محمد أحمد عبد الجواد
الإدارة ضد التيار كالسباحة ضد التيار، فمثلما يجهد السباح وهو يصارع الأمواج عندما يصادفه حظه العاثر بتيار يقع فيه، فيبذل جهداً كبيراً، ويعاني أشد المعاناة، ثم ينظر حوله فلا يجد لجهده أثراً وهو لم يبرح مكانه بعد، كذلك الإدارة ضد التيار لا يكون لها بصمة في الأداء، وتضيع جهودها أدراج الرياح؛ لأنها أيضاً صادفت تياراً قوياً و مناخاً محبطاً، قد تكون هي صانعته أو تلقته إرثاً من الآخرين.
والإدارة ليست عصا سحرية يمسك بها المدير أو القائد فيتحول كل شيء إلى الأفضل في لحظات.
والتيار المضاد .. والذي يعوق مهمة الإدارة ووظيفتها في الارتقاء بالمؤسسة يتمثل في الأمراض و الأوبئة التي تلوث المناخ من حولنا، وتعوق النماء وتقتله، وتتربص بالتجديد و التطوير والإبداع.
واكتشاف أصحاب هذه الأمراض والذين يبثونها في بيئة العمل ليس سهلا؛ فهم محترفون!!
يلعبون على كل الحبال، والإمساك بهم ليس عملاً ميسوراً.
إذا اقتربت منهم يفسدونك، وإذا ابتعدت عنهم فإنهم يستهدفونك، فهم وحوش ترتدي ملابسنا وتتكلم بلغتنا، ووجود واحد منهم كفيل بتدمير مؤسسة؛ لأنه يفوق القنبلة في إفسادها!
ومن ثم فهناك أربع مشكلات تعوق بيئة العمل ومناخه، وعلى رأسها الغيرة المهنية المعيبة، والتي تفرض قيمها المغلوطة؛ فبدلاً من أن تتحول هذه الغيرة إلى تعاون وتنافس شريف يعتمد على الموضوعية ودفع المؤسسة في الاتجاه الصحيح، تعمل على العكس من ذلك، ويفقد الجميع جمال المنافسة وعفتها، وتبرز في الأفق أحادية النظرة، ويختفي التعاون وتحل الفردية وتكثر المشكلات والعقبات، ويضيع العمل في زحام يبحث فيه كل من المتصارعين عن دور، وفي التيار المضاد الذي يعرقل رؤية الإدارة الضرب أسفل الحزام، ويتمثل في الأمراض الكثيرة في محيط العمل مثل: "القيل والقال" أو "الشللية"، أو "محاربة أصحاب الطاقات"، أو"مسح جوخ الرؤساء"، أو "إشعال الفتن".
وكلها أمراض قاتلة تتمثل أغراضها في الاحتماء باللوائح والتعليمات، والوقوف الحرفي عندها، وإظهار عكس ما تبطنه النفس في التعاملات اليومية بين الزملاء، وعدم الانتماء إلى المؤسسة و النظر إليها على أنها مكان لأكل العيش، فضلاً عن الفتور عن الإبداع والتجديد والتهرب من المسؤولية، وتُتّخذ القرارات في هذا الجو أيضاً بناء على وجهات نظر غير موضوعية، وتوضع تحت عنوان: مصلحة العمل!!
وباسم هذه الكلمة تُرتكب الكثير من الآثام والخطايا وتُهدر الطاقات، ويتم التعسف في استعمال الحق، وتُسلط السيوف على الرقاب، ويشعر الجميع بالتهديد الأدبي باسمها أيضاً، ويحتمي المديرون بقراراتهم غير المنصفة خلف هذه الكلمة.
وفي هذا المناخ أيضاً قد يُنقل إنسان من مكان إلى آخر دون مراعاة للأبعاد النفسية والإدارية في عملية النقل والتغيير، ومن ثم ينخفض الأداء، وينتشر التوتر الداخلي والإحساس بالغربة ورفض الاندماج، وتبذل الإدارة في هذا المناخ جهدها للوصول إلى أهدافها، ولكن أنى لها ذلك؟ والبحر من حولها مضطرب تعصف به الرياح من كل اتجاه، وتضيع فيه البوصلة المؤدية للسير، فيصطدم بالصخور والعقبات.
إن مشكلات ومعوقات العمل حشائش ضارة متوحشة، ينمو بجوارها الزرع على استحياء، لذا ينبغي أن تلقى اهتمام باحثي الإدارة لطرح رؤيتهم في كيفية إزالتهم، وتهيئة الأرض وتهويتها.
أسباب الغيرة المهنية
من أبرز أسباب الغيرة المهنية..
افتقاد النظرة الكلية: فكثيراً ما تكون النظرة الفردية أحادية الجانب مهما أُوتيت من نظر ثاقب، كما أن المنظمات التي تنجح في عالم الأعمال دائماً ما يكون نجاحها كلياً، وليس نجاحاً لقسم بذاته فيها، ومن ثم فنحن أحوج ما نكون إلى هذه النظرة في بيئة العمل، فمجتمع العمل لا يقوم على قسم من الأقسام.
قلة الموارد وعدم عدالة التوزيع: تُعدّ قلة الموارد من أسباب الصراع في المنظمات، وربما تكون هذه المشكلة غير موجودة بين أفراد الإدارة العليا؛ لأن نظرتهم للمؤسسة التي يقودونها هي نظرة مستقبلية.
قسوة النقد: كما تساهم قسوة النقد بشكل كبير في وجود الغيرة المهنية بين فرق العمل، فإذا كان النقد قاسياً حاول كل فريق أن يتجنبه، وسبيله إلى هذه النجاة هو قيامه بدوره، والبحث عن أدوات ووسائل قد يُتصوَّر أنها متاحة لأفراد الفريق الآخر.
سوء الإدارة: إن المدير النابه هو الذي يجيد مساعدة كل فرد في فريق عمله إلى الوصول لهدفه، ويجيد شق هذه الجداول لتصريف هذه الطاقات، إنه لا يرحب بتفريق المجموعة؛ حتى يستطيع السيطرة عليها، إنما يحاول توحيدها، ومحاولة جذب أنظارهم دائماً إلى الهدف النهائي، وتشجيعهم على الوصول إليه.
ضعف المتابعة: أمراض كثيرة تنبت في بيئة العمل؛ بسبب ضعف المتابعة. إن المتابعة الفعّالة هي مؤشرات قوية تجعلنا نتعرف على أنفسنا بشكل دقيق، ونتعرف على أسباب الانحراف؛ فإذا ما ضعُفت هذه المتابعة كثرت الأمراض.
تزكية روح الفردية: ماذا نتوقع إذا أضاء مسؤولو العمل الضوء الأخضر لكل فرد من أفراد المؤسسة في أن يسعى لإنجاز المطلوب منه في إطار تنافس غير شريف؟ بالطبع سيحيط به جو غير آمن من التهديد، والخوف من المستقبل، وسيغار كل فرد من الآخر، ويشعر أنه تهديد له، ويحاول إبعاده من طريقه بصورة مشروعة أو غير مشروعة.
عدم إدراك الفروق الفردية: ينبغي أن نؤمن بأن البشر يتمايزون في قدراتهم وطاقاتهم ووزنهم على ميزان واحد يظلم الكثير منهم، ولكن ينبغي أن يشعر كل فرد من أفراد فريق العمل بتميّزه في جانب معين، وأن هذا الجانب هو الذي يميزه عن بقية المجموعة، ومن ثم يصبح كل تميّز خادماً للمجموعة ومتكاملاً معها، وليس بروزاً أو نتوءاً خارجاً عنها.
ضعف التربية الإيمانية: إن النفس المؤمنة لا تنظر للحياة نظرة ضيقة، ولا تضيق بنجاح الآخرين. إنها ترى في الحياة متسعاً للجميع، ولا تنظر للمساحات التي يتميز بها الآخرون على أنها تقتطع من مساحات نجاحها.
مظاهر الغيرة المهنية
وللغيرة المهنية مظاهر نراها في فريق العمل وبين بعض أفراده، وليس شرطاً وجود واحد منها أن وراء ذلك غيرة مهنية، ولكنها مظاهر شتى، إذا اجتمعت – بلا شك - فهي تشير إلى هذا المرض. ومن هذه المظاهر:
التقليل من جهود الآخرين ونجاحاتهم - المعارضة المستمرة لوجهات نظر الآخرين بدون موضوعية – السعي بالنميمة لدى الرؤساء – السعادة الخفية بإخفاق المتميزين – عدم تقديم يد العون – الإحساس بالألم النفسي عند الإشادة بالمتميزين.
العلاج المفيد
ماذا يفعل المديرون والمسؤولون عندما يرون هذه المشكلة تطل برأسها في بيئة ومجتمع العمل؟
إن في وسعهم مراجعة أنفسهم أولاً، ثم مراجعة العاملين معهم ومراجعة مناخ العمل، ويمكنهم اتخاذ بعض الإجراءات التي تخفّف من بروز هذه المشكلة ومنها:
*إدارة المشروعات والمهام عن طريق فرق العمل:
فعندما يلمح المدير تنافساً غير شريف أو غير مهني، أو بروزاً غير محمود في هذه الجوانب فعليه أن يوقف هذه الدائرة الجهنمية من الصراع، ويدع الجميع يلتقطون الأنفاس؛ حتى تهدأ نفوسهم، وبدلاً من أن يُدار العمل بالأقسام والأفراد يُدار بفريق عمل أو لجان مهام.
*تفهّم المشكلات وعلاجها:
إن المدير الفعّال هو الذي يجيد تفهّم المشكلات، ويتعرف على أسبابها قبل أن يوجه أصابع الاتهام والنقد إلى قسم أو فرد بعينه، إن المشكلة أحياناً تكون خارجة عن إطار إدارة هؤلاء الأفراد، ومن ثم تحتاج إلى علاج دقيق وتأمل كبير ودراسة متعمقة.
*إدارة الاجتماعات بطريقة صحيحة:
إن القرارات الجيدة التي نأخذها في الاجتماعات لا تكون إلا حصيلة استيعاب وفهم للمشكلة المطروحة، ولن يتأتى هذا إلاّ إذا كان هناك إنصات للجميع، وأن يتمتع الجميع بعدالة مطلقة في الحديث، وأن يحمي الرئيس الضعفاء، ويساعدهم في التعبير عن وجهات نظرهم، ويحدّ من سيطرة الأقوياء، أومن سيادة وجهات نظر معينة، متشددة كانت أو متهاونة؛ الأمر الذي يشعر معه الجميع بعدالة رئيسهم، وقدرتهم على التعبير عن أنفسهم، وسيادة العدالة في اتخاذ القرارات بعد مناقشات موضوعية هادفة.
*تدوير المسئوليات أو المهام:
إن تدوير المسؤوليات سيمكن كل فرد من أن يتعرف على طبيعة عمل الآخر، ومن ثم يشعر باحتياجات هذا المكان وظروفه، بحيث يكون واقعياً عندما يتحدث عن هذا القسم أو مسؤولياته، كما يتيح هذا الأمر لكل مسؤول أن يطبق أفكاره وإبداعاته التي يراها جديرة بالتطبيق.
*توظيف الطاقات وشق الجداول:
إن فريق العمل ينبغي أن يتكامل في مجموعه، ولذلك ينبغي توظيف طاقة كل فرد في مكانها المناسب، بحيث يستطيع أن يبدع ولا يلجأ إلى المنافسة على شيء ما قد لا يكون من مؤهلاته و قدراته.
*واقعية الأهداف وربطها بالإمكانيات المتاحة:
جميل أن يكون لفريق العمل أهداف، ولكن ينبغي أن تكون هذه الأهداف واقعية، وهذا لا يمنع من أن تكون هذه الأهداف طموحة، ولكن في الإمكان إنجازها، أما إذا كانت هذه الأهداف غير واقعية، وألهب الرؤساء ظهور مرؤوسيهم فإن هذا قد يهيئ مناخاً لظهور هذا الغيرة المهنية، لاسيما إذا نجح أحدهم في تجاوز هذه النسب.
*مرونة التوجيه والعدالة بين الأفراد:
إن التوجيه المرن يتيح للرؤساء التعرف على المشكلات وعلاجها، ويتيح أيضاً للمرؤوسين التعبير عن أنفسهم ومعاناتهم، واقتراح ما يتصورونه ملائماً للموقف، أما حين يستبد هؤلاء الرؤساء، ويكثر نقدهم فإن كل مرؤوس يحبس رؤاه في صدره، ويختزنها في قلبه، كما أن العدالة حينما تسري في بيئة العمل، ويدرك كل مرؤوس أن حقه لن يضيع في زحام العمل، وأن بإمكانه تعديل وضبط الصورة عندما يناله ظلم أو معاناة، لا يجعله يوجه آلامه إلى الآخرين، ولا يحاول انتزاع هذا الحق الذي يرى نفسه أهلاً له – من وجهة نظره – من بين أيديهم، أو يسعى إلى تشويه سمعتهم، فالعدل يحمي للمنظمة توازنها وسلامها النفسي.
*بناء الجانب التربوي والإيماني:
إن حلاوة الإيمان تجعل العقل والنفس في اتساع، فإذا خالطت القلب ملأته إيماناً بذاته، وثقة في أن ما في يده هو من نعم الله عليه، وأن توزيع هذه النعم عادل، وأنه ليس مطلوباً منه إلاّ أن يفتش في جوانب نفسه، ويحاول اكتشاف جوانب تميّزها، وحتماً سيكتشف أنه نسيج وحده، وأن لديه من القدرات والإمكانيات والمواهب ما يجعله أهلاً لأن يشارك المجموع بقدراته.
إن بناء الجانب التربوي والإيماني في النفوس يجعلها ترى في الحياة متسعاً للجميع، يجعلنا نرى الحياة وفرة وليست ندرة، فلماذا نغار من الآخرين؟
إن في إمكانياتنا الكثير، والمطلوب منا – فقط – أن نظل في رحلة بحث مستمر عن ذواتنا، واكتشاف المناطق الجميلة اليانعة والقدرات الكامنة فيها.