جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
الأسئلة في رواية
"الأعراف برزخ بين جنتين"
أنور السباعي
رواية تتناول الوضع السوري بعد الأزمة التي حدثت في عام 2011، الشيخ "محمد إسماعيل (البلقيني) وغياث" هما الشخصيتان الرئيستان في الرواية، ورغم التباين الفكري بينهما إلا أنهما يلتقيان في العديد من المواقف، حتى يبدوان وكأنهما شخص واحد في نهاية الرواية.
الحرب سبب كل الشرور على الأرض وسبب خراب الإنسان، خرابه نفسيا واجتماعيا، فما بالنا أن كانت هذه الحرب أهلية؟ ما جرى في سورية أخطر حدث تعرضت له في العصر الحديث، فلا الاحتلال العثماني ولا الاستعمار الغربي بعد 1921 ولا هزيمة 48 و67 كانت أخطر على سورية وشعبها مما جرى بعد عام 2011، فقد تم تخريب الإنسان وتحويله إلى ماكنة تمارس التخريب والقتل وتشويه الحقيقة، وهذا بالتأكيد سينعكس على الأرض، على المكان والجغرافيا، فكان الخراب مزدوج، خراب إنساني/اجتماعي وخراب مكاني/جغرافي.
هذا الخراب يتم مناقشته بكافة تفاصيله داخل السجن، وهذا (السجن خمس نجوم) طعام وشراب، مشروبات روحية وسجائر، تلفاز وخدمة مميزة، ورغم أن الراوي يُخرج الأحداث من نطاق السجن، عندما يتناول الطريقة التي تم فيها تخريب "البلقيني" وتحوله إلى رجل يخدم المخابرات، إلا أنها تدور داخل السجن، وهذا ما يجعل كافة الآراء والأفكار والتحليلات والأحداث والشخصيات أسيرة، معتقلة، فتبدو لنا وكأنها مجرد صوت، غير قادر على الفعل الحقيقي على الأرض، وهذا ما يجعلنا نربط بين واقع السجن/سورية من جهة وبين الأحداث والشخصيات من جهة أخرى.
وهنا نطرح سؤال لماذا جعل الراوي السجن خمس نجوم، بينما الخارج في حالة انهيار وخراب؟ وهل لهذا الأمر علاقة بما قلنا سابقا: أن الراوي أرادنا أن نعتبر رواية "الأعراف" مجرد صوت فقط، لن يغير في ما يجري على أراض الواقع؟ وهل لهذا علاقة بفكرة "الأعراف" الدينية التي تجعل فئة من الناس لا هم في الجنة ولا في الجحيم؟، هل "سجن خمس نجوم" هو الأعراف بالنسبة "البلقيني وغياث"؟، وهل التباين في وجهات النظر، الدينية والمادية، السائدة والمتمردة، القديمة والجديدة، النظرية والواقعية بينهما ثم توافقهما يعطي اشارة إلى أن الإنسان السوري النقي هو من سيعمر البلاد من جديد، والمقصود بالتعمير هنا تعمير مدنها وناسها معا؟، وهل الجنة المنشودة هي سورية؟، اعتقد الرواية التي تثير مثل هذه الأسئلة بالتأكيد هي رواية غير عادية وتتجاوز المألوف.
الطرح الجديد
الأفكار احدى الوسائل التي تسهم في خلق الأحداث، فهي أما ترفع من مكانة الإنسان والمكان، وإما العكس، وما يحدث في دولنا من خراب يجعلنا نتساءل، هل الدين وجد للخراب؟، هل صحاب دين معين، بالضرورة عليهم أن يفرضوا دينهم على الآخرين؟، هل كل دين مخالف لديننا هو دين غير اخلاقي/شرير/مُحرف؟.
هناك مجموعة من الأفكار الجديدة حول جوهر الإيمان يقدمها لنا "غياث" يقول:
"ـ أنا أؤمن بخالق للكون، خلقني وخلق كل ما أراه وأعرفه، لكن ليس بالضرورة هو الله. ..قد تجد الحب عند كل الآلهة، لكن الخالق نفسه لا دين له، وأجيبك بلا، فأنا لا أؤمن بأي إله تعرفه، أنا لي إلهي الخاص...حتى أنا لا أجرؤ على الادعاء بأني أمتلك الحقيقة الكاملة، فالحقيقة غيمة كبيرة تملأ الأفق، كلنا يراها وفق هواه، كطفل يرى فيها آماله وأحلامه وكوابيسه، الحقيقة غيمة من المرايا، كل إنسان يراها كما يرى نفسه، والإله الذي تؤمن به، هو أنت في قمة تطرفك، هو أنت في الصيغة المثلى، والأفكار والعقائد هي أشياء عابرة في ذهني، لا اتملكها، فليس هناك صك ملكية بالأفكار، والدين ليس هوية نتوارثها، الدين فكرة في الذهن، يجب أن نعاملها بحيادية، دون يا التملك، ص35و36و37، طرح "غياث" اجتماعي المدني، لا يهتم بشكل الدين، بل بجوهره، ويرفض فكرة "ياء" التمليك للدين وللأفكار والعقائد، كما أنه يحلل طبيعة وأثر الدين على الأفراد، فهم في حقيقة الأمر يرون/يجدون أنفسهم/ذاتهم في هذا الدين، كل المؤمنين بالإله وغير المؤمنين عنده سواسية، فهو يهتم بجوهر الإنسان.
"غياث" يتجاوز مفهوم التعامل مع الإله (كتجار) إلى فكرة التعامل مع الإله الروحي/ إله نحبه ونعشقه لذاته: "أنا لا أؤمن به لأني أخشى ناره أو أرجو حورياته، بل أومن بوجوده لأنه حقيقة ـ سبحانه ـ أراه في كل ومضة حياة، في كل كبد رطبة في هذه المعمورة، أراه في تنهد قلبي حين أتذكر ابتسامة زوجتي، أو في رجفان روحي حين استنشق ضحكات لبنتي، الله هو حلم متوشح بالغياب، مدون على ملامحي منذ ولدت" ص40و41، وهنا نجد التماثل مع الفكرة الصوفية عن الله، فهو أكبر وأعظم من أن نتعامل معه كتجار أو كعبيد، فذات الله بطبيعتها جميلة وخيرة، فلماذا لا نحبها ونتعامل معها على أساس هذا الحب وهذا الجمال المنبثق بذاته ومن ذاته؟.
وإذا ما توقفنا عند الألفاظ المستخدمة آنفا، سنجدها بمجملها جاءت جميلة وناعمة وهادئة، "ومضة، حياة، رطبة، أراه، تنهد، قلبي، ابتسامة، زوجتي، روحي، استنشق، ضحكات، لبنتي، حلم، متوشح، مدون" وهذا ما يجعل طرح غياث" منسجما ومتوافق شكلا ومضمونا ولغتا، بحيث تجتمع الأفكار مع الأداة ومع الشكل لخدمة فكرة، أن ذات الله تمثل الخير والجمال معا.
كما أن "غياث" لا يحدد (شكل) هذا الدين/الأفكار بل يهتم بجوهرها، بما تتركه من أثر في العقل والنفس، "...لذت بالفلسفة، وارتضيت بها دينا آخر، "دينتي أنا" وعبدت إلها آخر "إلهي أنا"" ص57، وكأنها يقول أن العقل هو مصدر الحقيقة، مصدر الأفكار، وليس لأي دين (خارجي) أن يفرض أفكاره على الناس.
كما نجد "غياث" يحرص على الفكر الذي يثير الأسئلة أكثر من حرصه على الفكر الذي يعطي الأجوبة: "...أفضل وصفي بالزنديق على أن أكون مؤمنا غبيا، أفضل عذابات اللايقين على راحة اليقين الكاذب، أفضل أن تكون عندي أسئلة بدون أجوبة، على أن تكون لدي أجوبة لا يمكن السؤال عنها" ص110، من هنا يقربنا الراوي من فكرة الشكل، فكرة ضرورة أن تكون أفكارنا ناتجة عن عملية تفكير وليست تلقين، لهذا هناك تفصيل وتوضيح وتركيز على فكرة الأسئلة وأهميتها.
أسئلة القضاء والقدر
هناك مجموعة من الأسئلة يطرحها "البلقيني" حول الدين الإسلامي تحديدا، منها ما هو متعلق بالقضاء والقدر، الجبر والاختيار، واعتقد أن طرحها مشروع، لأنه يفتح الباب امام التفكير والتحرر من سلطة التحريم، سلطة تحديد التفكير والأفكار، "هل الإنسان أرادة أم لا؟، هل هو مخير أم مسير؟. هو يقول: (فمن يهد اله فهو المهتد) إذاً فالموضوع هو عبارة عن قرار: أنا لن أهديك فإذاً أنت لن تهتدي، وأنت في النار.
لماذا الحساب إذاً يا الله؟ إذا كان هو قرارك ابتداءً إذا كنت أنت تهدي من تشاء، فما ذنبي إن لم تهدن؟." ص81، لكي نكون موضوعيين مما قاله "غياث" علينا أن نتقدم من حالته النفسية، فهو يبدو لنا مضطرب ومنفعل، لهذا نجده في كلامة الاحتجاج على تفسير القضاء والقدر على أنه من الله، وليس للإنسان أي دور، فإذا كان هذا الكلام صحيحا، فما دور الفرد فيما يجري من أحداث؟ وأين تقع مسؤوليته؟ وما هي حدود تلك المسؤولية إن كانت اجتماعية أم دينية؟، وإذا ما نسبنا الخراب أو العمار إلى الله فقط فأين دور الإنسان؟, ولا بد هنا من أن نتقدم من فكر "بن رشد" الذي تحدث عن السبب الأكبر "الله" والسبب الأصغر الإنسان، فالله خالق الكون وما فيه، وهو من أوجده، لكن الإنسان هو المسؤول عن أعماله وافعاله، وهو من يعمر أو يخرب، يبني أو يهدم.
حجم ونوع الخراب في سورية لم يتوقعه أحد، هذا ما قاله "أدونيس"، الفكر الديني لذي ينسب كل شيء إلى الله، ـ حتى الخراب والقتل ـ ليس مقبولا منطقيا أو دينيا، فهل الله الذي من صفاته الخير والرحمة، يُحدث هذا الحجم والكم من الخراب والموت؟، أم أن البشر، الأفراد والجماعات هم من يقوم به وينسبوه زورا وبهتانا إلى الله؟، يوضح لنا "البلقيني" مسؤولة الأفراد والجماعات عما آلت إليه الأحوال في سورية من هذه المثل: "ـ حسنا، تخيل أني أملك تلك الآلة ـ آلة الزمن ـ فسافرت بها إلى المستقبل، فعلمت أنك في اللحظة الفلانية ستخرج في مظاهرة وأنك ستعتقل... فقمت وسجلت ذلك كله في كتاب، في دفتر مدرسي رخيص، وعدت إلى الزمن الحالي، ففتحت ذلك الدفتر وبدأت أتلو عليك لحظة بلحظة: أنت في يوم كذا ستقوم بفعل كذا، في لحظة كذا ستقوم بكذا...فهل أنت الفاعل في حياتك؟ أم أنا؟، أنا من كتب عليك الكفر أم أنت؟، هل أنا من فرض عليك أن تخرج في تلك المظاهر أم أنت؟" ص84و85، بهذا الشكل يقدمنا الراوي من حقيقة أننا مسؤولين عن افعالنا واعمالنا، فنحن من يفعل الخير والشر، وليس الله، وهذا رد على من يحاول أن ينسب الخراب والدمار إلى الله، لأننا نحن من يقوم بالفعل وليس احدا غيرنا، فالرد على الفكر القدري/الجبري هو ضرورة ملحة في الحالة السورية والحالة العربية، لأن هناك من يعمل على تبرأتنا مما آلت إله أحوالنا، ونسب كل ما يجري إلى الله.
ويؤكد "غياث" على أن الإنسان هو المسؤول عن اعماله من خلال طرحه: "فأنا مؤمن بالله، ولكني أومن به كخالق للكون، خلقه وخلق قوانينه ثم دخل في عزلة أبدية كأي درويش" ص112، علينا أن لا نهتم بالشكل الذي جاءت به الفكر، بل بجوهرها، بمعنى أن نركز على ذات الفكرة، ف"غياث" يهتم بدورنا نحن في الحياة وليس بدور الله، بما نفعله نحن وليس بما فعله الله، فالله فعل فعلته بخلق الكون ما فيه وما عليه، ولكن نحن من يفعل الآن وليس الله.
الإسلام السياسي
بعد وفاة الرسول "ص" حدثت خلافات بين المسلمين ونشبت حروب طاحنة ما زلنا ندفع ثمنها إلى غاية الآن، وما يحدث في دولنا يعد أحدى مظاهر استمرار تلك الحروب التي حصلت بين المسلمين في السابق، طرق هذا الباب مهم جدا وضروري، فهل يعقل أن تستمر حروب أكثر من ألف وأربعمائة سنة؟ إذن طرق باب الخرفات والحروب ضروري لنا لنتخلص من الحرب الأهلية وقذارتها، ينبش "غياث" هذه الحرب فيقول: "...ولعلك تعلم أن قاتل عثمان صاحبي من أهل بدر... ثم لما مات عثمان، ترسخ الانقسام أكثر، فاشتعلت الحروب الأهلية التي لا نهاية لها، بداية بمعركة الجمل تحت قيادة عائشة ومعها من الرعيل الأول "طلحة والزبير" ...انتصر علي بن ابي طالب في معركة الجمل، ولكن الوضع لم يهدأ، فانتفض معاوية مدعيا الثأر لعثمان، متلحفا بقميصه،... من يومها انطلقت المقولة (قميص عثمان) كناية عن استخدام المبادئ للوصول إلى الأهداف السياسية... ثم قامت حرب صفين التي يقال أنها أوقعت "سبعين ألفا من القتلى في الفريقين" ثم كان رفع المصاحف، ثم التحكيم، ثم وقعة الحرة ومقتل الحسين، ثم هدم واستباحة الكعبة ومقتل عبد الله بن الزبير" ص132، كل هذه الاحداث يعمل الجميع على التغاضي أو القفز عنها، بحجة أنها فتنة، فإذا كانت فتنة وانتهت، فالف سلام لها وعليها، ولكن إذا ما زالت مشتعلة، ونحن وقودها، أليس من الأولى أن نطفئها ونتخلص من شرها؟، هذا هو اقعنا وعلينا مواجهته، علينا أن نطرح الأسئلة على ما حصل/كان في الماضي وما يحصل الآن، فنحن لا نريد تاريخا دينيا ورديا، بل نريده كما هو، بحقيقته المرة قبل الحلوة، وهذا ما أوضحه "غياث" عندما قال: "كل هذ الأحداث في القرن الأول، هذا ما فعله سلفكم الصالح، لقد كان القرن الأول قرنا متخما بالحروب والأهلية، لا توجد صفحة واحدة في تاريخكم إلا والدماء تقطر منها، تاريخ معظمة أسود، تاريخ مكتوب بمداد من الدم، ثم يقول لك الإسلاميون بأنهم يريدون أن يقيموا دولة " الخلافة الراشدة" أي خلافة راشدة بحق الجحيم؟ تقولون بأن الصحابة كلهم صالحون، كلهم صالحون وقد فعلوا ما فعلوا! بالله عليك؟ لو لم يكونوا صالحين فماذا كانوا سيفعلون؟" ص 133، هذه الأسئلة هي المهمة، هي من تجعلنا قادرين على التخلص وانهاء من حرب "علي ومعاوية" حرب "طلحة والزبير ومعاوية" وهذا ما يؤكد على ضرورة أن يكون فهمنا للدين يعتمد على التفكير والتحليل وليس على التلقين، أو على الأفكار الجاهزة، فما يحدث في وطن "غياث" سورية، يأخذ عين الشكل والوسيلة، وعين الأفكار، وعين الطريقة التي استخدمها "معاوية وطلحة والزبير" في حروبهم، فما كان نتيجة ذلك إلا الخراب وتفشي الموت والقتل.
البعض يقول أن ما يجري في المنطقة العربية مجرد "عاصفة في فنجان" وستزول قريبا، وأن الإسلام لا يأمر بقتل الناس وتدمير البيوت، وأن من يقومون بهذه الأعمال ليسوا مسلمين، محاولين ترقيع ما يجري والقفز عنه، وهم بهذا يخدمون عدم الكشف عن حقيقة ما جرى في السابق ويجري الآن، ما حدث بين "علي ومعاوية" وما يجري بيننا الآن، فهناك رابط بينهما وهو الهروب إلى الأمام، من خلال التمسك بالشكل على حساب الجوهر: "...أمتنا لم تمر بمنعطف، هي فقط تعيش في دوار، منذ وجدت وهي تدور حول ذاتها، كما تدور حول الكعبة. في كل عام تخرج الأبحاث نفسها التي نوقشت منذ ألف عام، يظهر في السوق كتاب "الموسيقى حرام" ثم بعد شهر يخرج شيخ آخر ببحث مضاد "الموسيقى حلال" ثم في العام الذي بعده نعود إلى نقطة البداية، ونتابع الدوران إلى ما لا نهاية" ص135، أليس هذا واقعنا، العالم يفكر في الاختراعات والاكتشافات الجديدة التي تسهل على المجتمع وتجعله أكثر رفاهية، ونحن ما زلنا عالقين في شباك "الموسيقى حلال أم حرام"، أليس هذا هو الجهل بعينه؟، أليس هذا هو كفر حقيقي وواقعي وعملي؟ اعتقد أن "غياث" محق تماما فيما يقدمه من اسئلة، فعلينا أن نبحث عن اجابة لها، لكي نكون (مسلمين) كما أرادنا الله، لا كما أرادنا اصحاب الإسلام السياسي.
الإسلام العصري/الحديث
مهم جدا استمرار الحوار والنقاش، فهو الوسيلة للوصول إلى الحقيقة، والتي ستشكل خلاصنا، خلاصنا مما كنا فيه ومما نحن فيه، يواجهنا "غياث" بحقيقة نظرتنا للتاريخ، للماضي الذي يعد أهم أسباب مشاكلنا وتخلفنا، فنحن ننظر إلى الوراء وليس إلى الأمام، كما أن هذا الوراء نراه بصورة وردية، لكنه في حقيقة الأمر أسود وقاتم، نراه ونجد فيه الأمل، وهنا تمكن أهم مشكلة في العقل العربي، يجعل أمله في ماضي انتهى لم يعد له وجود: "أنتم تنظرون للتاريخ نظرة مطلقة، نظرة جامدة، كأنكم تتحدثون إلى صنم، بينما نحن معشر الكفار ننظر إليه نظرة نسبية،...ننظر إليها في مكانها في التاريخ، هي مرتبطة بزمانها ارتباط الثغر بالابتسامة. أنت تريدون أخذنا إلى ذلك العصر، بينما نحن نريد "ربما" أن تأتي بذلك العصر إلى اليوم" ص140، هذا النبش للحقيقة يجعلها أقرب إلى الواقع منها إلى الوهم/الخيال، حقيقة أننا نفكر بطريقة خاطئة، وأن العقل والمنطق يوجب علينا أن نكون أكثر تحررا من هيمنة الماضي/التاريخ.
ويقدم هذا السؤال الذي الصعب والذي نتجاهله كثيرا: "هل تعلم يا شيخي أن الإمام أحمد بن حنبل جلس ثمان سنوات في باب الحيض حتى فهمه!!. ...هل باب الحيض يشبه باب الفيزياء النووية مثلا؟" 196، مثل هذا الطرح ضروري في عصرنا، فهل يعقل أن نظل مستمرين في البحث في قضايا جانبية/شكلية بينما قضايانا الأساسية والحيوية مهملة؟، فهل البحث في قضايا الحيض/الوضوء/الصلاة أهم من البحث في قضايا التخلف والتقهقر العربي؟ أليس البحث عن حلول لمشاكل البطالة والتعليم أهم؟.
يتقدم أكثر "غياث" في طرح الأسئلة ويضعنا أمام سؤال متعلق بالله: "إذا كان الله بتلك القدرة، والقرآن هو كلامه، فعل يعجز عن توصيف نفسه؟ لماذا يخبرنا مثلا "بأنه على العرش استوى"؟ هل لنتقاتل فيما بيننا حول الاستواء؟ هل هو حقيقي؟ هل هو مجازي؟ هل استوى بمعنى استولى؟ أم بمعنى قعد؟ ماذا يريد؟ ألم يكن باستطاعته أن يكون أكثر تحديدا ووضوحا؟ كأن يقول مثلا: أنا استوليت على العرش الذي هو جهاز التحكم بالكون... لماذا يخبرني أصلا بأنه استوى على العرش؟ ماذا سأستفيد من هذه المعلومة؟" ص212، اعتقد أن المقصود من وراء هذه الأسئلة ليس التشكيك بقدرات الله أو بكتابه القرآن الكريم، بل المقصود هو الابتعاد عن مواطن الخلاف التي تثير الصراعات والتي تأخذ مجهودا فكريا ووقتا، وتستنزف طاقاتنا الفكرية، فتجنب تناول هذا الأمور يتناسب وطبيعة العصر الذي نحن فيه، هذا ما يريده "غياث" من طرح هذه الأسئلة.
ويقدمنا أكثر من صفات وقدرات الله من خلال الحديث هذا الطرح: "بل يقول لي: (لما خلقت بيدي)، يا رب! وهل لك أيدي؟ كأيدينا!.
...هو نفسه يقول (ليس كمثله شيء) فإذاً اليد هي "القدرة"...لماذا لا يقول (خلقت بقدرتي) وانتهى الموضوع، فلا يبقى أي مكان للتأويل" 213، وهنا أيضا بريدنا "غياث" تجنب البحث في الشكل والاهتمام بجوهر الله، بقدراته بعيدا عن التفاصيل التي لا تسمن ولا تغني من جوع، على هذا الاساس يجب أن نفهم ما يريده "غياث" من طرح هذه الأسئلة.
ونجد عصرنة الإسلام من خلال هذا الطرح: "إلهي لن يلعن امرأة لأنها نتفت بضع شعرات من حاجبها، أو تعطرت في الطريق إلى موعد ضربه قلبها، إلهي لن يدخل رجلا صالحا النار لأنه أطال ثوبه، أو لبس ذهبا وحريرا، إلهي جميل" ص310، اجزم أنا بحاجة إلى أفكار غياث الآن، فهي من يخرجنا من حالة التخبط والدوران الذي نقوم به منذ أن فرض عليها الطواف حول الكعبة وحتى هذه الساعة.
حقيقة غياث
من خلال ما سبق يمكننا القول أن "غياث" يتجنب ويدعو للابتعاد عن الخلافات حول طبيعة/شكل الله، والاهتمام بفكرة أن هناك الله خالق الكون وما فيه، وهو يمتلك قدرات لا يمكن لنا نحن البشر أن نتخيلها، فالله مطلق، وليس نسبي، ولا يمكن أن نشبهه بشيء، وأن تم هذا التشبيه فالمقصود منه تقريب قدراته لذوي الفهم البسيط، وليس الأخذ بها على انها كذلك، من هنا يدعونا "غياث" إلى تجنب الخلاف على هذه المسائل اليقينية، والاهتمام بما هو يخصنا، متعلق بنا، بطريقتنا ونهجنا في الحياة.
الأرق/الهم/الحال الذي يتعب "غياث" هو الحياة، الإنسان، الوطن: "أنا أتعذب يا شيخي، يعذبني الطفل الجائع في مجاهل الكون، على أي كوكب كان، حساسية دمعي عالية لآهات الفقراء، يا ليتني كنت مت القلب، يا ليتني كنت بلا روح، كنت أتلقى التعذيب مرتين في أفرع الأمن، مرة حين يعذبون جسدي، ومرة حين أسمع صراخ زملائي، هو الألم نفسه، سواء وقع علي أو على أي إنسان آخر، لا فرق عندي، كل صفعة تقع على خذ إنسان هي صفعة للإنسانية كلها، هي وصمة عار في وجه الله" ص214، فهذه القضايا التي يجب أن تناقش، أن يتم إيجاد حول لها، وليس تلك المتعلقة بالضوء والصلاة وصفات الله، الهم الإنساني يجب أن يكون هو الباعث لتلك الأسئلة التي تبدو للوهلة الأولى أنها تمرد على الدين وعلى الله.
الأخلاق
"غياث" يهتم بالجانب الإنساني، بما هو متعلق بحياة الإنسان، بصرف النظر عن دينه أو عقيدته، فأي عمل يخدم الإنسان هو معه، والخلاق هي الجانب الذي يراعي العلاقة البشرية، وهي من تجعلنا نحكم على هذا الفرد جيد أو سيء، فهو يعتبر أن الإنسان مجبول من "من لحم ودم وخطيئة" ص247، ويعتبر الدين، أي دين ما هو إلا وسيلة لتطوير التعامل الأخلاقي الإنساني: "لم تكن الأخلاق يوما مرتبطة بدين ما، ولا يوجد دين إلا ويحث على مكارم الأخلاق. ... كلما قل تدين الناس كلما زادت أخلاقهم" ص247و248، وعلى هذا الأساس يجب أن يظهر دين الإنسان من خلال أخلاقه وسلوكه، وليس من خلال شكل الصلاة أو الصيام أو الكلام الذي يصدر عنه، ويمكننا الاستنتاج من قول "غياث" أنه يدعو إلى مجتمع متعدد ومتنوع، بمعنى مجتمع مدني يعيش فيه الجميع تحت قانون واحد، تجمعهم الأرض والعلاقة الاجتماعية، التي ستتكلف بحل كل التباينات بين أفراد المجتمع الواحد.
وبما يخص الدين الإسلامي نجده يطرح أفكار بحاجة إلى وقفة لنتأكد من أخلاقيتها إنسانيا، وليس دينيا، يقول: "لا تبحث عن الأخلاق في موروث فقهي يرى المرأة سلعة، والسبي متعة، والحرب خدعة، والابداع بدعة، والسياسة طاعة، لا تبحث عن الأخلاق في موروث فقهي يرى العين تزني، والأذن تزني، واليد تزني، والقلب يزني، والكل يزني،لا تبحث عن الأخلاق في موروث فقهي يرى عورة الأمة بين الركبتين والسرة، وعورة الحرة من أخمص القدمين إلى آخر شعرة، ونكاح القاصرات ومفاخذة الصغيرات"ص250، أليس هذا حال واقعنا، أليس هذا حال الأخلاق الإسلامية، هل يعقل أن يكون هناك قانون يقبل أن يتزوج شيخ بعمر الستين من فتاة بعمر العشرين؟ وهل يعقل أن يتم مضاجعة فتيات بعمر ثلاثة عشر أو أربعة عشر وتكون هذه المضاجعة شرعية؟ هل يعقل أن يكون هناك لرجل أربع نساء يضاجعهن كيفما شاء وأينما شاء؟، ألس هذه الأفكار بحاجة إلى البحث في جوانبها الأخلاقية قبل الشرعية، وهل يعقل أن يكون الشرع قاصر إلى هذه الدرجة؟ وهذا ما يطرحه "غياث" وعلينا أن نفكر/نتوقف عند اسئلته قبل أن نحكم على أفكاره.
الجنس والدين
هناك نظريات فلسفية تجعل الجنس هو الباعث والمحفز للعديد من الأفعال، إن كانت سلبية أم ايجابية، لهذا هو الأكثر أهمية في حياة البشر، وهو فعلا شيء حيوي وأساسي في الحياة، لكن كيف يجب أن نتعاطى مع هذه الحاجة؟، وهل يجب أن نجعل الجنس هو هدف/غالية نسعى إليها وبها لإشباع غريزتنا؟ أم يجب التعامل معه كما نتعامل مع أمور الحياة الأخرى؟/ يقول "غياث": "الإنسان الكامل ليس بحاجة إلى الدين، هو كامل كالإله الذي خلقه، أخلاقه كامنة في روحه، ليس بحاجة إلى نار تردعه أو جنة تستفز خياله المريض، هو يقوم بالصواب لأنه صواب، لا لأن الكواعب الأتراب ينتظرنه في السرير، ...وأنتم عبارة عن قنبلة من الكبت تبحث عن جنة حتى تنفجر بها، إلهكم يخلق لكم الحور العين لتفرغوا بها شهوتكم المكبوتة كأي صاحب فندق في شارع المرجة، يا إلهي كم شوهتم الله، كم أصبح قبيحا بعد أن أضفيتم صفاتكم عليه" ص250و251، أليست هذه الأفكار هي من تدفع البعض ليفجر نفسه في سوق أو في مسجد أو كنيسة لأن هناك سبعين من الحور العين ينتظرنه مباشرة بعد أن يضغط على الزر؟.
ويخبرنا "غياث" عن حديث يتداوله البعض يؤكدون به على أن (الجنس) فعل عادي، ويمكن أن يقوم به الإنسان في أي وقت أو أي مكان وحتى تحت أي ظرف: "...أن رسول الله عليه الصلاة والسلام كان مع أصحابه فرأى امرأة، فأتي امرأته زينب وهي تمعس منيئه لها، "فقضى حاجته" ثم خرج إلى أصحابه فقال، إن المرأة تُقبل في صورة شيطان وتدبر في صورة شيطان، فإذا أبصر أحدكم امرأة فليأت أهله فإن ذلك يرد ما في نفسه.... استحلفكم بالله أيها الناس، لو كان أحد كبار مشايخنا جالسا معكم في المسجد، فمرت امرأة عليه في الطريق، فلم يتمالك نفسه حتى ذهب إلى بيته فجامع زوجته، ثم عاد ليخبركم بما فعل، بالله عليكم، استحلفكم بالله، أترضون هذا له؟ هل يوجد خسة ووضاعة أشد من هذه الخسة والوضاعة؟ بالله عليكم أترضونا لمشايخكم ولآبائكم؟ حتى ترضونها لنبيكم عليه الصلاة والسلام؟" ص276، إذا كان هذا الحديث صحيح أو ضعيف، أليس من الواجب أعادة النظر فيه؟، حسب المنطلقات التي تناولها "غياث"، أليس تجنب مثل هذا الحديث ومحوه يخدم فكرة نقاء وقدسية "الرسول؟.
علامات قيام الساعة/الآخرة
أيضا من المسائل التي يهتم وتهم المسلمين علامات الساعة/القيامة، وقد كتب فيها مئات من الكتب، لكن هل هذه العلامات تهمنا الآن؟، وهل لنا فائدة منها؟ أم انها مجرد تضيع للوقت وللجهد؟ـ أليس تناول هذه الأفكار والكتب يخدم أولا وأخيرا فكرة أن العربي متعلق/متربط بالسماء ولا تهمه الأرض، فدعوه يبحث في تلك العلامات لعله يجد ضالته فيها!!: "أيها الناس، تعالوا أعد عليكم أشراط الساعة.
أولا "خروج الدجال": تأكدوا أن الدجال لا يستطيع منافسة أهل السياسة وتجار الدين، فلا نفع من خروجه.
ثانيا "نزول عيسى عليه السلام": سوف يقوم الناس بصلبه وقتلته بتهمة الردة وزعم النبوة.
ثالثا "يأجوج ومأجوج": السياسيون يأكلون الأخضر واليابس، بل ويستطيعون شرب مياه البحر الميت، فهم بين أظهرنا الآن.
رابعا "ذو السويقتين": الكعبة منطقة استثمار سياحي من الدرجة الأولى، فلن يضطر إلى سرقة كنز الكعبة، سيعطوه فندقا هناك، وسيسكت.
خامسا "دابة الأرض": أنتم ترونها أيام الجمع، أحيانا، تخطب على المنابر." ص277و278، هذا تفنيد للاهتمام بعلامات الساعة، ف"غياث": يريدنا أن نترك هذا المسائل التي لا تسمن ولا تغني من جوع، وأن نهتم بما يجري في واقعنا، فعلامات (ساعتنا) قريبة جدا، من خلال وجود هؤلاء الفاسدين والمفسدين الذي يتحكمون بمقدراتنا، من خلال وجود هؤلاء الارهابين الذي يحرقون الأخضر قبل اليابس، من خلال وجود قوات الامريكية في أرضنا، من خلال تهريب ثروتنا النفطية والبشرية إلى الغرب الاستعماري، من خلال صرف ملاين الدولارات على الملاهي والملاعب والملابس وأدوات التجميل، من خلال عقد صفقات سلاح وهمية أو سلاح فاسد لا يصلح لصيد عصفور على الشجرة، هذه هي ساعتنا، وهي قريبة جدا.
خطبة والوداع
بعد وفاة ابنة "البلقيني" يقوم بدور النبي، فيخطب خطبته الأخير في الناس، كما فعل النبي في خطبة والوداع، فالبلقيني يعي تماما أنه بعد هذه الخطبة سيزج به في السجن، ويمكن أن تنتهي حياته بأي طريقة يحددها النظام، فبعد أن كشف أوراقه كاملة امام الناس، وبين الجرائم التي اقترفها، يقوم بالاعتراف بما فعله لعل وعسى يُغفر له، من الناس ومن رب الناس.
سنجد تناص مع خطبة الرسول في أكثر من نقطة، يقول "البلقيني": "أيها الناس أسمعوا وعوا، لن تروا صدقا كصدقي هذا، في يومي هذا، في موقفي هذا، ...أيها الناس أنتم ملح الأرض وعيال الله، ...أنتم المؤمنون ونحن المنافقون، ...أنتم أول من ضحى وأول من ضحى به، ...فكتاب الله سهل الفهم، قريب من العقل، يفتك بالقلب، فعليكم بكتاب ربكم، لا تحيدوا عنه قيد شعرة...وأعلموا أنكم لستم بحاجة إلينا، ...فلا يضحكوا عليكم بعد اليوم، الحلال بين والحرام بين، وما تشابه عليكم فاستفتوا قلوبكم، ولا تتركوا هؤلاء الكهنة يقودوكم كالنعاج... أيها الناس أبو بكر في النار، عمر بن الخطاب في النار، علي بن أبي طالب في النار، وانتم في النار، إذا ظللتم تقتتلون على السؤال العقيم "هل هم في الجنة أم في النار"؟...كفوا عن اجترار الماضي، أخرجوا من سجن الأمس، في المستقبل متسع للجميع،...الوطن كبير، يسعنا بكل ملامحنا، ...هو اكبر من جراحنا...من دمائنا...من تاريخنا كل علم لا يداوي مريضا، كل فتوى لا تطعم جائعا، كل إيمان لا يدفئ مشردا، هو مهزلة... إن دمائكم وأموالكم عليكم حرام، إلى أن تلقوا ربكم...وإن كل الطائفية موضوع، ولكن لكم رؤوس أعاملكم، لا تظلمون ولا تظلمون...وإن كل دم كان في الطائفية موضوع، وإن أول دمائكم أضع هو دم الحسين... إن الشيطان قد يئس أن يعبد في أرضكم هذه أبدا، ولكنه رضي بالاغتسال في بحر دمائكم، رضي بأن يقتل بعضكم بعضا...إن الإنسان هو أخ الإنسان، ...فلا تظلموا أنفسكم، اللهم هل بلغت، اللهم اشهد."ص348 -353، وإذا ما وضعنا هذه الخطبة أمام خطبة الرسول سنجد هناك توافيق بينهما، وكأن "البلقيني" أراد بها أن تأخذ خطبته عين المكانة التي اخذتها خطبة الرسول.
فما هي العناصر المشتركة بينهما؟، سنجد في الخطبتين مخاطبة الناس "أيها الناس" ونجد الدعوة للابتعاد عن القتل وسفك الدماء، والاعتداء على الأموال أو الأعراض، ونجد دعوة للتحرر من الارث الماضي خاصة المواقف السلبية فيه، والتقدم من الحياة العصرية/المستقبلية بكل صدر رحب بعيدا عن التقوقع على الذات، ونجد تحذير من الشيطان الذي يعمل بكل السبل والوسائل للنيل من الناس، ونجد تحذيرا من الكهنة ورجال الدين الذين يثيرون الفساد والجهل بين الناس، ونجد الدعوة لنشر السلام والأمن بين الناس، كل هذا يجعل خطبة "البلقيني" خطبة وداع في الحالة السورية والحالة العربية.
وإذا ما توقفنا عن هذه الخطبة سنجدها تتوافق مع أفكار "غياث" في العديد من القضايا، خاصة تلك المتعلقة بحرية المعتقد وضرورة الاهتمام بحياة الناس، وعدم التعدي عليهم أو على ممتلكاتهم، ونجدهما يتوافقان على فكرة التحرر من التاريخ/الماضي والعمل للمستقبل، ونجد الطرح (المتطرف) خاصة عندما يتحدث "البلقيني" عن عمر وأبو بكر وعلي، وهذا الأسلوب اختص به "غياث" ليثر المتلقي ويجعله يتوقف عند ما يطرحه من أفكار.
وهناك توافق آخر بينهما يتمثل في أن لكلا منها بنت واحدة، بنت "البلقيني" "فاطمة" تتعرض لشذية قاتلة، وابنت "غياث" "هاجر" مريضة بمرض خطير، وعندما يتبرع "البلقيني بقلب بنته "فاطمة" لبنت "غياث" "هاجر" يمكننا القول أن البنتين توحدتا معا، فالثانية تعيش بقلب الأولى، ونجد في هذا المشهد ما يؤكد على أن هناك عملة اندماج/توحد بين الشخصيتين، "غياث والبلقيني": "غياث يضمني إلى صدره بقوة، يشم آخر أحلامه، يتأوه، يحاول أن يعثر في غرة شعري على ضحكة عالقة فيه من ابنته، من ابنتي، وأنا أتنفس، أبكي قداري الأخيرة.
كانت روحي تلامس روحه، لم يبقى شيء فينا إلا وتوحد، حبنا الأزلي استحال رخاما لقبر واحد، ضحكتنا صارت واحدة، لقد أختلط الكحول بالنيكوتين، رائحتنا صارت واحدة، والقيء المدمى بالأمس صار واحدا" ص373، وهنا نطرح سؤال، هل كانت هناك شخصيتين أم شخصية واحدة تحدثت بالنيابة عنهما؟ أم أن الهم الواحد جعلهما يلتقيان رغم تبيانهما في الأفكار والسلوك؟ اعتقد أن اهتمام الرواية بالجانب الإنساني يجعل النهاية مناسبة تماما، وتعطي دفعة إضافية لضرورة أن نحترم ونقبل الأفكار والأشخاص الآخرين، فالهم الإنساني قادر على أن يوحدنا ويدمجنا معا، بحيث تنتهي وتلغى حتى السمات الخاصة بنا، كل هذا يحصل أن مارسنا حياتنا الاجتماعية، حياتنا المدنية، دون تدخل "رجال الدين/السياسيين" بنا، فدعونا نحيا كما نحن.
الرواية من منشورات كتابنا للنشر، لبنان، الطبعة الأولى 2017
المصدر: مجلة عشتار الالكترونية