الإدارة المالية في الإسلام قائمة على أسس اعتقادية تميزت بها عن سائر الأنظمة والقوانين، ومن هذه الأسس عقيدة الإيمان بالله تبارك وتعالى وأنه المستحق سبحانه للعبادة دون سواه، وهو الخالق الرازق المدير الذي بيده ملكوت كل شيء، وإليه تصرف جميع أنواع العبادات والقربات، ومحبته والخشية منه سبحانه وطاعته فيما أمر واجتناب ما نهى عنه وزجر كذلك مما تتضمنه هذه الأسس الاعتقادية، عقيدة الإيمان باليوم الآخر، وأن الإنسان مخلوق مكلف مستخلف، سيجازي على كل أعماله التي قدمها في حياته الدنيا.

وليس الأمر مقتصراً على الجوانب المالية فحسب، وإنما جميع جوانب حياته الخاصة والعامة ولقد علمنا رسول الله ﷺ الاستعداد للسؤال يوم القيامة، حين يُسأل الإنسان عن ماله.. فعن أبي برزة الأسلمي قال: قال رسول الله ﷺ: لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن عُمُره فيما أفناه، وعن عِلْمِهِ فيمَ فَعل، وعن ماله من أين اكتسبه، وفيم أنفقه، وعن جسمه فيم أبلاه".

كما أن الإدارة المالية في الإسلام مبنية على أسس أخلاقية، وقيم نبيلة، تستهدف الحفاظ على الفطرة السليمة، وتنأى بالمسلم عن كل الفلسفات والأفكار والتشريعات الأخرى التي تستهدف الإنتاج المادي، والاستكثار الربحي فقط، مما يسبب الأزمات المالية، وينشر البطالة، ويغذي الجريمة، ويؤدي إلى الفساد بكل أنواعه ومظاهره.

ولهذا يعلمنا الإسلام أنه وإن كان طلب الرزق مطلوب إلا أنه ينبغي التنبه إلى أمر وهو حسن التوكل على الله، والإجمال في طلب الدنيا، وعدم طلبها إلا بما يحلّ، وترك الحرام مهما كان، قال ﷺ : " أيها الناس اتقوا الله وأجملوا في الطلب، فإن نفساً لن تموت حتَّى تستوفي رزقها، وإن أبطأ عنها، فاتَّقوا الله وأحْمِلُوا في الطلب، خُذُوا ما حل، ودَعُوا ما حرم أخرجة بن ماجة في سننه. ولهذا عني الإسلام كثيراً بمبدأ الحلال والحرام فعلى المسلم الحق الحرص على بذل ماله وفقاً لقيم العدالة والأمانة والإحسان والبعد كل البعد عن الجشع والغش والتحايل في أكل الحقوق واستغلال ذوي الحاجات. ومن الأخلاق التي لها أثر مهم في الإدارة المالية في الإسلام، ولم يسبق الكلام عنها، ما يلي:

<!-- الأمانة

وهي خلق كريم ومقصد مهم من مقاصد الشريعة بنيت عليه أحكامها، وقد أثنى المولى تبارك وتعالى على الأمناء بقوله: ﴿ وَالَّذِينَ هُمَ لأمَاناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ﴾. [المؤمنون : ۸ ]. وأمر الله تعالى بآداء الأمانة فقال سبحانه: ﴿ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَاناتِ إِلَى أَهْلِهَا ﴾ [النساء: ٥٨]، وقال ﷺ في الحديث: " أد الأمانة إلى مَنْ ائتمنك، ولا تخن منْ خانَكَ ". فإذا فقدت الأمانة، ظهرت الخيانة وهي خلق ذميم حذر منه الله ورسوله، وجعله أمارة على النفاق، ومن مضارها: انتشار الغلول والرشوة والغش... وغيرها من الأخلاق السيئة ومما يؤسف له أن أصبحت الخيانة ومظاهرها سمة بارزة في أسواقنا اليوم، تبعاً لطمع بعض التجار، وحرصهم على متاع الدنيا الزائل.

 قال الإمام الذهبي: " والخيانة في كل شيء قبيحة، وبعضها شر من بعض، وليس من خانك في فِلس كمن خانك في أهلك ومالك وارتكب العظائم. لذا من الأهمية بمكان الحرص على تحقيق الأمانة في كافة المجالات، ومن العقود التي تتضمن الأمانة: الوديعة والوكالة والمؤسسة والمضاربة والرهن والإجارة والوصاية فإنها تعتمد على الثقة بواضع اليد، وأن يده على مال غيره ستكون بمثابة يد المالك، ولذلك إذا تلفت العين تحت يده بدون تعد فإنه لا يضمن باتفاق

<!-- الإحسان

وهو خلق عظيم دعت إليه الشريعة الإسلامية، ورغبت فيه، والأدلة عليه كثيرة، منها: قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَان﴾. [ النحل:٩٠]، ولا شك أن العدل والإحسان من مكارم الأخلاق، وقد سبق الكلام عن مقصد العدل ، وقوله: ﴿وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾. [البقرة: ١٩٥]. وقوله . ﷺ .: " إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتُمْ فَأَحْسنوا القِتْلة، وإذا ذَبحتُمْ فَأَحْسِنوا الذبح، وليُحِدَّ أحدُكُمْ شفرته، فَليُرِح ذبيحته" [أخرجه مسلم في صحيحه].

حتى في معاملة الحيوان الإحسان مطلوب، وقد فسره النبي . ﷺ . بقوله: " أن تعبُدَ الله كَأَنَّكَ تراه، فإنْ لم تكن تراه فإنَّهُ يراك ". [أخرجه البخاري في صحيحه]. وهذا الاستحضار لعظمة الله يدخل في جميع الأقوال والأعمال.

وأما عن أهمية الإحسان في الإدارة المالية فلا شك أن المجتمع الواعي لمعنى الإحسان، يستشعر دوماً حاجة أفراده، فيسارع كل منهم إلى البذل والعطاء، فقوله تعالى: ﴿ وَأَنفِقُوا في سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾. [البقرة : ١٩٥]. ففي هذه الآية تم الربط بين الإنفاق وهو المظهر الاقتصادي، وبين التهلكة أي خراب المجتمع وسبب ذلك أن المجتمعات التي تقوم على الاستغلال والاحتكار تفرز الطبقية، وتبذر بذور الصراع الاجتماعي في الداخل، وتؤدي إلى الصراعات العالمية في الخارج، وينتج عن ذلك شقاء الفريقين. ولهذا شرع القرض والعارية لما فيهما من قضاء حوائج الناس.

<!-- منع الضرر

وهو مقصد كريم قامت الشريعة على أساسه في أحكامها، ومن الأدلة الدالة عليه: قوله تعالى: ﴿ لَا تُضَارَ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ ﴾. [البقرة : ۲۳۳]. وقوله . ﷺ .: "لا ضرر ولا ضرار". هذا الحديث نص في تحريم الضرر بأنواعه فلا ضرر ابتداء ولا ضرار جزاء ومقابلة، لأن لا النافية تفيد استغراق الجن، فالحديث وإن كان خيراً لكنه في معنى النهي وهو يمثل قاعدة من القواعد الكلية الكبرى، وعلى هذه القاعدة ينبني كثير من أبواب الفقه كالرد بالعيب، لإزالة الضرر عن المشتري، وجميع أنواع الخيارات، لإزالة الضرر الواقع على أحد المتعاقدين، والحجر بسائر أنواعه للمحافظة على مال غير القادر على التصرف السليم وضمان المتلف، لإزالة الضرر اللاحق من أتلف له، والقصاص، لدفع الضرر عن أولياء القتيل والحدود لدفع الضرر عن المجتمع، والكفارات، لإزالة سبب المعصية.

<!-- الإدارة المالية متكاملة

الإدارة المالية في الإسلام مبنية على أساس التوازن والتكامل والتآلف والجمع بين حرية الفرد ومصلحة المجتمع، وبين حرية الفرد وتدخل الدولة إقراراً للعدالة والتكافل، ومنعاً للظلم والاستغلال، وبين الحاجات الروحية والمادية، وهذ أمر يؤكد إعجاز الإسلام في توفيقه بين هذه الأمور، وإعطاء كل ذي حق حقه، والنصوص في هذا الشأن كثيرة، منها قوله تعالى: ﴿ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلوةَ وَما رَزَقَهُم يُنفِقُونَ﴾. [البقرة : 3]. فقد جمع المولى سبحانه بين الإيمان بالغيب وإقام الصلاة وإنفاق المال، أيضاً كثيراً ما يذكر القرآن الكريم الزكاة مقرونة بالصلاة، كما في قوله تعالى: ﴿ وَأَقِيمُوا الصَّلَوَةَ وَءَاتُوا الزَّكَوْةَ وَارْكَعُوا مَعَ الراكعين﴾. [ البقرة: ٤٣].

<!--الضمير الديني

 اعتمادها على الضمير الديني الذي يكونه الدين وينميه بالعبادة والتربية والدعوة إلى تزكية النفس، ويغديه بمحبة الله تعالى ورجائه وخشيته، حتى يكون الفرد أكثر استعداداً لتلبية التوجيهات والتشريعات والأوامر والنواهي، وإن لم تكن هناك رقابة أو سلطة خارجية. انظر إلى قوله في حديث جبريل حين سأله عن الإحسان، قال:" أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنَّه يراك ..."

<!-- خضوعها للرقابة التشريعية

أنها تخضع للرقابة التشريعية وسلطة الدولة القضائية في حال غياب الوازع الديني، ومع ما يبذله القاضي من جهد فيما يصدره من أحكام قضائية، بناء على ما جمعه من أدلة في القضية، فإنه قد يخطئ وقد يصيب، لذا يبقى الضمير الديني. الأساس، ولخطورة الموضوع يحذر رسول الله ﷺ من التهاون فيه فيقول في حديث أم سلمه رضي الله عنها: " إنكم تختصمون إلي، ولعلّ بعضكم ألحنُ بحجته من بعض، فمن قضيت له بحق أخيه شيئاً بقوله فإنما أقطع له قطعة من النار، فلا يأخذها ".

<!-- إقرارها للملكية الفردية

من خصائصها أيضاً إقرارها للملكية الفردية، وحق العمل للجميع، فالإسلام يحمي حق الملكية الفردية، ويعترف للإنسان بحرية التصرف فيما اكتسبه بعمله، وحصيلة جهده، فيلي بذلك غريزة حب التملك فيه، ويستجيب لنداء الفطرة فيه. قال تعالى: ﴿ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عامل مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّنْ بَعض ﴾. [آل عمران : ١٩٥].

 

كما شرع في الوقت نفسه من المبادئ وسن من الأحكام ما يجعل من هذه الملكية أداة لتحقيق مصلحة الأمة، وإشباع حاجات الجماعة، وذلك بإيجاب حق الزكاة في ماله كما فتح أمامه باب المندوبات كالصدقات التي بها يواسي إخوانه المحتاجين والمنكوبين. إن هذا كله يزيد المؤمن إيماناً، والمنصفين قناعة بعدالة الإسلام، وحسن إدارته للأموال، وقدرة أحكامه على تحقيق مصالح الأمة وتلبية حاجات الجماعة، قال تعالى: ﴿ أَفَحُكْمَ الجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمَا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ[المائدة : ٥٠ ].

ahmedkordy

خدمات البحث العلمي 01009848570

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 66 مشاهدة

أحمد السيد كردي

ahmedkordy
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

30,754,739

أحمد السيد كردي

موقع أحمد السيد كردي يرحب بزواره الكرام free counters