هناك بعض من الانعكاسات الإيجابية لهذه الخصائص على أداء التنظيم الإداري الإسلامي، على عكس التنظيمات الإدارية الحديثة. هذه الانعكاسات تم استخلاصها من استعرا ضنا للملاحظات السابقة على النحو التالي:

الخاصية الأولى: الشريعة الإسلامية ربانية الأصول بشرية التطبيق:

ترجع الشريعة الإسلامية في أصولها إلى الله تعالى سواء منها ما ورد في القرآن الكريم أو ما جاءت به السنة الشريفة، كما أن جانبا منها هو نتاج لاجتهاد بشري قام به علماء الإسلام استنادا لأحكام الشريعة الإسلامية واستنباطا منها هذه الأحكام باعتبارها تشريعا إلهيا في أصولها هي كذلك في جانب منها أحكام وضعية باعتبارها ثمرة اجتهاد بشري ويتعلق الأمر بمسألة إنزال هذه الأحكام على أرض الواقع وتطبيقها.

ويترتب على كون الشريعة الإسلامية إلهية الأصول بشرية التطبيق نتيجتان:

<!--إن أولى أولويات الشريعة الإسلامية هي توثيق صلة العبد بربه وتنمية روح الرقابة الإلهية في ضميره مما يجعله حريصا على القيام بواجباته قدر الاستطاعة دون النظر أو اعتبار الرقابة البشرية وهذا من خلال ما قدمه الإسلام من قيم سامية تقوم وتضبط سلوك العبد اتجاه ربه واتجاه نفسه واتجاه أخيه الإنسان، واتجاه الكون كله بخلاف النظم الوضعية التي لا تعطي أي اعتبار للقيم الدينية، بل ترتبها في مؤخرة القيم، مما يجعل العلاقة بين العبد وخالقه في الفكر الغربي تكاد تكون معدومة وهذا ما اثر سلبا على أداء هذه التنظيمات.

فالشريعة الإسلامية ولتوثيق صلة العبد بربه نجد أنها جعلت أحكام العبادات على رأس باقي الأحكام الأخرى، وهذا ينعكس على سلوك القائمين على تنفيذ النظم الإسلامية فيجعلهم حريصين كل الحرص على تطبيق هذه النظم على اعتبار أنها في نطاق التكليف الشرعي كما تتكون لديهم وحدة فكرية وموقف موحد تجاه هذه النظم وهذا ما عجزت عن تحقيقه التنظيمات الوضعية رغم محاولاتها المتكررة ومن شتى المسالك والسبل.

<!--إن الجزاء المترتب عن عملية اتباع هذه النظم أو مخالفتها لا يقتصر على الحياة الدنيا فقط كما هو الحال بالنسبة للنظم الوضعية بل يتعداها إلى الآخرة، وهذا ما يجعل النظم الإسلامية تتوفر على نوع من الحوافز المعنوية التي تساعد على تفعيل أدائها خلافا للنظم الوضعية التي تفتقر إلى هذا النوع من الحوافز.

الخاصية الثانية: مرونة الشريعة الإسلامية و مراعاتها لمقتضيات الظروف

تعتبر هذه السمة من أهم السمات المميزة للشريعة الإسلامية عن غيرها من الشرائع الأخرى وهذا لكونها الشريعة الخاتمة والناسخة لما قبلها من الشرائع، والباقية بقاء الإنسان وذلك لصالحها مكانا وزمانا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

قسمة المرونة ومراعاة مقتضيات الظروف الزمنية والمكانية جاءت لتعطي الشريعة صفة المواكبة لأي تطور يحصل للجماعة البشرية ودون أي جمود قد يعطل أو يعيق حركة الإنسان وتطوره.

وكما هو معروف إن المقصد العام الذي جاءت الشريعة الإسلامية من أجله هو تحقيق مصالح العباد في الدنيا والآخرة والمحافظة عليها وعلى استمرارها، وحيثما وجدت المصلحة الشرعية فثم شرع الله من أهم ما يدلل على مرونة الشريعة الإسلامية هو أن أحكامها جاءت عامة فيما عدا أحكام العبادات، كما أن هذه الأحكام قليلة من حيث العدد وهذا لتساير ظروف تطور الجماعة البشرية وتساعد على تحقيق مصالحها والمحافظة عليها مهما اختلفت ظروف الناس زمانا ومكانا، ولا تضع قيدا على تطورها  ولا على حركتها وهذه السمة لها الأثر الكبير على العمل التنظيمي والتشريعات التنظيمية في جميع المجالات الحياتية بما فيها الإدارية.

ويمكن القول إن مرونة الشريعة الإسلامية ومراعاتها لمقتضيات الظروف قد أثرت على التنظيم الإداري في الإسلام بشكل كبير، حيث تضمنت الشريعة الإسلامية مبادئ وأسس للتنظيم الإداري في العصور الإسلامية الأولى، وفي نفس الوقت تركت المجال للمسلمين لتطوير هذا التنظيم بما يتلاءم مع مقتضيات الظروف والأحوال المتغيرة.

وفي هذا السياق، تعتبر الشورى والتشاور الدائم بين المسلمين وقياداتهم من أهم المفاهيم الإدارية في الإسلام، والتي تعكس مرونة الشريعة الإسلامية في التعامل مع المشكلات والظروف المختلفة. ففي الإسلام، يتم التشاور والنقاش بين القادة والشورى في كل القضايا المهمة، سواء كانت سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية، ويتم اتخاذ القرارات بناءً على الرأي الأكثر موافقة والأفضلية الأكبر.

ومن الجوانب الأخرى التي تعكس مرونة الشريعة الإسلامية في التعامل مع المشكلات والظروف المختلفة، هي المرونة في التفسير والتأويل، وتحمل الشريعة الإسلامية في ذلك بينات وأدلة عديدة، وهي تتيح للفقهاء والعلماء المجال للتحليل والتفسير بما يتلاءم مع متطلبات الظروف الجديدة.

وبشكل عام، يمكن القول إن مرونة الشريعة الإسلامية ومراعاتها لمقتضيات الظروف قد أسهمت في توفير إطار عام للتنظيم الإداري في الإسلام، وفي نفس الوقت تركت المجال للمسلمين لتطوير هذا التنظيم بما يتلاءم مع مقتضيات الظروف المختلف.

إلا أن السؤال القائم والذي يطرح نفسه بنفسه هل هناك من القرآن ما يدل على المرونة في الشريعة الإسلامية وبالتالي المرونة في التنظيم الإداري؟؟؟

نعم هناك آيات كثيرة في القرآن تدل على المرونة في الشريعة الإسلامية منها:

<!--قال تعالى في سورة النساء: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ ۚ وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ﴾. [النساء : 29]. ومن خلال هذه الآية، يتضح أن الإسلام يحظر الظلم والغش والاحتيال في التعامل المالي بين المسلمين، ويترك المجال للمسلمين للتعامل بمرونة في حدود التجارة الحلال، وهذا يعكس مرونة الشريعة الإسلامية في التعامل مع المسائل الاجتماعية والاقتصادية.

وكذلك، في سورة البقرة يقول الله تعالى: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ۖ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا ۚ أَنتَ مَوْلَانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾. [البقرة : 286].

ومن خلال هذه الآية، يتضح أن الإسلام يرفض فرض أي شيء يتعدى قدرة الإنسان، ويحث المسلمين على الدعاء لله بالمغفرة والعفو والرحمة، وهذا يعكس مرونة الشريعة الإسلامية في التعامل مع الأحكام الشرعية وتقديم المصلحة العامة وحماية حقوق الفرد.

بالإضافة إلى ذلك، فإن الإسلام يحث على التوازن في التعامل مع الأمور الدينية والدنيوية، ويتيح المجال للمسلمين للتعامل مع الظروف بحكمة وتدبير، وهذا يعكس مرونة الشريعة الإسلامية في التعامل مع الأمور العامة والخاصة في الحياة الإنسانية.

الخاصية الثالثة: التيسير و نفي الحرج عن الناس

هذه السمة تعني أن الشريعة الإسلامية تراعي في التكليف قدرات المكلفين وإمكانياتهم العقلية والبدنية مصداقا لقوله تعالى: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا. [البقرة : 286]. حيث إن خاصية التيسير ورفع الحرج من الخصائص المميزة للشريعة الإسلامية، وقد جاءت الكثير من نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة مبينة ذلك كقوله تعالى: ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ﴾. [البقرة : 185]. وقوله تعالى: ﴿ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ[الحج : 78]. أما ما ورد في السنة المطهرة فإنه روي " أن النبي . ﷺ . ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن فيه إثم".

وقوله . ﷺ .: " كل ميسر لما خلق له ". رواه الشيخان في الصحيحين من حديث سيدنا علي رضي الله عنه. وقوله : خوا من الأعمال ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا  [رواه الشيخان البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي والترمذي من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها]. وقوله. ﷺ .: " يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا "، [رواه أنس ابن مالك رضي الله عنه].

وغيرها كثير هذا على مستوى الجانب التشريعي أما على مستوى الجانب العملي فقد وضع الإسلام هذا المبدأ موضع التطبيق وحث على ذلك فعلى سبيل المثال أعفى الإسلام أصحاب الأعذار من القيام ببعض التكاليف الشرعية رفعا للحرج والمشتقة عنهم كالجهاد في قوله تعالى: ﴿ لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ ﴾. [النور : 61].

 ورخص الله تعالى للمسافر الإفطار في رمضان وكذلك الحائض والنفساء، وباستقراء لهذه النصوص وأمثالها اهتدى علماء الإسلام ومجتهدوه إلى قاعدة جليلة يمكن تلخيصها إجمالا في أن أي عمل بنص خاص بمسالة معينة في شان ما من شانه أن يؤدي في الوقوع في حرج عام أو خاص كان واجبا ألا يطبق هذا النص على تلك المسالة، وإنما يطبق عليها النص العام الموجب لرفع الحرج والمشقة على المكلفين كذلك واستنادا لهذه النصوص وغيرها استنبط علماء الإسلام مجموعة من القواعد الفقهية الدالة على ذلك منها على سبيل المثال لا الحصر قاعدة الحرج مرفوع شرعاً وقاعدة: «درء المفاسد أولى من جلب المصالح»، وقاعدة لا ضرر ولا ضرار  وغيرها من القواعد ما يستفاد من هذه الخاصية أن الإسلام حين ينظر إلى التنظيم الإداري ينظر إليه كغيره من المكلفين الاعتباريين مع مراعاة قدراته وإمكانياته والأشخاص العاملين به، بل أكثر من ذلك المطالبة باليسر التنظيمي حتى يتمكن الأشخاص داخل التنظيم بالقيام بمهامهم وواجباتهم دون حرج أو مشتقة تحقيقا لمصالحهم كأفراد ومصالح التنظيم أيضا.

على سبيل المثال في الإسلام، يتم تشجيع الإدارة السليمة والعادلة، ويتم تحفيز الإداريين لتسهيل الأمور على المواطنين ورفع الحرج عنهم. يجب أن يعمل المسؤولون الإداريون على تيسير الأمور على الناس وتخفيف عنهم أي عوائق أو صعوبات. على سبيل المثال، يُحثُّ في الإسلام على تيسير الإجراءات الإدارية اللازمة لإبرام العقود والصكوك والتصاريح الرسمية، وذلك لرفع الحرج عن المواطنين وتسهيل أمورهم.

وتتضمن هذه الخاصية أيضاً تشجيع المسؤولين الإداريين على الحوار والتعاون مع الموظفين، والتفاعل معهم بشكل إيجابي لتلبية احتياجاتهم ومتطلباتهم. ليتمكنوا من أداء أعمالهم بسهولة ويسر.

الخاصية الرابعة الوسطية وروح الاعتدال

تعتبر الوسطية وروح الاعتدال من السمات البارزة في الشريعة الإسلامية وقد وردت نصوص كثيرة من الكتاب والسنة دالة على ذلك، قال تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ﴾. [البقرة : 143].

لقد طالب الإسلام أتباعه ومعتنقيه بالالتزام بمبدأ الوسطية والاعتدال في سلوكهم وتصرفاتهم حتى في أبسطها لقوله تعالى: ﴿ وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا ﴾. [الإسراء : 29]، وقوله تعالى في سورة الفرقان واصفا عباده القدوة لغيرهم معددا خصالهم وخصائصهم ومميزاتهم: ﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا ﴾. ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا ﴾. [الفرقان : 63-67]، وهذا التوسط وهذا الاعتدال في السلوك يتماشى مع الفطرة البشرية التي فطر الله تعالى الناس عليها فلا إفراط ولا تفريط، وكلاهما مخالف للفطرة، يستفاد مما سبق أن الفكر الإسلامي عموما يدعو إلى تحقيق التوازن في شتى مناحي الحياة وهذا التوازن يعتبر عاملا هاما من عوامل نجاح التنظيمات الإدارية الرشيدة، كما يساعد على تحقيق أهداف التنظيمات الإدارية وأهداف العاملين بها.

وتعتبر الوسطية وروح الاعتدال من القيم الأساسية في الإسلام، وتنعكس بشكل كبير على التنظيم الإداري في الإسلام. ويتم تشجيع الوسطية والاعتدال في جميع المجالات، بما في ذلك المجال الإداري. ويجب أن تكون الإدارة متوازنة ومتوازنة في معاملتها للمواطنين والموظفين. ويجب أن تكون القرارات الإدارية متوازنة وتأخذ بعين الاعتبار جميع الجوانب المتعلقة بالمسألة المطروحة.

وتتضمن هذه الوسطية أيضًا تشجيع الحوار والتفاعل بين المسؤولين الإداريين والمواطنين، والعمل على حل النزاعات بشكل متوازن وعادل، دون أي تحيز أو تمييز بين الأفراد.

وتأتي هذه الخاصية في الإسلام لتعزيز العدل والإنصاف في جميع المجالات، وضمان حقوق الجميع دون أي تمييز. ويؤمن الإسلام بأن الاعتدال والوسطية هما السبيل الأمثل للتحقيق النجاح والتميز في جميع المجالات، بما في ذلك المجال الإداري. وبالتالي، يمكن القول بأن الوسطية وروح الاعتدال تنعكس بشكل كبير على التنظيم الإداري في الإسلام، وتعد من الأسس الرئيسية التي يجب على المسؤولين الإداريين الالتزام بها في أداء مهامهم.

 

ahmedkordy

خدمات البحث العلمي 01009848570

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 57 مشاهدة

أحمد السيد كردي

ahmedkordy
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

30,757,045

أحمد السيد كردي

موقع أحمد السيد كردي يرحب بزواره الكرام free counters