة بين ما جاء في فكرة "طائر الفنيق" الأسطورية، إلا أن العقل الحديث، والذي يستخدم المادية بعيدا عن الخيال والوهم، يؤكد فكرة أسطورية إنوجدت قبل أكثر من ثلاثة آلاف عام، فهل كانت الفينيقيون يفكرون بطريقة "هيجل وماركس" ؟ أم أن تأملهم في الطبيعة وما فيها من ليل ونهار، وشتاء وصيف، ربيع وخريف، جعلهم يصلون إلى ما وصل إليه "هيجل وماركس"؟.
الإيحاء والواقع
دائما الابتعاد عن المباشرة في طرح الأفكار يمنح النص جمالية، فهو يدل على احترام الكاتب لعقل القارئ، كما أنه يعطيه فسحة من التأمل والتفكير، وهذا ما جعل المتلقي يذهب إلى ما يريده الكاتب/الكتاب، يقدم لما "إبراهيم مالك" واقع الفلسطيني من خلال هذا المشهد:
" هو ما حكته لي امرأة عجوز من عرب الكمانة، في عرب السواعد، وكنت أتيها، شابا لأكتب عن حالها،
جئت من مسرب وعري قادني إليها،
يقع عند تخوم البيوت الشاهقة التي بنيت حديثا على ما كان يوما من أراضي البعنة ودير الأسد ونحف.
كانت تسكن في براكية إبتناها زوجها قبل قتله،
فأورثها البراكية والشقاء.
أكتب يا ولدي،
عن حالنا وما أصابنا.
وقالت بصوت شبه باك:
قصتنا،
حقيقة،" ص22ة23، أولا نجد تعدد الرواة في المشهد السابق، فهناك العجوز، الراوي، فتدخل الراوي جاء بشكل ايحائي، دون أن يدخل في التفاصيل كما هو لحال عند العجوز، فهو يقول "فأورثها البراكية والشقاء"
بينما العجوز تقول: "أكتب يا ولدي،
عن حالنا وما أصابنا.
وقالت بصوت شبه باك:
قصتنا" وهذا التمايز بين رواية/لغة العجوز وبين لغة/رواية الراوي يعطي القارئ الفرق بين المستوى الثقافي والأدبي بينهما، رغم أنهما يتحدثان عن واقع محدد وواضح.
ومن المشاهد الرائعة التي تجمع بين الواقع والإيحاء:
" تذكر سعيد عندها ما حدثه صاحب ذات يوم عن ديك الحجل الذي كان منتشرا في وادي القرار القريب من قرى البروة (المهجرة) جولس، شعب، (الدامون، الرويس المهجرين) ومجد الكروم، حدثه ذات يوم:
كان في زمن ارتحل منذ زمن طويل،
كدنا ننساه وإن كنا لا نزال نتوجع من جراح ما كان" ص30، فنجد الطرح الواقعي في المقدمة، لكن في الخاتمة نجد الإيحاء، رغم ما يحمله من واقع، اعتقد أن الكاتب تعمد أن يضع بين قوسين الأسماء العربية وليس العبرية، لكي ينبهنا أكثر إلى ما آلت إليه أحوالنا، فقد أصبحنا نسمي أماكننا بما أطلقه المحتل عليها، بحيث نسينا ما سميناها نحن، وهذا يتوافق تماما مع الفقرة الأخير التي قال فيها: "كدنا ننساه وإن كنا لا نزال نتوجع من جراح ما كان" فالتوافق لم يكن في الفكرة المباشرة فحسب، بالشكل أيضا، فالوجع كامن في استخدام اسماء غير حقيقية، اسماء دخيلة، وهذا ما يجعل الفكرة والشكل يتوحدان معا، فيكون وقع النص أقوى على القارئ.
التنوع والتعدد
فكرة التنوع والتعدد حاضرة في الكتاب وتعد من أهم ميزاته، لأن التعدد والتنوع حالة تميز المجتمعات المدنية عن سواها من المجتمعات التي ما زالت في ذيل السلم الحضاري، فنجد الكاتب يستخدم شيء من القرآن الكريم، وشيء من الإنجيل، وشيء من الأسطورة، وشيء من الحكاية الشعبية، وشيء من الواقع، ويذكرنا بكتاب عرب وآخرين عالميين.
يقدم لنا الكاتب قصة في الصفحة 24 و24و25، قصة تتشابك فيها القصة الدينية/الإسلامية المسيحية التوراتية مع القصة التراثية، فهي قريبة من قصة "هابيل وقابيل" كما أنه تم اضافة شيء من الحكاية الشعبية، مما يجعلها حالة مميزة، بحيث تنسجم مع الفكرة العامة للكتاب، ومع الشكل، الاسلوب فيه.
من نماذج هذه التعدد "ألقى الأخ الأكبر عصاه على الأرض
فإذا هي حية تسعى" ص25، فالتناص مع القرآن الكريم حاضر، ويقول في موضع آخر:
"إن الملوك إذا دخلوا قرية،
أفسدوا أهلها" ص68، ولثقافة الدينية الإسلامية لم تقتصر على القرآن الكريم، بل نجده يستحضر حديث نبوي: "إن الله لا يغير ما بقوم
ما لم يغيروا ما بأنفسهم" ص68، هذا فيما يتعلق بالثقافة الإسلامية، أما فيما يتعلق بالثقافة المسيحية فيقول:
"لا تشتهي بيت أخيك وما حوله من زرع وضرع" ص26، وهذا الكلام يتماثل مع قول السيد المسيح: "لا تشتهي زوجة جارك"، ويقول في موضع آخر: "ليس بالخبزة وحده يحيى الإنسان" ص 83، وإذا ما اضفنا تطرق الكاتب إلى غاندي والحلاج، يمكننا القول أننا أمام باقة جميلية، ما يميزها التنوع والتعدد في الألوان والأشكال والمضامين، كل هذا يجعل الكتاب متمتع وسهل التناول ومفيد فكريا.
الشكل الأدبي
نجد الكاتب يستخدم الشكل الشعري فيما يقدمه لنا في كتاب "الملقب مطيع وولده ازدادا قناعة"، وهنا يجعلنا نطرح سؤال لماذا استخدم هذا الشكل، علما بأنه يعلم تماما، إنه يكتب نص نثري؟، اعتقد أنه أراد به أن يجعلنا نتوقف أكثر امام ما يريد تقديمه لنا، فنحن في ـ القعل الباطن ـ نوقف أكثر متأملين في النصوص المقطعة أكثر من تلك التي تأتي متتابعة ومتلاصقة، وهذا الشكل، أعتقد، أنه شكل جديد في تقديم النصوص النثرية، ويستحق التوقف عنده، خاصة إذا علمنا أن الكاتب اقنعنا بضرورة هذا التقطيع وأهميته في الكتاب.
لكتاب مطبوع في مطبعة سما ـ معليا، الطبعة الأولى 2018.
نشرت فى 7 يوليو 2018
بواسطة magaltastar
مجلة عشتار الإلكترونية
lموقع الكتروني لنشر الادب العربي من القصة والشعر والرواية والمقال »
ابحث
تسجيل الدخول
عدد زيارات الموقع
577,974