والسؤال الذي يتردَّد على ألسن أكثر الناس: ولماذا العمل الجماعي؟ وما هي الأسباب التي مِن أجلها يُؤكد على أهميَّة موضوع العمل مع جماعة بهذه الطريقة؟
ومن خلال قراءة منطقيَّة للفوائد العمليَّة لوجود الفرد في جماعة أو فريقِ عمل، نتوصَّل إلى ما يأتي:
<!-- أنَّه استجابة طبيعيَّة للسجيَّة البشريَّة
فالإنسان يحتاج إلى من يعيش معه، ويتبادل معه الأفراح والأتراح، فلم يُخلق الإنسان من أجل أن يعيش منفردًا، فهو يستأنس بأخيه الإنسان، يقول الشاعر:
وما سُمِّيَ الإنسانُ إلا لأنسِه ♦♦♦ وما القلبُ إلا أنَّه يتقلَّبُ
والعمل الجماعي يلبِّي الكثيرَ من الحاجات للفرد، فمنها العاطفيَّة كالعلاقات الأخوية أو علاقات الصداقة، فبوجود الفرد مع مجموعةٍ يمكن أن يحبهم جميعًا أو ربَّما أحبَّ بعضهم، يقول رسول الله . ﷺ .: " المرء مع من أحبَّ ". كما أنَّ المجموعة تمثِّل عونًا حقيقيًّا وسندًا للفرد في مجمل حياته عمومًا، وفي وقت الأزمات خاصَّة.
<!-- ضبط جماح النَّفس للفرد
فالفرد كما هو معلوم تنازِعه أكثر من جهةٍ لجرِّه للهفوات والتقصير والخطأ، فنفسُه الأمَّارة التي بين جَنبيه لها ملذَّاتها ورغباتها، وترغب في الدعة والترَف وغير ذلك، هذا من جِهة، ومن هنا يَحصل التقصير من قِبَل الفرد في أعماله، أو يصيبها الغرور من جهة أخرى، فوجود آخرين في العمل يَعني المشاركة في العمل وفي القرار، في النجاح وفي الفشل، فالإنسان ليس وحيدًا ليتفرَّد ويتمرَّد وتنفلت نفسُه نحو الغرور، اعتقادًا منها أنَّها صانعة الأشياء التي يَعجِز عنها الآخرون، بل هو جزء من مَنظومة لا بدَّ من إعطائها حقَّها.
<!-- العمل الفردي يَجعل الشخصَ فريسةً سهلة للشَّيطان
فتكون قراراته طائشَة، وربَّما استزلَّه الشيطانُ إلى منزلقات خطيرة، بينما العمَل مع فريقٍ يجعل الشيطان يَبتعد، لأنَّ الفريق يقوِّي ويقوِّم بعضُه بعضًا، يقول رسولُ الله محمد . ﷺ .: " فمَن أراد منكم بُحْبُوحةَ الجنَّة، فليلزم الجماعة؛ فإنَّ الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد".
<!-- المراقبة المجانية
فإنَّ من ضروريات العمل النَّاجح وجود المراقَبة الفرديَّة والجماعيَّة، وتسعى المؤسساتُ الرَّصينة بتضمين هيكلياتها الإداريَّة لأقسام المراقبة والمتابعَة؛ لأنَّ الإنسان لا يَكتفي برقِيبه الدَّاخلي مهما ارتفع مستوى الوازِع الدَّاخلي (الضمير) عنده.
إنَّ العمل الجماعي يَضمن وجودَ مَن يراقِب الفرد بالمجَّان، وهذه المراقبة حين تكون من أكثر من فردٍ، ولأكثر من زَاوية، ستجعل الفردَ يحسب ألفَ حسابٍ قبل الإقدام على أيِّ عمل خارج الضَّوابط المتفَق عليها، يقول تعالى: ﴿ وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [التوبة : 105]، ومن هنا كان توجيه رسول الله محمد . ﷺ . للأمَّة بأخذِ دَورها في عمليَّة المراقبة وإعطاء الأهمِّية لذلك الموضوع، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه، يقول: " مرُّوا بجنازة، فأثنَوا عليها خيرًا، فقال النبيُّ . ﷺ .: ((وجبَت))، ثمَّ مرُّوا بأخرى فأثنَوا عليها شرًّا، فقال: ((وجبَت))، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما وجبَت؟ قال: هذا أثنيتُم عليه خيرًا، فوجبَت له الجنَّة، وهذا أثنيتم عليه شرًّا، فوجبَت له النار، أنتم شهداءُ الله في الأرض ".
فيَنبغي عدم التفريط بشهداء الله جلَّ جلاله في الأرض، وهم المؤمنون من هذه الأمَّة، ولم يستثنِ الحديثُ النَّبوي من هؤلاء الشهداء فقيرًا ولا صغيرًا ولا مدفوعًا بالأبواب، بل ربَّما كانت شهادة هؤلاء أعظم درجة وأكثر توثيقًا من غيرهم.
<!-- تفاوت المكانة للأفراد
والمقصود المكانة الاجتماعيَّة أو الاقتصاديَّة أو الثقافيَّة، كوجود القوي والضَّعيف، والغنيِّ والفقير، والعالِم والجاهِل، هذا الواقع سيفرض على الآخرين أداء حقوق بعضهم على بعض؛ فالعالِم يعلِّم الجاهل، والغني يعطي الفَقير، والقوي يدافِع عن الضَّعيف، كما يحصل الوَعي بطرق معيشة طبقات المجتمعات؛ وذلك عن طريق تبادل الثَّقافة والأفكار والخبرة العمليَّة، وكثير من الأمور الأخرى.
<!-- وضع الأنظمة والقوانين
الأفراد المنضمون تحت أيِّ جماعةٍ في الغالب متفاوتون في العادات والتقاليد والأعراف، وحتى في مستوى الإدراك والفهم، وربَّما جاء كلٌّ منهم من بيئةٍ قد تكون مختلفة تمامًا عن بيئة الآخرين، فاقتضى هنا الاتِّفاق على مبادئ يتَّفقون عليها يعيشون بها، ثمَّ يتوسَّعون في هذه الاتِّفاقات لتكون أنظمة وقوانين، وهذا من أروع الأمور البشريَّة، وهي تفتق في الإنسان حالات الإبداع والتطوير والتَّنمية وتقدم الأمَّة.
<!-- تبادل الخبرات
وبما أنَّ أفراد الجماعة قد عاش كلٌّ منهم في ظروف معيَّنة، ونهل كلٌّ منهم من مَنبع علمٍ مختلف، أو من خلفيَّة فكريَّة مختلفة - فإنَّ هذا التنوُّع الجميل في العلوم سيحقِّق تراكمَ خبراتٍ عمليَّه وفق خلفيَّة تلك العلوم، فحين تتلاقح الأفكارُ ويتبادل الأفرادُ خبراتهم فيما بينهم، ستكون الحصيلة كمًّا هائلًا من الخبرات المتنوعة التي تحقِّق تقدمًا في مسيرة الجماعة.