ليس من الصحيح أن يرمي الفردُ نفسَه في أحضان أيِّ جماعة كانت، لمجرَّد أنَّه يؤمن بمبدأ بالعمل الجماعي، ويتعامَل مع الموضوع وكأنَّه إسقاط فَرض، فيباشر الأمرَ كيفما اتَّفق، أو يملي عليه مَن يؤثِّر فيه إملاءً، ولكن يَنبغي على الفرد أن يَبحث جيدًا، ويقرأ بتمعُّنٍ وتدبُّر، ثمَّ يرى مسيرةَ تلك الجماعة وتاريخها، ويحلِّل تحليل الفاهم العاقِل الحاذق، ثمَّ يستشير، ثمَّ يقرِّر.
والجماعة أيًّا كان نوع عملها، وطبيعة توجُّهها، لا بدَّ من أن تتَّصف بمجموعةٍ من الصِّفات الإيجابيَّة التي تؤهِّلها للعمل لتحقيق أهدافها، منها:
<!-- أنَّها تَخشى اللهَ جلَّ جلاله
فالجماعة يَنبغي أن تكون سالِكةً لطريق الله جلَّ جلاله، معتصِمة به جلَّ جلاله، مؤدِّية لأوامره، مجتنبة لنواهيه، سائرة على نَهج نبيِّه محمد . ﷺ .، وكما ذَكرنا قولَ الله جلَّ جلاله في قرآنه الكريم: ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا ﴾. [آل عمران : 103]، فلا يَكفي أن يكون هناك جماعة، ولكن أهم شروطها أن تكون معتصِمةً بالله جلَّ جلاله، ولا تتحقَّق الخشيةُ التي هي مدار بَحثنا إلَّا بالإيمان بأنَّه لا ينفعها إلَّا أن تعيش مع الله جلَّ جلاله وتطبِّق شرعه، وتكون قريبة منه؛ فإن فعلَت ذلك فهي تَستجيب لأمر الله جلَّ جلاله بطاعة دعوة رسوله . ﷺ .، يقول ابن القيم رحمه الله في قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴾ [الأنفال : 24]،
يقول: (فتضمَّنَت هذه الآيةُ أمورًا؛ أحدها أنَّ الحياة النَّافعة إنما تحصل بالاستجابة لله ورسوله، فمَن لم تَحصل له هذه الاستجابة، فلا حياة له، وإن كانت له حياة بهيميَّة مشتركة بينه وبين أَرذل الحيوانات؛ فالحياة الحقيقيَّة الطيِّبة هي حياة مَن استجاب لله والرسول ظاهرًا وباطنًا؛ فهؤلاء هم الأحياء وإن ماتوا، وغيرهم أموات وإن كانوا أحياء الأبدان، ولهذا كان أكمل النَّاس حياةً أكملهم استجابةً لدعوة الرسول، فإن كل ما دعا إليه ففيه الحياة، فمَن فاته جزء منه فاتَه جزء من الحياة، وفيه من الحياة بحسب ما استجاب للرسول . ﷺ .).
<!-- صلاح القيادة وأحقيَّتها
والقيادة المعنيَّة هنا هي القيادة الإداريَّة، ونقصد بالصلاح الالتزام بالمعايير الإستراتيجية المتَّفق عليها للعمل وفقها، وتطبيقها على أرض الواقع، وعدم تخطِّيها ونقضها، وأمَّا أحقيَّتها فهي الكفاءة والمهارة الإداريَّة والفنيَّة والقدرة البدنيَّة، والدهاء في سياسة الناس.
لقد سُئل رجل من أتباع الأحنف بن قيس رحمه الله: "بمَ بلغ فيكم الأحنف بن قيس ما بلغ؟
قال: إن شئتَ حدَّثتُك ألفًا، وإن شئتَ حذفتُ لك الحديث حذفًا.
قال: احذفه لي حذفًا.
قال: فإن شئتَ فثلاثًا، وإن شئتَ فاثنتين، وإن شئتَ فواحدة.
قال: ما الثلاث؟
قال: كان لا يشره، ولا يحسد، ولا يمنع حقًّا.
قال: فما الثنتان؟
قال: كان موفَّقًا للخير، معصومًا من الشرِّ.
قال: فما الواحدة؟
قال: كان أشدَّ الناس على نفسه سلطانًا".
<!-- أن تكون غير مختلفة فيما بينها
الاختلاف والتضاد آفَة من الآفات التي تفتك بالعمل الجماعِي، وتفتِّت أعضاءَه، وتمزِّق أوصالَه، وليس المقصود اختلاف التنوُّع الذي قد تَنبثق عنه أفكار ورؤًى جديدة، تَنطلق منه أعمال مفيدة للأمَّة، وتحفِّز أبناءها على العطاء، ولكن الاختلاف المذموم هو اختلاف التضادِّ الذي قد يتطوَّر مع الزَّمن فيصل إلى مرحلة الجدَل العَقيم، الذي يولد العداوةَ والبغضاء والشَّحناء، ثمَّ الاقتتال.
ولقد شاعَت اليوم آفَةُ الجدَل والاختلاف بين الناس، على الرغم من أنَّ رسول الله محمدًا . ﷺ . قد بيَّن خطورتَه ونتائجَه السلبيَّة الكبيرة وعواقبَه الوخيمة؛ لأنَّه في النهاية قد يؤدِّي إلى عمى البصيرة ثمَّ الضلالة، فعن أبي أُمامة الباهلي رضي الله عنه، قال: قال رسول الله . ﷺ .: "ما ضلَّ قومٌ بعد هدًى كانوا عليه إلَّا أوتوا الجدَل". ثمَّ تلا رسولُ الله . ﷺ . هذه الآية: ﴿ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ﴾. [الزخرف : 58].
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (واعلم أنَّ أكثر الاختلاف بين الأمَّة الذي يورث الأهواء، تَجده من هذا الضَّرب؛ وهو أن يكون كلُّ واحد من المختلفين مصيبًا فيما يثبته أو في بعضه، مخطئًا في نَفي ما عليه الآخر، كما أنَّ القارِئَينِ كلٌّ منهما كان مصيبًا في القراءة بالحرف الذي علمه، مخطئًا في نَفي حرف غيره؛ فإنَّ أكثر الجهل إنَّما يقَع في النَّفي الذي هو الجحود والتَّكذيب، لا في الإثبات؛ لأنَّ إحاطة الإنسان بما يُثبته أيسر)،
ويقول الشاعر:
يا قومُ لا ترِدوا الخلافَ فإنَّه ... وِردُ الطَّغام ومنهلُ الأرذالِ
من يشتري السُّمَّ الزُّعاف بسائغٍ ... عذبِ النِّطاف مُصفَّقٍ سَلسالِ
هذه هي النتائج السلبيَّة للاختلاف المذموم، التي مِنها الوصول إلى حالَة الشَّحناء والبغضاء والاقتتال، في حين أنَّ التوجيه القرآني والنَّبوي خلاف ذلك، يقول تعالى: ﴿ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ﴾. [الفتح : 29]، فهذه صِفة المجموعة المَرحومة الموفَّقة، أن يكون أفرادها رحماء فيما بَينهم، أشدَّاء على مَن عاداهم وحاربَهم، ولكن الذي يَحصل أنَّنا غادرنا هذا الفهم الربَّاني الرَّاقي، وتحوَّلنا إلى فهم شيطاني عَقيم، فصرنا أشدَّاء غُلظَاء قُساة على أنفسنا، رحماء على غَيرنا.
<!-- أن تكون غير مترفة
لقد أثبتَت تجارب التاريخ قديمها وحديثها أنَّ من يتصدَّى للعمل من أجل التغيير نحو القِيَم والأخلاق والفضيلة ونصرة قضايا مبدئيَّة ذات أهداف أخلاقيَّة كبيرة للإنسانيَّة - لا ينتصر حتى يتجرَّد من كلِّ أمور البَهرجة الدنيويَّة والعيش المترف.
وفي ذلك يقول أمير الشعراء أحمد شوقي:
فيا فتية الصُّحْف صبرًا إذا ... نبا الرزقُ فيها بكُم واختلَفْ
فإنَّ السعادة غيرُ الظُّهورِ ... غيرُ الثراء وغيرُ الترَفْ
ولكنَّها في نواحي الضمير ... إذا هو باللوم لم يُكتنَفْ
خُذوا القصدَ واقتنعوا بالكفاف ... وخلُّوا الفُضول يغلْها السرَفْ
فواحد من أهم أسباب خذلان الأمَّة وضعفها هو الترَف المادِّي؛ وذلك لسببين:
السبب الأول: أنَّ الترَف يؤدِّي بالفرد إلى البعد عن الله جلَّ جلاله؛ لأنَّ الفرد سينشغل بتوفير مستلزمات الحياة النَّاعمة والثَّمينة والدَّافئة، فإذا وفَّرها انشغل بالاستمتاع والتلذُّذ بها، ومن اشتغل بهذه الترَّهات ابتعد عن أداء ما يحبُّه الله جلَّ جلاله.
السبب الثاني: أنَّ الفرد المترَف سيكون في منأًى عن الأعمال الشاقَّة ويصعب عليه اقتحامها، فيبتعد عن أعمال العزَّة في الدنيا؛ كالجهاد والأعمال الشَّريفة الأخرى التي تحتاج إلى قوَّة روحيَّة وبدنيَّة عالية، وهو قد فقَدها بسبب إيغاله في الترَف.
وخطورة ترَف قادة الأمَّة أشد من خطورة أفرادها، فربَّما كان تقصير الفرد من جرَّاء ترَفِه على نفسه، أو في أسوأ الأحوال على مَن معه، ولكن تقصير كبار القوم وتعلُّقهم بالدنيا سيضطرهم للظُّلم، وذلك سينعكس سلبيًّا على بقية أفراد الأمَّة شاءوا أم أبَوا.
لقد ضرب عمر بن الخطاب رضي الله عنه مثلًا واضحًا في نَبذ الترف حين زار الشام وجاء بعضُ الصَّحابة يستقبلونه وعليهم حلَل شاميَّة، فلقد ضربهم عمر رضي الله عنه بالحصى ونهاهم، واعتبر ذلك ترفًا.
والترف يؤدِّي إلى سلوكيَّات مشينة، منها:
<!--جحود الحقِّ وعدم قبوله، لأنَّ مكتسبات الترَف الماديَّة والمعنويَّة تقود الفردَ إلى جحود أي مبادئ تنافي ما ترغبه نفسُه، والسبب في ذلك الجحود أنَّ الفرد يَعتقد أنَّ أفكار التجديد أو التغيير ستطيح بكلِّ أمانيه، يقول تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ﴾. [سبأ : 34].
<!-- اللجوء لإيجاد تبريرات باطلَة من أجل البقاء على حال الترَف وعدم التنازل عنها، يقول تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ ﴾. [الزخرف : 23]، فهؤلاء الذين يتذرعون بما وجدوا عليه آباءهم هم أَكثر الناس علمًا أنَّهم ليسوا بمقتنعين بما يتذرَّعون به؛ لأنَّهم لو لم يتذرَّعوا بذلك لبحثوا عن غيره ليتذرعوا به.
<!-- اتباع ما تمليه عليهم مترتبات الترَف، وصولًا إلى درجة الإجرام، ومنها قَتل النَّفس التي حرَّم الله، وتقديم الولاء للأعداء، قال تعالى: ﴿ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ ﴾. [هود : 116].
وأخيرًا، فإنَّ وجود المترَفين في أمَّة سيكون سببَ هلاك تلك الأمَّة، يقول تعالى: ﴿ وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا ﴾. [الإسراء : 16].
<!-- تؤمن وتَعمل بمبدأ تكافؤ الفرَص في الحياة
فليس هناك كبار وصغار إلَّا بالعمل الصالح، وبمقدار ما يقدِّم الفرد من إنجازاتٍ للصَّالح العام، وليس هناك أسياد وعبيد إلَّا بموجب حاجات اجتماعيَّة طبيعيَّة وحقيقية؛ فالكلُّ بشَر خلقهم الله جلَّ جلاله، وأمَّا الأسماء والوظائف والمهام، فهي وسائل لتأدِية الأدوار في الحياة وصولًا للهدف المشترك، ولقد صحَّح رسولُ الله محمد . ﷺ . هذا الفهمَ ووضع البوصلةَ في مسارها الصَّحيح حين رأى سعدُ بن أبي وقاص رضي الله عنه أنَّ له فضلًا على من دونه، فقال النبيُّ. ﷺ .: " هل تُنصرون وتُرزقون إلَّا بضعفائكم ".
من هنا وجب على الجماعة تقديم فائق العِناية وكثير الرِّعاية للضعفاء وصغار القوم وفقرائهم، لأنَّ هؤلاء يمثِّلون الفئة التي تُستجلب بها رَحمةُ الله جلَّ جلاله.
وإيمان المجموعة بمَبدأ تكافؤ الفرَص يعني إيمانها بالعدالَة؛ لأنَّ جزءًا من العدالة الاجتماعيَّة هي أن يستطيع أفرادُها عمومًا - وصغارها خصوصًا - أن يَنتقدوا كبارها، أو ينصحوهم، فعن عبدالله بن عمرو قال: سمعتُ رسولَ الله . ﷺ . يقول: " إذا رأيتم أمَّتي تهاب الظالمَ أن تقول له، إنَّك أنت ظالم، فقد تُوُدِّعَ منهم ".
<!-- تعمل من أجل الجميع
فإن كان عمَل الجماعة من أجل الفرد تحوَّل العمل إلى استغلالٍ، واتَّجهَت المجموعةُ بمجملها إلى هاوية السقوط، وأشارَت بوصلتها إلى الاتجاه الخطأ، وتُفهم القضيَّة حين يحاول رئيس المجموعة أن يَسحب المجموعةَ لهذا التوجُّه، فهو بشَر وتنازعه رغبات النَّفس وأهواؤها وعمل الشيطان وغروره، فينبغي على أفراد المجموعة أن يَحولوا دون السَّماح له بالتفرُّد بمصيرهم، وإعادته إلى جادَّة الحق، ليكرس جهدَه من أجلهم، ولكن ما لا يُفهم أن تسعى المجموعة لأن تَجعل ممَّن يرأسها متفردًا بأمورها، مستحوذًا على كافَّة الصلاحيات في العمل، يقول رسول الله محمد . ﷺ .:" وذمَّة المسلمين واحدة، يَسعى بها أدناهم، فمن أخفر مسلمًا، فعليه لَعنةُ الله والملائكة والناس أجمعين، لا يُقبل منه صَرفٌ ولا عَدل ".
وهذا هو مِحور كلامنا الذي أصَّلَته الشريعةُ الإسلاميَّة، فحين يقرِّر أدنى فرد في الأمَّة الإسلاميَّة - مهما كان صغيرًا، اجتماعيًّا، ماديًّا، وظيفيًّا - أن يَمنح الأمانَ لشخص غريب، فإنَّ الأمَّة تلتزم بهذا الأمان ويباشر الجميع تنفيذه، وبالمقابل فإنَّ مَن ظُلمَ أو اعتُدي عليه من أبناء المجتمع الإسلامي تقوم الأمَّةُ برمَّتها للدِّفاع عنه.
لقد لبَّت جيوشُ الأمَّة الإسلاميَّة بقيادة الخليفة المعتصم نداءَ امرأةٍ مسلِمة في عموريَّة حين صرخَت: (وامعتصماه!)، فسارَت جيوشها لرَفع الحيف عنها، هذا لمَّا كان الفهم صحيحًا، وإرادة التغيير قائمةً، والوعي راشدًا، ولكننا اليوم يُصاح علينا من قِبل ناسنا ومن قِبَل المظلومين والمحرومين والتائهين منهم، ولا من سامع، فصار حالنا كما قال الشاعر:
رُبَّ وامعتصماهُ انطلقَتْ ... ملءَ أفواهِ الصَّبايا اليُتَّمِ
لامسَتْ أسماعَهُم لكنَّها ... لم تُلامِسْ نخوةَ المعتصمِ