ثورة مصر

edit

 

هو قسم يتضمن مقالات سياسية تتحدث حول شأن الأوضاع السياسية فى مصر والعالم العربى بدءاً من أحداث ثورة 25 يناير " ثورة الصبار"

لم آت بالذئب من ذيله عندما تحدثت من قبل عن وصول الدكتور سامى عبدالعزيز إلى منصبه كعميد لكلية الإعلام بجامعة القاهرة بفضل علاقاته السياسية بلجنة سياسات الحزب الوطنى ورضا جهاز مباحث أمن الدولة عنه، فالكل فى مصر أصبح يعلم (وبالوثائق المطروحة فى كل حدب وصوب) كيف بلغ تغول أمن الدولة مداه فى عهد مبارك فى كل مناحى الحياة فى مصر، بحيث لم يكن يتم تعيين الموظفين مثلا فى شركات البترول إلا بموافقة أمن الدولة، فما بالك بعمداء الكليات الجامعية التى كانت أجهزة أمن الدولة تعتبرها منطقة حظر فكرى على أى فكر مستقل أو معارض أو محترم، لا يعنى ذلك بالطبع أن كل العمداء الذين تم تعيينهم فى مناصبهم الجامعية كانوا عملاء لأمن الدولة، فهناك الكثير من القامات العلمية الشامخة التى احتلت مناصب جامعية تستحقها بكل تأكيد، لكن دائما كان يشترط فى هؤلاء ألا يكون لهم نشاط سياسى معارض علناً لنظام الحكم الفاسد، هناك استثناءات نادرة تثبت القاعدة، وأرجو أن يلجأ من يرغب فى التثبت إلى أبطال حركة 9 مارس لاستقلال الجامعات لكى يرى ويسمع مهازل سيسجلها تاريخ الجامعات المصرية فى أحلك صفحاته.

كنت أتمنى أن يكون فيما كتبته فرصة لكى يتطهر الدكتور سامى عبدالعزيز على الملأ ويحكى للناس عن طبيعة علاقته بجهاز أمن الدولة، ليتضح للناس هل كان مجبراً على تلك العلاقة بحكم منصبه، وهو أمر كان الكثيرون سيحترمونه ويتسامحون معه، لكنه أصر على نفى هذه العلاقة جملةً وتفصيلاً فى رده على مقالى، فاستفز ذلك شابا مصريا من الذين شاركوا فى اقتحام مقار أمن الدولة وتحديدا مقر أمن الدولة بمدينة 6 أكتوبر، بعد أن شاهدوا أدخنة النيران تتصاعد منه، فهب هو وزملاؤه لحماية وثائق مصر من التلف والضياع، وتمكنوا من إنقاذ عدد كبير من تلك الوثائق قبل احتراقها بالكامل، هذا الشاب استفزه ما جرى لطلبة كلية الإعلام من اضطهاد وتشويه سمعة فقرر أن يرسل إلىّ وثيقتين تكشفان علاقة الدكتور سامى بأمن الدولة، وسيتضح لحضرتك من قراءة مضمونهما أنها كانت علاقة تطوعية وليست جبرية، بالمناسبة هذه الوثائق موجودة لدى الجيش المصرى، ولدىّ شهود على تسليمها، وأعرف الجهة التى تسلمتها وهناك شهود مستعدون للإدلاء بشهاداتهم على كونها وثائق أصلية أنقذوها من الحريق، وسأترك إعلان ذلك كله أمام القضاء إذا أراد الدكتور سامى أن يلجأ إليه، وحينها سأطلب شهادات ضباط أمن الدولة الأربعة الذين وقعوا على الوثائق وأحدهم بالمناسبة عميد، لكنه ليس عميد كلية بل عميد أمن دولة.



فى الوثيقة الأولى التى تحمل رقم (34829/31) بتاريخ 26 أكتوبر 2010 تحت عنوان (بشأن متابعة الحالة بكلية الإعلام)، نكتشف أن الدكتور سامى عبدالعزيز، عميد الكلية، يبلغ ضابط أمن الدولة أنه تلقى مؤخراً اتصالا من الصحفى مصطفى بكرى الذى أبلغه فيه برغبته فى عقد لقاء من خلال قناة «الحياة»، فى الساعة كذا يوم كذا، بمقر مكتب العميد بالكلية، وذلك للوقوف على دور الإعلام خلال الفترة الراهنة ورأى المذكور فى قرارات وزير الإعلام الأخيرة حول وقف بعض القنوات الفضائية، وكذا التعرف على خطة عميد الكلية فى تطوير العملية التعليمية، لاحظ أن الدكتور سامى هنا يبلغ أمن الدولة عن لقاء عادى سيتم بينه وبين صحفى كبير، يعنى لا يمكن له مثلا أن يقول إنه يبلغ عن نشاط تخريبى هدام سيتم فى الكلية، أو أنه اضطر بحكم عمله إلى أن يلجأ إلى أمن الدولة لإنقاذها من مصطفى بكرى مثلا، ثم تكشف الوثيقة نفسها فى صفحتها الثانية أن الدكتور سامى كان يبلغ أمن الدولة عن تحركات رئيس جامعة القاهرة الدكتور حسام كامل الذى كان يعمل مستشاراً إعلامياً له، حيث أبلغ الضابط أنه سيذهب فى الغد إلى مكتب وزير التعليم العالى لمناقشة وضع الحرس الجامعى بعد حكم المحكمة الإدارية العليا بطرده من الجامعة، مع أن زيارة كهذه لم تكن سرا، وكان يمكن أن يعرفها جهاز أمن الدولة من خلال مصادره فى مكتب رئيس الجامعة أو حتى مكتب الوزير، لكن الدكتور سامى حرص على أن يبلغ بها أمن الدولة من باب الإخلاص الشديد. أما الوثيقة الثانية التى تحمل رقم تسجيل (30434/ 21) بتاريخ 24 سبتمبر 2010 تحت عنوان (بشأن متابعة الحالة بكلية الإعلام)، فهى تكشف لنا أن علاقة الدكتور سامى بأمن الدولة لم تقتصر على المكالمات التليفونية بل تطورت إلى اللقاءات المباشرة التى يقوم فيها سيادة العميد بإبلاغ رائد أمن الدولة معلومات لا تخص كلية الإعلام وجامعة القاهرة فقط.

بل تتعلق بشؤون الحزب الوطنى، فسيادة العميد كما تصفه ديباجة الوثيقة هو عميد كلية الإعلام بجامعة القاهرة وعضو لجنة السياسات بالحزب الوطنى الديمقراطى وعضو مجلس الشورى بالتعيين، (لاحظوا حرص الضابط على وضع كلمة بالتعيين) ومع أن سيادة العميد بسم الله ماشاء الله حاز كل هذا المجد، فهو يجلس مع رائد أمن دولة لكى يبلغه معلومات، وهو سلوك يأنف أصغر الطلبة الأحرار الشرفاء عن فعله.

هكذا يا سادة وصل الحال بجامعة القاهرة العريقة وبكلية الإعلام رائدة كليات الإعلام فى عهد مبارك بحيث نرى طبقا للوثيقة سيادة العميد (عميد الكلية وليس عميد أمن الدولة) وهو يكشف لسيادة الرائد أنه عرض على السيد جمال مبارك أمين السياسات اقتراحات حزبية لابد من تطبيقها فى الانتخابات المقبلة، ويكشف أن اقتراحاته لاقت قبولا من جمال مبارك، تقرأ ذلك فتتخيل كيف كان الدكتور سامى يقولها بلمعة الظفر فى عينيه، لأنه نال شرفا لم يحظ به سيادة الرائد الذى يتعاون معه، وهو شرف مقابلة جمال مبارك شخصيا،

ورغم أن تلك المقابلة لو حدثت للرائد نفسه لاعتبرها غاية المراد من رب العباد، لكنها لم تمنع العميد سامى من الاستمرار فى قبول هذا الوضع المهين بالاتصال بجهاز أمن الدولة، بل ربما دفعه ذلك الزهو الذى كان واقعا تحت وطأته إلى أن يقوم بتوجيه كتف سياسى لرئيس مجلس الوزراء مرة واحدة، حيث تقول الوثيقة «من جانب آخر أبدى المذكور تحفظه على عدم حضور السيد رئيس مجلس الوزراء لاحتفالية تكريم السيدة سوزان مبارك بالجامعة، وأرجع ذلك إلى إمكانية قرب حدوث تغيير فى الحكومة خلال الفترة المقبلة»، لم يعلم الدكتور سامى وهو يقول هذا الكلام لكى يبهر الرائد بقدرته على التخبيط فى رئيس الوزارة شخصياً وبمعرفته ببواطن الأمور أنه لن يحصل فى النهاية على أكثر من لقب (المذكور) فى التقرير، لم يعرف أنه عندما قَبِل على نفسه بلعب هذا الدور سيظل فى نظر الرائد مجرد (المذكور)، لأن من لا يحترم قدسية مكانته الجامعية لا يمكن له أن يحظى باحترام حتى الذين يتعاون معهم فى جهاز أمن الدولة المنحل.

هل عرفتم يا أعزائى الآن لماذا اعتصم طلبة كلية الإعلام الأحرار الشرفاء من أجل إقالة عميد كليتهم مع أنهم أصلا لم يكونوا يتخيلون أن يصل عميدهم إلى هذا الحد؟! هم اعتصموا لأنهم أرادوا ألا يكون على رأس كليتهم عميد مارس تضليل الرأى العام بوصف الانتخابات المزورة (التى تكشف الوثيقة الثانية أنه كان واحدا من رؤوسها المدبرة) بأنها «نموذج يحتذى به»، ثم تكون لديه الجرأة بعد ذلك على أن يتهم منتقديه بإخضاع مقالاته للتأويل المتعسف، وينسى أن له حوارات مسجلة وموجودة على شبكات الإنترنت، من بينها حوار مع زميلة دفعتى فى كلية الإعلام ريم ماجد قال فيه قصائد شعر عن تلك الانتخابات الفضيحة التى كانت سبباً فى الإطاحة بنظام مبارك بعد أن بلغ سيل التزوير الزبى، لقد اعتصم الطلاب لأنهم رفضوا أن يبقى على رأس كليتهم رجل أهان ثورتهم بوصفها قامت من أجل أجندات أجنبية، فكيف سيكون شعورهم الآن بعد ما قرأوه عن علاقته بأمن الدولة؟ بالتأكيد سيسألون أنفسهم وسيسألون كل قيادات مصر بعلو صوتهم: هل هذا هو النموذج الذى تريدون تكريسه لطلبة الإعلام الذين يفترض بهم أن يقودوا الرأى العام فى عصر ما بعد ثورة يناير التى قامت لكى تلغى النفاق والتضليل والتدليس من حياتنا؟،



هل حطمنا أسطورة نفوذ جهاز أمن الدولة لكى نبقى المتعاونين معها على كراسى نفوذهم؟ هل هذا النموذج هو الذى جعلتم شبابا وفتيات مثل الورد يتعرضون لخطر الموت إضرابا عن الطعام، وتنتهك كرامتهم بعد ضربهم بالعصى الكهربائية على أيدى الشرطة العسكرية التى اقتحمت الحرم الجامعى لأول مرة فى تاريخ الجامعة بعد أن ورطها الدكتور سامى فى ذلك الاقتحام، عندما ادعى أن منشآت الكلية تتعرض لتخريب، وهو ما يجعلنا ندعو لمساءلة أفراد الشرطة العسكرية الذين اقتحموا واعتدوا على الطلاب العزل، وأيضا مساءلة من دعاهم إلى فعل ذلك وسكت عليه وباركه؟!

سواء أجاب أحد المسؤولين عن هذه الأسئلة أم لا، وسواء بقى «المذكور» فى منصبه أم رحل عنه، وأيا كانت نتيجة فتح ملفاته التى بدأت بشائرها تهل من خلال معلومات موثقة سأكشفها تباعا بإذن الله، فهذه تحية من أعماق قلبى لطلاب كلية الإعلام الذين علّموا الكثيرين معنى الصمود من أجل المبدأ، والذين لم تكن معركتهم ضد شخص بل من أجل مبدأ استقلالية التعليم الجامعى وشرف مهنة الإعلام التى تدنست على أيدى عصافير أمن الدولة من الجامعيين والإعلاميين، وطالما ظل فى وطننا شباب وفتيات كهؤلاء سنبقى مطمئنين ونحن نهتف: تحيا مصر.

[email protected]

يمكن رصد قائمة طويلة من الضغوط المتنافسة التى تتنازع فيما بينها على الاستئثار بوقت واهتمام متخذى القرار فى مصر (سواء كنا نتحدث عن المجلس الأعلى للقوات المسلحة، أو رئيس الوزراء، أو الوزراء). والطبيعى أن يتم اختيار الأولويات من بين القضايا الملحة، طبقا لمعايير أو اعتبارات محددة، مثل عدد المتأثرين بالموضوع (كلما كبر عددهم ازدادت الأهمية)، والتأثير على موضوعات أخرى (مثلا يمكن لإصلاح الإعلام أن يؤدى إلى زيادة المصداقية ورفع المعنويات وتعزيز الدور التشاورى والرقابى للإعلاميين)، أو حجم الآثار السلبية إذا أهمل الموضوع (مثلا يمكن تصور أن عدم الاهتمام الكافى بالأحوال الاقتصادية يمكن أن يؤدى إلى آثار سيئة تمس عددا كبيرا من السكان بل يترك آثارا لسنوات مقبلة).

ويطلق على عملية المفاضلة بين المطالب المختلفة مصطلح «إدارة الوقت» والتى يمكن تعريفها على أنها التحكم الواعى فى توزيع الزمن بين أنشطة مختلفة، وذلك بهدف تحقيق أولويات محددة وزيادة كفاءة العمل. وفى معظم الحالات تتطلب عملية إدارة الوقت استبعاد بعض الضغوط والمطالب التى تبدو عاجلة ولكنها غير مهمة. وقد قام «ستيفن كوفى»، أحد أبرز الخبراء فى هذا المجال، بتبسيط عملية تحديد الأولويات، حيث إن حسن إدارة الوقت يقضى عدم اهداره فى الموضوعات التى يمكن أن تصنف على إنها «غير مهمة وغير عاجلة»، أو حتى «عاجلة ولكنها غير هامة»، مع ضرورة الاهتمام بما هو «هام وعاجل» وما هو «مهم وغير عاجل».

ولإعطاء بعض الأمثلة على هذا التصنيف فإن الأنشطة «الهامة والعاجلة» تشمل إدارة الأزمات وإيجاد الحلول للمشاكل الضاغطة بينما يمكن إدراج بعض الاجتماعات غير الضرورية وبعض المكالمات التليفونية الاجتماعية فى اطار ما هو «عاجل وغير مهم». وبالمقابل فإن أنشطة التخطيط والإعداد للمشروعات المهمة، واتخاذ الاجراءات الوقائية تدخل فى نطاق العمل «المهم وغير العاجل».

أما توافه الأمور وقراءة البريد غير العاجل فتصنف على إنها «غير هامة وغير عاجلة».

ويمكن للمتابع لبعض أنشطة القيادات المصرية فى المرحلة التالية لثورة 25 يناير أن يلاحظ وجود تصريحات مثل «اننا نعمل لمدة 20 ساعة يوميا»، او «اننا لم نترك المكتب منذ بداية الأحداث»، أو «اننا نحتاج إلى المزيد من الوقت لحل المشاكل» وكلها تشير إلى دخول فكرة «الوقت» بقوة كعنصر نادر فى عملية اتخاذ القرار ومواجهة المشاكل وتحقيق الأهداف، وهو أمر متوقع فى ظروف الأزمات.


الملاحظة الثانية هى انشغال القيادات بالكثير من أمهات المسائل مثل المقابلات مع ممثلى التيارات السياسية المختلفة، وبحث التعديلات الدستورية، أو لاختيار شخصيات لتولى مناصب قيادية.


الملاحظة الثالثة، هى ظهور بعض الأمثلة على عدم الاستخدام الأمثل للوقت المتاح، مثل عدم المعالجة الصحيحة لبعض المشاكل، مما يفرض معاودة النظر فيها أكثر من مرة، أو إهدار الوقت فى أدوار ثانوية أو ما يمكن تفويض ﺁخرين للقيام به، أو السماح للأمور الثانوية باقتحام وقت المسئولين وفرض نفسها على حساب قضايا حيوية. وهنا تتعدد الأمثلة بدءا بالإصرار على استبقاء الفريق أحمد شفيق كرئيس للوزراء، ومعه عدد من وزراء ما قبل 25 يناير، وتعديل أو تغيير الوزارة أكثر من مرة، وكلها استغرقت وقتا كان يمكن توجيهه لأولويات أخرى.



ثم كان هناك سخاء فى الوقت الذى خصصه الفريق أحمد شفيق للظهور الإعلامى، وإلا فكيف نفسر ظهوره فى برنامج تليفزيونى لمدة تقارب خمس ساعات، وكيف نفهم مروره على أكثر من محطة تليفزيونية عند تعيينه، ومكالماته المتعددة مع الفضائيات. ثم هناك زيادة فى عدد الزوار الأجانب فى وقت غير مناسب ودون عائد واضح.


وبالمقابل فإن هناك شعورا بأن عودة جهاز الشرطة للعمل استغرق أكثر من اللازم وأن هناك حاجة لتركيز متخذى القرار على هذا الموضوع الحيوى وإيجاد حلول مبتكرة وسريعة لهذه المشكلة التى تقع بامتياز فى مجال الأمور «الهامة والعاجلة»، وهو اتجاه عبر عنه رئيس الوزراء المصرى الجديد.


وفى المستقبل المنظور تواجه مصر تحديات قاسية فى مجال التحول الديمقراطى، وإدارة الاقتصاد الوطنى، ناهيك عن مجالها الاستراتيجى فى الاتجاهات الأربعة. ومن الطبيعى أن يصاحب ذلك زيادة فى الضغوط التى تزحم وقت القيادات، بل يمكن توقع وجود مفاجآت وأزمات تستحوذ على الوقت المخصص لأولويات العمل المنظم. ومن هنا تبدو ضرورة تطبيق مبادئ إدارة الوقت بحرص شديد خاصة من ناحية:

1ــ التركيز على الأولويات الحادة المنتقاة طبقا لمعايير واضحة (الحالة الأمنية ــ التحول الديمقراطى ــ الحالة الاقتصادية مثلا).

2 ــ استبعاد الضغوط التى تسعى لفرض موضوعات هامشية أو تفويض مستويات أخرى للتعامل معها.

3 ــ استباق الأزمات والسعى لتحرير الوقت عن طريق استنباط حلول مبتكرة والتفكير خارج الأطر المعتادة (مثلا: دراسة فكرة المجلس الرئاسى مما يتيح للمؤسسة العسكرية تخصيص المزيد من الوقت للموقف على الحدود المصرية، والتحرك بسرعة فى مجال توفير الخدمات الأمنية عن طريق إعادة تنظيم قوة الشرطة، ودعمها بطلبة كليات الشرطة واللجان الشعبية وشركات الأمن الخاص وتحديد المواقع ذات الأولوية، التى لابد وأن تشمل الآثار المصرية).

4 ــ ترك مساحة زمنية احتياطية فى خطط العمل حتى يمكن مواجهة الأزمات الطارئة.

فالوقت كالسيف، إن لم تقتله قتلك!

  • Currently 82/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
29 تصويتات / 834 مشاهدة

 

 

أجب عن السؤال الآتى: لماذا صمت المئات من أمناء الشرطة سنين طويلة على القهر والتمييز فى رواتبهم وإهدار حقوقهم المشروعة، ثم قرروا أن يصرخوا الآن فى مواجهة وزير جديد لم يكمل ثلاثة أسابيع فى منصبه، ومع ذلك فقد بدأ يعيد جهاز الشرطة إلى خدمة الشعب فعلا لا شعارا، ويصالح الشرطة على ملايين المصريين، ويخطو خطوات مهمة من أجل محو ميراث سنين طويلة من القهر والفساد والظلم.

بسم الله الرحمن الرحيم، الإجابة: الخطط الإجهادية.

صدقنى، كنت أتمنى مثلك بالضبط، أن يكون كل ما نشرته أمس عن (الخطط الإجهادية) وقوائم الاغتيالات مجرد تخرصات اجتهادية أو حتى سيناريوهات كابوسية نبعت من عقول أجهدها التشاؤم، رغم أنها وردتنى من مصادر أثق بها كما أثق فى أن مستقبل مصر سيكون أفضل ألف مرة بإذن الله، لكن لعلك الآن متأكد أن كل ما نشرته كان حقيقيا للأسف الشديد، بدليل التطورات المؤسفة التى أدت إلى احتراق طوابق من مقر وزارة الداخلية بلاظوغلى، وكلها جرت عقب ساعات من تسليم مقالى للنشر.

أعلم أنك متشوق إلى استكمال ما ذكرته أمس عن قوائم الاغتيالات التى تستهدف عددا من الشخصيات العامة على رأسها الدكتور محمد البرادعى، لذلك سأرجئ الحديث عن ملابسات حريق وزارة الداخلية الذى يحاول البعض إلصاقه بأمناء الشرطة المتظاهرين وهو ما ستقرره تحقيقات النيابة، لكن لأن الشىء بالشىء يُذكر، ولكى أقضى على كل تصورات لديك بأننى أبالغ معتمدا على ثقتك المفترضة فىّ، دعنى أحيلك ابتداءً إلى التغطية التى قامت بها زميلتنا منى سلمان فى قناة (الجزيرة مباشر) لحريق الداخلية عصر الثلاثاء، حيث أجرت مكالمة تليفونية مع المقدم محمد عبدالرحمن عضو حركة (ضباط ولكن شرفاء) التى أصبحت حديث المصريين فى الفترة الماضية بسبب التصريحات الجريئة لبعض ضباطها ومطالبتهم بإحداث إصلاح جذرى فى الوزارة وهيكلة عملها بالكامل، أتمنى أن يسارع سيادة النائب العام إلى طلب شهادة المقدم محمد عبدالرحمن فى محضر رسمى بعد أن قالها أمام الملايين فى مكالمته، لكى يعرف الرأى العام هل تم حريق «الداخلية» بفعل فاعل للتغطية على ملفات بعض الفاسدين من ضباط أمن الدولة والمباحث الجنائية؟،

ومن الذى استغل أمناء الشرطة وقام بتسخينهم لكى يخرجوا بهذا الشكل غير المسبوق الذى قام بتحويل مطالب مشروعة إلى وقود يشعل نار العداء للشرطة بأكملها فى الشارع المنكوب بغياب الشرطة أصلا؟، لقد كشف المقدم عبدالرحمن فى حديثه عن وجود مصادر أمنية أبلغت زملاءه بأن هناك قائمة اغتيالات يتم الإعداد لها لعدة أسماء، ذكر من بينها الدكتور البرادعى والدكتور علاء الأسوانى والمناضل جورج إسحاق وآخرون لم يذكرهم، بل قال إنه وزملاءه أبلغوا الأسوانى بذلك طالبا منه أن يغير طريقة تحركاته لكى لا يتم استهدافه، وأنهم حاولوا الوصول إلى جورج إسحاق لتحذيره ولم ينجحوا فى ذلك!، واتضح أنه لم يكن يقول ذلك الكلام لأول مرة، بل قاله من قبل خلال لقاء تليفزيونى على الهواء فى نفس القناة، وتعرض لمحاولة اغتيال بعد خروجه من استديو البرنامج، وبعد نجاته أرسل تلغرافا إلى النائب العام يطلب فيه حمايته ولم يتم الرد عليه. أعلم أن سيادة النائب العام لديه الكثير مما يشغله وكان الله فى عونه، لكننى أتمنى أن يتم التفاعل سريعا من خلال مساعدى النائب العام مع أقوال خطيرة كهذه انتشرت كالنار فى الهشيم على شبكة الإنترنت منذ إذاعتها على الهواء.

أعود بعد هذا إلى وثيقة (الخطط الإجهادية) التى وقعت فى أيدى أجهزة سيادية منذ أيام، لأؤكد أن المصدر المطلع قال لى إن هناك فقرة كاملة خصصت فيها للدكتور البرادعى، صحيح أنها لم تتحدث عن تصفيته جسديا، لكنها تحدثت بالتفصيل عن مواصلة تصفيته معنويا، واللافت أنها تطلب فعل ذلك بالتزامن مع عشرات التحركات على جميع الأصعدة لإحداث حالة من الإجهاد للثورة تؤدى إلى إجهاضها، أى أن الوثيقة ترى أن تصفية البرادعى شعبيا للقضاء على فرصه فى التأثير على الناس، أمر لا يقل أهمية عن نشر البلبلة وتوسيع دائرة الاحتجاجات الفئوية لإفشال مهمة حكومة عصام شرف وإثارة الفتنة الطائفية وإحداث الوقيعة بين الجيش والثورة، واللافت أن واضعى الخطط لم يجدوا مداخل جديدة للتعامل مع البرادعى، فاكتفوا بالتركيز على المداخل القديمة مثل حكاية الاستمرار فى نشر دور البرادعى المزعوم فى تدمير العراق وفكرة عمالته لأمريكا، فهم يعلمون أن رجل الشارع العادى ليس لديه من الوقت أو الدأب ما يجعله يدخل على شبكة الإنترنت ليعرف الدور الحقيقى للبرادعى وكيف أنه أصر على عدم وجود أسلحة نووية فى العراق ووقف فى وجه أمريكا طويلا التى كانت تحلم بنيل شرعية من وكالة الطاقة الذرية لضرب العراق،

 يعلم واضعو الوثيقة أيضا أن رجل الشارع لن يفكر فى البحث على الإنترنت عن حيثيات نيل البرادعى لجائزة نوبل للسلام التى نالها لوقوفه ضد أمريكا وليس لأنها هى التى منحتها له، كما طلبت الوثيقة مواصلة التركيز على ذلك، فضلا عن طلبها مواصلة الاتهامات المكررة بأنه يريد إلغاء المادة الثانية من الدستور وأنه كافر وملحد، وما إلى ذلك من الاتهامات التى نسفها البرادعى من خلال المنبر الوحيد الذى أتيح له أن يظهر فيه، وهو برنامج «آخر كلام» مع المذيع اللامع يسرى فودة، وهو ما حاول أذناب النظام تحويله إلى مأخذ عليه، لأنه ظهر فى قناة نجيب ساويرس، رابطين بين ذلك وبين الاتهامات السابقة، مع أن كل المرشحين الرئاسيين تقريبا ظهروا فى نفس البرنامج، ولم يقل أحد منهم شيئا يختلف كثيرا عما قاله البرادعى من أفكار للفترة المقبلة.

عندما سألت المصدر المطلع حول ما إذا كانت هناك أسماء سياسية أخرى طلبت الوثيقة التركيز على محاربتها فى الفترة المقبلة، أجابنى بالنفى، ولم أستغرب ذلك ليس لأن البرادعى هو الشريف الوحيد الذى يُخشى جانبه بين المرشحين الرئاسيين، على العكس ها نحن نشهد للمرة الأولى وفرة فى المرشحين الرئاسيين المحترمين، بعد سنوات من الترويج لأكذوبة «مافيش غيره» التى كانت تشكل أكبر إهانة فى تاريخ المصريين، تواطأ أهل النخبة السياسية على قبولها راضين صاغرين بل ساهموا فى ترويجها بين البسطاء حتى صارت حقيقة لا تقبل الشك لدى كثيرين منهم، وهى الأكذوبة التى تم نسفها عندما ظهر الدكتور البرادعى على الساحة السياسية ليتوج كفاح سنوات من نضال الناشطين السياسيين والمثقفين والأحرار الذين تجمعوا حوله فى مشهد تاريخى بعد أن أعلن عن عودته إلى مصر لكى يقدم نفسه بديلاً سياسياً عن النظام القائم، ذلك التجمع الذى كان بمثابة شرارة تفجير بركان الغضب الذى اختمر عبر سنوات طويلة، ليهتز عرش مبارك وتتحول أحلام ابنه فى الرئاسة إلى كوابيس، وتبدأ محاولات شرسة لتمزيق تلك الصورة المشرقة على أيدى ضباط أمن الدولة، ثم تنجح التناقضات الداخلية التى ابتليت بها المعارضة المصرية طيلة عمرها فى إفساد تلك الصورة قليلا، ثم تبدأ حملة شرسة تستخدم أحقر وأوطى الأساليب فى تشويه الرجل عبر جميع وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية والمشمومة، وبعد أن نجح الرجل فى الظهور فى أكثر من برنامج تليفزيونى ليكتسب بحديثه منطقا لدى الكثير من البسطاء صدرت على الفور فرمانات منعه من الظهور الإعلامى، بل تم السعى لإغلاق صحيفة «الدستور» الأصلية التى كانت منبرا أمينا لنقل أفكاره وتم ذلك بمساعدة من رئيس حزب الوفد السيد البدوى، لم يتم حسابها عليها حتى الآن.

فى تلك الفترة التى سطع فيها نجم البرادعى، وعندما وجه البعض وأنا منهم انتقادات لفكرة المخلص التى بدأت تروج بين الناس، والتى يمكن أن تخلق لنا مستبدا جديدا، كان الرجل واضحا فى محاربته لتلك الفكرة بإعلانه دائما أنه لا يستطيع عمل شىء لوحده من غير حشد شعبى، لتظهر فكرة التوكيلات الشعبية لدعم مطالب الجمعية الوطنية للتغيير التى بدأت على يد شاب سكندرى غير مُسيّس اسمه صفوان محمد ثم اجتاحت مصر كلها وأرعبت النظام، ليبدأ بعدها التركيز على فكرة بُعد البرادعى عن حياة المصريين، لكن الشباب المؤيدين له بدأوا يحولون تلك التهمة إلى ميزة تجعله قادرا على صنع خيال جديد تحتاجه مصر التى قتل مبارك قدرتها على الخيال، لينتقل العزف الأمنى إلى نغمة سفر الرجل المتكرر للخارج، وهى ملاحظة أشارك الكثيرين فيها، لكننى اعتبرت أنها مرحلة انتهت مع عودته السريعة للمشاركة فى مظاهرات جمعة الغضب التى فجرت الثورة الشعبية الكاسحة فى مصر بعد أن بدأت فى يوم الخامس والعشرين من يناير بدعوة من ثلاثة كيانات على الإنترنت، أغلب رموزها قريبون من البرادعى بشكل أو بآخر، يكفى أن من بينها الحملة الشعبية لدعم البرادعى، ثم بعد تفجُّر الثورة استجاب الرجل لكل النصائح التى وجهت له بألا ينزل كثيرا إلى التحرير خوفا على حياته، ولعله استمع من على البعد لنصائح آخرين رأوا أن ظهوره اليومى فى التحرير سيكون عبئا على الثورة فى ظل حملات الحرب الإعلامية الشرسة التى جعلت من مصلحة الثوار أن يظهر البرادعى بوصفه طيفا من أطياف الثورة، وليس أبا راعيا لها.

ورغم أن الساحة السياسية بعد خلع مبارك وبدء سباق الانتخابات الرئاسية نظريا بدأت تشهد ظهور منافسين أقوياء للبرادعى على منصب الرئاسة مثل الأستاذ عمرو موسى والمستشار هشام البسطويسى والأستاذ حمدين صباحى، بالإضافة إلى منافسين أصحاب تجارب سياسية أمثال الدكتور أيمن نور والأستاذ طلعت السادات والدكتور عبدالله الأشعل، وكل منهم يستطيع أن ينافس البرادعى بقوة، بل إن تحالفات بعضهم يمكن أن تقلل من فرص نجاحه خاصة مع استمرار الحرب الإعلامية ضده فى كل المواقع، ومع ذلك فإن واضعى ومنفذى الخطط الإجهادية لم يكتفوا بجعل ذلك يحدث بفعل تفاعلات الواقع، بل شغلتهم فكرة الانتقام من الرجل، لكى لا يتم ترك أى شىء للصدفة كما حدث من قبل، أو ربما لأن تصفية دور البرادعى تشكل انتقاما من الثورة التى كان أحد قادتها، وتؤدى لإحباط مؤيديه من مفجرى الثورة لتكتمل صورة المسخرة السياسية التى يُراد لها أن تجعل من ثوار يناير أول ثوار فى التاريخ بدلت ثورتهم وطنهم لكنها لم تبدل مواقعهم فى صفوف المعارضة.

من هذا كله تستطيع أن تفهم ما حدث للبرادعى فى المقطم على أيدى من يُجمع شهود العيان الذين رصدوا تحركاتهم على أنهم كانوا يؤدون دورا محددا سلفا، ويشهد الكثيرون من سكان المقطم أنهم غرباء عن المنطقة، لينتقل الدور بعدها إلى اللاعبين فى الصحف الحكومية وبرامج التوك شو، فتأتى على سبيل المثال لا الحصر زوجة رئيس تحرير صحيفة حكومية صفراء ينفق عليها المواطن من ضرائبه لكى تكتب أن البرادعى وابنته ذهبا لكى يقدما رشاوى للناخبين فقذفهما الناس بالحجارة، بينما تردد صحيفة كانت عريقة كلاما يدعو للخجل عن محاولة البرادعى تخطى الطابور، وتتحدث صحيفة أخرى عن أن المواطنين (بالألف واللام) هم الذين رشقوا البرادعى بالحجارة، وما إلى ذلك من ترّهات كشفها الملايين عندما شاهدوا الصور والفيديوهات التى وثّقت الاعتداءات، كل ذلك يحدث فى الصحف الحكومية بينما يكتفى أستاذنا الدكتور يحيى الجمل بالخروج من مكلمة إلى مكلمة ناسياً الآمال التى علقناها عليه فى ملفى الصحافة والحوار الوطنى، ومكتفيا بإشعال الحرائق كلما فتح فمه ليتكلم، للعلم فقط سألت أحد المسؤولين العسكريين قبل أيام عن ملف التغييرات فى الصحافة والإعلام فقال لى إن الأمر فيه متروك للدكتور يحيى بالكامل، وعندما قلت له: لكن الناس تحملكم مسؤولية البطء فى حل هذا الملف المهم، عاد ليكرر أن المجلس يثق فى الدكتور يحيى، وأن رئيس الوزراء بارك هذه الثقة وترك للدكتور يحيى مسؤولية التصرف فى هذا الملف، وهو ما يجعلنا نسأل بصراحة مع محبتنا للدكتور الجمل: هل بات سيادته عبئا على الثورة وآن له أن يستريح ويُريح؟!

هل أقول لك كل هذا الكلام لأننى معنىّ بوصول الدكتور البرادعى إلى مقعد الرئاسة؟، لا والله، فلعلك تذكر أننى كتبت يوم الثلاثاء الماضى قائلا إن كل المرشحين الرئاسيين بمن فيهم البرادعى أثبتوا أن لديهم أزمة حقيقية مع الشارع بعد نتائج الاستفتاء، وأنهم إذا لم يبدأوا بعمل تحالفات سريعة سيخسرون جميعا، كما تعلم كنت قد طرحت فى الأسبوع الماضى فكرة عمل تحالف بين البرادعى والبسطويسى ليكون أحدهما رئيسا والآخر نائبا، وقد أوصلت الاقتراح إلى مقربين من البسطويسى الذين رفضوا الفكرة تماما قبل أن يعلن هو بنفسه رفضها إعلاميا، فأبلغتهم تخوفاتى مجددا من عدم وجود أرضية جماهيرية كاسحة للبسطويسى الذى أحبه وأقدره، على الأقل كما أرى، واقترحت عليهم أن يحدث ذلك التحالف بين البسطويسى وحمدين صباحى بدلا من أن ينزل كل منهما بمفرده، قلت ذلك وأنا من مؤيدى البرادعى وسأظل أؤيده طالما لم يقرر الانسحاب، فالانحياز لهذا الرجل فى رأيى انحياز لقيمته ودوره وإمكانياته وليس لشخصه،

 على أى حال أسعدنى معرفة أن صباحى والبسطويسى سيعقدان اجتماعا سويا خلال أيام لبحث الفكرة، وأنا أناشد كل من يحبون الرجلين أن يباركا هذا التحالف وأن يقدّر الجميع خطورة الفترة الراهنة وحساسيتها، وأن يتذكروا أنها لن تكون آخر انتخابات فى تاريخ المصريين، كما أتمنى على الدكتور البرادعى الذى لم أتشرف بلقائه من قبل أن يغير من خطابه الإعلامى سريعا وأن يفكر فى التحالف مع شخصية تحظى بقبول جماهيرى واسع، اعتبرنى مخرفا لكننى أتمنى أن يكون مثلا الدكتور عبدالمنعم أبوالفتوح الذى يشكل وجها مقبولا للتيار الإسلامى ليس لأنه تعرض لاضطهاد طويل داخل جماعة الإخوان، بل لأنه رجل يقر بمدنية الدولة بمفهومها الإسلامى ويؤمن بعدم إدخال الدين فى الصراعات الانتخابية الرخيصة.

على أى حال، الأهم من هذه التخريفة الانتخابية أن يأخذ الدكتور البرادعى مأخذ الجد كل الأخطار التى يمكن أن تتعرض لها حياته، وأعتقد أنه يجب أن يطالب النائب العام بفتح تحقيق رسمى حول كل ما أثير حول استهداف حياته من العقيد عمر عفيفى والمقدم محمد عبدالرحمن، وأن يطلب رسميا من المجلس الأعلى للقوات المسلحة تشكيل قوة حماية رسمية محترفة له من أكفأ ضباط وزارة الداخلية، ولو أننى سمعت أن اللواء هشام أبوغيدة آخر رئيس لجهاز أمن الدولة المنحل قد تولى منصب رئيس إدارة الحراسات الخاصة، وربما سيكون من مفارقات القدر أن يوكل إليه مستقبلا مهمة حماية البرادعى الذى كان موكلا إليه مهمة محاصرته من قبل، ولعل ذلك يجعله الأنسب لتحقيق هذه المهمة إذا لم تعتبر ذلك تخريفة جديدة من تخاريفى.

 المهم ألا تؤخذ مأخذ التخريف دعوتى للجميع أن يطلبوا من الجيش وبشكل رسمى حماية كل مرشحى الرئاسة المعارضين للنظام السابق والذين يشكل نجاحهم خطرا عليه، أعتقد أن قوى نظام مبارك لا تستهدف البرادعى لشخصه بل لمعارضته لمبارك، ولذلك لن تكون سعيدة أيضا إذا شعرت بأن هشام البسطويسى وحمدين صباحى مثلا يمكن أن يصلا إلى كرسى الحكم، ليفتحا ملفات مبارك كاملة، ولكى ينهيا إلى الأبد فكرة تحالف السلطة ورأس المال لحكم مصر، ولذلك يمكن أن يكونا هما أيضا هدفا للتصفية سواء نزلا الانتخابات فرادى أو معا، وكذلك الحال مع كل وجه ستفرزه الأيام القادمة وتثبت وجود شعبية كاسحة له فى الشارع سواء كان ذلك فى الانتخابات الرئاسية أو البرلمانية، ومن المهم التأكيد على أن حماية جميع هذه الشخصيات ليست ترفا ولا رفاهية، بل هى ضرورة يجب أن تتحملها الأجهزة الأمنية السيادية التى تتمتع بثقة الناس، بإشراف كامل من القوات المسلحة، لكى لا نشاهد كوابيس قوائم الاغتيالات التى شهدتها دول أخرى، وقد تحولت إلى واقع مفزع يدخل البلاد فى دوامة خطيرة والعياذ بالله، حمى الله مصر من كل سوء، وألهم شعبها وثوارها التوفيق والحكمة.

هذا ولاتزال لدىّ فى هذا الملف أوراق شائكة كثيرة، لا أدرى هل سيكون الوقت مناسبا لطرحها فى الأيام المقبلة، أتمنى ذلك إذا عشنا وكان لنا نشر.

[email protected]

 

  • Currently 55/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
18 تصويتات / 489 مشاهدة

 

لأىِّ ثورة عظيمة، فيما أرى، خمسة شروط أساسية لا غنى عن شرط منها، وخمس مراحل (أطوار) لابد أن تمرَّ بها.. ولسوف نتوقف فيما يلى عند أطوار الثورة ومراحلها، ثم نردف ذلك ببيان شروط الثورة الحقة، وتبيان سر العنوان الذى اخترته لهذه المقالة.

                                    ■ ■ ■

لكل «ثورة» فرديةً كانت أم جماعية، خمس مراحل (تفاعلية) متتالية، لا يمكن أن تتطور الثورات وتتم إلا من خلالها. فإذا غابت مرحلة واحدة من تلك الخمس، التالى ذكرها، صار هذا «الفعل» شيئاً آخر لا يمكن وصفه بأنه ثورة.. وهذه المراحل هى على الترتيب (الظلم، الغضب، القمع، الانفجار، التغيُّر) وهى تجرى دوماً على النحو التالى:

الظلمُ هو المقدمة، أو هو البذرةُ الأولى والجنين، لكل ثورة قادمة، والظلمُ صفةٌ إنسانية بحتة، لا تصحُّ فى حق ما هو أدنى من البشر (الحيوان) وما هو أعلى منه (الإله)، ففى عالم الحيوان يتصرف كل كائن بطبيعته الأولى، بحيث لا يمكن وصف سلوك حيوان معين، بأنه «ظالم» لحيوان آخر، حتى وإن كان ذلك الفعل هو الافتراس. فالوحشُ من الحيوان الأرضى، ومن الطير، يفترس غيره، لأن ذلك هو السبيل للبقاء، وليس لأنه يظلم فريسته.. وشرطُ الظلم هو (القصد) أو النية السابقة على الفعل، والحيوان لا يفعل بالنوايا، بل بالغرائز.

وفى كل الديانات الحاضرة والغابرة، يسمو الإله ويتعالى عن صفة الظلم. وقد نصَّ الإسلامُ على أن (الله) حرَّم الظلم على نفسه، ودعا الناس إلى مجانبته والابتعاد عنه. حتى إن فرقة «المعتزلة»، وهى واحدة من أشهر الفرق العقائدية الإسلامية، تطرَّفت فى هذا الأمر وقرَّرت أن الله «لا يعرف الظلم أصلاً، ولا يستطيع أساساً أن يفعله، وإلا فقدت الألوهية صفةً من أهم صفاتها، هى العدل».

إذن، فالظلمُ وصفٌ غير جائز فى الطرفين المشدود بينهما الوجود الإنسانى. ومع ذلك، فإن البشر كثيراً ما يتظالمون فيما بينهم. خاصةً إذا امتلكوا السلطة على غيرهم، وكانوا حاكمين، ومن هنا قيل: «السلطة مفسدة، والسلطة المطلقة مفسدة على الإطلاق». فإذا انعدمت السلطة، القاهرة، ما عاد بالإمكان وقوع الظلم. ولذلك قال الشيخ نجم الدين كبرى (المقتول على يد التتار سنة ٦١٨ هجرية، وهو يحاربهم وحده!) فى رباعية فارسية، ترجمتها: «إن الحكام فى أوان عزلهم، كلهم كالشَّبلىّ وبايزيد، فإذا عادوا لسلطانهم، فكلُّهم مثل شمر ومثل يزيد».. وللتوضيح: أبوبكر الشبلى وأبويزيد (البسطامى) من الصوفية الزاهدين، وشمر بن ذى الجوشن، هو قاتل الإمام الحسين فى كربلاء، بتشجيع من الخليفة يزيد بن معاوية.

والظلم لا يبدأ عارماً، ولا يمكن أن يولد فاحشاً وفادحاً، وإنما يتطور رويداً مع تزايد السلطة بيدِ الحاكم، واستدامة بقائه فى الحكم. وفى حياة الأفراد وخبرات الشعوب، تختلف بدايات (الظالم) عن نهاياته، بل تكون أحياناً متناقضة. فالرجل الذى يؤذى امرأته، والمرأة التى تظلم زوجها، كان كلاهما فى أول الأمر وديعاً مع الآخر، ومحباً رقيقاً. ثم يتطور الأمر حتى ينقلب من الضدِّ إلى الضدِّ، ثم يصير (الظلم) فادحاً مع طول الأمد وامتداد المدة.. وكذلك الحال فى مجال السياسة، فالظَّلَمةُ من الحكام الذين امتد بهم زمان السلطة، حتى استحقوا عن جدارةٍ وصف (الديكتاتور) لم يكونوا عند ابتداء أمرهم على النحو الذى انتهوا إليه، وربما كان بعضهم على العكس مما انتهى إليه.

فالقائد الألمانى «هتلر» بدأ فى بلاده بطلاً قومياً، ثم انتهى به الحال إلى إحداث الويلات الجسام. مع أنه نتاج للعقلية الألمانية الرصينة المبدعة. والملازم الأخ «معمر القذافى» بدأ فى بلاده أميناً للقومية العربية، ثم انتهى به الحال إلى تنصيب نفسه ملكاً لملوك أفريقيا، وصار ابنه المريع «سيف الإسلام» بمنـزلة ولى العهد. مع أن أفريقيا ليست مملكة. والرئيس السابق «مبارك» كان فى أول أمره رفيقاً بالناس، رقيقاً معهم، ثم أطلق مع الأيام يده فى أموال مصر، وانطلقت أيدى أعوانه سلباً ونهباً، وبلغ ظلمه للناس غايته حين استطاب فكرة التوريث. مع أن مصر المعاصرة ليست مملكة.. وعلى هذا الأساس، يمكن قياس مسار كل حاكم ظالم (ديكتاتور)، لنرى اختلاف نهاياته عن بداياته، ونرى فعل السلطة المستدامة ما بين زمانىْ البدء والختام.

                                    ■ ■ ■

والأمر تفاعلىٌّ.. إذ يقوم الطرف الأول (الحاكم) بالخطوة الأولى (الظلم) فيأتى دور الطرف الثانى الذى قد يستقبل الظلم بالرضا والصبر، لأنه فاقدٌ للروح وللثقة بالنفس، أو مدمنٌ للأفيون، أو لا يرضى بالظلم ولا يصبر عليه، لأنه مدركٌ لإنسانيته وموقنٌ بأن الدين يعنى الخضوع لله وليس البشر، وعاقلٌ إلى الدرجة التى تجعله يكذِّب قول القائل: إن الحاكم ظلُّ الإله فى الأرض (وإن صَحَّ السند).. وفى هذه الحالة (الحية، الصحية) يتولد فى نفس المظلوم توترٌ واضطراب، يفضى فى النهاية إلى الخطوة التالية: الغضب.

والثائر غاضبٌ بالضرورة، حتى وإن لم تنفجر بعدُ ثورته، وتستعلن. ومن أخطر الأمور، فى حياة الفرد والجماعة، الاستهانة بالغضب الذى يعتمل ويتأجَّج فى باطن المحكوم المظلوم.. غير أن الحاكم، الظالم، غالباً ما يستهين بغضب المحكوم، ويتعامى عنه. لأن الظالم يلتذَّ بالظلم، ويستطيب السيطرة على الآخرين. وقد يجد فى ذلك، متنفَّساً للمشاعر البدائية، التى ورثها البشر من أزمنة سحيقة، عاشوا فيها لمئات الآلاف من السنين، فى الكهوف. ولهذا، فإن الظالم يحرص على إبقاء المظلوم مظلوماً، ويسعى لاستنفاد غضبه بالعصا والجزرة، أو بذهب المعز وسيفه، أو بالترغيب والترهيب. وهكذا يتحايل لإقناعه بالرضا والصبر، متوسلاً فى ذلك بالرفق إن أمكن وبالقهر إذا لزم.. والقهرُ عنفٌ، والعنف يولِّد العنف، وهو ما يدخل بالحالة الثورية إلى طورها الثالث ودرجتها التالية فى السُّلَّم الصاعد للثورة، بعد الظلم والغضب.

والقهر فى واقع الأمر، غالبٌ للمظلوم والظالم، وقد يبدو للوهلة الأولى أنه يقع فقط على المظلوم الغاضب، لإخماد غضبه وإجباره على قبول الظلم. لكن عبء القهر، يقع فى حقيقة الأمر أيضاً على الحاكم، لأن القهر تصاعدىٌّ لا يتوقف عند حدٍّ أقصى. فالحاكم يتوتر فى سرِّه ويضطرب قلبه حين يبدأ فى قهر غضب المحكوم، وحين لا ينفع الذهب ولا تُجدى الجزرة، ولذلك، يلجأ أولاً إلى القهر بالهيبة. فإذا سقطت الهيبة، قهر الحاكمُ بالتلميح إلى سوء الحال وبشاعة المآل، إذا ازداد الغضب وتفاقمت الأمور.

ومن بعد ذلك يكون القهر بالتخويف من مصير المرأة المطلَّقة، وحال المطلَّق الوحيد، وبؤس البلاد التى يتهدَّدها: خطرُ تنظيم القاعدة وشباب الإرهاب الذين يجوسون خلال الديار، وشبحُ الدولة الدينية التى ستحبس النساء فى البيوت وخلف الستور، وتقافزُ «الإخوان» والجماعات «السلفية» وزنادقة «الشيعة» وكفَّار «الشيوعية» وانعدام «أمن الدولة» وانهيار «الاقتصاد» والتورط فى حرب مع «إسرائيل» وافتقاد «الاستقرار».. إلى آخر هذه الشناعات والمبالغات، التى كان الإعلام يملأ بها الأسماع.

فإذا خابت المساعى القهرية السابقة، لأنها محض كلام، انتقل الحاكم إلى قهر المحكوم بالأفعال، التى قد تتخذ فى الحياة الفردية (بين الرجل والمرأة) أشكالاً كثيرة، منها: أكل الحقوق عدواناً وظلماً، إهمال الواجبات، الهجر فى الفراش، تلويث السمعة، التضييق.. وفى الحياة السياسية العامة (بين الحاكم والمحكومين) تتخذ أشكالاً مثل: الاعتقالات، قمع المعارضين، التهجير الطوعى واللاإرادى (التطفيش) وغير ذلك من الوسائل والتدابير.

وقد ينجح القهر فيعيش الفرد، أو البلد، مقهوراً إلى حين، وقد يضطر الحاكمُ إلى التصعيد المستمر لوسائل القهر، بينما يفتك بباطنه القلقُ والتوجُّسُ والترقُّبُ، مثلما تفتك وسائل القهر بالمحكومين. وهنا، يترحَّم الحاكمُ فى سرِّه، على زمانٍ كان فيه الحال هنياً وديعاً. ناسياً أو متناسياً أن ذاك الزمان الذى انقضى، لم يكن فيه الظلم قد بلغ مداه واكتملت فداحته وانتشر فُحشه، ولم يكن الغضب، قد طَمَّ بالمحكوم وعَمَّ مع ظهور الفساد فى البر والبحر، ولم يكن القهر، قد أمعن وازداد حتى صار يُنذر بالخطوة الرابعة، أو الطور الرابع من أطوار الثورة: الانفجار.

ينفجر المحكوم فى وجه الحاكم، فيكون من أولى علامات الانفجار وأبرزها ظهوراً: رفضُ الاحتقار، الاستهانةُ بقهر الحاكم والجرأة عليه، سقوطُ جدران الخوف.. وهنا، لابد من الخلع (بفتح الخاء، وبضمها) طوعاً أو كراهية، تراضياً أو انتزاعاً.. وذلك لسبب بسيط، هو أن المظلوم الثائر يكون أقوى بالقطع من الحاكم الظالم، فهذا الأخير يحب الحياة، بينما الأول لا يرهبه الموت.. والموتُ أقوى من الحياة.

ومن بعد ذلك كله، يقع (التغيير) الذى هو الدرجة العليا والطور الأخير للثورة، وهو مرهونٌ دوماً بفعل الثائر (الثائرين) ومرتبط بوعيه الخاص، أو وعيهم الجماعى. لأن خمود الطور الرابع من الثورة (الانفجار) لا بد أن يعقبه عملٌ كثير لإصلاح الديار وتعديل الأحوال، أى جعلها أكثر عدالة.. وهذا يقتضى الدخول فى الأفق المستقبلى، ويستدعى النزوع الابتكارى. أو بعبارة أخرى، يَلزمه: عقل جديد لعالم جديد (وهو عنوان مقالتى القادمة، السادسة، فى هذه السباعية).

                                    ■ ■ ■

تلك هى «أطوار» الثورة، ومراحلها الخمس، حسبما بدت لى من بعد إمعان النظر.. فإذا طبقنا ما ذكرناه على ثورات مجيدة، مشهورة، كالثورة الفرنسية العارمة، أو ثورة الثكالى فى الأرجنتين، أو ثورة العالم الثالث ضد الاستعمار، أو ثورة النسوة اللاتى قطَّعن أزواجهن قطعاً وعبَّأنهم فى أكياس القمامة، أو غير ذلك من الثورات الفردية والجماعية.. وجدنا الأمر يسير على المنوال الذى ذكرناه.

وللثورة، الفردية والجماعية، شروطٌ خمسة لابد من توافرها وإلا صارت (الثورة) شيئاً آخر، وهى على جهة الإيجاز: الكشف، النبل، الإصرار، الأمل، العمومية.. ففى الحالة الثورية، يكتشف الفرد ذاته وكأنه صار إنساناً آخر، وتعرف الجماعة نفسها وكأنها كانت غائبة من قبل عن وعيها. ومن هنا، ترتبط الثورة بقيمة (شرط) النبل والطهارة المبهرة، إذ نجد الثائر فى أغلب حالاته، نبيلَ المقصد، ومتعالياً عن الأفعال التى ربما اقترفها من قبل ثورته، كأفعال التحرش مثلاً أو الأنانية أو ازدراء الآخرين، ومن هنا يظهر شرط الإصرار، حيث لا يسعى الثائر أثناء ثورته، إلى الحصول على مكاسب جزئية أو مطالب فئوية أو منافع شخصية. ومن هنا يتسع الأمل، الذى هو الشرط الرابع المعبَّر عنه أحياناً بعبارة «رفع سقف المطالب» وأحياناً بلفظ «ارحل» وأحياناً بإعلان «ثورة حتى الموت».. أما الشرط الخامس الأهم، فيما أرى، فهو (العمومية) لأن الثورة إذا كانت محدودةً بهدفٍ مخصوص، فهى شكوى، وإذا كانت محكومة بمصالح فئة معينة، فهى حركة. وإذا كانت موجَّهةً من شخص أو جماعة، فهى خديعة. وإذا كانت مرهونةً بمطلب واحد، فهى تفاوض.. وإذا كانت قاصرةً على الرجال، فهى غير إنسانية.

ولتوضيح العبارة الأخيرة، السابقة، سوف أقارن فيما يلى بين الثورتين (التونسية والمصرية) من جهة، والثورتين (الليبية واليمنية) من الجهة الأخرى، فى محاولة لتفسير الاختلاف الواقع بين الجهتين، وتعليل السبب فى النجاح المبهر (البديع) لثورتىْ مصر وتونس، والاضطراب المفزع (الرائع) لثورتىْ ليبيا واليمن.

قد يبدو للوهلة الأولى، أن الثورات الأربع قد مرَّت بالمراحل الخمس (الأطوار الخمسة) التى ذكرناها فى النصف الأول من المقالة. وقد يبدو أن هذه الثورات تسير على المنوال ذاته، وتتحقق فيها شروط الثورات، وبالتالى فسوف تؤدى بالضرورة إلى نهاية واحدة. على اعتبار أن المقدمات المتطابقة، تعطى نتائج متطابقة (حسبما يقول علم المنطق) ومن ثمَّ، فإن ما انتهى إليه حال ثورتىْ تونس ومصر بعد الإطاحة بزين العابدين ومبارك، سوف يقع فى اليمن وليبيا حين يُطاح بالشاويش «على» والملازم «معمر».. غير أن ذلك كله غير لازم، منطقياً، لسبب جوهرى دقيق قد يغيب لدقته عن الأنظار، هو باختصار: أن الثورة الحقيقية، هى بالضرورة، أنثوية.

                                    ■ ■ ■

كان القذافى، يتهكم حين سألوه عن معنى الثورة، فأجاب بأنها: أنثى الثور، وهو تهكم يعكس تصوُّر القذافى للأنوثة، ويعاكس العبارة (الرائعة، البديعة) التى حفظها لنا الزمان من كلام شيخ الصوفية الأكبر، محيى الدين بن عربى (المتوفَّى ٦٣٨ هجرية)، الذى كتب نصاً رمزياً مبهراً عنوانه «رسالة فيما لا يعوَّل عليه» فقال: المكان إذا لم يؤنَّث، لا يعوَّل عليه.. ومن ذلك استوحيت عنوان هذه المقالة.

هل رأى أحدنا امرأةً فى ثورتىْ اليمن وليبيا؟ صحيحٌ أنه تمَّ استخدام بعض الوجوه النسائية (والفتيات الصغيرات) عند انطلاق الثورتين، وقد فعل ذلك الفريقان، الذين ثاروا (الشعب) والذين ثاروا ضدهم (الحكومة) لكنهما فعلا ذلك كى يكسبوا التعاطف من جمهور المشاهدين للقنوات الفضائية، التى صارت طرفاً فى الأحداث، ونسيت مهمتها الإعلامية الأساسية: تقديم الأخبار والوقائع بشكل محايد.. المهم، أن (المرأة) على اختلاف مراحلها العمرية، غابت عن المشهد العام لثورتىْ اليمن وليبيا، على اختلاف المراحل الخمس الملازمة، واللازمة، لكل الثورات.

ومن الجهة المقابلة، ظهرت النساء فى ثورتىْ مصر وتونس.. ابتداءً من مرحلة الظلم السياسى الواقع على المناضلات اللواتى تم اعتقالهن فى سنوات سابقة، والثكالى اللواتى يتحيَّرن بأطفالهن بعد افتقاد العائل المسجون، والمغتال، والمشرَّد.. ومروراً بصراخ المظلومين والمظلومات الذى ترددت أصداؤه فى أنحاء البلاد عند التظاهرات التى انفجرت، بعدما فشل القهر فى تقييد الأقدام والأفواه.. وانتهاءً بالعرس المصرى الذى أقيم اليوم. وللتوضيح، فقد كتبت المقالة مساء يوم السبت الموافق يوم الاستفتاء على تعديلات الدستور (١٩ مارس) ولا تزال إصبعى مخضَّبة بحبر الإدلاء الأحمر، ولا تزال عينى مكتحلة بمنظر الطوابير الطوال (طوابير كلمة تركية الأصل، اللفظ الفصيح: صفوف) التى اصطفت فيها النساء كجناحٍ مقابلٍ لجناح الرجال، وبالجناحين حين رفرفت لأول مرة فى تاريخ مصر، صناديق الانتخاب الحقة.. وقد قطعنى قبل قليل، عن غمرة انهماكى فى الكتابة، اتصال ابنتى «آية» التى أخبرتنى مزهوة، وهى التى أكملت عامها الثامن عشر قبل شهور، بأنها أدلت اليوم بصوتها فى (مدرسة مبارك).. قالت ذلك وهى تضحك، فى إشارة خفية إلى تناقض الأمرين: الانتخاب، ومبارك.

وابنتى هذه، الوسطى، هى التى خرجت قبل أسابيع مع الجموع فى الإسكندرية لتحتفل برحيل (مبارك) وسط مئات الألوف، فإذا بها تدلى بصوتها الانتخابى بعد حين، فى مدرسة تحمل اسمه، وابنتى هذه، التى لا تضيِّع عليها أمُّها دقيقة واحدة من دون (مذاكرة) حتى تضمن مجموعاً يُلحقها بكليَّة بائسة، فى جامعاتنا التى لا تكاد تعلِّم شيئاً، هى التى خرجت مع قريناتها لدهان الأرصفة وطلاء محطة ترام «الهداية» بقلب الإسكندرية.. الإسكندرية التى خرجت فيها (أعنف) المظاهرات المصرية، لتهدم فى يومٍ واحد المبنى الهائل لمقر «المحافظ» وتحرق مبانى أقسام «الشرطة» جميعها، ثم من بعد ذلك تمسح عن كل الحوائط شعارات «إسقاط النظام» وترسم مكانها جداريات بديعة، تحتفى بنجاح الثورة المصرية.. وتكون حسبما أُعلن اليوم (الأحد ٢٠ مارس) أثناء مراجعتى لهذه المقالة، أعلى المدن المصرية فى نسبة الاقتراع على تعديل الدستور. حتى إن كثيرين علَّقوا على ذلك على صفحتى بالفيس بوك، وعلى صفحات غيرها، بتعليقات مازحةٍ من مثل : ياسلام يا إسكندرية.. لو لم أكن مصرياً لوددت أن أكون سكندرياً.

ولا يفوتنا هنا، أن الإسكندرية تعيش الآن من دون (محافظ) ومن دون (مدير أمن) ومن دون (قسم شرطة) ومن دون (أمن دولة) ومن دون (عسكرى مرور).. لكنها تعيش، وتبتهج، فى ظل ثورة حقيقية يعوَّل عليها، لأنها عمومية (إنسانية)، وليست ذكورية خالصة، مثلما هو الحال فى اليمن وليبيا، ولأنها جزء من الحركة المصرية العامة، التى أرجو الله أن تنجو من أوزار القبَلية والطائفية والانتهازية وغيرها من (الأخطار) المحدقة بمصير الثورات الذكورية، المسلَّحة، المستدعية لتدخل الأجنبى وعهر العابث.

                                    ■ ■ ■

إن الفعل الإنسانى، الجدير بهذه الصفة، لابد وأن يتشارك فيه الرجل والمرأة. فهما، معاً، يعبران عن جوهر (الإنسانية) وإذا غاب جانب منهما، غاب معنى الإنسان.. وتلك هى «الرؤية»، التى طرحتها فى روايتى (النبطى) برفقٍ أمومىّ، وجاءت الثورة المصرية لتؤكدها، فقد خرجت البنات والنساء والعجائز، مع الأولاد والرجال والشيوخ؛ فكانوا كلهم، على صعيد واحد (ثورى).. ولم يتلفتوا، مثل غيرهم، بحثاً عن قطعة سلاح أو طلقة، يسدِّدها إلى قلب حكومته الظالمة.

فإذا خلت ثورات الشعوب من المشاركة المؤنثة، صارت مما لا يعوَّل عليه.. ولا يرتقى حالها إلى الثورة الفرنسية التى كان رمزها امرأة (جان دارك) والثورة الجزائرية التى كان رمزها (جميلة بوحريد) وحركات التحرير فى مصر القديمة، التى كان الناس يرفعون فيها راية الإلهة (سخمت) وحركات التحرير فى مصر الحديثة، حيث قامت (صفية زغلول) بدور أساسى استحقت عليه لقب «أم المصريين».. تبقى هنا نقطةٌ دقيقة، سأوردها فى الإشارة التالية: على نساء مصر أن يحذرن من التقاعس عن أداء دورهن الحيوى فى الثورة، خلال هذه الفترة الانتقالية الحالية، التى يملك فيها الزمامَ الجيشُ (وهو ذكورى) ويسعى لامتلاك هذا الزمام الإخوان والسلفيون (وهم ذكوريون) وهؤلاء (العسكريون، الإسلاميون)، وهم معذورون فى توجهاتهم الخاضعة لثقافتهم الخاصة، يميلون ابتداءً إلى استبعاد النساء والإناث عن المشهد العام.. ولو حدث ذلك، فسوف تنهار نهاياتُ الثورة المصرية.

 

  • Currently 71/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
25 تصويتات / 1303 مشاهدة

 

إلى كل أم تربى أولادها، وهم لايزالون فى مرحلة التكوين، إلى كل امرأة حامل وستلد طفلا وبالتالى سيكون فى مراحل التكوين. أخطاء كثيرة يرتكبها الأهالى فى مصر خلقت أجيالاً بحاجة إلى إعادة تأهيل، بعد الثورة حدثت أمور كثيرة جعلتنى أردد يوميا «الشعب بحاجة إلى ثورة أخلاقية».. ناهيك عن قضايا الفساد التى تحتل صفحات كثيرة من الصحف والتى تعكس ببساطة ثقافة، فاللأسف نحن شعب تعوّد على أشياء كثيرة غلط.. والدليل أن الشعب نفسه هو الذى اعترف بهذا، من أولى العبارات التى قيلت بعد الثورة: لا ترمى ورقة فى الشارع، لا تعطى رشوة، لا.. لا.. مجموعة من اللاءات التى تعودنا على فعلها على مدى سنين عمرنا، أذكر عندما عدت من إنجلترا وكان ابنى صغيرا فوجئت به يرمى ورقة على الأرض فى الشارع فنهرته بشدة، إذ لم يفعل هذا من قبل. فأجابنى: ولكن الجميع يفعل هذا هنا.. وهو عندما رمى ورقة رماها فوق كومة أوراق مرمية على الأرض، انفعلت بشدة وشرحت له أن مصر هى بلده وحب البلد يبدأ من الحفاظ عليه، إلى آخر هذا الكلام..

 أمر آخر خطأ مبدأ: اللى يشتمك اشتمه، واللى يضربك اضربه، أو مبدأ آخر: خليك لازق بفلان ده شاطر وصاحبه وكلمه عشان تستفيد منه، هنا نربى منافقين صغاراً.. يتحولون مع الزمن إلى منافقين كبار.. يعتادون التطبيل لمن حولهم وعوّدت أولادك ألا يأخذوا حقا ليس لهم، أذكر عندما كنت فى السنة الثالثة من كلية الآداب قسم اللغة الفرنسية وكنا ثلاثة نتنافس طوال سنوات الكلية على المركز الأول أنا وإقبال وراندة.. لم تخرج عن واحدة منا، المهم فى السنة الثالثة وأنا فى الكلية أقرأ درجاتى أحسب أن فى الأمر خطأ.. فنظرت إلى درجات راندة وإقبال وأحسب أن هناك مادة حصلت إقبال فيها على امتياز وحصلت أنا على جيد، اتصلت بإقبال وطلبت منها أن تطلب إعادة تصحيح أو إعادة تقييم، فقد كنت وصفت أنا كأولى على الدفعة وهى الثانية.. وذهبت بنفسى إلى رئيسة القسم وشرحت الأمر الذى قوبل باستغراب أشد منهم وبعد إعادة التصحيح تبين أن إقبال تستحق أن تكون الأولى وراندة الثانية وأنا تراجعت إلى المركز الثالث..

 ولكنى حتى يومنا هذا فخورة جدا بما عملت وأردده لأولادى دوما.. لا تأخذ أبدا ما ليس من حقك. أمر آخر.. علمى أولادك عدم الكذب.. الكاذب هو مشروع كل ما هو غير حقيقى.. هو تزييف للحقائق، ومن يكذب يسرق ويخطئ.. دائما اعتبر الكذب من الكبائر.. والكذب يعنى ألا تقول معلومة لست متأكدا منها لأنك تكذب عندما تنقل عن كاذب.. علمى أولادك الرقى.. أن يترفعوا عن الصغائر.. ألا ينظروا إلى ما فى يد غيرهم.. ألا يقارنوا ويقولوا اشمعنى، أن يرضوا بما يقسمه الله لهم دون أن يؤثر ذلك على اجتهادهم وإيمانهم بأن لكل مجتهد نصيباً.. علمى أولادك عدم الشتيمة فإن الشتيمة للأسف أصبحت عادية جدا فى المدارس والجامعات.. تعود الأولاد عليها مع أن الملائكة تتأذى من سماع الشتائم.. علمى ابنك أن مصر بلاده أمانة.. يجب أن يحافظ عليها.. يجب ألا يعطى صوته فى الانتخابات لمن يدفع له أكثر.. وأن صوته أمانة وأن عليه أن يستثمر أجواء الحرية فى تحسين صورة مصر، فى الخارج والداخل.. علمى ابنك ألا يسأل زميله فى الفصل إن كان مسلما أو مسيحيا.. فالدين لله.. علمى ابنك أن طعام المسلم هو طعام المسيحى، وأن البلد يسعنا نحن الاثنين.. قربى ابنك من الله بطريقة صحيحة.. طريقة تنقى القلوب وتطهرها.. الأطفال مسؤولية نحن بحاجة إليهم جدا.. هم الأول.. صحيح أن الشباب قد قاموا بثورة ولكنها فى نظرى ليست كافية.. فالشعب بحاجة إلى إعادة تأهيل.. شعب نسبة الأمية فيه مرتفعة بشكل كبير.. شعب لديه ثقافة عدم معرفة الفرق بين العيب والحرام، أشعر بأن الأيام المقبلة لن تكون سهلة لا اقتصادياً ولا سياسياً.

أشعر أن العالم العربى سيشهد تقسيما كبيرا. وبالنسبة للذين هم مثلى ممن كانوا يحلمون بوطن عربى واحد فإن هذا يعتبر كارثة حقيقية، خاصة إذا ما تم تقسيم العالم العربى على أساس طائفى.. مسؤولية أكبر لكل أم.. أطفال اليوم هم أمل الغد.. جملة تكررت كثيرا فى الماضى.. شعرنا بقيمتها اليوم.

[email protected]

 

  • Currently 18/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
7 تصويتات / 626 مشاهدة

 

 لأول مرة منذ ما حدث في يوليو 1952 لا علم لأحد منا مهما بلغت درجة منصبه في الحكومة أو الجهاز الأمني أو حتى ممن يسجلون النتائج من مشرفين وقضاة بما ستكون عليه النتيجة النهائية ، وكان في السابق لا يستطيع أكثر أذناب النظام وقاحة من الكتاب والصحفيين أن يخرج علينا زاعما وجود مثل تلك الحالة، التي نحياها لأول مرة، أما عن تفاصيل ذلك اليوم العظيم في تاريخ الوطن، فقد عرضته صحف اليوم في إسهاب، فتحت عنوان "يوم الديمقرطية يسقط "أوهام" الاستبداد" أشارت "المصري اليوم" إلى أنه وفى أول اختبار حقيقى للديمقراطية، سجلت معدلات الحضور فى مراكز الاستفتاء على التعديلات الدستورية أرقاماً قياسية، إذ اصطف المواطنون منذ الصباح الباكر فى طوابير طويلة أمام اللجان، وتنوعت فئاتهم بين فقراء وأغنياء ومثقفين وعامة، حرفيين وموظفين وربات بيوت وأطفال.
وأشارت الجريدة إلى أن المشهد العام للاستفتاء سجل علامات فارقة، أولاها غياب الحشود الأمنية أمام اللجان، وثانيتها عدم تسجيل أى واقعة اشتباك أو بلطجة، وثالثتها اختفاء ظواهر التصويت القسرى الموجه، ورابعتها اختفاء الرشاوى الانتخابية، وخامستها سقوط الخوف من التزوير، وسادستها سقوط لعبة تصويت الأموات، وأخيراً، سقوط نظرية النتيجة المعدة سلفاً.

ورصدت "المصري اليوم" في تقريرها مناوشات بين عدد من الأقباط والإخوان المسلمين، حيث تدخلت الشرطة العسكرية فى حالات عديدة لفض الاشتباكات، ومزقت بعض لافتات جماعة الإخوان المسلمين، كما منعت أعداداً من النشطاء من توزيع منشورات تدعو المواطنين إلى التصويت بـ"لا".


وننتقل إلى جريدة "الشروق" والتي أكدت في صفحتها الأولى أنه ولأول مرة خرجت تقارير مراقبة الاستفتاءات العامة التى تعدها المنظمات الحقوقية دون "إشارات للتزوير، وتسويد البطاقات، ومنع المواطنين من دخول اللجان وسيطرة الأمن على عملية التصويت"، بحسب مدير برنامج تنمية الديمقراطية بالجمعية المصرية للنهوض بالمشاركة المجتمعية، أحمد فوزى، والذى قال: "التجاوزات لم تصل إلى أكثر من أعمال الدعاية التى مارسها أعضاء فى جماعة الإخوان المسلمين داخل مقار الاقتراع، وطبيعة الحبر الفسفورى الذى يمكن إزالته بعد التصويت بسهولة، وكذلك منع بعض المراقبين من دخول اللجان".

وإلى "الدستور" والتي أوردت في تقرير لها ما أثبتته  منظمات حقوقية ك "مراقبون بلا حدود" و "شبكة المدافعين عن حقوق الانسان" و"تحالف المجتمع المدني للحرية والعدالة والديمقراطية" و "مؤسسة عالم جديد للتنمية وحقوق الانسان" من وجود مؤشرات عن تراوح نسبة التصويت بين نحو  80 % الي 88 %  في الاستفتاء على التعديلانت الدستورية و هي اعلي نسبة تصويت حقيقية تشهدها مصر منذ 60 عاما، بحسب ما ذكرت الجريدة.

وعودة إلى الشروق، حيث يحدثنا الكاتب الكبير فهمي هويدي عن تجربته في ذلك اليوم قائلا: ذهبت فى الثامنة والنصف صباحا أملا فى أن أدلى بصوتى وأنصرف قبل الزحام، لكنى فوجئت بطابور بطول أكثر من كيلو متر يقف أمام مقر اللجنة. أخذت دورى مستاء.
ولم ينقذنى سوى اتصال هاتفى أخبرنى بأن ثمة لجنة أخرى فى نفس الحى الزحام عليها أقل.
أسرعت إلى المكان الذى دلونى عليه فوجدت المشهد مكررا.
سلمت أمرى إلى الله ووقفت أنتظر دورى. بعد دقائق لاحظ واحد أن الشرطة لا وجود لها.

ويتساءل هويدي بعد أن أورد لنا المناقشات التي دارت أثناء وقفته في الطابور، والتي امتدت إلى ساعتين ونصف الساعة عن إمكانية أن يخدع هؤلاء (الواقفون في الطابور) فى الانتخابات المقبلة؟ وفي إجابته عن هذا السؤال أشار هويدي إلى أن من يعتقدون بأن ذلك ممكن الحدوث يتجاهلون حقيقة الوعى والميلاد الجديدين اللذين طرآ على المجتمع المصرى. واستغرب شكهم فى أن الناس يمكن أن تنساق وهى مغمضة الأعين وراء شعارات الإخوان أو إغراءات تلك الفلول المدعومة من بعض رجال الأعمال القادرين على شراء الأصوات ببعض الملايين التى نهبوها.

وأضاف هويدي إلى أنه بين أيدينا ما لا حصر له من القرائن والشواهد الدالة على أن الذين يطرحون مثل هذه السيناريوهات إما أنهم لا يثقون فى وعى الناس الذى بات مختلفا على كل ما سبق، أو أنهم يدركون ذلك جيدا، لكنهم يروجون لهاتين الفزاعتين لتخويف الناس وحثهم على المطالبة بعدم إجراء الانتخابات فى موعدها المفترض (شهر يونيو القادم).

وإلى الباحث والناشط السياسي عمرو حمزاوي، أحد أقطاب أنصار لا ومقاله في ذات الجريدة (الشروق). عرض حمزاوي المسارين المختلفين اللذين ستسلك البلاد أحدهما ـ وهو ما سوف يتقرر في خلال ساعات ـ فأشار إلى أنه:
دستوريا، إن جاءت نتيجة الاستفتاء بموافقة أغلبية المواطنين على التعديلات الدستورية سيعنى هذا تفعيل التعديلات المقترحة وتضمينها فى إعلان دستورى مؤقت وتفعيل الجدول الزمنى المرتبط بالتعديلات. يتضمن الجدول الزمنى من جهة انتخابات برلمانية خلال فترة زمنية أقصاها سبتمبر 2011 متبوعة بانتخابات رئاسية قبل نهاية العام، ويلزم البرلمان المنتخب من جهة أخرى بتشكيل جمعية تأسيسية خلال فترة زمنية أقصاها 6 أشهر بعد الانتخاب لصياغة دستور جديد خلال 6 أشهر ثم يعرض الدستور الجديد على المواطنين فى استفتاء.

والحصيلة النهائية بحساب الزمن هى برلمان منتخب ورئيس منتخب ودستور جديد خلال 18 شهرا (تنتهى على الأرجح فى سبتمبر 2012) وخروج القوات المسلحة من صدارة المشهد الدستورى والسياسى المصرى.

إن جاءت نتيجة الاستفتاء برفض أغلبية المواطنين للتعديلات الدستورية سيعنى هذا أن الإرادة الشعبية أسقطت التعديلات والجدول الزمنى المترتب عليها، وعبرت جميعا عن تمسكها بالشروع الفورى فى صياغة دستور جديد للبلاد دون تعديلات لمواد دستور أسقطت شرعيته الثورة. ولن يملك المجلس الأعلى للقوات المسلحة إزاء هذا إلا أن يحدد فى إعلان دستورى مؤقت إجراءات صياغة الدستور الجديد وانتخاب البرلمان والرئيس والجدول الزمنى المرتبط بهذه الخطوات.  
    ويرى حمزاوي أنه:
سياسيا، إن جاءت نتيجة الاستفتاء بموافقة الأغلبية على التعديلات الدستورية سيعنى هذا ضرورة الشروع السريع فى التنظيم والاستعداد للانتخابات البرلمانية. وقناعتى أن على القوى الوطنية الرافضة للتعديلات، بالقطع بعد قبول نتيجة الاستفتاء الديمقراطى، أن تضغط سريعا لإقناع المجلس الأعلى باعتماد نظام الانتخاب المختلط المستند بالأساس إلى القوائم الحزبية مع وجود هامش للمستقلين، وأن تنظم صفوفها وتتفق على مرشحيها المحتملين فى الانتخابات.
.

وأضاف إلى أن موافقة الأغلبية على التعديلات ستلزم الجميع بالتحرك السريع والتنسيق المتخطى للفوارق الأيديولوجية والمصالح الضيقة وإعطاء الأولوية المطلقة لانتزاع القوى الوطنية المدنية لأكبر عدد ممكن من المقاعد فى البرلمان المنتخب لضمان حضور قوى به وبالجمعية التأسيسية لصياغة الدستور الجديد.

وأوضح حمزاوي إلى أنه سياسيا ايضا، يؤجل تفعيل التعديلات الدستورية وجدولها الزمنى النقاش العام حول مرشحى الرئاسة، ويدفع القوى المدنية للتلاقى حول هدفى المنافسة بقوة فى الانتخابات البرلمانية وفى صياغة الدستور الجديد.

أما إن جاءت نتيجة الاستفتاء بأغلبية رافضة للتعديلات، يصبح لزاما على القوى الوطنية إعطاء الأولوية للتوافق على إجراءات تشكيل الجمعية التأسيسية لصياغة الدستور الجديد وانتخاب رئيس الجمهورية وشروط الترشح، إن كان إسقاط التعديلات سيقنع المجلس الأعلى للقوات المسلحة بتغيير الجدول الزمنى للانتخابات إلى رئاسية قريبة متبوعة ببرلمانية بعد الانتهاء من الدستور الجديد.

وخلال الساعات القادمة يتقرر أي المسارين ـ الذين أشار لهما حمزاوي في مقاله ستسلكهما مصر، وتشير المؤشرات ـ والتي أوردتها بعض التقارير الصحفية ـ إلى تغلب نعم بنسبة طفيفة على لا، فهل تكون الغلبة لها؟، هذا ما سوف يتضح خلال الساعات القليلة القادمة.

محمد السيد الطناوى

  • Currently 45/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
15 تصويتات / 567 مشاهدة

عندما قام الفيلسوف اليوناني الأشهر والأعظم أرسطو بوضع علم المنطق ، حدد القوانين التي يقوم عليها في ثلاثة قوانين ، وقد رأي أرسطو أنها بديهية أي واضحة بذاتها وليست بحاجة إلي برهان وان صدقها ، وأن صدقها ضروري في كل زمان ومكان ومن ثم لا تخضع للتغيير أو التبديل أو التنقيح مهما تغيرت المعرفة الإنسانية ، لأنها تتفق مع بداهة العقل السليم ، وتتلخص هذه القوانين في الآتي : ـ

أولا قانون الهوية ( أو الذاتية ): ـ

ينص هذا القانون علي أن "الشئ هو نفسه" وهو يعبر عن أبسط الأحكام لأن أبسط الأحكام هو الحكم بأن الشئ هو نفسه مثل أن نقول " الإنسان هو الإنسان" ، ورمز هذا القانون "أ هو أ" ، ويري أرسطو أن هذا القانون هو أساس التفكير المنطقي لأنه يشير إلي ضرورة التقيد بذاتية مدلول اللفظ الذي نستخدمه فلا نخلط بين الشئ وما عداه ، ولا نضيف للشئ ما ليس فيه ، ومخالفة هذا القانون يدفعنا إلي التناقض ، فلكي نفهم بعضنا البعض يجب أن نتحدث بلغة واحدة لا يحتمل أي لفظ من ألفاظها أكثر من معني واحد.

ثانيا قانون عدم التناقض : ـ

"نقيض الشئ هو نفيه" فنقيض الحكم بأن هذا الشئ "قلم" هو الشئ نفسه "ليس قلما" ، والكلام المتناقض هو الذي ينفي بعضه بعضا ، وفي ذلك مخالفة لقانون الهوية لأن إذا كان الشئ هو نفسه بمقتضي قانون الهوية ، فلا يجوز ـ حينئذ ـ أن نصف الشئ نفسه بصفة وبنقيض هذه الصفة في آن واحد وإلا نكون قد وقعنا في تناقض واضح ، ورمز هذا القانون هو "الشئ لا يمكن أن يكون "أ" و "لا أ" في آن واحد .

ثالثا قانون الوسط المرفوع أو الثالث الممتنع: ـ

إذا كان "الشئ هو نفسه" طبقا لقانون الهوية . وإذا كان لا يجوز منطقيا وطبقا لقانون عدم التناقض أن نصف شيئا واحدا بأنه هو نفسه وليس نفسه لاستحالة ذلك منطقيا حيث لا وسط بين النقيضين ويترتب علي ذلك هذا القانون الثالث ، ورمز هذا القانون هو "إما أن يكون الشئ أ أو لا أ" .
هذه هي القواعد الأساسية التي يقوم عليها المنطق لدي أرسطو ، وبالرغم من أنها بديهية وأن صدقها يكون ضروري في كل زمان ومكان ولا يخضع للتغيير أو التبديل أو التنقيح مهما تغيرت المعرفة الإنسانية لأنها تتفق بداهة مع العقل السليم ، كما قال بهذا أرسطو، ولكن فيما يبدو أن لجماعة الأخوان المسلمين منطقا ـ إذا جاز لنا أن نسميه منطقا ـ لا يحتوي علي تلك المسلمات بل بالأحرى هو يخالفها علي طول الخط ، فمنذ أن بشر الأخوان بأنهم في الطريق لتأسيس حزب سياسي ، وكثرت أحاديثهم حول الدولة المدنية الحديثة القائمة علي مبدأ المواطنة واستمرت تلك الأحاديث قائمة في وسائل الأعلام المختلفة إلي أن ظهر برنامج الحزب مؤخرا وتم توزيعه علي مجموعة منتقاة من النخبة السياسية وعرضته وسائل الإعلام المختلفة ، وعندها فغرت الأفواه واتسعت الأحداق دهشة ، فالدولة المدنية في برنامجهم تتصدرها هيئة من "كبار علماء الدين" تمثل جهة رقابية سابقة للمؤسسة التشريعية ، والمواطنة في برنامجهم هذا لا تتعارض مع حرمان غالبية الشعب المصري ـ حوالي 60% يمثلون النساء والأقباط ـ من الترشح لمنصب رئيس الجمهورية هذا فضلا عن حرمان الأقباط من تولي منصب رئيس الوزراء أيضا ، ورغم أن التناقض واضح وسافر ولا يحتاج إلي أي إضافة بالشرح والتوضيح ،وهو ما يخالف البديهيات المنطقية والتي اشرنا إليها مسبقا في حديثنا عن الأسس التي وضعها أرسطو لعلم المنطق ، بيد أن هذا ليس كل شئ فلتلك الأطروحات دلالات هامة لابد من أن نذكرها أثناء تناولنا لبرنامجهم بالتحليل ، أول هذه الدلالات ما يكشفه البرنامج من جمود وعقم فكري تعاني منه الجماعة جعلها تتبني أراء فقهية تنتمي إلي عصور سابقة تفصلنا عنها قرون طويلة ولا تتناسب وظروف ومقتضيات العصر ، ثانيا انغلاق الجماعة علي نفسها وعدم استفادتها من أراء وأفكار العديد من المفكرين الإسلاميين المعاصرين ذوي الثقل أمثال الدكتور العلامة يوسف القرضاوي، والدكتور محمد سليم العوا ، والمستشار طارق البشري والخاصة بالنظام السياسي في الدولة الإسلامية ، فما قدمه هؤلاء الأعلام في هذا الشأن يرتقي ويتجاوز بمراحل عديدة ما طرح في برنامج الإخوان من أفكار، ثالثا ما أشار إليه عدد من المراقبين في تعليقاتهم علي البرنامج من أن لغته مطبوعة بطابع دعوي واضح ، وتكمن خطورة تلك النقطة ليس فقط في أن سيطرة غير السياسيين علي العمل السياسي يكون له آثار جسيمة تعلمها الكافة بل يتمثل الجزء الأكبر من تلك خطورة في اعتقاد هؤلاء أن ما يقولون به هو دين و بأن هذه الاجتهادات الفقهية البالية هي نصوص مقدسة لا سبيل لدحضها أو للتغيير فيها ، وهو ما عكسته تصريحات المرشد مهدي عاكف بأن "البرنامج تم وضعه وفق رؤية واختيار عقائدي ، لا يمكن المساس بخطوطه العريضة والتي استند فيها علي العقيدة والشريعة واجتهادات الفقهاء الكبار وإجماع الأمة" . وإذا ما قمنا بإلقاء مزيد من الضوء علي أهم مآخذنا علي البرنامج نفسه مستخدمين في ذلك صياغات علي غرار الصياغات الأرسطية السابق ذكرها ، فنقول بأن "المواطنة هي المواطنة" ،ولا اختلاف علي تعريفها فهي تعني تمتع كافة المواطنين بحقوق وواجبات متساوية وفق مبدأي المساواة وتكافل الفرص وعدم التمييز بينهم بسبب الدين أو اللون أو الجنس ، وهو يخالف ما قدمه الإخوان في برنامجهم في حصر حق الترشح لمنصب رئيس الجمهورية في المسلمين الذكور دون النساء والأقباط ، وحصر منصب رئيس الوزراء في المسلمين دون الأقباط ،"كما أنه لا يمكن أن تكون الدولة مدنية ولا مدنية في آن واحد" فلا يجوز الحديث عن الدولة المدنية الحديثة ثم يلحق ذلك حديث عن مجلس أعلي للفقهاء يقفز فوق السلطة التشريعية و" تسري قراراته علي رئيس الجمهورية عند إصداره لقرارات بقوة القانون في غيبة السلطة التشريعية ورأي هذه الهيئة يمثل الرأي الراجح المتفق مع المصلحة العامة في الظروف المحيطة بالموضوع" كما هو مذكور في برنامج الإخوان ، ويترتب علي ذلك انه "إما أن تكون الدولة مدنية أو دينية " ، وهي في حقيقة الأمر ـ أي الدولة ـ في برنامج الإخوان دولة دينية تحاول أن تخفي معالمها صياغات ملتبسة غير أنها لم تنجح في ذلك نجاحا يذكر، بيد أننا في النهاية لا يسعنا إلا أن نكون ممتنين للجماعة فهم أخيرا أزاحوا النقاب قليلا عن شئ من أفكارهم ورؤاهم بدلا من سياسة تصدير الشعارات الفضفاضة التي انتهجوها طويلا .

 

 

محمد السيد الطناوى

[email protected]

  • Currently 30/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
10 تصويتات / 1039 مشاهدة

 

الانفلات الأمنى تم بـ«مخطط جهنمى» والطغاة أرادوا مقايضة الأمن بالحرية

بعد إلقاء «مبارك» لخطابه الأول فى الساعة الأولى من يوم ٢٩ يناير ٢٠١١ صارت الجموع فى غاية الحماس، وفى غاية الغضب، لقد كان خطاب مبارك يمثل قمة الصلف والغرور، ما جعل كل مواطن مصرى يشعر بإهانة موجهة له شخصياً.

الأيام التالية كانت تجمع بين الفرحة بالتجمع الضخم، والحيرة فى الخطوة التالية.

سئلت مئات المرات من أشخاص لا أعرفهم عما ينبغى أن نفعله، وكنت أجيب بأمرين، الأول أننا باعتصامنا فى الميدان نشكل قوة ضغط كبيرة جدا لا يمكن تجاهلها.

والثانى أن الناس هى التى صنعت الثورة، وسوف يحافظون عليها، أى أن القرار فى النهاية سيكون لهذه الجموع.

كنت قلقاً، ولكننى كنت متفائلاً جداً، كنت أرى ما بشّرْتُ به طوال شهور وشهور يتحقق، يتحقق بشكل أعظم وأجمل مما تخيلته! لقد كانت آرائى المبشرة بهذه الثورة مثار سخرية حتى بين النخبة!

أذكر أننى كتبت مقالة بعد انتخابات ٢٠١٠، وكان عنوانها: (بل قد تضاعف تفاؤلى)، وكتبت فيها- استكمالا لمقالات أخرى كانت تبشر بقرب النهاية- وأذكر أن صديقا عزيزا قد سخر منى علنا (من خلال الفيس بوك)، ما اضطرنى لحذف تعليقه على المقالة، وقد سخر بشكل سخيف مع أنه أستاذ جامعى .

أنا لا أذكر هذا الكلام الآن لكى أضيف سبقا لشخصى الضعيف، بقدر ما أذكره لكى يتعلم الناس أنه لابد من قليل من التفاؤل، ولابد أن نتعلم أن ننظر إلى بعض الآراء (غير الواقعية) بشىء من الرحمة، لكى لا يهدر المجتمع طاقته الفكرية، وقدرته على التجدد، وذلك يكون بوأد الخلاف فى الرأى، فيصبح الناس مجتمعين على رأى واحد حتى لو كان خطأ. استمر الاعتصام، وطائرات الهيلكوبتر تحلق فوقنا صباح مساء، تصور وترصد وترسل التقارير.

وفى يوم الأحد ٣٠ يناير، حلق فوق الميدان تشكيل (إف ١٦) مكون من طائرتين، وكان تحليقا منخفضا، وقد تسبب ذلك فى حالة من القلق بين المتظاهرين من شدة المفاجأة، فبدأ المتظاهرون بالهتاف فى شكل تلقائى: (حسنى اتجنن!).

كانت الأخبار السيئة المتعلقة بالانفلات الأمنى تقلق المتظاهرين بشكل جنونى، وقد كان المخطط جهنميا، فقد أراد الطغاة مقايضة الأمن بالحرية، وكذلك أن يشغلوا هؤلاء المتظاهرين بالدفاع عن منازلهم.

لكن الذى لم يكن فى حسبانهم أن هذا الشباب المصرى العظيم سيرتب نفسه بحيث يحرس البيوت فى الليل، ويرابط فى الميدان صباحا، وكذلك أن يتم ترتيب الأمور (بارتجال رائع) بحيث يظل الميدان ممتلئا دائما، فكأن الشعب المصرى قد قام بعمل ورديّات تضمن حراسة المنازل والممتلكات، وتضمن كذلك استمرار الاعتصام.

من أهم ما حدث هذا اليوم (الأحد ٣٠ يناير) أن الصحف المستقلة بدأت برفع سقفها، وبدت العناوين الرئيسية أكثر تحررا مما عهدت من قبل، «المصرى اليوم» صدرت صفحتها الأولى بصورة ضخمة لأحد ضباط الجيش الذين انضموا للثورة وهو محمول على أعناق الثوار، وفوق ذلك عنوان: (مؤامرة من «الأمن» لدعم سيناريو الفوضى).! وجاءت صحيفة الشروق بعنوان: (الشعب يتقدم ومبارك يبدأ التراجع)!

كانت العناوين زاعقة، وكان من الواضح أن الصحف المصرية اتعظت بما حدث فى تونس، فبعض الصحف هناك صدرت تمجد فى زين العابدين حتى آخر لحظة، ثم فجأة أصبحت العناوين: (إرادة الشعب تنتصر) ...!

أما صحافة مماليك الدولة، فكانت عناوينها تبعث على الضحك أو الغثيان، ويكفى أن نعرف أن «الأهرام» صدرت فى هذا اليوم تتحدث فى صفحتها الأولى عن مظاهرات مكونة من عدة مئات يقودها مصطفى بكرى، ومحمد عبدالقدوس ...!

كما لم يخل الخبر من تلميحات بالتدخل الخارجى، والاتهام بأعمال السلب والنهب، من خلال ذكر ما حصل فى (أركاديا مول)، وغير ذلك من طرق العرض الرخيصة التى تؤلب الرأى العام ضد الثورة.

فى هذه الأيام، أعنى الأيام الأولى من الأسبوع الأول من الاعتصام، بدأت تظهر (أخلاق الثورة)، أو (أخلاق الميدان) ...! وفى هذا الموضوع من الممكن أن نكتب مئات المواقف، ومئات النوادر، وأن نذكر آلاف الشرفاء.

لقد أصبح الجميع يشعر بانتماء لهذا المكان!

وهو انتماء من نوع خاص، أنا لم أعرف مثل هذا الانتماء من قبل.

إنه أشبه ما يكون بانتماء الأطفال لحضاناتهم ...!

انتماء بدائى غيور، وبرغم ذلك حدثت خلال فترة الاعتصام فتن بين المعتصمين لا يمكن تخيلها ...! كنا طوال اليوم نرى شبابا وشابات يوزعون ما تيسر من الطعام، وآخرين يجمعون القمامة.

لا يمكن أن تجلس ربع ساعة فى أى مكان فى الميدان تقريبا بدون أن يمر عليك شخص يسألك عن أى قمامة تريد التخلص منها، أو دون أن يدعوك أحد لقطعة (سميط)، أو بضع تمرات.

جلسنا فى الميدان حوالى أسبوعين متصلين دون شكوى تحرش واحدة، لم نسمع شخصاً واحدا يستغيث بسبب سرقة هاتف محمول أو أى غرض كان.. كان الناس يتعاملون مع بعضهم البعض بكرم ونبل جديدين على الشعب المصرى، أو على الأقل جديدين على هذا الجيل.

أحد أصدقائى (من غير المقيمين فى الميدان) كان يمشى معى فى الميدان، وعطش، فأراد شراء زجاجة مياه معدنية من بائع يقف فى الطريق، فأخذ الزجاجة، ثم سأل البائع: بكم؟

فأجابه البائع: لو معاك يبقى ٢ جنيه، لو ما معاكش خدها وامشى!

أحد الأصدقاء كان يمشى فى الميدان ويحاول أن يجد من يبيع شيئاً يؤكل، وكلما سأل عن أى مكان يبيع طعاما وجد الناس يصرون على دعوته على ما عندهم من طعام! ولم تحدث أى مشاجرة تذكر بين الناس، رغم الزحام، ورغم الضغوط التى يتعرض لها المعتصمون.

لم تحدث أى مشاجرات إلا بعد أن نجح الأمن فى زرع الفتنة بين المعتصمين، فى مرحلة من مراحل الاعتصام، حين نجح فى إدخال بعض أنصار الحزب الوطنى لمحاولة تثبيط العزائم، وسأذكر هذا لاحقا.. المكان الوحيد الذى كان يخضع لأخلاق ما قبل الثورة، هو المنصات الإعلامية الموجودة فى الميدان!

كانت شهوة الظهور فى هذه الأماكن تضخ طاقة سلبية فى المكان، حتى إننى زهدت فى كثير من الفعاليات التى دعيت إليها، واعتذرت عن عدم المشاركة فى كثير من الندوات، وحين حاول بعض الشباب أن يدفعوا بى لكى أكون مسؤولا عن إحدى هذه الإذاعات تهربت منهم.

وأذكر أننى بعد إلحاح وضغط استجبت لإحدى الإذاعات فى الميدان، وذهبت فى الموعد المحدد، فوجدت فوضى عارمة، ووجدت عشرات المتسلقين الذين يرغبون فى الكلام، ووجدت شهوة حب الظهور تكاد تطفئا ما أشعر به من مشاعر (المدينة الفاضلة)، ما دفعنى لافتعال معركة لكى أهرب من هذا الجو!

وبالفعل، أصررت على النزول من على المنصة، والانصراف، والسبب أن مزاجى قد تعكر برؤية هذا التكالب على الميكروفون، فأصبحت غير مهيأ نفسياً لإنشاد الشعر.. كان الشخص الذى يدعونى إلى المنصة رجلاً محترما اسمه الأستاذ حسين الزعوينى، وكنت أخجل منه (هو ورفاقه) من شدة أدبه، لكن الاستفزاز الذى كان موجودا عند المنصة فاق قدرتى على الصبر.

بسبب هذا الخلق السيئ، الذى كان عند المنصات لم ألق شعراً فى الميدان إلا قليلاً جداً، برغم دفع من حولى لى لكى ألقى، فكانت قصائدى تلقى مسجلة فى الميدان، برغم وجودى بشحمى ولحمى، واعتذرت عن أغلب الدعوات، وحين قبلت كنت دائما أختصر، فألقى لعدة دقائق ثم أنصرف!

وهنا لابد من شهادة حق، وهى أن الإذاعة الرئيسية كانت تحت إدارة الإخوان المسلمين، وبرغم أنهم لم يتمكنوا من تنظيم هذه الإذاعة كما ينبغى إلا أننى أشهد بأنهم لم يحتكروا الحديث لأنفسهم، أو حتى للتيار الإسلامى وحده، بل كانت الإذاعة ممثلة لكل القوى التى فى الميدان، بل لكل من يملك صفاقة كافية للإصرار على الحديث.

وقد كان أداء الإخوان طوال فترة الاعتصام ممتازا، فقد أدوا واجبا عظيما فى (لجنة النظام)، دون أن يرفعوا شعاراتهم، ودون أن يحتكروا العمل فى هذه اللجنة، فكانت لجنة النظام مفتوحة لكل المتطوعين.

فى نفس هذه الفترة بدأت بعض الضغوط على المعتصمين، وتمثلت فى منع دخول الماء والغذاء والدواء إلى الميدان. وبدأت عشرات القصص تتوالى عن أناس حاولوا إدخال المؤن إلى الميدان فتمت مصادرتها من الجيش وإلقاؤها فى النيل.

كان من الواضح أن لـ«أمن» الدولة دخلاً فى هذا الأمر، فحسب روايات الشهود كانت القوات التى توقف الناشطين قوات غير نظامية مجهولة الهوية، وهناك بعض الشهادات التى تؤكد أن الشرطة العسكرية صادرت بعض المؤن، لكن يبدو أن ذلك قد تم بتوجيهات من أمن الدولة أيضا.

فى هذه اللحظة بدأت أشعر بشعور نبتة الصَّبَّار الواقفة فى حر الصحراء، تلك النبتة الرائعة الجميلة التى تقف فى الحر لسنوات وسنوات، صامدة حتى لو انعدم الماء...!

إذن ... نحن الصَّبَّار، وسنصمد هنا برغم كل المنع والقمع...!

كنت شديد التشاؤم حيال هذا الأمر، وكنت أخشى أن يقوموا بتجويعنا فى الميدان بهذا الشكل، وبدأ الحديث عن (شِعْبِ أبى طالب) يتكرر، لكن الظن خاب بفضل الله أولا، وبفضل تحايل الشباب على كل ما قام به من يحاصرنا ثانيا، فقد تفنن الشباب فى طرق إدخال المؤن إلى الميدان.

فى هذا اليوم هاتفنى زوج أختى الدكتور هشام المرسى، وهو طبيب مقيم فى قطر، وأخبرنى أنه هنا ليشارك فى مليونية يوم الثلاثاء، وقد جاء خصوصا ليشارك فى الثورة، وأخبرنى أنه فى الميدان، قلت له نلتقى غدا بإذن الله، ولكن لم يحدث، لأسباب سأسردها فى الحلقة المقبلة.

  • Currently 70/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
23 تصويتات / 918 مشاهدة
نشرت فى 13 مارس 2011 بواسطة tulipe

. وبدأت «معركة الصبر»

(هاهم يستخرجون أفضل ما فى أنفسهم بعد أن قرروا أن يكونوا قادة أنفسهم)!

وكان من المشاهد المؤثرة التى شاهدتها رجل مع امرأته الحامل يخوضان المعركة مع المتظاهرين!

شاهدت أطفالا صغارا لا تتجاوز أعمارهم العاشرة يشاركون فى المعركة، وشاهدت سيدات كبيرات، وفتيات صغيرات.

كانت الغالبية العظمى من الشباب الذين لم يُتموا الثلاثين.

كنت أشعر أن البلد يولد من جديد، كنت أشعر بطاقة حب غريبة!

بالرغم من اشتعال المعركة كان الجميع يواصلون الهتاف: «يسقط يسقط حسنى مبارك»، وكلما شاهدوا شابا أو رجلا فى شرفة من الشرفات يتفرج على المظاهرة هتفوا له وهم يؤشرون له بالنزول: (انزل انزل خليك راجل.. حسنى مبارك راحل راحل!).

فى هذه الأثناء أذن العصر، وبدأ الناس بأداء الصلاة جماعات جماعات تحت الجسر، ورغم مرور كل هذا الوقت إلا أن ملابسى ما زالت تقطر ماء بسبب المدرعة اللعينة التى أغرقتنى بمائها، وبدأت أشعر بإجهاد شديد بسبب البرودة النسبية لذلك اليوم، بالإضافة إلى الغازات والمجهود الذى يبذله المرء فى الكر والفر.

انضممت إلى جماعة وصليت العصر، ثم أكملت الجموع معركتها مع الشرطة.

لقد كان الوعى الذى يحرك المتظاهرين فى غاية الروعة، لدرجة أننى كنت أحمل فى يدى حجرا على سبيل الاحتياط، فوجدت من ينبهنى إلى ضرورة التزام الشكل السلمى للتظاهرة.

وبقدر الوعى الذى كان فى المتظاهرين، بقدر ما كانت خسة رجال الشرطة، فقد أحرقوا سيارة مدنية خاصة واقفة فى الشارع عمدا أمام أعيننا، وحين حاول البعض إطفاء الحريق أطلقوا نحوهم القنابل، ثم أطلقوا عليهم الرصاص المطاطى.

وفى منتصف المعركة توقفت الشرطة عن إطلاق القنابل حتى أُوحى إلينا أن المعركة انتهت، ولهذا بدأ المتجمهرون بالاقتراب من الشرطة، وبعد أن أصبحنا فى مواجهتهم انهالت علينا القنابل من المدرعات، ومن فوق الجسر، وتسبب ذلك فى إصابات كثيرة، وأصبت حينها باختناق شديد، وفقدت العصا التى غنمتها من الجندى، ولولا مساعدة أحد الناشطين الذين يعرفوننى (كريم الجهينى) لكنت قد فقدت وعيى.

بعدها بدا واضحا أن التشكيلات التى أمامنا من مكافحة الشغب قد باتت فى وضع محرج، فهى تتراجع، وتقلل مما تقذفه علينا.

كان رأيى أن هناك أمرا ما قد جاء لهذه التشكيلات، إما بالكف عن الضرب، أو بالانسحاب، والبعض رأى أن ذخيرتهم من القنابل قد فرغت!

وأنا الآن أظن أن الأمر مزيج من الاثنين.

بعد أن أفسحت لنا شرطة مكافحة الشغب طريقنا حدث مشهد فى منتهى الروعة!

لقد بدأ المتظاهرون بالسلام على عساكر وضباط الشرطة، بل إن البعض بدأ بتقبيلهم والحديث معهم بما يرفع معنوياتهم، وبما يرفع الحرج عنهم، كلام من نوعية: «والله العظيم عاذرينكم، عارفين إنه مالكوش ذنب، منه لله اللى بيخليكوا تعملوا فينا كده»!

وفى هذه اللحظة صعد بعض المتظاهرين أعلى الكوبرى وبدأوا برشق الشرطة بالحجارة، فما كان من جموع المتظاهرين إلا أن تكتلت أمام تشكيلات الأمن المركزى كدرع بشرية، مع هتاف موحد يدوى فى السماء: «سلمية.. سلمية»!

كان هناك بائع (سميط) فى المظاهرة، يبيع وهو يصرخ: (بنص جنيه)، وحين انتصرت الجموع على الأمن رأيت هذا البائع يصرخ فرحا: (ببلاش ببلاش ببلاش)!

وبدأ الناس يأخذون بضاعته مجانا، ويقبلون عليها من شدة التعب وهو راض بذلك، فجاء شاب ثلاثينى سمح الوجه، وقال للبائع: (بتتكلم جد؟) فأجاب البائع بثقة: (أيوه.. اتفضل)، فما كان من الشاب إلا أن أخرج من جيبه ورقة نقدية بمائتى جنيه، وأعطاها للبائع فى يده، قائلا له: (برافو عليك)..!

كان هذا الموقف وما شابهه إرهاصة لما سوف يحدث فى الميدان، أعنى بذلك ظهور أخلاق جديدة، وسلوك مختلف من المصريين، بسبب اللحظة التاريخية التى يعيشونها.

وبهذا المشهد الرائع انتهت معركة ميدان الجيزة، وتحركت الجموع إلى ميدان التحرير.

كنت فى غاية الإجهاد، لذلك مشيت مع الماشين حتى وصلت لسيارتى عند حديقة الحيوان، وقررت أن أذهب إلى منزلى فى السادس من أكتوبر لتبديل ملابسى.

استغرقت رحلتى إلى المنزل ما يزيد على ساعتين، ذلك أن انسحاب الشرطة من الشوارع قد بدا واضحا، لذلك كلما سلكت طريقا وجدته مغلقا إما بالمظاهرات وإما بالبلطجية!

كان الطريق الدائرى (من جهة المنيب) مغلقا بالبلطجية، وكانوا يمنعون السيارات من المرور مع التلويح بالعصى والسكاكين، وكذلك كل الطرق التى تمر بمنطقة وسط البلد، لذلك اضطررت للعودة والدخول من حى المنيل إلى منطقة سور مجرى العيون ثم عبر القلعة إلى أن ارتقيت كوبرى ٦ أكتوبر من طريق صلاح سالم، ثم مشيت إلى أن وصلت إلى كوبرى ١٥ مايو، وعندها وجدت قوات مكافحة الشغب تتصدى لجموع قادمة من جهة شبرا، وجموع أخرى قادمة من بولاق، وجموع قادمة من الزمالك، وكلها تريد الوصول إلى ميدان التحرير.

فى هذه المنطقة وقفت ما يقرب من ربع ساعة، ثم تجمعت بعض السيارات ففتح الأمن المركزى لنا الطريق وعبرنا بسرعة من خلال كوبرى ١٥ مايو من فوق الزمالك حتى وصلت إلى المهندسين، وفى ميدان سفنكس كانت هناك اشتباكات عنيفة جدا بين المتظاهرين والشرطة، وكادت سيارتى تدمر بسبب القنابل والحجارة التى يلقيها الطرفان.

من أهم مميزات رحلتى الطويلة إلى المنزل أننى رأيت المظاهرات فى أجزاء كثيرة من القاهرة، خصوصا حين قطعت المسافة من شرق القاهرة عبر كوبرى ٦ أكتوبر إلى المهندسين، ثم إلى السادس من أكتوبر.

رأيت مناطق مثل العباسية، وغمرة، ورمسيس، وشارع الجلاء، وبولاق، وكورنيش شبرا، والزمالك.. كل هذه المناطق كانت غاصة بالبشر.

ما رأيته بنفسى فى هذا اليوم لا يقل عن نصف مليون متظاهر بأى حال من الأحوال.

طوال الطريق كنت أستمع إلى إحدى محطات الإذاعة الرسمية، وعلى مدار ساعة ونصف كانت الإذاعة تحاول أن توضح أن الأمور مستقرة، وأن الاحتجاجات محدودة جدا، وأنها محصورة فى محافظات قليلة.

هذه الرسالة الإعلامية المزورة جاءت على لسان محافظى الفيوم والغربية والسويس وقنا وأسيوط وغيرهم، وبعض هؤلاء المحافظين بالغ فى صفاقته حتى زعم أن الشرطة تحمى المتظاهرين، وتؤمن مسيرتهم لا أكثر!

وعند الخامسة والنصف، كانت نشرة الأخبار تعلن نزول القوات المسلحة بأمر من مبارك بصفته الحاكم العسكرى، وتفرض حظر التجول، وغير ذلك من الإجراءات، وذلك من أجل حماية ممتلكات الدولة والمواطنين من اعتداءات الغوغاء على الفنادق والبنوك وغيرها.

حينها قلت فى نفسى: يا لغبائهم!

نفس الراديو كان يعلن منذ دقائق أن الأمور مستقرة، وفجأة اتخذت كل هذه الإجراءات من أجل حماية البلد من الغوغاء..!

كانت رائحة القنابل فى كل مكان، كلما فتحت شباك السيارة فى أى مكان فى القاهرة تقريبا دخلت هذه الرائحة الخانقة.

واصلت طريقى إلى منزلى، ووصلت بعد المغرب، فخلعت ملابسى وأنا منهك تماما، وجسلت أمام محطات التليفزيون، وأعلن التليفزيون المصرى عن كلمة سيلقيها مبارك بعد قليل.

بعدها أُعلن أن السيد فتحى سرور قد صرح بأن هناك قرارات مهمة سيتم الإعلان عنها!

كان انطباعى أن هناك صراعا فى غرفة القيادة على كيفية إعلان خروج مبارك من الحكم!

لقد وصل المتظاهرون إلى مبنى التليفزيون!

والحرائق ممتدة بدءا من أقسام الشرطة، وصولا إلى المتحف المصرى، مرورا بمقر الحزب الوطنى الحاكم!

لقد سقط مبارك، ونحن فى انتظار خطاب التنحى!

ما عرفناه بعد ذلك أن الوحدات التى جاءت إلى منطقة وسط البلد كانت من الحرس الجمهورى، وكان الهدف منها أن تؤمن مبنى ماسبيرو، وهذا ما حدث، وتم إقناع المتظاهرين (وهم بالمئات) بالخروج من المبنى، ولم يلتفت أحد من هؤلاء القادة إلى ما يحدث فى المتحف المصرى، فأمّنوا التليفزيون والإذاعة، وتركوا المتحف ينهب، وتركوه أيضا معرضا للاحتراق بسبب الحريق الذى شب فى مبنى الحزب المجاور له!

جلست أتابع وأنا فى انتظار خطاب التنحى، وبعد منتصف الليل، خرج علينا بوجهه العكر، ليعلن بقاءه، ويعلن تعيين نائب، وإقالة الحكومة!

شعرت بصفعة على وجهى!

يا له من عُتل غبى!

قلت فى نفسى: (والله لن أبيت فى منزلى هذه الليلة!)، فقمت من فورى، ولبست ملابسى مرة أخرى، وتوجهت فورا إلى الميدان!

كانت الطريق سالكة، فوصلت بسرعة كبيرة.

فوجئت حين وصلت بأن عدد الشباب المرابطين فى الميدان قليل جدا، أظنه لا يصل لخمسة آلاف شاب!

بدأت بجولة تفقدية للميدان، فوجدت عددا كبيرا من الشباب يحرس المتحف المصرى، وقد قبضوا على بعض ضباط وأفراد الشرطة وهم يحاولون العبث به، وكان ذلك استجابة لنداء المخرج السينمائى خالد يوسف عبر شاشات التلفاز.

الدبابات تمركزت على مداخل الميدان كلها، ولا وجود للشرطة نهائيا، اللهم إلا بعض سيارات الشرطة المحترقة، وبعض الغنائم التى غنمها المتظاهرون، كالخوذات والعصى!

ومن أغرب ما شاهدته مدرعة محترقة من مدرعات الجيش، فسألت الشباب عنها، فأخبرونى أنها مدرعة تابعة للحرس الجمهورى، وأن المتظاهرين أحرقوها لأنها كانت تنقل الذخيرة لقوات مكافحة الشغب!

وكذلك ضُبِطَتْ سيارة إسعاف تنقل ذخيرة لهم، ولهذا تم منع أى سيارات تعبر من الميدان إلا بعد أن يتم تفتيشها.

لم أجد أى شخص معروف فى الميدان، ولم أجد أى قيادى من القيادات الشبابية أو التاريخية، وكنت قلقا جدا، لأن العدد كان قليلا، ولو أراد النظام تفريغ الميدان ممن فيه الآن لتمكن من ذلك!

حين حاولت أن أنشئ إذاعة أخرى مثل التى أنشأتها فى الخامس والعشرين من يناير لم أتمكن، فجميع المتاجر مغلقة.

حاولت بعد ذلك (فى صبيحة اليوم التالى) أن أشترى سماعات من بعض منظمى الأفراح، ولكنهم بالغوا فى الأسعار، ولم يكن معى ما يكفى من المال، وحين وجدت بعض الشباب أقاموا الإذاعة ارتحت، وكذلك قام شباب الإخوان بعمل إذاعة صغيرة تأتى بها سيارة، ثم تطورت هذه الإذاعة، وأصبح لها الصوت الأعلى فى الميدان.

كان ظنى أن الناس قد تعبت من معركة البارحة، وأنهم سيرتاحون ويبدلون ثيابهم ثم يعودون، تماما كما فعلت أنا.

وهذا ما حدث، إذ بدأت الجموع تتدفق على الميدان منذ الصباح الباكر، فكان العدد يفوق الخمسين ألفا عند التاسعة صباحا، وكان يفوق الربع مليون مع أذان الظهر.

إذن.. فقد بدأت معركة الصبر!

وللحديث بقية...

  • Currently 51/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
18 تصويتات / 423 مشاهدة
نشرت فى 10 مارس 2011 بواسطة tulipe

 

معركة الماء والقنابل والبصل والخَلّ

سألنى الدكتور البرادعى عن رأيى فيما يحدث، قلت إننا لابد أن نفهم أننا لا نتعامل مع وزارة الداخلية، وأن هذا الوضع الذى نحن فيه يعتبر أكبر تهديد للنظام الجمهورى منذ قيامه عام ١٩٥٢، وبالتالى هذا الأمر أكبر بكثير من أن يديره وزير داخلية أيا كان، وأننا نتعامل حاليا مع النواة الصلبة للنظام، وأن هناك غرفة عمليات فى مكان ما تدير المسألة، وتعطى أوامرها لوزارة الداخلية لكى تنفذ.

ودللت على ذلك بأن النظام فعل ذلك عند أزمة القضاة، وشكّل غرفة عمليات تدير الأزمة، وتعطى الأوامر لوزارة الداخلية لتنفذها فقط، ولا دور لوزارة الداخلية سوى التنفيذ.

وكان من ضمن ما قلته إن أكبر خطر يهددنا هو أن يطول أمد المعركة، وأننا لابد أن نكون حذرين جدا فى إدارة عمر المعركة، لأننا لا نضمن إلى أى حد سيطول نَفَس الجموع معنا، ولا ينبغى أن نرهق الجموع فى معركة طويلة الأمد دون أن نتأكد من قدرة الناس على الاستمرار، وقد قدرت الزمن الذى ينبغى أن نحسم فيه المعركة بحوالى أسبوعين.

وقد تبين بعد ذلك أن الشعب المصرى أعظم وأقوى مما نظن، فقد طالت المعركة أكثر من ذلك، ولم يقل الزخم، ولم تفتر عزيمة المعتصمين.

ويبدو أن النظام بلغ أيضا من الغرور والغباء بحيث أوكل إدارة هذه المعركة لوزير الداخلية الفاشل لوحده.

كنا نتوقع أن يكون عدد المتظاهرين من مليون إلى مليونى متظاهر فى مصر كلها، وكان تخوفنا أن يكون العدد أقل من مليون متظاهر، وكنا نعتبر أن نزول مليونى متظاهر كفيل بأن يهز النظام هزة قد تنهيه تماما.

كانت الخطة أن نصلى الجمعة مع الدكتور محمد البرادعى فى مسجد الاستقامة الواقع فى ميدان الجيزة، تم إعلان ذلك على الـ«فيس بوك»، واتصل بى عشرات المواطنين والناشطين يتساءلون عن مكان صلاة الدكتور، وأخبرتهم.

كانت الأخبار تتواتر لدينا بنية الحكومة فى قطع جميع أشكال الاتصال، من محمول، وإنترنت، لذلك اتفق جميع الناشطين على أماكن لقائهم بدقة لأنهم يعلمون أن التواصل غدا قد يكون مستحيلا.

فى صباح يوم الجمعة حدث أمر غريب، وخلاصته أن الدكتور مصطفى النجار اضطر أن يتحرك من مسكنه فى مدينة السادس من أكتوبر إلى ميدان التحرير لكى يوصل غرضا معينا، وكان تحركه فى حدود التاسعة صباحا، وقد اتصل بى وهو فزع، وقال لى: (الجيش شكله حينزل)...!

فاستغربت، وسألته عن السبب، فأجاب بأنه لا يرى شرطيا واحدا فى أى شارع من شوارع القاهرة منذ انطلق من مدينة السادس من أكتوبر وحتى وصوله إلى وسط المدينة!

أعدت عليه السؤال، فكرر الإجابة مؤكدا، وأخبرنى أنه فى ميدان التحرير، ولا يوجد أى شرطة لمكافحة الشغب، بل إن شرطة المرور اختفت من الشوارع...!

اتصلت ببعض الأصدقاء أسألهم عن دلالة ذلك، وكان من ضمنهم الصديق العزيز الأستاذ حسين عبدالغنى الإعلامى الشهير، وأذكر أنه قال لى: (دى مش موجودة فى الكتاب يا عبدالرحمن!)، ويقصد أنه أمر غريب مريب لا تفسير له.

تبيّن بعد ذلك أن ما حدث أمر من اثنين، إما أن الشرطة كانت مختبئة وظهرت فى وقت الصلاة، وهو احتمال أستبعده.

وإما أن شرطة مكافحة الشغب قد تعبت بعد ثلاثة أيام من العمل المتواصل، فعادت إلى معسكراتها ليلة الجمعة وذلك فى محاولة لمنح هذه القوات قسطا من الراحة، ثم جلبت إلى مواقعها مع صلاة الجمعة، وهذا ما أرجحه.

وصلتنا أخبار صباح الجمعة أن الأمن سيمنع الصلاة فى مسجد الاستقامة، وبالتالى قلنا للجميع «أحضروا معكم سجاجيدكم لكى نصلى فى الشارع».

قبل العاشرة والنصف بدأت شبكات المحمول بالتأثر، وخلال عدة دقائق تعطلت الشبكات الثلاث، وانقطع الناس عن بعضهم البعض تماما، وانقطع كذلك الاتصال بالشبكة العنكبوتية، مما جعل مصر جزيرة منعزلة عن العالم، وأصبح شكل الاتصال الوحيد المتاح هو الاتصال عن طريق الهاتف الأرضى.

كان الاتفاق أن نلتقى أمام منزل الدكتور أحمد شكرى، وهو ابن أخت الدكتور البرادعى، ويسكن أمام حديقة الحيوان بالقرب من ميدان الجيزة، وتقابلنا هناك فى حدود الحادية عشرة صباحا، وكان هناك جمع من الرموز على رأسهم الدكتور عبدالجليل مصطفى، والدكتور أبوالغار، ومصطفى النجار، التقيت يومها السيدة هبة صالح مراسلة الفاينانشيال تايمز للمرة الأولى، وذلك بعد علاقة (لاسلكية) استمرت عدة شهور، وكان من الحاضرين كذلك د.أسامة الغزالى حرب، والصحفى الأستاذ إبراهيم عيسى.

وصل الدكتور البرادعى متأخرا قليلا، وبعد أن كنا بدأنا بالقلق عليه، وتحركنا فور وصوله إلى مسجد الاستقامة فى مسيرة بالسيارات، ووقفنا قبل الوصول للمسجد فى مكان متفق عليه، حيث كان ينتظرنا عشرات الشباب لكى يقوموا بالتحلق حول الدكتور لحمايته من أى أذى.

تحلق الشباب حول الدكتور، وبدأت المسيرة التى لم تستغرق سوى دقائق ونحن نهتف «تحيا مصر»، حتى وصلنا إلى المسجد، وكانت الخطبة قد بدأت، وكان المسجد غاصا بالمصلين.

حاولت الدخول إلى المسجد فلم أتمكن، ولكنى صليت أمام باب المسجد.

أما الدكتور البرادعى ومن معه، بسبب كثرة المحيطين به، فلم يتمكنوا من الوصول إلى باب المسجد من الأساس، لذلك صلوا فى الشارع.

المكان محاصر بآلاف الجنود من الأمن المركزى، والجو فيه قلق وتوتر يكاد يشمه المرء فى الهواء.

حاولت التركيز فى خطبة الجمعة لأعرف رأى المؤسسة الدينية فيما يحدث، فوجدت الخطبة متوازنة.

المسجد الذى اخترناه تابع للجمعية الشرعية، وقد قال الخطيب فى خطبته، إن الجمعية الشرعية أصدرت بيانا من ثلاث نقاط، النقطة الأولى تدعو الحكومة إلى رد المظالم، والنقطة الثانية تؤكد فيه على حق المتظاهرين فى التعبير عن رأيهم، والنقطة الثالثة تدعو المتظاهرين إلى عدم الاعتداء على أى ممتلكات عامة أو خاصة.

بعد أن سلم الإمام تسليمته الثانية انطلقت الهتافات من المصلين بشكل عفوى، تحيا مصر، ومن جهة أخرى هتافات تقول التغيير التغيير، ولكن حين هتف شخص قائلا: يسقط يسقط حسنى مبارك، توحدت كل الحناجر كأنها سيل عرم، أو كأنها رعد من السماء، وظل المصلون يرددون هذا الهتاف ضد مبارك ويكررونه دون أى كلل أو ملل.

فى هذه الأثناء غيرت موقعى لكى أحاول الوصول للدكتور البرادعى، فرأيت مشهدا لن أنساه، لقد بدأت المدرعات برش المياه على المصلين برغم أنهم لم يتحركوا بعد من أماكنهم، ونظراً لأن الدكتور البرادعى لم يتمكن من دخول الجامع، فقد كان خرطوم المياه موجهاً نحوه مباشرة!

حاول الشباب أن يحموه، ولكنى شاهدت الماء يخبطه هو شخصيا فى رأسه وجسده، وهو مستكين صابر كعادته، كل ما فعله أن حمى نظارته من السقوط بيديه، ثم أخذه الشباب إلى داخل المسجد، لكى يتمكنوا من حمايته، وانضم له فى المسجد كل الكبار الذين كانوا معه.

كان أمامى ثلاثة خيارات، الخيار الأول: التوجه مع مجموعة من المصلين إلى جامعة القاهرة.

والخيار الثانى: أن أحتمى بالمسجد مع الدكتور البرادعى والناشطين الذين معه.

والخيار الثالث: أن أخوض المعركة مع المتظاهرين المتجمهرين هنا فى ميدان الجيزة.

وقد اخترت الخيار الثالث، لكى أبقى على مقربة من الدكتور البرادعى لو حدث أى تطور، ولكى لا يفوتنى شرف المشاركة فى هذا اليوم العظيم.

بدأت المعركة برش المياه على المتظاهرين، وقد كنت من ضمن مجموعة حاولت أن تحمس الناس لكى يتشجعوا ويدخلوا باتجاه الجنود، وقد قمت بالاشتباك مع بعض الجنود، وخطفت عصا من يد واحد منهم، وكنت سعيداً بها جدا، ولكنها ضاعت منى فى أحداث المعركة بعد ذلك!

حين اشتبكت مع الجنود أصابنى خرطوم المياه الخارج من المدرعة إصابة مباشرة من قمة رأسى إلى أخمص قدمى، فصار منظرى كأننى خرجت من البحر لتوى!

كنت ألبس بنطلون (جينز)، وكنزتين من الصوف، وذلك لحماية جسمى من الهراوات، التى قد تسقط عليه، وصار كل ذلك مبتلاً تماما، كل ما ألبسه من ملابس، حتى الداخلية صارت مبتلة تماما، وظلت مبتلة لساعات، حتى إننى بعد أن صليت العصر كنت ما زلت أعصر ملابسى فتنز الماء نزا!

بدأت المعركة بالماء، ثم بعد أن ابتعد المتظاهرون- بسبب الماء- مسافة معقولة بدأت القنابل المسيلة للدموع بالانطلاق.

لقد ألقى علينا مئات من القنابل!

كان عدد المتظاهرين يزداد كل دقيقة، وكان المتظاهرون يأتون من مناطق الجيزة المختلفة، حتى يصلوا إلى ميدان الجيزة، فينضموا إلينا.

كان المتظاهرون قد فهموا اللعبة، وعرفوا كيفية التعامل مع القنابل المسيلة للدموع، فالعلاج هو الخل، مناديل مبتلة بالخل، وكذلك أن يشم المصاب بصلا، أو أن يغسل وجهه بالبيبسى أو ما شابه ذلك من المشروبات، بالإضافة إلى حماية الوجه بقناع طبى، وحماية العيون بنظارة مائية أو ما شابه ذلك، وقد تعلمنا ذلك من خلال التواصل مع الشباب التونسى على الـ«فيس بوك».

كنت قد حصنت نفسى ببعض هذه الأشياء، وخضت المعركة مع شباب الجيزة الذين أظهروا شجاعة مذهلة!

كانوا يقفزون إلى القنابل المسيلة قفزا، ثم يمسكونها بيديهم، ويركضون بسرعة إلى رجال الشرطة، ثم يلقونها ناحيتهم، وقد ساعدهم فى ذلك أن الله شاء أن يتغير اتجاه الريح فيصبح باتجاه الشرطة لا باتجاهنا.

فى هذه المعركة.. عرفت أن التغيير أصبح واقعاً...!

لم أر فى حياتى كلها المصريين يحبون بعضهم بهذا الشكل!

البصل والخل يتساقط علينا من الشرفات، كلما تعب شخص وجد عشرة يحملونه ويساعدونه، وجدت من المتظاهرين من اشترى قطرات العيون وظل يعالج بها عيون المصابين بالقنابل، ووجدت من يشترى البيبسى لكى يساعد المصابين!

كان حوارى الداخلى يقول: (هؤلاء هم المصريون، المصريون الذين يقتلون بعضهم البعض من أجل عشرة جنيهات، هؤلاء هم المصريون الذين يقترفون جميع الموبقات، هؤلاء هم الذين يدفعون الرشى والإكراميات، ولا يتقنون أعمالهم، ويعيشون عالة على الأمم وعلى أنفسهم.. هاهم يستخرجون أفضل ما فى أنفسهم بعد أن قرروا أن يكونوا قادة أنفسهم)!

 

  • Currently 71/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
25 تصويتات / 760 مشاهدة

 

كل طبقات المجتمع كانت ممثلة فى «ميدان التحرير»

كنا نحتاج لصوت قوى بعد أن وصلنا إلى ميدان التحرير وتجمعت هناك الحركات المشاركة فى الثورة لذلك أرسلت لشراء السماعات والميكروفون لنتمكن من توجيه هذا الجمهور، بدلاً من أن يظل بلا هدف.

وقررنا أن نأخذ كهرباء من عمود النور بجوار إشارة المرور المطلة على الميدان باتجاه مطعم «هارديز» وحين احتجنا كهربائياً، وجدنا العديد من الكهربائيين ضمن المتظاهرين.

كنت فى قمة السعادة، فهذا التجمع يضم طبقات متعددة، طلبة فى الجامعة الأمريكية، وفى الجامعات المصرية، ومهنيين، وفلاحين، فقراء وأغنياء، بنين وبنات، وهذه ظاهرة جديدة فى الحياة السياسية المصرية، فالمتظاهرون من طبقات شتى، ولا يعرفون بعضهم البعض.

لقد مللنا من المظاهرات التى نلتقى فيها بكل الوجوه التى نعرفها، تبدأ المظاهرة وعددنا ألف شخص، وتنتهى دون أن تصبح ألفاً وواحداً.

المهم.. جاءت المعدات، وفشلنا فى أن نجهزها للعمل.

ولكنى صممت على تنفيذ الفكرة، فقلت للناشط المعروف د.مصطفى النجار المنسق العام للحملة الشعبية لدعم البرادعى ومطالب التغيير بضرورة أن يحضر أجهزة أخرى وقد كان، فأخرج من جيبه ما يقرب من ١٥٠٠ جنيه، وتم شراء عدة أخرى ونجح الفنيون فى تركيبها.

أمسكــت بالميكـــروفون، وقلت:

بســــم اللــــه الرحــمن الرحيم

يا شباب مصر.

أعلن عن بدء إذاعة التغيير ومقرها ميدان التحرير بالقاهرة.

فانفجر جمهور الحاضرين بالتصفيق والهتاف.

ثم أكملت كلامى: يعد برامجها ويحررها ويقدمها شباب مصر الثائر المعتصم بميدان التحرير.

بدأت بتحميس الشباب، وبتوجيههم إلى ضرورة الصمود فى أماكنهم مهما كان الثمن، وبأننا إذا صمدنا حتى صباح الغد واستيقظت القاهرة ووجدتنا فى الميدان فمعنى ذلك أننا سنبدأ صفحة جديدة فى الحياة السياسية فى مصر.

وبالفعل، امتلأ الجميع حماسة وتصميماً على البقاء فى الميدان حتى الصباح.

أعلنا كذلك عن فتح الباب للحديث فى الإذاعة لمن يريد أن يلقى قصيدة أو أغنية أو كلمة، وبدأنا بتلقى الطلبات من الجمهور، ووعدنا الجميع بأن تكون الإذاعة ملكاً للجميع، وقد كانت كذلك بالفعل، لمدة ساعتين!

وكان من ضمن ما أشعل الحماس أننى أعلنت أن هذه الثورة قد بدأت بدفع ثمن الحرية وذلك بشهيدين فى السويس!

كانت التجربة المطبوعة فى ذهنى مؤلمة جداً!

وأعنى بها تجربة حدثت فى مارس ٢٠٠٣، بعد أن بدأت أمريكا بضرب العراق، فاعتصمنا فى الميدان بنفس الطريقة، وعند الفجر، هجم الأمن المركزى وطرد من طرد، واعتقل من اعتقل.

كان المنظر مختلفاً، فالعدد هذه المرة أضعاف العدد الموجود فى ٢٠٠٣، وأهم من ذلك أن الهمم والمعنويات مختلفة تماماً.

بدأنا بفعاليات الإذاعة، وبدأ المتحدثون بالحديث، أذكر أن أول المتحدثين كان الدكتور علاء الأسوانى، وتحدثت أيضاً السيدة جميلة إسماعيل، والدكتور عبدالجليل مصطفى، والنائب الإخوانى محمد البلتاجى، وغيرهم.

وكنت الوحيد الذى لم يتحدث، فقد شعرت بحرج أن ألقى أشعارى على الحضور وأنا المسؤول عن الإذاعة، برغم أن المئات من الحضور أمامى كانوا يطالبوننى بذلك، ولكنى تحرجت، وانتهى اليوم دون أن ألقى قصيدة واحدة، بل قدمت الآخرين فقط.

قبل انتصاف الليل، كانت تحركات الشرطة أصبحت مريبة، لذلك وجهت جموع الحاضرين إلى التفرق على مداخل الميدان المختلفة لتأمينها جميعاً، وكان لذلك أثر طيب قلل الخسائر عند اقتحام الشرطة للميدان.

هذه التوجيهات لم تكن اجتهاداً منى بقدر ما كانت استجابة للشباب النابه من حولى.

بعد انتصاف الليل كان صوتى قد بلغ به الإرهاق حدًا رهيبًا، فلم أتمكن من مواصلة إدارة الإذاعة، فتركتها للشباب، وبدأت بالتجول على مداخل الميدان المختلفة لأتأكد من أن جميعها قد تم تأمينه، وكان معى فى هذه الجولة د. مصطفى النجار.

وفجأة، وبدون أى سابق إنذار، بدأ الهجوم الوحشى القذر من الأمن المركزى..! سقطت القنبلة الأولى على الإذاعة مباشرة..!

المدرعات تتقدم، وأصوات القنابل تدوى، والقنابل المسيلة للدموع تنطلق عاليًا وتسقط فى وسط الميدان حيث الحديقة.

كان من الصعب أن نصمد هذا اليوم، لذلك قرر العقل الجمعى للشعب المصرى أن يغادر الميدان.

فى هذه اللحظة، كان مصطفى النجار أمامى، وخطر فى بالى خاطر، هل أمشى معه، أم أنصرف لوحدى؟

وأخذت القرار، وانصرفت وحيدًا، واختفيت بين الجموع الهاربة، وكان ذلك قرارًا حكيمًا، ذلك أن مصطفى قد قبض عليه، ولو كنت قد مشيت معه لقبض علينا معًا!

من ضمن ما حدث أثناء الهروب أن سقطت بجوارى قنبلة مسيلة للدموع، فحاولت التقاطها بشكل شديد السذاجة، فكدت أختنق بالدخان، ولولا أن بعض الشباب عرفونى وساعدونى فى الهروب لكنت قد سقطت من شدة الإعياء..!

كانت خطة الشرطة أن يجبرونا على الخروج من الميدان، لذلك تركوا لنا بعض الطرق للخروج، أنا خرجت فى جمع غفير من شارع (شامبليون)، وكان الشباب يهتفون بمنتهى الحماس، يسقط يسقط حسنى مبارك، الشعب يريد إسقاط النظام. وحين اقترب منى بعض الشباب سائلين: هل خسرنا المعركة بانصرافنا؟

جاوبتهم بكل ثقة: هذا الجمع ما فر إلا ليكر..!

وقلتها بالعامية: إحنا مش هاربانين، إحنا ماشيين علشان نرجع بعدد أكبر..! وهو ما حدث بعدها بأيام.

مشيت مع المظاهرة مسافة كبيرة، فمشينا عبر شارع الجلاء، ومنه إلى بولاق، ثم ركبت سيارة أجرة إلى منزلى، لكى أتابع ما الذى حدث، لأننى كنت منفصلا تماما عن العالم بسبب فراغ بطارية هاتفى.

وصلت منزلى فى تمام الثالثة والنصف صباحا، وبدأت الاتصالات، وأدركت أننا أمام هجوم وحشى تأذى فيه الكثيرون، وعند الصباح بدأت الأخبار تتوالى حول اعتقال مصطفى النجار.

بعد خروج مصطفى من السجن بحوالى يوم ونصف تبين أننا حين كنا نسير معا فى الميدان لحظة الهجوم كنا مراقبين من أشخاص لا نراهم، وأنهم ساروا خلف مصطفى النجار، واستغلوا أنه تعب من الغازات المسيلة للدموع، وتظاهروا بمساعدته، ثم قاموا بخطفه فى سيارة مجهولة إلى مبنى أمن الدولة فى لاظوغلى.

كان القبض على مصطفى النجار لسببين، الأول: أنه المسؤول عن أول دعوة للتظاهرة، فقد أصدرت الحملة بيانا قالت فيه:

تدعو الحملة الشعبية لدعم البرادعى ومطالب التغيير جموع الشعب المصرى إلى الخروج فى تظاهرات سلمية يوم كذا بشكل كذا.. إلخ..!

والسبب الثانى: الإذاعة التى كانت فى الميدان..!

لذلك عومل بقسوة شديدة فى سجنه، وضرب ضرباً شديداً، ولم يفرج عنه إلا لأنه كاد يموت فى الحجز، وذلك لأنه مصاب بمرض فى رئته يتسبب فى حالات ضيق تنفس واختناق، ونظرا لأنه كان مكمما طوال فترة حجزه، فقد تسبب ذلك فى إصابته بنوبة اختناق، كادت تودى بحياته، فرموه فى الشارع لكى لا يموت عندهم!

من أهم ما جرى فى السجن أن جهاز أمن الدولة لم يكن يتخيل أن يتحرك الشعب المصرى!

حين أخبرهم مصطفى أن الحاضرين فى الميدان لا انتماء لهم، ضربوه بعنف، وحاولوا أن يجبروه على التوقيع على اعترافات ملخصها أن ما حدث كان خطة متفقا عليها بين د. البرادعى، وبين الإخوان المسلمين..!

وكانوا رافضين تماما لأى حديث عن حركة عفوية للناس، وكان من أسباب ضرب «مصطفى» فى سجنه أنه رفض التوقيع على هذه الاعترافات المفبركة رفضاً تاماً.

خصوصاً أنها كانت مدعمة بالصور، وبالصوت والصورة، إذ تم تصويرنا ونحن نتحدث فى الإذاعة، التى أقمناها فى الميدان.

حين حكى لى مصطفى ما حدث، شعرت بأن النهاية اقتربت، لأن أعراض غرور هذا الجهاز أصبحت أكبر من أن يعيش معها، إن غرور أمن الدولة كان من أهم أسباب القضاء على هذا الجهاز الخسيس.

خرج مصطفى النجار مصاباً، فهو يعرج بسبب ضرب مبرح فى ركبته، وكذلك كان مصاباً بشرخ فى أحد أضلاع صدره، بالإضافة للإرهاق الذى تسبب فيه تكميمه طوال فترة اعتقاله، مما أدى إلى نوبة ضيق التنفس التى أصابته.

استمرت المظاهرات حتى يوم الجمعة، وهو يوم جمعة الغضب الذى دعونا إليه أول ما دعونا من خلال الإذاعة، التى كانت فى ميدان التحرير!

بعد أن تم فض الاعتصام هاتفنى أصدقاء لم أسمع أصواتهم منذ سنوات وسنوات، ليعرفوا كيفية الانضمام لهذه الحركة.

كان الشعور الغالب عند من يتصل بى، أنه قد فاته شرف الاشتراك فى التظاهرة الكبرى فى ميدان التحرير، وأنه يريد أن يعوض ما فاته.

وخلال اليومين التاليين (الأربعاء، والخميس) استمرت المظاهرات فى عشرات الأماكن فى القاهرة الكبرى، كانت مظاهرات صغيرة، أو متوسطة، ولكنها استدعت حشد قوات الأمن المركزى، مما تسبب فى إرهاق شديد لهذه القوات، وبالتالى كانت المهمة سهلة يوم الجمعة، فقد كنا نحارب جيشاً منهكاً تمام الإنهاك.

ليلة الجمعة وصل الدكتور محمد البرادعى إلى القاهرة، بعد أن قطع سفره، خصيصاً لينضم إلى التظاهرات.

وعقدنا اجتماعاً معه فى منزله فور وصوله، وكان من ضمن الحاضرين الدكتور عبدالجليل مصطفى، والأستاذ على البرادعى، والدكتور عصام العريان، والدكتور سعد الكتاتنى، والدكتور مصطفى النجار، والناشط عبدالمنعم إمام.

من أهم ما دار فى الاجتماع أن الإخوان المسلمين قد اتخذوا الموقف الصحيح، وكان كلام الدكتور العريان والدكتور الكتاتنى يدل على أن الجماعة قد قررت النزول للشارع وأن تلتحم مع الشعب المصرى فى ثورته.

 

  • Currently 58/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
21 تصويتات / 617 مشاهدة

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

  • Currently 15/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
5 تصويتات / 905 مشاهدة

 

وصل الغضب فى مصر إلى أقصى الحدود منذ سنوات، وكنت – أنا وغيرى – نشير إلى ذلك فى شتى كتاباتنا، ولكن بعد نجاح ثورة تونس فى منتصف يناير ٢٠١١، تغير الوضع، وأصبح التغيير أقرب مما نتصور، على الأقل فى نظرى.

لقد وصل المصريون إلى درجة من درجات اليأس المطبق، وفقدوا الثقة فى كل شىء جميل، وفى أى غد مشرق، والأهم من ذلك أنهم فقدوا الثقة فى أنفسهم، فأصبحوا ينظرون إلى أنفسهم على أنهم مجموعة من «السكّان»، وليسوا شعبا عريقا عظيما.

وبسبب هذا اليأس، تعامل البعض مع الدعوة التى خرجت إلى التظاهر فى عيد الشرطة الذى يوافق ٢٥ يناير ٢٠١١ بشكل روتينى، فقالوا إنها ستكون مناسبة مثل كل المناسبات، وإن المبالغة فى تصويرها وكأنها ثورة محددة الموعد يعتبر تسطيحا لأمر شديد الأهمية!

لذلك هاتفت بعض الناشطين لكى يغيروا نظرتهم لهذه المناسبة، وكانت حجتى فى ذلك أن ما حدث فى تونس جعل الملايين من المصريين يصدقون أن إرادة الشعوب لا تقهر، وأن هناك احتمالا أن نرى مفاجأة كبيرة فى هذا اليوم، وقد استجاب لى أغلب الناشطين الذين حدثتهم، وقرروا إعادة النظر فى المشاركة فى هذا اليوم.

قررت أن أشترك فى هذا اليوم مع مجموعة من خيرة شباب مصر يمثلون «الحملة الشعبية لدعم البرادعى ومطالب التغيير»، تلك الحركة الشبابية النقية التى شرفت بالمشاركة فى تأسيسها، وشرفت بأن أكون منسقها العام لعام كامل انتهى فى ديسمبر ٢٠١٠، وقد اختار الشباب أن يقيموا وقفة احتجاجية أمام نقابة الأطباء «دار الحكمة»، وكان الترتيب يقتضى بأن يكون المكان سرياً، لذلك لم أعلم بمكان التجمع إلا قبل الوقفة بحوالى ساعة، وقد أخبرت عشرات الناشطين الذين أرادوا أن ينضموا لهذه الوقفة أن يتصلوا بى صباح الثلاثاء ٢٥ يناير لكى أخبرهم بمكان الوقفة.

هذا التخطيط نتج عنه أننا حين وصلنا إلى نقابة الأطباء لم نجد أى شرطة، بل وجدنا المكان خاليا لنا تماما، مما أتاح لنا فرصة التجمع، وتكوين نواة لمظاهرة كبيرة، وبالفعل.. تكونت هذه النواة من عدة مئات، ثم استمرت فى التضخم حتى بلغت ما يقرب من حوالى ألفى متظاهر، غالبيتهم العظمى من الشباب، بنين وبنات.

بعد أن بدأنا بالهتاف حضرت الشرطة، وقامت بعمل كردون أمنى (محترم) من حولنا، بل إنهم أغلقوا حركة سير السيارات فى شارع قصر العينى.

بدأت الهتافات: «عيش، حرية، كرامة إنسانية».. وأنا ابتكرت هتافين، الأول: «يا أهالينا انضموا لينا، قبل بلدنا ما تغرق بينا»، والثانى: «يا عسكرى يا أبوبندقية، إنت معايا ولاَّ علىّ، إنت بتحمى فى الحرامية»! وهو هتاف مقتبس من أغنية كتبها الشاعر إبراهيم عبدالفتاح. وكنت أنظر فى عيون المجندين والضباط، خصوصا عند جملة: انت بتحمى فى الحرامية، فأرى فى عيونهم حزنا وخجلا يصل لدرجة الخزى...!

حضر الوقفة مجموعة من الرموز والمثقفين، من أهمهم د. عبدالمنعم أبوالفتوح، والكاتب الساخر بلال فضل، والسيناريست محمد دياب، والمخرج عمرو سلامة، والمطرب المتميز حمزة نمرة، وغيرهم .

كانت الهتافات مركزية، يقودها الناشط محمود عادل، مؤسس جروب «البرادعى رئيسا».

ثم بدأنا بإلقاء الكلمات: بدأت أنا، وكانت الكلمة فى أغلبها موجهة إلى هؤلاء الزبانية الأغبياء الواقفين أمامنا، يحمون قاتلَهُم، من مخلِّصِهم!

ثم توالت الكلمات، عبدالمنعم أبوالفتوح، وبلال فضل، الذى ألقى كلمة شديدة التأثير.

بعد مرور ما يقرب من ساعتين اتضح أننا أصبحنا فى فخ، فلا نحن نستطيع الحركة، لأن الحصار الأمنى كبير جدا، ولا حتى نستطيع أن نزيد حجم المظاهرة، وذلك بسبب منع الناس من السير فى الشارع سواء بسياراتهم، أو راجلين!

وبدأت تصلنا أخبار من أماكن شتى، كلها تشير إلى أن آلاف المتظاهرين يزحفون من أماكن مختلفة إلى ميدان التحرير، لذلك اقترحت أن نكسر الطوق الأمنى ونتجه إلى الميدان، وكان ذلك قرارا صعبا، لأننا نرى أمامنا جنودا مدججين بالسلاح والغباء، جاهزين للفتك بنا إن حاولنا التحرك.

فى النهاية، بدأت – أنا وغيرى – ممن نفد صبرهم من هذا الوضع المتجمد بكسر الحصار، وكانت النتيجة أننا اشتبكنا مع الأمن، وحدثت بعض الإصابات، وحين انكسر الطوق جرى الجميع باتجاه ميدان التحرير.

 

وكان من أهم الأشخاص الذين أصيبوا المخرج السنيمائى عمر سلامة، إذ أمسك به رجال الأمن، وأوسعوه ضربا، وكانت إصاباته بالغة السوء، بل أظنه كاد يقتل فى مدخل إحدى العمارات فى شارع قصر العينى.

حين بدأنا بالجرى، وجدنا أمامنا تشكيلات ضخمة جدا من شرطة مكافحة الشغب، وكان ذلك طبيعيا ومتوقعا، لأننا نسير فى اتجاه مبنى مجلس الشعب، لذلك لم نجد خيارا سوى أن ننحرف يسارا إلى ضاحية جاردن سيتى، لنصل بعد أن نعبرها إلى الكورنيش، ومنها إلى ميدان التحرير.

ولكن ما حدث، أن شرطة مكافحة الشغب حاصرتنا فى محطة للوقود، وتجمعنا عدة مئات، وأمامنا جيوش من الشرطة بهراواتهم السوداء يقفون مستعدين للفتك بنا.

مع بداية الحصار حاول بعض ضباط أمن الدولة بملابسهم المدنية أن يضربوا المتظاهرين، وفوجئوا بمقاومتنا الشديدة، أنا شخصيا ضربت أحدهم وهو يضرب أحد الشباب بعصا غليظة فى يده، إذ أخذت العصا منه وضربته بها، مما تسبب فى حالة من التجمد فى الموقف، فالشرطة لم تكن تصدق أن هناك من يجرؤ على مقاومتها بهذه البسالة، ونتج عن ذلك أن تمكن الشباب من الصعود إلى مبنى موجود فى المحطة، وظللت أنا وعدة أفراد واقفين أمام طابور الشرطة.

وفجأة، قفز رجل من العاملين فى المحطة محذرا الجميع من أننا نقف على خزان البنزين الرئيسى فى المحطة، وأننا جميعا فى خطر كبير!

كان ذلك مخرجا لنا، فجاء الفنان المصرى (عباس أبوالحسن) وتفاوض مع الضابط بشأن خروجنا، هو وأحد الأصدقاء الأعزاء (وهو من أقارب شخص مهم جدا فى النظام الحاكم)، ونجحت المفاوضات، وخرجنا من المحطة إلى ضاحية جاردن سيتى.

وعند خروجنا، حصل بينى وبين ضابط شاب احتكاك لا أدرى كيف بدأ، ولكننى أظن أن كتفى لمسه وأنا أسير خارجا، فما كان منه إلا أن دفعنى بقوة، فوقفت، ونظرت إليه فى عينيه، فسبنى بالأم!

حينها قلت له بكل أدب وغضب: هل تعرف أمى؟

فسبها مرة أخرى: فقلت له ما معناه إنك شخص تافه وأنا أقترب منه، وفى يده هراوة، ووقفت أمامه قائلا: لو كنت راجل... إضرب!

فوقف متسمرا وهو رافع عصاه، ويده ترتجف دون أن يتمكن من أن يضرب، وبعدها أتى عباس أبوالحسن، وصديقى الذى ذكرت، ومشينا.

أذكر هذه الحادثة الآن وكأنها إرهاصات الهزيمة النفسية لجهاز الشرطة، ذلك الجهاز الذى كان يعتمد على خوف الناس، وعلى تراجعهم أمامه، وحين تجرأ الناس انهارت كل أجهزة الشرطة فى وقت قياسى.

استغرقت رحلتنا إلى ميدان التحرير حوالى ساعة، وكانت محفوفة بالمخاطر، لأننا كنا تائهين فى ضاحية جاردن سيتى، وكنا نحاول أن نتجنب العديد من المصائب فى رحلتنا، أهمها مبنى السفارة الأمريكية، وكذلك السفارة الكندية، والبريطانية!

كنا خائفين أن نحتك بأى شكل من الأشكال مع الحراسات المخصصة لهذه الأماكن الحساسة.

وبفضل الله، وجدت ضمن المتظاهرين الدكتورة مديحة دوس، وهى من سكان جاردن سيتى فتمكنت من إرشادنا إلى كيفية الوصول إلى الكورنيش عبر متاهات جاردن سيتى، وسرنا حتى وصلنا إلى ميدان الشهداء (التحرير سابقا)، من أسفل كوبرى قصر النيل.

بالنسبة لى... كانت هذه اللحظة من أعمق لحظات عمرى!

لقد كان منظر الميدان وهو ممتلئ بعشرات الآلاف من المتظاهرين يبشر بالفجر الذى طال انتظاره، وحين دخلت الميدان ووجدت الشباب يهتفون فرحا بقدوم فوج جديد إليهم، ويستقبلوننى بالبشر والسرور.

حينها بكيت!

وبدأت أصرخ بشكل هستيرى: «مصر عظيمة، نحن شعب عظيم، أى كلب يقول إننا لا نثور سنضربه بالحذاء، ما أجمل مصر».

كل ذلك وأنا أبكى، وحولى مجموعة صغيرة من الشباب الذين اشتركوا معى فى هذه اللحظة الممتدة.

الميدان فى تلك اللحظة كان ملكا لنا، لا حركة سيارات، ولا شرطة مكافحة شغب فى داخله، الشرطة تقف على مداخل الميدان، دون أن تهاجمنا، أو بعد أن هاجمتنا وصددنا هجومها، وقد تم توثيق هروب الشرطة أمام المتظاهرين عبر كاميرات المحمول، ونشر ذلك على الفيس بوك، مما كان له أبلغ الأثر فى مظاهرات جمعة الغضب بعدها بأيام.

من أغرب ما حدث فى هذا اليوم، أننا حين وصلنا إلى الميدان، قرر العقل الجمعى للشعب المصرى العبقرى أن يحول الهتاف من (عيش.. حرية.. كرامة إنسانية)، إلى هتافات سياسية بحتة تطالب برحيل الرئيس، وسقوط النظام!

بعد أن تجمعنا فى الميدان بدأت المشاكل.

المشكلة الأولى: هى الاتصالات، فأصبح استخدام التليفون المحمول صعبا جدا، وذلك بسبب تشويش من عربات مخصصة لذلك يستخدمها جهاز أمن الدولة، مما صعب من تواصلنا مع بعضنا البعض كناشطين فى مناطق مختلفة، ولكن الخبر كان قد انتشر، وأصبح ميدان التحرير قبلة جميع المتظاهرين فى ذلك اليوم، فجاء المتظاهرون من المهندسين، ومن شبرا، ومن ناهيا ومناطق الجيزة المختلفة، وبعد العشاء اكتمل العدد، وقد وصل إلى ما أقدره بحوالى أربعين ألفا.

 المشكلة الثانية: كانت فى كيفية التعامل مع كل هذه الحشود التى لا يربط بينها رابط، فأغلب الحاضرين كانوا من غير المسيسين، وكان الجميع لا يعرف ما الذى ينبغى عمله بعد ذلك! لذلك، كلفت الشباب بشراء سماعات وميكروفون فورا، وأخرجت من جيبى الخاص مبلغ ١٢٠٠ جنيه، وبالفعل ذهب (محمود عادل) الناشط المعروف ومؤسس جروب «البرادعى رئيسا» إلى باب اللوق واشترى سماعة ضخمة، وميكروفونا، مع عدة كهرباء.

 

عبد الرحمن يوسف

 

  • Currently 62/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
21 تصويتات / 673 مشاهدة

 

من أنا لأقول لكم ما أقول لكم؟! من أنا لأقول أن الثورة كانت سرابا يطارده الحالمون بالحرية والعزة والكرامة، كانت حلما مستحيلا بفعل التاريخ والثقافة. وإذ بالسراب يستحيل إلى نبع صاف يرتوى منه أولئك الحالمون، ويفيض فيسقي منه الجميع. وإذ بالحلم المستحيل يستخف به الواقع، وقد أشفق على أصحابه من محدودية تفكيرهم، وضعف خيالهم.

من أنا لأقول لكم ما أقول لكم؟! من أنا لأقول أن الثوار هم أبنائكم، أولئك الذين لطالما استخففتم بقدرتهم على الفعل، واتخذتم من ذلك ذريعة لدرءه عنهم، وآن الأوان أن تفسحوا لفعلهم المجال.

من أنا لأقول لكم ما أقول لكم؟! من أنا لأقول أن أنبل الثوار أولئك الذين ثاروا فارتعدت لمرآى ثورتهم قلوب الطغاة، وصاحوا فاستمع لصياحهم العالم أجمع. وعندما وضعت الثورة أوزارها انصرفوا في صمت يجللهم الوقار على صغر سنهم، وترمقهم العفة بنظرة ملؤها الإعجاب والإجلال.

من أنا لأقول لكم ما أقول لكم؟! من أنا لأقول لأولئك السياسيين الذين ينقبون دوما عن مريدين، ليغذون بهم أناهم النهمة، أن أديروا وجوهكم عن الثوار فليس بينهم من أصفار، من أنا لأقول أن أرواحكم قد سجنت خلف أنا نرجسية بغيضة وابتسامة صفراء كريهة، فآن لكم وقد تحرر الوطن أن تلتمسوا لأرواحكم تلك الحرية أيضا.

من أنا لأقول لكم ما أقول لكم؟! من أنا لأردد وراء هيدجر أن "العلم لا يفكر" فلا تبحثوا عن إجابات لأحجيات مستقبلكم العظمى لدى العلماء، والتمسوها عند الفلاسفة والمفكرين.

من أنا لأقول لكم ما أقول لكم؟! وأنا من أكتب فكأني أرسم كلماتي بمداد أبيض فوق ورقة بيضاء، فلا يقرأني أحد، وأنا من أصرخ عاليا، فلا يُسمَعُ صدى صوتي إلا همسا خافتا.

"من أنا لأقول لكم ما أقول لكم؟!

وأنا لم أكن حجرا صقلته المياه. . فأصبح وجها

ولا قصبا ثقبته الرياح . . فأصبح نايا

أنا لا عب النرد..أربح حينا وأخسر حينا

أنا مثلكم أو أقل قليلا"

محمود درويش

 

محمد السيد الطناوي [email protected]

 

  • Currently 53/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
17 تصويتات / 827 مشاهدة

 

"ليس أمام مصر سوى إحدى إثنتين، إما أن تموت بالتسمم البطئ الذي سرى واستشرى من قبل في جسدها، وإما أن تعيش بفصد الدم الفاسد المسمم، إما أن تنحدر مصر بهدوء وبطئ، وبهوان وهوينى، إلى ما لا نهاية، وإلى ما دون الحضيض، وإما أن تنفجر على نفسها داخليا وخارجيا، في نوبة قوة عظمى تجدد شبابها وتستعيد كرامتها، وتحل أزمتها التاريخية، أمام مصر باختصار، خياران لا ثالث لهما: الانحدار التاريخي أو الثورة التاريخية.....".

وقد كانت "الثورة التاريخية" هي خيار أبناءها، بعد أن ظن الكثيرون أنها لن تكون أبدا، ومتى كانت من قبلُ حتى تحل ببلادنا اليوم؟!، لقد خاطب ودها مفكرون وكتاب عديدون ودعوا إليها ونظّروا لها، غير أنها عصت عليهم وعلى أجيالهم التي انتموا إليها، ويقف في الصدراة من أولئك صاحب المقولة السابقة العظيم جمال حمدان، فهو واحد من الذين بشروا بها، وانبرى لمدة ثلاثين عاما ينقب، ويحلل، ويبحث، ويدرس، ويؤلف عن شخصية مصر، ومجتمعها، وتاريخها، وجغرافيتها، ليخلص نهاية إلى أن المطلوب هو "حدث عظيم وأعظم في الوجود المصري، لا يرج مصر وحدها ويخرجها من مأزقها التاريخي الوجودي، ودوامة الصغار، والهوان، والأزمات التراكمية المعيبة، التي فرضت عليها، ولكن أيضا يرج الدنيا كلها من حولها لنفرض عليها احترامها وتقديرها من جديد، والاعتراف بها شعبا أبيا كريما عزيزا إلي الأبد".

كانت أمنية سطرها قلب عالم عاشق على دفتي كتاب، وها هم أحفاده وقد سطروها بدمائهم وتضحياتهم على أرض الواقع.

لقد سطعت شمس مصر زاهية عبر تاريخها المغرق في القدم مرات ومرات لتجنح سريعا من بعدُ إلى المغيب في كل مرة، ذلك أن أمرها كان رهين بمشيئة حاكمها، إن شاء له سعيه وجده وحكمته نفذت أشعة خيرها إلى أبنائها وإلى محيطها ـ اتسع ذاك المحيط أم ضاق ـ  لتشخص إليها الأبصار باسمة شاكرة فضلها، وان قزُم هذا الحاكم احتجبت تلك الشمس خلف غيوم جهله وصغاره، لتتناول الظلمة مصرنا وهي محيطها ذاك.

أما وقد انتصب الشعب المصري ثائرا، نازعا عن كاهله آخر حكامه الطغاة، أما وقد أخذ بزمام أمره في يده، فستسطع شمس بلادنا من جديد كأزهى ما تكون، غير أنها شمس لن تعرف الغروب كسابقاتها، وها هو محيطها العربي وقد تملكته رعشة الأشواق للخروج إلى فضاء ثورتها المجيدة ليستدفئ بأشعة خيرها من بعدُ.    

طوبى لشباب مصر الذين تعهدوا الثورة في الأربعة أيام الأولى حتى تأكدت.
طوبى لشهدائها.
طوبى لأبطال يوم الأربعاء الدامي.
طوبى لمن شارك، وبارك، وسعد لها.

محمد السيد الطناوي

[email protected]

  • Currently 30/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
10 تصويتات / 432 مشاهدة

 

<!--<!--<!--

مقدمة

من أهم الأفكار والمبادئ التي أرساها ونادي بها الدكتور زكي نجيب محمود لتقوم عليها حياتنا الفكرية والثقافية ، فكرة أو مبدأ "الوضوح" ، ولا غرابة أن جعل منها أداة للحكم علي كل منتج فكري أو ثقافي معروض في ساحة الفكر و الثقافة ، فما كان واضحا جليا ذا قيمة من فكر ، سلك صاحبه بمقتضاه مسلكه واثق الخطي ، وسهل عليه توصيله للمستهدفين به في غير ما لبس ولا غموض .

ويصور زكي نجيب محمود الفرق بين الفكرة الواضحة والفكرة الغامضة فيقول أنه "أشبه بالفرق بين رحالة في حوزته خريطة واضحة التفصيلات ، يستطيع السير علي هداها فيصل آمنا إلي غايته المنشودة ، ورحالة آخر كل مافي حوزته في هذا الصدد ورقة حطت عليها مجموعة مختلطة من خطوط ، ولا ترسم شيئا ولا تدل علي شئ ، فيضل طريقه في الفلاة .

وفي سبيل الوضوح ، ومن أجله ، نسلط الضوء علي مفهوم له أهمية كبري في حياتنا الفكرية والسياسية ، وهو مفهوم "المرجعية الإسلامية" ، فنحدد أولا ما المقصود بالمرجعية؟ ، وماذا تعني إذا ما أضفنا لها الإسلامية ؟ ، وهل هذه المرجعية صاعدة أم هابطة ؟ ، وما الحاجة إليها في المعترك السياسي ؟ ، وما الذي يمنع المعتدلين من التيارات الأخري من القبول بأصحاب تلك المرجعية في ساحة العمل السياسي؟ .

فما فتأت المرجعية الإسلامية تتهم بالغموض والتشوش عند حامليها من قبل مفكرين وكتاب وإن كانوا ينتمون إلي تيارات فكرية أخري غير أن هذا لا يجعل من كلامهم فاقدا للمصداقية علي الجملة ، فهناك من يري أن "الفكرة لا تزال في حاجة إلي عمل عليها يجعلها أكثر وضوحا ، ويزيل الالتباس الذي ما برح عالقا بها ، ويبدأ هذا الالتباس أول ما يبدأ ، بمفهوم المرجعية نفسه ، فهذا مفهوم غامض لا أصل له واضح في الفكر الإسلامي السني.. ، مشيرا بذلك إلي مشاريع الأحزاب السياسية ذات المرجعية الإسلامية ، ومع سعينا لتحقيق مزيد من الوضوح لهذا المفهوم فإننا نقر حقيقة واقعة ، تتمثل في أن عالم الأفكار حتي وإن بلغت فيه الفكرة من الوضوح مداها فإنها تعد رغم ذلك غير مكتملة وناقصة في وضوحها طالما لم تهبط علي الواقع  للتتجاذبه ويتجاذبها ليكون النتاج آخر الأمر وضوح ينجلي به كل غامض مبهم .

للإطلاع على المقال يمكنك الإطلاع على الملف المرفق.

<!--<!--<!--[if gte mso 10]> <mce:style><! /* Style Definitions */ table.MsoNormalTable {mso-style-name:"Table Normal"; mso-tstyle-rowband-size:0; mso-tstyle-colband-size:0; mso-style-noshow:yes; mso-style-priority:99; mso-style-qformat:yes; mso-style-parent:""; mso-padding-alt:0in 5.4pt 0in 5.4pt; mso-para-margin:0in; mso-para-margin-bottom:.0001pt; mso-pagination:widow-orphan; font-size:11.0pt; font-family:"Calibri","sans-serif"; mso-ascii-font-family:Calibri; mso-ascii-theme-font:minor-latin; mso-fareast-font-family:"Times New Roman"; mso-fareast-theme-font:minor-fareast; mso-hansi-font-family:Calibri; mso-hansi-theme-font:minor-latin; mso-bidi-font-family:Arial; mso-bidi-theme-font:minor-bidi;} -->

 

<!--[endif]-->

محمد السيد الطناوي

[email protected]

 

  • Currently 30/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
10 تصويتات / 544 مشاهدة

 

نعيش أيامنا يوماً بعد يوم، وسنة تلو أخرى، لنفاجأ أننا انتقلنا من طور لآخر، ومن مرحلة عمرية لمرحلة عمرية أخرى، فمن طفولة لمراهقة يليها رشد ومن ثم كهولة فشيخوخة. يداهمنا إحساس قوى بأن اليوم هو شبيه الأمس، وأن الغد سيكون نسخة كربونية من اليوم، وأننا تحولنا لآلات تتحرك بطريقة ميكانيكية ولا سبيل لإيقاف تلك الحركة، والفعل الثورى أو حتى الاحتجاجى أمر غير وارد، وهل للآلات من سبيل إليه؟!، والموضوع غائب وبغيابه يُِفسح المجال للعبثية لتستوطن حياتنا وتمتص حيويتنا حتى آخر قطرة، فنصير أجساداً بلا أرواح، وأحلاماً لليقظة دون أمل فى أن تصير حقيقة، فكيف السبيل للخلاص؟، والسؤال هنا لا تتخفى وراءه إجابة تحمل حلاً سحرياً تتبدل بها الأحوال من حال إلى حال، بل هى إجابة بسيطة تملكها أنت وحدك، تنفعك ولا تنفع غيرك، وبقدر بساطتها بقدر تمنعها، فهى غير متاحة إلا للأرواح التواقة للخلاص.

وسبيلك للخلاص كامن فى ذلك الجزء المظلم من ذاتك، فى اللاشعور، منسى أو مكبوت هناك، إنه الموضوع. ولكل منا موضوع خاص به، فمنا من يتمثل موضوعه فى حلم قديم، قد ألهته عجلة الحياة الدائرة بسرعة مخيفة عن تحقيقه، ومنا من كان موضوعه قيمة عليا يتمثلها، حرية مثلاً يتحرر بها من قيود أثقلته فأقعدته، وحالت بينه وبين إبداع ينشد تحقيقه أو هيئة يريد لها أن تصبح هيئته، ومنا من نشد الجمال فواجه القبح يحيط به من كل مكان فارتد مهزوماً مدحوراً، ومنا من طلب العلا فلاقى من الصعاب فى الصعود ما أرهبه وأثناه عن مطلبه فنزل عنه لتسيره الحياة بعد ذلك كيفما شاءت، ومنا من يعش حياته دون أن تكشف له نفسه عن أى موضوع فيمضى به العمر, وهو واقع أسير لـ "اللامعنى"، والمشترك بين كل هؤلاء هو الاستسلام لما قدرته الحياة لهم لا لما قدروه هم.

فلتكن ثورة إذن يعلى فيها كل منا موضوعه، مستخرجين إياه من بواطن نفوسنا، مستضيئين به فى مسيرتنا الطويلة. نعم قد نصادف فى سبيل ذلك الآلام والوحشة، ولكنها ألآم بطعم اللذة ووحشة تغنى عن أى أنس.

إنها دعوة للحياة، قد صاغها الشاعر الشاب العبقرى أبو القاسم الشابى أبدع صياغة فى أبيات من الشعر، إذ قال: "إذا ما طمحت إلى غاية ركبت المنى ونسيت الحذر ولم أتجنب وعور الشعاب ولا هبة اللهب المستعر".

محمد السيد الطناوي

[email protected]

  • Currently 41/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
14 تصويتات / 261 مشاهدة

 

<!--<!--<!--[if gte mso 10]> <mce:style><! /* Style Definitions */ table.MsoNormalTable {mso-style-name:"Table Normal"; mso-tstyle-rowband-size:0; mso-tstyle-colband-size:0; mso-style-noshow:yes; mso-style-priority:99; mso-style-qformat:yes; mso-style-parent:""; mso-padding-alt:0in 5.4pt 0in 5.4pt; mso-para-margin:0in; mso-para-margin-bottom:.0001pt; mso-pagination:widow-orphan; font-size:11.0pt; font-family:"Calibri","sans-serif"; mso-ascii-font-family:Calibri; mso-ascii-theme-font:minor-latin; mso-fareast-font-family:"Times New Roman"; mso-fareast-theme-font:minor-fareast; mso-hansi-font-family:Calibri; mso-hansi-theme-font:minor-latin; mso-bidi-font-family:Arial; mso-bidi-theme-font:minor-bidi;} -->

 

<!--[endif]-->

<!--<!--<!--

يروج كثير من المحللين والمتصدرين للعمل السياسي في بلادنا لما يعرف ب"التغيير التدريجي" للأوضاع السياسية والإقتصادية البالغة السوء التي تغرق فيها البلاد،وذلك في مقابل التغيير الجذري الراديكالي الذي يستبعدون حدوثه تماما .

وإذا ما وضعنا ذاك الطرح موضع دراسة نجد أنه لا يستند أو يقوم علي أي أرضية صلبة، ولكي نصل إلي اتفاق حول مدي صحة هذا الإدعاء من عدمه، ينبغي بداية  التسليم بمسلمة ـ لانظن أنه قد ينشأ حولها أي اختلاف ـ مفادها أن المجموعة التي تستولي علي السلطة منذ عقود طويلة لن تتخلي عن أي مساحة من سلطتها تلك أومن نفوذها إلا تحت ضغط شديد ومستمر ويقظ (وهو ما يُعول عليه لإحداث أي تغيير تدريجي ) ، وبديهيا لابد أن تكون الجهة أو الجهات التي تمارس الضغط تملك من القوة ما يؤهلها لذلك، فإذا ما ألقينا نظرة سريعة علي الساحة السياسية لما وجدنا بين لاعبيها من يمكن أن يقوم بهذا الدور ، فالنظام استطاع وبنجاح ـ للأسف الشديد ـ أن يستميل بعض من قوي المعارضة بفتات من الامتيازات، وبتحقيق بعض المصالح الشخصية لقيادات تلك القوي ، ومن ثم  تدجنت، وصارت لا تشكل عليه ضغطا من أي نوع ، وهناك قوي أخري إما تم تغييبها عن طريق تجميدها ( كحزب العمل ) أو تم تفجيرها من الداخل ( كحالة حزب الغد والتي تعد نموذجا مثاليا لتلك الوسيلة ) ، وتأتي الفئة الثالثة وهي لا تندرج تحت أي من الفئتين السابقتين، إنها جماعة الإخوان المسلمين ، التي تعد أقوي تيارات المعارضة وأكثرها تنظيما ، غير أنه إلي جانب كون القيادة الحقيقية التي تنضوي الجماعة تحت لواءها من غير السياسيين ـ وذلك يحد كثيرا من فاعليتها ـ فإضافة إلي ذلك استطاع النظام أن يجعل الجماعة في موضع الدفاع علي الدوام، ، حتي وإن تمكنت في بعض الأوقات من الفوز بشئ من المكاسب أو النجاحات ، فسرعان ما تسلب تلك النجاحات، مستخدم النظام لتحقيق ذلك كافة مقدرات الدولة، والتي تخضع لكامل سيطرته.

ورغم موجات الغضب العارمة، التي باتت تسري في عروق المصريين، نتيجة لازدياد سوء الأوضاع بصفة عامة  ( بخاصة الاقتصادية منها )، يظهر ذلك جليا في الإحصاءات التي تناولت تعداد الإضرابات والاعتصامات والاحتجاجات في السنوات الأخيرة الماضية ، بيد أنه لا يمكن أن نعتبر ذلك الغضب رصيدا لدي قوي المعارضة ، فبجانب أن ظروفها الراهنة لا تتيح لها استثمار تلك الحالة ، لكن إذا ما فرضنا جدلا أنها تستطيع التغلب علي حالة الضعف والتفكك التي تغرق فيها ـ رغم عدم وجود أي دلائل تشير إلي حدوث ذلك في القريب العاجل أو حتي البعيد ـ لكننا إذا ما فرضنا ذلك ، سنجد هذه القوي تظل عاجزة أيضا عن استغلال حالة الغضب المتأجج التي يعيشها المصريون وتزداد يوما بعد يوم، حيث أن طبيعة ذلك الانفعال تأبي أن يتم استثماره بصورة غير مباشرة ، فأنت لا تستطيع أن توجه الجموع الغاضبة لأن تشارك في الحياة السياسية عن طريق تلك الأحزاب والجماعات ، وتقنعها أن مشاركتها ستمد  الأحزاب والجماعات بالقوة اللازمة للضغط علي النظام من أجل تحصيل بعض المكاسب السياسية أو غير ذلك ( بخاصة مع الحالة ـ ولا نقول الطبيعة ـ التي تسيطر علي الجماهير ـ نتيجة لأسباب عدة ليس هنا بمجال ذكرها ـ وتتمثل في عزوف تام عن المشاركة السياسية ) ، فكما قلنا ان طبيعة ذلك الانفعال غير قابلة للاستثمار بواسطة تلك الطريقة، هذه واحدة، أما النقطة الثانية في تفنيد مقولة "التغيير التدريجي" تتمثل في طرح لعاشق مصر ومفكرها العظيم جمال حمدان، والذي ذهب في تشخيصه للداء الرئيس الذي تعاني منه مصر في أنه هو نفسه الحل الذي يطرحه كثير من محللينا وخبراءنا السياسيين للخروج من المأزق الذي تحياه البلاد منذ أمد بعيد، ولقد جاء طرح حمدان ليس فقط نتيجة لقراءة الواقع ـ وهو ما توقفت عنده العقول القاصرة التي اعتمدت مقولة "التغيير التدريجي" كسبيل وحيد للخلاص ـ  بل تضمن أيضا استدعاءا للتاريخ واستخراجا لدروسه وإملاءاته ، و كذلك استشرافا للمستقبل ومتطلباته ، فيذهب جمال حمدان إلي القول بأن مأساة مصر الحقيقية تتمثل في أنها "لا تأخذ في وجه هذه الأزمات الحل الراديكالي قط وإنما الحل الوسط المعتدل ، أي المهدئات والمسكنات المؤقتة ، والنتيجة أن الأزمة تتفاقم وتتراكم أكثر . ولكن مرة أخري تهرب مصر من الحل الجذري إلي حل وسط جديد ، وهكذا" ، وهو ما يؤدي في رأيه إلي أنه حتما "سنصل يوما ما إلي نقطة الانكسار بعد الإلتواء ، وبدل المرونة سيحدث التصادم ، ومحل المهدئات ستحل الجراحة ، أي سنصل إلي نقطة اللاعودة إلي الحل الوسط ، وعندئذ سيفرض الحل الجذري الراديكالي نفسه فرضا، ولكن بعد أن يكون المستوي العام قد تدني إلي الحضيض ، والكيف قد تدهور إلي مجرد كم والمجد إلي محض تاريخ ، وذلك هو الثمن الفادح للاعتدال".

إذن فما يطرحه هؤلاء كدواء لحالة البلاد ما هو ـ في حقيقة الأمر ـ إلا دائها التاريخي ـ إن صح التعبير ـ الذي هو "مقتلها البطئ المزمن علي مر الزمن" (بتعبير حمدان) ، ويذهب مفكرنا العظيم إلي أن المخرج من تلك الحالة يتمثل في الحل الجذري الراديكالي ، الذي لا يكون إلا عن طريق "دفن آخر بقايا الفرعونية  السياسية والطغيان الفرعوني"، وذلك حتما لن يكون إلا بإزاحة النظام الحالي عن السلطة .

وواهم من يعتقد أن الحركات والأحزاب التي تتكون منها المعارضة المتواجدة علي الساحة السياسية في الوقت الراهن قادرة علي القيام بتلك المهمة، فما هي إلا كيانات كسيحة منتفخة الأنا الأيدلوجية، قد أتقنت دور المغلوب علي أمره، في مواجهة النظام ، ولم تعد قادرة علي القيام بأي دور آخر، وبرهنت بشكل جلي وواضح خلال عقود مضت علي عجزها التام عن التنسيق فيما بينها للقيام بأي عمل مشترك، وتحركاتها تتسم بالعشوائية، وبالطبع لا تمتلك أي برنامج لتحقيق أهدافها المعلنة ، وهذا هو حالها لا يخفي علي أحد .

وهنا يطرح السؤال نفسه، ما هو المخرج إذن مما نحن فيه؟ ، إن الأمل مازال قائما أن تفرز الحالة المتردية والمزرية ـ سياسيا واقتصاديا، داخليا وخارجيا ـ التي تقع في براثنها البلاد ، حركة تتبني التغيير الشامل الجذري ( وكثيرا ما يتمخض عن الكوارث والنكبات القومية ـ كتلك التي تدك بلدنا دكا يوما بعد يوم ـ المبدعين الأكفاء الذين لا يألون جهدا في سبيل انتشال بلادهم من براثن تلك الكوارث والنكبات ليضعوها علي أول الطريق الصحيح )، وهذه الحركة لن تخرج بالتأكيد من رحم الوسط العفن الذي تتكون منه المعارضة، وإنما الأمل معقود علي شباب مصر، أن ينفضوا عنهم تخاذلهم وخنوعهم، وأن يوقنوا أن الطغمة المستبدة الفاسدة التي تستولي علي السلطة تكاد لا تترك لهم حيز من هواء نقي يستنشقونه، وأن لا مستقبل لهم ولا لبلدهم في ظل ذلك النظام الذي يغتصب السلطة والثروة معا، وأن تقوم تلك الحركة ـ والتي سيكون تكوينها وقياداتها من الشباب، ( وهو ما سيمنحها ميزة هامة تتمثل في أنها ستكون غير مرئية للأجهزة الأمنية، وذلك علي الأقل في مرحلة التكوين ) ـ بوضع برنامج لتحقيق هدفها في التغيير الشامل، منحية جانبا الأيدلوجيات والحزبية القميئة .

وتستطيع تلك الحركة إذا ما بلغت درجة معقولة من القوة والقدرة ، أن توجه غضب الجماهير بشكل مباشر ـ في لحظة من لحظاته الفائرة ـ تجاه النظام القائم، علي شكل عصيان مدني أو أي شكل آخر تراه الحركة مناسبا لتحقيق هدفها.

ونهاية نقول أنه إذا رأي البعض أن هذه الحركة ستبدأ من الصفر، فإن المتبنيين للطرح الآخر "التغيير التدريجي" ـ من داخل تيارات المعارضة القائمة ـ إن خلصت نواياهم  سيبدأون مما هو تحت الصفر، فبجانب أن الأحزاب التي تتكون منها المعارضة ليس لديها أي رصيد جماهيري ينظر له بعين الاعتبار فالحركة الشابة لن يعاني مشروعها من كل الأمراض والآفات المستوطنة في وسط تلك الأحزاب والتي تحتاج لمعالجتها أولا قبل القيام بأي تحرك من أي نوع .

 إن التسليم بعدم إمكانية قيام مثل تلك الحركة، معناه أننا نقرر ونقر بموات الشعب،ومن ثم ينعدم الأمل في حدوث أي تغيير حقيقي من أي نوع، ونظل ندور في فلك تغييرات ـ أو بالأحري تحسينات ـ شكلية هدفها ينحصر في تجميل وجه النظام القبيح المتقيح . 

محمد السيد الطناوي

[email protected] 

 

  • Currently 82/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
27 تصويتات / 611 مشاهدة

 

ربما تكون تلك المفردة من أكثر المفردات تداولا مؤخرا في صحفنا هي وأختها الصغرى الإصلاح ورغم ذلك فغالبا ما تأتي في كل الكتابات التي تناولتها كلوغاريتم غامض مبهم يصعب وضع تصور للحل المناسب له ،وإذا ما قمنا بمحاولة لفك طلاسم ذلك اللوغاريتم سيتضح لنا أن أهم طرف في المعادلة التي قد تصل بنا الي نتيجة مقبولة هو المعارضة غير أن هذا التصور قد لا يذهب بنا بعيدا فعند تطلعنا إلي القوي والأحزاب التي تتكون منها المعارضة لوجدنا انه علاوة علي ضعفها وترهلها وإتقانها لسنوات طوال دور الطرف المغلوب علي أمره ليس لديها بين قياداتها الحالية من يمكن أن ينتشلها من وضعها الراهن فهذه القيادات هي نقسها التي ساهمت بشكل كبير فيما أصاب أحزابها من ضعف وترهل وتكيفت مع كونها الطرف الأضعف وأصبح إتقانها لهذا الدور سنوات طويلة عائقا كبيرا أمامها لممارسة أية ادوار أخري ،وقد تجسد هذا جليا في فترة الحراك الأخيرة مرورا بالانتخابات الرئاسية والبرلمانية"المرحلة الأولي" حيث ظهر واضحا للعيان عجز تلك القيادات عن التعاطي والأوضاع الجديدة وادي ذلك إلي وجود نوع من الفراغ في الساحة السياسية والذي أدي بدوره إلي بروز العديد من الحركات الشابة التي تكونت مؤخرا وحاولت بما يتناسب مع حجمها وقصر مدة تكوينها مليء هذا الفراغ ،إن ما أريد قوله هو أن شيفرة التغيير إنما تكمن في المعارضة لذا فلابد أولا من معالجة أوجه القصور ورأب أسباب الصدع فيها ولعل أبرزها تلك القيادات التي ارتضت لأحزابها أن تكون مجرد ديكورات تجمل وجه النظام القبيح طوال مدة حكمه وارتكنت في تبرير ضعفها إلي ممارسات النظام القمعية دون أن تبدي يوما أي لمحة مقاومة لهذا الوضع وكأنها قد ارتضته لنفسها:إن المرحلة القادمة هي مرحلة دقيقة لذا ينبغي علي قوي المعارضة أن تعيد ترتيب حساباتها ونخرج من حالة الارتباك والتخبط الراهنة وحتما سيعود هذا بالتبعية علي الصالح الوطني ذلك إذا ما كانت هناك رغبة قوية في التغيير وفي التخلص من ذلك النظام العقيم الذي ما يزال يحكم منذ ما يقرب من ربع قرن تفوق في حجمها جميع المطامع والمصالح الشخصية، حينها ربما سوف يتغير الكثير في المشهد الحالي


[email protected]

  • Currently 66/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
20 تصويتات / 352 مشاهدة

 

عندما يصرح المستشار السياسي للرئيس أسامة الباز بأن الرئيس يريد أن يتنحي ولكنه لا يجد الرجل المناسب الذي يحل مكانه، وعندما يصرح الرئيس نفسه قبل ذلك بأنه لم يعين نائبا له لأنه لم يجد الرجل المناسب لهذا المنصب، وبمنتهي الاستخفاف يضيف بأن السادات كان محظوظا بكونه كان نائبا له وعندما يصرح رئيس الوزراء الحالي بان الشعب المصري غير ناضج سياسيا هذه التصريحات كلها تصب في خانة اهانة الشعب المصري. وعلي الرغم من ذلك فهي غالبا ما تمر مرور الكرام، وهنا نقف لنتساءل هل يمكن أن ترد مثل هذه التصريحات علي لسان أي مسؤول في دولة من دول العالم الديمقراطي الحر؟
من الصعب التصور بأن ذلك يمكن أن يحدث ليس لأن حكامهم ومسؤوليهم لا يعانون من النرجسية وتضخم الأنا مثل حكامنا ومسؤولينا بل لأنهم يعلمون جيدا أن شعوبهم لن تسكت علي مثل هذه الاهانات، ستثور في وجوههم وستقتلعهم من فوق كراسيهم لتضع بدلا منهم أشخاصا يحترمونهم ويدركون أنهم انما تولوا تلك المناصب الا برغبة وارادة شعوبهم فتلك شعوب حرة أبية لا ترتضي الضيم لنفسها، أما في بلادنا فالأمور لا تجري علي هذا النحو بل هي لا تجري علي أي نحو فشعوبنا لا هي بالحرة ولا هي بالأبية أما الضيم فترتضيه أو علي الأقل تعيشه منذ أمد بعيد حيث لن تسمع كثيرا في بلادنا مصطلحات كالحرية والاباء والعزة والكرامة والثورة علي الظلم فقد استبدلت ومنذ أمد بعيد أيضا بـ لقمة العيش و الأولاد و البعد عن الشر والغناء له .
أما الأحرار في بلادنا فيعيشون طوال حياتهم غرباء حيث السواد الأعظم فيها من الخانعين السلبيين، هم نوعان نوع ينعم بعبوديته للمال والثراء والنفوذ والسلطان والنوع الآخر هو في شقاء ابدي بعبوديته للقمة العيش وللخوف المرضي من الأنظمة، ولا غرابة في أن كل الفظائع والكوارث التي ارتكبها النظام أو تسبب في حدوثها باهماله وفساده لم تثر ثائرة جموع الشعب أو توقظها من سباتها فعندما احترق قطار الصعيد مخلفا مئات القتلي والمصابين لم يحرك هذا في الشعب ساكنا وعندما احترق مسرح بني سويف بمن فيه لم يحرك هذا في الشعب ساكنا، وعندما انتهكت أعراض النساء في يوم الاستفتاء لم يحرك هذا في الشعب ساكنا وعندما أهدرت كرامة المواطنين بالضرب والسحل والرصاص المطاطي والقنابل المسيلة للدموع في الانتخابات التشريعية الماضية وبخاصة في المرحلة الثالثة لم يحرك هذا في الشعب ساكنا، أما لماذا لم تحرك كل تلك الفظائع والكوارث في المجتمع ساكنا لأنه وببساطة مجتمع من العبيد والعبيد لا يثورون لأنفسهم أو لقتلاهم أو لأعراضهم أو لكرامتهم، واذا كان عجز المجتمع يجعله يكتفي بلعنة حكامه ومسؤوليه الطغاة الفاسدين فألف لعنة عليه اذا ما استمر في خنوعه واستسلامه لهم.

محمد الطناوي
[email protected]

  • Currently 26/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
8 تصويتات / 291 مشاهدة

tulipe

tulipe
IDB »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

291,483