جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
تجاوز المألوف في رواية
"حارة المشتاقين"
حسين عبد الكريم
عندما يعم الخراب، وتمسى حياتنا بلا شمس، ويصبح الفرد مجرد ورقة تتقاذفها الريح أينما شاءت، والأفكار تخضع لمفاهيم (العصر/الواقع)، ستختفي الافكار النبيلة، وتستبدل بأفكار غريبة وعجيبة، ـ رغم أنها تأتي ـ شكليا ـ بثوب العصر، لكن جوهرها يبقى فارغ من القيم والمبادئ، بحيث يكون الفرد، كمن يستخدم/يستهلك تكنولوجيا القرن الواحد ولعشرين وهو ما يزال يحمل عقلية العصور الوسطى.
المفارقة العجيبة في المنطقة العربية أننا ما زلنا نعيش بعقلة البدوي الذي يمارس التنقل والترحال من مكان إلى آخر، فيشعر بعدم الاستقرار والثبات، فينعكس ذلك على تفكيره، فيأخذ ما هو متاح أمامه، إن كان بطريقة مشروعة أم بسواها، إن كان هذا الذي أمامه مفيد أم ضار، فهو عاجز عن الانتاج المادي أو الانتاج الثقافي، فيكتفي بهذا (الجاهز) الذي يقدم/يحصل عليه دون أن يبدي أي رفض، أو تفكير به أو بالطريقة التي وصلت له، أو بالهدف والغاية منه.
كل هذا يجعل الإنسان في المنطقة العربية يشعر بالاغتراب عن محيطه ومجتمعه، وحتى عن ذاته، ولا بد له من خلق/إيجاد طريقة يعبر فيها عن امتعاضه ورفضه لما هو حاصل/كائن، سنجد فيها هذه الرواية طريقة تقديم أفكار الرافض لهذا الواقع، وبأسلوب عجيب وغريب، لكنه يوصل حقيقة واقعنا المزري، واقعنا الذي ننتقده فيما بيننا، لكننا نتشارك في هدمه وتقويض بنيانه.
السواد
إذن الواقع البائس هو إحدى الأسباب التي دفعت الراوي ليقدم لنا هذا الشكل من الرفض والامتعاض، فما هو هذا الشكل الذي يعبر فيه الراوي عن واقعنا؟، "....اجرى طبيب الاسعاف فحصا شاملا على الحال "الضحية" فعرف أنها أصيبت بذبحة الكذب المتعفن، التي تناول أصدقائها في وجبة واحدة .؟. وشاركتهم هي تناول الوجبة ذاتها...انتقل الطبيب إلى المريض الثاني، قاس ضغطه، فوجده مرتفعا ارتفاعا زائدا عن أي ارتفاع آخر، بسبب ازدياد نسبة العفونة والأكاذيب السوداء في دمه... لكن السبب العاجل الذي سبب له الذبحة هو ارتفاع منسوب الجشع والطمع عن أي حد كمطلوب" ص18، هذا هو واقع مجتمعنا، فكيف يمكن العيش فيه؟ أو القبول به؟ من هنا يكمن أهمة تبيان الخلل الذي هو فيه، فلا بد من الاستمرار في اظهار الخلل، لعل وعسى نجد من يرتدع ويتوقف عن الجريمة التي تقترف بحقنا وبحق مجتمعنا.
"شاهدت طفلا يبصق على طفولته، لأنها يابسة، وبشعة، فأرسلت له غصنا وحفنة من جناح ونسمة عليلة، بعد فصل أو فصلين، أو ثلاثة ارسل لي الطفل رسالة واحدة: كسرة خبز، وكسرة طيبة وكسرة دفئ فعرفت أن بصاقه استبدله بالعفن، وكنس به السواد المتكوم على أيامه وثيابه وعمره وملامح حلمه الصغير" ص34، عندما يطال السواد الطفولة فمعنى ذلك أن المستقبل لم يعد لنا، أو لم يعد هناك مستقبل أصلا، فقد طال العفن البذرة التي من المفترض ان تنمو لتطلق ثمارا جديدة وجيدة، لكن واقع الحال لا يعطي أي دلالة على ذلك.
"اسنانهم ليست ناصعة البياض، بل مهملة، وغير منظفة منذ عهد بعيد، فتزاحمت عليها الاوساخ وبقايا المأكولات فأختلط لونها الحقيقي بالوان الاتساخ والأطعمة.. من كثرة إحساسهم بالجوع، يبقون يلوكون ويعضون سواء امتلأت أفواههم بالطعام أو بقيت مقفرة كشجرة يباسها دائم" ص88، من خلال المشاهد السابق يمكننا القول أن السواد أصبح حالة تطال الفرد والمجتمع، الأفراد والجماعات، الصغار والكبار، بحيث يفقد فيها الإنسان أي شعور بالحياة السوية.
المرأة والرجل
من هنا يجب اللجوء إلى المرأة لعل وعسى نجد فيها أو عندها شيء من السكينة والراحة، تساعدنا على التخلص/تجاهل هذا السواد ولو مؤقتا: "...فقبلها لا كزوجة، بل كمؤسسة صغيرة جدا، وخاصة لتأمين، وهي راته حالة غرامية صالحة للاستهلاك ورأته "سياجا" لحاتها، ترفعه على هواها، وتخفضه حين تريد. ...تسمي نفسها بائعة ابتسامات غير دارجة، وهي لا تبتسم إلا ابتسامات "منتهة الصلاحية" و"فاعو" لم تريده كمصدر سعادة بل ارادته سياجا يحمي خرابها، وهلاك نفسها، وعنوان من عناوين عمرها ارادته "شاخصة" كتب عليها: " فاعور زوج صاحبة "صالون" الحسناء لإصلاح وبيع القهقهات والابتسامات القديمة والجديدة" ص70و71، إذن العلاقة بين الرجل والمرأة أصبحت ايضا فاقده للمحتوى، فهي ليست اكثر من مساهمة سليبة تضاف إلى سلبيات الواقع.
الخراب الشامل والكلي
ضمن هذا الواقع لا بد من اعطاءه وصف يناسب الواقع: "...أنه دوي الحروب وقتل الموسيقا والأماني الإنسانية ذات "الماركات" العالمية ... أحست أن أوتار كل الآلات الموسيقية جراء قنابل لعينة سقطت على كل مخازن الآمال والانفاس الجميلة، ...هذا المدار الذي سقط على مخازن الإنسانية، لم ينته أذاه عند الحاضر، بل تعداه إلى الذاكرة ...إذ أصيبت الأحلام القديمة بتصدعات هائلة...حتى القوى النائية، التي تحتفظ بأغانيها ونغمات أصواتها بعيدا عن متناول المفسدين في الغناء" ص99، من خلال ما سبق نجد انتشار الخراب والدمار ليطال كل مرافق الحياة وكل ما فيها، فلم يعد هناك ما هو نقي، فالتلوث والتشويه وصل حتى إلى الموسيقا، إحدى وسائل التهدئة والسكينة، فأين المفر من هكذا واقع؟.
الوقت
لكل وقت حالة خاصة تلائمه، فكيف سيكون حال الوقت في ظل الخراب الشامل؟: "نهوان لا يقبل الكذبة الصباحية، أن تكون مثل كذبة الظهيرة وكذباته الليلية أشد سوادا وضراوة، لتلائم واقع السهر ولليل وكذا شأن زعفر، الذي اخذ بطنه بالتضخم العشوائي، ليتسع لمختلف "ماركات" الكذب، وصنوف المجاملات القاتلة، وعلم فمه على التحرك الدائم، ليظل مستعدا للبصاق، أو رش اللعاب أو توزيع "العضة" تلو "العضة" لمجاوريه وعارفيه، والمتعاونين معه في العمل" ص91.
الطعام
المجتمع الذي صل إلى ما وصل إليه من خراب، لا بد أن له طعام خاص به، يجعله قادر على التعاطي مع هكذا واقع، " ...كلمة ترحيب مع كذبة ابطل مفعولها، جملها على طبق من "توتياء" ودعاه إليها ..تذوقها، فأحس بطعمها مرا وحادا، وقاسيا، لكنه ليس قاتلا أو ساملا، ..."وجبة" الكذبة نكهتها مؤذية، ورائحتها غير ممتعة، ..صحن ثاني فيه اتسع لتأهيل كثير الحموضة، يسبب "قرحة" اثنى عشرية، تصيب المودة وتهلكها" ص85، مثل هؤلاء الأفراد الذين يتغذون بهذا الطعام بالتأكيد سيخرجون مجبولين على نفس طريقة تعاطي المجتمع مع الواقع وما فيه من فساد ونفاق.
لكن الحال لم يقتصر على الطعام، بل طال أيضا أماكن تقديم الطعام، المطاعم: "وقد أحصص قسما من المطعم، للزبائن الذين يتذوقون الكذب، وكلمات التأهيل، والمودات بطريقة عالية الهمة، وبأسلوب راق.." ص86، إذن لم يقتصر تقديم الوجبات الفاسدة على المنازل فحسب، بل هناك مطاعم متخصصة في تقديم مثل هذه الاطباق المهلكة.
التعليم
المؤسسات التعليمة من المفترض أن تكون أحدى الوسائل التي تحيل دون وصول المجتمع إلى براثين الهلاك، لكنها في رواية "حارة المشتاقين" كانت تقوم بدور عكسي، تدفع بالمجتمع والأفراد إلى مزيد من الغرق في مستنقع الواقع ومفاهيم العصر: "وبعد أن رأت مدرسين ومدرسات حملوا بين أيديهم وفي جيوبهم أوبئة عجيبة يشبه بعضها كلمات أبو صقر، وبعضها يشبه دروس أخلاق تالفة.. وشاهدت طلابا وطالبات يشترون جملا غير مفيدة وعناوين نجاح منتهية الفعالية انتهاء تماما، وشاهدت طالبات يبعن ما عندهن من ابتساما مطلوب، وضحك صالح للبقاء ولو لحين" ص168، هناك واقع بمجمله يخدم فكرة التعاطي مع واقع الفساد، والجميع يساهم في الانزلاق نحو الهاوية، بحيث يكون الفساد والعفونة هي السيد والسائد والمسيطر.
الكتابة
هناك خلل في بنية الكتاب وما يقدمونه للقراء من مواد للقراءة: "... أن طالبا غبيا أراد أن يكتب سطورا ذات معان، فكتب غباء و"خربشات" تعيسة .. أو ماسح أحذية متعب أخطأت فرشاته، فكتب ابتسامة هذا التاجر بدل أن يكتب لمعان حذائه" ص45و46، بهذا الشكل انزلق لمجتمع في أتون الفساد والأفكار المنحطة، التي تدعم وتزيد الاخراط في هكذا واقع.
الغناء
من المفترض ان يكون الغناء والفنون عموما عناصر مهدئة ومخففة من وطأة الواقع، لكننا نجدها في ظل الفساد تحدث هذا الأثر: "والمفاجئ في الأمر أن موالا طائشا" من المطربة "دلوعة" أصاب الزوج في أذنه اليمنى، فتسبب له التهابا مزمنا." ص63.
يلخص لنا الراوي واقع الموسيقا والغناء فيقول: "...ويقال قد تكون ماتت جراء إصابتها بمرض عضال هو الصراخ" ص95، بهذا لم يعد هناك فن غنائي يخدم الأفراد ويخلصهم مما علق فيهم من تعب وهموم، بل هناك ما يخدم التلوث والتشويه لكل مظاهر الحياة ويعكر صفوة تفكير كل من يحاول الخروج/التخلص من واقاحة وفساد الواقع والأفراد.
الصور
من مميزات العمل الأدبي الجميل، تقديم صور أدبية تخدم الفكرة التي يطرحها الراوي، وفي "حارة المشتاقين" هناك مجموعة من الصور الأدبية التي تعمق حالة الألم الذي يعانيه الأفراد والمجتمع، منها: "رأت الكثيرين يتأبطون احزانا طويلة القامة" ص30.
"الزوجة تحترق غيظا كشجرة زاهية يقتلها العطش، وتخطئ الافق إليها الغيمة الممطرة.. حتى انقلب موسم الابتسام عندها إلى موسم غضب وسخط متواصل" ص39.
"وشفتاها سميكتان ومتشققتان جراء الدخان والأسى اليابس وجراء هجر القبل "المدللة" ذات المعنى والرجاء.. شفتاها صارتا كأي حذاء شقي من كثرة السير والمتاعب، ونظراتها مصابة بالضياع، وداء الاستطراد الممل" ص69و70.
"...هزمتها عتمة الغبار، وهزمها اليباس وكثرة الجدران" ص116.
بهذا تكون صورة السواد قد اكتملت، وأصبحت هي الصورة الوحيدة التي يراها الفرد ويرسمها المجتمع/الواقع، فلم يعد هناك أي جمال خارج هذه الصورة الباهتة.
الرواية من منشورات وزارة الإعلام، دمشق، سورية، الطبعة الأولى 2003.
المصدر: مجلة عشتار الالكترونية