إن مقاصد الشريعة التي تتمثل في تحقيق المصالح ودرء المفاسد تؤدي إلى حفظ الكليات الخمس، وهي حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال وحفظ ما يخدمها ويكملها من الحاجيات والتحسينيات. ولذا يعد حفظ المال من المقاصد الضرورية في الشريعة الإسلامية، وحصول حفظه يكون بضبط أساليب إدارة عمومه، وبضبط أساليب حفظ أموال الأفراد وأساليب إدارتها، فإن حفظ المجموع يتوقف على حفظ جزيئاته، ولأن منفعة المال الخاص عائدة إلى المنفعة العامة لثروة الأمة]. ومما يدل على عناية الشريعة الإسلامية بحفظ الأموال ورعايتها، نصوص الكتاب العزيز والسنة المطهرة، ومنها:
<!-- لما أمر الله تعالى بتحصيل المال وكسبه نمى بالمقابل عن إضاعته والإسراف فيه وصرفه في غير محله، دلّ عليه قوله تعالى: ﴿ وَلَا تُبذر تبذِيرًا إِنَّ الْمُذِرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا ﴾ [الإسراء: ٢٦ – ٧]. وقال: ﴿ وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا نَبسُطها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا ﴾. [الإسراء: ۲۹] وقال: ﴿ يَنبَنِي ءَادَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُل مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾. [ الأعراف : ۳۱ ].
<!--كما نهى سبحانه عن تمكين السفيه من ماله لئلا يضيعه أو يسيء التصرف فيه، قال تعالى: ﴿ وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَل الله لكم قِيَامَا ﴾. [النساء : ٥].
<!--وقد أرشد سبحانه عباده لحفظ أموالهم عدة وسائل منها: الكتابة والإشهاد وأخذ الرهان، في خواتيم سورة البقرة. ومما جاء في السنة المطهرة حديث أنَّ مُعاوَيةَ بنَ أبي سُفيانَ رَضيَ اللهُ عنه كَتَبَ إلى المُغيرةِ بنِ شُعبةَ رَضيَ اللهُ عنه بأنْ يَكتُبَ له شَيئًا سَمِعَه مِن النبيِّ . ﷺ . ، فكَتَبَ له المُغيرةُ إن الله كرة لكم ثلاثاً: قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال" [رواه البخاري].
<!--وأيضاً ما ثبت من إخبار النبي عن سؤال الإنسان عن ماله يوم القيامة من أين اكتسبه وفيما أنفقه، قال: " لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عنْ عُمُرِهِ فيما أفناه، وعنْ عِلْمِهِ مَا فَعَلَ بِهِ، وعَنْ مَالِهِ مِنْ أَينَ اكتسبه، وفيما أنفقه، وعن جسمه فيما أبلاه. وفي الاستعداد للجواب عن هذا السؤال ما يردع الإنسان عن تبذير المال وصرفة فيما لا ينبغي.
<!--ومما يدل على حرصه في تعليم أمته حفظ الأموال ورعايتها بيانه حرمة الاعتداء عليها، حيث قرن حرمتها بحرمة الأنفس والأعراض، فقال ﷺ في الحديث الذي يرويه لنا أبي هريرة رضي الله عنه قال: " كُلُّ المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه ". ولقوله ﷺ "... لا يحل مال امرئ إلا بطيب نفْسٍ منه.... هذه نصوص صريحة تدل على حرمة الاعتداء على مال المسلم على أي وجه كان العدوان وعلى أي مقدار من المال. ومن مقاصد الشريعة الإسلامية في الأموال، والتي أولتها الشريعة عناية فائقة مقصد التداول والرواج، والوضوح، والعدل فيها.
1- مقصد تداول الأموال ورواجها
ويقصد به دوران المال بين أيدي أكثر من يمكن من الناس بوجه حق في شكل استهلاك، أو استثمار. لذا حرصت الشريعة الإسلامية على تيسير دوران المال على آحاد الأمة وإخراجه عن أن يكون قاراً في يد واحدة، قال تعالى: ﴿ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأغْنِيَاءِ مِنْكُمْ ﴾ [الحشر : ٧]. وتيسيراً للتداول شرعت عقود المعاملات لنقل الحقوق المالية بمعاوضة أو بتبرع. كما شرعت الوسائل الكفيلة بحماية تداول المال ورواجه، دون حبسه واكتنازه، ومنها:
<!--منع كثرة الأموال، واحتكار السلع الضرورية، والتعامل بالربا، والميسر والغش في المعاملات.
<!--وفي المقابل جاء الأمر بالنفقة على الزوجة والقرابة وإعطاء الزكاة لمستحقيها، والميراث، وتسهيل المعاملات بقدر الإمكان، مع ترجيح جانب ما فيها مصلحة على ما يعترضها من المفسدة.
2- مقصد وضوح الأموال
ومعنى هذا المقصد إبعاد الأموال عن مواطن الخصومات والمنازعات وإلحاق الضرر بها]، ولأجل ذلك شرع توثيق المعاملات والتصرفات المالية، لأنه وسيلة ناجحة لصيانتها وحفظها. وقد جاء ذكر أنواع التوثيقات في أطول آية في كتاب الله آية المداينة في سورة البقرة.
3- مقصد العدل
والمراد به تحصيلها بوجه لا ظلم فيه، وبوضعها في موضعها الذي خلقت من أجله ، وأمر الشارع الحكيم بالتزامه، وذلك بتأدية ما عليها من الحقوق والواجبات واتباع أرشد السبل في اتفاقها وتنميتها. وقد ضبط الشارع الحكيم التشريعات المتعلقة بحركة المال، بما يحقق المصالح ويمنع المفاسد، وذلك من جهة تحصيل هذا المال، ومن جهة إنفاقه. فحرم على سبيل المثال كسب المال بطريق الربا أو الغش أو الغرر أو الظلم أو الكذب ونحوها، كما حرم في الإنفاق الإسراف والتوصل بالمال إلى تحصيل المآثم وجلب المحرمات.
ولعلي هنا ونحن نتحدث عن مقصد العدل، أن استشهد بأروع الأمثلة التي ضربها رسول الله له في العدل ولو مع أهل بيته، وأعني مع ابنته فاطمة رضي الله عنها حينما شكت ما تلقى من الرحى مما تطحن، فطلبت منه خادماً من السبي يكفيها مئونة العمل، فأمرها هي وزوجها أن يستعينا بالتسبيح والتكبير والتحميد، وقال لهما: "ألا أدلكما على خير مما سألتماني؟ إذا أخذتما مضاجعكما فكبرا الله أربعاً وثلاثين، وأحمدا ثلاثاً وثلاثين وسبحا ثلاثا وثلاثين، فإن ذلك خيرا لكم مما سألتماه". ما أعظمه من عدل حينما قدم فقراء المسلمين على أحب الناس إليه. رواه البخاري.