نضال القصير
على الرغم من أن الأسرة تُعدّ من أقدم المؤسسات التي عرفها التاريخ البشري، إلاّ أن صياغة الأسس التي تحكم العلاقة بين أفراد هذه المؤسسة مازال يشوبها الكثير من الاضطراب، على الأقل في الواقع الملموس، فمثلاً وضع الإسلام ضوابط وأسساً لصيانة وحدة وتماسك الأسرة، إلاّ أن واقع المسلمين يبتعد كثيراً عن الالتزام بهذه الضوابط والأسس، وهو ما انعكس فيما نشهده من ارتفاع لمعدلات الطلاق وانحراف الأبناء، فضلاً عن افتقاد الدفء الأسري وغياب روح المحبة والإيجابية سواء بين أفراد الأسرة أنفسهم أو بينهم وبين المجتمع المحيط.
بشكل عام، يرى علماء الاجتماع والفلسفة أننا نتعامل مع الآخرين ضمن أحد خمس حالات، وذلك في إطار سعينا لتحقيق الرضا والإشباع لاحتياجاتنا الاجتماعية والمعنوية، وكل حالة من هذه الحالات تزيح لنا الستار عن شخصيتنا الحقيقية وقناعاتنا التي تشرّبناها من العالم المحيط، سواء في المنزل أو خارجه.
فائز وحيد!
أول هذه الحالات، المعادلة القائلة: "أنا أكسب وأنت تخسر"، وهي تعني أنه: إذا كسبت أنا فلا بد أنك خاسر، ولن أشعر بطعم المكسب إلاّ إذا خسرت أنت، وللأسف تُمارس تلك الفلسفة عن قصد أحياناً وعن غير قصد أحياناً أخرى، وقد ننميها لدى أبنائنا عندما نقارنهم بأشخاص آخرين، وندعمها أكثر عندما نشجعهم عليها. ومن الأمور التي يجب أن ننتبه إليها ونتجنبها في تنشئتنا لأبنائنا: - إننا نزرع الأنانية في الأبناء عندما نطلب منهم أن يرتقوا بمفردهم لا يرافقهم أحد، وأنه لكي يرتقوا لابد أن يخسر الجميع، ولذا فإن البعض يعترض على قضية ترتيب الطلاب داخل الفصل الدراسي. - إنه من الخطأ الإيحاء للأبناء بأن التفوق له حدود معينة، وأنه بمجرد تفوقك على الآخرين فقد وصلت إلى النهاية، ودورك الآن هو ألاّ يتفوق عليك أحد، فهذا الأمر يوقف عملية النمو والتطور لدى الأبناء، كما يصيبهم بالقلق والتوتر خشية تفوق شخص آخر عليهم، كما أن ذلك يزرع مشاعر الحقد لديهم تجاه الآخرين، مع أن "المسلم للمسلم كالبنيان يشد بعضه بعضاً"، وأن كلينا يكمل الآخر. 3- إن السعي للنجاح ليس تحدياً بقدر ما هو طريق للارتقاء بالشخص ومكانته.
خاسر دائم
الحالة الثانية، تعبر عنها معادلة: "أنا أخسر وأنت تكسب"، وهي تقوم على أنه يجب أن يضحي أحد الطرفين بالمكسب من أجل الآخر، وهي لا تختلف عن المبدأ السابق من حيث إنه لا يمكن أن نفوز نحن الاثنان معاً، بل يجب أن يتنازل أحدنا للآخر. صاحب هذه القناعة لابد له مع الأيام أن ينفجر، فإذا تنازل يوماً فلن يتنازل إلى الأبد، وحتى إن حاول فلن يستطيع فلابد للهدوء من ثورة غضب عارمة، تقول: قف مكانك فقد تماديت!! وغالباً ما يتبنى الوالدان والأزواج هذه المعادلة، فبسبب العطف والحب والحماية الذي يقدمه الوالدان، ومع الإسراف في ذلك يتعلم الابن الأنانية والاستحواذ وعدم مراعاة مشاعر الآخرين؛ إذ يتعود الحصول على ما يريد على طبق من ذهب دون بذل أي مجهود في ذلك، وفي المقابل فإن الآباء يتنازلون عن مواقفهم واحتياجاتهم، بدعوى إسعاد الأبناء وعدم إغضابهم. أما في العلاقات الزوجية، فنحن نشأنا في مجتمع ينتظر من المرأة أن تتنازل كي يرضى الرجل، هكذا وبدون مقابل حتى تشربت المرأة هذه الحقيقة، وأصبح لديها قناعة أن هذا واقع يجب أن تتكيف معه، ويجب ألاّ تعترض أو تناقش بل يجب أن تتقبل الحقائق كما هي؛ لأن هذا من حق الرجل فقط، مع أن هذه عادات لا تمت إلى الدين بصلة، فالدين أعطى حقوقاً للمرأة، كما أعطى حقوقاً للرجل، وجعل عليها واجبات كما للرجل واجبات.
ظلم وإحباط
ويُلاحظ أن الشخصية التي تتعامل مع المحيطين وفقاً لهذه الفلسفة، تعاني من اضطراب يفقدها المقدرة على المواجهة والنقاش، فبالتالي التنازل أسهل وأقصر الطرق، وصاحب هذه الفلسفة يشعر بالظلم والإحباط دائماً، وعموماً لابد أن يتحول في يوم ما إلى نظرية جديدة سنتناولها بعد قليل وهي: أنا أخسر وأنت تخسر؛ لأنه لن يستطيع مواصلة تقديم التنازلات للطرف الآخر إلى ما لا نهاية. ولتجنب السقوط في أسر هذه الفلسفة، يحتاج المرء إلى أن يشحن نفسه بطاقة كافية من الإيجابية والأمل، وأن يخاطب نفسه قائلاً لها: "أنت تستحقين أن تعاملي بعدل واحترام، بدل من أن تكوني قربة فارغة تنتظر من الآخرين أن يملأها لك". وكلما كانت نفسك ممتلئة وكاملة قل تعلقك بإرضاء الآخرين على حساب نفسك، كما أن الآباء مطالبون بتجنب التعامل مع الأبناء من منطلق أنني أب ولي السلطة الكاملة، ويجب أن تسمع كلمات دون نقاش؛ لأننا بهذا الأسلوب ننشئ ابناً يرضي الآخرين فقط، ولا يحق له النقاش أبداً.
أنا وبعدي الطوفان
أما المعادلة الثالثة فتقول: "أنا أكسب"، وهي أقل أنانية من (أنا أكسب وأنت تخسر) ولكن فلسفتها تقول: أنت لا تهمني سواء كسبت أو خسرت أو بمعنى آخر (أنا والطوفان من بعدي) وصاحب هذه النظرية تنقصه الواقعية في التعامل، ويعيش في عالم منفصل عن الآخرين، ومنفرد عنهم يشعر بالانعزال حتى لو كان وسط عالم كبير. رابع المعادلات هي: "أنا أخسر وأنت تخسر"، وهي تحقق المثل القائل: (عليّ وعلى أعدائي) فما دمت خسرت يجب أن يخسر الجميع, وأصحاب هذه الفلسفة يغلب عليهم طابع التعصب ومحدودية التفكير، كما أنها تعبر عن شخص فوضوي عدواني يملؤه الحقد والكره والحسد حتى يكاد يحرق نفسه، كما أنه يميل إلى النظرة السوداوية المتشائمة، وأبناؤه إما أن يكونوا صورة له، أو يميلوا إلى الضعف والانكسار، حيث مورست عليهم سلطة القهر بجميع أنواعها.
الخير للجميع
خامس هذه المعادلات، وأقربها إلى التعامل الصحيح، هي التي تقول: "أنا أكسب وأنت كسب"؛ إذ تعكس قوله تعالى: (وتعاونوا على البر والتقوى)، فنجاحك يمثل بالنسبة لي نجاحاً شخصياً، كما أشعر بأن نجاحي سوف يسعدك، ولذا أعمل بجد كي نرتقي سوياً. وهذه فلسفة رائعة ترتقي إلى منظور الإنسانية الحقة المجردة من الشوائب التي تملأ أرواحنا وأنفسنا حباً وحيوية ونجاحاً ورضًا، ونسير بها جميعاً في خط واحد واسع يسع الجميع ويُظلهم، ويؤكد ديننا على هذا المبدأ (وفي ذلك فليتنافس المتنافسون)، أي في حب الخير والعمل الصالح، فأنا أسعى وأنت تسعى وسيقبلنا الله -إن شاء تعالى- وتسعنا الجنة جميعاً، وفي الخير بئر لا تنضب وكلٌ يجتهد للاستزادة ، وسوف تروي هذه البئر كل من يقصدها. ولذا يُقال: إن أبا جهل لم يمنعه من الإيمان إلاّ ظنه أن بني عبد مناف سيذهبون بالشرف كله، ولن يبقى له ولقومه شيء، وما علم أن هناك جوانب من الشرف لا تُحصى ولا تُعدّ في اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، حازها الذين اتبعوه من أنصار وفرس وروم. ويقول سيد قطب رحمه الله: "إن الفرح الصافي أن نرى أفكارنا وعقائدنا ملكاً للآخرين ونحن لازلنا أحياء؛ فالمفكرون وأصحاب العقائد كل سعادتهم في أن يتقاسم الناس أفكارهم وعقائدهم ويؤمنوا بها". "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه". وفي النهاية، فأنت تقف على مفترق طرق، وعليك أن تحدد مكانك، فأنت الذي تختار والفرصة أمامك، وليس هناك مانع أن تغير مكانك لغيره إذا اقتنعت بذلك.