معركة الماء والقنابل والبصل والخَلّ

سألنى الدكتور البرادعى عن رأيى فيما يحدث، قلت إننا لابد أن نفهم أننا لا نتعامل مع وزارة الداخلية، وأن هذا الوضع الذى نحن فيه يعتبر أكبر تهديد للنظام الجمهورى منذ قيامه عام ١٩٥٢، وبالتالى هذا الأمر أكبر بكثير من أن يديره وزير داخلية أيا كان، وأننا نتعامل حاليا مع النواة الصلبة للنظام، وأن هناك غرفة عمليات فى مكان ما تدير المسألة، وتعطى أوامرها لوزارة الداخلية لكى تنفذ.

ودللت على ذلك بأن النظام فعل ذلك عند أزمة القضاة، وشكّل غرفة عمليات تدير الأزمة، وتعطى الأوامر لوزارة الداخلية لتنفذها فقط، ولا دور لوزارة الداخلية سوى التنفيذ.

وكان من ضمن ما قلته إن أكبر خطر يهددنا هو أن يطول أمد المعركة، وأننا لابد أن نكون حذرين جدا فى إدارة عمر المعركة، لأننا لا نضمن إلى أى حد سيطول نَفَس الجموع معنا، ولا ينبغى أن نرهق الجموع فى معركة طويلة الأمد دون أن نتأكد من قدرة الناس على الاستمرار، وقد قدرت الزمن الذى ينبغى أن نحسم فيه المعركة بحوالى أسبوعين.

وقد تبين بعد ذلك أن الشعب المصرى أعظم وأقوى مما نظن، فقد طالت المعركة أكثر من ذلك، ولم يقل الزخم، ولم تفتر عزيمة المعتصمين.

ويبدو أن النظام بلغ أيضا من الغرور والغباء بحيث أوكل إدارة هذه المعركة لوزير الداخلية الفاشل لوحده.

كنا نتوقع أن يكون عدد المتظاهرين من مليون إلى مليونى متظاهر فى مصر كلها، وكان تخوفنا أن يكون العدد أقل من مليون متظاهر، وكنا نعتبر أن نزول مليونى متظاهر كفيل بأن يهز النظام هزة قد تنهيه تماما.

كانت الخطة أن نصلى الجمعة مع الدكتور محمد البرادعى فى مسجد الاستقامة الواقع فى ميدان الجيزة، تم إعلان ذلك على الـ«فيس بوك»، واتصل بى عشرات المواطنين والناشطين يتساءلون عن مكان صلاة الدكتور، وأخبرتهم.

كانت الأخبار تتواتر لدينا بنية الحكومة فى قطع جميع أشكال الاتصال، من محمول، وإنترنت، لذلك اتفق جميع الناشطين على أماكن لقائهم بدقة لأنهم يعلمون أن التواصل غدا قد يكون مستحيلا.

فى صباح يوم الجمعة حدث أمر غريب، وخلاصته أن الدكتور مصطفى النجار اضطر أن يتحرك من مسكنه فى مدينة السادس من أكتوبر إلى ميدان التحرير لكى يوصل غرضا معينا، وكان تحركه فى حدود التاسعة صباحا، وقد اتصل بى وهو فزع، وقال لى: (الجيش شكله حينزل)...!

فاستغربت، وسألته عن السبب، فأجاب بأنه لا يرى شرطيا واحدا فى أى شارع من شوارع القاهرة منذ انطلق من مدينة السادس من أكتوبر وحتى وصوله إلى وسط المدينة!

أعدت عليه السؤال، فكرر الإجابة مؤكدا، وأخبرنى أنه فى ميدان التحرير، ولا يوجد أى شرطة لمكافحة الشغب، بل إن شرطة المرور اختفت من الشوارع...!

اتصلت ببعض الأصدقاء أسألهم عن دلالة ذلك، وكان من ضمنهم الصديق العزيز الأستاذ حسين عبدالغنى الإعلامى الشهير، وأذكر أنه قال لى: (دى مش موجودة فى الكتاب يا عبدالرحمن!)، ويقصد أنه أمر غريب مريب لا تفسير له.

تبيّن بعد ذلك أن ما حدث أمر من اثنين، إما أن الشرطة كانت مختبئة وظهرت فى وقت الصلاة، وهو احتمال أستبعده.

وإما أن شرطة مكافحة الشغب قد تعبت بعد ثلاثة أيام من العمل المتواصل، فعادت إلى معسكراتها ليلة الجمعة وذلك فى محاولة لمنح هذه القوات قسطا من الراحة، ثم جلبت إلى مواقعها مع صلاة الجمعة، وهذا ما أرجحه.

وصلتنا أخبار صباح الجمعة أن الأمن سيمنع الصلاة فى مسجد الاستقامة، وبالتالى قلنا للجميع «أحضروا معكم سجاجيدكم لكى نصلى فى الشارع».

قبل العاشرة والنصف بدأت شبكات المحمول بالتأثر، وخلال عدة دقائق تعطلت الشبكات الثلاث، وانقطع الناس عن بعضهم البعض تماما، وانقطع كذلك الاتصال بالشبكة العنكبوتية، مما جعل مصر جزيرة منعزلة عن العالم، وأصبح شكل الاتصال الوحيد المتاح هو الاتصال عن طريق الهاتف الأرضى.

كان الاتفاق أن نلتقى أمام منزل الدكتور أحمد شكرى، وهو ابن أخت الدكتور البرادعى، ويسكن أمام حديقة الحيوان بالقرب من ميدان الجيزة، وتقابلنا هناك فى حدود الحادية عشرة صباحا، وكان هناك جمع من الرموز على رأسهم الدكتور عبدالجليل مصطفى، والدكتور أبوالغار، ومصطفى النجار، التقيت يومها السيدة هبة صالح مراسلة الفاينانشيال تايمز للمرة الأولى، وذلك بعد علاقة (لاسلكية) استمرت عدة شهور، وكان من الحاضرين كذلك د.أسامة الغزالى حرب، والصحفى الأستاذ إبراهيم عيسى.

وصل الدكتور البرادعى متأخرا قليلا، وبعد أن كنا بدأنا بالقلق عليه، وتحركنا فور وصوله إلى مسجد الاستقامة فى مسيرة بالسيارات، ووقفنا قبل الوصول للمسجد فى مكان متفق عليه، حيث كان ينتظرنا عشرات الشباب لكى يقوموا بالتحلق حول الدكتور لحمايته من أى أذى.

تحلق الشباب حول الدكتور، وبدأت المسيرة التى لم تستغرق سوى دقائق ونحن نهتف «تحيا مصر»، حتى وصلنا إلى المسجد، وكانت الخطبة قد بدأت، وكان المسجد غاصا بالمصلين.

حاولت الدخول إلى المسجد فلم أتمكن، ولكنى صليت أمام باب المسجد.

أما الدكتور البرادعى ومن معه، بسبب كثرة المحيطين به، فلم يتمكنوا من الوصول إلى باب المسجد من الأساس، لذلك صلوا فى الشارع.

المكان محاصر بآلاف الجنود من الأمن المركزى، والجو فيه قلق وتوتر يكاد يشمه المرء فى الهواء.

حاولت التركيز فى خطبة الجمعة لأعرف رأى المؤسسة الدينية فيما يحدث، فوجدت الخطبة متوازنة.

المسجد الذى اخترناه تابع للجمعية الشرعية، وقد قال الخطيب فى خطبته، إن الجمعية الشرعية أصدرت بيانا من ثلاث نقاط، النقطة الأولى تدعو الحكومة إلى رد المظالم، والنقطة الثانية تؤكد فيه على حق المتظاهرين فى التعبير عن رأيهم، والنقطة الثالثة تدعو المتظاهرين إلى عدم الاعتداء على أى ممتلكات عامة أو خاصة.

بعد أن سلم الإمام تسليمته الثانية انطلقت الهتافات من المصلين بشكل عفوى، تحيا مصر، ومن جهة أخرى هتافات تقول التغيير التغيير، ولكن حين هتف شخص قائلا: يسقط يسقط حسنى مبارك، توحدت كل الحناجر كأنها سيل عرم، أو كأنها رعد من السماء، وظل المصلون يرددون هذا الهتاف ضد مبارك ويكررونه دون أى كلل أو ملل.

فى هذه الأثناء غيرت موقعى لكى أحاول الوصول للدكتور البرادعى، فرأيت مشهدا لن أنساه، لقد بدأت المدرعات برش المياه على المصلين برغم أنهم لم يتحركوا بعد من أماكنهم، ونظراً لأن الدكتور البرادعى لم يتمكن من دخول الجامع، فقد كان خرطوم المياه موجهاً نحوه مباشرة!

حاول الشباب أن يحموه، ولكنى شاهدت الماء يخبطه هو شخصيا فى رأسه وجسده، وهو مستكين صابر كعادته، كل ما فعله أن حمى نظارته من السقوط بيديه، ثم أخذه الشباب إلى داخل المسجد، لكى يتمكنوا من حمايته، وانضم له فى المسجد كل الكبار الذين كانوا معه.

كان أمامى ثلاثة خيارات، الخيار الأول: التوجه مع مجموعة من المصلين إلى جامعة القاهرة.

والخيار الثانى: أن أحتمى بالمسجد مع الدكتور البرادعى والناشطين الذين معه.

والخيار الثالث: أن أخوض المعركة مع المتظاهرين المتجمهرين هنا فى ميدان الجيزة.

وقد اخترت الخيار الثالث، لكى أبقى على مقربة من الدكتور البرادعى لو حدث أى تطور، ولكى لا يفوتنى شرف المشاركة فى هذا اليوم العظيم.

بدأت المعركة برش المياه على المتظاهرين، وقد كنت من ضمن مجموعة حاولت أن تحمس الناس لكى يتشجعوا ويدخلوا باتجاه الجنود، وقد قمت بالاشتباك مع بعض الجنود، وخطفت عصا من يد واحد منهم، وكنت سعيداً بها جدا، ولكنها ضاعت منى فى أحداث المعركة بعد ذلك!

حين اشتبكت مع الجنود أصابنى خرطوم المياه الخارج من المدرعة إصابة مباشرة من قمة رأسى إلى أخمص قدمى، فصار منظرى كأننى خرجت من البحر لتوى!

كنت ألبس بنطلون (جينز)، وكنزتين من الصوف، وذلك لحماية جسمى من الهراوات، التى قد تسقط عليه، وصار كل ذلك مبتلاً تماما، كل ما ألبسه من ملابس، حتى الداخلية صارت مبتلة تماما، وظلت مبتلة لساعات، حتى إننى بعد أن صليت العصر كنت ما زلت أعصر ملابسى فتنز الماء نزا!

بدأت المعركة بالماء، ثم بعد أن ابتعد المتظاهرون- بسبب الماء- مسافة معقولة بدأت القنابل المسيلة للدموع بالانطلاق.

لقد ألقى علينا مئات من القنابل!

كان عدد المتظاهرين يزداد كل دقيقة، وكان المتظاهرون يأتون من مناطق الجيزة المختلفة، حتى يصلوا إلى ميدان الجيزة، فينضموا إلينا.

كان المتظاهرون قد فهموا اللعبة، وعرفوا كيفية التعامل مع القنابل المسيلة للدموع، فالعلاج هو الخل، مناديل مبتلة بالخل، وكذلك أن يشم المصاب بصلا، أو أن يغسل وجهه بالبيبسى أو ما شابه ذلك من المشروبات، بالإضافة إلى حماية الوجه بقناع طبى، وحماية العيون بنظارة مائية أو ما شابه ذلك، وقد تعلمنا ذلك من خلال التواصل مع الشباب التونسى على الـ«فيس بوك».

كنت قد حصنت نفسى ببعض هذه الأشياء، وخضت المعركة مع شباب الجيزة الذين أظهروا شجاعة مذهلة!

كانوا يقفزون إلى القنابل المسيلة قفزا، ثم يمسكونها بيديهم، ويركضون بسرعة إلى رجال الشرطة، ثم يلقونها ناحيتهم، وقد ساعدهم فى ذلك أن الله شاء أن يتغير اتجاه الريح فيصبح باتجاه الشرطة لا باتجاهنا.

فى هذه المعركة.. عرفت أن التغيير أصبح واقعاً...!

لم أر فى حياتى كلها المصريين يحبون بعضهم بهذا الشكل!

البصل والخل يتساقط علينا من الشرفات، كلما تعب شخص وجد عشرة يحملونه ويساعدونه، وجدت من المتظاهرين من اشترى قطرات العيون وظل يعالج بها عيون المصابين بالقنابل، ووجدت من يشترى البيبسى لكى يساعد المصابين!

كان حوارى الداخلى يقول: (هؤلاء هم المصريون، المصريون الذين يقتلون بعضهم البعض من أجل عشرة جنيهات، هؤلاء هم المصريون الذين يقترفون جميع الموبقات، هؤلاء هم الذين يدفعون الرشى والإكراميات، ولا يتقنون أعمالهم، ويعيشون عالة على الأمم وعلى أنفسهم.. هاهم يستخرجون أفضل ما فى أنفسهم بعد أن قرروا أن يكونوا قادة أنفسهم)!

 

  • Currently 71/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
25 تصويتات / 792 مشاهدة

ساحة النقاش

tulipe

tulipe
IDB »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

307,794