فراس
هناك اشخاص يثيروننا، يجعلوننا نشعر بأن الضفاف ما زالت بعيدة، وعلينا المسير، فهناك المزيد من الطريق ما زالت أمامنا، "فراس حج محمد" من الأشخاص الذين يجعلونك تشعر بأنك ما زلت تلميذا بحاجة إلى المزيد، المزيد من كل شيء، من فهم الحياة، العلاقة مع الآخرين، قراءة كتب أخرى، وضرورة التعمق بالأفكار المطروحة، والدخول إلى مدارس نقدية وفكرية وفلسفية، وعليك التعرف على أشخاص غير الذين تعرفهم، لكي تستطيع أن تواكب العصر، وتحصل على مزيد من المتعة، من المعرفة.
هناك جلسة أسبوعية كتلك التي تعقدها دار الفاروق وملتقى بلاطة الثقافة في نابلس، وندوة اليوم السابع في القدس، فأحاول أن (أسرق من وقت العمل) ساعة أو ما يقاربها لكي اتعلم من "فراس حج محمد" فهو مذهل في تناوله للأفكار، للكتب، للمدارس النقدية، للمناهج الدينية، فهو يذكرني بأخي "وجيه مسعود" معلمي الأول، الذي ألم بكل المعارف الأدبية والاجتماعية، ... وكان شاعرا سابقا لعصره، فأسقطهُ الواقع من علوي، وأمسى مواطنا عاديا، يبحث عن لقمة العيش.
"فراس" هذا الرجل متألق في حديثه، فيما يكتبه من شعر، من نثر، من نقد، من مقال، من رسائل، والأكثر من هذا يمتعك عندما تلقاه، وينطبق عليه قول "شوقي بزيغ": "وانت وحدك في صحرائها المطر" فهو موسوعة معرف، يدخل إلى تفاصيل، وسيبر أغور لا يدخلها سوى من هم في مكانة "فراس"، لهذا نجده يتقدم من عالم الرسائل بطريقة وشكل ومضمون خاص "بفراس" لكل هذا أدعو من يريد أن يتعلم تعليما صحيحا ومستديما وجديدا أن يتقدم من "فراس".
.
نشرت فى 23 يونيو 2018
بواسطة magaltastar
الحيوية في قصيدة
"ودالية الصبح"
جبار وناس
الفعل المضارع يعطي حيوية للقصيدة، فهو لا يتحدث عن ماضي، بل عن حاضر، عن فعل نشعر به، يتنامى أمامنا، وهذا ما يجعلنا نتأثر به أكثر، قلنا في موضع غير هذا أن المرأة والطبيعة والكتابة عناصر تهدئ الحال وتمنح الشاعر والقارئ حالة من الهدوء والمتعة، يفتتح الشاعر قصيدته:
"وداليةُ الصبحِ ترتفعُ
وجنبةُ خديك
يا مسطورُ تنصفعُ"
الطبيعة والمرأة يمثلان حالة من البياض، وجاءت صيغة النداء لتحفز المتلقي أكثر نحو القصيدة أكثر، نجد انسجام بين "الصبح ترتفع" وبين "مسطور تنصفح" معنى الارتفاع يعطي مدلول للمشاهد والرؤية أكثر، وكذلك الأمر بالنسبة "مسطور تنصفح" فالمكتوب ينفتح للقراءة، ويمكننا ايجالد علاقة بين "الدالية وخديك" فكلاهما جميل ويبعث على التشهي، الحصول عليهما.
يقدمنا الشاعر أكثر من تلك التي جعلته يفرح برؤياها فيقول:
"وحارسةُ الاحلام
تمشي بك
وحض نهريك
في الآفاق يندفعُ"
يقدما الشاعر إلى من حالته أكثر من خلال هذا اليت، فهناك حالة من الصراع بين "المشي بك" و الآفاق يندفع" فحالة الهيام عند الشاعر تجعله يتجاوز حالة المشي مندفعا بقوة إلى تلك التي تخلب قلبه.
رغم كل هذه العاطفة والمشاعر المرهفة إلا أن الشاعر يصد بهذا الشكل:
"وأنتَ تصبو
إلامَ الطيرُ يشتمني
وتحت وجدك
هزيعُ النارِ
ينقلعُ ؟"
الملفت للنطر أن البيت الأخير جاء يحمل بألفاظ قاسية على النقيض من الفاتحة التي جاءت بيضاء، فنجد "يشتمني، النار، ينقلع" فكيف نفسر ذلك؟ خاصة أن الشاعر استخدم العناصر المهدئة "المرأة، الطبيعة، الكتابة" معا، فكان من المفترض أن تكون الخاتمة منسجمة مع الفاتحة؟، كما أن البيت الأخير يبدو لنا وكأنه جاء بطريقة فجة، بدون مقدمات، وهذا يثير التساؤل أيضا.
اعتقد أن الشاعر حرر نفسه من الحدث من خلال استخدامه لصيغة الراوي، فهو يحدثنا عن شخص مجهول، وليس عن الشاعر ذاته، من هنا اعطا لنفسه حرية التحرر من التقيد بالحدث أو بالنهاية السعيدة، علما بأن الحدث أصلا متعلق بالشاعر وليس بالمجهول.
ويمكننا القول أن واقع الحدث الهائل على الشاعر جعله يتهرب من تناول المقدمات/التفاصيل التي آلت إليها العلاقة مع تلك المرأة، فجلته يختصر ويقفز عن الأحداث القاسية، مكتفيا بهذا الخبر غير المسر لبطله/له ولنا.
ملاحظة: القصيدة منشورة على صفحة الشاعر على الفيس بوك
نشرت فى 12 يونيو 2018
بواسطة magaltastar
رسالة للشاعر "فراس حج محمد رسالة (2)
أنا أكذب أكثر عندما أكتب!
الجمعة: 1/6/2018
تحية حيادية ضرورية
لا بد لي من أكتب متأنقا في اختيار الكلمات، وإن كان الأسلوب كما هو في العادة متواضعا، أرجو أن يكون لطيفا كحال أسلوب كتّاب الرسائل عادة الذين يكتبون هكذا دون التفات حتى لأخطائهم النحوية والإملائية والتركيبية، أحمد الله أنني أتقن نوعا ما الكتابة في مرات كثيرة، لتكون أخطائي أقل من غيري.
يتبادر إلى ذهني كثير من الأفكار، أفكار ليست مزعجة هذه المرة، متجاوزا عن قصد الوقوع في الشرك العاطفي الذي وقعت فيه مرات كثيرة، ومنها في الرسالة السابقة، سأحاول أن أنسى ما صنعت بي كلمة "جميل"، وردك على الرسالة بعد أكثر من ثمان وأربعين ساعة طويلة، وأقفز عن ذلك إلى ما هو أرحب من ردك الاستعاري الذي لم أفهمه: "إنك لن تستطيع معي صبرا"، كم كانت جملة مستفزة، لكنني استوعبتها وخبأتها في ذاكرتي أياما حتى تنضج فتتساقط كلماتها حرفا حرفا، ويتلاشى مفعولها. أتدرين لماذا هي جملة استعارية بائسة جدا؟ ليس لأنك نقلتها من المطلق الديني إلى حضن العاطفة الميت فقط، بل لأنك لست الخضر ذلك العبد الصالح الملهم، ولست أنا بالتأكيد النبي موسى عليه السلام، ولأنه أيضا ليس بيننا اتفاق معلن أو مخفي برعاية الله، ليختبر أحدنا صاحبه. لكل ذلك تبدو الاستعارة بائسة كأقصى ما يكون البؤس. هل أنا أهجو أسلوبك الفظ؟ أبدا، ولكنني أوضح فقط عدم قدرة الشاهد اختصار الحالة التي كتبتِ عليها الرسالة السابقة.
إن نفيي التشابه بيننا نحن الأربعة، لاحظي أيضا هناك أربعة، لماذا نحن محكومون دائما بفكرة الكائنات البشرية الأربعة، لا أدري. المهم. إن نفيي التشابه أعلاه عني وعنك، لا يعني أننا لسنا صالحين. بالطبع إن فينا خيرا كثيرا، وهذا ليس من المدح الذاتي الزائف، وليس تراجعا عما تعتقدين أنه هجاء، بل إنه الحقيقة؛ فكل نفس بشرية فيها من الخير الكثير لو أرادت أن ترى ذلك الخير، وفيها من الشر أكثر كذلك لو أطلقت له العنان، سيكون بركانا أو عاصفة أو إعصارا مدمرا، إن لم يدمر ما حوله فإنه بالتأكيد سيدمر نقطة انطلاقه، الذات التي انبثق منها، أخذا بنظرية "الشر العاجز" الذي يأكل بعضه؛ لأنه لا سبيل إلى تجاوز ذاته إلا بإفناء ذاته.
لا عليكِ، ربما لم تدركي ماذا أردت من ذلك، وربما أنا أيضا لم أدرك ماذا أريد أن أقول. هي تدفقات من اللاوعي، شعورا بحاجتي الماسة لصنع الهذيان بطريقة غامضة.
هل أكتب لك عن الشر الذي فيّ؟ أم عن الشر الذي في هذا العالم؟ أم أكتب عن الشر الخارجي المتربص بنا جميعا؟ أراه واقفا هنا أو مقعيا على ذيله مثل كلب. يا إلهي كم مرة وظفت استعارة الكلب فيما أكتبه. فهل الشر كلب؟ هل أنا كلب؟ هل هذا العالم الممجوج كلب؟ هل هذا القلب الذي أحمله بين ضلوعي كلب؟ لاحظي لا فرق بين الكلب والقلب إلا قليلا، يا لمحاسن الصدف، إنها استعارة موفقة على ما يبدو. لا بأس، ربما لن ترقى إلى أسلوب صديقك الكاتب الذي صفعتني به ذات مرة بأنه "وحش سرد". يكفيني أن أكون كلب سرد، إنه أنفع لي، "فعلى قد ألفاظ امدد سردك". على كل حال، إنه وحده هو الكلب، قلبي، وليس صديقك طبعا، يعوي دائما
في أحشائي، ينبه كل الكلمات الساكتة كشيطان أبكم أعمى، لتهرب مني إليّ، وتتحوصل على رأس القلم. هل تصدقين أنني كتبت هذه الرسالة أولا بخط اليد. أريد أن أكون سريعا مواكباً سرعة نباحها الصباحي عليّ، هذه الكلبة بنت قلبي الكلب!
لا عليك مرة ثانية، ستقرئين صورة لنباح الكلب القلب هنا، وربما ستشعرين بإيقاع الجُمَل الراكض على السطور يسابق حركة يدي المرتعشة. لا أدري إلى الآن لماذا ترتعش أيدي الكُتّاب وهم يكتبون رسائلهم العاطفية بانفعال ظاهر. هل لديك تفسير يشبه تفسيرا صالحا للاستشهاد بهذه الحالة، بعيدا عن رحلة البحر التي صحبتك على متن حكاية موسى والخضر، وأقحمتني فيها بغير أدنى مبرر؟
أحاول أن أضغط على أصابع يدي لعلها تهدأ قليلا، كيف لي أن أضغط على أصابعي؟ وبأي وسيلة أضغط عليها؟ ليس لي يد أخرى لتضغط أخت على أخت، أو لتحنو شقيقة على شقيقتها، فإحدى الأختين ميتة كما تعلمين. يا لتعاسة هذه التشبيهات هنا. إنها تثير الاشمئزاز حقا. أحتاج إلى كلاب إضافية لتنبحني وتنبهني وتزيد من سرعة جريان الكلمات. أشعر أنها تلتهم السطور واحدا تلو الآخر، ودون توقف، حال الخائف الذي بلغ قلبه/ كلبه الحنجرة وهو يلهث يسابق الريح، ويكاد يسبق نفسه، متجاوزا قطارا حديثا مهرولا نحو الهاوية وبسرعة جنونية.
لا عليك مرة ثالثة، لا تصدقيني كثيرا أو قليلا، فثلاثة لا يحسن بالمرء أن يصدقهم: المجنون والشاعر والعاشق، فأنا أكذب أكثر عندما أكتب، وأكذب أكثر وأكثر وأنا أتطلع من شباك نافذتي وأرى صورتك على الشباك، وأتمادى في الكذب وأنا أستمع لهذيان قلبي الكلب، وأبلغ شأوي في الكذب عندما أعلن أن عليّ أن أصمت وأتلاشى وأذوب في هذا العالم المتعجرف.
ليس عليك إخباري بما هو كائن حيال هذا الرقص الصباحي المجنون نحو هذه الكلمات المفخخة بالغموض ونباح الكلاب، متجاوزا زقزقة العصافير، لا أكاد أسمعها، شيء يمنع دخولها إلى مسمعي، ليست العتمة التي أخذت بالتفتق والوضوح إلى حد فضيحة النهار العارية، بل بسبب شيء أعظم من ذلك، إنه التباس العوالم وضجيجها وضجرها واستسلامها للسأم.
ليس عليك حرج بالتأكيد، إن قرأت هذه الرسالة ولم تدركي ماذا أردت أن أقول، فهي غامضة محجبة بأغلفة الدخان الكثيف، ضباب الضجيج الذي يعبئ رأسي، ويمنعني من اختيار المجاز المناسب والاستعارة المثلى.
لا عليك مرة أخيرة، إن عرفت أن الكلمات خادعة، خائنة، وربما خانعة، خاسرة، خائبة، وبغض النظر عن خاءاتي المتكاثرة ربما سيكون لها بعض نفع، فرب نافعة ضارة.
مضطر هنا لأقفل السطر وقد طبعت الرسالة، وغلبتني الشمس واستعجلت الخروج قبل إتمام المهمة، وانقطع تماما صوت العصافير، لعلها غادرت أعشاشها بحثا عن رزقها وما قدر لها، غير حاملة وزر رسائلي ولا حملها، فهي لم تسمعني كما سمعتني في مرة سابقة، رمت قاذوراتها على رأسي وذهبت تبحث عما يفيدها. فهل سيأتي يوم وأكون عصفورا مثلها؟ لست أدري، لعل جوابا سيكون لديكِ.
دمت ودامت الاستعارات غير الموفقة المحفزة على الكتابة. يومك كما تتمنين أن يكون. سلام
الواقع في أسر لغتك فراس حج محمد
نشرت فى 2 يونيو 2018
بواسطة magaltastar
حوار روعةمحسن الدندن مع الدكتور حسن شحاتة
تختلف الثقافة بين البشر بسبب طبائعهم ومعارفهم وحسب اهتماماتهم روعة مع الدكتور حسن شحاتة/سورية
الثقافة…..
تختلف الثقافة بين البشر بسبب طبائعهم ومعارفهم وحسب اهتماماته
ثقافة الشخص هي مايحصل عليه من خلال الكتاب وحبه للقراءة والمطالعة واكتشاف محيطه ووجوده من خلال التنقل بين حضارات الأمم
فنجد لدينا عدة مستويات ثقافية في محيطنا
هناك من تجده يهتم بتطوير ذاته وتحصيل أكبر قدر من المعرفة والعلم لأنه يؤمن بأنه خليفة الله في أرضه ولذلك يهتم بكل مايفيده ويفيد الأخرين بعد وفاته وانتهاء رحلته
بإنقضاء أجله
وبالمقابل نجد من يهتم بجمع المال وكيفية كسبه ولا يحصل على أدنى مستوى من الثقافة والمعرفة
فتجده شخص فارغ من الداخل
ونجد أيضا خلط بين الثقافة والتخصص عن طريق الدراسة
الجامعية
الثقافة والتخصص العلمي في مجتمعنا وكيفية رفع مستوى الثقافة العامة والإهتمام بها ونشرها في مجتمعاتنا
وكيفية إعادتها كما السابق
حواري مع ضيفي وهو
ا.د. حسن أحمد شحاتة
– استشاري البيئة
– أستاذ الكيمياء الفيزيائية
كلية العلوم – جامعة الأزهر.
– حاصل على درجة دكتوراه الفلسفة في الكيمياء الفيزيائية.
– عضو وأمين سر اللجنة الدائمة لترقية
الأساتذة والأساتذة المساعدين بجامعة الأزهر.
– المنسق العام لمحافظة القاهرة الكبرى بهيئة مكتب سفراء السلام بمصر.
– أمين عام لجنة الثقافة والتدريب بهيئة مكتب سفراء السلام بمصر.
– المستشار العام – المجلس العربي الدولي لحقوق الإنسان والتنمية (سابقا)
– عضو العديد من الجمعيات الكيميائية بالعالم.
– عضو مجلس الكلية (سابقا)
– عضو لجنة البيئة بالكلية
– عضو لجنة الدراسات العليا بالقسم.
– مقرر الهيئة الإستشارية للعلوم الأساسية بالدار المصرية اللبنانية.
– رئيس قسم القبول والتسجيل بكلية المعلمين بالسعودية.
– رئيس قسم العلوم بكلية المعلمين بالسعودية سابقا.
– عضو لجنة تحكيم جائزة سمو الأمير الملكي محمد بن ناصر
فرع البيئة…بمدينة جازان السعودية.
– قائد فوج جامعة الأزهر بمعهد إعداد القادة بحلوان.
– محاضر في المعهد العربي بالمقطم.
– الإشراف علي عشرات رسائل الدكتوراة والماجستير.
– تحكيم عشرات الرسائل العلمية لدرجتي الماجستير والدكتوراه بمختلف الجامعات المصرية والعربية.
– أكثر من 70 بحثا علميا منشورا في المجلات العلمية العالمية.
– المشاركة في العديد من المؤتمرات العلمية.
– أكثر من 60 كتابا منشورا تبع دور نشر كبيرة
– كتب في الكيمياء وكتب عن البيئة وكتب في الثقافة العامة
– حائز علي جائزة نادي الأهرام عن كتابي التلوث البيئي فيروس العصر عام 2000م.
– المشاركة في عديد من برامج التليفزيون.
– نشر عديد من المقالات بالصحف المختلفة.
أهلا دكتور حسن ضمن حوارات روعة وأشكرك لقبول الدعوة
نبدأ حوارنا
بالسؤال الأول
مامعنى الثقافة وماهو مفهومها العام والخاص؟
الثقافة .. بمفهومها الخاص: هي أن تعرف شيئا عن كل شيء
والثقافة .. بمفهومها العام: هي المعرفة…المعرفة بكل ما تعنيه الكلمة من معاني ومفردات…أي المعرفة في كل المجالات دون التقيد بتخصص معين أو دون أن يحصر الإنسان في منطقة بذاتها.
2ـ كيف تُعرف الثقافة ضمن مجتمعنا العربي؟ وماهي وجهة نظرك للثقافة العربية؟
للأسف فإن تعريف الثقافة في مجتمعنا العربي مازال يعتريه كثير من القصور وعدم الوضوح…لأن المجتمعات العربية تحرص وتهتم بالتعليم أكثر من إهتمامها بالثقافة…وللأسف فهي لم تحقق شيئا لا في مجال التعليم..الذي تدهور حالة في الفترة الماضية…كما إنها لم تحقق أي شيء يذكر في المجال الثقافة .. حيث تعاني أجيال الشباب الحالية من الجهل وعدم المعرفة بصفة عامة
3ـ الثقافة العامة تشكل الشخصية الحضارية وجزءا مهما من حياة الإنسان
كيف نوفرها لمجتمع هجر القراءة وانتشر فيه الجهل؟
لابد أن نتفق أولا وقبل أي شيء أن دور الثقافة في المجتمع لا يقل أهمية عن دور التعليم…
ولندرك قيمة الثقافة وأهميتها ودورها الذي لا يقل عن التعليم…نذكر الأديب الكبير محمود عباس العقاد…صاحب سلسلة العبقريات…الذي لم يتعلم تعليما نظاميا…ولم يحصل علي شهادة جامعية…إنما ثقف نفسه بنفسه… بالقراءة في مختلف المجالات حتى صار ذلك النجم الساطع في مجال الأدب والمعرفة.
ولذلك، وحتى نحقق الأهداف المنشودة، علينا أن نهتم بنشر الثقاقة والحث على المعرفة في كافة المجالات. وأن نخصص جوائز للشباب للمنافسة في مجال المعارف العامة…وأن نعود أطفالنا على قراءة القصص المتنوعة المصورة والملونة….وأن نقدم لهم الحلوى وما يحبونه بهدف تحفيزهم وتدريبهم على القراءة.
4ـ العلم والثقافة حضارة الأمم وتدهور حضارتنا
هل سببه انفصال العلم عن الثقافة أو كما ذكرت هو تراجع العلم والثقافة ومن السبب؟
أكيد أن الحضارات الشامخة التي سجلها التاريخ .. إنما تدل على أنها كانت نتيجة لإمتزاج الثقافة مع العلم…حيث أن العلاقة بينهما تكاملية. فالعلم والثقافة هما أساس نهضة أي أمة من الأمم.
وأنا شخصيا أرجع أسباب تراجع العلم والثقافة إلى مجموعة من الأسباب، التي من أهمها:
١- الإعلام الفاشل بما يبثه من برامج غير هادفة أضرت أكثر مما أفادت…وما ينشره ذلك الإعلام من أمور وعادات جديدة علي مجتمعاتنا…أمور انحرفت بفكر وسلوكيات الشباب…فترى الشاب فارغا…لا يعرف كثيرا عن أمور كان يجب أن يكون على علم بها
٢- انشغال الشباب بصفة خاصة ببعض العادات الجديدة التي يقلد فيها الغرب والعالم المتمدن بحجة أن هذه هي المدنية والحضارة والتكور..مما شغله عن القراءة وربما عن العلم والتعليم…فإنفلت الطلاب من المدارس…واتجهوا للمقاهي الإلكترونية ليأخذوا اسوء ما في الغرب من عادات وسلوكيات
5ـ لتتحقق التنمية الثقافية يجب أن نملك الحرية في التعدد وتبادل الحوار الثقافي مع الثقافات الأخرى واحترام النقد البناء
هل نملك هذه الثقافة بمضمونها الواعي؟
للأسف ..نحن في عالمنا العربي…في الوقت الحالي .. تغيرت وتبدلت أمور كثيرة…ومن بين هذه الأمور…الحالة الثقافية….
لقد فقدنا ثقافة الرأي والرأي الآخر…وسادت ثقافة الأنا…ولم نعد نتقبل النقد…حتى النقد الموضوعي…
والنقد البناء الهادف أصبحنا لا نرحب به بل ونرفضه…للأسف سادت ثقافة الأنا…وهي ثقافة ترفض الحوار…ثقافة تؤكد الفردية…وهذا يتعارض مع الإبداع الذي يعتمد على التعددية.
لذلك.. أرجو أن نركز علي النشء والأطفال..وننتهج أسلوب جديد في تعليمهم وتربيتهم…أسلوب يعتمد علي تقبل الآخر…وتقبل الرأي الأخر…أسلوب يركز على الحوار والمناقشة المفتوحة التي تتناقش بموضوعية وذات الهدف…أن نربي أطفالنا علي التعبير عن رأيهم..وفي نفس نتقبل الرأي الآخر وأن نحترم
6ـ الثقافة الدينية في مجتمعنا العربي أصابها الخلل من هو السبب برأيك؟
مما لاشك فيه أن الثقافة الدينية تعرضت وتتعرض لحرب موجهة من جهات متعددة بهدف إرباك المسلم وزعزعة ثقته في بعض الأصول الدينية الثابتة…فأصبح هناك تشتت في ثقافة الفرد الدينية…بل أصبحت هناك أبواق كثيرة ومتعددة تتكلم في الأمور الدينية وربما تضيف رؤيتها كأنها جزء وأصل في الأمور الدينية مما أصاب الثقافة الدينية في الصميم…ولذلك لابد من تقنين تلك المصادر بطرق حاسمة حتي نحافظ علي تراثنا الثقافي الديني
7ـ كيف يمكننا الحد من الذين ينشرون ثقافتنا بشكل يشوه الفكر العربي مع إهمال التوعية وانتشار الفضائيات التي تخلت عن دورها وحتى المؤسسات التعليمية أصابها الضعف؟
أكيد الأمر صعب وليس بالأمر السهل..خاصة ونحن نعيش عصر السموات المفتوحة حيث يفقد الأفراد والدول السيطرة الحقيقية على كل ما يبث وينشر ويذاع…حيث تعددت التقنيات الحديثة التي تمكن من البث من أي مكان مما يجعل السيطرة شيئا صعبا إن لم يكن مستحيلا…
ولذلك انتقلت ثقافات دول وانتشرت في دول أخرى من خلال تقنيات البث الحديثة ومن خلال وسائل التواصل الإجتماعي ومن خلال النت والأنترنت…مما يعده البعض بمثابة الغزو الفكري
8ـ الغزو الفكري السلاح الأكثر فتكا لشعوبنا العربية والأخطر فعلا
هذا يجعلنا في موقع المسئولية التي تجعلنا نبحث عن أساليب وأفكار جديدة لإنتاج ثقافة صحيحة والتشجيع على العلم والثقافة
هل سنجد دعما من المسئولين والمثقفين والمعنين بالأمر لنعيد الفكر والثقافة؟
الغزو الفكري أصبح اليوم أخطر من الغزو العسكري…ولو دققنا في الموقف..نجد أن الدول الكبرى (الإستعمارية) قد غيرت من أسلوبها..وغيرت من استراتيجيتها.. وأصبحت لا تعتمد على الغزو العسكري الإ في حالات محدودة…وأصبحت تعتمد على التكتلات والتحالفات في تنفيذ مثل هذه المهام…واستعاضت عن الغزو العسكري بالغزو الثقافي والفكري…وهذا ما يتعرض له العالم العربي اليوم…وما نعانيه ونعاني من أثاره السلبية على شبابنا وعلى كل جوانب الحياة الإجتماعية.
ولذلك..لابد أن نواجه هذا الإستعمار الجديد .. وأن نتفهم أساليبه وممارساته..ويمكن أن نحقق هدفنا من خلال نشر الوعي بين المواطنين بهذا الغزو الفكري…وأن ننشر الوعي الثقافي بين الشباب..وأن نربط الشباب بماضيهم وماضي أجدادهم …وأن يتعرفوا على تاريخهم المشرف ليتخذوا منه العبرة والمثل والقدوة…ولا بد أن نحارب الأمية ونقضي عليها..
9ـ الثقافة لا تقتصر على مجال من مجالات العلم وحتى الثقافة العسكرية وهذه الثقافات كانت حاضرة من خلال التعليم وحتى الثقافات الترفيهية فتقلصت الثقافة العربي بقانون غربي
من خلال تسميتنا دول تنشر الإرهاب من خلال الثقافة العسكرية
فهل توافقني أن لا حدود للثقافة والتوعية مطلوبة في كل المجالات من أجل مستقبل أجيالنا أم يجب الإبتعاد عن هذه الثقافة لعدم نشر فكر الإرهاب كما يدعي الغرب؟
كما ذكرنا سابقا..فان الثقافة بمفهومها العام والبسيط تعني أن يعرف الإنسان شيء عن كل شيء..وبالتالي فيجب على الإنسان يقرأ في كل المجالات…حتى يكون متفهم لما يحدث من حوله من تطورات سريعة ورهيبة في كافة المجالات…
وهناك نقطة مهمة..وهي أن الثقافة بريئة من تهمة نشر فكر الإرهاب…لأن من ينشر فكر الإرهاب هي فئة شاذة فكريا وعقائديا…فئة جندت فكرها لتحقيق أهداف خاصة بجماعة معينة أو تنظيم معين…ومثل هذه الجماعات والتنظيمات لا تعرف الوعي الثقافي…بل هي تركز على أفكار الجماعة وفقط
يجب علينا وعلى أجهزة الدولة ومؤسساتها الإهتمام بالجانب التثقيفي للمواطنين وبخاصة الشباب من خلال برامج تشترك فيها وزارات الثقافة والشباب لإعادة تأهيل الشباب ثقافيا ليكون قادرا على تفهم أبعاد ما يحاك من حوله من مؤمرات لهدمه وهدم الأوطان العربية
10ـ كلمة أخيرة من حضرتك دكتور حسن أو نصيحة تحب أن تختم بها ولمن توجهها ليكون للمثقف العربي واجهة حضارية وللعلم ريادته؟
كلمة أوجهها لكل شاب عربي…
إقرأ…إقرأ تاريخك وتاريخ أجدادك لتعلم أن أجدادك هم الأساس للنهضة التي يعيشها العالم اليوم…إقرأ لتعرف كيف أن أوربا في العصور الوسطى وعصور الظلام كيف نهلوا من الحضارة العربية والإسلامية…إقرأ لتعلم أن أجدادك هم ما أثروا قواعد علوم الطب والفيزياء والرياضيات
وكلمة للأسرة…اهتموا بأطفالكم…ربوهم على حب القراءة والإطلاع …علموهم أن الكتاب خير صديق وخير جليس…حفزوهم أن يقرأوا في كل المجالات وشجعوهم
وكلمة للمدرسة…أيها القائمون على تعليم الأطفال ..أن دوركم مهم جدا..شجعوهم وحفزوهم واكتشفوا مواهبهم واعملوا على إظهارها وتنميتها…فدوركم في غاية الأهمية نحو خلق جيل من العلماء والأدباء والفلاسفة والفنانين
وكلمة أخيرة للمسئولين…انتبهوا جيدا لكل ما يحاك ضد بلادكم من خطط وأساليب جديدة للتأثير السلبي على الشباب ومحاولة هدم الشباب لأن الشباب هم الوقود الحيوي لأي تنمية مستخدمة…أحموا الشباب ..سلحوهم بالعلم والمعرفة…والدورات التدريبية
ــ وأنا لا يسعني الإ أن أشكرك لإتاحة الفرصة بالحوار معك الذي أسعدني جدا
لك كل الإحترام والتقدير دكتور حسن شحاتة
*بارك الله في حضرتك
وجزاكي الله خيرا
ووفقك الله تعالى في كل أمورك
إلى اللقاء في حوار جديد مع روعة
روعة محسن الدندن
نشرت فى 31 مايو 2018
بواسطة magaltastar
تقنية السرد في
"انهيارات رقيقة"
هشام نفاع
لا أبالغ إن قلت أن هذه الرواية تعد مدرسة كاملة في تقنية السرد، فنجد كافة الشخصيات تتدخل لتبدي وجهة نظرها في السرد، من الشخصيات الفاعلية "جداد" إلى الشخصيات المتخيلة "حسن" إلى الشخصيات الثانوية "الدراجي" إلى الراوي نفسه، وحتى الكاتب نجده حاضرا ويتدخل في السرد، كل هذا التداخل في عملية السرد يجعلنا نقول أن رواية "انهيارات رقيقة" تعد الراوية الأهم في تناولها لمضوع السرد، فهو البطل الأوحد في الرواية، خاصة إذا علمنا أن الزمن غير محدد والمكان مجهول.
وهنا نطرح سؤال ما هو الهدف من رواية لا تحمل فكرة محددة، ولا تتحدث عن مكان أو زمان واضحين، حتى أن شخصية "جداد" المركزية يتم سلبها المكانة التي أخذتها في بداية الراوية، وتعطى لغيرها، "حسن، الدراجي، الراوي، الحاكم، دودو، روحانيات" حتى وكأنها تبدو لنا شخصية ثانوية؟، الاجابة نتركها الآن، لعلنا ـ فيما سيأتي ـ نجد ما يجيب على هذا السؤال.
الراوي
لكل عمل روائي سارد أو أكثر، لكن أن يتدخل الرواة في مناظرة فيما بينهم، أو يخاطبون القارئ بشكل مباشر فهذا هو التمرد بعينة، يقول الراوي: " "كيف جاءت هذه الحكاية إلى العالم"
قال الراوي: يا قارئات يا كريمات ويا قراء يا كرام
لقد ترددت كثيرا في إقحام القارئ بمسائل تقنية بل بدروب شائكة، ... وأرجو ألا يعتقد أحد أنني أسعى لإقحام نفسي في القصة وكأنني واحد من أبطالها، فأنا لست سوى راو بل حتى راو عن راو." ص73، بعدها يبدأ يحدثنا الراوي بلغة "فعلت، قمت، ذهبت" علما بأننا في كل ما سبق لم نجد إلا "فعل، قام، ذهب" وهذه نقلة تأخذ المتلقي إلى أن هناك شيء جديد في سرد الراوية، يتجاوز الشكل السردي المتعارف عليه، لكن هذا التجاوز جاء بشكل جميل وسلس، وليس منفر أو مؤذي لشكل الرواية.
يقدمنا الراوي أكثر من هذا التجاوز للمألوف في (شكل السرد الروائي) من خلال قوله: "لقد كلفني الفضول شراء إبرة خاصة، والجلوس لساعات طويلة أصغي للحاكية العجيبة، حكاية شاب يدعى جداد يرويها حكواتي بشكل متقطع، وبدا كأنه غائب الحواس أو صوفي من الطراز الحديث.
مرت الايام لأكتب حكايته التي تواصلون قراءتها في الفصول التالية، إنها حكاية منقولة عن حكاية وجدت نفسي فيها راويا عن راو لم ألتقيه ولم أعرفه، اضطرني لإكمال ما نقص دون أن أملك وسيلة واحدة كي أتأكد من حقيقة ما أقول" ص80، بهذا الشكل يتم نسف الطريقة العادية في السرد، فهناك تدخل مباشر من "الراوي" يبرر/يعلل/يوضح لنا تدخله في سرد قصة "جداد" علما بأننا كنا نقرأها فيما سبق بطريقة عادية مألوفة.
هذا على صعيد تدخل الراوي بالأحداث، لكن هناك حوار/مناظرة تتم بين شخصيات الرواية والراوي، تقول" روحانيات للراوي: "ـ اسمع لا تتظاهر بأنك محايد، فأنت لست مجرد راو لما ورطنا فيه جميعا، بل قد أقحمت نفسك في القصة إلى درجة لم يعد بوسعك التظاهر بالسذاجة وكأنك "مجرد كاتب" وحتى لو زعمت أن كل ما يجري هو نتاج خيال، فهذا لا يبرئك مما فعلت.
ـ هل تعلمين أنك تتطاولين .. هل تظنين أن بإمكانك كسر كل الحدود.. لا تنسي يا ست أنه لا يزال بوسعي حسم مصيرك فورا، بل تكفيني بضعة أسطر حتى أنهي دورك تماما في القصة، وأواصل بها حيثما شئت؟" ص115و116، بهذا الشكل يدخلنا الراوي إلى عالم جديد من السرد لم نعهده من قبل، فإنطاق الشخصيات الرواية وجعلها تحاور وتناقش الراوي يعد أحد أهم معالم التمرد على "شكل السرد الروائي".
بعد المناظرة التي تمت بين الراوي وبين "روحانيات" نجده يمر بحالة من العصبية، حتى أننا نجده يتلفظ بألفاظ شاذة عن العمل الروائي: "أردت تمزيق كل ما كتبت حتى الآن بل إحراق الصفحات المطبوعة وإصدار أمر "حذف" للملف على شاشة الحاسوب...كس أخت الكتابة! فمن الصعب استيعاب هذا التوبيخ، وممن؟ من شخصية خطط لها دور متواضع في قصة أنا من ينظم أحداثها ويبني شخصياتها ..هذا عصي على التصديق، لم أتخيل في حياتي أن تصطدم حرية الكتابة بالكتابة نفسها" ص118، بهذا الشكل يقنعنا الراوي أن ما يمر به من مشاعر واضطراب جزء حيوي وأساسي من الرواية، وكأنه يريدنا أن نصل إلى أن العمل الروائي فيه من الألم والتعب والصراع ما يجعل الراوي يتوتر ويخرج عن المألوف، حتى أننا نجده يفقد الاتزان ويتحدث بعصبة وغضب ويتلفظ بألفاظ بذيئة.
الشخصيات تتمرد على الراوي"
الصراع بين الراوي وشخصيات وأحداث الرواية تخرج من تحت سيطرته، وتتمرد عليه، فتبدو لنا "الاحداث والشخصيات" هي التي تسيطر عليه، وتجعله يكتب ما تريده هي، وليس ما يريده هو، ونجدها حاضرة في فعل الكتابة/السرد/الأحداث كما هو الراوي وأكثر: "حين بدأت بالكتابة اعتقدت أن بوسعي تحريك أبطال قصتي كحجارة الشطرنج. لكني نسيت أنه حتى لو أردت ذلك فلن يمكنني سوى الامتثال إلى قوانين لعبة الشطرنج، ... لقد بنيت حضورا وإرادات وصفات لشخصيات ولم يعد بإمكاني إخراجها من العبة عبثا. بات لها حق علي.
شعرت بالمهانة وقد صارت الأحداث التي خططتها وطبقتها بنفسي، هي ما يجرني. لقد تغلبت الكتابة على ارادتي، فإما أن أترك الآن كل شيء وإما أن أحكم العقل، وكأن روحانيات قرأت ما دار بخلدي، فقامت من مكانها، طوت الرسالة، وضعتها أمامي وأعلنت: أنا ذاهبة!
ـ لوين (كان يجب القول: "لوين بالله" لأنها أصدق وأكثر تعبيرا، ولكن علينا ما علينا .. من يهمه أسئلة اللغة وسط هذه المصيبة!)
ـ شئت أم أبيت ـ ردت ـ سأعد أغراضي وأرحل باتجاه جبل الريح، أعرف أن بوسعك تدبير حادث يؤدي بحياتي، لكني لست مستعدة للتنازل عن وجودي الحر. سأشهد ضدك!" ص119و120، إذن تقف شخصيات الراوية أمام صانعها/خالقا/مُوجدها رافضة ومتحدية سلطته عليها، فلم تعد تطيق ذراعا به، وحتى انها تريد أت تقدمه للمحاكمة وتشهد ضده، فأي تمرد هذا؟، وهل له علاقة بواقع الفلسطيني الخاضع لسلطة الاحتلال الإسرائيلي؟.
هناك تمردات أخرى تقول بها شخصيات خلقها/أوجدها الراوي، تؤكد عدم سيطرته على مجرى الأحداث، فهو الآن خاضع لما تريده الشخصيات ولمجرى الأحداث: "يجب أن أتحايل على القصة. لماذا لا أحرر جداد من سجنه، قلت لنفسي، ...ولكني هنا، في قضية جداد يمكنني أن أنطلق في الكتابة وأتهور وأكسر كل منطق. لم لا؟ أصلا أنا بحاجة لبعض التعويض عن القيود التي تلفني، والله إني سأحرر جداد من الاعتقال كما في الأفلام السينما، وسألعب بنفسي دور البطل الرئيسي!
عدت إلى الفصول السابقة. كان الدراجي ذو الخوذة الخضراء قد غادر المستشفى.
.. وحسن، حسن الذي هرب من غولة العين، يجلس في هذه اللحظات تحت شجرة أملا في قسط من الراحة. ..يجب التفاوض مع الدراجي لإقناعه بالانضمام إلى مغامرة تحرير جداد. ..ظل على تعنته ولديه أسبابه الوجيهة: فهو لم ينس بعد ما تورط فيه بجريرة جداد.
...دودو "شو أفرقت يعني" الراوي: الفرق كبير.. ربما صغير، لكنه يبقى جوهريا. فجداد كان مسيرا، وهو ليس مسؤولا عما فعل.
دودو: كيف؟
الراوي: لقد انطلق جداد راكضا خلفك في تلك الليلة لأن أحداث القصة فرضت ذلك، لم يكن أمامي بداية أفضل، أنا من كتب وأنا من يتحمل المسؤولية.
دودو: لم أعد أفهم شيئا.
الراوي: جداد ليس موجودا فعلا، إنه شخصية من بنات أفكاري" ص125، يبدو لنا الراوي في موقف ضعيف، يحاول أن يلملم الموضوع/الأحداث/الشخصيات، ويجعلها تعود إلى مكانها الطبيعي في الرواية، لكنها لم تعد تحت سيطرته، وتتحدث وتفعل وتحاصر الراوي نفسه، فهي الآن من تتحكم فيه الأحداث والشخصيات، من هنا نجد الراوي حاول أن يجد لنفسه مخرج من هذا المأزق ـ الراوية ـ الذي أوجده لنفسه.
ذروة تحرر الشخصيات وانتصارها على الراوي جاء في هذا الحوار: " دودو: ... لكني لست مثلك، أنا مجرد شخصية لا تعرف ماذا سيحل بها بعد قليل.
الراوي: تعال لنكسر القاعدة، بل المعتقد الوهمي وكأن الراوي خالق مطلق. تعال لمشاركتي في صنع الراوية. أعدك بأن تكون شريكا حقيقيا, فما رأيك، هل تريد الانضمام الي وإلى حسن في انقاذ جداد؟" ص127و128، بهذه الحيلة يحاول الراوي ان يخرج من المأزق الذي يمر فيه، يحاول أن يتحايل على الشخصيات، من خلال ترغيبها لتكون معه مشاركة في صناعة الأحداث وخلق شخصيات جديدة، لكنها لا تريد أن تكون شريكا في أعمال قاسية ومؤلمة، وخلق شخصيات تتألم وتتأذى، فقد مرت بالألم ولا تريد لأحد ـ حتى لو كان من بنات الخيال والأفكار ـ أن يمر بالألم والقسوة، فتبدو لنا أكثر رحمة وإنسانية من الراوي نفسه.
ينهي الراوي الراوية بمشهد مأساوي، بحيث يتم إنهاء كل ما جاء في الرواية من أحداث وشخصيات من خلال المحاكمة التي اجريت: "وبدأ الحاكم الأوسط ينطق بالقرار:
"بعد التمحيص وتناول القضية من جميع جوانبها والوقوف على أدق حيثياتها، قرارنا الاستماع إلى صوت المنطق وإصدار أمر بإحراق هذه الراوية، رفعت الجلسة" انخلع قلب الراوي فصرخ: أيها السادة، ألم تفهموا ما قلت لكم قبل قليل.. ألم تتعلموا من ذلك القادم من التاريخ.. لو احرقتم الراوية سنموت جميعا..
"أصمت يا وقح. لقد رفعت الجلسة.. هيا أحضروا النار" ...ألم أقل لكم كلنا نموت الآن. هذا انتحار. هذا انتحار. هذا انتحار..
وغطى السواد كل شيء" ص167، نهاية مأسوية، بالنسبة للراوي وللشخصيات والأحداث.
"صوت يحدثنا عن الكاتب وطريقة تقديمه لما حصل مع جداد"
تتجاوز شخصيات الراوية مكانها في الأحدث، وتخبرنا بأن ما يحصل/حصل لم يكن برغبتها أو إرادتها، بل من تدخلات الكاتب نفسه، الذي لم يكن يعي حقيقة ما يقدمه للقارئ: "ما سمعته من قهقهة وكلام ثمل قبل قليل لم يكن سوى افتراض أراده الكاتب، عبارة عن ملاحظات متخيله لما كان قد يقوله فرويد عن وضعك" ص84، فالراوي لا يستخدم شخصيات الروائية لترد/تتمرد على ما جاء من أحداث ومواقف فسحب، بل نجده يستحضر صوت خارجي، كتأكيد على أن عملية سرد الأحداث لا تخضع لجهة/طرف/شخص بعينه، وأن ما جاء في الرواية يتشارك فيه ـ غصبا ـ اشخاص خارج السيطرة ولا يمكن ـ حتى ـ للكاتب نفسه ـ أن يمنعها من التدخل في مجريات الأحداث ومسار الشخصيات.
" حسن يتجاوز الراوي ويشتمه"
في البداية ننوه أن "حسن" شخصية متخلية، اوجدها الراوي في بنات افكار "جداد" بمعنى أنه ليس شخصية فاعلة ـ قبل هذا التمرد/الحدث ـ بل جاء من خلال استحضار حكاية شعبية "حسن والغولة" المتعارف عليها في بلاد الشام.
حالة الاحتقان عند الشخصيات لم تتوقف عند تدخلها المباشر متجاوزة دور الراوي فحسب، بل تقوم بشتمه معبلاه عن سخطها وغضبها لمجرى الأحداث والطريقة التي استخدمها الراوي في سرده لها:
"حسن يشتم وادة الراوي"
(يجب السيطرة على الأمور قبل أن تفلت تماما من يدي)
ناديت على حسن فنظر نحوي مستهجنا: من أنت؟
ـ أنا الراوي من يروي ما وقع لك على العين.
ـ شو؟!
شرحت له ما سبق أن شرحته لدود، أصغى قليلا ثن انفجر في:
ـ "يا ابن الشرموطة، هو أنت" ونهض راكضا باتجاهي وهو يرفع طرفي قمبازه استعدادا للعراك" ص129، طريقة تعبير عن سخط "حسن" تجاه الراوي، تؤكد عدم انصياعه أو قبوله بكل ما جاء على لسان الراوي من سرد عنه.
لكن ما هي الدوافع/المبررات التي جعلت "حسن" يخرج عن اللباقة ويستخدم ألفاظ بذيئة؟ اتجاه من صنعه وكونه؟: "لست أنا، وأعوذ بالله من قول أنا، حسن ابن الشيخ حسان من يهرب من شبح غولة تعلكها ذاكرة وألسنة البسطاء، فقد حظيت بالتعليم وسعة ذات اليد بحيث وسعت من مداركي وعرفت صديقي من عدوي. أما قصة الغولة البلهاء، فهي ما زرعه الغزاة لدى هؤلاء العامة، مستفيدين من احتكامنا للغيبيات، فظلت في الأذهان البليدة لدى من ظلوا يرددونها على ابنائهم وأحفادهم كما يريدون الأدعية ويتمتعون بالتعاويذ" ص154. "حسن" لا يتمرد على الراوي فحسب، بل يتمرد على الفهم المجمعي لحكاية "حسن والغولة" ويفسر لنا حقيقة شخصيته الواعية والمتعلمة، والتي تعي حقيقة ما يراد من نشر مثل هذه الحكاية، حقيقة أن "الغزاة" يريدوننا أن نبقى أسرى للخرافة والخوف والجهل، متخندقين وراء أفكار خيالية/وهمية تحد من انطلاقتنا نحو المستقبل.
"الكاتب والراوي"
الراوي يُدخل الكاتب في مجرى الأحداث/ مبينا أن الكاتب هو من أوجد أحداث وأفكر وليس هو الراوي: "بالمناسبة، لقد أنهى حكيه بالأرداف . تلك التي يزعم فرود ـ الذي خاطب جداد من خلف الشباك حسب فرضية الكاتب ـ أنها هي ورديفاتها ما أعاد إليه بعض الهدوء النسبي ـ الذي لم يبقى منه شيء الآن وهو ممدد كالأبلة ويقبض على فردتي حذائه بيديه" ص97.
الكاتب وروحانيات"
يتدخل الكاتب ويحاور شخصيات الرواية بطرقة مباشرة، بعيدا عن هيمنة الراوي، وهنا تبدو لنا الراوية في حل من هيمنة/سيطرة أي شخصية مهما كانت مكانتها في سرد الأحداث أو تقديم الشخصيات، فنجد (انفلات) كامل وشامل من كافة الشخصيات التي اسهمت في وجود هذه الراوية.
الحوار الذي دار بين روحانيات والكاتب يمثل هذا الانفلات السردي:
"ـ روحانيات أتسمعينني؟
ـ (عويل وبعده): من أنت، من يناديني، ماما الحقيني.
ـ لا تخافي لا تخافي، جئتك طالبا العون يا أختاه.
ـ من أنت؟
ـ أنا كاتب هذه القصة، وقد انتهيت للتو من سرد واقعتك مع جداد الخارج من البيمارستان واستضافتك إياه حتى اقتاده العسس.
ـ هل تقصد أنك ستفضحني؟ هل ستروي واقعة تواقعنا؟
ـ في الواقع دونت ذلك، لكن النشر قابل لإعادة النظر.
ـ أرجوك، لا تفضحني فتجعل العرسان يعرضون عني.
ـ لك مني عهد اعادة النظر، أو وصف الأمر بأقل ما يمكن من ضرر." ص110، طبعا هذا يعيدنا إلى الواقعة التي جرت بين "روحانيات وجداد" في الصفحة 70و71، والتي نجد فيها مشاهد جنسية تروى على لسان الراوي وليس على لسان الكاتب، وهذا ما يجعلنا نقول أن الراوي أراد أن يتجاوز أي امتثال/خضوع/تقيد/التزام بقوانين السرد المتعارف عليها في الرواية، جاعلا من هذا الاختراق لقوانين السرد سمة عامة تصل إلى درجة (الفوضى المنظمة) مما يجعل الراوية بهذه الفوضى والتدخلات تعد رواية استثنائية بتمردها وبثورتها على السرد الروائي.
الراوي والحاكم
يُقدم لنا "الحاكم" بصورة تؤكد ما قلنا سابقا: "عدم الالتزام بأي راو بعينه":
" بدأ الحاكم الأوسط الكلام:
يجب على كافة الأطراف الانتباه إلى أن الراوية لم تعد بيد الراوي بل إنه الآن مروي عنه، لقد حشر نفسه فيما يكتب فمسح شخصية كالتي خلقها. صحيح أن لا أحد سيصادر روايته منه ولكن بما أنه أوصل الأمور إلى هذا الحد من فقدان السيطرة فإننا سنتحكم ببعض الخيوط. فالفوضى يجب أن تظل تحت السيطرة أيضا.
على سؤال "من نحن" نعلن:
ـ نحن "القول الخفي" نحن أصحاب القلم المستتر الذي يتدخل كلما تطاول الرواة، بعد قليل ستفهمون!" ص144، بهذا الإيضاح من "الحاكم" يمكننا القول: أن رواية "انهيارات رقيقة" تمثل أهم رواية تتمرد على السرد الروائي، بحيث تجعلنا نشعر بأننا في عالم مفتوح يمكن لأي شخص/فكرة/خيال أن يكون حاضرا وفاعلا ومؤثرا في مجرى الأحداث، فليس هناك أي شخص/شيء محظور أو منوع من أن يكون له صوت وحضور، اعتقد هذه هي الفكرة التي أرادنا "رواة" الرواية أن نصل إليها، فحق الكلام للكل، ومن ضمنهم نحن المتلقين للرواية، وعلينا أن نأخذ دورنا وحقنا في الكلام والتعبير عما نرفضه أو نجده لا يتوافق مع رغباتنا/أرادتنا.
الرواية من منشورات دار الراية للنشر، حيفا، الطبعة الأولى 2012.
نشرت فى 30 مايو 2018
بواسطة magaltastar
رواية " قلب جاسوس"
أحلام قاسمية
قليلة هي الروايات العربية التي تحدثت عن الجواسيس، وإذا ما استثنينا روايات "صالح موسى" تكاد تخلوا المنطقة العربية من الأعمال الروائية التي تحدثت عن الجواسيس، وهذا يعود إلى واقع الهزائم المتلاحقة التي أصابت النظام الرسمي العربي، والتي تعتبر حرب الجواسيس من المعارك لخاسرة، من هنا نحن فقراء في هذا النوع من الروايات الأدبية، فالمخابرات العربية كانت ناجحة نجاحا مذهلا في متابعة واختراق الأحزاب والتنظيمات المحلية المعارضة، والتي اخترقها بأكثر من وسيلة وعلى مدار تاريخها، لكن على المستوى الخارجي، وخاصة جواسيس دولة الاحتلال والغرب فقد كانت أضعف من مواجهة أو كشف أي جاسوس، ولا أدل على ذلك من تاريخ الثورة العربية الكبرى التي اخترقها "لورنس" مرورا ب"إيلي كوهين" الذي اخترق الحكومة السورية وسرب معلومات في غالية الأهمية، وكلنا يعلم أن هزيمة عام 67 ما كانت لتكون لولا اختراق جواسيس الاحتلال لكافة الدولة العربية التي خاضت حرب 67.
كنت أتمنى أن تكون الراوية عن الجواسيس في المنطقة العربية، لكن السارد ارتأى أن يقدم لنا جواسيس في أمريكيا اللاتينية، وتحديدا في كوبا، وهذا يعتبر هروبا من واقعه، وقد رأينا العديد من كتاب الخليج العربي يهربون من الحديث عن واقعنا إلى الحديث عن واقع اميركيا اللاتينية، كما هو الحال عند "بدر محارب" الذي قدم ثلاثة مسرحيات "حدث في جمهورية الموز، تاتانيا، دراما الشحاذين" والتي تتحدث عن "أميركيا اللاتينية"، وللعلم هي من أفضل ما كتب مسرحيا ـ إذا ما اسقطناها على المنطقة العربي ـ لكن واقع القمع الذي يعشيه المثقف والكاتب، يفرض عليه إيجاد مخرج يحرره من الملاحقة الأمنية، فيضطر إلى استخدام بقعة جغرافية مغايرة، تجعله في مأمن من المسائلة أو الملاحقة.
تتحدث الرواية عن "أدريان ريت هوفمن" الطفل بعمر اثنى عشر عاما، والذي يبقى عالقا تحت الانقاض لمدة خمسة أيام كاملة، وتحديدا تحت ركام المكتبة التي كان يتردد عليها في مدينة "فايمر" الألمانية: "...القصف الرهيب...على مدينة فايمر من عام 1945 حتى خلفت الخمسين ألف قتيل، فتعفنت الشوارع من روائح الجثث والأعضاء المتعفنة والمختلطة ببعضها دون حرمة إنسانية تذكر" ص11، يتم انقاذ الطفل من قبل القوات المعادية الامريكية التي قامت هي نفسها بقصف المدينة، وهنا تحدث مفارقة، العدو هو المنقذ، القاتل هو المخلص، يتم أخذ لطفل إلى مدينة فيلاديلفيا في ولاية بنسلفانا، وهناك يتم تجنيده من قبل الكولونيل جون" كجاسوس أمريكي، يذهب إلى كوبا وتحديدا إلى "حانة ماريا لويزا" في "هافانا" وهناك يتعرف على الطبقة المثقفة والسياسية، ومن ضمنهم الحسناء "روزا لينا" زوجة رجل الاقتصاد والسياسي المحنك "الدون ألفونسو"، يقع "أدريان" في حبها، يأخذ في التردد على منزلها، وفي إحدى المرات يجدها في حالة اشتباك مع أحد المتحرشين، فيقوم بقتله، بعد هذه الحادثة، تأخذ العلاقة في التطور أكثر بينهما، كل هذه الأحداث تجري والصراع على السلطة في كوبا في أوجه بين كاسترو وراؤول وجيفارا من جهة وبين السلطة الحاكمة من جهة أخرى،، يتم قتل ابنها "أنريكي" من قبل العميل السوفييتي "الأميرال" الذي يكتشف ـ لاحقا ـ أنه زوجها وهي أيضا عميلة سوفييتية: "أدعي أنا ستازيا كوراكيوف، من أب روسي، وأم اسبانية، قد اغتيلا في اسبانيا عندما بدأ الفكر الشيوعي ينتشر هناك، وتم نقلي إلى موسكو، بأوامر الأميرال نفسه أيضا.
لقد أرسلت إلى كوبا فوقع الدون ألفونسو في غرامي وتزوج بي، أنجبت أنريكي، وكان الأميرال هو قاتله. ..والأميرال أب ابنتي فيرا يا أدريان" ص107. إذن "روزا لينا" متزوجة من "ألفونسو" ومن "الأميرال" في نفس الوقت، وما كان زواجها من "الفونسو" في كوبا إلا تغطية على شخصيتها الحقيقية، ولكي تقوم بمهمتها على أكمل وجه، وهذا ما كان.
في أتون الصراعات تتغير أحوال البلاد، يعمل "أدريان" على تهريب "حبيبته "روزا لينا" إلى خارج البلاد، لكنه يقع في الأسر، ويتم نقله إلى موسكو، وهناك يكتشف كافة تفاصيل الأحداث، وتنكشف الشخصيات على حقيقتها، ويعرف الهدف من أسره ـ تبادل الأسرى والجواسيس ـ بين السوفييت والأمريكان.
حقيقة امريكيا
ضمن هذا الأجوال يقدم لنا الراوي "أدريان" كافة التفاصيل والأفكار والأحداث المتعلقة بالجواسيس وطرق عملهم. يحدثنا الراوي عن الجريمة الوحشية التي اقترفها الأمريكان بحق عائلته ومدينته من خلال هذا: "...والذي قصفت فيه الولايات المتحدة الأمريكية مدينة فايمر، أين حدثت تلك المجزرة ومات فيها خمسون ألف إنسان دون رحمة" ص9، وكأن الراوي أرادنا ان نعرف أن الدولة الأهم في العالم، والتي تدعي حقوق الإنسان هي أكثر دولة مجرمة بحقه وبحق الإنسانية، فهي من قام بقتل خمسين ألف مواطن ومن ضمنهم عائلته.
صراع الموت والحياة
"أدريان" العالق تحت الركام، ولمدة خمسة أيام بلياليها حالة تستوجب التوقف عندها: "في تلك الليالي عرفت كم أن الروح عزيزة! وكم نحن ضعفاء أمام الموت، ...لا أعلم، لا أعرف لم تمسكت بالحياة بكل قوتي؟ ...كنت أعرف أنني سأموت يوما ما، ولكنني أردت أن أموت لأجل شيء واحد يكون عظيما ويستحق لأجله أن تتم المذبحة" ص12، مثل هذا الصراع الداخلي عن الإنسان مهم جدا، لنعرف أنه لا يتنازل بسهولة عن حياته، فهو يريد أن يعيشها كاملة وكما يريدها هو.
الصراع الداخلي عند "أدريان"
بعد أن يتم انقاذه من تحت الركام، يحدثنا عن الخراب والدمار والموت في مدينته: "جميع أهالي فايمر يضطجعون العراء والخيبة والهزيمة، أما أنا فقد شاركتهم ذاك الاضطجاع إلا الهزيمة، فقد احتفظت بها بين نار أحرقتها الصواريخ.
لم أشعر بالضآلة والخزي، لأنني أحسست أن الأحلام هناك بين الحطام، ما زالت ترقص، في انتصارات غير انتصارات العنصرية المخزية، كنت أرى هزيمة النازية انتصارا لي وليست انتصارا لغري مهما كانت أفكارهم." ص16، أي إنسان يبحث لنفسه عن مبرر ليكون سويا، من هنا نجد "أدريان" يفكر بطريقة تجعله في حل من الهزيمة التي وقعت لبلده، والتي أسفرت عن مقتل كافة أفراد عائلته، فهو يرفض الهزيمة، ويرفض الاعتراف بها، لهذا وجدناه يجد/يخلق هذا المخرج، محاولا أن يبرر ما حدث لألمانيا ولعائلته.
إذن هو انهزامي، ويعمل على خلق تبريرات لما قام به العدو المحتل من مجازر وتدمير في بلده. هذه الخيانة التي اقترفها بحق وطنه وشعبه، يحاول أن يعوضها من خلال علاقته ب"روزا لينا"، وكأنه في العقل الباطن، يريد أن يكفر عما اقترفه وفكر فيه بعد أن خرج من تحت الركام، وشاهد ما شاهد من دمار وجثت وأشلاء، فنجده يرفض أن يكون عشيقا لها ـ على ارغم من أنه جاسوس ـ فيقرر أن يتزوجها بعد أن يقتل "ألفونسو" زوجها لتكون له لوحده، ولتكون زوجته بصورة شرعية، "أحببت روزا لينا إلى درجة الجنون، قدستها إلى درجة الهوس، وحرمت نفسي المتعة منها، رغم أنها كانت تتوسلني لذلك، لأنني أردت حبا ليس ككل الرجال يبحثون عن امرأة فاتنة للفراش، لا، بل أردت حبا جارفا لأعيش به، يكون عظيما كما تخليته وكما أريده، وكما أستطيع أن أسطر فيه فلسفة قد تشفي نفسي بسعة الأنفاس الحرة لشهم حر.
... أريد أن أكون مفكرا لا جاسوسا، أريد أن أكون زوجا طاهرا لا عشيقا دنسا" ص76، من هنا يمكننا أن نكشف حقيقة هذا الاندفاع عند "أدريان" فهو يبحث عن شيء يجد فيه ذاته التي يريدها هو، وليس تلك التي شكلها "الكولونيل جون" وهذا يشير إلى أنه يحمل عقدة الذنب تجاه وطنه الذي قبل أن يعمل مع من قام باحتلاله وتدميره وقتل شعبه.
الحب
من خلال الحب يحاول "أدريان" أن يعطنا صورة جميلة له لهذا الفعل الإنساني، من خلال الحوار بين "الأميرال وأدريان" يمكننا أن نعرف الحب الحقيقي ونتفهم نفسه "أدريان" أكثر: "ـ لا تأمن الحب يا أدريان، وأن كانت النصيحة متأخرة.. ولكنني بعدها سأعدكم بنفسي، سأضمن لك أن تنتقم من روزا لينا قبل حكم اعدامك، ولن تستطيع أن تتم صفقتها ولا غايتها أيضا، فماذا تقول؟
ـ لا اريد أن أكون منتقما، لأن المنتقمين ليس لديهم عقولا حرة، لا يملكون في قلوبهم مساحة للحب، وقد شغلها قبح الانتقام وآلامه، بل إنني اسامحها، وسأبقى أحبها حتى وأن لم تعرف قيمة حبي ومعناه وقدره" ص114، أن يتحول جاسوس إلى مخلص فهذا شيئا عجاب؟، "إلا إذا عرفنا الدوافع الحقيقية وراء هذا التحول، ألا وهو الذنب الذي حمله "أدريان" بعد أن قبل أن يعمل كجاسوس للدولة التي قتلت عائلته ودمرت وطنه.
السياسي
هناك صورة السياسي الذي يفكر بمصلحته فقط، حتى لو جاءت على حساب كرامته، فالمصلحة هي الرب الذي يعبد ويطاع، وما دونها قابل للأخذ وارد: "ولكن السر العميق، أن الدون لم يكن مع أحد ولا مع أي فكر، فقد استخدم أمواله لإرضاء الطرفين ثم الانتقال إلى الطرف الأقوى والمنتصر، ليضمن بقاءه وبفاء امبراطوريته دائما دون خسارة أحد.
...فلديه كل شيء إلا الأخلاق" ص50، هذه صورة السياسي الحقيقي الناجح، وما دونها بالتأكيد هو ليس سياسي.
الجاسوس والجاسوسية
يقدم لنا الراوي معلومات عن طبيعة عمل الجاسوس، والطريقة التي يفكر ويعمل بها، وأفكار عامة متعلقة بعمل الجواسيس: "لا شيء سيكون مقرفا كعالمي، لأنه مليء بالخداع، بالحذر والشك والتحليل والاستنتاج." ص23، هذ الاعتراف يدفعنا إلى الأخذ بعقدة الذنب التي يحملها "أدريان"، فهو غير مقتنع بما يقوم به.
الجاسوسية تحتاج إلى شخص باع كل شيء، وسيبيع كل شيء في لحظة ما" ص23، أيضا نجد الفكرة السلبية عن الجاسوس، وهذا ما يؤكد أن "أدريان" لم يكن مقتنع ومؤمن بهذا العمل.
"فلسفتنا: الغاية تبرر الوسيلة، فليس لنا مبادئ محددة ولا قيم مضبوطة، المقدس لدينا هو الهدف فقط.
لكي تكون جاسوسا... والأهم لصا ومحتالا بارعا جدا.
وعندما تختار لتلبس هذه الشخصية، فاعلم أنك انتهيت كإنسان لتبدأ كآلة بشرية خالية من المشاعر" ص24، ايضا نجده يحتقر المهنة التي يعمل بها، وإلا ما تحدث عنها بهذا السوء.
"فالعملاء ليس لهم حياة يختارونها، وليس لهم عالم كعالم الناس والبشر" ص55، كل ما سبق يجعلنا نتأكد أن الراوي يزدري عمله كجاسوس، فهو يعريه لنا، موضحا أنه بعيدا كل البعد عن القيم والمفاهيم الإنسانية.
هذا ما تحدث به "أدريان" الذي يحاول أن يكفر عن الذنب الذي أقدم عليه، العمل كجاسوس ـ وهي مهنة قبيحة وقذرة ـ خاصة عندما تكون مع دولة دمرت وطنه وقتلت أهله، فما هو الحال عند الجاسوسة "روزا لينا" وكيف تنظر إلى عملها؟: "ـ لا خيار بين الوطن والحب، إذا مت حبا ومت معي، فخير من موت شعبي وقضيتي ومبتغاي، سيرحم التاريخ الوطني مجد أنا ستاريا التي ضحت بقلبها لأجله، اغفر لي صنيعتي أرحمني فقد خلقت للعذاب" ص108، رغم الحزن الذي يعتري "روزا لينا/أنا ستاريا" إلا أن العمل عندها هو العمل، ومصالحة الوطن فوق أي مصلحة، لهذا نجدها أقرب إلى الآلة اتي تحدث عنها "أدريان " في السابق، يقول عنها "الأميرال" زوجها: "فأنا قاتل ابنها أنريكي، وهي تعلم هذا وتدركه، ولكنها مستمرة معي، قانعة بي كأنني حبيبها، هل تعلم لم؟ لأنها تعي جيدا مدى خدماتي التي أقدمها لوطنها وللفكر الشيوعي، فأبدلت مشاعرها بكبح أقوى غريزة لها كامرأة وهي غريزة الأمومة" 110. هكذا تفعل الجاسوسية بالأفراد الذي يعملون بها، لهذا نجد أم يقتل ابنها أمامها وتعرف قاتله، ولا تبدي أي أمتعاض أو معرضة، بل على العكس، تستمر في خدمة القاتل واطاعة أوامره.
تحكي لنا "روزا لينا" عن الحب وكيف تتعامل مع الحبيب: "آسفة/ لكنني لم أعجب به، بل كنت أحبه وما زلت، ولن احب غيره أبدا، ولكنني أحب وطني وشعبي ومعتقدي أكثر من أدريان، ولو كان موته سيحل معضلة ترفع شأن بلدي فسأقتله بيدي يا ألكساندر" ص122و113، اجابة شافية توضح طبيعة عمل الجاسوس.
المعلومات
المعلومات عن العدو لها أهميتها وضرورتها، وهي العنصر الأهم عند اتخاذ أي قرار متعلق بالعدو، إن كان الحرب أم الهدنة، "...المعلومة، أهم نقطة قوة، تستند عليها محركات الحرب والمعركة، والفوز والخسارة.
إذا امتلكتها كسبت نصف الحرب، وإذا أحسنت مراقصتها فقد ربحت حربا ومعركة وتاريخا" ص31، من هنا تأتي أهمية حرب المعلومات بين الدول.
الحكم
دائما الحكم تعطي العمل الأدبي جمالية تضاف إلى ما فيه، لأنها تمثل خلاصة تجربة السارد في الحياة، "الحياة تعطي أحيانا لبعض البشر كنوزا لا يعرفون ما الغاية منها، أو ما قيمتها أصلا" ص35.
" أن الغدر بيد الأحباء أقسى من أي موت" ص115.
عن طبيعة الرجل والمرأة
يستوقفنا الموقف الذي اتخذه "أدريان" من "روزا لينا" ويجعلنا نتساءل، أليس من الأولى أن يكون "روزا لينا" هي المخلصة للحب ولحبيبها ولابنها الذي قتل على يد زوجها؟، ولماذا قدمت لنا بهذا الشكل القاسي والجامد، فهي لم تكن أكثر من آلة تعمل حسب الأوامر الموجهة لها، ولم تبدي أي فعل أو عمل يخدم مشاعرها أو احساسها كأم أو كمرأة، فلماذا تم تقديمها بهذا الشكل؟ بينما قدم "أدريان" بصورة المخلص الصادق والمنتمي للحب وللحبيبة، حتى أننا نجده بعد كل ما حصل له، يرفض الانتقام منها.
لماذا قدم لنا بهذا الصورة الجميلة؟، ما هي الدوافع وراء ذلك؟، اعتقد ان الكاتبة "أحلام قاسمية" تدخلت في عملية السرد، حتى انها جعل "أدريان" هو السارد وليس أي شخص آخر، فكان يمكنها أن تستخدم "راوي" من خارج الاحداث، راوي محايد، لكن طبيعتها كامرأة وجدت في "روزا لينا" المرأة الجميلة شخصية منافسة لها ـ رغم أنها هي من خلقتها/أوجدتها ـ فلم تكن لتقبل أن تكون هذه الشخصية محل احترام المتلقي، لهذا عملت على تقديمها بهذا الشكل القاسي، وقدمت "أدريان" بصورة الحبيب الصادق، علما بأن الرجل يمكن أن يتخلى عن حبه، أو يتجاهل/يتساهل/يصفح عمن قتل ابنه، لكن المرأة من المستحيل أن تقبل بهذا، ومع كل هذا قدمت لنا المرأة بصورة قاسية بينما كان الرجل ناعم.
الرواية من منشورات E-Kutub ltd شركة بريطانية مسجلة في انجلترا برقم: 7513024
الطبعة الأولى، لندن، نيسان، 2018
ملاحظة، النسخة مرسل بواسطة النت.
نشرت فى 27 مايو 2018
بواسطة magaltastar
تجاوز المألوف في رواية
"حارة المشتاقين"
حسين عبد الكريم
عندما يعم الخراب، وتمسى حياتنا بلا شمس، ويصبح الفرد مجرد ورقة تتقاذفها الريح أينما شاءت، والأفكار تخضع لمفاهيم (العصر/الواقع)، ستختفي الافكار النبيلة، وتستبدل بأفكار غريبة وعجيبة، ـ رغم أنها تأتي ـ شكليا ـ بثوب العصر، لكن جوهرها يبقى فارغ من القيم والمبادئ، بحيث يكون الفرد، كمن يستخدم/يستهلك تكنولوجيا القرن الواحد ولعشرين وهو ما يزال يحمل عقلية العصور الوسطى.
المفارقة العجيبة في المنطقة العربية أننا ما زلنا نعيش بعقلة البدوي الذي يمارس التنقل والترحال من مكان إلى آخر، فيشعر بعدم الاستقرار والثبات، فينعكس ذلك على تفكيره، فيأخذ ما هو متاح أمامه، إن كان بطريقة مشروعة أم بسواها، إن كان هذا الذي أمامه مفيد أم ضار، فهو عاجز عن الانتاج المادي أو الانتاج الثقافي، فيكتفي بهذا (الجاهز) الذي يقدم/يحصل عليه دون أن يبدي أي رفض، أو تفكير به أو بالطريقة التي وصلت له، أو بالهدف والغاية منه.
كل هذا يجعل الإنسان في المنطقة العربية يشعر بالاغتراب عن محيطه ومجتمعه، وحتى عن ذاته، ولا بد له من خلق/إيجاد طريقة يعبر فيها عن امتعاضه ورفضه لما هو حاصل/كائن، سنجد فيها هذه الرواية طريقة تقديم أفكار الرافض لهذا الواقع، وبأسلوب عجيب وغريب، لكنه يوصل حقيقة واقعنا المزري، واقعنا الذي ننتقده فيما بيننا، لكننا نتشارك في هدمه وتقويض بنيانه.
السواد
إذن الواقع البائس هو إحدى الأسباب التي دفعت الراوي ليقدم لنا هذا الشكل من الرفض والامتعاض، فما هو هذا الشكل الذي يعبر فيه الراوي عن واقعنا؟، "....اجرى طبيب الاسعاف فحصا شاملا على الحال "الضحية" فعرف أنها أصيبت بذبحة الكذب المتعفن، التي تناول أصدقائها في وجبة واحدة .؟. وشاركتهم هي تناول الوجبة ذاتها...انتقل الطبيب إلى المريض الثاني، قاس ضغطه، فوجده مرتفعا ارتفاعا زائدا عن أي ارتفاع آخر، بسبب ازدياد نسبة العفونة والأكاذيب السوداء في دمه... لكن السبب العاجل الذي سبب له الذبحة هو ارتفاع منسوب الجشع والطمع عن أي حد كمطلوب" ص18، هذا هو واقع مجتمعنا، فكيف يمكن العيش فيه؟ أو القبول به؟ من هنا يكمن أهمة تبيان الخلل الذي هو فيه، فلا بد من الاستمرار في اظهار الخلل، لعل وعسى نجد من يرتدع ويتوقف عن الجريمة التي تقترف بحقنا وبحق مجتمعنا.
"شاهدت طفلا يبصق على طفولته، لأنها يابسة، وبشعة، فأرسلت له غصنا وحفنة من جناح ونسمة عليلة، بعد فصل أو فصلين، أو ثلاثة ارسل لي الطفل رسالة واحدة: كسرة خبز، وكسرة طيبة وكسرة دفئ فعرفت أن بصاقه استبدله بالعفن، وكنس به السواد المتكوم على أيامه وثيابه وعمره وملامح حلمه الصغير" ص34، عندما يطال السواد الطفولة فمعنى ذلك أن المستقبل لم يعد لنا، أو لم يعد هناك مستقبل أصلا، فقد طال العفن البذرة التي من المفترض ان تنمو لتطلق ثمارا جديدة وجيدة، لكن واقع الحال لا يعطي أي دلالة على ذلك.
"اسنانهم ليست ناصعة البياض، بل مهملة، وغير منظفة منذ عهد بعيد، فتزاحمت عليها الاوساخ وبقايا المأكولات فأختلط لونها الحقيقي بالوان الاتساخ والأطعمة.. من كثرة إحساسهم بالجوع، يبقون يلوكون ويعضون سواء امتلأت أفواههم بالطعام أو بقيت مقفرة كشجرة يباسها دائم" ص88، من خلال المشاهد السابق يمكننا القول أن السواد أصبح حالة تطال الفرد والمجتمع، الأفراد والجماعات، الصغار والكبار، بحيث يفقد فيها الإنسان أي شعور بالحياة السوية.
المرأة والرجل
من هنا يجب اللجوء إلى المرأة لعل وعسى نجد فيها أو عندها شيء من السكينة والراحة، تساعدنا على التخلص/تجاهل هذا السواد ولو مؤقتا: "...فقبلها لا كزوجة، بل كمؤسسة صغيرة جدا، وخاصة لتأمين، وهي راته حالة غرامية صالحة للاستهلاك ورأته "سياجا" لحاتها، ترفعه على هواها، وتخفضه حين تريد. ...تسمي نفسها بائعة ابتسامات غير دارجة، وهي لا تبتسم إلا ابتسامات "منتهة الصلاحية" و"فاعو" لم تريده كمصدر سعادة بل ارادته سياجا يحمي خرابها، وهلاك نفسها، وعنوان من عناوين عمرها ارادته "شاخصة" كتب عليها: " فاعور زوج صاحبة "صالون" الحسناء لإصلاح وبيع القهقهات والابتسامات القديمة والجديدة" ص70و71، إذن العلاقة بين الرجل والمرأة أصبحت ايضا فاقده للمحتوى، فهي ليست اكثر من مساهمة سليبة تضاف إلى سلبيات الواقع.
الخراب الشامل والكلي
ضمن هذا الواقع لا بد من اعطاءه وصف يناسب الواقع: "...أنه دوي الحروب وقتل الموسيقا والأماني الإنسانية ذات "الماركات" العالمية ... أحست أن أوتار كل الآلات الموسيقية جراء قنابل لعينة سقطت على كل مخازن الآمال والانفاس الجميلة، ...هذا المدار الذي سقط على مخازن الإنسانية، لم ينته أذاه عند الحاضر، بل تعداه إلى الذاكرة ...إذ أصيبت الأحلام القديمة بتصدعات هائلة...حتى القوى النائية، التي تحتفظ بأغانيها ونغمات أصواتها بعيدا عن متناول المفسدين في الغناء" ص99، من خلال ما سبق نجد انتشار الخراب والدمار ليطال كل مرافق الحياة وكل ما فيها، فلم يعد هناك ما هو نقي، فالتلوث والتشويه وصل حتى إلى الموسيقا، إحدى وسائل التهدئة والسكينة، فأين المفر من هكذا واقع؟.
الوقت
لكل وقت حالة خاصة تلائمه، فكيف سيكون حال الوقت في ظل الخراب الشامل؟: "نهوان لا يقبل الكذبة الصباحية، أن تكون مثل كذبة الظهيرة وكذباته الليلية أشد سوادا وضراوة، لتلائم واقع السهر ولليل وكذا شأن زعفر، الذي اخذ بطنه بالتضخم العشوائي، ليتسع لمختلف "ماركات" الكذب، وصنوف المجاملات القاتلة، وعلم فمه على التحرك الدائم، ليظل مستعدا للبصاق، أو رش اللعاب أو توزيع "العضة" تلو "العضة" لمجاوريه وعارفيه، والمتعاونين معه في العمل" ص91.
الطعام
المجتمع الذي صل إلى ما وصل إليه من خراب، لا بد أن له طعام خاص به، يجعله قادر على التعاطي مع هكذا واقع، " ...كلمة ترحيب مع كذبة ابطل مفعولها، جملها على طبق من "توتياء" ودعاه إليها ..تذوقها، فأحس بطعمها مرا وحادا، وقاسيا، لكنه ليس قاتلا أو ساملا، ..."وجبة" الكذبة نكهتها مؤذية، ورائحتها غير ممتعة، ..صحن ثاني فيه اتسع لتأهيل كثير الحموضة، يسبب "قرحة" اثنى عشرية، تصيب المودة وتهلكها" ص85، مثل هؤلاء الأفراد الذين يتغذون بهذا الطعام بالتأكيد سيخرجون مجبولين على نفس طريقة تعاطي المجتمع مع الواقع وما فيه من فساد ونفاق.
لكن الحال لم يقتصر على الطعام، بل طال أيضا أماكن تقديم الطعام، المطاعم: "وقد أحصص قسما من المطعم، للزبائن الذين يتذوقون الكذب، وكلمات التأهيل، والمودات بطريقة عالية الهمة، وبأسلوب راق.." ص86، إذن لم يقتصر تقديم الوجبات الفاسدة على المنازل فحسب، بل هناك مطاعم متخصصة في تقديم مثل هذه الاطباق المهلكة.
التعليم
المؤسسات التعليمة من المفترض أن تكون أحدى الوسائل التي تحيل دون وصول المجتمع إلى براثين الهلاك، لكنها في رواية "حارة المشتاقين" كانت تقوم بدور عكسي، تدفع بالمجتمع والأفراد إلى مزيد من الغرق في مستنقع الواقع ومفاهيم العصر: "وبعد أن رأت مدرسين ومدرسات حملوا بين أيديهم وفي جيوبهم أوبئة عجيبة يشبه بعضها كلمات أبو صقر، وبعضها يشبه دروس أخلاق تالفة.. وشاهدت طلابا وطالبات يشترون جملا غير مفيدة وعناوين نجاح منتهية الفعالية انتهاء تماما، وشاهدت طالبات يبعن ما عندهن من ابتساما مطلوب، وضحك صالح للبقاء ولو لحين" ص168، هناك واقع بمجمله يخدم فكرة التعاطي مع واقع الفساد، والجميع يساهم في الانزلاق نحو الهاوية، بحيث يكون الفساد والعفونة هي السيد والسائد والمسيطر.
الكتابة
هناك خلل في بنية الكتاب وما يقدمونه للقراء من مواد للقراءة: "... أن طالبا غبيا أراد أن يكتب سطورا ذات معان، فكتب غباء و"خربشات" تعيسة .. أو ماسح أحذية متعب أخطأت فرشاته، فكتب ابتسامة هذا التاجر بدل أن يكتب لمعان حذائه" ص45و46، بهذا الشكل انزلق لمجتمع في أتون الفساد والأفكار المنحطة، التي تدعم وتزيد الاخراط في هكذا واقع.
الغناء
من المفترض ان يكون الغناء والفنون عموما عناصر مهدئة ومخففة من وطأة الواقع، لكننا نجدها في ظل الفساد تحدث هذا الأثر: "والمفاجئ في الأمر أن موالا طائشا" من المطربة "دلوعة" أصاب الزوج في أذنه اليمنى، فتسبب له التهابا مزمنا." ص63.
يلخص لنا الراوي واقع الموسيقا والغناء فيقول: "...ويقال قد تكون ماتت جراء إصابتها بمرض عضال هو الصراخ" ص95، بهذا لم يعد هناك فن غنائي يخدم الأفراد ويخلصهم مما علق فيهم من تعب وهموم، بل هناك ما يخدم التلوث والتشويه لكل مظاهر الحياة ويعكر صفوة تفكير كل من يحاول الخروج/التخلص من واقاحة وفساد الواقع والأفراد.
الصور
من مميزات العمل الأدبي الجميل، تقديم صور أدبية تخدم الفكرة التي يطرحها الراوي، وفي "حارة المشتاقين" هناك مجموعة من الصور الأدبية التي تعمق حالة الألم الذي يعانيه الأفراد والمجتمع، منها: "رأت الكثيرين يتأبطون احزانا طويلة القامة" ص30.
"الزوجة تحترق غيظا كشجرة زاهية يقتلها العطش، وتخطئ الافق إليها الغيمة الممطرة.. حتى انقلب موسم الابتسام عندها إلى موسم غضب وسخط متواصل" ص39.
"وشفتاها سميكتان ومتشققتان جراء الدخان والأسى اليابس وجراء هجر القبل "المدللة" ذات المعنى والرجاء.. شفتاها صارتا كأي حذاء شقي من كثرة السير والمتاعب، ونظراتها مصابة بالضياع، وداء الاستطراد الممل" ص69و70.
"...هزمتها عتمة الغبار، وهزمها اليباس وكثرة الجدران" ص116.
بهذا تكون صورة السواد قد اكتملت، وأصبحت هي الصورة الوحيدة التي يراها الفرد ويرسمها المجتمع/الواقع، فلم يعد هناك أي جمال خارج هذه الصورة الباهتة.
الرواية من منشورات وزارة الإعلام، دمشق، سورية، الطبعة الأولى 2003.
نشرت فى 25 مايو 2018
بواسطة magaltastar
قراءةً في قصيدةِ الشاعر طاهر مشي
(سبات)
..........حميد شغيدل الشمري ..العراق
في ثلاثيناتِ ألقرن ألماضي والتي سمّيت ظلما عصرُ ألظلامِ كانَ الادبُ ألعربيّ في أعلى مراتبهِ وليس كما يتصورُ البعض عكسَ ذلك فخرجَ جيلُ رسمَ بخطى واثقة ملامحَ عهدِ أدبي جديد .لم يك هذا ألجيلُ أول من أرادَ ألتجديدُ بل سبقهُ الكثيرُ من فحولِ ألشعراءِ منهم عنترة العبسي
(لاتبكي على رسم درس) لكن قوة وارادة البعض المتشدد كانت السائدة لذا إقتحم َهذا الجيلُ بوابةُ ألتجديدِ تاثرا بالأدبِ ألغربي وانتجوا لنا شعراجميلا اسموه الشعرُ الحر ومنهم السيابُ ونازك والبياتي وغيرهم.
لم يكتف من جاء بعدهُ بل طوروا ألتحرر من حر الى قصيدة ِالنثرِ التي هي الآن سادت شاء او رفض الاخرون حيث تحررَ الشاعرُ من ميزانِ ألصرف والعروض .
هذه المقدمةُ جاءت بعد إن إطلعتُ على قصيدةِ ألمبدع( طاهر مشي) (سبات )هو جسّد ما يدورُ في خاطره وما آلت عليهِ الأوضاعُ في بلدنا ألعربيّ بقصيدةٍ نثريةٍ جميلةٍ خالية من التعقيدات اللغوية انتقلنا بها الى عهدِ الثورةِ والشباب..
ألحماسة والالم كانا ينطلقان بين السطورِ ممزوجة بألمٍ وعتبٍ لطريقٍ مجهولٍ موحشٍ ليس محاكات طفلٍ تدثرَ على ألرصيفِ يأكل به الخوفُ يلتحفُ ألفقرَ مهتزُ ألجسدِ بل هو ضميرُ ماتَ في حاناتِ ألهوى على مسارحِ الرذيلةِ والهوان ٍلم يكُ طفلاً بائساً بل وطنٌ ماتَ خرائب، ووهنُ وطنٌ تشتتَ وشعبهُ تاه يستجدي رغيفَ الخبز .يغفو ويصحو على وعود ميتة..وطن اباحه اهله قبل الغرباء يعيش في سبات وطن وكانه يقول كما قال الجواهري
نامي جياع الشعب نامي
سكنتك الهة المنام
الصغيرً هنا هو رمزُ من رموزِ ألمستقبلِ إلباكي ألمجهولُ المستقبلُ الذي ضاعَ في دروبّ قذرةٍ بين الضمائرِ التي نُحرتْ على رصيفِ البغاء.
ثورةٌ داخليةُ يعيشها ألشاعرٌ بكلِ صدقِ وعفويةٍ لم يذهب الى الصورِ المعقدةِ بل رسمَ صورةً واقعيةً لأحداثِ نشاهدها يوميا لعنَ الزمنٌ متبرماً لا يا اخي ليس الزمنٌ بل نحنُ الذينَ صنعنا ألجبابرة لكن الامل قادم وسيكبرُ الطفلُ من رحمِ المعانات ليرسمَ طريقاً زاهراً مفروشاً بوردِ الياسمين وسنحتفلُ رغمَ ألجراح.بالرغم من انَ النصَ قصيرُ الا انه يحملُ في طياتهِ الكثير
ابدعتَ بصوركَ ألجميلةِ وعذرا للاختصار.ربما لم اعط للنص كامل حقه.
النص
سبات
''''''''''''''
إلَى أيْن الَمَسِير
وَهَذا الضَّمير
قَد غَفا
بَين حَانَات الهَوى
والقُلُوب قَد تَصَابت
وانْزَوَى فِي نبْضها
لم يكتف من جاء بعدهُ بل طوروا ألتحرر من حر الى قصيدة ِالنثرِ التي هي الآن سادت شاء او رفض الاخرون حيث تحررَ الشاعرُ من ميزانِ ألصرف والعروض .
هذه المقدمةُ جاءت بعد إن إطلعتُ على قصيدةِ ألمبدع( طاهر مشي) (سبات )هو جسّد ما يدورُ في خاطره وما آلت عليهِ الأوضاعُ في بلدنا ألعربيّ بقصيدةٍ نثريةٍ جميلةٍ خالية من التعقيدات اللغوية انتقلنا بها الى عهدِ الثورةِ والشباب..
ألحماسة والالم كانا ينطلقان بين السطورِ ممزوجة بألمٍ وعتبٍ لطريقٍ مجهولٍ موحشٍ ليس محاكات طفلٍ تدثرَ على ألرصيفِ يأكل به الخوفُ يلتحفُ ألفقرَ مهتزُ ألجسدِ بل هو ضميرُ ماتَ في حاناتِ ألهوى على مسارحِ الرذيلةِ والهوان ٍلم يكُ طفلاً بائساً بل وطنٌ ماتَ خرائب، ووهنُ وطنٌ تشتتَ وشعبهُ تاه يستجدي رغيفَ الخبز .يغفو ويصحو على وعود ميتة..وطن اباحه اهله قبل الغرباء يعيش في سبات وطن وكانه يقول كما قال الجواهري
نامي جياع الشعب نامي
سكنتك الهة المنام
الصغيرً هنا هو رمزُ من رموزِ ألمستقبلِ إلباكي ألمجهولُ المستقبلُ الذي ضاعَ في دروبّ قذرةٍ بين الضمائرِ التي نُحرتْ على رصيفِ البغاء.
ثورةٌ داخليةُ يعيشها ألشاعرٌ بكلِ صدقِ وعفويةٍ لم يذهب الى الصورِ المعقدةِ بل رسمَ صورةً واقعيةً لأحداثِ نشاهدها يوميا لعنَ الزمنٌ متبرماً لا يا اخي ليس الزمنٌ بل نحنُ الذينَ صنعنا ألجبابرة لكن الامل قادم وسيكبرُ الطفلُ من رحمِ المعانات ليرسمَ طريقاً زاهراً مفروشاً بوردِ الياسمين وسنحتفلُ رغمَ ألجراح.بالرغم من انَ النصَ قصيرُ الا انه يحملُ في طياتهِ الكثير
ابدعتَ بصوركَ ألجميلةِ وعذرا للاختصار.ربما لم اعط للنص كامل حقه.
النص
سبات
''''''''''''''
إلَى أيْن الَمَسِير
وَهَذا الضَّمير
قَد غَفا
بَين حَانَات الهَوى
والقُلُوب قَد تَصَابت
وانْزَوَى فِي نبْضها
طَعْم الوَفاء
فَتَبَدَّدت
تِلك الوُعود الصَّارِخة
هَذا الفَقِير فِي الشَّوارع قَد غَدا
يَسْتَجْدي خُبزا أو دَراهم مِن عَطَاء
والمَسَارح
بالهُتَافَات الوَاهِية
تعُجّ بِتلك الوُعُود الزَّائفة
وأبْواب المَدينة
قَد تَصَدَّت
للمَدَائن النَّائِمة
فِي سُبات
وَالوَطن يَقْرَع بَابَه وَهْم الحَيَاة
وَذاك الصَّغِير
يَئِن فِي الشَّوارِع حَافِيا
وَتِلك الأُم تَبْكي ابْنها
الّذِي رحَّلوه عُنْوة
وَالكِرَام رَمُوهم فِي البِحار
وَشَتَّتوا ذَاك الوَطن
آه مِن هَذا الزَّمَن
''''''''''''''''''''''''''''
طاهر
نشرت فى 24 مايو 2018
بواسطة magaltastar
المرأة والمثقف في رواية
"من يتذكر تاي"
ياسين رفاعية
الحديث عن علاقة المثقف بالمرأة مسألة في غالية الأهمية، والمثير في هذه العلاقة أن الراوي لا يتحدث عن العلاقة/الحاجة الجسدية، بل عن الحاجة العاطفية/الروحية، وإذا ما علمنا أن الحديث لا يدور عن المثقف العادي، بل المثقف الثوري/المناضل، يمكننا تأكيد أهمية وضرورة التعرف على ما جاء في رواية "من يتذكر تاي" التي تتناول أحداث واقعية وليست متخيلة.
زمن الأحداث هو ما بين عام 1967 وعام 1973، أي بعد هزيمة عام 1967، ومكان الأحداث مدينة بيروت، مدينة التحرر العربي، المدينة المنفتحة على الجميع دون استثناء، فلم تفرق بين رجل وامرأة، أو بين فلسطيني وسوري، أو بين لبناني ومصري، فهي مدينة عصرية بكل معنى الكلمة، وهذا ما جعلها تدفع ثمن تمردها وتحررها باهضا فيما بعد، في الحرب الأهلية، التي حولتها إلى خراب، ثم إلى صحراء، (يغزوا) أهلها بعضهم بعضا، ويقتل بعضهم بعضا، فأمست مدينة أشباح، ولم تعد تلك المدينة التي احتضنت كل المتمردين والثوريين والمتنورين في المنطقة العربية، فذهب رجالها ونسائها أما إلى تحت التراب، أو غادروها إلى مدن أخرى لعلهم يجدوا فيها ما فقدوه في مدينتهم، المدينة الأم التي احتضنتهم وحمتهم في زمن القهر والهزائم.
الشخصية المحورية هي ساقية البار "تاي/عائشة" التي تتمتع بثقافة غير عادية ورؤية فلسفية شاملة للحياة، وتمتاز بجمال أخاذ، واسلوب إنساني في التعامل، بحيث تصبح مكان اهتمام كل المحيطين بها، وهم من خيرة السوريين واللبنانيين والفلسطينيين، وإذا ما علمنا أنهم من رجال الثورة الفلسطينية المؤثرين ومن المؤسسين في تشكيل الفكر والنهج الثوري الفلسطيني والعربي، وممن دفعوا حياتهم ثمنا لموقفهم ونهجهم الثوري، يمكننا التأكد أننا امام امرأة غير عادية، ـ رغم أنها ساقية بار، ورغم ما يوحي ذلك للوهلة الأولى، أننا امام مجرد (فتاة لعوب) تخدم الزبائن وتقدم لهم ـ جمالها ـ مجانا ليشربوا أكثر ويدفعوا أكثر، لكن حقيقة "تاي" لم تكن بهذه الصورة، بل كانت شيء آخر، شيء مغاير تماما، وليس أدل على ذلك الشيء ألا جعل أسم الرواية "من يتذكر تاي" .
"معين بسيسو"
أكثر شخصية فلسطينية يتحدث عنها الراوي هي شخصية الشاعر "معين بسيسو" الشاعر الحساس، مرهف المشاعر، يحدثنا الراوي عن رهافة مشاعر "معين" من خلال هذا المشهد: "... ولمحت زوجة معين على وجه جارتها ما يشبه خيبة الأمل، إذ قالت للزوجة إنها لم تطلب من زوجها سوى شيئا واحدا هو أن يذبح لها الديك، ثن أردفت وهي تبتسم: ألا يصفون زوجك بأنه شاعر المقاومة؟ فعلقت تاي ضاحكة: ولو يا صديقي ... ألم تجرؤ على ذبح ديك المرأة؟ ماذا لو اضطررت أن تقاتل بالسلاح؟ فقال لها: لم تكن وظيفتي أن أقاتل بالسلاح، بل أقاتل بالكلمة" ص19، فمثل هذه المشاعر لا يمكن أن تكون إلا عند شاعر، يخدش مشاعره أي شيء، فما بالنا أن كانت هزيمة أمة، وتشريد شعب بكامله؟.
يقدم لنا الراوي "معين" الإنسان الذي لا يحفل ولا يقبل بموت أي إنسان، حتى لو كان عدوه، فيعمل بكل جهده لكي ينقذه من الموت: "... مجموعة من الجنود الاستراليين المخمورين وفي أيديهم زجاجات الويسكي... فسقط أحد وفر الباقون، كان الجندي قد سقط قريبا مني، ولا أدري ذلك الشعور العاصف الذي انتابني وأنا أراه ملقى وسط الشارع وهو ينزف، ... ترك كل شيء، ربما زوجته وأولاده، ربما أمه وإخوته وحبيبته ليسقط هنا مخمورا دون قضية ودون هدف.... والذي طعنه بالسكين غزاويا، يعني ذلك بالنسبة لي أنه عدو ولو لم يكن عدوا لما طعنه رجل من أهلي... من غزة.. اضطرب، كانت عينا الجندي تتوسلان، فقررت مساعدته" ص40و41، من هنا يمكننا أن نكون فكرة عن شخصية "معين" الإنسان الذي يتأثر وينحاز للإنسان حتى لو كان عدوه، فما بالنا بقريبه، بابن شعبه؟.
... إذن الهزيمة هي مرض "معين" وفعلت به ما لم يفعله السجن أو المنفى: "...الآن لقد فقدنا كل شيء، وستنتشر الخيانات في طول الوطن وعرضه، من القمة إلى القاعدة، ولن نعود إلى فلسطين" ص20، لهذا نجده بحاجة ماسة إلى من يخفف عنه من شدة وقع الهزيمة وأثرها عليه، فكانت "تاي" هي التي يحتاجها: "... حتى أن الشاعر الفلسطيني معين بسيسو وجد فيها ملجأ لأحزانه وخيبته الوطنية، فكان في كل مرة يحمل معه قصيدة جديدة، يحاول قراءتها بصوت مسموع، فتطلب منه التريث، وتأخذ القصيدة تقرأها في البداية بصمت، ثم تعود وتقرأها همسا خافتا للقربين منها، فيصبح للقصيدة بصوتها ذي البحة الجميلة طعما آخر، ثم تلتفت نحو الشاعر لتمتدح قصيدته، فإذا به يبكي بدموع صامتة، كأنه وحده سبب هزيمة حزرين" ص10، "تأي"، هنا، ليست امرأة عادية، لهذا نجد فيها شيء من صفات الأم، وصفات المعلمة، التي تهتم ليكون ابنها/طالبها متفوقا، كما انها تهتم لتزيل ما حل به من ألم وضيق، لهذا كانت هي من يقرأ القصيدة، ومن ثم تقوم بمديحها، لكي يأخذ الابن/الطالب معنوية تساعده على الخروج من حالة الانكسار التي يعاني منها، وهذا ما كان، إذ نجد "تأي" تعطي "معين" طاقة تقدمه من ذاته كإنسان أولا وكشاعر ثانيا، فنجده بهذه الحيوية: "...فإذا بالشاعر معين وقد حمل تحت إبطه دستة من الأوراق. تقدم من تايم حييا ثن قبل يدها. لمحت إلى أن الشاعر بدا لها مرتاحا فسألته: ماذا تحمل في هذا الأوراق .. هل هي قصيدة جديدة؟ ابتسم تلك الابتسامة الغامضة التي عرفناها عنه. فلا هي تنبئ عن فرح ولا حز. قال نعم قصيدة." ص 55.
قلنا في موضع غير هذا أن الادوات/العناصر التي تخفف عن الإنسان هي المرأة، والكتابة، الطبيعة، الثورة، يحدثنا الراوي عن حالة "معين" فيقول: "... وكنت أظن دائما أنه لولا الشعر لأنتحر من زمان، فقد كانت فكرة الانتحار تراوده، ولكن كتابة القصيدة، كانت كافية له للابتعاد عن هذه الفكرة، فيشعل الأمل من جديد، كانت ريتا هي شعلة الأمل، فيرى فيها، في نشاطها الذي لا يفتر مستقبل فلسطين" ص67، نجد المرأة والكتابية هما من انقذ "معين" من تنفيذ فكرة الانتحار، وهذا يؤكد على حيوية الدور الذي تقدمه المرأة للرجل، وعلى أهمية فعل الكتابة بالنسبة للأديب.
"غسان كنفاني"
لم يكتب عن حياة "غسان" العادية ألا القليل، وها هو الروائي يضيف شيء عن تلك الحياة (القصيرة) التي كانت مترعة بالحيوية والنشاط، حتى يبدو لنا وكأن "غسان" ـ في الا شعور ـ كان يعرف ان حياته ستكون قصيرة، لهذا كانت حياته تتسم بالحيوية وبالعمل، وهما اسمة البارزة فيها.
"غسان" على النقيض من شخصية "معين" الذي فعلت به الهزيمة ما فعلت، فحولته من الأمل والعطاء إلى اليأس والحزن العميق، يقدمه لنا الراوي بصورة الرجل المتماسك والفاعل: "...وكان غسان كنفاني هو الآخر الذي أحبته تاي مثل الشغف الطاهر. كانت معجبه به إعجابا شديدا، وها هو، داخل علينا، متوترا كعادته، ويحمل حقن مرض السكر في جيوبه، ليس فقط السكر، بل ما هو أقسى وأوجع مرض النقرس، يدخل متأخرا، بعد ان أنهى عمله في الجريدة، فيتغير الجو من أشخاص حالمين وشبه سكارى إلى نشطين ومصغين للاستماع إلى هذا ارجل الذي لم يفقد أمله بعد، ...ناقل إليهم آخر أخبار المقاومة التي كانت برأيه هي الحل الوحيد لاسترجاع الأرض، ... حتى التفت نحو معين قائلا: إي أخوي، لا تخف. وحق كل قصائدك سنحرر فلسطين من الماء إلى الماء، إنني أرى العلم الفلسطيني يرفرف فوق القرى والمدن الفلسطينية كلها، لا أحلم والله، وسأرى ذلك اليوم عندما أتأبط ذراعك ونرحل إلى غزة والقدس، غزة العرب وجوهرة فلسطين التي ولدت فيها، أعدك أن نزورها معا، قريبا جدا والله" ص38، هذه الحيوية وهذا الأمل يؤكد على أن صاحبه يحمل أملا وإحساسا بأن النصر سيأتي ويكون قريبا جدا.
لكن من أين له هذه الثقة وهذا الأمل؟ ومن أين يأتيه؟ أو ما هي الطرق التي تجعله بهذه الحيوية والثقة؟
تركيز الراوي على العلاقة ما بين "غسان ومعين" يشير إلى أن "غسان" كان حريص على تقديم كل ما يلزم "لمعين" لكي يخرجه من حالة البؤس التي يمر بها، فقدم له الأمل بالمولود الجديد "المقاومة" التي ستعيد كل شيء إلى مجاريه وتحقق النصر، فالعلاقة بينهما تؤكد على أن "غسان" كان يهتم بالمبدعين الفلسطينيين ويأخذ بيدهم إلى ما يخدم المشروع الوطني الفلسطيني، فهو بحاجة لهم كما هم بحاج له ـ الآن ـ وقت ضعفهم وفقدانهم الأمل، من هنا نجده يركز على "معين".
رغم هذه الحيوية التي يتمتع بها "غسان" إلا أنه كان مرهف المشاعر والاحساس، لهذه بعد ان قص "معين" حكايته مع لجندي الاسترالي، نجده بهذه الحال: "...يرفع غسان رأسه لنرى وجهه قد اغتسل بدموعه، ...يذهب إلى لحمام يغسل وجهه ثم يعود إلينا وقد ابتل بالماء من رأسه إلى صدره وملابسه فمد يده إلى جيبه الداخلية وأخرج حقنة خضها مرارا ثم غرسها أسفل بطنه بألم، لعنة الله على السكر، هذا ثم استعاد وعيه" ص41، فإنسانية "غسان" مهمة كما هو الحال بالنسبة لحيويته ولإيمانه، فهو لم يكن (سوبر مان) لا يتأثر بمن حوله، بل إنسان، لكنه إنسان يتميز بحيويته وإيمانه بالحق وبالنصر.
ورغم العمل الكثير والكبير الذي يقوم به: "...كان كتلة من النشاط لا تفتر، مشغولا على الدوام إلى جانب العمل ورئيسا لتحرير جريدة "الهدف" و"المحرر" وكتابة صفحة في ملحق الأنوار.. وبكتابة القصص والروايات...حتى كنا نقول له: أنت عشرة رجال برجل واحد...كان يردد ليس معي وقت وعلي إنجاز أشياء كثيرة للقضية والأسرة والأهل والحب الذي يسندني من أن أنهار، فلا كان يبدو لنا على عجلة من أمره، أن حبيبته فلسطين فوق كل الحبيبات" ص43، وهذا ما يجعلنا نقول أن غسان ـ في الا شعور ـ كان يعرف أنه لن يبقى في الحياة لفترة طويلة، لهذا كان يريد أن ينهي كل شيء وبسرعة وقبل أن تأتي نهاية حياته.
ورغم هذه الكم من الاعمال إلا أنه كان يؤديها على أكمل وجه: "...إذ كان استلم مهام كثيرة كان يؤديها بنجاح كبير، ولم يكن ينام إلا بضع ساعات متقطعة بين النهار والليل" ص204، فالأمر هنا، ليس متعلق بكمية الأعمال التي يقوم بها فحسب، بل بنوعيتها أيضا، فهو متقن لأعماله. وهذه ميزة ثانية تحسب له.
"غادة السمان وغسان"
ميل الرجل للمرأة وميل المرأة للرجل مسألة طبيعية، وهذا الميل لا يكون دوافعه الجنس أو العلاقة الجسدية، بل شيء آخر، يتمثل في الميل نحو الجمال أو الحب للجمال، أو إلى كون هذا الرجل أو المرأة يحمل أشياء وصفات معينه، تجعله/ا يميل إليها، يفصل لنا الراوي هذه العلاقة بين "غسان وغادة" بهذا المقطع: "فكلنا صرنا نعرف قصة حب غسان لتلك الأديبة السورية التي أصبحت مشهورة على مستوى الوطن العربي ... وبدا لنا دائما مناضلا على جدي الشفرة القاطعة حب فلسطين وحب المرأة التي ملأت شغاف قلبه. لم ينجرح يوما في الحديث عنها بما يشبه التبتل والصلاة, إنها الحبيبة السمراء التي تخفف عنه وطأة الواقع الرديء... فيقول إنه عندما كان يشبك أصابعه بأصابعها، يتصور أنها جزء من انتصار هذا الحلم، والجب هو شيء من الصمود والأمل، فما من عظيمـ كما كان يردد ضاحكا ـ إلا ووراءه امرأة" ص42، نحن نعلم أن "غسان" كان متزوج، وكان على علاقة طيبة بزوجته، فكيف يمكن أن نفسر علاقته ب"غادة"؟، وهل هي ناتجة عن حاجته لجسد امرأة؟ أم أن هناك حاجة أخرى وجدها في "غادة" ؟: "قال لي غسان ذات يوم، أنه لم يشته الأديبة الكبيرة أبدا، كان قد اعترف لها بهذه الحالة لأن الموضوع الجنسي مكتف عنده في البيت مع زوجته، وقال لو طلبت منه الذهاب إلى غرفة النوم لرفض، وأن ثلاث سنوات من الحب لم يكن فيها سوى الملامسة البريئة وقبلة الخد لا أكثر، فإذا كان رفض الجنس من اجل بقاء الحب فليكن" ص121و122، مثل هذه الحالات من الحب لا تكون إلا عند الأدباء، فلهم فلسفتهم الخاصة بالحب، ولهم طريقتهم المميزة في التعامل مع الجمال، فما جاء على لسان "غسان" يؤكد على أن ليس كل علاقة بين رجل وامرأة دوافها الجنس أو الحاجة الجسدية، بل هناك حاجة عاطفية وروحية أو حاجات ـ في العقل الباطن ـ لا يمكن أن تفسر عقليا، لهذا يجب احترام تلك العلاقة وعدم أخذها إلى عالم الجسد والشهوة.
"كمال ناصر"
الجميل في الرواية أنها تحدثنا عن العالم الداخلي "لأبطال عظماء" لا يجب أن يتحدث عنهم إلا في مجال الثورة والمقاومة، فهناك إنسان داخل كل هذه الشخصيات العظيمة، وهو الذي نجهله، أو لا نعرف عنه إلا القليل، الراوي يريدنا أن نعلم أن هؤلاء القادة كانوا قبل أن يكونوا قادة هو بشر، لهم مشاعر، ويحسون كما نحس، ولهم همومهم الشخصية كما لنا، وكانت المرأة تؤثر فيهم أكثر ما تؤثر فينا: "صاح كمال: لا تستدرجوني أرجوكم... تكهرب كمال واصفر وجهه وانتقل بسرعة من جو السخرية والضحك إلى جو آخر من الوجوم والتحفظ، فقال مخاطبا غسان: ... أتذكر ... أنا الذي عرفتك على حبيبتك الكاتبة الكبيرة .. هل تنكر؟ أجاب غسان: ليتك لم تفعل ... أنت بيدك قدتني إلى المقصلة... وها أنا الآن أعاني من ثلاثة أمراض أخطرها "الحب" ص14، الحب كان السمة الأكثر أهمية عند هؤلاء القادة، فكلهم كان يرتبك أو ينفعل أو يتأثر عندما يتم الحديث عن تجربته، ف"كمال ناصر" يتهرب عندما يتم الحديث عن تجربته مع المرأة، فلا يريد ان يتذكر ذلك الألم الذي لا ينسى،: "ثم أعلن ميشيل جحا اسم حبيبة كمال ناصر "ريما ناصر" ابنة خاله موسى حنا ناصر، وقال كانت زميلتي في الجامعة الامريكية في بيروت، وقد تخرجنا سنة 1955، وكان كمال متيما بها، أحبها حتى الجنون، لكنها ويا للأسف/ قالت إلى سواه، وتزوجت من طبيب من بلدتها بيرزيت في فلسطين، لكن كمال كان حبه لها فوق طاقته.
وقف كمال هو يصيح: كفى كفى... أرجوكم" ص150، بهذا الشكل كان الخجل والاضطراب يصيب "كمال" عندما يتم الحديث عن تجربته مع المرأة.
"فوزي القاوقجي"
مقابل تخاذل النظام الرسمي العربي هناك قادة عسكريون لم يتوانوا عن القيام بواجبهم العسكري تجاه وطنهم وشعبهم: "لو ترك الأمر لفوزي القاوقجي ورجاله الرائعين لحرر كل فلسطين في أشهر معدودات، ... لكن الأمر اختلف بتلك المؤامرة المرسومة بدقة، جيوش عربية لكنها جيوش بدون قضية وبدون سلاح" ص62. الراوي على لسان "معين" يحمل مسؤولية ما جرى في حرب 1948 و حرب 1967 إلى النظام الرسمي العربي، مبرئا ساحة الجنود من تلك الهزيمة.
"تاي"
ما سبق يجعلنا نتوقف عند هذه المرأة التي استطاعت أن تجعل كل هؤلاء الثوريين يلتفوا حولها ويحيطونها بمحبتهم، فلها صفات مميزة تتمثل في سلوكها مع الآخرين، وفيما تقوله، ولها فلسفتها الخصة في العديد من المسائل: " لا أحب قراءة المخطوطات، احب قراءتها في كتاب أنيق، على ورق أبيض مصقول، فراءتها في كتاب هي صورة عن الكاتب، وأحب أول نسخة كأنها خرجت للتو من المطبعة ورائحة الحبر تفوح من جسدها، نظيفة، متألقة" ص14، بهذه الرؤية يمكننا القول أن "تاي" لها نظرتها الخاصة في الكتاب، فهي تعتبره ليس جمادا، بل كائن حي، يشع نظارة وحيوية، ولهذا تريده أن يكون بكامل أناقته، فرغم أهمية المعلومة التي تحويها ـ المخطوطة ـ إلا أن للكتاب وقع خاص على القارئ.
ومن رؤيتها للكاتب والكاتب هذا القول: "... لكن كتاب الرواية كلما كتبوا رواية أو قصة يموتون موته صغيرة، وتتجمع الأوراق بين أيديهم ليموتوا موتتهم الكبرى" ص130، ومثل هذه النظرة فيها شيء من الفكر الصوفي، الذي تمتاز به "تاي".
لهذا هي تتماهى مع الجمال وتنصهر فيه بحيث تطلق لجسدها ولروحها يحلقا متماهيان في عالم الروح: "لا شيء يجعلنا نذوب مثل أغنية حب بصوت جميل، ذلك المطرب الذي غادرنا، جعلني لا اسيطر على نفسي، اسيطر على نفسي، فوقفت ورقصت، مع أن ذلك قد يضر بجملي، لم استطع، سحر الغناء وسحر الموسيقى جعلاني أرقص وأنا جالسة على الكرسي، الكرسي نفسه طردني كي أرقص واقفة وأن أدور حول نفسي وقد نسيت كل شيء.. بل نسيت أنك هنا، ومن حولي، وتشجعت أكثر عندما رأيت عيونكم شاخصة نحوى" ص142، تناول الأثر الذي تتركه الموسيقى والغناء على الإنسان، ثم توحده وانصهاره معها، وجعل "الكرسي" يطرد جالسه ليتحرر من حالة السكون ويندمج في الغناء، ثم أخذ طاقة من الحضور الذي امتعهم الغناء والرقص، كل هذا يؤكد النظرة الصوفية عند "تاي" التي تنظر إلى الحياة بمنظور كلي.
"تاي" كالينبوع الذي يتدفق ليروي الجميع، وتريد من الجميع أن يشاركوها فرحة الحياة، وهذا ما قالته "لطارق" زوجها: "تعال يا حبيبي... أدخل معي في هذه اللحظة النورانية التي عبر عنها كل هؤلاء الرفاق أجمل تعبير، أنني أخجل أن استأثر وحدي بهذه الغبطة" ص146، بهذا العطاء تميزت "تاي".
ونجدها صاحبة مواقف سياسية ناضجة وعميقة، تعبر عن فهمها لحقيقة الصراع الدائر بين المحتلين الصهاينة وبين العرب: "... لا أوافق على زرع هذا الكيان الغريب عنا في قلب الوطن العربي، قد يهزمنا مرة أخرى ورابعة وخامسة، ثم لا بد، ذات يوم أن ننتصر عليه" ص15.
ونجدها تتحدث عن الزمن بصورة فلسفية: " الزمن لا يرى ولا يرحم، إنه يحفر تجاعيده على أيدنا ووجوهنا، متلاعبا متحكما بمصيرنا" ص17.
كما انها تحمل رؤية صوفية خاصة بها: "..."رب زدني بك حيرة" كما صرخ الحلاج، هذا التحرر بالخالق هو صلب التصوف وفلسفته،... ونقلت لنا ونحن مشدودين لها مسحورين بها، وننصت لها كأننا في محراب وليس في بار، وليس في بار... التصوف هو معرفة كنه الوجود... هذا صحيح.. ولكن لو عرفنا أنفسنا في هذا الموضوع المربك نصبح كمن دخل منزلا، ما ان نفتح بابا، حتى نجد بابا آخر مغلقا، ... متاهات العقل لم يتوصل العقل البشري إلى حل أسرارها، كتب الفلسفة، وكتب الرسائل السماوية والأديان الأخرى كلها لم تجد حلا، مثل معضلة الموت" ص24و25، جعل المسمعين ـ هم من المثقفين ـ يشعرون بأنهم في محراب وليس في بار يشير إلى الطاقة الروحية التي تمتلكها "تاي" وإلى قدرتها على جذب الآخرين إلى ما تقوله، كما اننا نجدها عالمة بالأسس التي قامت عليها الصوفية، وكأنها واحده منهم.
وما يؤكد أنها تحمل شيء من الثقافة الصوفية هذا القول: " من قال لك أن الحمير لا تحب، كل المخلوقات التي خلقها الله تحب، حتى النباتات، حتى العصافير في الغابات، حتى الأشجار تحب، سبحان الله" ص99.
ونجد لها افكار عن الموت والحياة: "الحياة هي الموت والموت هو الحياة، كلاهما ضروري للإنسان، فمن الصعب على المرء أن يتقدم في العمر ثم يرى نفسه بهذه الحالة المزرية" ص29، روية علمية ودينية عن علاقة الحياة بالموت.
وفي هذا السياق نجدها تتحدث عن الشيخوخة فتقول: " عندما تداهمنا الشيخوخة نترنح، وعندما ننتبه، فإذا بنا نرتعش كورقة، وتصبح الشيخوخة عبئا حقيقيا، كأننا أخذنا أنفسنا إلى آخر أطوار الحياة... أحيانا تشيخ وأنت في ذروة الشباب، الشيخوخة تولد معنا، أحيانا تتقدمنا وطورا تتأخر" ص96، نظرة فلسفة بأطوار الحياة البشرية.
ونجدها تقرأ في القرآن الكريم الآية القرآنية في سورة النساء: "وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (36" ص32، وما يفهم من هذه الآية أن هناك اهتمام بالعلاقة الإنسانية مع الآخرين، بحيث نقدم لهم المساعدة، المادية والروحية لتكون حياتهم سوية وطبيعية.
ونجدها تقرأ في العهد القديم: "... دور يمضي ودور يجيء، والأرض قائمة إلى الأبد، ...كل الأنهار تجري إلى البحر والبحر ليس بملآن، ... العين لا تشبع من النظر والأذن لا تمتلئ بمن السمع" ص33، مثل هذه الثقافة المتعددة يجعلنا نتأكد أننا أمام امرأة تمتلك ثقافة عالية، ومنفتحة على الآخر.
وتقدم لنا نظرة رائعة حول علاقة الرجل بالمرأة فتقول: "... لماذا الرجال معقدون إلى هذا الحد، ، يظنون أنهم يحبون زوجاتهم، فيما أي امرأة عابرة تدفعهم إلى الخيانة" ص34. هذا نظرة المرأة الخبيرة بالرجال، فلا ننسى أنها عرفتهم من خلال عملها في البار، وتعرفهم اكثر مما يعرفون أنفسيهم.
"الحب"
الجميل في الرواية انها تقدم لنا الحب بطريقة فلسفية، بطريقة تتجاوز المألوف، مما جاء عن الحب هذه الرؤية: " ثم شبهت تاي الحب بالإدمان، حيث لا خلاص منه، ... أن الدماغ يتعامل مع الحب مثل الإدمان، العاشق، دائما، بحاجة إلى جرعات منه مثل المخدر" ص ص22.
ونجدها تنظر إلى الزوج بهذا المنظور: "إن الزواج يحصن الحب، ويجعل الحياة منيرة على الدوام" ص100.
وتحدثنا علاقة الجنس بالحب فتقول: " التمنع يزيد الحب تألقا ويعصمه من تحويله إلى عاطفة عادية تموت ببطء، ...فمن أجل بقاء الحب لنبتعد ونقترب في الوقت ذاته، لنفترق أسبوعا أو أسبوعين فيزداد الاشتياق حرارة، ضرورة الابتعاد بالحب عن التكرار" ص122.
السرد
يستخدم الراوي اللغة الفصحى عندما تتحدث الشخصيات الرئيسة، واللغة المحكية، عندما تتحدث الشخصيات الثانوية، وكأنه من خلال هذا الأمر اراد أن يؤكد مكانة تلك الشخصيات وأهميتها، ليس على مستوى احداث الرواية فحسب، بل على مستوى الواقع أيضا، وهذه احدى الحسنات التي بها جاءت الرواية.
الرواية من منشورات دار الخيال للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى 2011.
نشرت فى 23 مايو 2018
بواسطة magaltastar
حالة البكر في مجموعة
"البيت القديم"
يوسف الغزو
نحن في امس الحاجة إلى نصوص أدبية تقدمنا من طبيعتنا البكر، طبيعتنا الفاضلة، تنلك التي تميل إلى الطبيعة الجميلة، وطبيعة الإنسان غير الملوث بمشاكل وبمفاهيم العصر، "يوسف الغزو" لا يقدم لنا اشخاص في مراتب الملائكة، بل أشخاص بشريين، فهم يخطئون، كما هو الحال في قصية "العدالة" ويفكرون بالخطيئة، ويقومون بها، وينغمسوا فيها، لكن عند أول مفصل سرعان ما نجدها تصحح مسارها من جديد، وتتقدم من الحياة السوية، فحتى الإنسان المخطئ يتوب، وكان مثل يحتذى به، من هنا تكمن أهمية مجموعة "البيت القديم"، ولا أجامل أن قلت أنها قريبة جدا من أسلوب ولغة وطريقة "مخائيل نعيمة" في كتابة القصة القصيدة، فهي مجموعة سهلة وناعمة وسلسة ومتمتعة وتحمل أفكار إنسانية صافية.
أنا من الذين لا يعلق في ذاكرتهم أحداث العمل الأدبي، لكن، بعض هذه القصص قرأتها قبل اكثر من شهرين ما زالت الذاكرة خصبة بأحداث وتفاصيل تلك القصص، فقصة "الكذبة" تجعلنا نقترب أكثر من الإنسانية الصافية، تلك التي تكونت في القرية الهادئة، والبعيدة عن وسوسة الشيطان، فالأب الذي يصيبه مغص وألم شديد في المعدة، يرسل "مشعل" الشاب المعطاء ليحضر له "أبو كامل" الطبيب من القرية المجاورة، لكن سيل المياه الجارف يأخذه ويخفي جثته، يبقى الأب يشعر بالإثم تجاه "مشعل" : "... بل وصل به الأمر إلى أكثر من ذلك حين ظن أنه هو قاتله.. وأنه لو لم يرسل به إلى هناك في تلك الليلة المشؤمة لما مات.. واستحال كل حبه لمشعل إلى عذاب رهيب يمزق نفسه" ص22و23، هذا وضع طبيعي بعد الحادثة، ومن الطبيعي أن يستمر شعور الأب المسؤولية لبضعة أيام أو بضعة أسابيع، لكن أن يستمر هذا الألم والشعور بالمسؤولية عن موت "مشعل" لسنوات طويلة، فهذا ما يشير إلى طبيعة البكر التي يتمتع بها الإنسان.
تستمر حالة "الأب" بالحسرة على موت "مشعل" إلى أن يعود ابنه من دارسته في ألمانيا، الذي كان وقت الحادثة لا يتجاوز العشر سنوات، وبعد أن يجد الابن الأب بحالة التي تركه بها، والحزن يسيطر على محياه، يخترع كذبة، يعالج بها الأب وينهي مأساته وشعوره بالذنب: "ـ والدي هل تعرف من يهديك السلام من ألمانيا؟
ـ مشعل.. جارنا.. مشعل هو تذكره؟
وبصوت خارج من أعماق قلبه هتف:
ـ مشعل؟؟! .. حي؟؟!
...وكما تتفتح الوردة عن أكمام الزهر تفتح وجه والدي بالبشر .. فتعجبت للسرعة التي يستطيع بها الحزن أن يرحل عن الوجوه" ص23و24، بهذه الكذبة البيضاء استطاع الابن ان يخلص والده من ألم وحزن استمر لسنوات عدة.
ونجد علاقة البكر بالطبيعة من خلال قصة " زهرة النرجس" يتفق الراوي مع شريكه في المزرعة على عدم تصدير "زهرة لنرجس" إلى الخارج، "الزهرة" تمثل له عالم الطفولة والبراءة، كما انه يجد في "زهرة النرجس" رائحة وأثر أكبر وأهم من العطر التي يستخلص منها: "فاستشعرت رائحة قوية نفاذة تشبه إلى حد ما رائحة زهرتي، إلا أنني سرعان ما تبينت الفارق بينهما، فرائحة زهرتي لا تصدم الأنف بهذه القوة المركزة، ولكنها تتسلل من خلاله متأنية مترفقة فتجعل الشعور بها هادئا متصلا" ص28، هذه الفلسفة المتعلقة بالروائح وطريقة الشم لا يمكن أن تأتي إلا من خبير متخصص في العطور وأثرها عن الأنف، أو من شخص تكيف مع الطبيعة بحيث جبلته وشكلته على الانسجام معها وفيها، فهو متوازن في مشاعره واحساسه، فعندما يجد/يشعر/يحس بشيء غير طبيعي ـ زيادة أو نقصان ـ يعرف ويشعر بالخلل. وأعتقد أن هذا هو السبب وراء عدم الانسجام الراوي مع العطر.
يعود بنا الراوي إلى تعلقه ب"زهرة النرجس" إلى عالم الطفولة، عندما تناقش مع رفاق الطفولة عن العطر وكيف يستخلص، فكان هذا الشعور القاس والصعب: "فقد احسست بالألم والذهول حين سمعت ذلك، لقد قالوا لي أنهم في الخارج يسحقون الزهرة ويعصرونها ثم يعبئون عصيرها في تلك الزجاجات الصفراء، تخيلت آلات العصر تلك تشبه إلى حد ما آلات عصر الزيتون في قريتنا، تخيلتها وهي تتحرك ببطء لتحط بوزنها الثقيل فوق زهرتي الجميلة فتقطعها وتهرسها هرسا بشعا قاسيا، أحسست كأنما كانت الآلات تلك تحط فوق جسدي النحيل فتهرسه هرسا" ص29، هذا الشعور الذي لازم الراوي منذ الطفولة وحتى بعد أن أصبح صاحب مزرعة، ويعلم كيفية استخلاص الرائحة من الزهرة، بقي متأثر بالمفهوم والشعور والإحساس القديم، رافضا أن تصدر "زهرة النرجس" للخارج.
ونجد في قصة "هذا من فضل ربي" نقاش الحجر الذي يتألم عندما يعلم بأنه يقوم بالعمل في بناء سيكون ملهى ليلي، فيبدي أكثر من سبب لعدم اكمال عمله، إلى أن تأتيه فكرة: "...عزم على أن ينقش على حجر الواجهة آية كريمة بحروف بارزة... آية تنهى عن الفحشاء والمنكر والهو والخمر... وأن يشترط على صاحب البناية أن يضع ذلك الحجر على مدخل البناية بكل ما كتب عليه" ص35، الملفت للنظر أن القاص جعل بطل قصته يتعامل بحكمة ولطف وعقلانية مع الخطأ الذي سيقترف، وليس بعصبية وتسرع، وهذا يشير إلى حالة البكر التي تلازم كافة شخصيات المجموعة القصصية، فهي شخصيات لا تميل إلى العنف أو العصبية، بل تعمل بهدوء، وإن لم تستطع التغيير تسلم أمرها لله، نقاش الحجر بعد ان أنهى عمله، لم يستطع أن يذهب إلى ذلك البناء الذي خصص للفحش، لكن شعوره بالإثم استمر معه إلى سنوات طويلة، إلى أن أتى اليوم الذي كان لا بد له من أنهاء ألمه والمتمثل بمشاركته في بناء يمارس فيه الرذيلة، فبعد أن أخذه به العمر، وأمسى غير قادر على النظر يقرر أن يذهب مع حفيده إلى ذلك البناء ليعرف ما حل به: "قبض بقوة على يد حفيده وطلب إليه أن يتجه به إلى مدخل البناية، وهناك طلب إليه أن يقرأ اللافتة الكبيرة المعلقة على مدخلها.. وقرأ الصغير الكلمات بسهولة: "مبرة الحاج سالم الخيرية" ص36، وبهذا الشكل ينتهي ألم نقاش الحجر.
إذا ما توقفنا عند مشهد قراءة الصغير، سنجد القاص يستخدم عبارة: "وقرأ الصغير الكلمات بسهولة" وكأنه من خلالها أراد أن يسهل على النقاش وعلى المتلقي نهاية الحدث، فجعل نهايته الخير والتقوى.
في قصة "أنا وابني" يعيدنا إلى فترة حملة الزوجة وما مرت به من ألم،
إلى أن وضعت وليدها وشب وأخذ مكانته في الحياة، فرغم تعلق الزوج بزوجته التي رحلت منذ سنوات، ها وهو الأبن يقوم بكل ما يطلبه الأب دون تذمر أو تردد، ففي هذه القصة يؤكد القاص على العلاقة الزوجية التي لا يمكن أن تزول من الوجدان.
في قصة "أنغام الحب" يقدم لنا القاص ما يشبه الحكاية الشعبية، والتي تتحدث عن الراعي الفقير الذي يحب "شمس الضحى" بعد ان شاهدها تعمل في محيط بيتها الكبير، فيأخذ في العزف على الناي بلحن حزين في البراري، تسمع "شمس الضحى" اللحن فينساب إلى داخلها وتحب اللحن وتحب عازفه، يأتي الراعي "هاجس" يخيره بين أن يأخذ منه القدرة على العزف ويعطيه مقابله مالا كثيرا، يوافق الراعي، الذي يجد في المال ضالته، فيتقدم لطلب يد "شمس الضحى" التي تكون قد عشق النغم الحزين وصاحبه، فترفض الراعي، لأنه مثل من سبقوه، وليس ذلك العازف، يخبر الراعي أباها أنه هو ذلك العازف، ولكنه عندما يحاول أن يعزف يجد نفسه عاجز، فقد أخذ "الهاجس" منه العزف واعطاه المال، وهنا يصاب "الراعي بخيبة أمل ويبدأ يردد: " أيها الهاجس أين أنت؟ .. أعد إلي أنغامي وخذ كل مالك" ص47، وكأن القاص في هذه القصة أرادنا ان يقول أن الثراء الروحي أهم وأفضل من الثراء المادي، وأن الذي يبيع ذاته لن يحصل على شيء، سوى الألم والحزن.
في قصة "الثمن" يحدثنا عن عائلة فقيرة، يموت معليها، وتتكفل الأم بإتمام تربية "أمل" الابنة الوحيدة، من خلال عملها كخادمة تقدم الأم للابنة كل ما تحتاجه، تذهب إلى الجامعة وهناك تتعرف على "حسني" ابن صاحب البيت الذي تعلم فيه أمها خادمة دون أن تدري، تتخلف الأم والابنة عن الذهاب إلى حفلة التخرج، لعدم وجود ملابس مناسبة للأم ترتديها في هكذا مناسبة، يأتي "حسني" ليطمئن على "حبيبته "أمل" فيجد هنا ألخادمة "وفية" التي تتعمد ان تخفي تظهر حقيقة شخصيتها وعلاقتها ب"أمل" فعندما يسألها "حسني" عن سبب وجودها في هذا البيت تقول: "إنني ...أنني خادمتها يا ولدي، ...أحضر إلى هنا بين الحين والآخر فأرعى شؤونها" ص52، لكن "أمل" الوفية والتي كانت في غرفتها تخرج على صوت "حسني" وتقول له: " ـ أقدم لك أمي العظيمة التي طالما حدثتك عنها يا حسني" ص52، ينهي القاص الأحداث بصورة مفرحة: "وآنذاك أشرق وجه العجوز بابتسامة عريضة أعادتها إلى الوراء أعواما" ص52، الجميل في القصة أنها تأخذنا إلى فكرة العطاء غير المحدود، العطاء الكلي للأم، وعلى الوفاء لهذا العطاء من قبل "أمل" التي قدمت أمها ـ رغم فقرها ـ بصورة عظيمة لحبيبها "حسني".
قصة العنوان "البيت القديم" تتحدث عن الابن الذي يترك بيته في القرية ليعيش في المدينة، ورغم الانسجام الذي يجدها هناك، يبقى يزور البيت والده، الذي تشبث بالبيت ورفض أن يذهب إلى المدينة، معللا رفضه بان الوقت غير مناسب، لكن الابن الذي تربى في هذه البيت كان يحب أكلة السبانخ، وكان الأب يزرعها، وعندما يراها يخبر زوجته بهذا الخبر: "ـ نادية. لا تتحدثي إلى الدي بخصوص البيع، لو وافق هو فلن أوافق أنا" ص62، الماضي الذي عاشه الابن ما زال عالقا في الذاكرة، حال دون اتمام أمر كان من المفترض ان يتم.
في قصة "لعبة ابنتي" يقدم لنا القاص تعلق الطفلة بلعبتها، فبعد أن تفقدها ولا تجدها ترفض بشكل قاطع أن تستبدل بأي لعبة أخرى، حتى لو كانت جديدة أو كبيرة، والفكرة التي تقدمها القصة أن الإنسان من خلال علاقته بالأشياء ـ حتى لو كانت جماد ـ يكون علاقة روحية بينه وبينها، بحيث لا يمكنه ان يستبدلها، لأن العلاقة تحولت بين جماد وإنسان إلى علاقة حياة بإنسان، فهذه اللعبة أصبحت كائن حي، له حضوره وأثره على الطفلة، ولا يمكن ان يستبدل.
"قصة "مرزوق والآلة" تتحدث عن عامل الكسارة الذي اجبر على استبدال عمله في الكسارة بعد ان ذهب شقيق زوجته ليأتي بقطعة غيار من خارج البلاد، تطول الغيبة، فيعمل بائع تذاكر في الحافلة، يعلم أن صاحب الحافلة يريد أن يستبدله بآلة تعمل مكانه، وهناك يصاب بالحزن، لفقدانه مصدر رزقه، لكن تخبره زوجته بالرسالة التي أرسلها أخوها والتي جاء فيها أن القطعة المعطلة ستكون مستبدلة بأخرى جديدة في الشهر القادم، وعندما تنفرج أسارير "مرزوق" الذي سيعود إلى مكان العمل الذي يعشقه.
إذا ما توقفنا عن هذه القصص، سنجد أثر الماضي حاضر في احداثها ومثر على شخصياتها، وهذا يعكس ميل وحنين القاص إلى ماضيه، كما أنه يقدم لنا حالات (الصراع) بشكل ناعم وهادئ، فلا نجد أحداث دامية أو صاخبة، وهذا يشير إلى ميل القاص إلى الهدوء وعدم الصدام مع الآخرين، كما نجد فكرة "الإنسانية" هي الغالبة فما قدم لنا من أحداث ومواقف وشخصيات، كل هذا يجعلنا نقول أننا أمام قصص ناعمة وطبيعية، وتقدم فكرة البكر، فكرة الصفاء والهدوء.
قبل الختام، أنوه إلى أنني قدمت هذه المجموعة لابني الذي لم يتجاوز الرابعة عشر عاما، فقرأها بسير وتمتع بها، وهذا ما يجعلنا نقول أن لهذه المجموعة طابع خاص، مميز، يجعلها في متناول الجميع، بصرف النظر عن العمر القارئ، فاللغة والطريقة والأفكار التي جاء بها كلها جعلت من "البيت القديم" مجموعة ذات طابع استثنائي.
المجموعة من منشورات دار الجنادرية للنشر والتوزيع، عمان الأردن، الطبعة الأولى 2008.
نشرت فى 22 مايو 2018
بواسطة magaltastar
أدب الحرب في رواية
"قلعة عباس كوشيا"
يوسف يوسف
قليلة هي الاعمال الروائية العربية التي تناولت موضوع الحرب ـ إذا ما استثنينا ما كتبه "جمال الغيطاني" من روايات ـ وهذا يعود إلى أن تناولها سيتطرق إلى تخاذل النظام الرسمي العربي، خاصة إذا علمنا ان أهم الحروب التي خاضتها الجيوش العربية خرجت منها مهزومة، وهو ما يجعل الروائي يتعرض للمسؤولية والمحاسبة، كما ان الكتابة عن الحرب تحتاج إلى معرفة بأسس العمليات العسكرية والحربية، وهذا ما يفتقده العديد من الكتاب، وأيضا الحديث عن الحرب يحمل بين ثناياه الألم والقسوة، مما يجعل الروائيين يعزفون عن الكتابة فيه.
يفاجئنا ايجابيا "يوسف يوسف" بهذا العمل ـ وهو أقرب إلى القصة منه إلى الرواية ـ بالطريقة والأسلوب الذي يستخدمه، فيستخدم الصور الأدبية في بداية حديثه عن الحرب ومتجاهلا تحديد الجهة التي يخوض الحرب معها، مما فتح الباب أكثر أمام المتلقي لمعرفة تلك الجهة المعادية، اسم الرواية جاء من خلال: "كان بناء مخفرا حدوديا بعد أن ارتفعت جداران الوطن، عشرة من حرس الحدود/ عباس وبأمرته رستم وفاضل والسائق حمود وآخرون" ص11، هذا الآمر يتعرض لاغتيال مما يجعل أهل القرية يطلقون تسمية: "قلعة عباس القتيل، أو عباس كوشيا" ص12، لكن الجميل في الأمر أن السارد ربط بين المكان وشخصيات الرواية من خلال قول الرفاعي: " ـ لا أحد يرضى أن ينقطع تواصله بترابه أيضا" ص18، مثل هذا القول يرسخ أكثر عند المتلقي عندما بدأ لقصف على القلعة: "أخذت القلعة تهتز تحتهم ، ارتجاجات عميقة، ثقيلة، إلا أن أحساس الواحد منهم بتوغل جذوره نحو الأعماق في باطن الأرض التي يحبها، جعله يشعر بالقوة، وبامتلاكه أسرار النصر كلها" ص32، وهناك فقرة تؤكد أهمية ارتباط الإنسان بالأرض جاءت على لسان "النقيب أحمد": "عندما يكون الإنسان فوق أرضه، إلا تشعر بأنه الأقوى" ص68، وهذا الربط يعمق فكرة العلاقة الاجتماعية والتاريخية والحيوية التي تجمع بين الإنسان والمكان.
يعطينا الراوي صورة التعدد والتنوع في النسيج الوطني العراقي، فمن خلال الأسماء يمكننا أن نعرف أن هناك العربي المسلم "النقيب أحمد العمري"، والعربي المسيحي "إلياس إبراهيم"، والكردي العراقي "كاكه رزكار"، وكلهم يدافعون عن وطنهم، فهم شركاء فيه، كما أن الراوي يقدم الجندي العراقي كمقاتل قومي عربي، من خلال حديث "طالب عن ذكريات والده في حرب 48 في فلسطين والتي جاءت بهذا الشكل: "ـ وحدها الأوامر أوقفتنا عن تحرير الأرض، كانت القرى ترتدي أبهى الحلل وتزحف لاستقبالنا ناشرة فوق رؤوسنا الشيكولاته والرياحين، الناس هم أنفسهم بانتظار زحفكم، قرى عرابة والزبابدة وقباطية واليامون .. ومدن جنين ونابلس وطول كرم .. البحر أيضا بانتظاركم.. لم نكن نريد التوقف أو التراجع.. كانت فلسطين أكبر من كل الأوامر ... اندفعنا شمال العفولة، صدر الأمر، فأذعنا مثلما يقال صاغرين" ص53، اعتقد ما ورد في الفقرة السابقة من أسماء لقرى فلسطينية في منطقة جنين تحديدا، يؤكد لنا سلامة المعلومات التي تناولها الراوي، وهي تقنعنا بأن ما جاء عن والد "طالب" هي معلومات صحيحة، ونجد ذكر لحرب 67 من خلال قول "النقيب أحمد" : "ـ أتسمعون يا شباب... يعتقدون أننا من عرب السبعة وستين" ص69، كل ها يجعلنا نتأكد أننا أمام رواية حربة بامتياز، وأن راويها على معرفة كاملة بالمكان وبالحروب التي خاضها العرب في تاريخهم المعاصر.
كما أن الراوي يقدم لنا إحدى الشخصيات "أبو زينب" المقاتل الذي شارك في مواجهة قوات الاحتلال الإسرائيلي في جنوب لبنان، ومن الذين صمدوا في قلعة الشقيف: "جبلي أتى من الموصل ليروض الجبل، هذا ما كان يقوله أبو العز آمر القاعدة كلما التقت العيون، مئات القنابل كانت تنفجر ليليا جول قلعة الشقيف حيث كان الشباب يرسمون صورة جديدة للوطن" ص20، هذا المقطع يربط المقاتل العراقي بالمقاتل الفلسطيني ويوحدهما معا في مواجهة العدو، وكأن الراوي من خلال تناول صمود المقاتلين العرب في قلعة الشقيف، أراد به أن يمحي الهزيمة والتخاذل الذي كان في حرب 48 و67، فهو يعيد تقديم المقاتل العربي ويضعه في مكانه الصحيح، متجاوزا النظام الرسمي العربي.
ولم يقتصر الحديث عن المقاومة فحسب، بل نجد الراوي يقربنا من طريقة تفكير الفدائي العربي، الذي تجاوز النظام ووضع لنفسه طريقة تفكير تتباين مع فكرة الانصياع للتعليمات والأوامر الرسمية، فها هو "أبو زينب" يعبر عن نفوره من التعليمات الصادرة من القيادة: "ـ أنني أكره هذه التي يسمونها ساعة الصفر يا سيدي.
ـ انني أضيق ذراعا بها، أمقتها، إلا ترى أن أسمها يوحي إلى اللاجدوى؟
أنني أرى نفسي مثل الصقر وهو يستعد للانقضاض" ص35 و36، وهذا ما يجعلنا نتأكد بأن الراوي يعلم تماما نفسية الفدائي والاندفاع الذي يتمتع به للمواجهة العدو وحماسه لهذه المواجهة.
الراوي يقدم لنا شخصيات الرواية بصورة إنسانية، لهذا نجدهم يتألمون ويشعرون بفداحة الأخطاء التي يقترفونها، خاصة إذا ما كانت متعلقة برفاقهم في المعركة، فها هو "الرفاعي" يترك "أبو زينب" في أرض المعركة، بعد أن يصاب، ويذهب إلى القلعة بعد أن ألح عليه "أبو زينب" لكن "الرفاعي" يشعر بأنه لم يقم بواجبه الحقيقي في المعركة، فنجده بهذه الصورة: "أنزله الرفاعي عن ظهره، وقعد إلى جانبه حائرا، لم ير في وجهه سوى صلابته المعهودة، وقوة الحسم التي يمتلكها، ارتمى فوقه مستسلما لموجة حادة من البكاء.
ـ الدموع تغسل الخطايا يا أبا زينب.. ولعلها تغسل خطيئتي عندما اتركك لوحد" ص51، من الجميل أن نرى الحزن والألم في وجه المقاتل، فهو في النهاية إنسان، يشعر بالألم والحسرة والخطيئة تجاه رفيقه، ومثل هذه الصورة تجعل المقاتل قريب منا، حيث يتماثل معنا فيما نشعر ونبدي من مشاعر، خاصة في موقف حساس ويحتاج إلى تغليب العقل على العاطفة.
كما نجد الملازم "خضر" بهذه الصورة: "توقف الياس مع نفسه أمام كلمات الملازم، وقلب الأمر على أوجهه، فادرك صعوبة الموقف، لم يكن وجه الملازم عابسا، إلا أنه بدا مهموما بعض الشيء، وهي حقيقة لم يستطع تجاوزها بسهولة" ص64. وهذه الصورة طبيعية تماما، وتمثل حقيقة الإنسان عندما لا تكون الأمور في نصابها أو كما يجب أن تكون، فالراوي يحرص على تقديم الصورة الإنسانية لشخوصه في المعركة، وليس على أنهم "سوبر مان" لا يهابون أو يتوترون عند الخطر.
أما صورة الجندي الإيراني والطريقة التي يقاتل فيها فجاءت من خلال هذا الفقرة: "...نعرف أنهم يعطونكم مفاتيح يزعمون أنها خاصة بأبواب الجنة، ولك هذا كذب ونذكركم بما حدث للفرقة التي تسمونها ذهبية، لقد أتى جنودها ومعهم المفاتيح، ولم يجدوا الجنة الموعودة بانتظارهم، وانتم كذلك، ستكون جهنم بانتظاركم" ص70، هذه احدى الصور الحقيقية التي استخدمتها القيادة الإيرانية في حربها مع العراق، فكان الجندي الإيراني لا يهتم أو يهاب لموت لأنه يحمل مفتاح الجنة!!.
الرواية من منشورات وزارة الثقافة والاعلام، دار الشؤون الثقافية العامة، دار الحرية، بغداد، العراق، بدون سنة طباعة.
نشرت فى 20 مايو 2018
بواسطة magaltastar
قراءة في قصيدة الشاعرة (ايمان مصاروة)
حميد شغيدل الشمري
............
منذُ مدةِ طويلةِ لم أطلعْ على نصٍ أدبي يبدأ بموضوعِ وينتهي بهِ كما لم أطلعْ على قصيدةٍ من الشعر ِالحر تذكرني أو تأخذني الى إسلوبِ نازك أو ألسياب أو ألبياتي..هذه ألحقيقةُ التي أشعرُ بها رغمَ أني أقرأ يومياُ ومن خلالِ ألمجلاتِ ألألكترونيةِ ألعشراتُ من ألقصائدِ ألمتنوعة.ِ
أكتبُ مقدمتي وإنا أسرحُ بذاكرتي مع نصِ الشاعرة ِ(ايمان مصاروة المنشورة في واحة الابداع يوم ٥/١٩)
والتي لم تضعْ لها عنواناً لتتركنا في خيالاتِ الانتقالِ والتفكرِ.
ألقدسُ لها موقعٌ خاصُ في قلوبِ كلِ المسلمين الا إنّ وقعها فينا نحنٌ العربْ أشدُ حرارةً ولوعةّ ..كيف والشاعرةُ هي من فلسطينَ من أهلِ ألدار مراتع الصبا وملاعب ٌالطفولةِ إن لمْ يك لها فلأهلها، يومياً تتطلعُ على الفضائعِ المرتكبةِ من قبل ِالغاصبِ ألصهيوني بحقِ أهلها وأحبابها، فلسطينُ ليست مدينتها حسبْ، بل مسرى مهجتها ألتي افتدتها وأفتدت شوارعها ومحطات طفولتها..القدسُ صرحُ شاخصٌ أمامَ عينيها لا تفارقهٌ تمسحُ الحزنَ والأسى عنهُ، تخافُ عليهِ من ذئابِ الرذيلةِ ألتي ما أنفكتْ تحاصرهُ وتعبثُ فيهِ ممزقةُ كلٌ شئ جميلٍ ( لا ادري لمذا كان الذئبُ هو الهاجسُ هل لانه لا يمتلكٌ ذرةُ من الوفاءِ ام انهُ لا يرحمُ أم ان هناكَ مرام اخر من استخدامِ هذا الحيوان الذي يمثل الكثير . ) ..عجزُ يصيبها من خلالِ دهشةٍ مشروعٍ
ما ذا ..لو ...ما تفعل إنْ الذئابَ هجمت ونجست جدران القدس ..هى انسانة رقيقة تعصفها المشاعر ضربت بالحجارةِ وهتفت وصرخت واخيرا كتبت تحاكي الضمائرُ القابعةُ في زوايا الخوفِ الى حد الجبن ِ.
ها هي تقولُ: انا أصرخُ فهل من (معتصمٍ) نعم بالأمسِ كان هناكَ معتصماُ ولكن سُلبت أمامه كل مقومات ألرجولة.انه الفتى الشجاع الذي إنتفضَ بالحجارةِ
أيها الغرباء ..إرحلوا عن القدسِ دعوا أشجار الزيتونِ لا تنجسوا حائط المبكى الكل يلفظكم يتقياكم لأنكم شواذ ...
تعلوا ألصيحةُ لدى شاعرتنا لتتخطى كل المديات المنظورة..
لن أُطأطئ هامتي..لن ألمستحيل .وليس لا..
كل هذا لا يمنعها من أن تقولَ قصيدة وايةُ قصيدة إنها الثورةُ واليخضورُ الذي ينمو من خلالهِ الاملُ.
أبدعتْ شاعرتنا ولم تنسى ما بدأت ولم ياخذها خيالها بعيداً عن موضوعِ النصِ بدأت بالقدسِ وانتهت بها، ذكرتها في كل مقطعٍ تصريحاً او تلميحاً بحدودِ سبعةَ عشر مرة وهذا يدلُ على تمسكِ الشاعرة بفكرتها .
اقولُ سيدتي فلسطين قضيتنا مثلما هي قضيتكِ وفلسطينُ تاج المدن وثاني الحرمين واولِ القبلتين٠ ..وانتم في فلسطين رفعتم رأسنا ..والنصرُ قريب إن شاءَ اللهُ بصمودكم.
النص والديباجة
شاعرة فلسطين الأولى وحصبائها الصاخبة بوجه الإحتلال الصهيوني، الشاعرة الكبيرة، ايمان مصاروة
وهي تزلزل الارض تحت اقدام الصهاينة الانجاس....
القصيدة وهي من الشعر الحر:
القُدسُ مَسْرى مُهْجَتي
إني فَديتُ ترابُها
أسوارَها
زيتونَها
ومَسَحتُ عن أحداقِها
وجَعَ السنينْ
ماذا إذا انْدَفعَ الذّئابُ إلى حِماها
واستباحوا مجْدَها
العُلْوِيَّ
أو طرَحوا نجاستَهمْ
على جدرانها
أيكونُ عندي ممكناً ألا أقولَ
قصيدةً
لا لَنْ أطئْطئَ هامتي
لا لنْ أضِنّ بصوْتِ جُرحي
رغم هذا الأسرِ
لا لن أستكينْ
القدسُ سيّدةُ البراءةِ
والوضاءَةِ
٠ والندى والكبرِياءْ
والمسجدُ الأقصى الذي
قد بارَكتْهُ
يَدُ الإلهِ
وعانقتْهُ قلوبُ منَ
شرَبوا المحبَّةَ
هَلْ يُدنِّسُهُ الذئابُ
إذنْ
إذا ما عرْبَدوا
منْ بعْدِ قتلِ الأنبياءْ
القدْسُ لا تُعطي الدنيَّةَ
فارجِعوا
يا أيها الآتونَ مِنْ صحراءِ تِيهٍ
كل شيء ٍ كان يلفظُكُمْ
إلى الذلِّ العريقْ
والقدسُ تَلفظُكمْ
وتحْمي مجدَها العربيَّ
تلفُظكُمْ
وتحْمي مجْدَها الأبديَّ
فانكْسِروا
بحقدِكمُ
هنا القدسُ الأبيةُ
واحةُ الحبِّ العميقْ
# ايمان مصاروة
نشرت فى 19 مايو 2018
بواسطة magaltastar
الانفعال في رواية
"أثلام ملغومة بالورد"
"صابرين فرعون
ليس من السهل التحرر من ثقل الواقع، خاصة إذا كان هذا الثقل يأتي من اشخاص تربطنا بهم علاقة القربى، وإذا ما أخذنا عمر الكتاب/ة بعين الحسبان ستكون عمليه التحرر أصعب، وإذا علمنا ان الكاتب هو أنثى يتأكد لنا حجم الثقل الذي تعانيه، فالمرأة التي تتميز بمشاعرها المرهفة والناعمة، عندما تتعرض للقهر والضرب الوحشي والمعاملة القاسية، وتعاني من الظلم ومن قسوة أبيها أو أقربائها، الأخ، الخال، العم، الجدة، زوجة الأب، وعندما يكون النظام العام فاسد ويسهم في إلحاق الأذية بها وبمن تحبهم، سيكون وقعه عليها كبيرا وواضحا، من هنا يمكننا أن نبرر ـ من ناحية إنسانية ـ للساردة هذا الانفعال، فنحن نتفهم مشاعرها الإنسانية.
ولكن، كلنا يعلم أن الانفعال في الأدب مضر ولا يخدم الجمالية فيه، خاصة في الشعر، وفي الرواية يكون مضره أكبر، لأن كتابة الراوية تحتاج إلى وقت أطول من القصيدة/الديوان، ومن المفترض ان يتحرر السارد من أثر الحدث والحمة التي يتركها عليه، من هنا أعتقد أن الانفعال الواضح في هذه الرواية ـ وهو السمة الغالبة ـ قد اضر بجماليتها، لهذا نجد الساردة تهيمن على سرد الأحداث بشكل مطلق، ولم تترك لأي شخصية حرية التحدث بصوتها الخاص، أو أن تحدثنا بنفسها ودون تدخلها والاشراف على ما تقوله، فكانت الساردة هي التي تنطلق الشخوص، وتقدمهم لنا من منظورها الشخصي، وهذا أحد المآخذ على السرد في رواية "أثلام ملغومة بالورد".
الأب "فؤاد"
يمكننا الدخول إلى نفسية الساردة من خلال تناولها لشخصية الأب، فهي تقدمه لنا ـ كما هو الحال عند غالبية الروائيين ـ بصور سلبية، من مشاهد القسوة الأب: "...لكمها والدي فواد عدة لكمات بأنفها وفمها، ثم ضربها بالحزام وصبغ جسدها حتى أغمى عليها" ص19، مشهد سيتكرر في مواقف أخرى وسيكون أكثر الأب "فؤاد" أكثر وحشية وبطشا،.
الموقف السابق متعلق بالأم، فكيف يعامل أولاده؟، تجبنا الساردة: " منعنا أبي من اللعب مع باقي أطفال الحي، وأن تأخر أخواي بعد المدرسة للعب الكرة، يقيم الدنيا ويقعدها، ويسمع الحي صراخه وعقابه الجماعي لنا، يشبحهما على الحائط طوال الليل، يرفعان رجليهما اليمنى ويديهما ويبدلان الرجل واليد عند التعب ووجهاهما إلى الحائط، أمي يرميها في الخارج، وأنا يهددني بالحزام إن ناولتهما كأس ماء أو طعام، ...يسألني بجدول الضرب، وإن تأتأت، يشبحني معهما أو يرميني في الحمام ويطفئ النور ويجعلني أعيش فلم رعب، "رح تطلعلك الحية أن راسين توكلك"" ص29. مثل هذه القسوة تركت اثرها على الساردة وجعلتنا نرى الأحداث والشخصيات من منظورها فقط، ولم تتح لنا أن نعرف نفسية "فؤاد" أو التعرف على طريقة تفكيره، فكان أقرب إلى الصورة الفوتوغرافية المجردة.
تقدم لنا الساردة "فؤاد" بحالة المريض بالسادية لهذا نجده في كافة المشاهد يمارس الضرب والشتم والتكسير: "كان يغلق الغرفة بالمفتاح حتى عودته، ... دخل مثل المجنون للمطبخ ثم الحمام، ثم إلى غرفة إخوتي،، كان ينفث غضبا من منخريه ووجهه يفيض حمرة واشتعالا. رمى الحاسوب عن الطاولة فاتظم بالأرض وكسر، ثم أخذ الشاكوش وأجهز عليه وحطمه لقطع صغيرة، سحب عن والدتنا الغطاء وأخذ يضربها بالحزام في كل مكان" ص35.
العقل الباطن
لهذا نجدها في الكثير من الحالات تطلق عليه: "فؤاد" وليس "أبي"، "أمي التي تصغر فؤاد بسبع سنوات" ص14، "مرأة احتملت من فؤاد ما لا يحتمله عقل" ص15، "قام الرجال بحماية فؤاد" ص24، "يضرب فؤاد أمي" ص27، "زوجة فؤاد الثانية" ص33، "بينما ركب فؤاد معنا" ص57، "أستمتع فؤاد وهند" ص68، "ضربني فؤاد بعصا" ص 73، "حاولت التحدث مع فؤاد أنا وثابت" ص78، "اشترينا كرامتنا واعتقنا انفسنا من الذل الذي وضعنا فيه فؤاد" ص95، كان لا بد من تقديم هذه الشواهد لنتأكد أن هناك حالة انفعال عند السادرة، بحيث انعكست على طريقة تقديمه لنا، فالفظ "فؤاد" تجعله غريب عنها، ولا يمت لها بصلة.
الخال والعم والأخ
مشاهد العنف والقسوة لم تأتي من "فؤاد "فحسب" بل نجدها تصدر من خالها أيضا: "حتى هواتفنا المحمولة، كان خالي منهد يتحكم بها، ..لم يكتفي بتأنيبي، بل يلعنني ويشتمني/ ولا يسمح لأمي بالتدخل إن ركلني أو صفعني" ص38، اعتقد أن جعل غالبية المحيطين بالساردة يمارسون العنف والقسوة تجاهها، يجعلنا نميل إلى نسبه إلى حالة العنف التي تعرضت لها من "فؤاد"، فجعلها ترى/تقدم كافة المحيطين بهذه بصورة متماثلة أو قريبة من "فواد" فالخال الذي يعرف حالتها وحالة أمها الصعبة وما لاقته من "فؤاد"، كان من المفترض أن يتعاطف معها، لكن يبدو أن هناك ما يجعل الساردة أسير لمشاهد القسوة والعنف.
ونجد العم أيضا عنيف وقاس: "التقت الخالة ختام بجارة من الحي، فسلمت عليها، لكثرة الضربات التي تلقتها بعصا الكنس من عمي، لن أنسى جسدها الذي غرق بالدم وتحول معه الأيام التالية من البياض لزر الباذنجان" ص17، مشاهد القسوة تتكرر من الذكور تجاه الإناث، فالسادرة قدمتهم لنا بغالبيتهم قساة يمارسون العنف، حتى أن شقيقها "محمود" الذي تعرض معها للظلم والبطش من "فؤاد والخال مهند" نجده يمارس دور الذكور، بعد أن كبر وأصبح شابا: "... يغضب ويصرخ حتى أنه يشتمنا، وكان يضربني إن شتمتها بيني وبينه" ص77، من هنا يمكننا أن ننسب هذه التحول والنظر السوداء لشخصيات الذكور، إلى حالة العنف التي تعرضت لها الساردة من "فؤاد"، فنعكس ذلك على بقية الشخصيات فكانوا بهذه الصورة السوداء.
وإذا ما اضفنا إلى ما سبق الفساد الاجتماعي الذي يمارسه العديد من الموظفين بصرف النظر عن مهنتهم، يتبين لنا دوافع ومصادر القسوة التي جاءت في الرواية: "سمعت بالفساد الوظيفي، لكني رأيته بعيني في تقرير الطبيب الشرعي" ص59،إذن هناك سواد طاغي ومهيمن على الأحداث بحيث نكاد لا نجد أي بياض في الأحداث أو الشخصيات.
قسوة الذكور
هذا التراكم جعلت الساردة تقدم لنا المجتمع بمجمله ضمن هذه النظر السوداء، فهناك عدد كبير من الشخصيات السوداء تقدمهم بشكل متتابع ومتواصل، وهذا ما يجعلنا نتأكد على أن هناك تأثير كبير تركه "فؤاد" عليها، بحيث لم يتح لها أن ترى أي بقعة ضوء في الأفق، من هنا نجدها ترفض الاقتران بأي رجل، وتجدهم وحوش بصور بشر: "هل نسيتي المرأة التي جاءت تطلبني لابنها وادعت أنه طلق زوجته، ... أنه سكير حقير لم يطلق زوجته وكان يعذبها بشفرة الحلاقة ويترك علامات على رحمها ويتركها تنزف من بين فخذيها.
أم نسيت ذلك المتعلم الذي أعجبكم حسن خلقه واشترط علي لبس النقاب ثم تنازل قليلا وقال جلباب فضفاض ولن يسمح بارتداء عباءة لأنها ليست من الشرع؟ أم نسيت طبيب الجراحة الذي منذ تكلمت والدته وهي تخبرك أني أعجب ابنها لكنه يرى حوضي كبير ومع الأنجاب سيصير شكلي كالبطيخة ويريدني أن أنحف؟" ص93.
الأثر النفسي
يظهر لنا الأثر النفسي السلبي على الساردة في أكثر من موضع، منها: "وافقت على الجلباب بحنق، وأضمرت بيني وبين نفسي أن أتحرر منه وأخلعه عندما أصير في لجامعة، ولم أفعل بعدها خوفا من ألسنة الناس والتعرض لغضب فؤاد" ص32، وكأن الضحية التي تعرضت لكم كبير من القمع والقسوة، ترك فيها أثرا سلبيا على التحول أو التجديد، لهذا نجدها أسيرة لما خضعت له في السابق، ولم تستطع ان تتحرر منه، رغم تقديم التبريرات والتعليلات لهذا الخضوع.
وتؤكد لنا أن مواقفها السلبية من الرجال ناتجة عن حالتها النفسية من خلال هذه الفقرة: "سيسيء بعضكم فهمي حين أقول: لم يكن للرجل مكان في حياتي، عايشته وحشا بشريا يضرب ويهين ويؤذي لفظيا ويرمي بحمله على المرأة، فألغيت فكرة أن أضع رأسي في فراش قرب رجل أنفاسه بمواجهة أنفاسي، يشاركني التفاصيل الحميمة ويفرض سطوته علي في ملبسي أو عملي ولا يتيح لي اختيار ما أريده أو يحدد علاقاتي بأهله وأهلي ويمنعني من القراءة والكتابة والاستقلالية بكينونتي" ص96و97، قبل التوقف عند تفاصيل الفقرة السابقة، نوضح أنه تم نقل الفقرة السابقة كما جاءت تماما، ولم يجري أن تغيير من أضافة أو نقصان عيها، الملاحظة الأولى: أن الفكرة التي تحملها، تؤكد النظر السبية والسلبية جدا تجاه الذكور/الرجال، والملاحظة الثانية: أن الساردة لم تضع أي فواصل أو نقاط يتوقف عندها المتلقي إلا فاصلين، رغم طول الفقرة، وهذا يشير ويؤكد على حالة الانفعال والانحياز لمشاعرها ولعاطفتها أكثر منه إلى مكانتها كساردة لنص أدبي روائي، من المفترض أن تكون محايدة فيما تقدمه للقارئ، والملاحظة الثالثة: أنها بدأت الفقر بمحاطب القارئ مباشرة: "سيسيء بعضكم فهمي حين أقول" فمثل هذه الفاتحة لا بد أن تحمل شيء من المكنون الداخلي للساردة، فعندما اشارت إلى "سوء الفهم" كانت تقصد الفهم وليس عدم الفهم، أو إساءة الفهم، وكأنها تقول للقارئ: "أنتبه غلى ما أعاني من ألم" وهذا ما يجعل القارئ يتعاطف معها ويميل إليها، بمعنى أنها تستجده وتطلبه ليتقدم منها.
والملاحظة الرابعة: نجدها عندما تحدثت عن العلاقة الجسدية قالت: "فألغيت فكرة أن أضع رأسي في فراش قرب رجل أنفاسه بمواجهة أنفاسي، يشاركني التفاصيل الحميمة" قبل هذا المقطع نجدها تضع فاصلة، وبعد كلمة "أنفاسي" وضعت فاصلة ثانية، وهما الفاصلتين الوحيدتين في الفقرة السابقة فقط، وهذا يشير إلى أن الساردة أخذت راحلة نفسيا من خلال الفاصلة، وكأنها تقدم على فعل خطير وصعب، وتريد أن تحدثنا به أوعنه، وفعلا هو فعل وحدث غير متناسب والظروف التي تعرضت لها من قبل الذكر، لهذا نجدها تأخذ راحة قبل أن تخبرا بما فيها من مشاعر، وأخيرا نجد بعد الفاصلة عبارة "يشاركني التفاصيل الحميمة" وهي عبارة بيضاء تؤكد على أن هناك ميل عند الساردة تجاه القيام بمثل هذا اللقاء، وإلا ما استخدمت تعبير "الحميمة"، كل هذا يجعلنا نقول أن الساردة تعاني من ألم القهر الذي مارسه "فؤاد"، فانعكس على نظرتها على بقية الرجال، بحيث تجدهم متوحشين كما كان "فؤاد" لكن الفقرة السابقة تؤكد لنا رغباتها ـ في الا شعور ـ بالرجال وبإقامة علاقة جسدية كحال أي امرأة.
ملاحظات على الرواية
هناك بعض الملاحظات في السرد وتبدو من وجه ونظري غير ضرورية كما هو الحال عندما تحدث في الصفحة 22 عن المزروعات التي كانت جدتها "عزيزة" تزرعها، فتبدو لنا مبالغ فيها وكان الاجدر ان تختصر، لأنها طويلة جدا وتبدو وكأن الساردة طالبة عليها أن تجيب المعلمة عن سؤال متعلق بأنواع المزروعات.
ونجدها وبسرعة ودون مقدمات تقدم لنا "فؤاد" رجل ثري ولا يهتم بالمال: "عرض فؤاد على الموظفين المتضررين "10000" دينار أردني لإسقاط حقهما" ص71، وهذا يعد قفز على ما قدم عن شخصية "فؤاد"
الرواية من منشورات فضاءات للنشر والتوزيع، عمان الأردن، الطبعة الأولى 2018
نشرت فى 15 مايو 2018
بواسطة magaltastar
"الرقص الوثني"
أياد شماسنة
تعتبر هذه الرواية من أهم الروايات التي تتحدث عن تركيبة دولة الاحتلال، يقدم لنا الراوي شخصيات من داخل المؤسسة الحاكمة والمجتمع في إسرائيل، تتقمص شخصياته الطريقة التي تفكر بها وتنتهجها، بحيث يقعنا تماما، بأن مثل هذه التركيبة من الجماعات لا يمكنها أن تكون عادية، او عفوية، لقد تمت تربيتها على أنها أعلى من بقية المجتمعات:" فكرة الشعب المختار"، وعليها أن تكون فوق البشر، وفي حالة عدم قدرتها على تحقيق هذا العلو، عليها أن تنعزل وتعيش في "جيتو" خاص بها ضمانا لنقاء العرق والنوع.
يقدم الراوي في الرقص الوثني شخصيات يهودية متنفذة، على صعيد القرار الأمني، وعلى صعيد المكانة العلمية أو الأكاديمية. هناك "بنيامين بن يهودا" المستشار الأمني والبروفيسور في قسم التاريخ والآثار بالجامعة العبرية، وزوجته "تسيبي بنت مناحيم" الناشطة في منظمة بتسيلم، وابنته "إستير" المتفوقة في دراستها الجامعية، من المفترض أن تكون هذه العائلة مثالية، لكنها في حقيقة الأمر مختلة نفسيا وسلوكيا، تعاني من أمراض اجتماعية ونفسية، وستنعكس سلبا على العلاقة الأسرية فيما بينها. وهناك من المؤسسة الحاكمة "شلومو بن أورون" مدير احدى مكاتب أجهزة الأمن الرئيسة في الدولة، والذي يستطيع اتخاذ قرارات مصيرية وحاسمة.
في المقابل تقدم الرواية شخصيات فلسطينية سلبية مثل "إدريس حمدان العتيق" تاجر الآثار والممنوعات ولص الاثار، وشخصيات ايجابية مثل "مايك سمرون" الأرمني بائع الانتيكا و"سليمان شاهين" المحامي المتألق والمدافع عن حقوق الفلسطينيين.
دولة الاحتلال
الشخصيات الرئيسة في الروايات والتي تتمحور حولها الأحداث، الأحداث التي تشير إلى استحالة العدالة في دولة تكفر بالعدالة،وتزعم أن فلسطين لليهود وحدهم، وليس هناك أي مكان للفلسطينيين فيها، بعض النماذج التي تعزز هذا الأمر “أصدرت المحكمة قرارا بعدم جواز إيقاف سيارات الإسعاف الفلسطينية على الحواجز العسكرية لأكثر من نصف ساعة" ص37، بين ثنايا هذا القرار فكرة "يحق لجندي الاحتلال إيقاف سيارة الإسعاف" لكن لفترة لا تزيد عن نصف ساعة.
وعندما يتحاور "بن يهودا وتسيبي" عن علاقة ابنتهما "إستير" بالفلسطيني "سليمان شاهين" تقول "تسيبي" التي تعمل في منظمة حقوقية، من المفترض أن تدافع عن حقوق الإنسان: "هكذا هي الأمور في الدولة، نحاول إذابتهم فيذيبون بناتنا" ص39، وهنا يكمن الخلل في تركيبة اليهودي، يعمل في مؤسسة (حقوقية/يسارية) ويتحدث ويفكر وينتهج خطا (يمينيا) متطرفا.
دولة الاحتلال تعيد انتاج فكرة قداسة الدولة التي تمثل الرب على الأرض، وعلى اليهودي ان يؤمن بما يصدر عنها من قرارات وينفذه بضمير مرتاح، هذا ما جاء على لسان "مسلم أسار" الذي يسخر من هكذا دولة: " الدولة هي من يعيد كتابة التاريخ، الدولة من يعيد تشكيل المتحف لتقدم الآثار يهودية، أو إسرائيلية، أو توراتية، أو وثنية، الدولة يا عزيزتي من يدفع لكتاب التاريخ، والمؤرخين، ويدفع لهم مقابل إثارة قضايا مختلفة تخدم المشاريع السياسية في المستقبل" ص50. على لسان احدى الشخصيات الرئيسية
فكرة العزل لم تأتي اليوم عند اليهود، بل هي متأصلة في تفكيرهم، " الناس كلهم يكرهون اليهود وهي كراهية لا تزول، لذلك يعزل اليهود أنفسهم من غير اليهود، وأن أرض إسرائيل تخص اليهود وحدهم" ص61.
من الاساليب التي تنتهجها دولة الاحتلال لتسريب الأراضي والأبنة إلى المستوطنين هذا الحوار بين رجل الأمن وبين تاجر الانتيكا الأرمني:
"ـ لم لا تساعدنا في الحصول على بيت جورج؟
ـ لا شأن لي بكم، أنتم تساعدون أنفسكم
ـ مليون دولار أمريكي، أو لنقل مليون ونصف، أليست صفقة جيدة؟
ـ لست سمسارا ولا عميلا.
ـ أنت مهرب آثار خبيبي، قم بهذه الصفقة فقط وأقفل كل الملف، هذا المبنى مقابل جميع الصفقات التي قمت بها وربما تقوم بها مستقبلا، انه صبابة، أليس كذلك، صفقة رابحة" ص101، طريقة الترهيب التي يستخدمها المحتل للإيقاع بالفلسطينيين إذا ما اقترفوا خطأ ما، فيتم استخدام اساليب ابتزازهم لجرهم إلى العمالة المباشرة والصريحة.
ومن الأساليب الأخرى التي ينتهجها الاحتلال هذا الأسلوب الذس يتمثل في طرح رجل الأمن".وقضاء ليلة ممتعة وبعض النقود قبل أن يداهم الأمن الداخلي الشقة لاصطياد الضحية متلبسة في وضع يتم إسقاطها به" ص108، هذا ما حدث مع "إدريس العتيق" قبل أن يصبح عميلا للاحتلال.
وقد جاء الفكر الاستعماري بشكل جلي وصريح على لسان رئيس بلدية تل أبيب: "أن تل أبيب تم تنظيفها من الوسخ" ص 124.
أما فكرة فكرة الفوقية التي تسيطر على العقل اليهودي فكانت من خلال قول "شلومو بن أورون": "..غير مسموح أن يتغلب أحد الأقليات على أي أحد ولو مبتدئ في الجهاز" ص178.
وكحسم لفكرة (التعايش) بين اليهود والفلسطينيين تقول "تسيبي بنت مناحيم: لا اعتقد أننا كشعب يمكن أن نتخلى عن فكرة الشعب المختار؟ لا اعتقد أيضا أن الجنرالات الذين يبنون أمجادا بقتل الآخرين سيتوقفون عن سفك المزيد من الدم من أجل الرتب العسكرية؟" ص184.
ويقول "بن يهودا" يقول: هذه الأرض لنا، كم مرة أخبرتك أن الرب أعطاها لنا قبل ثلاثة آلاف عام، وستبقى لنا، لقد ترها السكان استجابة لعبد الناصر، لو كانوا يحبونها أو ينتمون إليها ما تركوها" ص46، مما يضاف الي الكذبات التي آمن بها الاسرائيلي، ومنها أيضا كذبة أرض الميعاد، وكذبة أن الفلسطينيين تركوها مخيرين، وليسوا مكرهين وتحت تهديد السلاح.
الأمجاد التي يحققها قادة الاحتلال تأتي من خلال قول "بن يهودا": "بيبي نتنياهو يريد مجدا على الجماجم، إنه لا يهتم إلالابكونه ملكا للدولة، ملك إسرائيل الأبدي" ص185.
ومن الواضح ان الرواية تؤكد أن الأفكار التي تقدم لليهودي من قبل القيادة السياسية أو الدينية أو الفكرية تقول على لسان احد الحاخامات الذين يرافقون الجنود في المعارك : "إذا رأيت لصا خطيرا بيده سكين أو مسدس، فاقتليه قبل أن يقتلك، وكذلك إذا رايت شخصا عربيا وشككت في أنه يحمل سلاحا أو عبوة ناسفة، فلا تجازفي ولا تخاطري بروحك وأرواح إخوانك اليهود وإنما اقتليه حتى لو كنت مسيطرا على الموقف تماما، فالأفضل أن تريح نفسك وتريحنا منه، وأكد أن القانون الإسرائيلي يتفق مع الشرعة اليهودية في هذا الشأن" ص248.
أما فيما يتعلق بالديمقراطية التي تمنحها الدولة العرب الفلسطينيين، فهي ديمقراطية المحتل: " فإن كل من يشارك في نشاطات "غير قانونية" ضد جيش الاحتلال، أو ضد الدولة وسكانها، أو يعرب على الملأ عن دعمه لمثل هذه النشاطات، لن يسمح له بخوض انتخابات الكنيست" ص311.
هذه الأفكار لأنها تمثل إحدى الركائز الأساسية التي بنى عليها الراوي روايته، فالرواية ستقدمنا شيئا فشيئا من جمالية مذهلة، وكان لا بد من التعرف على هذه الأفكار والأقوال وعلى هذا السلوك، لنكون على مقربة عقدة اليهودي التي تنعكس فيما يقوله وفيما يفكر فيه وفيما يفعله، هذه الأفكار والأفعال جزء من تركيبة كاملة متعلقة بالدولة وبالأفراد وبالمؤسسات، وعندما نقول المؤسسات نقصد تلك التي تدعم الدولة أو تلك التي تدعي معارضتها، فالكل في دولة الاحتلال يخدم الدولة وأفكارها ونهجها.
الشخصيات اليهودية
" بنيامين بن يهودا"
ش "بنيامين بن يهودا" يقول عنه "مايك سمرون": أنه مفاوض عنيد جدا، مثل "حيط" وأن كان أكاديميا يلجأ إلى القانون الذي يمس الموضوع، فيوقف أي تحرك. يعرف البروفسور طريقتين بحكم تدريبه الأمني للتعامل مع الشخص الماكر مثل مايك، إحداهما احتوائه والسيطرة عليه، وثانيهما التعامل بجفاء وتجاهله" ص28، الصلابة احدى صفاته، وهي تشير إلى أنه رجل مؤمن بأفكاره وبمعقداته، كما أنه يعرف ويفهم القانون، ومتدرب على التعامل مع كافة الأشخاص والحالات التي يكونون بها.
"تسيبي بنت مناحيم"
زوجة "بن يهودا" التي تعمل في مؤسسة حقوقية، ومنتمية إلى حزب يساري، يكشف لنا زوجها حقيقتها والطريقة التي تفكر وتعمل بها، "بحياة ربك تسيبي، حقوق الإنسان أساسية، قولي فقط أنكم تشتغلون لأجل الشغل، لأجل المجد الشخصي، وليس لأجل حقوق الإنسان" أما هي فتفكر بهذه الطريقة: " لو أني ما زلت كذلك كما تقول أيام الكيبوتس، لساعدتني في انتزاع إنجاز آخر، أستطيع به أن اتزعم الحزب من أجل خوض انتخابات الكنيست القادمة" ص38، إذن هي تبحث عن مجدها الشخصي، وما عملها في مؤسسة حقوقية إلا غطاء/وسلة لتحقيق هدفها الشخصي، فهي لا تؤمن بأي حقوق، بل تؤمن بمصالحها وأهدافها الشخصية، وتؤمن بأن أي وسيلة يمكن أن توصلها إلى هدفها هي مباحة ويجب أن تعمل بها.
ونجدها تحمل أفكار عنصرية من خلال حديثها عن أبناء إبراهيم: "تدخلت تسيبي بغضب: إسماعيل ابن الجارية المصرية لا يحق له الحصول على ميراث إبراهيم" ص47.
"إستير"
البنت المتفوقة في جامعاتها، وتعيش في أسرة يهودية خاصة، لكنها تحب رجل من غير دينها، فتعيش في حالة من الضياع والتشتت: "كانت تريد أن تكون يهودية، أو أي شيء آخر، المهم أن تشعر بالانتماء لقضية ما، كما ينتمي بن شاهين إلى عربيته" ص143، ونجد اضطرابها وعدم يقينها بهذا الطرح التي قدمته ل"سليمان شاهين": "لديك أسبوع يا حبيبي، أما ان تتخذ قرارا بشأن الزواج، أو ألتحق بالجيش؟" ص172. هذا الطرح يعبر عن حالة الاضطراب، فهو طرح متطرف بالنسبة لها، الأول يمثل تمردها على أفكارها وعلى يهوديتها، والثاني يمثل تمرد على مفاهيم الحب والإنسانية التي تتعامل بها مع "سليمان".
العربي/الفلسطيني السلبي
يقدم لنا الراوي نماذج من العملاء، إحداها جنود "انطون لحد" السابقين، أهم وأشهر عميل للاحتلال في لبنان، فبعد أن تم الانسحاب من لبنان: "عمل حارسا ليليا ليشتري الدواء والكحول، الأول لزوجته والثاني كي يستسيغ طعم الذل في البلاد التي أقنع نفسه أنه ساعدها في شبابه، لقد تخلت عنه مثل كلب ميت" ص13، من المهم أن نفهم ونعرف ما آلت إليه أحوال العملاء، فهم ليسوا أكثر من سلم يصعد به إلى أعلى، ثم يرمى به إلى أسفل، بعد أن استنفذت مهمته، ولم يعد يصلح أو يفيد في شيء.
هذا ما كان بخصوص العميل غير الفلسطيني، فما هو حال العميل الفلسطيني؟، شخصية "إدريس حمدان العتيق" تمثل الشخصية الفلسطينية المنحلة، التي تعمل كل شيء في سبيل المال أو الجنس أو المشروب، فهي تمارس الأعمال الممنوعة، من أجل أن تكون عملية للاحتلال وتخدم مشاريعه وأهدافه في الاستيلاء على الأرض والمباني الفلسطينية: " هناك كان شلومو بن أورون يهنئه على المليون دولار التي قبضها لقاء خدمته في تسليم العمارة السكنية في سلون، والتي بناها بأموال مكتب الأمن بالتعاون مع جمعية "عطيرات كوهونيم".
اكتمل البناء الذي سهل الأمن الداخلي الإسرائيلي معاملاته ورخصه وكافة إجراءاته، ساعد إدريس في تغطية على نشاطه الأمني عبر تدريبه ليمارس دور التقي المتدين، ثم التاجر المستورد من الصين، وعندما اكتمل الدور انتهت الصفقة بشرطها النهائي وهو الهجرة من الوطن" ص271، إذن أي عميل عندما ينتهي مهاته ينتهي وجوده، أما بالتصفية الجسدية أو بالهجرة، فهو ليس أكثر من أداة يتم التخلص منها بعد انتهاء فاعليتها/دورها.
الفلسطيني
كما كان هناك فلسطينيين سلبيين هناك في المقابل ايجابيين، منهم "سليمان شاهين ومايك سمرون" فسليمان يقدم على تقديم المساعدة لأي كان، فالدافع الإنساني عنده يجعله يتقدم من المحتاج بصرف النظر عن جنسه، من هنا نجده يندفع لمساعدة "إستير" عندما يلتوي كاحلها، كما نجده شخص مرتبط بأبناء شعبه بشكل وثيق، ويقدم لهم خدماته كمحامي ومدافع عنهم بكل إخلاص وتفان، ولكن الملفت للنظر أن "سليمان" يعود لتقديم المساعدة ل "إستير" بعد مشاركتها في حرب غزة وإصابتها بمرض نفسي، ويفسر لنا الراوي علاقته بها من خلال هذا المقطع: " أخبرها أن الأمر رغما عنه، قد ابتعدت هي من البداية بقرارها، لكن الأمر الأكثر أهمية هو التحاقها بالجيش الذي يقتل إخوته وقومه العرب، أكد لها أن الأمر بالنسبة إليه لا مناقشة فيه، أخبرها أنه أحبها لأنه وجد فيها إنسانة، ولم يفكر للحظة بقوميتها أو دينها، وعندما ابتعد، كان ذلك لأنها هي من أقحمت الدين والانتماء وفضلت السياسة التي تقتل الناس على الإنسانية التي تجمعهما" ص304، لم يكن "سليمان" مجرد شخص يحب فتاة يهودية فحسب، بل كان أيضا مفكر ويقدم الحلول لتخليص الخاطئ من خطيئته، " لكنها تستطيع أن تخدم الإنسانية عندما تدون مذكراتها ومشاهدتها الميدانية في كتاب، لتريح ضميرها، وتقدم للإنسانية شهادة عن الضحية والجلاد" ص304، لهذا يمكننا القول أن الفلسطيني يعطي مثلا لما قدمه الانبياء والرسول، فرغم تعرض "سليمان" للخطف من قبل الاحتلال وإجبار المواطنين الفلسطينيين الذي فوضوه على تمثليهم أمام المحاكم الإسرائيلية، إلا أننا نجده ما زال مؤمنا بدوره الإنساني والوطني، ويقدم المساعدة لمن يحتاجها، حتى لو كان عدوه.
هذا فيما يتعلق بشخصية "سليمان شاهين" لكن هنا صورة جمعية للفلسطيني الذي يتعرض للإبادة والإرهاب من قبل المحتل ومؤسساته الأمنية والرسمية، يحدثنا الراوي عن حال الفلسطيني في دولة الاحتلال، من خلال لم شمل العائلات الفلسطينية: " أنجبت الزوجة التي تحمل الجنسية الإسرائيلية خمسة أطفال في الضفة فحصلوا على هوية خضراء، عندما خشيت من فقدان هويتها الشخصية قررت الزوجة الانتقال إلى بيت أهلها في أم الفحم، وهناك أنجبت طفلين بهويات زرقاء، حصلت على أسرة مشتتة، ملونة متعددة الجنسيات" ص140. هذه احدى مشاكل الأسرة الفلسطينية، أفرادها يحملون عدة جنسيات وكأنهم خليط من قارات متعددة.
ونجد مشاهد المجازر والتهجير التي تعرض لها على يد الاحتلال وعصاباته، من خلال الحديث الذي دار بين "سليمان وإستير":” لم تري جنديا من الهاجاناة يغتصب امرأة واحدة، وولدها الرضيع ينظر إليها، لم تكوني يوما في دير ياسين وهم يبقرون بطون الحوامل ثم يطوفون بمن تبقى في شاحنة أمام الناس في غربي المدينة؟" ص 173، هذه صورة الضحية، وإذا ما قارناها بصورة الجلاد والطريقة التي يفكر بها وينتهجها نلم حكم الظلم الذي وقع على الفلسطيني من قبل الاحتلال ومؤسساته.
إننا أمام رواية تتحدث عن حال الفلسطيني الذي بقى في أرضه ولم يغادرها، وهذه الفكرة لواحدها كافية لتجعل الراوية تستحق أن تقرأ ويتوقف عندها ويكون لها مكان بين الروايات المهمة، فمثل هذه الأفكار التي تذكرنا بما حصل ويحصل، تنشط الذاكرة وتجعلها متحفزة ويقظة لكي لا نتوه في المجهول.
"عائد إلى حيفا"
يمكننا الآن تجاوز أهمية الفكرة التي تحملها الرواية لنتقدم من جمالية استثنائية وتجديدية، جمالية "لا تخطر على قلب بشر" والتي تتمثل بتكملة رواية "غسان كنفاني" "عائد إلى حيفا" ، او التكامل معها كما قال الروائي في احدى مقابلاته، مثل هذه التكملة بحد ذاتها تعد حالة تألق وابداع من الراوي،، فلو أكمل الراوي الروايات التي لم تكتمل "برقوق نيسان، الأعمى والأطرش، العاشق" لكن عمله منطقيا ويتوافق مع العقل، لكن أن يأتي على رواية كاملة وجاهزة ويحيي شخصياتها من جديد، ويجدد مأساة عائلة "سعيد" الفلسطيني التي بدأت عام 1948، محدثا عن الصراع عند نسل دوف/خلدون/"بن يهودا" والمتمثل بانتمائه لدولة الاحتلال وأصوله العربية، فهذا التألق بعينه، والراوي لا يكتفي بهذا، بل يضيف معلومة: أن "خالد" شقيق "خلدون/دوف أصبح فدائيا ويأتي إلى فلسطين ليقوم بعملية فدائية، وبعد انتهاء الاشتباك يقع في الأسر ويكون "دوف/خلدون" هو قائد قوات الاحتلال التي أسرته، أليس هذا هو الإدهاش بعينة؟.
إن الصراع الذي تحدثت عنه رواية "عائد إلى حيفا" لم ينتهي أو يتوقف، ما زال حياً وفاعلاً، وهذا بحد ذاته يعد حالة ابداع في الرواية، فالصراع الذي بداء في عام 1948 مستمر، وابناء الشخصيات ما زالت تعيش الصراع.
يبدأ الحديث عن شخصيات "عائد إل حيفا" من خلال دخول "إستير" إلى غرفة أبيها "بن يهودا" فتجد فيها أوراق مذكرات: "أسماء (سعيد، خلدون، دوف/ ديفيد، صفية، موشه، تورا روزنشتاين) وفي إحدى الصفحات، كتبت السيدة صاحبة المذكرات، وقعت بعد نهاية كل مذكرة باسمها "ميريام" ص148.
لكن ليس ذكر اسماء الشخصيات لوحده مثير، فلا بد من تتابع الأحداث التي جرت لهذه الشخصيات: "رحلنا إلى تل ابيب، يجب أن يبقى ديفيد بعيدا عن عين سعيد، لقد تربى صهيونيا، ويخدم الآن في جيش الدفاع، بعد أن تزوج، فضلنا جميعا أن يتحول إلى يهودا، لكي ينتمي أكثر من مجرد اقتران اسمه باسم ديفيد بن غوريون.
يجب أن يمحى اسم خلدون إلى الأبد، وأن يبدأ ديفيد حياته بعد الزواج منتسبا إلينا كعائلة يهودية من أصول بولونية، أخشى أن يصحو ذلك العربي النائم فيه، أو الميت.
لقد أحببته بعدما غدا يهوديا أكثر منا، فرحت عندما قرر الانخراط في جيش الدفاع، شعرت بمدى نجاح مهمتنا، عندما قابل عائلته العربية بعد حرب حزيران، وقف كيهودي حقيقي ليختار ما تم إعداده من أجله" ص148.
إن العودة إلى الماضي مهمة لتنشط ذاكرتنا، ولتذكينا المأساة التي حدثت ل"سعيد وصفية وخلدون" وأيضا تذكرنا بأن هناك مجرمين قاموا بسرقة الطفل وتحويله إلى عدو، عدو لأهله ولأسرته ولشعبه، وقد أقاموا على جريمتهم بعد تفكير وتخطيط، بمعنى انها جريمة كاملة، لا لبس فيها، وهذا ما أكدته "ميريام" حيما أضافت: "عندما سمعت اختيار دوف/ديفيد/يهودا القادم أمام سعيد، شعرت أني انتصرت، كما انتصر الجيش في حيفا، وكما اخذنا أورشليم/ خسر سعيد كما خسرت القوات العربية" ص149.
هناك تفاصيل لا بد من ذكرها في اللقاء الذي تم بين "سعيد وخلدون/دوف"، ومن يعود إلى رواية "عائد إلى حيفا" سيجد هناك موقف متطرف من "خلدون/دوف" تجاه "سعيد"، كما يجد اللقاء غير مفصل من قبل "غسان" فهو لم يدخلنا إلى التفاصيل التي جعلت "دوف/خلدون" يكون بهذه القسوة، لكن الراوي في "الرقص الوثني" يقدم لنا تفاصيل تزيل هذه الغشاوة وتجعلنا نعرف حقيقة ما وراء هذه القسوة ودوافعها والطريقة التي جعلت "خلدون" يسلكها: "نجحت ميريام في مواجهة سعيد، وتحلت بالروح الصهيونية التي مكنتها من إتمام ما تم تدريبها عليه منذ البداية، لقد كانت التوقعات بعودة سعيد وصفية في يوم من الأيام أكيدة مئة بالمئة، لذلك تم التحضير لهذا اللقاء المتوتر بحيث تسهل السيطرة عليه وتوجيهه" ص287.
لقد كانت اللقاء معدا في السابق ومخططا بشكل محكم، بحيث لا يترك أي أثر على "خلدون" في المستقبل، كما أن "ميريام" تدربت على اسلوب وطريقة التعامل مع "سعيد" قبل أن يعود إلى حيفا، على النقيض من "سعيد وصفية" اللذان جاءا بعاطفة ومشاعر الأبوة، من هنا لم يبديا أي مشاعر أو ردة فعل متطرفة ـ كحال العرب ـ في هكذا وضع، فذهبا وكأنهما يمتلكان برودة اعصاب الانجليز.
والآن يمكننا معرفة حقيقة ما جرى بعد اللقاء، عاد "سعيد" إلى رام الله: " وأخبر العائلة بما حدث معه، سافر ابنه الاخر خالد متسللا إلى عمان، وعلمنا أنه انضم إلى منظمات ياسر عرفات، بينما بقى سعيد ضائعا بين ألم الخسارة والخوف من التضحية" ص288، نفذ "سعيد" ما قاله ل" دوف" ويرسل/يذهب "خالد" ليعيد ما سلب منه، لكن العمل الفدائي متراكم ومترابط، والفدائي ليس أكثر من حلقة في سلسلة طويلة، ويمكن أن يستشهد أو يؤسر، وهذا ما حصل مع "خالد": "تم اعتقال خالد قرب قرية عقربة في منطقة يسميها الأهالي ب "الصير" كان يجلس هادئا، هو يحتضن بندقيته الاتوماتيكية الفارغة، لم يكن خائفا، كان آخر من تبقى من هذه المجموعة المتسللة، والتي اشتبكت مع عدد كبير من قوات الجيش المدعومة بالهيلوكبتر، أصبنا بخسائر فادحة، لكن العملية تم احباطها في النهاية ولم يبقى أحد من المتسللين حيا إلا خالد سعيد" ص289، هذه تكملة الاحداث في رواية "عائد إلى حيفا"، فالشخصيات حية وفاعلة ولم تنتهي عند ما قاله "سعيد" ل"دوف"، ومثل هذه التفاصيل تخدم فكرة استمرار الصراع.
يموت "سعيد" قهرا بعد أن يعرف بأسر "خالد" والحكم الذي صدر بحقه، و"صفية" تصاب بالسكري، والتي كانت تحاول أن تتغلب على واقعها المأساوي فقد: " كانت تغزل الصوف وكأنها تقاتله نيابة عن الدينا رغم أن النتيجة كانت جميلة، ما لا تبيعه تهبه للمحتاجين.. منذ وقع خالد في الأسر لم تعد تغزل للناس، غزلت ثلاث جرزات لترسلها إليه، لكي تحميه من الشتاء، مات صفية أيضا بعد سعيد بسنة واحدة" ص292.
هذه نهاية عائلة "سعيد" الفلسطينية، وهي نهاية مأساوية بالتأكيد ومؤلمة إنسانيا ووطنيا، ولا يمكن لكل من يقرأها إلا الانحياز لها والوقوف إلى جانبها، لكن من جهة أخرى نجدها منسجمة مع ذاتها، "سعيد" الذي فقد الأبن الأكبر "خلدون" وتلقى منه صفعة مدوية حين قال له "كان عليكم إلا تخرجوا من حيفا، وإذا لم يكن ذلك ممكنا فقد كان عليكم بأي ثمن إلا تتركوا طفلا رضيعا في سيرير، وإذا كان هذا أيضا مستحيلا فقد كان عليكم إلا تكفوا عن محاولة العودة، لقد مضت عشرون سنة يا سيدي! عشرون سنة ماذا فعلت خلالها كي تسترد ابنك؟ لو كنت مكانك لحملت السلاح من أجل هذا، أيوجد سبب أكثر قوة؟ عاجزون! عاجزون! مقيدون بتلك السلاسل الثقيلة من التخلف والشلل! لا تقل لي أنكم أمضيتم عشرين سنة تبكون! الدموع لا تسترد المفقودين ولا الضائعين ولا تجترح المعجزات" ص406 و409 الآثار الكاملة لغسان كنفاني، يحاول أن يصحح الخطأ الذي اقترفه في عام 1948 من خلال "خالد" الذي أصبح مقاتلا في الثورة الفلسطينية ليسترد ما فقده.
وإذا ما توقفنا عند حالة "سعيد" نجده كأي أب يحمل شيء من الخوف/التردد الإنساني تجاه فقدان الابن الثاني "خالد"، وهذا أمر طبيعي، وعندما علم بأسر "خالد" تألم، حزن كأي أب يتعرض ابنه للأسر، ونجد "صفية" سلمت بالأمر والواقع، وحاولت أن تتكيف مع الواقع من خلال ارسال جرزات الصوف "لخالد"، لكن "السكري" عجل في نهايتها، فالألم التي عانته أسرة "سعيد" ألم إنساني ووطني، ويمكن لأي إنسان أن يمر به أو يتعرض له.
"بنيامين بن يهودا"
يعرفنا الراوي على هذه شخصية وما تعانيه من صراع، فهي شخصية غير منسجمة مع ذاتها، وتعيش في حالة من الاضطراب وعدم الاستقرار، وإلا ما الداعي لأن تبحث عن جذورها البيولوجية؟، وما الداعي لوجود تلك الأوراق والمذكرات إذا كانت صادقة مع ذاتها؟ وهذا ما وضحته "إستير" عندما خاطبته قائله: "أسرارك الخاصة هي جذوري أيضا، بابا، وكما أن من حقك الاحتفاظ بها بين أربعة جدران، فإن من حقي أيضا أن أعرف من أكون أنت عربي الأصل بابا! هل هذا صحيح؟" ص159، عقدة الجنس/الأصل أهم مشكلة عند اليهود، فهم شعب الله المختار، وهم من خصهم الرب بهذه الأرض، وإذا عدنا إلى موقف "تسيبي" المتشنج عندما ذكر النبي "إسماعيل" أمامها وكيف صرخت بحدية: "إنه ابن الجارية المصرية"، نعلم الخلل الذي بنيه عليه افكر الصهيوني، فنقاء العرق شرط أساسي في الفكر الصهيوني، كما أن الدين اليهودي الرافد الأهم لتغذية هذا الفكر، لهذا نجدهم يحملون دين مغلق على أصحابه، ولا يقبل (الغرباء).
من خلال هذه الثنائية في الفكري الصهيوني يكون " بنيامين بن يهودا" غير مستقر القناعة بنقائه وصفائه، ويحاول جاهدا أن يعوض عقدة الخلل في العرق/الجنس/الأصل من خلال عمله الحثيث والمخلص في خدمة الدولة.
يقدم لنا الراوي حالته من خلال الحوار الذي يتم مع "إستير":
"ـ: أنا إسرائيلي، يهودي، قد نشأت كما نشأ جدك، يهودا مخلصين للدولة.
ـ: هل أنت متأكد أنك نشأت، أم سرقت، لا تنكر أنك كنت تخرج من الغرفة وأنا صغيرة، وأنت تمسح الدمعة عن عينيك، وكثيرا ما كنت أشعر بإحساسك بالضياع، هل عرفت أن تفانيك ومحاولة نجاحك ناتج عن إحساسك بالغربة؟
..أنت عربي؟ هل جدي يهودا هو ديفيد؟ هل صفية هي أمه العربية؟ سعيد العائد إلى حيفا هو جدي الحقيقي؟ كيف كان ذلك كله؟" ص160، إذا كان الإنسان منتمي لجهة/لطرف/لفكرة يكون منسجما ومتزنا، ولكن إذا كان غير منسجما وغير متزن، سيعيش في حالة اضطراب وصراع بالتأكيد، وسيكون هناك خلل في شخصه أو في الفكر الذي يحمله، وها هو "بن يهودا" يعترف بحالته غير المستقرة :
"أنا لا أعرف إستير، أنا لا أعرف، فقط أريد أن أحيا بسلام، أخرجي من هنا واتركيني أبحث عن قليل من السلام، هيا أخرجي" ص160، الملفت في فعل "أبحث" جاء ليؤكد حالة عدم الاستقرار، رغم المكانة العلمية والأمنة التي وصل إليها، ونجده شبه منهار عندما يقول ل"تسيبي" : "هناك من يقوم بتصفية الحسابات معنا" ص161، إذن الخلل يكمن في الفكر الذي يحمله "بن يهودا" فهو رجل متفان في عمله، ومخلص في عطاءه، لكنه نفسيا، غير مستقر، ويعاني من عقدة الجنس/الأصل/العرق الذي يجعله مشوش، غير نقي: "ـ بنيامين، هل تريد ان تخبرني أن أصولك عربية؟
ـ : نعم ، لا أعرف، لقد تربيت صهيونيا يهوديا أخدم الدولة بكل ما استطيع، وأبني الوطن، هذا ما أعرفه، ولا أريد أية بلبلة في حياتي" ص162، إذا ما أخذنا أي إنسان آخر يولد في بلد ما، وينشأ فيه، ويتحدث بلغة سكانه، ويتعلم بجامعاته أو يعمل فيه، يكون منتميا ومنسجما مع ذاته ومع الشعب الذي نشأ فيه، لكن في حالة اليهودي "بن يهودا" نجده غير ذلك، وهذا يعطينا فكرة، أن هناك الخلل في بنية الفكر الذي يحمله، الفكر الذي يعتمد على الجنس/العرق/ وليس الانتماء أو العمل، من هنا يمكننا أن نفهم الطريقة القذرة يتعامل بها المحتل مع العملاء، فهو يعتبرهم غرباء غير أنقياء العرق، لهذا يتم تصفيتهم أو ترحيلهم.
حالة عدم الاستقرار تدفع "بن يهودا" ليبحث عن أجداده في مخيم الجلزون في رام الله،: "أنه يود الذهاب إلى رام الله، إلى مخيم الجلزون، يريد أن يبحث عن شيء ما" ص236، مفارقة محزنة، رجل يحتل مكانة عالية في التعليم، وله وضعه في الأمن، ومع كل هذا، نجده يشعر بعقدة النقص، عقدة عدم اندماجه مع المجتمع الذي يخدمه، رغم كل هذا التفان، فأي خلل هذا؟، ما هي المشكلة؟، ومن هو مسببها؟ كل هذه الأسئلة تشير إلى وضع غير عادي تعيشه شخصية "بن يهودا" وعلى أن هناك خلل في الفكر الذي يحمله.
دولة الاحتلال ومؤسساتها ورجالاتها يتعامل مع أي كان على أنه شيء/جماد وليس كائن بشري، وهم على استعداد أن يراقبوا أنفسهم إذا ما طلب منهم ذلك، فالدولة عندهم هي الإله "يهوه" المقدس، الذي لا يرفض له أمر، وأوامره يجب أن تنفذ، "بين يهودا" رغم ما يتمتع به من مكانة علمية وأمنية، إلا أنه أيضا يكون تحت المراقبة وتحت أعين الدولة وأجهزتها، "شلومو بن أورون" أحد ضباط كجاز الأمن العام، يقدم/يعطي ل "بن يهودا" تقارير وافية ومفصلة عن عائلة "سعيد وصفية" تزيد من متاهته وما جاء في هذه التقارير ما يلي: "لم يكن البروفسور يعرف أن خالدا هو شقيق عمه، كان صغيرا عندما عرف بالعملية التي حدثت قبل سنوات، قص عليه والده حكاية المتسللين الذي تمكن هو الجيش من قتلهم، وأخبره كيف تمكن من أسر الشاب الوحيد الذي نجا من العملية، لم يعرف بنيامين أن من يتحدث ديفيد عنه هو خالد سعيد عبد الحق الذي هو بالأصل ابن سعيد عبد الحق، الرجل الذي جاء إلى ميريام في حيفا يبحث عن ولده الذي نسيه تحت النار وهرب، وأن يهودا هو ديفيد، وهو ذاته من الناحية البيولوجية خلدون سعيد عبد الحق الأخ الشقيق لخلدون سعيد، والآن خلدون قد اعتقل شقيقه، وألقى به في المعتقل محكوما بالسجن في سبيل الدولة" ص290، بعد هذا التقرير تزداد حالة "بين يهودا" سوءً، فهو الآن يعرف بأن ما حدث لعائلته في عام 1948 ما زال أثره حيا وفاعلا، لهذا تتوالى الأحداث وتتراكم فوق بعضها، بحيث يصعب حلها، أو إيجاد مخرج لها.
لكن إنسانية "بن يهودا" تجعله يطلق هذه الكلمات: "اللعنة عليك يا شلوموا" ص290، ويبدأ في خوض حالة من الصراع تجله ينحاز ـ حسب ما جاء على لسان الراوي ـ للضحية على حساب الجلاد الذي هو جزء منه: "فهم الآن شعور إستير بالضياع بعد الصدمات التي تعرضت لها، هذا هو معنى أن يكون الإنسان ضائعا بلا هوية واضحة ينتمي إليها، يختار طريقه بنفسه، هو الآن خليط حقير من البشر الذين لا ينتمي لأي منهم، فقد خدم الدولة بإخلاص، لكنها سبق وصنعت منه مسخا، ومن والده فرانكشتين جديد، الفرق أن فرانكشتين الأصل هو خليط من لحم الضحايا، بينما فرانكشتين الإسرائيلي الصهيوني خليط من لحم الأحياء، طفل فلسطيني تتم تربيته إسرائيليا ليقتل أخاه الفلسطيني" ص290و291. وهنا تنكشف حقيقة الدولة/ الإله "يهوه" المقدس، فهي/فهو مجرم بحق الإنسانية وبحق من يخدموه/ا، ولا يبالي بأحدا أيا كان، وبما أن الدولة/الإله مقدس فله أن يفعل بعباده وبخدمه ما يشاء، فهو صاحب القرار الذي لا يرفض أو يناقش.
"إستير"
مجموعة من الأحداث والعلاقات تجعل "إستير" تمر في حالة من عدم الاستقرار، علاقة الحب التي تنشأ بينها وبين "سليمان شاهين"، وهنا تقع أول مشكلة عند "إستير" فكيف لها أن ترتبط بشاب من غير دينها؟.
والمشكلة الثانية: بعد أن تقرأ أوراق "بن يهودا" السرية تعرف أن جذورها عربية ـ هذا قبل أن تعرف أنها أبنه بالتبني ـ وبعد أن تعرف أنها ابنة بالتبني تزداد حيرتها أكثر بحيث ترجح أنها من إحدى العائلات الفلسطينية التي جاءت إلى البحر وفقدت أبنتها، وهنا تكون المشكلة الثالثة، وما يؤكد أن جذورها عربية، لم يتقدم أي من الأسر اليهودية ليسأل عنها، كعادة اليهود الذين يملكون جهازا امنيا يبحث عن أبنائهم.
"إستير" تمر بحالة صراع أصعب وأعمق من تلك التي مر بها "بن يهودا" حيث علاقتها ب"سلميان" وجذورها العربية كلها جعلتها متطرفة في مواقفها، من صورة الصراع الذي تعانيه: "دارت الغرفة بإستير عندما عرفت أن بنيامين هو بن يهودا/ديفيد/ بن سعيد العائد إلى حيفا، عرفت أنها تنتمي للعرب، أبناء عائلة مطير قد يكونون أبناء عمومتها، بن شاهين قد يكون أحد أقربائها، أصرت أنها لا تشعر أنها عربية، هي يهودية علمانية، إسرائيلية، بل لا تستقر على وصف حالتها" ص150
إذا ما اخذنا فارق السن بينها وبين "بن يهودا" يمكننا ان نستوعب الحالة التي تمر بها، فهي لا تخفي "اضطراباها/صراعها/لخبطتها في حسم موقفها، فتظهر مشاعرها وأفكارها، ولا تبقيها في "غرفة الأسرار"، لهذا نجدها تخاطب "بن يهودا": "أسرارك الخاصة هي جذوري أيضا، بابا، وكما أن من حقك الاحتفاظ بها بين أربعة جداران، فإن من حقي أيضا أن أعرف من أكون؟" ص159، مثل هذه الصراحة والوضوح تشير إلى أن "إستير" لا تخشى خسارة أي شيء، فهي لم تعطي/تخدم الدولة كما فعل "بن يهودا" فهي ما زالت في أول الطريق، وتريد أن تحسم أمر هويتها قبل أن تغرق في خدمة الدولة/الإله، من هنا نجدها واضحة وصريحة ولا تخشى شيئا ولا تخشى أحدا.
حيوية الشباب تجعل ميول الفتاة متطرفة، ولا تخضع للسيطرة الأب أو الأم، ولا تنفيذ الأوامر والنصائح التي يوجهانها، لهذا نجدها تقف بصلابة أمام أمها عندما تحدثها عن ضرورة التخلي عن "سليمان":
"ـ : أنت ذاهبة إلى العربي، إستير، لقد غسل دماغك بأكاذيبه الملفقة.
ـ : أنا أيضا عربية ماما،، ألم تعلمي ذلك؟ لا خيار لي، لكني لست ذاهبة إلى بن شاهين حبيبي، إنه يقبلني كما أنا، يهودية أم عربية، أننتم فقط ترفضون العرب، أنا لا أحتمل أن أعيش غريبة، سألتحق بالجيش، سألتحق بوحدتي التي تدربت فيها، القائد قال لي أني سأكون مفيدة للوحدة" ص163، رغم قناعتها بأن العرب وحبيبها "سليمان" يحملون فكر أنقى وأكثر إنسانية من أمها، إلا أنها تقرر ان تقوم بعمل لا يتناسب وتلك القناعة، التحاقها بالجيش، وهذا التصرف ناتج عن حيوية واندفاع الشباب الذي يأخذ مواقف متطرفة ومتناقضة.
يفصل لنا الراوي طبيعة وخلفية هذا القرار ودوافعه:
"ـ : متى سنتزوج يا بن شاهين؟
ـ : عندما نكون جاهزين، حبيبتي إستير.
ـ : لديك أسبوعيا حبيبي، أما أن تتخذ قرارا بشأن الزواج، أو ألتحق بالجيش؟" ص172، حالة الاضطراب وعدم السيطرة على المشاعر واضحة فيما سبق، فهي تعاني من ضغط نفسي ولا تستطيع التخلص منه أو السيطرة عليه، لهذا نجدها: " تناولت حقيبة اليد، لكنها قبل أن تغادر، قالت:
ـ : هل تأخذني إلى مخيم الجلزون في مدينة رام الله؟
ـ : أريد ان أقابل صفية أو أي احد من أبنائها أو أحفادها، هذا أمر مهم جدا بالنسبة لي" ص172، إذن هناك مشاعر محتقنه، وتريد أن تتخلص منها، لكنها لا تعرف الطريق/الأسلوب المناسب لتفريغها، لهذا نجدها مضطرب الأفكار والأقوال، فتتحدث بشكل غير منسجم، تأخذنا إلى اليمن ومرة إلى الشمال.
تأكيدا على انفعالها: "ـ : أيه صفية؟ سأل بن شاهين،
ـ : صفية، المرأة في رواية عائد إلى حيفا وزوجها سعيد، أو أبناءهما أو أحفادهما، هل تأخذني إلى رام الله، اريد أن أعرف لماذا تركت جدي وراءها وغادرات إلى مكان آخر، كان بإمكانها البقاء والاختباء أو الانتباه لولدها، أو فداءه بروحها كما يدعي العرب فداء الأرض بأرواحهم؟ ص172.
نجد فيما قالته أنها تتحامل على العرب، أو تحمل "صفية وسعيد" مسؤولية ما يحصل لها، وما حصل لجدها "دوف" لهذا نجدها تطرح الاحتمالات التي كان من الممكن أن يفعلانها، ونجد الألم الذي يعتريها، فهي تتألم لما هي فيه، كما تتألم لما حصل لعائلة جدها أيضا،
يقدم لنا الراوي حالتها قبل ذهابها إلى الجيش من خلال هذا المشهد: "ناقشت إستير أن إثبات الهوية يجعلها بتناغم مع مجتمعها ومحيطها، فإن كانت أصولها عربية، فستنتمي إلى العرب بإخلاص وتناضل من اجعلهم وأن كانت يهودية الأصل فستناضل مع اليهود." ص229، لكن "سليمان" الفلسطيني العربي يوضح لها حقيقة جهلتها أو تتجاهلها كيهودية تربت على الفكر الصهيوني، يقول لها: "إن كان الانتماء للجماعة أكثر أهمية أم الانتماء للحب والحق والعدالة والإنسانية؟" ص229، من خلال هذه الفقرة يعري "سليمان" الفكر الصهيوني وحامليه، مبينا أن هذا الفكر مدمر لكل ما هو إنساني، مدمر للحق، للحقيقة، فالأوهام التي يزرعها في اليهود تجعلهم يفقدوا إنسانيتهم ويصبحوا وحوشا بشريا، وينظرون إلى أنفسهم على أنهم أعلى من بقية البشر، فهم يستمدون هذه الفوقية من الدولة، من الإله "يهوه"، من هنا نجدهم يقعون في مستنقع الصراع النفسي عندما يشعرون أن هناك شيء يمس تلك الأكاذيب والأوهام التي يزرعها الإله/الدولة فيهم.
من مظاهر الصراع التي تمر بها "إستير" هذا المشهد: " بكت كثيرا، وأصرت على الالتحاق بالجيش، ليس من أجل البحث عمن تنتمي إليه أو تثبت أنها تنتمي إليه، بل انتقاما من كل من حولها" ص230، حالة البكاء، ذهابها للجيش الذي جاء كرد فعل وانتقام ممن سببوا لها هذا الألم/الحيرة/الصراع، يجعلنا نتأكد بأنها غير مقتنعة بالجيش، وما ذهابها إلا كمن يقدم على الانتحار كرد فعل ـ العاجز ـ عن مواجهة وحسم الأمور كما يريدها.
بعد أن تشارك استير في العدوان على غزة، لا تستطيع النوم فتكون بهذا الحالة: "عندما تنام تشعر أنها تسقط في حفرة عميقة، ..بدأت إستير تعاني من نوبات صداع حادة لا تزول إلا بمسكن الترامادول" ص251، بعد هذه الحالة التي وصلت إليها تعرض نفسها على طبيب الوحدة وتخبره بحقيقة مشاعرها وما تعانيه من صراع فكري فيتم
إخراجها من المعركة، وترسل إلى طبيب نفسي للعلاج، وهناك تخبره بحقيقة من تعانيه: " لم تعد قادرة على احتمال التمييز والعنصرية، وتمقت فكرة التفوق التي يزعمها المجتمع والادعاء بالأفضلية على كافة شعوب الأرض من يسمون بالأغيار حسب الفكر اليهودي والصهيوني" ص255، هي صريحة في آرائها وواضحة، لا تخفي ما تفكر فيه وما يؤرقها، لهذا تتحدث بكل وضوح أمام الطبيب، الذي يقر بأن: "إنها تعاني من اضطراب في الهوية بالإضافة إلى أعراض الصدمة التي تلقتها في الحرب.
أنها تعاني بشدة من اضطراب فقدان الهوية.
الفتاة مضطربة، ضائعة بين كونها يهودية وبين حبها لعربي يصنف كعدو بين أقرانها، مشتتة بين ما أخبرتها به تسيبي من أنها متبناه ولا تنتمي للعائلة، كل ذلك كان قاسيا جدا" ص264. هذه حالة اليهودي عندما يتعرض لفكر/لموقف/لحالة تتنافى أو تتناقض أو تتباين مع الأفكار التي تزرعها الدولة، يزرعها الإله "يهوه" في أبنائه، فتجعلهم في ضياع وتيه لا يعرفون الخروج منه، فأي فكرا هذا؟ وأي اشخاص يقبلون أن يكون بهذا الخضوع والاستسلام؟.
يأتي الخلاص من مرض "إستير" من خلال "سليمان" الذي ما أن تقابله حتى " ألقت بنفسها بين ذراعي بن شاهين الذي وقف ليسلم عليها، عانقته بعنف وبكت بحرقة كانت يداها حديديتين وهما يلتفان حول عنقه" ص303، وهنا تبدأ حالتها في التحسن، يقول طبيبها حاسما الموقف بضرورة التخلي عن فكرة نقاء العنصر ونقاء شعب الله المختار : "الحب والقيمة الإنسانية هما الطريق الوحيد للشفاء الجيد يا عزيزي" ص305، ويحسم "بن يهودا" موقفه من الفكر الصهيوني الذي يحمله، ويحسم موقفه من زواج "إستير" ب "سليمان" فيقول: "اللعنة عليك يا شلومو، لقد صنعنا في إسرائيل فرانكشتين جيدا، من لحوم الضحايا الأحياء، لقد دخل فرانكشتين بيوتنا وتبلس أبنائنا" ص305.
النهاية والفنتازيا
الراوي يختم روايته بطريقة تنتصر فيها الضحية على الجلاد فيجعل "بن يهودا": "قبل شهور زار بن يهودا مخيم الجلزون كمستشار لجمعية أهلية غير ربحية (NGO) أقام كعضو لجنة مناصرة للشعب الفلسطيني، استضافه الناشط والكاتب محمد خالد سعيد عبد الحق في بيته، وناقش معه فكرة كتابة رواية عن جده سعيد عبد الحق، قال إنه سيبنى على ما كتبه غسان كنفاني في روايته عائد إلى حيفا" ص313، فيبدو وكأنه يبحث عما يعترف له بالخطيئة/الجريمة التي اقترفها جده "دوف"، ويريد أن يعوض الضحية عن شيء مما فقدته من جوع وحرمان.
ولا يكتفي الراوي بهذا، بل نجد "بن يهودا" يحاول أن يقدم اعتذاره ويصحح الخطأ الذي اقترفه جده "دوف" من خلال الاعتراف الجريمة التي اقترفتها "ميريام" من خلال: “ أوصى بنسبة الرواية إلى ابن عمه محمد خالد سعيد عبد الحق، قال أنه كتب ما استلهمه من نقاش محمد عبد الحق، ولولا نقاش محمد والأسئلة التي توقد ذهنه عنها ما استطاع إنجاز الكتاب" ص314. وكأن الراوي بهذا الاعتراف اراد ان ينصف الحق ويعيده إلى اصحابه.
اخطاء الرواية
في كل عمل إنساني لا بد من وجود بعض الأخطاء فيه، وهذا العمل لا يخرج عن هذه القاعدة، من هذه الاخطاء جعل المحامي "سليمان شاهين" يعرف الاسم الكامل لإدريس في الصفحة 137: "ما علاقتك بإدريس حمدان العتيق؟" لقد كان هذا اللقاء الاول بين "مايك سمرون" مع المحامي، فكيف عرف اسمه كاملا؟، اعتقد أن هذا خطأ وقع فيه الراوي.
ونجد خطأ آخر عندما أخبرنا على الكتاب الذي أرسله رئيس الجامعة إلى "بن يهودا" والذي جاء بهذه الصيغة: " رئيس الجامعة يستدعيه إلى المثول غدا بين يديه لمناقشة عدد من الشؤون الأكاديمية" ص 188، فكلمة "مثول" تعطي مفهوم أن هناك مشكلة ما، وأن اللقاء سيكون متعلق بأخطاء اقترفها "بن يهودا" وكأن الراوي يخبرنا ـ سلفا ـ بما سيكون عليه اللقاء، وهذا ما كان .
وهناك خطأ ورد في فقرة: " أبدى بن شاهين أسفه لما حدث مع تسيبي، قال بن يهودا أنه أوكل محاميا كبيرا ليترافع عنها في القضية، ربما شك أن إستير قاسية أو أن بإمكانها أن تفعل ما تريده بأي ثمن" ص301، الخطأ في "إستير" والصحيح هو "تسيبي" .
كتابة الراوية
جميل أن يتم تجاوز السرد المألوف في العمل الروائي، الراوي يحثنا عن طريقة اختيار العنوان من خلال: " وصل بعد قليل مندوب من دار "موريشت" للنشر والتوزيع ومعه طرد كتب عليه رواية رقص الكولونيل/ الجزء الأول، الرقص الوثني/ وطرد آخر كتب عليه أيضا: رقص الكولونيل: الرقص الملكي" ص310، وهنا العنوان والراوية متعلقة "بن يهودا" في مقابل دار النشر الإسرائيلية والمؤلم الإسرائيلي، نجد تدخل من "سليمان شاهين" المدافع عن حقوق الفلسطينيين، ليكون حق سردها لصالح هذا الشخص: "رفع المدعو محمد خالد سعيد عبد الحق، الروائي من رام الله قضية إلى المحكمة يدعي ملكيته وأحقيته بهذه الرواية، أن البروفيسور بن يهودا قد سرقها منه أثناء زيارته له إلى رام الله" ص313." فهنا يقدمنا الراوي من الحقيقية وأصحاب الحق اكثر ، ليكون صوتهم هو المسموع، وفعلا يتم أخذها إلى "مدير دار النشر "مساءات، ميلاد أبو حشيم" ص314، والذي يقدم الرواية لجائزة البوكر، طبعا هنا تلاعب من الراوي بالأسماء، والمقصود هو دار فضاءات ومديرها "جهاد أبو حشيش" لكن النهاية كانت مفاجأة لنا عندما قال الراوي: "محمد عبد الحق إنه لم يكتب الراوية، وإنما للرواية كاتب آخر هو من تواصل معه منذ البداية، لذلك فالرواية جملة وتفصيلا هي لروائي من القدس، هو الذي خلق الشخصيات، وابتكر المؤامرة الإبداعية" ص314، هنا كل شيء ضمن المنطق السردي، فهذا يمثل تجديد وتغيير في شكل السرد، لكن الراوي يفصح عن نفسه من خلال "إعلان" (26)، وهو آخر فصل من الراوية : "أعلن أنا إياد شماسنة عن تسامحي مع الحالة التي حدثت بعدما نشرت رواية "الرقص الوثني باسم بنيامين بن يهودا ثم باسم محمد خالد سعيد بد الحق. إن سعادتي عظيمة لأن شخصيات روايتي خرجت من تحت وصايتي الإبداعية واكتملت وأصبحت تنافسني" ص317.
وفعلا كان خروج الرواية إلى النور قد أدهشنا وأمتعنا، وجعلنا نتأكد بأننا يجب ان ننحاز للحق، وأن نبقي ألمنا متقدا إلى أن نأخذ حقنا، كما أخذ "محمد عبد الحق" حقه في سرد الراوية، وإلى يكون هناك من يعترف بالجريمة التي اقترفت في عام 1948،كما اعترف "بن يهودا".
بقي القول الرواية من منشورات فضاءات للنشر والتوزيع، عمان، الأردن، الطبعة الأولى 2017
نشرت فى 15 مايو 2018
بواسطة magaltastar
الحدث في رواية
"ضحى"
حسين ياسين
هناك اهتمام عند الفلسطيني بالتاريخ وبمجرى الأحداث، ونجده يركز على المكان وعلى علاقته الوثيقة به، في الآونة الأخيرة وجدنا مجموعة من كتاب الرواية الفلسطينية يتقدمون من التاريخ المعاصر والحديث في رواياتهم، كما هو الحال عند "إبراهيم نصر الله" و"أسامة العيسة" "أحمد رفيق عوض" وغيرهم وكأنهم من خلال هذه الأعمال يريدوننا أن نعي التاريخ ونتقدم من الحقيقة، حقيقة أن فلسطين للفلسطينيين، وأن جغرافيتها واحدة ولا يمكن أن تقسم، وما قام به الاحتلال الانجليزي والاحتلال الإسرائيلي هو تشويه وتغريب للواقع، واقع فلسطين وشعب فلسطين.
ما يحسب لهذه الرواية أن كاتبها "حسين ياسين" من فلسطين ال48، أي من أنه من الذين تعرضوا للاحتلال الأول لفلسطين، ومع هذا لم تستطع ماكنة المحتل التي عملت على غسل الأدمغة ومسح الذاكرة من أن تؤثر عليه، وها هو يقدم شيء من تاريخ فلسطين نجهله، أو بصورة أدق أنا أجهله ولم أك أعرفه، خاصة ذاك الذي يتحدث عن الألمان في فلسطين والطريقة التي هجروا فيها، وكيف تم سلب بيوتهم منهم، تماما كما فعل المحتل بالفلسطينيين.
هذه الروية مقسمة إلى ثلاثة أقسام، في كل قسم يحدثنا الراوي عن امرأة، وهن "تانيا، وضحى، وماري تريز" المرأة إذن هي محور الأحداث، وهذا يعطي اشارة إلى مكانتها عند الراوي ودورها الحيوي، واعتقد أن اختيار الراوي لأسم "ضحى" للرواية كان يقصد به تأكيد فلسطينيتها، فرغم أن هناك مأساة أصابت "ماري تريز" كما أصابت "ضحى" إلا أن الأولى وجدت دولة تعتني بها وتعطيها وطن، بينما "ضحى" لم تجد إلا التشرد والتنقل والإذلال من خلال التعامل معها من قبل "فؤاد عجمي وجاسم الربيعي" على أنها مجرد متاع قابل للبيع أو السلب، لهذا نجدها تتنقل من مكان إلى آخر بحثا عن الأمان والحياة السوية، فمن القدس إلى البصرة ومنها إلى بيروت، وبعدها إلى قرطاج حيث لقت حتفها هناك، على يد سكير سادي.
المكان
جمالية النص الأدبي يمكن أن تكون في الفكرة، أو الأحداث، أو الشخصيات، أو في المكان، أو في اللغة، أو طريقة السرد، أعتقد أن هذه الرواية فيها مجموعة من العناصر الجمالية وسنحاول أن نتحدث عنها قدر المستطاع, وسنبدأ الحديث عن المكان، الذي يعد أحد أهم العناصر التي يهتم بها الفلسطيني، وها هي "تانتشكا" عندما تتحدث عن "غوغول" أحد اعمدة الأدب الروسي تقول عنه: "غوغول من أعظم كتاب المسرح الروسي، حج إلى القدس في عام 1848... من هنا كتب يقول: إن زيارتي للقدس هي الحدث الأهم في حياتي، هنا يختفي كل ما هو أرضي عندي، فلا يبقى سوى ما هو سماوي" ص31، عندما يأتي هذا الكلام على لسان أحد أعلام الأدب الروسي وفي عام 1848، بالتأكيد يعطينا اشارة إلى المكانة التي تحملها المدينة ليس بالنسبة لأصحابها الفلسطينيين فحسب بل لكل المؤمنين، ولكن المثقفين، ولكل الأدباء، فهي أكبر من ان تختص بجماعة معينة تريدها عاصمة لها.
إذا كان للقدس حضور عند الروس فكيف سيكون حضورها عند الفلسطينيين؟، بالتأكيد سيدخلها الراوي إلى أدق تفاصيها: "...نمر بالقطمون، إلى جبل صهيون ثم نعود إلى المصرارة مرورا بجورة العناب... إلى حي سعد وسيعد والشيخ جراح وشعفاط، وأحيانا شطحة أبعد، إلى عين كارم والمالحة ودير ياسين ولفتا أو بيت لحم وبيت ساحور وبيت جالا" ص151، هكذا حال الفلسطيني، يتناول أدق التفاصيل للمكان، وكأنه من خلاله يريد أن يقول لنا: أنا صاحبه لهذا تجدني أعرف كل شيء فيه وعنه.
لكن بعد أن تغريب المكان وتهويده، أصبح هناك تشويه له وللحقيقة، وكان لا بد من ذكر ذاك التغريب والتهويد والتشويه الذي أجراه المحتل على المكان، "معالم القدس تغيرت أو غيرت بالقوة، فالكولنيالية تقوم على تغيير صك الملكية من الساكن الأصلي إلى الجديد، ... ثم تغير تاريخها، أو تخرع تاريخا جديدا وتفبركه، إنها تسرد تاريخ الأمة طبقا لمصالحها ووجودها، وتصنع رموزا جديدة تتعرف فيها على نفسها فيها، الطالبية أصبحت "كوميموت" والقطمون أصبح "غونين" والبقعة أصبحت "غيؤوليم" حتى القدس يدعونها يروشلايم" ص160، هذه احدى اهم سمات الأدب الفلسطيني، تركيزه على المكان، المكان الذي يعرفه باسمه الحقيقي، وبتفاصيله الدقيقة، لهذا نجده يكتشق أي تشويه يحدثه المحتل، أن كان من خلال التسمية أو تغيير معالمه.
وتحدثنا "ماري تريز" عن القدس التي عاشت فيها وتزوجت فيها، تقول: "... وجاء القنصل الألماني ممثل الوطن الأم في القدس، وجاء قائد الشرطة التركي ومحافظ المدينة، وجاء بعض جيراننا العرب، واليونان، والأرمن والروس والطليان فالقدس مدينة متعددة الشعوب والأعراق" ص294، نجد الحياة المدينة بكل جلاء فيما سبق، حيث المجتمع المدني المتعدد والمتنوع، فلا يوجد أي حواجز بين سكان المدينة، كلهم يتشاركون في الأفلاح، فالمدينة استطاعت أن تصقل السكان وتوحدهم، بحيث لا نجد أي فوارق تحول دون أن يتشاكون في الأفراح.
الملفت للنظر أن الراوي قدم لنا صورة للقدس من وجهة نظر الروس "غوغول" والألمانية "ماري" وهذا يؤكد على أن المدينة أكبر من أن تكون لجهة معينة، حتى لو كانت أصيلة، فما بالنا أن كانت دخيلة عليها وعلى سكانها؟، من هنا، ومن خلال استخدام الراوي لهذا الشكل من الطرح، يمكننا القول أن الراوي كان ذكيا في تناوله لمكانة مدينة القدس، فعندما يتحدث عنها الروسي والألماني بهذه الروح بالتأكيد هو يعزز الموقف الفلسطيني الذي يقول أن المدينة مفتوحة للجميع، ولم تكن يوما محظورة أو ممنوعة على أي من المؤمنين، بصرف النظر عن قوميتهم، وواهم كل من يعتقد أنها يمكن ان تكون لجهة دينية مغتصبة لها.
الفلسطيني
كما يهتم الكاتب الفلسطيني بالمكان فإنه يهتم بالإنسان، لهذا نجده لا يتوانى عن ربطهما معا، فتغريب المكان ملازم لتغريب الإنسان، فهما توأمان في كل شيء، ومتماثلان، "...جفت سواقينا، وشنقوا البلبل الشادي، خمدت الأرض، ومن كثرة مجازرهم، فدفناهم، بلا أكفان، في رجم وفي وديان، أزاحونا، من ديار، كانت لنا، ...
وسعوا سياجهم وقالوا:
هبة الله وعدل القوي
وقف الزمان في المكان، من يومها تتردى الأحوال.
فهل نرحل!؟" ص141، هذه أحدى المأساة التي يعاني منها الفلسطيني، فهو مطرود من وطنه وما زال طريد الاحتلال، ويعاني من التشرد وافتقاده للوطن، ومن الفقر والجوع والذل الذي يجده من الآخرين، إن كانوا أعداء أم أشقاء.
ويقدم لنا الراوي مأساة الفلسطيني في المكان، وكأنه ابن فقده وهو شباب: "ترى! من يكون قاطن البيت الآن؟ هل أقرع الباب، برفق واستجدي إذن الدخول؟ وهل يستأذن صاحب البيت؟ وماذا عساني أقول لقاطن داري؟، جاء من بعدي؟ واستباح مهدي وجهد أبي؟ وأنزل صورة جدي عن الحائط؟ وبعثر كتبي وخزانة أمي؟ وغير ديكور البيت والستائر؟" ص167، هذا واقع الفلسطيني الذي يزور بيته/وطنه ولا يعود أليه ـ حسب تعبير الشاعر "أحمد دحبور" ـ فالمكان له، وحاضر أمام نظره، لكنه بعيد جدا عنه، فأمامه المحتل وما أحدثه من خراب/تشويه/تغريب فيه، هذا واقع الفلسطيني، وطنه أمامه لكنه ليس له، وهنا تكمن مأساته، الوحيد في العالم الذي له وطن لكنه لا يستطيع أن يتمتع به.
لهذا نجد هذا القول الذي يعبر عن واقع الفلسطيني: "ألم البقاء في حيفا أرحم من دموع العودة إليها؟؟؟" ص223،
لكن لم تتوقف مأساة الفلسطيني عند هذا الأمر، فهو محزون ومأزوم، وفي ذات الوقت ينعم المحتل في فرح وبهجة: "يوم النكبة للفلسطينيين هو يوم تأسيس إسرائيل، يوم عذابنا وضياعنا هو يوم وجود كيان للإسرائيليين... لكم حرب الاستقلال والنصر، ولنا النكبة والتهجير، يوم واحد له حكايتنا مختلفتان" ص180، مأساة مزدوجة، عندما يكون الفلسطيني في غاية البؤس نجد في ذات الوقت ـ عدوه، من سلب أرضه ـ في غاية الفرح والسعادة، لهذا يكون ألم الفلسطيني ألم مزدوج، فلو كان هناك تعاطف مع مأساته من خلال توقف أعمال الاحتفال لكن وقع المأساة عليه أخف،، لكنه يتألم، ومن أحدث له المأساة يفرح مبتهجا.
الألمان
كما قلنا في بداية الحديث أن الألمان في فلسطين تعرضوا للبطش الاحتلال الانجليزي واليهودي كما هو حال الفلسطينيين تماما، فقد تم تهجيرهم وسلب بيوتهم وممتلكاتهم، فقد استطاعوا أن يحدثوا نقلة نوعية في الاقتصاد الفلسطيني وفي الحياة العامة فيها، فهم لم يأتوا إليها كمحتلين لهذا وجدناهم يعمروا فيها ويشقون الطرق ويطورون الانتاج الزراعي والصناعي: "ساهم التمبلر بنهضة البلاد من انحطاطها وتخلفها فقدموا أشياء كثيرة: العربات التي تجرها الخيول كوسيلة مواصلات الأمر الذي طور فروع المواصلات والتجارة والسياحة، إقامة شبكة فنادق ضخمة على المستوى الأوروبي في كل من الناصرة، القدس، حيفا، يافا، طبريا، الرملة.. وكذلك قادوا زرعة حديثة فكانوا أول من أدخل المحراث الحديدي، وأول من زرع الأرض بموسمين في السنة، وأول من أدخل مضخات المياه والمطاحن ومعاصر الزيت بواسطة البخار والغاز، وأول من أدخل حظائر صناعة لقطعان البقر والنحل والدجاج، وطور الحرفة والصناعة إلى مستويات أوروبية عالية" ص276، من هنا كانت معاقبة الألمان قاسية، فالاحتلال الانجليزي والإسرائيلي يعملان على ضرب أي نهضة أو حركة تطور في الحياة الفلسطينية، فهم يسعون إلى تحوليها إلى خراب لتكون لهم بعد أن يهجرها/يتركها أهلها، من هنا نجد الألمان تعرضوا لبطش وإرهاب تماما كالفلسطينيين، فهم يعدو أحدى العناصر الحيوية في الحياة الفلسطينية، كما أنهم يخدمون فكرة التعدد والتنوع التي تنعم بها فلسطين، والاحتلال يريدها بلون واحد، لون الإسرائيلي فقط.
المحتل يعاقب الألمان على ما أحدثوه من نقلة نوعية في الحياة الفلسطينية، لهذا نجدهم يقموا بهذا الفعل: "ندخل بيوت الألمان المهجورة، أبوابها مكسرة أو مقلوعة من مكانها، "نسحب" كل ما تطاله أيدينا، نفكك كل ما يمكن تفكيكيه" ص311، فهم لا يريدونهم في فلسطين، ويريدهم العودة إلى ألمانيا، لأن التعمير والبناء في فلسطين لا يخدم الاحتلال الانجليزي ولا الحركة الصهيونية، لهذا عملا جاهدين على أحداث أكبر الضرر بهم وبممتلكاتهم.
وسنجد الاحتلال يعاملهم كأسرى حرب، رغم أنهم لم يشاركون في أي حرب، فقد كان المقصود إذلالهم وإجبارهم على ترك فلسطين: " ...بعض المعتقلين من نساء وأطفال وعجائز، تمت مبادلتهم مع أسرى حرب، يهود من فلسطين (من الكتيبة العبرية) ... هل نحن أسرى حرب؟ من أية جهة أخذونا؟ هل نحن عابرون في هذا الوطن؟" ص331، بهذه الوحشية تم التعامل مع سكان فلسطين الألمان، فهم كانوا يعتبرون أنفسهم جزء من سكان فلسطين، لكن المحتل والحركة الصهيونية نسفوا كل احلامهم وحولوها إلى كوابيس لا تطاق.
وكعادة أي احتلال غاشم تم التعامل مع الألمان ومع حقوقهم المدينة والمالية بطريقة قذرة: "سنة 1964 وقع اتفاق "تعويضات" بموجبه تعوض الحكومة الإسرائيلية التمبلريز، عن ممتلكاتهم في مستعمراتهم الخمس/ مبلغ 54 مليون مارك، ما يعادل 11 مليون دولار أمريكي..
وهذا المبلغ لا يعادل ثمن بيت واحد، بيت فرنك مع حديقته ذات الستة دنمات" ص340، خاتمة كخاتمة الفلسطيني تماما، فما أخذ من تعويضات لا يعادل واحد في الألف من القيمة الحقيقة لثمن البيوت والأراضي المصادرة، وكما أن عملية التعويضات تمت من خلال منطق الأمر الواقع وليس من خلال رضى الطرف الألماني.
كل هذه الحقائق لم نعرفها إلا من خلال رواية "ضحى" وهذا ما يجعلنا نقول أن العمل الروائي/الأدبي لا يمكن أن نختصر تألقه بناحية معينة، بل من خلال مجموعة عناصر تتآلف معا، منها الفكرة، المضمون الذي يقدم فيه، وهذا ما فعلته رواية "ضحى" تحديدا.
المحتل
لم يبالغ الفلسطيني في تقديم المحتل، فقدمه على حقيقته، كما هو، دون مغالاة أو نقصان، كما جعله يتحدث بلغته هو، ولم يستنطقه أو يجبره على قول بعينه، وليس هناك أبشع من احتلال استيطاني يعمل على سلب الأرض وقتل أو تشريد او محو أهلها من الوجود، سنجد حقيقة المحتل من خلال هذا القول: "...نحن لا نترك الأمور للأقدار.. ولا "نلقى الحبل على غاربه" إذا قتلت فرصاصتان: واحدة تقتل والأخرى تؤكد القتل" ص190، هذا ما جاء على لسان "شمعون ابن حسون" فالقتل عنده ادة لتحقيق الهدف الصهيوني والمتمثل بإلغاء الفلسطيني من الوجود، أو لإلغاء أي تواجد إنساني غير يهودي في فلسطين.
تحدثنا "ماري تريز" عن الجريمة التي اقترفها أحد أفراد الاحتلال في تفريغ الحي الألماني من ساكنه فتقول: "دخل غلى معسكرنا رجل "غاضب" جاء من مستوطنة كفار دفيد القريبة، أطلق نارا عشوائية على جموع التمبلريز. نفذت ذخيرته فركض بيتر "الطبيب" يسعف الجرحى، لكن الرجل "الغاضب" بدل "الباغة" بسرعة وأطلق النار على بيتر... سقط عماد البيت ورب العائلة" ص333و334، هذا هو الصهيوني على حقيقته، قاتل وإرهابي معا، يقتل لمجرد القتل، وما يهمه فقط إفراغ الأرض من سكانها، فلا يراعي صغير أو كبير، ولا يأخذ بالحسبان أن من يقتلهم هم بشر وليسوا طراد برية.
المحتل لم يقتصر على أسلوب القتل في إفراغ الأرض من سكانها، لكنه استخدم طرق أخرى، منها استغلال ظرف القمع الذي يمارس على الناس، واجبارهم على بيع بيوتهم أو بيع ما فيها من أثاث، حتى إذا ما هدئت الأمور لا يجدوا شيء يساعدهم على البقاء، تخبرنا "ماري تريز" عن هذا الأسلوب فتقول: "...ما أكد سوء أخبار الجبهة كثرة اليهود الذين راحوا يعرضون علينا شراء أثاث بيوتنا، جاءوا إلى البيوت الألمانية كضباع مفترسة، في محاولة أن "يخطفوا" الكثير مقابل ثمن قليل، ساوموا على الأثاث بعناد لا يوصف، كما يحسن عمله "تاجر البندقية". وسيلة إقناعهم كانت: "ممتلكات ستصادر ولن تحصلوا على أي تعويض" ص301.
الانجليز
صورة الانجليزي لا تختلف عن صورة المحتل الإسرائيلي، فكلاهما مارس القتل والإرهاب بحق الفلسطينيين، الأول مهد الظروف والأرض والسكان للثاني، تحدثنا "ماري ترز" عن الانجليز بعد أن دخلوا فلسطين مباشرة: "في منتصف عام 1918، والحرب قد أشرفت على نهايتها، وقد مضى على البريطانيين في القدس شهور عديدة، قام الجيش بنهب أثاث المدرسة من كراسي مقاعد .. ومزق صور رجالات الدولة الألمانية العظماء، ثم قام بحملة اعتقالات لكل الرجال التمبلريز بتهمة: "أنهم مواطنو دولة عدو وأنهم ساهموا في المجهود الحربي الألماني" ثم نفاهم إلى معسكر اعتقال في حلوان المصرية" ص302، الطريقة التي استخدمها الانجليز في معاملة السكان عين الطريقة التي استخدمها ويستخدمها المحتل الآن في فلسطين، فبعد أن تم زج الألمان في معسكرات الاعتقال، قام الانجليز: "استوطن الجنود والضباط البريطانيون في بيوتنا المهجورة... يومها كان مسموحا للضباط أن يستخدموا أسرى الحرب. شال الحمالون كل ما استحلته عيوننا ووسعه "بيتنا"... بعض الأسرى كانوا في الباس الأحمر، في خاصرتهم سلاسل حديدية مربوطة بأرجلهم... لاحقا علمت أنه محكوم عليهم بالإعدام" ص304.
ما فعله الاحتلال الانجليزي في فلسطين كان قتل وسلب وتشريد وتهجير، تماما كما فعل الاحتلال الإسرائيلي لاحقا، وكأنه كان يعلم الأبن الإسرائيلي على الطريقة التي يمكنه من خلالها أن يثبت وجوده في الأرض الفلسطينية.
الجدار الفصل العنصري والأسلاك الشائكة والبوابات والممرات الحديدية كلها أحدثها الاحتلال الانجليزي في فلسطين: "قسم البريطانيون المدينة إلى أربع مناطق " "aأقاموا حول حينا سياجا شائكا وفرضوا حراسة على مدخل الحي، أصبحنا نتنقل بتصاريح خاصة تحدد المناطق الممنوعة والمسموحة، تضيق القدس كثيرا، وهي في الأصل مدينة صغيرة.." ص323، وكأننا نتحدث الآن عن نابلس أو الخليل أو أي مدينة فلسطينية أخرى، فالأب الانجليزي المؤسس للاحتلال أعطا الأب الإسرائيلي كل الطرق والوسائل والارشادات التي يجب أن يتبعها ويستخدمها، فهناك خطة مرسومة بدقة، تمارس في فلسطين منذ أن احتلالها الانجليز لتفريغها من السكان، وتحويلها إلى دولة وأرض يهودية خالصة.
السوفييت
هناك أثر تركه الاتحاد السوفييتي على كل من درس وتعلم فيه، فالفلسطيني أصيل يحافظ على المعروف، لهذا نجد الراوي يخبرنا عن الاتحاد السوفييتي بهذه الصورة: "... السر في جواز سفري أن الشعب السوفييتي مضياف جدا، يعامل الأجانب كضيوف مهمين، يلبي رغباتهم ويسد احتياجاتهم... ومرة أخرى، عندما أصدرت السلطة الثقافية الأعمال الكاملة لدستيفسكي، كان الدور طويلا جدا، وقف الناس، في البرد، تحت تساقط الثلوج أكثر من ثلاثين ساعة (أنا لا أبالغ) يا إلهي! هل هذا نهم إلى الثقافة؟ كان جواز سفري الأجنبي "الساحر" أختزل الزمن والمسافات.. احتضنت تانتشكا الكتب، ترضعها، كأنها طفل أعادوه إلى ثدي أمه بعد جوع" ص33و34، بهذه العطاء وهذه الثقافة امتاز السوفييت، فهم شعب مخلص لقضايا الأممية وأيضا مثقف ويهتم بالثقافة، ولهذا وجناه يقف لعدة ساعات فقط ليحصل على المادة الأدب، أو لشاهد المسرح.
عقلية المهزوم
مهم جدا أن نصارح أنفسنا، فنحن كشعب وكأمة مهزومين، ولنا طريقتنا في تبرير هزيمتنا، من أشكل هذه التبريرات العودة للماضي، للتاريخ: "...فيبقى مشدودا إلى قلاعه السالفة، موثقا بأوتاد ماضيه، يجتر أيامه الغابرة، يديم وتين ناض لا هدف له، يسعى إلى إدامة نفسه، يتفنن برسم صورته المشتهاة، صورة الضحية، كأنه يبحث عن إله يعبده، يؤجل المستقبل، فلا يبحث عن طموحه، إلا في رجوع إلى سالف" ص145، اعتقد أن دور المثقف لا يقتصر عن تقديم الأمل بل البحث عن مواضع الخلل التي تعاني منها الأمة/الشعب، وهذا ما كان في رواية "ضحى".
الرمز
رغم أن الرواية تحدث عن حدث واقعي، إلا أن الراوي أوجد بعض المواضع الرمزية في الرواية، وكأنه بها أرادنا أن نخرج من ثقل الواقع وبؤس الحال، إلى التفكير والتوقف متأملين أكثر منا متلقين: "أن الروح تستأذن الله بزيارة جسدها الذي كانت تعيش فيه بعد ثلاثة أيام من مغادرتها له.. وعندما ترى الروح جسدها السابق في المقبرة وسط الدم والمياه القذرة بحالة مؤلمة تحون وتبكي قائلة "يا للجسد المسكين، جسدي السابق" ص165، فهو هنا أرادنا أن نربط حال الروح والجسد بحال الفلسطيني الذي اجبر على هجرة وطنه مكرها.
"ضحى"
يستوقفنا عنوان الرواية "ضحى" فهي المرأة التي كانت نشيطة حزبيا وتعمل بكل اتفان لانتصار قضيتها، لكنها بعد الاحتلال وبعد أن اجبرت على ترك وطنها فلسطين نجدها في حال غير حالها، فتتحول إلى العمل في احدى خمارات البصرة: "ضحى، الشقية المتمردة، قارئة الكتب وعاشقة الأمل والمستقبل الجميل، ضاقت ذراعا بهذا المؤقت الطويل، تركت جبالا، غربي النهر وارتحلت إلى أخرى شرقية، هنا، أطبقت عليها فداحة الخسارة، بعد أن تجرعت كؤوس الهوان، حتى الثمالة، تدحرجت في منزلقات الشرق، لسوح في اله=عالم، من حيطه المسلوب إلى خليجه المنهوب ... إلى أن جاءت خمارة البصرة، هنا شلحت عذريتها، وتنصلت من خسارتها... لطلاب المتعة من :عرب وعجم وعلوج، لكم، ليلي المسدول على أردافي .. ببعض قروش" ص201، هكذا يكون حال المكسور المتقهقر، فبعد الثورة والتمرد نجد، المرأة، والتي من المفترض أن تعامل بلطف ونعومة ينكشف لها الواقع بكل سفالته ليسحقها بين أنيابه الصفراء، فيحولها من امرأة مثالية إلى مومس في الخمارات.
بعد الصراع بين المتوحشين "فؤاد عجمي وجاسم الربيعي" نجدها تقبل على الزواج من "جاسم الربيعي" الذي عاملها كجارية ليس أكثر: " اكتشفت ضحى أن حالتها الاجتماعية ليست زوجة ذات حقوق وأمل في الخلفة، با جارية مملوكة، إن ولدت فأبن زنا، وأن شاء جاسم الربيعي نسبه إليه وإن شان رفضه ورفضها... احتجز وثيقة سفرها، وكل أوراقها الثبوتية، ... عطل الهاتف.. حتى حليها ومساحيق تجميلها، أخذها .. ثم منعها من أن تخرج من البيت أو تلتقي بالناس، حتى لو كانوا جيرانها.. وزيادة في حرصه فقد جز شعرها ... صادر الشعر الأسود الطويل.. في الحقيقة سلبها هويتها الإنسانية أفكارها الوردية وعلامات أنوثتها" ص206و207 ، لهذا نجدها تقرر أن تتمرد على هذا الواقع، وتهرب إلى بيروت، وهناك: "بدلت أحزابا وغيرت انتماءات، وما استقرت في فصيل" ص208، ثم تهاجر إلى "قرطاج" وهناك تلقي حتفها على يد "البحار" بهذه النهاية البائسة انتهت "ضحى"، نهاية تكمل مأساتها كفرد من أفراد الشعب الفلسطيني الذي ما زال يعاني الجوع للوطن، الوطن الذي منه وبه يستطيع أن يتقدم من الحياة بأمل وعطاء.
الحكم
في كل رواية يضع الراوي خلاصة نظرته للحياة في عمله الأدبي، وهنا سنجد مجموعة من الحكم التي نمثل رؤية الراوي لواقعه كفلسطيني يعاني من القهر الذي تمارسه قوى الاحتلال عليه:
"أكلب حقك بإلحاح .. ولا تساوم" ص13.
ويحدثنا المقاتل السوفييتي عن هول الحرب فيقول فيها:
"لن نحارب يا صغيرتي بعد اليوم، فالحرب جهنم على الأرض، لا يعرف لظاها إلا المحارب" ص111.
وتحدثنا الفلسطيني عن ألمه من خلال اقتباس عبارة من الكوميديا الإلهية:
"إنه لا ألم أشد من تذكر عهود الهناء في أيام البؤس" ص144.
وتحدثنا "ضحى" عن رؤيتها عن ضرورة الانتقام من خلال قولها:
"الانتقام العادل فعل إنساني، فإن لم تكن للضحية حقوق على القاتل، لن يكون هناك عدل ولا إنسانية، لعل الانتقام يمنح الإنسان شعورا ممتعا بالراحة والعادلة" ص216.
وتخبرنا "ماري تريز" عن حالتها بعد أن فقدت وبيتها في وطنها فلسطين: "من يفقد حلمه، لا تعنيه اتجاهات الرياح" ص340.
الرواية من منشورات دار فضاءات للنشر والتوزيع، عمان الأردن، الطبعة الثانية 2018.
نشرت فى 10 مايو 2018
بواسطة magaltastar
مناقشة رواية "أسطورة الأموات"
ضمن الجلسة نصف الشهرية التي تعقدها اللجنة الثقافية في دار الفاروق تمت مناقشة رواية "أسطورة الأموات" للروائية الفلسطينية انشراح لدادوه، وقد افتتح الجلسة الروائي "محمد عبد الله البيتاوي" منوها إلى أن هذه الرواية قد حصلت على المرتبة الثالثة في مسابقة "عزت الغزاوي للرواية" التي عقدتها دار الفاروق، فالكاتبة وجدت نفسها كاتبة بالصدفة، بعد أن كتبت "أسطورة الأموات"، فعندما قرأت الرواية لأول مرة وجدتها رواية تستحق التوقف عندها لما فيها من خيال جامح، ولأهميتها من ناحية الفئة التي تستهدفها، فنحن بأمس الحاجة إلى أدب الفتيان حيث هناك شح كبير في إنتاج هذا النوع من الأدب، وقبل أن نبدأ النقاش نتمنى الشفاء لزميلنا الشاعر "جميل دويكات" الذي عاد إلى أرض الوطن بعد سفره إلى الأردن للعلاج.
ثم فتح باب النقاش فتحدثت الروائية "خلود نزال" والتي قالت: أننا أمام رواية للفتيان، وهذا واضح من خلال اللغة السهلة والسلسة، من هنا يمكننا أن نقرأها في جلسة واحدة، لكن لي بعض الملاحظات، رغم وجود الغابات في بلادنا إلا أن وجود شجرة الزيتون فيها لم يكن منسجما مع الواقع، كما أنني وجدت حديثاً غير منسجم أو متماثل مع دور الأم ومكانتها، وعلى مستوى الفكرة فإنني أطرح سؤالا عن الهدف من الرواية، والمغامرة التي جاءت فيها؟، كما أنني وجدت لغة في بعض مقاطع الحوار أكبر من عمر الطفلة والتي لم تتجاوز العشر السنوات ولا تتناسب وعمرها كما هي الحال في الصفحة 37، على العموم تبقى اللغة السهلة كافية لتجعل من الرواية شيقة وسهلة التناول.
ثم تحدث الأستاذ سامي مروح قائلا: نرحب بالكاتبة ونهنئها على الرواية وفوزها بالمرتبة الثالثة، في ما يتعلق بالرواية رغم أنها كتبت للفتيان وجدتها تحمل شيئا من الفلسفة مثل العلاقة بين الموت والحياة، كما أن للفراش حياة تتكون من ثلاثة أطوار، وتجد فيها ـ إذا ما أخذنا عمرها القصير جدا والذي لا يتجاوز سبعة أيام ـ ما يتماثل وعمر الإنسان الذي يعمر ستين سنة، فالموت لم يكن فعلا أو حدثا عبثا ليس له غاية، "كان جدي يجد في الموت منفعة" وهذا يؤكد أهمية دورة الحياة على الأرض، كما أننا نجد في صوت الأب والأم مع الأطفال بعض الدلالات التي تشير إلى علاقة الكاتبة بالأطفال، فتبدو كأنها متمرسة في التعامل مع الأطفال ولهذا وجدنا الرواية موجهة إلهم، ونجد الفانتازيا في الرواية من خلال حديثها عن الصخور، أما بخصوص الشخصيات فكانت لغتها مستقلة ولم تتدخل الكاتبة فيها، وبخصوص الزمان والمكان فقد كانا مفتوحين ولم تحددهما الكاتبة، ما يجعل الرواية تميل نحو الإنسانية وليس إلى منطقة بعينها.
وتحدث الأستاذ "محمد شحادة" قائلا: نحي الكاتبة على هذه الرواية ولتي تتناول مغامرة الأطفال في غابة مجهولة المكان، وفي زمن غير محدد، ففكرة الموت فكرة تؤرق الإنسان منذ بداية تشكيل الفكر الإنساني، وهذا بحد ذاته يعد طرح يستوقف القارئ ويجعله يفكر في الحياة والموت، واعتقد أن فكرة الموت والنوم قريبتان من بعضهما، فيمكن للإنسان أن تأتيه العديد من الأشياء/الأفكار/الأحلام وهو نائم، مما يجعله ـ يخرج ويتحرر ـ من الواقع إلى ما هو أبعد منه بكثير، ففكرة الرواية التي تتحدث عن دخول أطفال إلى مكان محظور وخطر تعد فكرة تتجاوز الأفكار المحافظة والتقليدية، فهذا الدخول للغابة يعد سبرا لأغوار المجهول وعدم البقاء أمامه، لهذا فإن فكرة الرواية فكرة تنويرية، كما أننا نجد في غابة التوت عالما يتماثل مع واقع الحياة، ونجد فيها بعض الرموز مثل "عصا الجد، غابة التوت، اليرقات، الفراشات، وفي الختام نقول أن هناك بعض الأخطاء المطبعية كان يمكن تلاشيها.
أما الأستاذ "رائد الحواري" فقال أننا بالتأكيد أمام عمل روائي مهم وحيوي لأننا نفتقد هذا النوع من الأدب الموجه للفتيان تحديدا، فاللغة السهلة كانت عامل جذب وإمتاع للقارئ، لكن أحب أن أسأل الكاتبة بما أنها حاضرة: كيف أمكنها أن تكتب هذه الرواية وبهذا الإبداع؟ وهل هناك تأثيرات معينة من كتب أو أفلام أثرت عليها؟ وهل كانت تتوقع أن تكون روايتها بهذه الجودة قبل أن تكتبها؟.
أما الاستاذ "نضال دروزة" فقال: نرحب بالكاتبة ونحييها على الإنجاز، فالعنوان "أسطورة الأموات" وجدته صعبًا على الكبار فكيف سيكون أثره على الصغار؟ والعنوان الأنسب هو "مغامرة الفراشات" لأنه يعطي الطفل فكرة المغامرة والدخول إلى عالمها المجهول، فالرواية من هذا المنطلق مهمة وحيوية وذات أثر إيجابي على المتلقي، لكن لي ملاحظة تتمثل في أنني وجدت ـ أحيانًا ـ أن هناك فصولاً أكبر من مفهوم الفئة المستهدفة، فئة الفتيان. وقالت الأستاذة "عائشة سلامة" قرأت الرواية قبل أن تكون في كتاب، فوجدت "انشراح" الطفلة المغامرة، التي تبحث في وعن المجهول، فالخيال الواسع كان الأهم في الرواية، لأنه يمثل التحرر وتجاوز الواقع إلى ما هو أبعد منه، فاللغة السهلة وطريقة تقديمها الأحداث كلها جعلت الرواية عملاً جميلاً وممتعًا وسهل التناول .وفي الختام تحدثت "انشراح لدادوه" فقالت: العنوان مناسب تمامًا، لولا خيرت مرة ثانية قبل طباعة الرواية اخترته مرة ثانية، هناك أفكار كثيرة تحملها الرواية وعلى القارئ البحث عنها وفيها، أما بخصوص تأثري بأعمال روائية أو أفلام معينة، فبالتأكيد هناك أثر لسلسلة الألغاز "المغامرون الثلاثة والمغامرون الخمسة والشياطين الثلاثة عشر"، فعقل الطفل يبقى يحتفظ بما يأخذ من أفكار ومشاهد وصور، لهذا تجد الرواية سهلة اللغة وتتناسب وعقل الطفل، أما بخصوص الأمهات فأحيانًا نجدهن يقفن حائلاً أمام طموح الأبناء، لهذا قدمت الأم حسب الزمن والظرف الذي يخدم فكرة الرواية ـ فكرة دخول الأطفال إلى غابة التوت ـ وأخيرًا ورغم حرصي على أن تكون الرواية كاملة فقد حدثت بعض الأخطاء التي أعتذر عنها. وقد تقرر مناقشة رواية "سكوربيو"لعادل محمد فودة" في أول يوم سبت بعد عيد الفطر إن شاء الله..
نشرت فى 8 مايو 2018
بواسطة magaltastar
مقال للشاعر فراس حج محمد
حول القراءة ومظاهرها غير الثّقافيّة
فراس حج محمد/ فلسطين
في كلّ مقالة تنشر حول القراءة، وفي احتفاليّات معارض الكتب الوطنيّة والدّوليّة، ثمّة أسئلة تثار في كلّ مرّة حول جدوى القراءة وفاعليّتها، تعيد التّفكير ذاته وأنت تقرأ هذا السّيل الكبير من اللّغة الإنشائيّة المادحة للقراءة، كأنّها العصا السّحريّة الّتي ستغيّر وجه العالم ومسار التّاريخ، وما يلاحظ على هذه المقالات، وخاصّة الصّحفيّة منها، ميلها إلى التّبسيط الكبير إلى حدّ السّذاجة، ما يدفع الإنسان في أحيان كثيرة إلى الضّحك المُرّ، لما وصلت إليه حالة التّفكير المفرط في استدعاء الخيال. أتذكّر أحد المسلسلات المصريّة، لم أعد أذكر اسمه، ويظهر فيه الممثّل "هادي الجيّار" قارئا نَهِما، ماكثا في بيته، لكنّه كان كما ظهر في المسلسل سلبيّا إلى درجة تجعلك تعاف القراءة، وتكره الكِتاب، والشّيء نفسه يقال عن بعض المقالات؛ فلا جديد بين ثنايا سطورها، اللّهم إلّا من باب "ذكّر فإنّ الذّكرى تنفع المؤمنين"، ولكنّها للأسف لم تعد تنفعه، بقدر ما صارت تضجره.
أضف إلى ذلك، تلك الموجة العارمة الّتي تجتاح موقع "الفيسبوك" تحديدا، وصار الكتاب والقراءة، وقراءة الرّوايات في الأعمّ الأغلب شغلها الشّاعل، ونادرا ما وجدت قارئا من هؤلاء ينصح بقراءة ديوان شعر أو التّعرف على شاعر عربيّ أو أجنبيّ، قديما وحديثا، وكذلك فإنّ النّاشرون يفرّون من الشّعر والشّعراء، ولا تدري، ومعظم الفاعلين في تلك الصّفحات الفيسبوكيّة هم من الشّباب، هل كانوا يقرؤون فعلا تلك الرّوايات أم أنّهم يستعرضون قشرة أخرى من قشور الثّقافة، مع ضرورة الإقرار أنّ المواقع الإلكترونيّة تحوّلت إلى معارض كتب دائمة ومكتبات تحت الطّلب، ومتاحة مجانيّا، وتحتوي آلاف الكتب والعناوين في شتّى الموضوعات، وصار بوسع القارئ الّذي يمتلك جهازا ذكيّا وشبكة إنترنت أن يكون قارئا وباحثا لما توفّره تلك المكتبات الإلكترونيّة من مراجع مهمّة، جعلت الكثيرين يعزفون عن اقتناء الكِتاب الورقيّ، وصار الحاسوب الشّخصيّ والأجهزة اللّوحيّة، بأحجامها كافّة، وإمكانيّاتها المتنوّعة، عامرة بالكتب المتنقّلة، يحملها معه القارئ أينما ذهب، ما جعل القراءة تأخذ فعلا شخصيّا فرديّا بعيدا عن مظاهره التّقليديّة الّتي كانت سائدة بفعل سيطرة الكتاب المطبوع، مظاهر أكثر حميميّة وخصوصيّة. ما يعيد التّفكير كذلك بجدوى إقامة معارض الكتب، لاسيّما وأنّها تتّصف بصفتين على أقلّ تقدير؛ الأولى ارتفاع أسعار الكتب ما يعني عزوف الجمهور عن زيارة تلك المعارض إلّا من أجل التّظاهر الكاذب والتقاط الصّور، ونشرها على الفيسبوك، وتجديد الصّداقات المشبوهة بين أنصاف الكتّاب وأشباه الكاتبات، وتتمثّل الصّفة الثّانية في الجهود المضنية المبذولة لعقد تلك المعارض والتّكاليف الّتي تنفقها الدّولة المستضيفة، تلك المبالغ الّتي لو أنفقت في أمور أخرى لكانت أكثر جدوى، هذا إن كان التّوقيت والظرف مناسبين لإقامة تلك المعارض.
وفي العودة إلى أقلام الكتّاب المادحة للقراءة. لعلّك تستهجن ذلك النّمط من الكتابة، ومضمونها المنافي غالبا للعلميّة والواقعيّة، فيربطون بين الشّعوب العربيّة غير القارئة، في حكم مطلق متسرّع، وبين الغرب، ذلك المجتمع القارئ المتحضّر النّهِم، التّوّاق للمعرفة، وغدت الفكرة مملّة لكثرة ما يعيدها الكتّاب في مقالاتهم، وليس ذلك وحسب، بل إنّ المسألة أضحت أبعد من ذلك
إلى درجة أنّ بعض الكتّاب يُرجعون التّقدّم الحضاريّ الغربيّ إلى القراءة، وفقط القراءة، ولو كنّا شعوبا قارئة، لكنّا متقدّمين. فهل يظنّ الكاتب العربيّ والمثقّف التّقدّميّ أنّ سبب تقدّم الغرب هو لأنّ أفراده ومجتمعاته تقرأ أكثر منّا؟ لا أظنّ أنّ المسألة لها علاقة بالقراءة، فثمّة عوامل كثيرة للتّقدّم، ليست القراءة هي العامل الأساسيّ أو الحاسم فيها، وسؤال ينسل نفسه من هذا السّؤال: هل نعتقد أنّ الغرب المتقدّم صناعيّا وتكنولوجيّا وعسكريّا أيضا، يقرأ أفراده النّهمين نظريات علمية ورياضيات وإستراتيجيّات حربيّة، بل ربّما أشارت بعض التّقارير أنّ المتفوقين في الرّياضيّات، مثلا، في الجامعات الأمريكيّة هم من الآسيويّين، وهذا بالطّبع يعيد طرح سؤال آخر: "ماذا نقرأ؟" عموما. على الرّغم من أنّ القراءة بحدّ ذاتها كفعل مجرّد لن يكون بمقدورها "إنتاج" أناس واعين بالقدر الكافي للدّفاع عن المصالح العليا لأيّ أمّة من الأمم، لأنّنا شعوب عربيّة فقدت الحسّ الجماعيّ وأصبح التّفكير فرديّا أنانيّا يركّز على المتعة وقضاء الحاجات الأساسيّة، وتسحبنا الصّورة إلى فضاءات لا نعرف أنّنا انزلقنا في تعميماتها المبهرجة إلّا بعد فوات الأوان، والغرب أيضا يشترك معنا في ذلك، أضف إلى أنّ أكثر الكتّاب شهرةً في فرنسا، مثلا، الّذين يتمتّعون بمقروئيّة عالية هم من يهاجم الإسلام أو كتّاب الرّوايات الجنسيّة والمغامرات، وكانت أشارت إلى ذلك مجلّة العربي الكويتيّة في التّسعينيّات من القرن الماضي، ولا أظنّ أنّ العالم، بما فيه فرنسا، قد تغيّر كثيرا. فالقراءة، كالكتابة، هي فعل ذاتيّ، وليست فعلا جمعيّا، وبناء على ذلك، لا تقاس القراءة بفعلها التّقليديّ بالوعي الجماعيّ إلّا إذا كان قياسا مغلوطا يؤدّي إلى الوعي المُزيّف.
وسؤال آخر قد يقفز حادّا مواجها الذّات وهو: هل نعتقد أنّ صناعة الكتاب في الغرب، وهي مرتبطة فعلا بالقراءة، ذات نتائج إيجابيّة في مسألة الحضارة؟ لا أعتقد ذلك، ولو من باب الأحلام الورديّة، فصناعة الكِتاب في الغرب، كصناعة السّينما، تحكمها العقليّة الاستهلاكيّة، والعقليّة الاستهلاكيّة عقليّة جبانة لا تفكّر بتوعية الجماهير على الأفكار الكبرى الفلسفيّة، ولننظر الآن إلى من هم أشهر الكتّاب الّذين يتصدّرون أعلى نسبة في المبيعات، عدا كتاب "نار وغضب" للكاتب الأمريكيّ مايكل وولف، وهو كتاب تحريضيّ سياسيّ فجّ، إذ لا يعرّفك إلّا على بعض تفاصيل الأفكار الّتي تراها عيانا في سياسة أمريكا الداخليّة والخارجيّة، عدا هذا الكتاب لا تجد كتبا فلسفيّة أو سياسيّة رائجة رواج الرّوايات تحديدا إلّا في حالات نادرة جدّاً كحالة هذا الكتاب الّتي لا تتكرّر إلا على فترات متباعدة.
ولذلك فإنّ من يصنع السّياسة هم النُّخب، والنّخب لا شكّ في أنّها مثقّفة، وذات ثقافة متنوّعة وحقيقيّة، وهذا أيضا ليس خاصّا بهم، فنحن أيضا لدينا نخب مثقّفة، وعلى درجة عالية من الوعي، ولكنّها لم تحدث التّغيير المطلوب، فبلادنا من أغنى البلاد في القوّتين العظيمتين اللّتين تفتقد لهما معظم الدّول الصّناعيّة: القوّة المادّيّة المتمثّلة بالموارد الطبيعيّة وتنوّعها، والقوّة البشريّة الفتيّة اللّازمة للاستثمار حتماً، على عكس كثير من مجتمعات أوروبا المتقدّمة، وهي الموصوفة بالقارّة العجوز، بشريّا أوّلا على أقلّ تقدير، إن لم نقل صناعيّا وتكنولوجيّا وتجاريّا، فها هما اليابان والصّين الآسيويّتان متقدّمتان على تلك العجوز الّتي أخذت تعاني من التّراجع شيئا فشيئا، ولولا إرثها الاستعماريّ القديم لم يكن لها هذا الحضور السّياسيّ في مجلس الأمن. إذن، ثمّة أمر غائب عن العرب أو مغيّب يجعل تلك النّخب غير فاعلة، وغير منتجة، وبالتّأكيد
فإنّ تخلّفنا، إن نحن فعلا متخلّفون، ليس بسبب الادّعاء المستفزّ "أنّنا أمّة لا تقرأ، وإن قرأت لا تفهم".
لعلّ الكثيرين سيرون فيما قدّمت أمرا غريبا مستهجنا، ولكن، يلزمنا أيضا أن نتأمّل قليلا هذه الظّاهرة الّتي لم يظلّ أحد يدّعي الثّقافة والعلم إلّا وركب موجتها وتشدّق بها في كلّ مناسبة، وأحيانا لا يحتاج الكُتّاب إلى مناسبات ليَخِزوا رؤوسنا برؤوس أقلامهم، كأنّنا جهلة أميّون غارقون في العدم، وغيرنا في السّماء نجوم لامعة، "هداة مهديّون".
فليس بالقراءة وحدها تتقدّم الأمم، وتسود الحضارات وتزدهر، فامتداح القراءة بهذه الرّومانسيّة المفرطة تقرّب الأفكار إلى حدّ السّذاجة المطلقة، ليظلّ كلاما إنشائيّاً مدرسيّا متواضعا في أبعاده المعرفيّة، لا يصلح في حدّ ذاته أن يكون مادّة صالحة للقراءة، ولا يعني كلّ ما سبق ألّا نقرأ، وألّا نشجّع على القراءة لاسيّما الأجيال الجديدة، وألّا نهتمّ بمعارض الكتب، وألّا نقتني الكتب، أو ألّا نهتمّ بصناعتها بوصفها منتجا حضاريّا بالغ الدّلالة، بل إنّ كل تلك الوجوه هي من العلامات البارزة لأيّ ثقافة حيّة، ولكنْ من الضّروريّ أن توضع الأمور في نصابها الطّبيعيّ وحجمها الحقيقيّ، فالمثقّف، شاعرا وكاتبا وسياسيّا، يحتاج لقراءة الكتب وتأليفها بلا ريب، ولكنّه أحوج ما يكون إلى قراءة أخرى للواقع والنّاس وأشياء أخر.
نشرت فى 7 مايو 2018
بواسطة magaltastar
الضحية والجلاد في رواية
"الموتى لا ينتحرون"
سامح خضر
لقد أصبح موضوع الجنس يأخذ مكانته في الرواية العربية، فرغم البداية المتواضعة التي بدأتها الرواية العربية إلا أنها أصبح تتحدث عن الجنس بكل حرية، متجاهلة كل المحظورات والمحرمات التي أقامها النظام السياسي والاجتماعي والديني في المنطقة العربية، حتى أننا نجد العديد من اسماء الروايات متعلق به، في هذه الرواية سنجد علاقة الجنس المحرم، الجنس الذي ينشأ بين الجد والحفيدة، والجنس الذي يأتي بالإكراه والغصب والتهديد وليس بالاختيار الطوعي، لهذا سيكون هناك ضحية وجلاد، وبما أن المجتمعات العربية يهيمن عليها جنس وفكر الذكور فبالتأكيد سيكون الذكر وهو الجلاد والضحية هي الأنثى، والعجب العجاب أن الجد "أبو مشعل" الذي تجاوز الخمسين عاما، نجده يقدم على اغتصاب حفيدته "حياة" ذات الأربعة عشرة عاما، ومن ثم يستمر في فعلته القذرة بحيث جعلها محضيه الخاصة، رافضا ومانعا كل من يتقدم لطلب يدها، حتى تجاوزت العشرين، فقرر أن يخفي فعلته معها بإجبارها على ترك البيت والقرية والوطن، حتى يضن الناس بأنها اقترفت (جريمة الشرف) ولهذا اضطرت للهرب إلى الأردن ومنها إلى ألمانيا.
في ألمانيا تنشأ علاقة حب بينها وبين "إياد"، وعلاقة صداقة حميمة مع الفتاة السورية "شروق"، تأخذ علاقة الحب الشكل الطبيعي بين "حياة وإياد" ويتم الزواج بينهما، لكن نجد جسد "حياة" يمانع من الانفتاح على الزوج والحبيب "إياد" مما يجعل صديقتها "شروق" تتدخل عند الطبيبة النفسية "كلوديا" ويقوم "إياد من جانبه بكل ما يطلب منه لمساعدتها في الخروج من الأزمة التي تمر بها، حتى أنه يزور فلسطين المحتلة لكي ينهي مأساة زوجته ويخلصها من متخلفات الماضي المؤلم، وهذا ما كان، لكن "حياة" تجد أن جدها "أبو مشعل" قام بقتل شقيقتها "سناء"، وهنا تعطينا الرواية فكرة استمرار مأساة المرأة العربية التي تعيش تحت ظل النظام الذكوري، الذي لا يرحم ولا يعرف إلا البقاء مهيمنا على المرأة، العنصر والجنس الأضعف.
الجد "أبو مشعل"
سنحاول في هذا المداخلة تناول بعض التفاصيل المتعلقة بالشخصيات السلبية والايجابية، ونبدأ من الجد "أبو مشعل" الذي يموت نجله البكر "مشعل" فيعمل على إبقاء "أمينة" زوجة الابن في البيت وتحت حمياته، ومن هنا يبدأ في أخذ حاجته الجسدية منها، فهذه المرأة، صغيرة السن، وجاهلة بمعترك الحياة، وجدت نفسها أضعف من مواجهة هيمنة "أبو مشعل" الذي يخافه أهل القرية والقرى والمجاورة لها، فكانت طوع أمره، ولم تبدي أي فعل يوحي بأن هناك شيء غير أخلاقي يجري في بيت "أبو مشعل" فكانت أول ضحاياه، لينتقل بعدها إلى حفيدته "حياة".
بداية الجريمة تحدثنا عنها "حياة" بهذا الشكل: "دخلت غرفة جدي عشية ذلك اليوم حاملة إناء وإبريقا حتى يتوضأ، ... ثقبت نظراته الحادة ملابسي، وضعت الإناء على طاولة متوسطة الارتفاع أمامه فيما رفع يديه ليزيح طرف جلبابه إلى أعلى، فأمسك صدري، .."كبرتي يا حياة.. صار جسمك ملفلف" بحركة غير إرادية ابتعدت خطوتين إلى الخلف فضحك ضحكة أرعبتني... "معلش ...بكرة بتتعودي على يد جدك" ص49، بهذا المشهد يمكننا القول أن الجد يمثل الذكر الشهواني الذي يبحث عن تفريغ حاجته الجسدية فيما يجده من أناث بصرف النظر عن علاقته به، وبصرف النظر عن عمرها، أو ظرفها أو حالتها، فهو مجرد ذكر حيواني لا يفرق بين المحارم عندما يبلغ.
لهذا نجده يعمل بتخطيط مسبق لينال من حفيدته، من الفتاة الصغيرة، فيستغل مناسبة أحدى الأعراس، "عرس فيروز" ليطلب من أمها "أمنة" أن تتركها في البيت لتعتني به، ورغم رغبة "حياة" وأمها في الذهاب إلى العرس والمشاركة في هذه المناسبة، إلا أن الجد أبدى رفضه القاطع على ذهابها: "فصفعها جدي على وجهها صفعة قوية أطاحت بجسدها الهزيل على الأرض قبل أن يسبنا: "يا بنت الكلب إنتي وبنتك، بدكم تكسروا كلامي؟ خذي ولادك وروحي على العرس واتركي حياة عندي" ص53.
وبعد أن ينفذ أمره، يبدأ في اقتراف الجريمة والتي كانت بهذا الشكل: "...مناديا من غرفته "حياة ... يا حياة" ... أدخلي. هاتي شوية زيتون من المطبخ وتعالي أدهني لي ركبتي" ... كنت أدلك ركبته اليسرى فامتدت يده لتسحب يدي إلى أعلى فخذه، كان عضوه منتصبا، حاولت أن اسحب يدي فامسك عليها بقوة، قاومته بشدة، صرخت اتركني، لم يفعل، صرخت بصوت أعلى، كتم أنفاسي بيده، ولوى يدي حتى سمعت فيها طقطقة عظام رسغي، بكيت، قلت مقاومتي من شدة الألم، انهمرت دموعي، توسلت أن يتركني، لم يفعل، دفعني برجله على الأرض وهوى فوقي، شل حركة جسدي بجسده الثقيل، كنت أصرخ: "منشان الله اتركني. أنا حفيدتك.. أنت جدي" وهو ينزع ملابسي عني... صرخت صرخة اختنقت بها وأخرجتني عن وعيي، استفقت على أنين جسدي النازف فيما هو على أريكته اللعينة، ... لم أدر وقتها أي ألم أداوي، أولا، يدي التي كسرت أن عذريتي المهدورة" ص53-55. جريمة متعددة الأوجه، فارق السن بين الجلاد والضحية، فارق حجم الجسد، شكل الضحية وهي تستنجد، الألفاظ التي استخدمتها، كل هذ يجعلها جريمة لا تغتفر ولا تمحى.
وعندما تستفيق "حياة" من هول الصدمة، كانت بهذه الحالة "تكومت أمام جدي على الأرض، عبثا أحاول أن أرتد ملابسي بيد واحدة، بينما كان الألم يلتهم يدي الثانية،" ص57، ورغم بؤس هذه الضحية والعلاقة القربى التي تجمعه بها، إلا انه يتمادى أكثر في جريمته، بحيث يطلب منها أن تقول: "... فلتت من يدك قارورة الزيت وانزلقت قدمك فانكسرت يدك" ص57، وعندما تبدي "حياة" الرفض لهذه الجريمة، وتصر على أخبار أمها بما جرى، نجده يثبط عزيمتها بقوله: "لن يصدقك أحد، أتعلمين لماذا، لأن هذه العائلة لا تساوي شيئا دوني، أويت أمك بعد وفاة أبيك، وبنيت لأعمامك منازلهم، ويحظون باحترام القرية بسببي" ص57.
هناك تماثل بين الجد والنظام الرسمي العربي، فكلاهما يقدم على اقتراف الجرائم ويغطيها بغطاء العطاء الذي يمنحه للضحايا، فهو يأخذ ما يريد، ويعطي القليل مما لديه، ليس حبا بالآخرين وإنما لتثبيت هيمنته وسطوته، وهذا حال الجد/النظام الرسمي العربي.
وهنا نطرح هذا السؤال: هل يمكن للضحية ـ وأن تحالفت مع الآخرين ـ أن تحقق النصر أو تغير في تركيبة هذا النظام، الأبوي/البطريكي؟ أم أن ما ستقوم به الضحية لا يعدو أكثر من تنفيس لا يحدث أكثر تغيير شكلي فقط؟، اعتقد أن نهاية الرواية جاءت لتؤكد بقاء هذا الواقع، هذا النظام، المتجذر فينا، فنحن أضعف من النيل أو المساس به.
الأم "أمينة"
فتاة اجبرت على الزواج وهي صغيرة، ومن زوج ليس من قريتها، لهذا كانت مكسورة الجناح، فأهلها ليسوا بقربها ليحموها من بطش الجد، لهذا كانت تعاني من ضعف متعدد الأوجه، أولا هي ضعيفة، كحال بقية النساء في المجتمع الذكوري، وثانيا هي ارملة بعد أن فقدت زوجها، وثالثا هي صغيرة السن ويطمع بها المجتمع الذي ينظر إلى المطلقة والأرملة نظرة سوداء، لهذا لم تستطع أن تقاوم حماها عندما أخذها كمحضية له، كما أنها وجدت في ـ أبو مشعل ـ حامي لها، وملبي طموح جسدها في أخذ حاجته من الجنس، فكانت علاقتها بالجد شبه متفق عليها أو موافق عليها، فالجد يأخذ ما يريد، وهي تأخذ حاجتها، حتى لو بدت كما لا تريد أو بالطريقة التي لا تريدها.
نجد رغبة الأم في ابقاء علاقتها بالجد من خلال هذا المشهد: "كلما ناداني جدي تترك أمي ما في يدها وانتظر حتى أعود لتستجوبني، ماذا قال لك؟ ماذا طلب منك؟ ماذا قفلت له؟ أهذا ما طلبه فقط؟ لم تتوقف هذه الأسئلة أبدا، كان لسان حالها يقول ولماذا لا يطلب مني؟ هل أصبحت عديمة الجدوى؟ ربما كانت خائفة علي منه، وربما خافت مني على نفسها، هكذا كنت أفكر وقتئذ" ص48، حتى إذا لم نأخذ بما جاء بتفكير "حياة" عن أمها يمكننا الاستنتاج أن العلاقة الجسدية بين الأرملة الشابة وحماها الذي يلبي حاجاتها الجسدية والمادية يمكن أن تجعل "أمنة" تغار من ابنتها وتحافظ على رجلها/حامها.
ونجد اضطراب الأم من خلال تصرفها مع حياة" والذي جعل "حياة" تشعر بأن هناك تنافس بينها وبين أمها في خدمة الجد عندما يطلب منها الجد شيئا: "كنت أشعر أنها تستعيد بعضا من كبريائها المهدور من نظراتها، كانت تعود من غرفته ولسان حالها يقول "أنا هنا" اليوم أرى أن أمي تتحمل جزءً كبيرا من مسؤولية ما حدث لي، لولا تصرفاتها السخيفة معي في حينه لما أشعرتني أن الاقتراب من جددي حظوة يجب الظفر بها" ص48و49، إذن الأم تتحمل جزء مما آلت إليه أحوال ابنتها، وفي ذات الوقت نجد رغبتها في إبقاء علاقتها الجسدية بالجد، ورغم أن الرغبات الجسدية ودوافع الحماية التي تحملها "أمنة" لابنتها تتوحد في الحفاظ على هذه العلاقة، إلا أننا نستشف منها أن للعلاقة الجسدية دور حيوي، ورغبتها في أخذ ما تريده، وهذا مما جاء على لسان حياة" عندما قالت: "شعرت بحسرة أمي على حالها، وكأن شيء ما بداخلها يتنمى أن أعود صغيرة وأبقى كذلك حتى لا استلب هذه المساحة منها" ص48. من هنا يمكننا القول أن موافقتها على سفر "حياة" إلى خارج فلسطين كان بدافع الخوف من سطوة الجد من جهة، من جهة ثانية تريد أن تستمر في اشباع حاجة جسدها، وهذا ما وجدناه عندما وجدناها تخبر "حياة" بعد عودتها إلى فلسطين وبعد غياب أكثر من عشر سنين عن موت شقيقتها "سناء" "تتنهد بحسرة وتنظر إلى الأرض وتقول: "سناء لقيناها مقتولة عند البير يما" ص167، وكأن نظرتها إلى الأرض يبدي لنا مشاركتها في الجريمة كما شاركت في جريمة أبعاد "حياة" إلى ألمانيا.
وما للفت النظر أننا نجد الأم سلبية، حتى أننا لا نراها تبدي أي فعل لحماية صغارها من بطش الجد الشبق، وكأنها تريده لها فقط، لهذا وافقت على هروب "حياة" وسكتت على قتل "سناء" علما بأنها كان يمكنها أن تخبر أحدا ما يجري، أو تتمرد، أو تثور، لكننا وجدناها مطيعة حتى في مقتل ابنتها، فأي أم هذه التي لا تبدي أي ردة فعل على مقتل أبنتها؟.
"حياة"
يمكننا أن نأخذ صورة وافية عن حياة من خلال ما سبق من مشاهد واحاديث، فهناك عنف جسدي من الجد، لكنه في ذات والوقت يعطيها شيء من اللذة ـ فهي تمر بحالة اشبه بالمازوشية ـ وفي ذات الوقت تتعرض لعنف وتأنيب من أمها التي تشعر بأنها تنافسها على نيل رضا الجد: " أنا الواقعة بين مصيدتين، أحتار في أمري.. هل أهرب من كراهية أمي إلى حضن جدي مرغمة أم أهرب من يد جدي إلى بطش أمي الذي لا أطيقه. كل مصيدة فيهما تدفعني نحو الأخرى وأنا الواقفة بينهما بلا حيلة، جل ما أخشاه أن يتفقا علي فأصبح عرضة لاضطهاد أكبر" ص50، يبدو أن هذا الصراع وهمي، تحاول من خلاله "حياة" أن تبرر لنفسها ما تقدم عليه، فالواقعة الأولى مع الجد كانت صعبة وقاسية، وهذا ما جعلها تشعر بحالة "المازوشية" التي تتلذذ بالألم، والألم هنا مزدوج، الألم الجسدي، والألم النفسي، الروحي، فهذا الصراع يحمل بين ثناياه شيء من التلذذ بالألم، لهذا استمرت في المسير بين الألمين، ولم تتخذ موقفا محددا ينهي أحدهما.
تحدثنا عن جسدها عندما ذهبت لشراء قمصان النوم فتقول: "لم أشعر أني سأحمل فكرة إظهار مفاتن جسدي الذي أكرهه أمام أحدا، حتى لو كان "إياد"" ص85 وهنا نطرح سؤال: لماذا أقفلت "حياة" جسدها أمام زوجها "أياد"؟ ولم تفتحه كما فعلت مع الجد؟ أعتقد أن حالة المازوشية التي لازمة العلاقة الجنسية أول مرة وما تبعها من شعور بالذنب بعد أن وجدت نفسها تأخذ مكان امها عند الجد، كل هذا ـ في العقل الباطن ـ جعلها تميل نحو العلاقة الجسدية التي تحمل بين ثناياها شيئا من الألم الجسدي أو النفسي، الروحي، وبما أن العلاقة سوية وطبيعة مع الزوج "أياد" فإنها وجدت في هذه العلاقة الطبيعية والسوية حالة غير مقبولة، فقد تعودت على ما هو مؤلم ومؤذي لها وللآخرين، وبما أن الزواج تم بتأييد ومؤازرة صديقتها "شروق" فقد كان كل ما ينتج عن هذه العلاقة غير مستصاغ ، وهذا ما جاء على لسانها عندما حدثتنا عن اختلاءها بإياد في غرفة النوم: ""آسفة . ما بعرف شو مالي" حضنت جسدي بملاءة السرير وأحنيت رأسي خوفا من أن تتلاقى أعيننا. ساد الصمت الغرفة سوى من صوت لهاثنا، اختلس النظر بطرف عيني فأجده على ذات الوضعية، ظهره لي وجسده يتوسط ذراعيه الممتدتين على حافة السرير ورئتاه تكادان تخرجان من ظهره، أؤنب نفسي على تصرفي رغم كونه لا اراديا وضرب أنوثتي في مقتل" ص95، إذن المشكلة عند حياة" تكمن في أنها تعوددت على ممارسة الجنس بطريقة تجعلها تشعر بأن هناك أذيه لها ولمن حولها، ولهذا عندما لم تجد هذه الأذية وجدناها تشعر بخلل في ممارسة دورها كزوجة، وكأن هناك دوافع وقوة داخلية تدفعها نحو خلق شعور بالألم، من هنا يمكننا القول أن رفضها قبول جسد زوجها "أياد" كان يحمل هذه الأذية التي تبحث عنها، فقد وجدت أن هناك شخص قريب منها ـ كحال أمها ـ يتأذى فستمرت في تعذيبه إلى أن تم علاجها على من قبل "كلوديا" وبمساعدة شروق صديقتها وزوجها "إياد".
الرواية من منشورات الأهلية للنشر والتوزيع، المملكة الأردنية الهاشمية، عمان، الطبعة الأولى 2016.
نشرت فى 6 مايو 2018
بواسطة magaltastar
عندما يكتبنا الكاتب
مالك البطيلي
وكأن هناك لعنة تتمثل في الكآبة تطال كل من يتواجد في المنطقة العربية، فها أنا في العقد الخامس ولم أجد هناك فرح حقيقي أو سعادة، فتتابع أحداث الخراب والموت وكثرتها تجعلنا مكتئبين ومضطربين، لهذا تجدنا نستخدم أحرف الجزم والنفي، لا، لن، كلا، وطبعا سيكون هذا الاستخدام لنفي كل الأفعال والصفات والحالات الجميلة، وفي المقابل سنجد تأكيدا على الأفعال والصفات والحالات البائسة، وإذا ما أضفنا إلى كل هذا الواقع الإرث الثقافي الممتد إلى آلاف السنين، إلى أيام غياب الإله "تموزي/البعل" يمكننا القول أننا مجبولين على الحزن وعلى الغم.
"مالك البطيلي" يقدمنا من حقيقة واقعنا، وكأنه يكتبنا نحن، يكتب ما نحن فيه، ما نمر به، فنجده يكثر من استخدام أحرف النفي للجمال والهناء والسعادة، ويؤكد حالة البؤس والحزن والمأساة التي نحن/هو فيها.
يفتتح الكاتب النص بعبارة ايجابية، "يجبُ ألّا أخاف" وكأنه أراد بها أن يأخذ شيء من الطاقة/المعنوية تقربه أكثر من حقيقته/حقيقتنا، لهذا وجدنا بعدها ومباشرة يقدم هذه الفقرة:
"لا اعلم ما اقولهُ عندَما أبدو بكل هذا الوضوح وبهذهِ الثَرثرة والانطلاقةِ العَصبية المزمِنة
هذه الانطلاقة التي أغصُّ بها
في الحديثِ حينَما أصمت"
نجد الفاظ " ثرثرة، العصبية، المزمنة، أغص، أصمت" وكلها الفاظ قاسية على النفس، وإذا ما اضفنا إلى كل هذا المعنى البائس الذي يمر به الكاتب، يتأكد لنا أن هناك وضع/حالة غير سوية تثقل كاهل الكاتب فجعلته بهذا السواد.
يقربنا الكاتب من حالته أكثر من خلال:
" أبكي أَبكي أَبكي
وأتجرعُ اللا كَلام
ثمّ
ثمَّ ماذا ...؟" هناك صراع عند الكاتب بين الصمت والكلام، بين البوح والسكوت، بين الإظهار والإخفاء، بين السر والعلن، فهناك ثقل واقع عليه ويريد أن يرميه، يتخلص منه، فلم يجب أحد أقرب إليه منا نحن المتلقين للنص، فقد وجد فينا شركاءه في الحزن والألم وسنتفهم ما يمر به.
تتوضح لنا حالة الصراع أكثر عندما يقول:
"كلا لن أتكلمَ لكنَّني سأتحولُ الى كائنٍ متوحش ٍفوقَ سريري المُرعب
اتحولُ بشكلٍ اخرٍ لا يمتّ لشكلي الآن بأيةِ صِلة لا يمتّ لمالك بأيِّ شكلٍ من الاشْكال ..! "
اجمل ما في المقطع السابق "كائنٍ متوحش ٍفوقَ سريري المُرعب" الكاتب يبتعد عن العنف والقسوة، لهذا نجده يستخدم لفظ "متوحش" على سريره الخاص، فهو لا يريد أن ينشرها في الخارج، فكثرة المشاهد وصورة الخراب والموت جعلته يشعر بحالة الألم التي نمر بها نحن المتلقين، لهذا خص لنفسه مكان التوحش ليكون على سريره الخاص فقط.
ولهذا نجده يتألم ويظهر هذا الألم من خلال:
"ااااهٍ"
فالتوحش الذي وضعه على سريره جعله يتألم، فهو يواجه التوحش وحيدا وليس جماعيا، لهذا نجده يختم نصه بهذه الصورة البائسة:
"كَفاني كفاني كذباً
العالمُ مرتبكٌ وأنا لا أَراك
اريدُ لكلي ان يغفو فوق جبينك ِالحزين ...!!" الكاتب يحسم موقفه من الواقع من خلال دعوته للمخربين: "كَفاني كفاني كذباً "
ونجده متماهي مع حزنه ومتوحد من خلال: "اريدُ لكلي ان يغفو فوق جبينك ِالحزين ...!!" كل هذا يجعلنا القول أن "مالك البطيلي" يكتبنا نحن قبل أن يكتب عن نفسه.
"يجبُ ألّا أخاف
لا اعلم ما اقولهُ عندَما أبدو بكل هذا الوضوح وبهذهِ الثَرثرة والانطلاقةِ العَصبية المزمِنة
هذه الانطلاقة التي أغصُّ بها
في الحديثِ حينَما أصمت
أَبكي أَبكي أَبكي
وأتجرعُ اللا كَلام
ثمّ
ثمَّ ماذا ...؟
كلا لن أتكلمَ لكنَّني سأتحولُ الى كائنٍ متوحش ٍفوقَ سريري المُرعب
اتحولُ بشكلٍ اخرٍ لا يمتّ لشكلي الآن بأيةِ صِلة لا يمتّ لمالك بأيِّ شكلٍ من الاشْكال ..!
ااااهٍ
كَفاني كفاني كذباً
العالمُ مرتبكٌ وأنا لا أَراك
اريدُ لكلي ان يغفو فوق جبينك ِالحزين ...!!"
نشرت فى 6 مايو 2018
بواسطة magaltastar
مجلة عشتار الإلكترونية
lموقع الكتروني لنشر الادب العربي من القصة والشعر والرواية والمقال »
ابحث
تسجيل الدخول
عدد زيارات الموقع
577,913