جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
الحدث في رواية
"ضحى"
حسين ياسين
هناك اهتمام عند الفلسطيني بالتاريخ وبمجرى الأحداث، ونجده يركز على المكان وعلى علاقته الوثيقة به، في الآونة الأخيرة وجدنا مجموعة من كتاب الرواية الفلسطينية يتقدمون من التاريخ المعاصر والحديث في رواياتهم، كما هو الحال عند "إبراهيم نصر الله" و"أسامة العيسة" "أحمد رفيق عوض" وغيرهم وكأنهم من خلال هذه الأعمال يريدوننا أن نعي التاريخ ونتقدم من الحقيقة، حقيقة أن فلسطين للفلسطينيين، وأن جغرافيتها واحدة ولا يمكن أن تقسم، وما قام به الاحتلال الانجليزي والاحتلال الإسرائيلي هو تشويه وتغريب للواقع، واقع فلسطين وشعب فلسطين.
ما يحسب لهذه الرواية أن كاتبها "حسين ياسين" من فلسطين ال48، أي من أنه من الذين تعرضوا للاحتلال الأول لفلسطين، ومع هذا لم تستطع ماكنة المحتل التي عملت على غسل الأدمغة ومسح الذاكرة من أن تؤثر عليه، وها هو يقدم شيء من تاريخ فلسطين نجهله، أو بصورة أدق أنا أجهله ولم أك أعرفه، خاصة ذاك الذي يتحدث عن الألمان في فلسطين والطريقة التي هجروا فيها، وكيف تم سلب بيوتهم منهم، تماما كما فعل المحتل بالفلسطينيين.
هذه الروية مقسمة إلى ثلاثة أقسام، في كل قسم يحدثنا الراوي عن امرأة، وهن "تانيا، وضحى، وماري تريز" المرأة إذن هي محور الأحداث، وهذا يعطي اشارة إلى مكانتها عند الراوي ودورها الحيوي، واعتقد أن اختيار الراوي لأسم "ضحى" للرواية كان يقصد به تأكيد فلسطينيتها، فرغم أن هناك مأساة أصابت "ماري تريز" كما أصابت "ضحى" إلا أن الأولى وجدت دولة تعتني بها وتعطيها وطن، بينما "ضحى" لم تجد إلا التشرد والتنقل والإذلال من خلال التعامل معها من قبل "فؤاد عجمي وجاسم الربيعي" على أنها مجرد متاع قابل للبيع أو السلب، لهذا نجدها تتنقل من مكان إلى آخر بحثا عن الأمان والحياة السوية، فمن القدس إلى البصرة ومنها إلى بيروت، وبعدها إلى قرطاج حيث لقت حتفها هناك، على يد سكير سادي.
المكان
جمالية النص الأدبي يمكن أن تكون في الفكرة، أو الأحداث، أو الشخصيات، أو في المكان، أو في اللغة، أو طريقة السرد، أعتقد أن هذه الرواية فيها مجموعة من العناصر الجمالية وسنحاول أن نتحدث عنها قدر المستطاع, وسنبدأ الحديث عن المكان، الذي يعد أحد أهم العناصر التي يهتم بها الفلسطيني، وها هي "تانتشكا" عندما تتحدث عن "غوغول" أحد اعمدة الأدب الروسي تقول عنه: "غوغول من أعظم كتاب المسرح الروسي، حج إلى القدس في عام 1848... من هنا كتب يقول: إن زيارتي للقدس هي الحدث الأهم في حياتي، هنا يختفي كل ما هو أرضي عندي، فلا يبقى سوى ما هو سماوي" ص31، عندما يأتي هذا الكلام على لسان أحد أعلام الأدب الروسي وفي عام 1848، بالتأكيد يعطينا اشارة إلى المكانة التي تحملها المدينة ليس بالنسبة لأصحابها الفلسطينيين فحسب بل لكل المؤمنين، ولكن المثقفين، ولكل الأدباء، فهي أكبر من ان تختص بجماعة معينة تريدها عاصمة لها.
إذا كان للقدس حضور عند الروس فكيف سيكون حضورها عند الفلسطينيين؟، بالتأكيد سيدخلها الراوي إلى أدق تفاصيها: "...نمر بالقطمون، إلى جبل صهيون ثم نعود إلى المصرارة مرورا بجورة العناب... إلى حي سعد وسيعد والشيخ جراح وشعفاط، وأحيانا شطحة أبعد، إلى عين كارم والمالحة ودير ياسين ولفتا أو بيت لحم وبيت ساحور وبيت جالا" ص151، هكذا حال الفلسطيني، يتناول أدق التفاصيل للمكان، وكأنه من خلاله يريد أن يقول لنا: أنا صاحبه لهذا تجدني أعرف كل شيء فيه وعنه.
لكن بعد أن تغريب المكان وتهويده، أصبح هناك تشويه له وللحقيقة، وكان لا بد من ذكر ذاك التغريب والتهويد والتشويه الذي أجراه المحتل على المكان، "معالم القدس تغيرت أو غيرت بالقوة، فالكولنيالية تقوم على تغيير صك الملكية من الساكن الأصلي إلى الجديد، ... ثم تغير تاريخها، أو تخرع تاريخا جديدا وتفبركه، إنها تسرد تاريخ الأمة طبقا لمصالحها ووجودها، وتصنع رموزا جديدة تتعرف فيها على نفسها فيها، الطالبية أصبحت "كوميموت" والقطمون أصبح "غونين" والبقعة أصبحت "غيؤوليم" حتى القدس يدعونها يروشلايم" ص160، هذه احدى اهم سمات الأدب الفلسطيني، تركيزه على المكان، المكان الذي يعرفه باسمه الحقيقي، وبتفاصيله الدقيقة، لهذا نجده يكتشق أي تشويه يحدثه المحتل، أن كان من خلال التسمية أو تغيير معالمه.
وتحدثنا "ماري تريز" عن القدس التي عاشت فيها وتزوجت فيها، تقول: "... وجاء القنصل الألماني ممثل الوطن الأم في القدس، وجاء قائد الشرطة التركي ومحافظ المدينة، وجاء بعض جيراننا العرب، واليونان، والأرمن والروس والطليان فالقدس مدينة متعددة الشعوب والأعراق" ص294، نجد الحياة المدينة بكل جلاء فيما سبق، حيث المجتمع المدني المتعدد والمتنوع، فلا يوجد أي حواجز بين سكان المدينة، كلهم يتشاركون في الأفلاح، فالمدينة استطاعت أن تصقل السكان وتوحدهم، بحيث لا نجد أي فوارق تحول دون أن يتشاكون في الأفراح.
الملفت للنظر أن الراوي قدم لنا صورة للقدس من وجهة نظر الروس "غوغول" والألمانية "ماري" وهذا يؤكد على أن المدينة أكبر من أن تكون لجهة معينة، حتى لو كانت أصيلة، فما بالنا أن كانت دخيلة عليها وعلى سكانها؟، من هنا، ومن خلال استخدام الراوي لهذا الشكل من الطرح، يمكننا القول أن الراوي كان ذكيا في تناوله لمكانة مدينة القدس، فعندما يتحدث عنها الروسي والألماني بهذه الروح بالتأكيد هو يعزز الموقف الفلسطيني الذي يقول أن المدينة مفتوحة للجميع، ولم تكن يوما محظورة أو ممنوعة على أي من المؤمنين، بصرف النظر عن قوميتهم، وواهم كل من يعتقد أنها يمكن ان تكون لجهة دينية مغتصبة لها.
الفلسطيني
كما يهتم الكاتب الفلسطيني بالمكان فإنه يهتم بالإنسان، لهذا نجده لا يتوانى عن ربطهما معا، فتغريب المكان ملازم لتغريب الإنسان، فهما توأمان في كل شيء، ومتماثلان، "...جفت سواقينا، وشنقوا البلبل الشادي، خمدت الأرض، ومن كثرة مجازرهم، فدفناهم، بلا أكفان، في رجم وفي وديان، أزاحونا، من ديار، كانت لنا، ...
وسعوا سياجهم وقالوا:
هبة الله وعدل القوي
وقف الزمان في المكان، من يومها تتردى الأحوال.
فهل نرحل!؟" ص141، هذه أحدى المأساة التي يعاني منها الفلسطيني، فهو مطرود من وطنه وما زال طريد الاحتلال، ويعاني من التشرد وافتقاده للوطن، ومن الفقر والجوع والذل الذي يجده من الآخرين، إن كانوا أعداء أم أشقاء.
ويقدم لنا الراوي مأساة الفلسطيني في المكان، وكأنه ابن فقده وهو شباب: "ترى! من يكون قاطن البيت الآن؟ هل أقرع الباب، برفق واستجدي إذن الدخول؟ وهل يستأذن صاحب البيت؟ وماذا عساني أقول لقاطن داري؟، جاء من بعدي؟ واستباح مهدي وجهد أبي؟ وأنزل صورة جدي عن الحائط؟ وبعثر كتبي وخزانة أمي؟ وغير ديكور البيت والستائر؟" ص167، هذا واقع الفلسطيني الذي يزور بيته/وطنه ولا يعود أليه ـ حسب تعبير الشاعر "أحمد دحبور" ـ فالمكان له، وحاضر أمام نظره، لكنه بعيد جدا عنه، فأمامه المحتل وما أحدثه من خراب/تشويه/تغريب فيه، هذا واقع الفلسطيني، وطنه أمامه لكنه ليس له، وهنا تكمن مأساته، الوحيد في العالم الذي له وطن لكنه لا يستطيع أن يتمتع به.
لهذا نجد هذا القول الذي يعبر عن واقع الفلسطيني: "ألم البقاء في حيفا أرحم من دموع العودة إليها؟؟؟" ص223،
لكن لم تتوقف مأساة الفلسطيني عند هذا الأمر، فهو محزون ومأزوم، وفي ذات الوقت ينعم المحتل في فرح وبهجة: "يوم النكبة للفلسطينيين هو يوم تأسيس إسرائيل، يوم عذابنا وضياعنا هو يوم وجود كيان للإسرائيليين... لكم حرب الاستقلال والنصر، ولنا النكبة والتهجير، يوم واحد له حكايتنا مختلفتان" ص180، مأساة مزدوجة، عندما يكون الفلسطيني في غاية البؤس نجد في ذات الوقت ـ عدوه، من سلب أرضه ـ في غاية الفرح والسعادة، لهذا يكون ألم الفلسطيني ألم مزدوج، فلو كان هناك تعاطف مع مأساته من خلال توقف أعمال الاحتفال لكن وقع المأساة عليه أخف،، لكنه يتألم، ومن أحدث له المأساة يفرح مبتهجا.
الألمان
كما قلنا في بداية الحديث أن الألمان في فلسطين تعرضوا للبطش الاحتلال الانجليزي واليهودي كما هو حال الفلسطينيين تماما، فقد تم تهجيرهم وسلب بيوتهم وممتلكاتهم، فقد استطاعوا أن يحدثوا نقلة نوعية في الاقتصاد الفلسطيني وفي الحياة العامة فيها، فهم لم يأتوا إليها كمحتلين لهذا وجدناهم يعمروا فيها ويشقون الطرق ويطورون الانتاج الزراعي والصناعي: "ساهم التمبلر بنهضة البلاد من انحطاطها وتخلفها فقدموا أشياء كثيرة: العربات التي تجرها الخيول كوسيلة مواصلات الأمر الذي طور فروع المواصلات والتجارة والسياحة، إقامة شبكة فنادق ضخمة على المستوى الأوروبي في كل من الناصرة، القدس، حيفا، يافا، طبريا، الرملة.. وكذلك قادوا زرعة حديثة فكانوا أول من أدخل المحراث الحديدي، وأول من زرع الأرض بموسمين في السنة، وأول من أدخل مضخات المياه والمطاحن ومعاصر الزيت بواسطة البخار والغاز، وأول من أدخل حظائر صناعة لقطعان البقر والنحل والدجاج، وطور الحرفة والصناعة إلى مستويات أوروبية عالية" ص276، من هنا كانت معاقبة الألمان قاسية، فالاحتلال الانجليزي والإسرائيلي يعملان على ضرب أي نهضة أو حركة تطور في الحياة الفلسطينية، فهم يسعون إلى تحوليها إلى خراب لتكون لهم بعد أن يهجرها/يتركها أهلها، من هنا نجد الألمان تعرضوا لبطش وإرهاب تماما كالفلسطينيين، فهم يعدو أحدى العناصر الحيوية في الحياة الفلسطينية، كما أنهم يخدمون فكرة التعدد والتنوع التي تنعم بها فلسطين، والاحتلال يريدها بلون واحد، لون الإسرائيلي فقط.
المحتل يعاقب الألمان على ما أحدثوه من نقلة نوعية في الحياة الفلسطينية، لهذا نجدهم يقموا بهذا الفعل: "ندخل بيوت الألمان المهجورة، أبوابها مكسرة أو مقلوعة من مكانها، "نسحب" كل ما تطاله أيدينا، نفكك كل ما يمكن تفكيكيه" ص311، فهم لا يريدونهم في فلسطين، ويريدهم العودة إلى ألمانيا، لأن التعمير والبناء في فلسطين لا يخدم الاحتلال الانجليزي ولا الحركة الصهيونية، لهذا عملا جاهدين على أحداث أكبر الضرر بهم وبممتلكاتهم.
وسنجد الاحتلال يعاملهم كأسرى حرب، رغم أنهم لم يشاركون في أي حرب، فقد كان المقصود إذلالهم وإجبارهم على ترك فلسطين: " ...بعض المعتقلين من نساء وأطفال وعجائز، تمت مبادلتهم مع أسرى حرب، يهود من فلسطين (من الكتيبة العبرية) ... هل نحن أسرى حرب؟ من أية جهة أخذونا؟ هل نحن عابرون في هذا الوطن؟" ص331، بهذه الوحشية تم التعامل مع سكان فلسطين الألمان، فهم كانوا يعتبرون أنفسهم جزء من سكان فلسطين، لكن المحتل والحركة الصهيونية نسفوا كل احلامهم وحولوها إلى كوابيس لا تطاق.
وكعادة أي احتلال غاشم تم التعامل مع الألمان ومع حقوقهم المدينة والمالية بطريقة قذرة: "سنة 1964 وقع اتفاق "تعويضات" بموجبه تعوض الحكومة الإسرائيلية التمبلريز، عن ممتلكاتهم في مستعمراتهم الخمس/ مبلغ 54 مليون مارك، ما يعادل 11 مليون دولار أمريكي..
وهذا المبلغ لا يعادل ثمن بيت واحد، بيت فرنك مع حديقته ذات الستة دنمات" ص340، خاتمة كخاتمة الفلسطيني تماما، فما أخذ من تعويضات لا يعادل واحد في الألف من القيمة الحقيقة لثمن البيوت والأراضي المصادرة، وكما أن عملية التعويضات تمت من خلال منطق الأمر الواقع وليس من خلال رضى الطرف الألماني.
كل هذه الحقائق لم نعرفها إلا من خلال رواية "ضحى" وهذا ما يجعلنا نقول أن العمل الروائي/الأدبي لا يمكن أن نختصر تألقه بناحية معينة، بل من خلال مجموعة عناصر تتآلف معا، منها الفكرة، المضمون الذي يقدم فيه، وهذا ما فعلته رواية "ضحى" تحديدا.
المحتل
لم يبالغ الفلسطيني في تقديم المحتل، فقدمه على حقيقته، كما هو، دون مغالاة أو نقصان، كما جعله يتحدث بلغته هو، ولم يستنطقه أو يجبره على قول بعينه، وليس هناك أبشع من احتلال استيطاني يعمل على سلب الأرض وقتل أو تشريد او محو أهلها من الوجود، سنجد حقيقة المحتل من خلال هذا القول: "...نحن لا نترك الأمور للأقدار.. ولا "نلقى الحبل على غاربه" إذا قتلت فرصاصتان: واحدة تقتل والأخرى تؤكد القتل" ص190، هذا ما جاء على لسان "شمعون ابن حسون" فالقتل عنده ادة لتحقيق الهدف الصهيوني والمتمثل بإلغاء الفلسطيني من الوجود، أو لإلغاء أي تواجد إنساني غير يهودي في فلسطين.
تحدثنا "ماري تريز" عن الجريمة التي اقترفها أحد أفراد الاحتلال في تفريغ الحي الألماني من ساكنه فتقول: "دخل غلى معسكرنا رجل "غاضب" جاء من مستوطنة كفار دفيد القريبة، أطلق نارا عشوائية على جموع التمبلريز. نفذت ذخيرته فركض بيتر "الطبيب" يسعف الجرحى، لكن الرجل "الغاضب" بدل "الباغة" بسرعة وأطلق النار على بيتر... سقط عماد البيت ورب العائلة" ص333و334، هذا هو الصهيوني على حقيقته، قاتل وإرهابي معا، يقتل لمجرد القتل، وما يهمه فقط إفراغ الأرض من سكانها، فلا يراعي صغير أو كبير، ولا يأخذ بالحسبان أن من يقتلهم هم بشر وليسوا طراد برية.
المحتل لم يقتصر على أسلوب القتل في إفراغ الأرض من سكانها، لكنه استخدم طرق أخرى، منها استغلال ظرف القمع الذي يمارس على الناس، واجبارهم على بيع بيوتهم أو بيع ما فيها من أثاث، حتى إذا ما هدئت الأمور لا يجدوا شيء يساعدهم على البقاء، تخبرنا "ماري تريز" عن هذا الأسلوب فتقول: "...ما أكد سوء أخبار الجبهة كثرة اليهود الذين راحوا يعرضون علينا شراء أثاث بيوتنا، جاءوا إلى البيوت الألمانية كضباع مفترسة، في محاولة أن "يخطفوا" الكثير مقابل ثمن قليل، ساوموا على الأثاث بعناد لا يوصف، كما يحسن عمله "تاجر البندقية". وسيلة إقناعهم كانت: "ممتلكات ستصادر ولن تحصلوا على أي تعويض" ص301.
الانجليز
صورة الانجليزي لا تختلف عن صورة المحتل الإسرائيلي، فكلاهما مارس القتل والإرهاب بحق الفلسطينيين، الأول مهد الظروف والأرض والسكان للثاني، تحدثنا "ماري ترز" عن الانجليز بعد أن دخلوا فلسطين مباشرة: "في منتصف عام 1918، والحرب قد أشرفت على نهايتها، وقد مضى على البريطانيين في القدس شهور عديدة، قام الجيش بنهب أثاث المدرسة من كراسي مقاعد .. ومزق صور رجالات الدولة الألمانية العظماء، ثم قام بحملة اعتقالات لكل الرجال التمبلريز بتهمة: "أنهم مواطنو دولة عدو وأنهم ساهموا في المجهود الحربي الألماني" ثم نفاهم إلى معسكر اعتقال في حلوان المصرية" ص302، الطريقة التي استخدمها الانجليز في معاملة السكان عين الطريقة التي استخدمها ويستخدمها المحتل الآن في فلسطين، فبعد أن تم زج الألمان في معسكرات الاعتقال، قام الانجليز: "استوطن الجنود والضباط البريطانيون في بيوتنا المهجورة... يومها كان مسموحا للضباط أن يستخدموا أسرى الحرب. شال الحمالون كل ما استحلته عيوننا ووسعه "بيتنا"... بعض الأسرى كانوا في الباس الأحمر، في خاصرتهم سلاسل حديدية مربوطة بأرجلهم... لاحقا علمت أنه محكوم عليهم بالإعدام" ص304.
ما فعله الاحتلال الانجليزي في فلسطين كان قتل وسلب وتشريد وتهجير، تماما كما فعل الاحتلال الإسرائيلي لاحقا، وكأنه كان يعلم الأبن الإسرائيلي على الطريقة التي يمكنه من خلالها أن يثبت وجوده في الأرض الفلسطينية.
الجدار الفصل العنصري والأسلاك الشائكة والبوابات والممرات الحديدية كلها أحدثها الاحتلال الانجليزي في فلسطين: "قسم البريطانيون المدينة إلى أربع مناطق " "aأقاموا حول حينا سياجا شائكا وفرضوا حراسة على مدخل الحي، أصبحنا نتنقل بتصاريح خاصة تحدد المناطق الممنوعة والمسموحة، تضيق القدس كثيرا، وهي في الأصل مدينة صغيرة.." ص323، وكأننا نتحدث الآن عن نابلس أو الخليل أو أي مدينة فلسطينية أخرى، فالأب الانجليزي المؤسس للاحتلال أعطا الأب الإسرائيلي كل الطرق والوسائل والارشادات التي يجب أن يتبعها ويستخدمها، فهناك خطة مرسومة بدقة، تمارس في فلسطين منذ أن احتلالها الانجليز لتفريغها من السكان، وتحويلها إلى دولة وأرض يهودية خالصة.
السوفييت
هناك أثر تركه الاتحاد السوفييتي على كل من درس وتعلم فيه، فالفلسطيني أصيل يحافظ على المعروف، لهذا نجد الراوي يخبرنا عن الاتحاد السوفييتي بهذه الصورة: "... السر في جواز سفري أن الشعب السوفييتي مضياف جدا، يعامل الأجانب كضيوف مهمين، يلبي رغباتهم ويسد احتياجاتهم... ومرة أخرى، عندما أصدرت السلطة الثقافية الأعمال الكاملة لدستيفسكي، كان الدور طويلا جدا، وقف الناس، في البرد، تحت تساقط الثلوج أكثر من ثلاثين ساعة (أنا لا أبالغ) يا إلهي! هل هذا نهم إلى الثقافة؟ كان جواز سفري الأجنبي "الساحر" أختزل الزمن والمسافات.. احتضنت تانتشكا الكتب، ترضعها، كأنها طفل أعادوه إلى ثدي أمه بعد جوع" ص33و34، بهذه العطاء وهذه الثقافة امتاز السوفييت، فهم شعب مخلص لقضايا الأممية وأيضا مثقف ويهتم بالثقافة، ولهذا وجناه يقف لعدة ساعات فقط ليحصل على المادة الأدب، أو لشاهد المسرح.
عقلية المهزوم
مهم جدا أن نصارح أنفسنا، فنحن كشعب وكأمة مهزومين، ولنا طريقتنا في تبرير هزيمتنا، من أشكل هذه التبريرات العودة للماضي، للتاريخ: "...فيبقى مشدودا إلى قلاعه السالفة، موثقا بأوتاد ماضيه، يجتر أيامه الغابرة، يديم وتين ناض لا هدف له، يسعى إلى إدامة نفسه، يتفنن برسم صورته المشتهاة، صورة الضحية، كأنه يبحث عن إله يعبده، يؤجل المستقبل، فلا يبحث عن طموحه، إلا في رجوع إلى سالف" ص145، اعتقد أن دور المثقف لا يقتصر عن تقديم الأمل بل البحث عن مواضع الخلل التي تعاني منها الأمة/الشعب، وهذا ما كان في رواية "ضحى".
الرمز
رغم أن الرواية تحدث عن حدث واقعي، إلا أن الراوي أوجد بعض المواضع الرمزية في الرواية، وكأنه بها أرادنا أن نخرج من ثقل الواقع وبؤس الحال، إلى التفكير والتوقف متأملين أكثر منا متلقين: "أن الروح تستأذن الله بزيارة جسدها الذي كانت تعيش فيه بعد ثلاثة أيام من مغادرتها له.. وعندما ترى الروح جسدها السابق في المقبرة وسط الدم والمياه القذرة بحالة مؤلمة تحون وتبكي قائلة "يا للجسد المسكين، جسدي السابق" ص165، فهو هنا أرادنا أن نربط حال الروح والجسد بحال الفلسطيني الذي اجبر على هجرة وطنه مكرها.
"ضحى"
يستوقفنا عنوان الرواية "ضحى" فهي المرأة التي كانت نشيطة حزبيا وتعمل بكل اتفان لانتصار قضيتها، لكنها بعد الاحتلال وبعد أن اجبرت على ترك وطنها فلسطين نجدها في حال غير حالها، فتتحول إلى العمل في احدى خمارات البصرة: "ضحى، الشقية المتمردة، قارئة الكتب وعاشقة الأمل والمستقبل الجميل، ضاقت ذراعا بهذا المؤقت الطويل، تركت جبالا، غربي النهر وارتحلت إلى أخرى شرقية، هنا، أطبقت عليها فداحة الخسارة، بعد أن تجرعت كؤوس الهوان، حتى الثمالة، تدحرجت في منزلقات الشرق، لسوح في اله=عالم، من حيطه المسلوب إلى خليجه المنهوب ... إلى أن جاءت خمارة البصرة، هنا شلحت عذريتها، وتنصلت من خسارتها... لطلاب المتعة من :عرب وعجم وعلوج، لكم، ليلي المسدول على أردافي .. ببعض قروش" ص201، هكذا يكون حال المكسور المتقهقر، فبعد الثورة والتمرد نجد، المرأة، والتي من المفترض أن تعامل بلطف ونعومة ينكشف لها الواقع بكل سفالته ليسحقها بين أنيابه الصفراء، فيحولها من امرأة مثالية إلى مومس في الخمارات.
بعد الصراع بين المتوحشين "فؤاد عجمي وجاسم الربيعي" نجدها تقبل على الزواج من "جاسم الربيعي" الذي عاملها كجارية ليس أكثر: " اكتشفت ضحى أن حالتها الاجتماعية ليست زوجة ذات حقوق وأمل في الخلفة، با جارية مملوكة، إن ولدت فأبن زنا، وأن شاء جاسم الربيعي نسبه إليه وإن شان رفضه ورفضها... احتجز وثيقة سفرها، وكل أوراقها الثبوتية، ... عطل الهاتف.. حتى حليها ومساحيق تجميلها، أخذها .. ثم منعها من أن تخرج من البيت أو تلتقي بالناس، حتى لو كانوا جيرانها.. وزيادة في حرصه فقد جز شعرها ... صادر الشعر الأسود الطويل.. في الحقيقة سلبها هويتها الإنسانية أفكارها الوردية وعلامات أنوثتها" ص206و207 ، لهذا نجدها تقرر أن تتمرد على هذا الواقع، وتهرب إلى بيروت، وهناك: "بدلت أحزابا وغيرت انتماءات، وما استقرت في فصيل" ص208، ثم تهاجر إلى "قرطاج" وهناك تلقي حتفها على يد "البحار" بهذه النهاية البائسة انتهت "ضحى"، نهاية تكمل مأساتها كفرد من أفراد الشعب الفلسطيني الذي ما زال يعاني الجوع للوطن، الوطن الذي منه وبه يستطيع أن يتقدم من الحياة بأمل وعطاء.
الحكم
في كل رواية يضع الراوي خلاصة نظرته للحياة في عمله الأدبي، وهنا سنجد مجموعة من الحكم التي نمثل رؤية الراوي لواقعه كفلسطيني يعاني من القهر الذي تمارسه قوى الاحتلال عليه:
"أكلب حقك بإلحاح .. ولا تساوم" ص13.
ويحدثنا المقاتل السوفييتي عن هول الحرب فيقول فيها:
"لن نحارب يا صغيرتي بعد اليوم، فالحرب جهنم على الأرض، لا يعرف لظاها إلا المحارب" ص111.
وتحدثنا الفلسطيني عن ألمه من خلال اقتباس عبارة من الكوميديا الإلهية:
"إنه لا ألم أشد من تذكر عهود الهناء في أيام البؤس" ص144.
وتحدثنا "ضحى" عن رؤيتها عن ضرورة الانتقام من خلال قولها:
"الانتقام العادل فعل إنساني، فإن لم تكن للضحية حقوق على القاتل، لن يكون هناك عدل ولا إنسانية، لعل الانتقام يمنح الإنسان شعورا ممتعا بالراحة والعادلة" ص216.
وتخبرنا "ماري تريز" عن حالتها بعد أن فقدت وبيتها في وطنها فلسطين: "من يفقد حلمه، لا تعنيه اتجاهات الرياح" ص340.
الرواية من منشورات دار فضاءات للنشر والتوزيع، عمان الأردن، الطبعة الثانية 2018.
المصدر: مجلة عشتار الالكترونية