♠ ♠ ♠ ♠ القصة القصير ♠ ♠ ♠
♠
♠ ♠ ♠ أخر مرة تحب يا قلبي ♠ ♠ ♠
♠ ♠ ولأن الحياة حقيقة يعيشها كل منا بحلوِها ومُرها ، والذكي منا من يصنع من مرارتها حلاوة ، فعندما قابلها صدفه ، سيدة الوصف الأقل لها أنها جميلة ، ذات عينان من النوع الذي يحزن ويفرح في ذات الوقت ، وليست عيوناً زجاجية كأغلب النساء اليوم ، ويزداد جمال تلك العيون ، إذا هي تركت شعرها المنتظم طبيعياً ينزل ويتعدى ما بعد وسطها ، وتقف انت أمام سيدة لا خطأ في جسمها ، وينبهر كل من يرى تلك الجمال ، وهي تعرف كم هي جميلة ، لذلك تخفي جمالها عينها ووجهها وراء نظارة كبيرة وداكنه لا تغادرها أبداً ، ودائماً تخفي هي جمال شعرها بوضعه تحت قبعة ، وتلبس من الثياب ما لا يظهر للأخرين الخافي من جمالها ، ويوماً صدفة قابلها بطل قصتنا ، كان قد عزم قبلاً على أن يجلس فقط في مقاعد المتفرجين عن الحب ، ولا يشارك المحبين في حبهم ، ويكتفي أن يكتب عن أيام حب عشاها ، وحبيبة في حياته من الصعب أن يتكرر مثلها ، ويكتفي بما قد عاشه من حب ، في كل بلاد العالم التى زارها ، لم يفكر في الحب بعد ، رغم ما رأه من صاحبات القلوب البيضاء والعيون الحوراء ، ولكنه وقف أمامها مبهوراً بها وبجمالها ، والأهم لما ناقش عقلها ، وأياماً وأيام كانا يتواصلان وكل مرة يزيد إنبهاره بها ، ولما وصل الكلام بينهما مرة إلي منطقة الكلام عن الجمال ، قالت: له رغم جمالي الذي أنت به مبهور ، فإني كَرِهته ، ولو كنت أستطيع الخروج من هذا الجسد الجميل لفعلتُ ، قال لها أما الجمال فهو نعمه من الخالق ، قالت: أصبح عبأً عليَ بعد خروجي من جنة حبي ، وموت من ملك بالحب قلبي وكلي ، فالكل يحاول الأن أن يقترب مني ، وأنا أصرخ في نفسي ، وأقول وددتُ أن لا يقترب أحداً مني ، فأنا أصبحتُ إنسان لا قلباً لي ، ولن أجرب الحب ثانيةً ، وتعجب بطلنا أن ترضى أن تعيش باقي حياتها وهي صغيرة بلا قلب ، ومرة تحدثا فقالت له كلاماً عن عيونها وشعرها وقوامها وقدها ، فنام ليلته وهي حاضرة في عقلهِ ، وفي المنام رأها جميلة والإبتسامه تعلو وجهها ، بشكل غير طبيعة ما عرفه عنها ، وأقترب منها فإذا شفتاها ترتعشان ، ورأها وفى عينيها دموعها ، وكأنها تتوسل له ألا يقترب أكثر من حصنها ، فهي تخاف من أن تستسلم من طول حرمانها ، فقال لها إهدئي فأنا قررت وهذا حالك ، ألا أقترب أكثر منكِ ، وتركها وأسرع وخرج من حلمهِ ، وقد تصبب العرق منهُ ، وشكر الظروف التى لم تدفعهُ ، لأن يقول لها ، ما كان به من شوق لها ، وإن كانت أمارته بالسوء تقول له أعد الحلم بها ، فلعلها ولعلها ، ولكنه قالها أنا لابد أن أقاوم عشقها ، و ألا أقترب يوماً من حلمها ، وكل مرة يأتي ذكرها ، يكتفي هو بأن يبتسم عندها ، لأن في الدنيا من هو مثله عشق وأحب يوماً ولم ينسى هو عشقه ، ويسمع كل حين من داخل نفسه صوتاً ، يكون عزاءً لأيام عشقه ، ويقول إذن مازال هناك إخلاص لمن قال يوماً ، أن زمان الأخلاص قد خلا.
♠ ♠ ♠ ا.د/ محمد موسى
لا أريد أن أكون نجمة في السماء
لم يكن بمقدورنا أنا وأمك أن نمنعك أن تولدي ، ففي ليلة أكتمل فيها القمر رأت أمك في المنام الشيخ أحمد يبشرها بأنثى، وليس الذكر كالأنثى ، والمشبه به أعظم كمالا ، إن العالم يدور يضع بنتا هنا وولد هناك ،أنا أقول كنت ِ قطرة ماء تتلألأ في شفق السماء ، وإذا لم تكوني موجودة فلا معنى لمجيئك ، لا أعرف كيف أشرح لك ، وأنت ِ لا تفهمين ما أريد أن أقوله أن أحدا غيرك لن يأتي في تلك اللحظة وفي ذلك الزمان .
قلت لأمك سأسميها فاطمة ، كل النساء تطلق أسماء على أبناءها ، لكني أشك أن اسما مثلها يحمل صفة ملائكية ، إن تاريخ العالم يفقد إنسانيته لولا وجود البتول فاطمة ،بالتأكيد إن المرء يشعر بنفسه عندما يفكر ، في كل الأحوال أن تولد في الحرب هو امتحان قدرتك على أن تكون إنسان ،ولسبب ما يصبح مجيئك انتصار على ممالك اصطياد الأطفال بالطائرات .
في مشفى نبع الفوار ولدتِ كان صوت بكاءكِ يعلو على ضجيج طائرة حربية مزقت جدار الصوت، وفجأة تملكني إحساس بأن الممرضة التي تحملك قد تسرقك ، أو تستبدلك بطفلة أخرى ، فلازمتك وهذا يعني إني منذ الآن سأكون معك .
مدتك الممرضة برفق وحرص شديدين على سرير خشبي ، تحت ضوء المصباح ، قالت لي وهي تدغدغ خدك بإصبعها ، وابتسمت لاستجابتك وأنت تحركين فمك لتلقمي إصبعها :
- إنها تتضور جوعا ...سأجلب لها ماء وسكر ، وأردفت :
ـ الأطفال شرهون للأكل
رافقت الممرضة بعيني ألقصيرتي النظر ، وأنا أتفحصك عضوا تلو الأخر ، وجهك منتفخ و مزرق قليلا من عملة الولادة ، بجوارك تستلقي أمرأة أغمضت عينيها بقوة ، متعبة منهكة ، ترسمك في مخيلتها مرارا قبل أن تستيقظِ.
عادت الممرضة بزجاجة الرضاعة مملوءة بمحلول السكر ، لقمتك حلمتها ، استمتعت ِ بهذيان السكر في فمك . قالت الممرضة:
- الأفضل أن تجزيء الرضعة على مدار اليوم كي تتحرك أمعاءها .
لا تحب الممرضات أن تعاملهن كخادمات ، يقلن ، ذلك سيجعلهن غير لطيفات في تعاملهن ، قلت له :
- شكرا لك ...أنتِ تبذلين جهدا لا يقدر بثمن
قالت لي مبتهجة ،بعد أن دسست في يدها مبلغ من المال :
-تحت أمرك ...إذا احتجت مساعدة نادي لي
غبطة غامرة تطوق حواف القلب ،ترتعش في العينين ، خلت نفسي أقفز إلى الأعلى من فرط الفرحة . أتنفل بين حافة سريرك وشرفة الغرفة ، بل أتنقل بين رائحة عطر الطفولة ، ورائحة الشارع وماذا يوجد في الأسفل إلا روائح مخلفات الإنسان .
في منتصف الجدار علقت صورة لطفل أشقر وجهه أبيض وادع ،عيناه واسعتان زرقاوان ، يريدون منا أن نتلاشى في سلالة العرق البيض ، لا يكبر أحدا في الصورة ، سيبقى هكذا بدون حركة إلى الأبد ، أما أنا أريدك أن تكبري أمام عيني .
كنتما مستغرقتين أنت وأمك بنوم عميق ، هي بجسدها المتهالك تحت وجع العملية وأثر المخدر ،وأنت تحت وجع الخروج من العدم إلى الوجود، مر عليكما الطبيب سريعا ، الواحدة منكما ذكرى أو حلم للثانية .
سألت الطبيب الذي يبدو أصغر من سنه بمريوله الأبيض :
- متى تستيقظ من المخدر .
ابتسم بثقة طبيب خبير " نصف ساعة ..الحمد لله الوضع جيد " وخرج.
تهاويت جالسا على حافة السرير ، أتأملكما حُبيَن وأٌشرد ،أحرك عقارب الساعة إلى الأمام ،أَدفع الزمن إلى تخوم حافته ، تركب روحي الأيام ، فأقع في الشرك ،أرسمك في مخيلتي ، أبعد عنك مالا أرغب فيه، الخيال لا يصنع واقع ،فأنا مترع بالخوف ، هل تصدقين إذا قلت لك الحقيقة ، تلك هي الحقيقة ، أنا أهرب من واقع مليء بالألم ، واقع يصعب أن أقوله لك " الحياة قاسية "
معجزة أن تتواجد في مكانين وزمنين باّن واحد ،شيء مستغرب أن يقلع الزمن إلى الأمام بينما أنت ترجع إلى الخلف ، أو العكس ،ضلالة خاطئة ، هراء ، هلوسات ، أعلو إلى قمة الحلم ، ثم أهوي متدحرجا إلى قعر واد الذهان السحيق ،ولهنيهة ألمح وجهك على زجاج النافذة ، إنه الحلم نفسه ، عمرك خمس سنوات ،أجلس أنا وأنت على المصطبة وفوق رأسينا تزدحم النجوم ، حولنا سبعة أصص من ورد الجوري ، في هذا الهزيع من الليل تفتح الذكريات أجفانها ، تغادر العقل باتجاه الوراء ، كانت أمك قد ذهبت إلى المطبخ لتغلي لنا الشاي ، أنا أجلس على إسمنت المصطبة لا أعرف لماذا ،سألتني أول سؤال حميمي :
- لماذا أسميتني فاطمة ؟؟؟
كنت تودين لو كان لك اسم عصري ، جولييت ، هيلدا ، كاترين ، فالطفل تساوره الشكوك ويظن أن اسمه يجلب له الحزن . شيء ما أنبأني أنكِ في حيرة ، عندئذ عرفت أنه يجب أن أبدد مخاوفك ، قلت لكِ :
- سأحكي لكِ قصة الطفلة التي سرقوها من أهلها .
كنت يومها في كراج جبلة ،أمشي وأنا ألبس حذائي الجديد ، وفجأة دوى انفجار رهيب ، قسم السماء من أقصاها إلى أقصاها ، مات ناس كثيرون مثل الذباب ، تطايروا أشلاء في الهواء وتبعثروا نتفا من لحم ودم ، ماتوا قبل أن يصرخوا ، ركضت مع من ركضوا إلى داخل الكراج ، فرأيت رجلا يدق الأرض بقدميه وهو يجأر مثل عجل في المسلخ شاخصا بعينية إلى السماء:
- فاطمة ... أريد فاطمة .
ثم ركع وراح يلطم وجهه،مددت يدي إلى عظم كتفه ،أنهضته برفق ،قلت وأنا أبادله الحزن بالحزن :
- تعال يا أخي نبحث عنها قد تكون حية ترزق
جسده مملوء بالوهن والارتخاء ، وروحه مخنوقة من سحب وجع الصراخ ، مشينا فوق عظام عارية ، ونحن ندوس فوق الأرض المملوءة بالأصابع والأقدام المبتورة ،وفرو الرؤوس والمصران وبقع الدم ، انهار الرجل بسرعة مخيفة أمام رأس طفلة لم تلتقط شفتيه صرختها الأخيرة
- وداعا يابابا
تمنيت أن أعانقها ، أداعبها ، أتعرفين ماذا كانت هذه الطفلة مني ، أن أضع يدي بيدها ، لكني عانقت والدها لأحجب عنه فظاعة المشهد،الأطفال لا يموتون ، إنهم يدهشون ، يصيرون نجوما في السماء .
سألتِني ببراءة
- لماذا قتلوها ؟؟
قلت لك :
- لأن اسمها فاطمة و أسم فاطمة مقدس ...منذ الف سنة وأكثر قتلوا أيضا شابة أسمها فاطمة
- وأين هي الآن
- أصبحت نجمة في السماء
طفرت من عينيك ِ دمعة كبيرة ، ولفتني يداك الصغيرتان وشفتاك تلتقطان كلمات متقطعة :
- بابا لا أريد أن أكون نجمة في السماء
فؤاد حسن محمد- جبلة - سوريا
يحكى أن ...
يحكى أن طفلا أحمق ضحكوا عليه ...أعطوه صفارة في يده وسرقوا منه مفاتيح البيت ...
يحكى أن زهرة حمقاء وقفت في وجه السيل ...
يحكى أن فأرا صغيرا تحدى سيد القطط ..
يحكى أن ساقية رفضت الاتحاد مع السيل ..
يحكى أن غبارا أسود اجتاح ممالكنا الصغيرة
يحكى أن غرابا غنى أغنية للعندليب ..
يحكى أن السياف رفض قتل شهرزاد وقتل شهريار ...
يحكى أن القمر ترك عشق النوافذ ..
يحكى أن الأرض لم تعد قادرة على الدوران ..
يحكى أن ضعيفا هزيلا هزم شمشون الجبار ..
يحكى أن التراب صغع النعامة ...
يحكى أن ذئبا جائعا رفض أكل الخراف ...
يحكى أن الزهرة ابتلعت كل النحل ...
يحكى أن النملة وقفت في وجه الفيل ...
يحكى أني أنا لم أعد أنا ...بقلمي
الطريق
قصة : ثروت مكايد
-(1)-
لم تكن هذه أول مرة يضطرب فيها قلبه كل هذا الاضطراب حين يراها . إن أكثر ما يخشاه أن تلحظ زوجه هذا الاضطراب بل أن تلاحظ هي نفسها هذا الاضطراب الذي يرعش أطرافه ، ويخرس لسانه حتى إذا نطق تحدث بكلمات مرتعشة مبتورة مما يفضحه أمام زوجته و ..أمامها هي نفسها؛ لذا لاذ بالصمت في زيارتها الأخيرة . هرب بين سطور جريدة في يده ..وبين الحين والآخر يسترق نظرة، وقد يلقي كلمة عابرة دون أن يدري معناها . إن ما يحيره أنهما تتحركان بعفوية تامة حتى هي نفسها حين أقبلت عليه طبعت على خده ..على خده الأيمن قبلة لا زالت حرارتها تسري في جسده، وزوجه قائمة لم يبد عليها أي شيء ..أي شيء .
-(2)-
تتابعت خسائره ، ولاح على البعد شبح الخراب . بدا كتمثال جامد النظرة ، شارد الفؤاد ..وقال وكيل مكتبه :
- أهناك ما يسوء ؟
رمقه بغيظ. ود لو يخنقه ..وتمتم :
- كل شيء حولي يسوء .
- ماذا حدث ؟
- لا أدري ..
- كنت شعلة نشاط !
رد شاردا :
- حلت اللعنة ، ولا أمل عاد في شيء ..أي شيء !
وقال في نفسه : " لابد من حل ..ولو .." . تجمد في مكانه . إن خاطرا ينتشر في نفسه انتشار النيران في الحطب . خاطر يشل حركته..وصرخ وقد تسللت دموع من عينيه كانت أسيرة :
- لا ..لا ..
وقال وكيله وهو يربت على كتفه :
- لابد أن تستشير طبيبا أو تأخذ إجازة ..
لم يكن ليسمعه ، وقد عادت نفسه تنفث في رأسه أن اقتلها ..لا حل أمامك سوى أن تموت هي حتى تتزوجها .اتجه إلى الحائط ليضرب رأسه فيه لولا أن أسرع إليه وكيله واحتضنه .كان أشبه بثور هائج ..وصرخ : " لن أفعل ..لن أفعل ." ، وسقط مغشيا عليه .
-(3)-
تساءل في غربته : " لماذا الآن وقد كانت أمامي قبل أن أبني بأختها ! " .عجب من سطوة الحب التي استعبدته . ود لو يغمد في صدره خنجرا ، وينتهي كل شيء ..وقالت زوجه :
- جاء خطيب لأختي ..
انفجر بركان داخله ، وثارت حمم . لم ير غير ظلمة ..وأردفت :
- إنها قصة حب طويلة ..
أووه ..لتكن إرادة الأقدار ..وتابعت تقول :
- لابد أن تحضر معي . قد أكدت علي ..لم لا تتكلم !
هز رأسه متمتما :
- سوف أحضر .
-(4)-
على غير عادته قام من نومه مبكرا، وقد نام طول الليل على غير عادته أيضا . كان متدفق الحيوية وكأنما استحال إنسانا آخر .ابتسم مما أثار زوجه ، وقالت دهشة :
- ماذا جرى لك ؟!
- ستنتهي اليوم الآلام .
- عادت إليك حيويتك ..
- ألم أقل أن آلامي سوف تنتهي اليوم .
- حمدا لله على سلامتك .
رد وقد شحبت ابتسامته :
- ليس معنى انتهاء الآلام ، حدوث السلامة .
- ماذا تعني ؟
- لكل أجل كتاب .
-(5)-
امتلأت الشقة بالأنوار ، وعلت الزغاريد . بدت في ثوب خطبتها أميرة . اقترب بخطوات قصيرة منها . كان يصوب عينيه إلى عينيها ، ولأول مرة يلحظ اهتزازها وكأنما تسلل من عينيها إليه شيء ، غير أنها ابتسمت حين اقترب . مدت يدها فمد يده إلى جيبه ، وأخرج مطواة رشقها في صدرها الناهد .
تمت .
-(2)-
تتابعت خسائره ، ولاح على البعد شبح الخراب . بدا كتمثال جامد النظرة ، شارد الفؤاد ..وقال وكيل مكتبه :
- أهناك ما يسوء ؟
رمقه بغيظ. ود لو يخنقه ..وتمتم :
- كل شيء حولي يسوء .
- ماذا حدث ؟
- لا أدري ..
- كنت شعلة نشاط !
رد شاردا :
- حلت اللعنة ، ولا أمل عاد في شيء ..أي شيء !
وقال في نفسه : " لابد من حل ..ولو .." . تجمد في مكانه . إن خاطرا ينتشر في نفسه انتشار النيران في الحطب . خاطر يشل حركته..وصرخ وقد تسللت دموع من عينيه كانت أسيرة :
- لا ..لا ..
وقال وكيله وهو يربت على كتفه :
- لابد أن تستشير طبيبا أو تأخذ إجازة ..
لم يكن ليسمعه ، وقد عادت نفسه تنفث في رأسه أن اقتلها ..لا حل أمامك سوى أن تموت هي حتى تتزوجها .اتجه إلى الحائط ليضرب رأسه فيه لولا أن أسرع إليه وكيله واحتضنه .كان أشبه بثور هائج ..وصرخ : " لن أفعل ..لن أفعل ." ، وسقط مغشيا عليه .
-(3)-
تساءل في غربته : " لماذا الآن وقد كانت أمامي قبل أن أبني بأختها ! " .عجب من سطوة الحب التي استعبدته . ود لو يغمد في صدره خنجرا ، وينتهي كل شيء ..وقالت زوجه :
- جاء خطيب لأختي ..
انفجر بركان داخله ، وثارت حمم . لم ير غير ظلمة ..وأردفت :
- إنها قصة حب طويلة ..
أووه ..لتكن إرادة الأقدار ..وتابعت تقول :
- لابد أن تحضر معي . قد أكدت علي ..لم لا تتكلم !
هز رأسه متمتما :
- سوف أحضر .
-(4)-
على غير عادته قام من نومه مبكرا، وقد نام طول الليل على غير عادته أيضا . كان متدفق الحيوية وكأنما استحال إنسانا آخر .ابتسم مما أثار زوجه ، وقالت دهشة :
- ماذا جرى لك ؟!
- ستنتهي اليوم الآلام .
- عادت إليك حيويتك ..
- ألم أقل أن آلامي سوف تنتهي اليوم .
- حمدا لله على سلامتك .
رد وقد شحبت ابتسامته :
- ليس معنى انتهاء الآلام ، حدوث السلامة .
- ماذا تعني ؟
- لكل أجل كتاب .
-(5)-
امتلأت الشقة بالأنوار ، وعلت الزغاريد . بدت في ثوب خطبتها أميرة . اقترب بخطوات قصيرة منها . كان يصوب عينيه إلى عينيها ، ولأول مرة يلحظ اهتزازها وكأنما تسلل من عينيها إليه شيء ، غير أنها ابتسمت حين اقترب . مدت يدها فمد يده إلى جيبه ، وأخرج مطواة رشقها في صدرها الناهد .
تمت .
هدية عيد الميلاد
( يا رب السلام ، أمنح اليتامى السلام )
بعد جدال طويل مع نفسها ،وزعت فيه الكثير من الاحتمالات بين الجرأة وفقدان ماء الوجه ، جدال تولد من جرائه أن تنظر بشفقة إلى حالتها ، كونها زوجة شهيد ، ولم يمضي على استشهاد زوجها أكثر من شهرين ، ولأول مرة سيمر عيد الميلاد دون أن يأتي بابا نويل ويقدم الحلوى والألعاب إلى طفليها .
أجهشت في البكاء لسوء حظها ، ولقلة حيلتها ، هي واثقة أن ما تبقى من عمرها سيكون الحزن فيه كثير والفرح قليل ، ما ذنب الأطفال !! لقد دأبت منذ شهرين على توفير المال اللازم لشراء هدية عيد الميلاد ، لكن خوفها من كلام الجيران يجعلها مترددة ، مشت بخطوات متثاقلة نحو النافذة ، ونظرت بعينين حزينتين إلى القمر ، كان ضوءه شاحباْ ، لكنه عنيداْ ، يرسل ضوءه القرمزي من بين فراغات الغيوم كلما سنحت له الفرصة ،استدارت نحو صورة زوجها الشهيد ، وتأملت ابتسامته الرقيقة ،المتنافرة مع قسوة لباسه العسكري وتمنت لو انه حي يرزق، كم كانت الأمور سهلة بحضوره ، شحب وجهها أكثر وهي متسمرة أمام الصورة ، فأخذت تصلي قائلة : ( يا رب السلام ، امنح اليتامى السلام) تلاحمت دموعها مع اسمنت أنفاس تلاشت منذ سنين ،كل ما تمني به نفسها لعبتين لطفليها ، التفكير دون جدوى عمل متعب لانهاية له ،ولم يكن لها من الشجاعة ما يمكنها من النطق بكلمة ، كل شيء ضبابيا ، هذا العيد يرمز لنهاية كل شيء بالنسبة لها. : أنا من يتحمل الشقاء ،راحت تنتحب من جديد ،كانت تفكر أيضاً بزوجها ، مازالت تذكره تماماً ، كان الجميع منشغلين ويحدثون الكثير من الضوضاء ، والنواح يفتت الأكباد ، كانت نسوة القرية بلباسهن الأسود وشعرهن المنفوش يتجمعن حول أم زوجها ، التي شمرت بيجامتها إلى فوق الركبة ، وراحت تلطم وجهها دائخة حتى ازرقت وجناتها ، وتشد شعرها ، صارخة، باكية، مولولة وكن يتوقفن عن النواح فجأة ، وما أن تبدأ أحداهن بالبكاء حتى تنتقل النساء إلى حالة العويل وكأنهن يحطمن شيء مقدس ، أما الأب فقد جلس في الغرفة يذرف الدمع فمن المعيب أن يبكي الرجل بحضرة الآخرين ، لقد أيقن أن كثرة البكاء في زمن الحرب هو انهيار مفزع ، كما كان يود أن يبدو شجاعاً في عيون جميع المعزين ، ولهذا السبب نزل خارجاً إلى ساحة القرية ، يصافح الرجال غير مبد لخيبة الأمل ، ولا للحزن بطريقة جافة .
إن قلبها مرهق بكرب مفرط ، لا يمكن بعد اليوم أن يبسط جناحيه ويحلق في الفضاء ، صامتة تفكر بهذا كله ،هدها الضعف، رجفة من مرارة اليأس تعتصر روحها ،صفير مثل أزيز الجراد تحدثه الذكريات ، قالوا وقتئذ : إن جثه مقطعة الأوصال وإن رأسه مفصول عن جسده ، وهنا وهناك يتردد إن جمجمته كانت مشوهة ، محجرين بلا عيون وفم بلا لسان ، لهذا السبب قال لهن الضابط : ممنوع فتح التابوت ؟؟
كان التابوت مغطى بالعلم السوري ، ومغلق بالمسامير بأحكام شديد ، يحمله ثمانية رجال، طلبت منهم فتح الصندوق لتلقي عليه النظرة الأخيرة فمنعها الضابط بكلمات مواسية ، فارتمت عليه وهي تضاعف عويلها المؤثر ، تم نهضت كي تعود لتسقط برخاوة على الأرض ، لم يكن بالمستطاع رؤية الجثة ، كان ثمة فاصل بين بشاعة المنظر ورغبتها أن تلقي نظرة الوداع .
ابتلعت حيرتها وحدقت في الصورة ،توجس وأمل ويأس ،لو أن لحظة هدوء تنسلخ من فوضى هذا الكون ، لكانت كافية أن تحسم أمرها ،لكنها منكسرة ،الصورة ساكتة ، الاستمرار في الحزن زيف هذا ما قاله لها زوجها بعد أن بالغت في أظهار الحزن على وفاة والدتها ، تذكرت هذه العبارة ألاف المرات لتخرج نفسها من حدادها ، دون جدوى ، لم تستطع أن تتحمل الذكريات ، ففاجعة بحجم فقد الزوج لا يستطيع قلب صغير أن يتحمله،ارتسمت على وجهها ابتسامة مشابهة لابتسامته في الصورة فضمتها إلى صدرها وبكت بكاء مراْ لدرجة أدمعت عينا زوجها في الصورة ،
فؤاد حسن محمد _ جبلة _ سوريا
أرجــوحة عـلى الــهاوية:
عند الفجر كنت أحمل حبلا..
هناك ، عند التـلّـة المشرفة على الجرف سيكون الموت شهيّا.. سيكون الموت محفوفا بالعذوبة، متعاليا و له حضور فلسفيّ أو بعد صوفيّ.. حين حملت الحبل و جعلت أرتقي الحُزون وأعانق الصخر تشبّـثا . و كانت الشجرة الضخمة بانتظاري.. و لكن كيف نبتت عند أعلى التلة بتلك الضخامة الغامضة الجميلة الفاتنة ؟ لماذا انتصبتْ تُطلّ على الهاوية فوق نهر صخريّ معطل ؟ أوَ كان من أنبتها هناك قد أعدّها لتشهد ميلاد حدث عظيم هائل كالذي أصعدُ من فوري لإنجازه ؟ المهمّ أن الشجرة التي تنبت في أعلى التلّـة و التي تشرف على فضاء من فراغ شاسع، كانت تقبع خضراء يانعة سامقة شهيّة الوحشة نيّرة العرْي بانتظاري ... بلى ! بانتظاري أنا .
في الصعود إلى شجرة الهاوية ، لم أكن أتعثر رغم حدّة المكان و عسر المرقى . و كان الحبل طويلا. ذلك أنني حين خامرتني فكرة الانتحار من شاهق الأمكنة ،فكرت كذلك في احتمال التراجع عن تنفيذ المهمة الجليلة أو تغيير مسار الخطط المرسومة في البال..
" الخطّة أ"- أن اعقد أحبولة المشنقة و أشدها إلى غصن الشجرة الأصلب بإتقان. ثمّ أدع جسدي ينقذف في الفراغ الشاسع دون أن اسمح لمسافة الموت أن تطول. كذلك تكون الميتة ومضة مثل قصائد الهايكو اليابانية .عاجلة جدّا ، خفيفة لكنها تترك شعلة تتلهب كالشماريخ فوق سحيق ظلمة الهاوية . تخيلت لحين أن روحي تنفجر في محض تلك الظلمة زرقة أرجوان و لهب شفق ، يومئ بصفاء يوم لاحق .
الخطة "ب"- أن اشدّ الحبل إلى جذع الشجرة المتين .يبدو انه الجذع وتد الثلة المغروس في رحمها أن تميد بنا في الحياة الآمنة التي ما يزال الكثير ينشدها . ثمّ أدلّي بالحبل فوق فراغ الهوّة و أتدرج في الهويّ، حتّى إذا انتصفت المسافة تركته، و سارعت إلى التهشّم على الصخور الثابتة في طريق الذهاب إلى السفح السحيق . سيكون الموت آنئذ بطيئا يتلمس الدرب إلى النهاية . و لكن ما أخشاه أنّ جسدي آنذاك سيكون عرضة للسخرية. لسوف تسخر روحي منه على طريقة " جيري" حين يوقع "طوم" في فخ ، ثمّ يتخبّط هو مِنْ غبطة، ظهرا لبطن ثمّ بطنا لظهر... حينها يكون جسدي في سقوطه قد تجزّأ تدريجها أو تناقصت أعضاؤه على نحو جالب للضحك . حينها تكون روحي قد قفزت عبر منطاد ملائكيّ، و تكون قد جعلت تخفق كالعطر و تتأرّج في أرجاء الظلمةِ انتصارا بنجاتها..أو توهّم نجاتِها..
الخطّة "ج"- تكونُ حين يصيبني الجبن و أتداعى للندم فأفشل و تذهب ريح العزيمة، لا أترك الحبل الملفوف على ذراعي . حينها أكون قد نظرتُ إلى المسافة الضوئية التي تدليت منها، و لا أسمح لنفسي بالسقوط في الجزء الكبير المتبقي مِن الوحشة و الظلام . حينها لسوف تسكنني روح عنيدة جديدة تنضاف إلى روحي القديمة الساخرة ، تركبُها و تتغلب عليها تمتهنها و تغتال فيها الضحك النذلَ .
إن تلك الروح الجديدة تدفعني إلى العودة إلى أعلى التلّة ، لأسند ظهري إلى جذع الشجرة العملاقة وألتمس أنْ أتوازن...ثمّ أتمثل اللحظة التي كان جسدي سيكونها بعد أن يُـدَقّ عنقي وأتشظّى .. عند جذع الشجرة سأستعيد لحظة ميتتي المظلمة .. و لسوف أضحك بعدها من روحي القديمة " ما كان يحدث مع القطّ الكرطوني جيري ". و أتقلّب من ضحك متشـَـفٍّ صفـيق..
راودت ذهني تلك الأفكار اللائطة (لقد استوجب فعل راود صفة لائطة بالضرورة) أثناء صعودي صخور التلّة إلى الشجرة .. كنتُ فكّـرتُ، و أنا عند السفح، و كنت ألهثُ: إذا كنتُ سأعود إلى السفح و أنا ما أزال على مقربة منه، فلماذا أتكبّد عناء الصعود !؟ ولمَ لا أنطحُ رأسي في إحدى الصّخور وتنتهي المسألة بيُسْرٍ؟ (إنّها ميتة غير رومنسيّة).. أعرضت عن سؤالٍ يمنح الإحساس بأنّي جبان. و يؤشر بالتراجع عن قرار شجاع حكيم .
إنّ فكرة الانتحار قرار موسوم بالحكمة ، و المقبل عليه موسوم بشجاعة بارعة .. إنّ الانتحار فعل إرادي و لو لم يكن كذلك لما كنّا نتحمّل تبعات عقابه و نحاسب على أنّه قتل نفس عمدا . هكذا تصبح عظمة هذا الفعل في اقتران إراديّته بمسؤولية من يُقبِلُ على إنجاز تلك الإرادة .
هذا ضرب في الأفكار اللّائطة التي تراود الذهن أثناء صفائه وهو يهمّ بإنجاز مهمّة نبيلة خالدة.. ولكي أطردها وأحافظ على صفاء ذهني، جعلتُ أدندن بأغنية أعتقد أنّها جميلة:...
كنت بالغناء أبعثر تكتلات الحيرة في أعشاش حول روحي، وأحاول نسف احتمالات أنّ الخوف يتسرّب إلى كياني.. كنت بالغناء أرسِّخُ الإحساس بالشجاعة. أو أجمع منثورها في دمي.. متى رمتَ مطلوبا في نفسك ـ فاسْعَ إلى أن تُزكّيَ حضوره فيك:
إنّ الحياة قذرة، حقيرة، و ضنينة على المنح .. لذلك ينبغي أن تبترها...لا.. هذه فكرة فاجرة مغالطة. تنهض على الكذب. ولا تمثّل دافعا حقيقيّا للموت أو للانتحار .. إذن ربّما كان الصواب أنّ الحياة جميلة عظيمة و لم تكن قطّ شحيحة على العطاء السابغ .. ألم تخوّلْ لك التنعّمَ بغنائمها ونعمائها.. حسبنا مِنْ آلائها الحبّ.. تلك الطاقة الإيجابيّة المنتجة للكون.. وحسبنا من آلائها الكراهية.. تلك الطاقة الإيجابية التي تنتزع للرفض. رفض البشع في الحياة.. والبشاعة فيها، مهولة الحضور.. وعلى الكراهيّة عندئذٍ، أن تكون كثيفة مرصوصة. ''إنّ الحياة في الحقيقة سخيّة مع من يعيش أسطورته الشخصيّة ''.. كذلك حدّث باولو كويلو.. و كذلك أضاف "إنّـنا نحن من يغذّي روح العالم".
هو ذا مَكمَنُ الداء .. نحن من يـُغذّي روح العالم! و هذا هو دافعي في الانتحار.. لقد توصّلتُ إلى أنّه لم يعد بإمكاني تغذية روح العالم.. إنّ تغذية تلك الروح تحتاج إلى إمدادات من داخلٍ نَـقِيٍّ.. إنّ زيوت روحي المغذّية لجمال روح العالم شحيحة، حتى إنّها تؤول إلى جفاف.. وإنّ الفتيل تيبّس. والنور يتقلّص، فهو يَـضمُـر من بُهرته إلى ذُوِيِّ الأفولِ.. لقد أضحى القنديل صفيحا متّشحا بالقِـدم ويعفِّـرهُ سوادُ انطفائاته المتتالية ..عند الهاوية من أعلى الثلّة تحت الشجرة سأشنق ذلك الصفيح المنطفئ الصدئ الآفِلَ النور .. على نتوءِ صخر الهاوية، في ظلمة الانحدار، سيتحطم قنديلٌ ما عاد قادرا على تغذية روح العالم بنوره وجماله...
-----------
سيف الدّين العلوي / مقطع روائيّ
أرجــوحة عـلى الــهاوية:
عند الفجر كنت أحمل حبلا..
هناك ، عند التـلّـة المشرفة على الجرف سيكون الموت شهيّا.. سيكون الموت محفوفا بالعذوبة، متعاليا و له حضور فلسفيّ أو بعد صوفيّ.. حين حملت الحبل و جعلت أرتقي الحُزون وأعانق الصخر تشبّـثا . و كانت الشجرة الضخمة بانتظاري.. و لكن كيف نبتت عند أعلى التلة بتلك الضخامة الغامضة الجميلة الفاتنة ؟ لماذا انتصبتْ تُطلّ على الهاوية فوق نهر صخريّ معطل ؟ أوَ كان من أنبتها هناك قد أعدّها لتشهد ميلاد حدث عظيم هائل كالذي أصعدُ من فوري لإنجازه ؟ المهمّ أن الشجرة التي تنبت في أعلى التلّـة و التي تشرف على فضاء من فراغ شاسع، كانت تقبع خضراء يانعة سامقة شهيّة الوحشة نيّرة العرْي بانتظاري ... بلى ! بانتظاري أنا .
في الصعود إلى شجرة الهاوية ، لم أكن أتعثر رغم حدّة المكان و عسر المرقى . و كان الحبل طويلا. ذلك أنني حين خامرتني فكرة الانتحار من شاهق الأمكنة ،فكرت كذلك في احتمال التراجع عن تنفيذ المهمة الجليلة أو تغيير مسار الخطط المرسومة في البال..
" الخطّة أ"- أن اعقد أحبولة المشنقة و أشدها إلى غصن الشجرة الأصلب بإتقان. ثمّ أدع جسدي ينقذف في الفراغ الشاسع دون أن اسمح لمسافة الموت أن تطول. كذلك تكون الميتة ومضة مثل قصائد الهايكو اليابانية .عاجلة جدّا ، خفيفة لكنها تترك شعلة تتلهب كالشماريخ فوق سحيق ظلمة الهاوية . تخيلت لحين أن روحي تنفجر في محض تلك الظلمة زرقة أرجوان و لهب شفق ، يومئ بصفاء يوم لاحق .
الخطة "ب"- أن اشدّ الحبل إلى جذع الشجرة المتين .يبدو انه الجذع وتد الثلة المغروس في رحمها أن تميد بنا في الحياة الآمنة التي ما يزال الكثير ينشدها . ثمّ أدلّي بالحبل فوق فراغ الهوّة و أتدرج في الهويّ، حتّى إذا انتصفت المسافة تركته، و سارعت إلى التهشّم على الصخور الثابتة في طريق الذهاب إلى السفح السحيق . سيكون الموت آنئذ بطيئا يتلمس الدرب إلى النهاية . و لكن ما أخشاه أنّ جسدي آنذاك سيكون عرضة للسخرية. لسوف تسخر روحي منه على طريقة " جيري" حين يوقع "طوم" في فخ ، ثمّ يتخبّط هو مِنْ غبطة، ظهرا لبطن ثمّ بطنا لظهر... حينها يكون جسدي في سقوطه قد تجزّأ تدريجها أو تناقصت أعضاؤه على نحو جالب للضحك . حينها تكون روحي قد قفزت عبر منطاد ملائكيّ، و تكون قد جعلت تخفق كالعطر و تتأرّج في أرجاء الظلمةِ انتصارا بنجاتها..أو توهّم نجاتِها..
الخطّة "ج"- تكونُ حين يصيبني الجبن و أتداعى للندم فأفشل و تذهب ريح العزيمة، لا أترك الحبل الملفوف على ذراعي . حينها أكون قد نظرتُ إلى المسافة الضوئية التي تدليت منها، و لا أسمح لنفسي بالسقوط في الجزء الكبير المتبقي مِن الوحشة و الظلام . حينها لسوف تسكنني روح عنيدة جديدة تنضاف إلى روحي القديمة الساخرة ، تركبُها و تتغلب عليها تمتهنها و تغتال فيها الضحك النذلَ .
إن تلك الروح الجديدة تدفعني إلى العودة إلى أعلى التلّة ، لأسند ظهري إلى جذع الشجرة العملاقة وألتمس أنْ أتوازن...ثمّ أتمثل اللحظة التي كان جسدي سيكونها بعد أن يُـدَقّ عنقي وأتشظّى .. عند جذع الشجرة سأستعيد لحظة ميتتي المظلمة .. و لسوف أضحك بعدها من روحي القديمة " ما كان يحدث مع القطّ الكرطوني جيري ". و أتقلّب من ضحك متشـَـفٍّ صفـيق..
راودت ذهني تلك الأفكار اللائطة (لقد استوجب فعل راود صفة لائطة بالضرورة) أثناء صعودي صخور التلّة إلى الشجرة .. كنتُ فكّـرتُ، و أنا عند السفح، و كنت ألهثُ: إذا كنتُ سأعود إلى السفح و أنا ما أزال على مقربة منه، فلماذا أتكبّد عناء الصعود !؟ ولمَ لا أنطحُ رأسي في إحدى الصّخور وتنتهي المسألة بيُسْرٍ؟ (إنّها ميتة غير رومنسيّة).. أعرضت عن سؤالٍ يمنح الإحساس بأنّي جبان. و يؤشر بالتراجع عن قرار شجاع حكيم .
إنّ فكرة الانتحار قرار موسوم بالحكمة ، و المقبل عليه موسوم بشجاعة بارعة .. إنّ الانتحار فعل إرادي و لو لم يكن كذلك لما كنّا نتحمّل تبعات عقابه و نحاسب على أنّه قتل نفس عمدا . هكذا تصبح عظمة هذا الفعل في اقتران إراديّته بمسؤولية من يُقبِلُ على إنجاز تلك الإرادة .
هذا ضرب في الأفكار اللّائطة التي تراود الذهن أثناء صفائه وهو يهمّ بإنجاز مهمّة نبيلة خالدة.. ولكي أطردها وأحافظ على صفاء ذهني، جعلتُ أدندن بأغنية أعتقد أنّها جميلة:...
كنت بالغناء أبعثر تكتلات الحيرة في أعشاش حول روحي، وأحاول نسف احتمالات أنّ الخوف يتسرّب إلى كياني.. كنت بالغناء أرسِّخُ الإحساس بالشجاعة. أو أجمع منثورها في دمي.. متى رمتَ مطلوبا في نفسك ـ فاسْعَ إلى أن تُزكّيَ حضوره فيك:
إنّ الحياة قذرة، حقيرة، و ضنينة على المنح .. لذلك ينبغي أن تبترها...لا.. هذه فكرة فاجرة مغالطة. تنهض على الكذب. ولا تمثّل دافعا حقيقيّا للموت أو للانتحار .. إذن ربّما كان الصواب أنّ الحياة جميلة عظيمة و لم تكن قطّ شحيحة على العطاء السابغ .. ألم تخوّلْ لك التنعّمَ بغنائمها ونعمائها.. حسبنا مِنْ آلائها الحبّ.. تلك الطاقة الإيجابيّة المنتجة للكون.. وحسبنا من آلائها الكراهية.. تلك الطاقة الإيجابية التي تنتزع للرفض. رفض البشع في الحياة.. والبشاعة فيها، مهولة الحضور.. وعلى الكراهيّة عندئذٍ، أن تكون كثيفة مرصوصة. ''إنّ الحياة في الحقيقة سخيّة مع من يعيش أسطورته الشخصيّة ''.. كذلك حدّث باولو كويلو.. و كذلك أضاف "إنّـنا نحن من يغذّي روح العالم".
هو ذا مَكمَنُ الداء .. نحن من يـُغذّي روح العالم! و هذا هو دافعي في الانتحار.. لقد توصّلتُ إلى أنّه لم يعد بإمكاني تغذية روح العالم.. إنّ تغذية تلك الروح تحتاج إلى إمدادات من داخلٍ نَـقِيٍّ.. إنّ زيوت روحي المغذّية لجمال روح العالم شحيحة، حتى إنّها تؤول إلى جفاف.. وإنّ الفتيل تيبّس. والنور يتقلّص، فهو يَـضمُـر من بُهرته إلى ذُوِيِّ الأفولِ.. لقد أضحى القنديل صفيحا متّشحا بالقِـدم ويعفِّـرهُ سوادُ انطفائاته المتتالية ..عند الهاوية من أعلى الثلّة تحت الشجرة سأشنق ذلك الصفيح المنطفئ الصدئ الآفِلَ النور .. على نتوءِ صخر الهاوية، في ظلمة الانحدار، سيتحطم قنديلٌ ما عاد قادرا على تغذية روح العالم بنوره وجماله...
-----------
سيف الدّين العلوي / مقطع روائيّ
قصيدة بعنوان : (سورة النسف 5-الجزء الخامس)/من ديوان : من قلب القبطان/ لعلاء طبال
...
#تمهيد : بعد الفواجع التي شاهدها مزدك بن موبذان لدى اشتراكيات القرن العشرين و الحادي و العشرين، ركب بغلته و توجه إلى السماء الرابعة و هناك سمع جبريل يقول متبرماً :
- حباً بالله توقف... أرجوك أن تريم مكانك، لقد تعبت عنك
فسأل مزدك جبريل عن القضية فأجابه :
- من بلجة فجر هذا اليوم و 1"ألكسندر بوشكين" يزرع السماء الرابعة جيئةً و ذهاباً دون كللٍ أو ملل
فتوجه مزدك إلى بوشكين ليستوضح الأمر قائلاً :
- ما بك يا بوشكين ؟
رد بحزن :
-2" إن الفارس هو الإنسان الذي يعيش حياته متمسكاً بمثل أعلى كما صورت ذلك في قصيدتي : (الفارس المسكين)، و للأسف مثل هذا الإنسان لا يوجد منه على الأرض إلا بصورةٍ نادرة"
فتمتم مزدك بكلماتٍ غير مفهومة ثم قال بغم :
- متى كانت آخر مرة شاهدت بها الأرض ؟
فرد بوشكين :
- منذ مئةٍ و ثمانين سنة تقريباً وفقاً للزمن في الأسفل
تنهد مزدك و قال :
- ألقي نظرةً على الأرض
شاهد بوشكين الأرض من على السماء، فتخضلت مآقيه بالدموع و أجهش بالبكاء كطفلٍ فقد أمه... لم يرويه بكاه فأراد أن يبكي بأكثر من القلب فعزف بالناي :
- هذه الأرض لم تعد لحيٍ وطنا
ثم ردد بقرآنية أخرى :
- و أخيراً تحول العالم المادي إلى خرافة ......
...
رتل سورة النسف على رأس الوثن
ليعود الوطن المخصي إلى منفى الوطن
...
تكملة ما جاء في سورة النسف 4 (لسان حال المذلون المهانون):
لا تعجبوا من أنّتي و بكائي
فلقد لبست هماً
كهذا الكون، أكبر من مقاسي
و وقفت ند الأسى أسعى لأصرعه
فيخدعني بلحيته و يمضي
و أبقى صاغراً من غير رفضِ
لا تعجبوا من أنّتي و بكائي
من منكم يخفف عني أوجاعي
يشاطرني الهموم
من يمسح الأحزان عن قلبٍ
تجرع كل أنواع السموم
يا قهري المخبوء في عيني
أخذوا رغيفي من فمي
و ما تيسر من دمي
لا تعجبوا من أنّتي و بكائي
فالظلم قد عمَّ البرية
ألمٌ تسرب في شرايني جرى
قد صار جسمي سلعةً
لعبت به الأوجاع أصبح مشترى
أيضاً و تنحر مهجتي و أنا أرى
ضيقٌ على صدري يزال مسيطراً
لا لم يعد يجدي الحديث مع الورى
إني تمنيت الإله يميتني
أو لم أكن حياً لأعيش ما جرى
لا تعجبوا من أنّتي و بكائي
لأني قاضيت
يوماً ذات نفسي
و وجدت أني
صُلبت على باب يأسي
و الصبر هشم أم رأسي
لا تعجبوا من أنّتي و بكائي
فوا عجبي من الغربِ
يجني السلم من كربي
بفضلك أنت يا عربي
طبّل و زمر
و قل للص :
أنت نبي !
تباً لعقلك مخزون الغباء به
يلصق تهمة الإرهاب بي
__________________________
1 : ألكسندر بوشكين أحد أشهر شعراء روسيا و يلقب بأمير شعراء روسيا و هو كاتب روائي و مسرحي أيضاً، عاش بين عامي (1799 - 1837م)
2 : رواية الأبله للعملاق الروسي فيودور دوستويفسكي، ترجمة : عوض حسين، القسم الثاني الفصل السادس، الصفحة 120 و الفصل السابع من نفس القسم، صفحتي 122 و 123
__________________________
رسالة الى أختي
بقلم :فؤاد حسن محمد
أنا متيقنة أيها الموت أنك حق ولكن ما هو ذنب العاشقين ؟؟؟؟؟
-اليوم زرت قبر أختي اسراء ووضعت عليه وردة وكتاب كاللتين اهدتني اياهما يوم عيد ميلادي.
كانت هدى متعبة ، قليلون هم الناس الذين يزورون الموتى ،المرأة الوحيدة التي شاهدتها كانت تجول بين القبور عن قبر والدها الذي توفي منذ زمن طويل ،وعندما لم تستطع تميزه ،رمت باقة الاّس على الأرض وعادت ادراجها من حيث اتت .
في الهواء الطلق كانت أفعى مرقطة تسلخ جلدها فوق الحجارة ،تنسل منه بجلد لامع ، تاركة وراءها كفن هش،نظرت هدى بدهشة الى عملية التجديد ،كانت تود لو أن الإنسان يستطيع أن يقوم بهذه العملية الحيوية .
ان زيارة هدى للقبر هي محاولة بائسة لاسترداد اختها بمثابة تفتيت لروحها ،وأما ما تعيشه الآن فهي حياة من غير حياة ، وموت يلاحقها في سراديق الحزن، فظاعة أن يصبح الحزن استغلالا للموت ،تنهد ونشيج وبكاء تدفع من هم في مأساتها الى التوحد مع الألم ،الذي سيتحول الى سعادة .
الموت مجرد اغلاق باب الحياة بعد خروجك منه
محاولة استرداد روح الميت سيكون بمثابة أغلاق باب الكون سينتهي بخروج روح من يفعل ذلك .رحلة تخيلية الى نقطة يمتد أمامها مستقبلا للعب قبل الموت ، شعرت بانقباض وهي تتأمل القبر،انه اشبه بالجحيم على الأرض ،لقد أغلقت اسراء باب الحياة بعد أن خرجت منه .رغم ذلك كانت تسترق السمع الى من يزورها ،تتخذ من قبرها مرصداً للتسلية ،لم تزل تشعر بالحب اتجاه هدى ، وبغرابة لا حد لها سمعت هدى همس من عمق القبر:
-اسمعي يا هدى ...كل واحد يرقد في القبر له قصة ، وكل زائر هو جزء من هذه القصة ،انت ترين عيون الزائرين التي تذرف الدموع ،أو تمتلئ بالحزن ،لكنك ل اتعرفين اسرار هذا الحزن ،فالناس خلفيات جميلة لصور قبيحة ،والكل يروي قصص الوفاء والتفاني،فهذه المرأة التي شاهدتها تخرج من المقبرة ،زوجة تا جر ،تركت والدها يتعفن كخرقة بالية ،دون أن تقدم له كأس ماء طيلة فترة مرضه .
الناس ينظرون الى الميت بقرف ،لكنهم يستغلون الموت بالحزن ؟؟؟!!!
كان الصوت الذي يخرج من أسراء هو نفسه الذي يخرج من هدى ،بل زاد من ذلك التوحد في كل التفاصيل ،خاصة ان كل منهما يجلس في غرفته الخاصة ولا يغادرها ، حتى ان البعض تساءل من الذي مات هدى أم اسراء .
كانت هدى يراودها حسٌّ بالسعادة عندما يزداد حزنها على أختها،ذرفت الدموع الغزيرة حتى تفتت روحها ،انفعلت كثيرا حتى أصبحت عبرة للموت ،سوف تشعر بالوحدة لو لم تفعل ذلك ،هكذا كانت اسراء الطيبة القلب تكدح بدون ملل في رعاية أختها وتتحمل مسؤلية ذهاب هدى الى الحمام وتحضير الطعام .
إن هدى لتتذكر جيداً كما لو أن الأمر حدث منذ لحظات ،كيف كانت إسراء تقف عند باب الغرفة وهي تحمل الأشياء الثقيلة ،شعور بالبهجة يتملك هدى حين تسمع أختها تدلعها :
-هدهد ..أنظري ماذا جلبت لك ؟؟؟
خريطة الحزن معقدة داخل قلب هدى ،يغرس مخالبه السوداء في رئتيها فتنفجر في حنجرتتها شهقة قبل ان تختنق بالبكاء،صورة أختها المعلقة على الحائط ،تتابع حركتا وهي مقيدة على كرسيّ المتحرك ،تراقب وجهها بعينيها الحلوتين ،ترسل لها قبلة بالهواء كلما أنفجر الحزن في قلبها ،تسحبها معها الى نهاية العالم ،لتبحثا معاً بين أشلاء الذكريات عن ذرة أمل في التلاقي .
فظاعة ان تصبح الذكريات بيت عنكبوت يصطاد الأحبة كالحشرات،كانت تنظر الى الصورة نظرة تلو النظرة ،لكي تصبح عيناها أكثر لمعانا على الرغم من شعورها من النظرة الأولى أنه العبث في العودة من متاهات العدم.
الذكريات تنثر أقواسها حولها على هيئة دمية تشبه أختها ،دمية تطلب منها التوقف عن البكاء الذي يتضخم داخلها كالسرطان ،وتطلب منها أن أتوقف عن الكتابة التي تصل الى الكثيرين لكنها لاتصل الى المقصود بالكتابة.
طفقت هدى بنظرها تجول الأشياء التي واكبت حياتها عندما كانت على قيد الحياة،تذكر هدى كل ماعاشته عيناها مع أختها ،هنا عاشت وهنا فرحت وهنا حزنت وهنا ايضا ماتت .
جلست تراقب الصورة ،يتنافذ الى رأسها جمال أختها وستره ،كانت مستغرقة في فحص اسرار الصورة علها تكتشف لماذا هي حزينة لفقدها ،بعد عشر ثوان من التأمل تصدر نحيب مكتوم ،ينساب على خدها دمع حرّاق يحتضن روحها التي سرقت من صدرها ،ليتها تستطيع أن تنهض عن هذا الكرسي اللعين وتلمس الصورة،يتصاعد نحيبها حتى تتقطع أنفاسا ،فتتكور على نفسا ،لا...بل تدفن نفسي في قبر الذكريات.
تشعر بالوحدة ليس هناك ما تهتم به ،تشتت الشمل ،ربما لم يخطر ببالها يوما أني ستفارقها،هي رضيت بنصيبها أن تودع هذه الحياة أما هي فلم ترضى ،هي حظيت بموت سريع وهدى حظيت باّلام بطيئة.
دفعت عجلات الكرسي المتحرك الى الشرفة ،تحاول أن تمد رقبتها لترى وجه أختها بين المارة ،بذلت كل هذا الجهد لعلها تسمع خطوات أختها بين المارين في الشارع ،، مع مرور أخر شخص تشعر بشئ ما يقفز في صدرها ،تطرق الظنون رأسها لن تعود ؟؟؟ ،القيت بعقلها جانبا ،اعتلت درجات الحلم ،لم تتوقف في الصعود حتى رأت وجه أختها يطل من خلف الجادة ،تلمح في يدها وردة حمراء وكتاب ،لحظة توحد في غفلة الزمن ،تسمع صوتها ينادينيها ،تبعثرنها الخطى وهي تركض نحوها ، حتى تتقطع أنفاسها ،ويغمى عليها ،خيل اليها أنها تسمع ثمة صوت يصل اليها من أعماق الماضي :
- هدى ..هيا تعالي
راحت أسراء تكرر النداء ..تعالي ...تعالي ...اعبري حاجز الموت ...هيا ...لا تخافي .
تشبثت هدى بالكرسي المتحرك بكل قوتها ،لاتريد مغادرة هذا الكرسي ،أستيقظت هدى من غيبوبتها،تطلعت بعينين جامدتين الى وردة حمراء وكتابان ملقيان على صدرها.
ايحاءات
حالة من الهدوء المفاجئ وغير العادي بسبب من الصمت ، شئ غير مألوف ، وقف شاحب الوجة ، سخيف المنظر ، كان فمه قد تدلى نصف مفتوح من الخوف ، ولم يغلقه طيلة فترة النظر ، تقدم من الكأس متعباً مذعوراً، وكاد يصرخ بصوت دائري مجنون :
-من شرب الكأس مادمت موجوداً وحدي !!!!!!!!!!!
لكن أنة خافتة باكية ،تشيه مخلوق صغير سحق تحت الأقدام ، ندت منه:
_أأأأأ...أأأأ؟؟؟؟؟
سمع صوت يشبه زفير الهواء ، يتوهج كسكين ، رفع ناظريه وتلفت ، عدم الأنصات الى العالم الحقيقي ، كان طريقة لاسستراق اصوات أبعد وأكبر:
_ ما اّ اّ اّء ؟؟؟!!!!
استغاثة ساخرة متحدية ،بدت عنيفة كصوت صقر ، تبعتها قهقهات بعيدة تردد صداها خلف الصوت في الغرفة ، اشباح تتأرجح قربه ، مخبئة نفسها مابين الستارة والنافذة.
ترنح على الكرسي ، لقد أنفرط عقده ، سوف يشعر بالخوف عندما يسدل الليل استاره مادام وحده ، العبوس يعلو وجهه الذي أظلم ومال الى السواد،استدار فجأة نحو النافذة ، إنه لايعرف مصدر الصوت ، صراخ بألم ونفاذ صبر :
_ماا اّ اّ اّء؟؟؟!!!!!!!!!!!
اجتاحته ثورة مجنونة ، فجأة لمح صورة أمرأة احتلت مساحة النافذة ، وبحركة طائشة من يده حاول أن يبعدها ، بدت المرأة شكل متفرق بث الرعب في أوصاله ، لقد تمزق قميصها الباهت ، وتشعث شعرها بفعل الريح والغبار ، والحقد والأضطراب في عينيها ، وبدت وكأنها ستقتله ،حلت القماط الذي يشد طفلها ، وشدته الى صدرها ، وأعطته صدراً متدليا ليرضع ، وقد حملته بذراع واحدة .وهي تنوح:
_مات ابني ولم ألفه بالقماط
ولم اهدهد له السرير
ولم يشرب من صدري الحليب
تنهد الرضيع وتنهد ، نظر اليهما بعيون فزعة ، اشباح تسللت في ظلمة الليل ، تساءل عمن مات كيف يعود ، طارت منه صرخة جبانة عبر الهواء في الغرفة ، عندها تذكر من هو الرضيع ومن هي أمه .
رجال متوحشة كالضباع ، ساقوهم كقطيع عبر الارض الجبلية الوعرة ، لقد واصلوا المشي حفاة أشباه عراة ،كان الرضيع مشدود الى صدر أمه ، تلك الحزمة الباكية المدلاة على يدها عرقلت تحركها طيلة الوقت ،برافقه ذلك النحيب القاسي كوتر مشدود ، الرجال غاضبون منها ،وبخها بعبارته المتكررة :
_ انت عاهرة ملعونة
صرخت بألم ونفاذ صبر :
- ماء ....أريد ماء
نزع الرضيع من صدرها وألقاه بعيداً الى الأرض ، سمعت طقطقة عظامه ، لمحت أمه ماحدث ولهثت بأعين باكية وصاحت :
_ اواه...اواه
علمت ان ابنها مات ، كانت تنوح ، جلست على الأرض ، نكزها بقدمه كي تتابع المسير ، ولما رفضت ، قطع جسدها بالحجارة حتى نزف جسمها ، عندها أنطلقت صرخة قاسية عبر الهواء في الوادي .
_ ماء....ماء؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
هو الأن خائف من الأموات ،وسوف يشعر بالخوف كلما كان وحيداً ويسدل الليل استاره خلفه، خائف من الأرواح الطيبة التي تطوف في السهول والتلال ،وهي تصرخ :
_ماء...ماء
فؤاد حسن محمد-جبلة - سوكاس
في المساءِ ، هجعَ العالم.. فتزيّنتْ تلك المرأةُ. انكشفَ مِنْ جمالِها ليلاً ما كان متواريًا في النّهارِ(لا يجتمعُ ضوءان في ظلمة رجل واحد).. ها أنا ألاحظُ التّناسُقَ بين أبيضِ الفخذيْن وأسود "الجونيلاّ".. ها إنّي لذلك أستحضِرُ الآن قولَ رولان بارت في "لذّة النصِّ": " أليس الموضِعُ الأكثرُ إيروسيّةً في جسدٍ ما هو حيثُ ينفرِجُ اللّباسُ؟...إنّ ما هو شبقيٌّ كما بيّن التحليلُ النفسيُّ ذلك جيّدا، هو التقطّعُ: تقطّع لمعانِ البشرةِ بيْن قطعتيْن من اللّباسِ [السروال، القميص] بين حافّتيْن[القميص الموارَبُ، القفّازُ والكُمُّ]،هذا اللّمعان ُ الذي يفْتِنُ." .. ها حضرتْ أنثايَ بأنوثةٍ كاملةٍ .. حتما تـَنْوِي بحضورِها الشّبِقِ إيقاظَ كلِّ عصافيرِ اللذّة الغافية.. حين تحضرُ الأنثى بأبّهةِ بهائها تلك، فإنّها تكونُ قد تغذّتْ بروحٍ استعماريّةٍ قاهرةٍ.. كانتْ أنثاي آنذاك تقترِفُ شكلا مِن أشكالِ الغزوِ الإمبريالي عسكريًا و ثقافيًّا.. إنّ شبْهَ العُريِ الذي تجلّى في زيٍّ كان يُبْديه على نحْوٍ اجتياحيّ، يحْمِلُ مشروعَ صَدْمٍ حضاريٍّ..
يبدأ الصّدمُ الحضاريُّ لِبُهْـرةٍ نورٍ مكتسِحَةٍ، تُثيرُ شيئًا من انبهارٍ آسِرٍ(كلّ بُهْرةٍ هي بالضّرورةِ مُبْهِرةٌ).. حين يتلألأ الجسدُ بضوْءِ بياضِ لَحْمِهِ، تنكسِرُ الأضواءُ الأخرى، و يرْتعِشُ المصدومُ خوْفًا على هويّةِ وجودٍ مُهدَّدٍ..حين يترقْرَقُ ضوءُ الفخذيْن أو ما شابهَ، تلتطِمُ ظلماتُ الكيانِ في الكيانِ،و تصطرِعُ خفافيش الدّواخلِ المعزولة بحثًا عن منافذِ للخلاصِ مِن نورٍ مُعْشٍ.. إنّ هويّةَ الذّكورة حين يترقرقَ بياضُ جسدِ ما تحت "الجونيلاّ" تختلِجُ.. للجسدِ الذّكوريِّ، قبلَ غزوِ الجسدِ الأنثويّ، هويّتُهُ الشّامخة.. إنّه جسدٌ ثابتٌ راسخُ الإيمانِ بقوّةِ سلطتِه وسلطةِ قوّتِه. وفيه مِن الاعتقادِ بأنّه غيرُ قابلٍ للقهْرِ ثـِقة مطلقة أو تكاد.. كان جسدي قبل أنْ يُهرَعَ إليّ عُريُها، آهِلاً بالامتلاءِ، واثِقًا، منصرِفًا إلى خيالاتِ متعةٍ أخرى يَصْنعُها كتابٌ عظيمٌ تتصفّحُه يدايَ.. كان ثمّة في الكيانِ زوايا مظلمةٌ تجولُ في أرجائها خفافيش مطمئنّةٌ مستسلمةٌ للسوادِ الغامقِ المتخثِّرِ، وقد ارتختِ النّفسُ في طمأنينتِها الوجسةِ .. حين أومضَ في الجسدِ بَرْقُ حضورِه العاري، فزِعَ الظّلامُ وارتطمتْ كائناتُه التي تحتفِلُ في ظلمتِها بِبعضِها البعضِ. فتأهّبَ للضّوءِ .. حين تقدّمت تلك الأنثى نِصْفَ مستورةٍ، نسيتُ مسألة الهويّة.. إنّ لكلا جسديْنا هويّتَه المخصوصة.. ومِنْ لقاءِ النّور والظلمة (ربّما النور بالنّور) ومِمّا يكونُ بينهما مِن صِدامٍ تاريخيّ ستكونُ للجسدِ الجديد(إنّ الجسديْن آنئذٍ واحِـدٌ) هويّة مولّدة.. أليس حوارُ الحضاراتِ تناغماً جدليًّا بيْن الذاتِ والآخرِ.. كان جسدي وهو يَهُمُّ بالصّدامِ، و يُحاورُ، يُقدِّمُ أنموذجَ خصوصيّةٍ فريدة مستعدّةٍ للتفاعلِ مع أنموذج خصوصيّة أخرى..
سيتيحُ لنا لقاءُ اليومِ أنْ نختبِر مدى فَهْمِ كليْنا للرومنسيّةِ.. لن نختبِرَ فهمَنا لها فحسب، بل نختبر أداءَنا الرومنسيَّ .. لن تكون المناسبة مناسبة َ كشفِ تمكّنٍ بطوليٍّ(كما حدّث صديقي الذي حدّثتكمْ عنه في موضوع فتوحِه) ولا امتحان طاقاتِ الفعلِ البشريّ الفـَذّ.. تلك المسألة تحدثُ تلقائيًّا في تضاعيفِ النّزهةِ التي تنجِزُها الأجسادُ،إذنْ لا محيد لنا عنها.. علينا حينئذٍ أنْ نستعدَّ للنزهةِ المثيرةِ ذاتِ النّزوعِ الرّومنسيِّ.. ونحن حينئذٍ، مُجبرون على أنْ نتساءلَ حول الاختلافِ الجذريّ:
ما الفرْقُ بيننا وبين أيّ حيوانٍ يُمارِسُ تلك السياحةِ أيْ في خروج الجسدِ مِنْ دائرةٍ قطبيّة إلى دائرةٍ قطبيّة أخرى؟
أمّا لحظة الفعلِ حيث يشهَدُ الجسدانِ نخوةَ الهويّةِ الخاصّة الخالصة، و يندمجانْ في الحوارِ اللاّهبِ،فنحنُ فيها نُضارِعُ أيّ حيوانٍ آخرَ، تُوحِّدُنا حركاتٌ متشابهةٌ.. نتقاطعُ في ازدحامِ الشهوةِ و تصاعدِ وتيرةِ الصَّبْوةِ. وقد نسكرُ بتوحّشِنا ونَطْرَبُ للّهاثِ المُطرَّزِ بالعرقِ المُقدّسِ.. و أمّا ما يسبِقُ ذلك الفعلَ و ما يليه مِن طقوسِ النّزهةِ النّزيهة فتلك هي حدود الرومنسيّةِ الفارقة:
الجسدُ الذي يُقبِلُ عليْك،إليْك، متردِّدًا بيْن لونيْن،متردِّدا بيْن حاليْن ـ احتجابٍ و تجلٍّ، و قيمتيْن ـ عُرْيٍ وسِتْرٍ.. ما تمنحكَ اللوحةُ مِن انفعالٍ عُذريٍّ عمّا قريبٍ يستحيلُ إلى تفاعلٍ "عذباحيٍّ" .. إنّ الانفعالَ العذريّ الانطباعيّ الأوّل الذي يُداهِمُ روحكَ ويجعلك ترتدُّ مزدرِدًا ريقَكَ منتِجًا حواراتِكَ الباطنة َ:"أهذا الجسدُ الكلّيّ لي !؟ أهذا المَدُّ المَوْجِيُّ الدّافقُ نحوي يطلبُ ساحلي أم غياهبَ العُمقِ !؟"..إنّ ذلك الانفعالَ هو الفارِقُ الرّومنسيّ بينكَ وبيْن دُبٍّ مثلاً أو كلبٍ أو ديكٍ.. إنّ الإجابةَ عنْ سؤالِ: لماذا لمْ تأتِكَ الأنثى عارية تمامًا أو مستترة تمامًا منذ البدايةِ، تحدِثُ الاختلافَ بينك و بيْن كائنٍ حيوانيٍّ.. إنّ الاستتارَ التامَّ في مثلِ هذه الحالاتِ لا يمنحكَ الإحساس بأنّكَ معنيٌّ بالاستدراجِ و الإغواء و بأنّكَ الرّجولة المطلوبةُ المُسْتَنْفَرَةُ المعمولُ على إرْباكِها.. كما أنّ التعرّي التّامَّ إجهازٌ فوْريّ على التخيّلِ الفنّيّ الذي يُهيّءُ لك تصاميمَ إنجازِ قصيدةٍ أو نصٍّ فاتنِ العظمةِ ذلك أنّ التعرّي الكلّيّ جهوزيّة غير مُثيرةٍ لاحتمالاتِ التّشكيلِ الذّهنيّ المُجرّد.. و هي بذلك إجهازٌ.. في حين أنّ التعرّي النِّصْفيّ أو الثلثيّ هو إحالاتٌ خاطفةٌ على حضورٍ شاملٍ بارعٍ.. ما مِنْ حضورٍ عظيمٍ إلا تسبقُه إشاراتٌ لطيفةٌ دالّة.. انظرْ مثلاً حضور الوجودِ الكونيِّ وخلقِ الدّنيا كيف تمّ الإيماءُ بحدوثِهِما وحلولِهما(.الصّدمة الكونيّة العُظمى).. انظرْ مثلاً تبجّسَ الأنهارِ الكبْرى أو انفجارَ تسونامي أو انفلاتاتِ حِممٍ بركانيّةٍ هائلة.. أو تصدّعَ هويّةِ أمّةٍ أو بدايةِ أفولِ حضارةٍ أو لمعانِ بريقِ أخْرَى.. انظرْ مثلاً كيف تولَدُ الصاعقة... هكذا يكونُ نِصْفُ العُرْيِ الذي هو نِصْفُ السّتْرِ و اللّذانِ هما معًا إحالةٌ على الشّيْءِ وضديدِهِ في آنٍ، إيماءً بليغًا على حدوثِ أمْرٍ جلَلٍ: انصهارِ الهُويّتيْن المتنافرتيْن في بوتقةِ المعدنِ الواحدِ.. لا غَرْوَ أنّ الأنثى التي تأتيكَ بالأمرِ العظيمِ تكونُ على وعْيٍ أو حَدْسٍ بِفَنِّ استنفارِ المعاني الضّامرةِ، و تكونُ على دربةٍ رفيعةٍ مِنْ خوضِ صراعٍ رومنسيٍّ جارحٍ.. كما لا غرْوَ أنّ الأنْثَى التي تحلُّ في حضرتِكَ مستورةً تمامًا أو عاريةً تماما تكونُ على فهاهةٍ تامّةٍ و عَيٍّ أصمَّ يسْتغْلِقُ بِهِما فهمُها عن خافياتِ أسرارِ تلك الحضرةِ الذكوريّةِ (قدْ يَحدثُ ذلك في المباغي حيثُ يكثُرُ الاحترافُ و لا ينتظرُ المرءُ حضورًا رومنسيًّا منطويًا على الجمالِ)..
لقد أوحى لي حضورُ تلك الأنثى المراوغُ بأنوثتها الكاملة الكامنة و بِعرْيِها النّصْفيِّ بتلك الخواطِرِ السريعةِ و بذلك الشِّعـْـرِ النَّقِيّ.. تهيّأتُ للنّزهةِ.. حثثْتُ رومنسيّتي المُبَعْثَرَةَ في الدّواخِلِ على أنْ تتجمّعَ.. قلتُ:" إنّ الأمرَ الذي سوف يحدُثُ عظيمٌ.. لا بُدَّ أنْ يكونَ الاحتفالُ بعيدِ ميلادِها " فارقًا رومنسيًّا.. عدّلتُ جِلْستي.. كنتُ، حين أتتْ نِصْفَ مُسْتلْقٍ. و حالما حلّتْ أنوثتُها الاستعماريّةُ، أخذتْ هويّتي في الانحناءِ، فاعتدلتْ جلستي.. وضعتُ الكتابَ:"بيت الأرواح" على كومة الكتبِ التي تتكدّسُ حذو سريري.. (إنّني حين أتخلّى عن كتابٍ فلا ينبغي أن يكون ذلك إلاّ لـشأنٍ يُضاهي شاْنَهُ أو يفوقُه، ولا يكونُ ذلك إلاّ لمتعةٍ لها حَجمُ متعةِ كتابٍ جميلٍ أو ترْبو عنها.)..تعثّرَ الكتابُ في مزدحَمِ كدس الكتبِ ، فسقط.. ذلك أنّ لهفةً خفيّة خلتْ مِن الاتّزانِ، كانتْ قد قادتْ يَدَيَّ إلى وَضعِهِ بيْن الكتبِ وضعًا عشوائيًّا (إنّ سقوطَ كتابٍ أحِبُّهُ ولم أنْهِ بعدُ قراْتَه، يؤلِمني كثيرًا و لا يُمكنُ أنْ يُخفِّفَ هذا الألمَ إلاّ حدثٌ يرتقي في المنزلةِ إلى مرتبةِ ذلك الكتابِ، أو يمكنُهُ أنْ يُلملِمَ هذا الذّعْرَ و يكْنِسَ صوتَ التهشّمِ الذي لا يسمعُه سوايَ حين يسقط شيءٌ نادرُ المتعةِ مثلُ كتابٍ).. هكذا إذنْ أغلقْتُ الكتابَ(يعني قطعتُ لحظة َ انهماكٍ في بُرْهةٍ عاليةٍ من اللذّةِ والجمالِ).. وعدّلتُ جلستي(يعني خرجتُ مِن حالةِ استسلامٍ لِـهيئةٍ جديدة أخرى آملُ أنْ تكونَ أوْسعَ ارتخاءً).. وضعتُ الكتابَ جانِبًا فسقط(يعني أنّي تصرّفتُ بِفجاجةٍ لا تليقُ بكائنٍ ناعمٍ مُسالِمٍ مثل كتابٍ يحْوِي بين نعومتِهِ الظّاهرةِ دنًّا مِن نبيذٍ أصيلٍ مُعتّقٍ)..
أعتقِدُ أنّ تعديلَ الجلسةِ بالخروجِ مِن الاستلقاء إلى الأهِبةِ و مِن الأهِبةِ إلى غَلْقِ الكتابِ و وضْعِهِ على كُدْسِ الكتبِ ثمّ سقوطِه العشوائيّ المؤْذي الذي حسّسني بالإثْمِ، كلَّ تلك الأشياء التي أنْجـِـزَتْ في سريعِ الزّمنِ، كانتْ تعبيرًا أصيلاً عن عُنْفٍ احتفاليٍّ شديدٍ و عنْ إمضاءِ ميثاقِ التّخلّي عنْ هويّتي الأصيلة التي أنطوي عليها أمام هذا المَدِّ الاستعماريّ الامبرياليّ الزّاحفِ: أنْثَى نِصفُ مستورةٍ تجرؤُ على اقتحامِ العزلةِ وترْبِكُ الثّوابتَ ـ أعتقِدُ أنّني بتلكَ الخطوات التي خطوْتُ، أخرجْـتُ الأمنياتِ مِنْ طوْرِ الاحتمالِ أو الاستحالةِ إلى طوْرِ الإمكانِ و التّحقّقِ.. لقدْ فجّرتُ شماريخَ الضّوءِ الملوّنةَ ..رمّمتُ أضوائي الدّاخليّةَ المنسوفة..
حين هَمَمْنا بالمتعةِ نُعاقِرُها وبالغنائمِ نتشاطرُها لمعتْ ذكرى خصومةٍ قديمةٍ في ذاكرةِ تلك المرأة التي أستلبُ معها هويّتيْنا. و تِباعًا، ترادفتْ الذّكرياتُ البذيئةُ على الحضورِ الرّومنسيِّ الذي تنكسِرُ فيه الهُويّاتُ.. وحين أوشكت الهُويّةُ أنْ تفقِدَ نَخوتَها، كان لابُدَّ أنْ يجْـفلَ الجسدُ و أنْ ينفجِرَ اللغمُ.. بصقْنا معًا على الرّومنسيّةِ الرّخوةِ..
_______________
سيف الدّين العلوي/ من روايتي القادمة
23- الطلي والجمعية
الطلي بالمفهوم العامي هو الخروف الذي ينساق الى الذبح دون اعتراض قدم مجموعة من الطليان الى اسد الغابة طلبا بتأسيس جمعية للطليان . أستغرب الاسد لهذا النوع من الطلبات وهو غير وارد في ذهن وتفكير هذه الغابة فكيف اذا يقدمون مثل هذا الطلب تريث الاسد بالاجابة على الطلب وطلب من سكريتره الخاص أستدعاء هؤلاء الطليان . دخل الطليان جميعهم أي المؤسسين وتحدث كبيرهم مع الاسد وقال له لماذا انتم مصرون على تأسسيس جمعية للطليان وماهي اهداف هذه الجمعية وانتم تعرفون اننا هنا لانسمح بأنشاء تجمعات قال الطلي الكبير ياسيدي الاسد نحن اردنا ان نوفر عليكم العناء في كيفية الحصول على الطلي وكذلك نحن على استعداد لتقديم الطلي حسب الموصفات المطوبة من سيادتكم بدلأ من الضرب والشتم واستعمال الكلمات البذيئة عندما ترغبون في اكلنا أو ذبحنا بالرغم من قناعتنا وايماننا بأننا بالنتجية نؤكل ونذبح ونموت وحتى في بعض الاحيان تحرمون علينا الماء نشربه قبل الذبح فقلنا مع انفسنا أننا على استعداد لنقدم اليكم احسن الاكلات والاطعمة وبشتى الصنوف وحسب الطلبات ونحن على استعداد لكفاية كل ولائمكم وحاشيتكم وضيوفكم المحترمون هذه هي اهداف جمعيتنا . وافق الاسد على تأسيس هذه الجمعية وقال مع نفسه فيما اذا اخترت رئيس الجمعية لوليمة هذا المساء هل ستبقى الجمعية على حالها فنادى الاسد رئيس الجمعية وقال له اريدك اليوم انت بالذات وليمة هذا المساء فاجاب الطلي اني رئيس الجمعية حاضر ياسيدي . وفعلا تم اكله حسب العائدية . وفي اليوم التالي تقدم رئيس الجمعية الجديد الى الاسد وقال له حاضر ياسيدي انا رئيس الجمعية الجديد وثانية فكر الاسد هل هذه الجمعية ستستمر . فناده وقال له غدا اريدك انت وجبة غذاء دسمة . فصاح الطلي حاضر ياسيدي . فجرى لما اراد الاسد في اليوم التالي . وفي اليوم اثالث تقدم طلي اخر وقال له سيدي الاسد أني رئيس الجمعية الجديد ... اقتنع الاسد أن هذه فعلا جمعية أنسانية ملتزمة ولابد الحفاظ عليها واصدر أمرا الى الجميع عدم التحرش بالطليان الا عن طريق طلبات تقدم خطيا الى رئيس الجمعية من قبل حاشية الاسد او من قبل مسؤوليه وموظفيه . وهذا اول انتصار تحققه جمعية الطليان واعتبرته نهاية للبطش والقتل العشوائي واصبحت الامور منظمة وتخضع الى قوانين وانظمة مما يصبح الطليان في مأمن من الخطر والاهانة والغش الا أن الطلبات أصبحت لاتطاق وبشكل يومي من كثرتها مما اثقلت الجمعية بالأعداد الكبيرة المطلوبة فأنتهز رئيس الجمعية هذه الفرصة الثمينة وطلب مقابلة الاسد . ووافق الاسد على مقابلته ودخل الى قصره وهو يحمل اطنان من الطلبات فقال الاسد ماهذا يارئيس الجمعية قال هذه كلها طلبات مقدمة الينا ونحن قلنا مع انفسنا لو اراد سيدنا الاسد ان نحضر له مجموعة من الطليان لوليمة كبرى سوى كانت على شرفه او شرف ضيوفه من خارج الغابة او احتفالات رسمية بمناسبات وطنية . هل نستطيع ان نلبي كل هذه الطلبات موازية للطلبات هذه فاذا بالاسد ينفعل ويصرخ ويقول لسكرتيره اصدر أمر رئاسي يمنع منعا تقديم أي طلب الى الجمعية الاعن طريقنا وبموافقتنا الشخصية صدر المرسوم وحدد هذا اليوم عيدا وطنيا لجمعية الطليان يحتفلون به على مر الزمان لانه عيدا وطنيا بحق . والسؤال امطروح لماذا أحتفل الطليان بهذا
اليوم ؟ .
الشريط الأحمر .....
في يوم ربيعي غائم ولد أسد صغير ...اقترب من أمه ...أرضعته ...حاول الوقوف ...لم تسعفه قدماه ...حاول كثيرا ....أخيرا بعد أيام استطاع الوقوف....ثم اشتد عوده ... حملوه ليشهد معهم تدريبات السيرك ....وضعوا شريطا أحمر على الأسد المتدرب عدم تجاوزه وإلا انهالوا عليه بالسوط يجلدونه دون رحمة ....
قرر المدرب أن يبدأ بتدريبه رغم صغر سنه ...أصبح أكثر قوة وشراسة ...
ذات يوم اقترب من الشريط الأحمر أوسعوه ضربا حتى تقرح جلده....حملوه إلى قفصه ...لم يجد أمه ..أخبره أسد مريض في القفص المجاور أنها لم تعد تقوى على التدريب والمشاركة في عروض السيرك لذلك أطلقوا عليها الرصاص وتخلصوا منها ...
يلتهم السوط جسده دون رحمة ....يحاول جاهدا التعلم بسرعة لتفادي سياطهم ....أحضروا له لبوة صغيرة أدخلوها معه ذات القفص... زأرت مرحبة به بحياء ...اقترب منها رأى في عينيها صورة أمه ...
بعد شهور كان يشير بعينيه لشبله الصغير يزأر بقوة وشدة يخبره عن مصيرهم في هذا السيرك ...
قال له : لتتجنب سياطهم عليك تنفيذ رغباتهم وعدم تجاوز ذاك الشريط الأحمر .......بقلمي
السيدة غدير محمد وليد عبارة /سورية حمص
كتبت في مصر المنيا ٢ / ٨ / ٢٠١٧ م
قصة قصيرة جدا.
#حلم_حمامه
..
فِيْ قَلْبِ الْقَرْيَةِ
هَذَا اْلِطْفلُ...
.. يَرْسُمُ بِالطُبْشُوْرِ
جَنَاحَا حَمَامَه
غُصْنَ الزَّيْتُونِ
بِكَفِّ الْحَاكِمِ نَكَّسَ هَامَهُ
فِي إبْهَامَهُ
جُرْحٌ غَائِرُ
وَالسَبَّابَةُ
تَشْجبُ حِيْنًا
تَسْتَنْكِرُ حِيْنًا
وَبِأَحْيَانٍ أُخْرَى
تَمُرُّ مُرُورَ غَمَامَه
يَبْتَلُّ الطُبْشُور
فَوْقَ السُبُورَةِ
لِيَنْحَتَ ذَاكَ الطِفْلَّ السَّاكِنَ فِيْنَا
وَحُلُمَ حَمَامَه
..
#طوفان ( محمد عسكر )
صائد الفراشات .....
السماء تنذر بمطر قادم ...البرق يضيء السماء الموحشة بوميض يخطف الأبصاريمزق سواد الغيوم يتبعه صوت الرعد مؤيدا ثورة السماء ...أما القمر فقد هرب بعيدا ....الريح شاركت السماء ثورتها العنيفة ...حاولت اقتلاع الأشجار من جذورها ....انحنت كثيرا قاومت لكنها لم تستجب لرغبة الرياح .....
أضواء المدينة باهتة تؤيدها أنوار قادمة من نوافذ البيوت تبعث الطمأنينة في النفوس ...
وحده كان يسير متسكعا في ذاك الزقاق الضيق ...يحمل صندوقه الزجاجي الصغير داخله فراشاته الملونة ...
المطر يقتحم ملابسه البالية بقوة فلا يكترث ... يتسلل المطر من ثقوب حذائه المهترئ يملأ الحذاء بالماء ....يحاول جاهدا المضي في طريقه يجد صعوبة في ذلك .... يقف يلتفت كثيرا ....يضع صندوقه الزجاجي جانبا ....يخلع نعليه ...يفرغ الماء منهما ....يعبر الزقاق بسرعة إلى الشارع الرئيسي ...تبهره الأنوار المنبعثة من واجهات المحلات التي تعلن عن بضاعتها بجرأة كبيرة ...
يتعثر ....يقترب من مطعم في أول الشارع يبتسم له صاحب المطعم ...
- خالد ماذا تريد ؟؟
أطرق مليا ثم كعادته قال بشجاعة : أعطيك فراشتي الزرقاء وأعطني طعاما فأنا جائع ....
يضحك صاحب المطعم يتناول منه الفراشة يتأملها ويعطيه طبقا من الطعام الساخن
تناول الطبق بسرعة ....تربع في زاوية منسية في ذاك المطعم ....بدأ الدفء يتسلل إلى عروقه ...تناول الطعام بشراهة ....أنهى وجبته الدسمة .....
خرج من المطعم مزهوا ....إنهم يحبون فراشاتي الملونة ....تابع سيره ...داعبت رائحة الحلويات أنفه بمهارة لم يستطع مقاومتها ....
تقدم نحو الفرن الذي تنبعث منه رائحة نفاذة ....تابع كيف يلقون الحلويات بمهارة في فتحة الفرن .....تنضج ....تخرج محمرة حلوة .... سال لعابه كثيرا ...ظل يراقبها ...نظر إلى صندوقه الزجاجي .....وضع يده على الفراشة الحمراء ....أخرجها من الصندوق ....تقدم تجاه صاحب الفرن ....ضحك كثيرا ...نظر إليه
- خالد ماذا تريد ؟؟؟
أشار بيده إلى الحلويات مد يده هنا فراشة حمراء خذها وأعطني قطعة حلوى ...
تناولها صاحب الفرن وأطلقها للريح ثم مد يده وناوله قطعة حلوى
خطفها منه التهمها ببطء مستمتعا بحلاوتها وسخونتها ....حاول الاحتفاظ بطعمها لدقائق أطول كان سعيدا ...
فجأة ...نظر إلى صندوقه الزجاجي لقد خسرت فراشتين ....حسنا غدا سأذهب للحقول البعيدة لأصطاد فراشات ملونة ......تسمر في مكانه ....تذكر الأولاد الذين يضايقونه باستمرار ....يركضون وراءه ....يصيحون ....خالد يامجنون
يتحلقون حوله يحاولون خطف الصندوق منه .....يحميه بكل قوته ويسبهم ........
يتخلص منهم حين يتعبون. .....ينزوي بعيدا .....يتأكد من سلامة صندوقه .....يبتسم لفراشاته يصرخ : يافراشاتي هم يتضايقون مني لأني أمهر منهم في صيدك .....يضحك .....يرفع عينيه للسماء .....المطر يخف تدريجيا ......استمر يعدو فوق برك الماء ....تعب .....خلع نعليه .......توسدهما .....أخفى صندوقه الزجاجي داخل ملابسه ......نام وهو يحلم بفراشاته الملونة .......بقلمي
السيدة غدير محمد وليد عبارة .....سورية /حمص
كتبت في مصر - المنيا ٣١ / ٧ / ٢٠١٧ م
التيه
كان المكان خاليا تماما بأكمله ، تفحص ما حوله جهة تلو جهة ، مفكرا برفاقه كيف تركوه ، النوم ليس هدوء ، زقزقة للعصافير ، حفيف أوراق شجر البلوط ، ماء يرقرق فيتصاعد موسيقى من التواءات النهر سابغة الارتياح في قعر الروح، وقف أبو يحيى مضطربا بشيء من الزهو ، أنه أصبح حرا، ينظر حوله شاردا بالمدى الشاسع،يليه انتعاش يجلبه الارتياح من تدحرج الجبال على تعرج المنحنيات ، وفراغ يجعل سماعك قوقأة يمامة من شجرة قطلب منفردة،تكتشف إن الحياة ليس لها حدود ، إحساس بالغبطة لرفاقه الذين يعتقدون أنهم سعداء في هذا الوقت .
حين يتيه الإنسان في منطقة موحشة ،يتردد بين ذكريات تصبح أمنيات ، ورغائب حلزونية تصعد إذ تعلو وتكبر في رأسه أن يصبح درويشا ، تبين له الأمر خلال عذرية الغابة التي سلمت فلم تمتد إليها يد الإنسان ،يرد في ذهنه أن الغابة تمتلك الحقيقة التي لا يمكن أن تقال ،أو ستقول كما قال له جده الممر الوحيد إلى للحقيقة، أن تكفر بكل شيء أطلق عليه أسم أو صفة .
مكان لا حاجة فيه للمزابل ، تستطيع أن تنام في أي نقطة منه ، تتعرى ، تأكل دون أن تشتري ،تتأمل الغيب ، تمشي ولا تحمل شكا بوحدة الوجود ، يستطيع أبو يحيى أن يقول عن نفسه أنه راض ، لكنه ينقصه شيء ، المرأة ، فلا يكتمل الكون بدون أمرأة .
تغيرت ملامحه الآن فتحول من جندي إلى ناسك ، تحرك بمحاذاة مرتقيات صخرية ، فأصدر بسطاره صوت طقطقة من الحصى ، وعلى الفور رفعت عظاية رأسها وركضت بسرعة مختبئة في شجرة عليق ، وهو أيضا يجب أن يرفع رأسه ويبحث عن مخبأه ،قال :
_ يبدو أن الله بعثها لتعلمني ، والآن يجب أن أبحث عن مخبأ .
وضع يده على بندقيته ، وتحركت قدماه إلى منتصف الجبل لكنه لم يعرف السبب ، ثمة نداءات من دون كلام ، تتوسل إليه تدعوه أن يمشي في هذا الاتجاه . أعتقد مثلما العناكب تنسج مصيدتها دون أن تعرف كيف ،شدًّ خطواته إلى الأعلى والأسفل قاصدا مأواه، لا يوجد دليل أمامه إذ بدت قدماه كأنهما تعرفان الغابة .
وقف عند عقدة مفترقات ،ثمة أصوات يسمعها تدعوه أن يسلك هذا الطريق ،هبط إلى الأسفل ،لا يوجد أي شيء ، ثمة جدار مبنى من قطع صخرية ،أمامه فسحة مربعة مرصوفة بأحجار ملساء ، إنه بأمان هنا تنثر الأزهار البرية عطرها ، مشى ببطء اتجاه الجدار ، شجرة صنوبر تسلقت عليها كرمة ، تدلت منها عناقيد عنب ناضجة ، الجمال يسلبنا كل شيء ، حتى الألم ،يتذكر أبو يحيى أنه تاه عن رفاقه ، أما الآن فقد نسى وجوههم ،حتى القدرة على الكلام تعوزه ،مد يده وقطف عنقود داكن ، تماوج صوت من وراء الجدار :
-لا تأكل ما هو زيادة أيها الجندي !!!!!!!!!!!!
التفت مثل حيوان بري إلى شيء ما خطرا عليه ، حاول أن يكون رابط الجأش ، لم يكن الصوت مخيفا بل رهيبا ، التفت إلى الجدار ، إلى ترتيب بناء أحجاره ، واختلاف ألوانه ، والمخاريق المصنوعة في أعلاه ، كل مخرق يتجه نحو نجم ، وكل نجم سدن لبيت عظيم ، كان الصوت اندفاعة ريح فوق سجادة من حرير ، أبقى رأسه منحنيا ، بينما أوراق الشجر غطت الأرض ، وانقلب الجدار إلى الداخل ، هدأت الريح ،أكل ثلاث حبات ، امتدت السجادة تدعوه للسير إلى باب ضيق مخفي وراء الجدار ، نهض متكئا على بندقيته ، لمس براحته الجدار وهو يدخل باب الهيكل ، كان باردا ، شكله مدور ، في داخله قبة مسبعة القناطر ، في أعلى القبة جوهرة ، لم يدن أحد منها على مقدار عشرة أذرع إلا خر ميتا ، إلا هو عند اقترابه اجتذب قلبه طمأنينة وسرور .
ضوء الجوهرة الفضي ، طفل مسجي على سرير من الديباج ، وعلى رأسه طوق زخرف عليه بقلم المسند القديم " احرق البخور ودر بها حولي ثلاث مرات ، رش علي الماء ثلاث مرات ، وهاهي ثلاثة ألوان اجدلها اكليلا بثلاث عقد "
أحرق البخور في مبخرة صفراء علقت في سلاسلها ثلاثة جواهر بيضاء ،البخور يستطيع أن ينزل القمر إلى الأرض ، ولف حول السرير ثلاث مرات ، ورش عليه طيب الماء ثلاث رشات ، وعقد الإكليل ،وجرت على لسانه كلمات بضارب من الحركات على لسانه" سبحان من أحي الميت بصرصر قدرته "
على حافة السرير وقف أبو يحيى ، كان الطفل المسجى قد بدأ يفتح عينيه ، رآه وهو ينهض ، مما جعله يرجع قدميه إلى الخلف ، إنه يناديه :
- أقترب ...حان وقت الكلام ...
من شدة ذهوله سقط الإكليل على الأرض مصدرا صوتا خفيفا ، أنحنى الطفل والتقط الإكليل ، وضعه على رأس أبو يحيى ، ساد صمت وجيز ، أحس ضوء يشع من وجه الطفل يملأ الهيكل ، مد كفه الناعمة ومسد وجهه ومسح أثار الدم عن فمه ومنخريه ، أحس بالسعادة ممزوجة مع شيء آخر ، القوة ، قال له بصوت ملائكي :
- مايحدث هو مثال من الشاهد يدل على ما غاب عنكم في أفعال السماء ....وأهل الإيمان هم الأعلون ... خذ هذه الناي من القمر ... وهذا العقل من الشمس ...وهذ ه العلم من المشتري وستهزمون الشر .
استيقظ أبو يحيى من ، فوجد ثلاثة مسلحين ، وبأيديهم ثلاث سكاكين حادة الشفرات ، تأملها بعينين جاحظتين ، وبرزت حروف غريبة شكلت ثلاث كلمات" ناي ..عقل ...علم " قال له أحدهم :
-وقعت في الأيدي الخاطئة
وقال له آخر :
- وفرت علينا العناء
بينما وضع الثالث سكينه على رقبته ، فصر أبو يحيى أسنانه ، ومناجاة منه مثقلة بالإرهاق :
- أرجوك لا تذبحني
لمعة إشباع ، حز رقبته من الأذن إلى الأذن ، مع تكبيرة عالية تكافيء زمجرة وحش ، تدفق الدفء الأحمر من فمه ومنخريه ،كأنهما نافورتان تتلاعبان في بركة مرصوفة بالزبرجد .
فؤاد حسن محمد - جبلة - سوريا
♠ ♠ ♠ ♠ القصة القصيرة ♠ ♠ ♠
♠
♠ ♠ ♠ الحب في الزمن الخطأ ♠ ♠ ♠
♠ ♠
هناك سؤال يحتاج إلى الكثير من الجهد للإجابة عليه ، هل يمكن أن يلتقي فصل الربيع مع فصل الخريف؟ ، ثم ما إسم هذا الفصل الناتج عن هذا اللقاء؟ ، هل يسمى الفصل الربيع خريف ، أو يسمى فصل الخريف ربيع ، أو يسمى فصل التخاريف؟ ! ، شغل هذا الأمر كثيراً بطل هذه القصة ، فمن المستحيل أن يتلاقى الشروق والغروب في منتصف الطريق ، وأعتقد أن هذا الخلط الغير منطقي ، هو ما يؤدي الي الكثير من المشاكل ، التي تؤدي الي حالة الفوضى في المشاعر ، وللأسف تهبط قيمة الحب الذي هو أروع عطاء من الله سبحانه وتعالى ، وإذا إتفقنا على أمر مؤداه ، أن الصحة النفسية تعتدل فقط في حالة إنسجام الإنسان مع الطبيعة ، بشكل يؤكد أن الإنسان يحترم الحياة ، وقوانينها ، وكما كان الربيع هو فصل التمتع بالزهور، فكذلك الخريف هو فصل الراحة والسكون والتفكير ، ثم الحساب عن سابق الأيام ، وقد يظن البعض أن هذا الكلام ، هو فلسفة من أستاذ جامعي ، ولكن الحقيقة أنه هو قراءة لأوضاع إختلطت فيها الكثير من معاني الجمال ، مع بعض المعاني الأقل جمالاً ، ولأن قصتنا اليوم تعرض هذه الحالة من الخلط ، والذي يحتاج الي الكثير من الدقة في معرفة حقيقة الأشياء ، فبطلة القصة تتكلم بمنطق عاطفي بحت ، وذلك لصغر سنها وأيضاً تجربتها وخبرتها ، فهي فتاة جميلة تعيش في سنوات العشرينات ، وبطلنا دكتوراً جامعباً أكبر منها سناً وخبرة فقد متعه الله بفضل العلم ، يتكلم بمنطق عقلي يعتمد على التحليل الدقيق للحياة ، وقولاً واحداً مستحيل التلاقي بين تفكير عاطفي بعيداً عن العقل ، وكذلك تفكيراً عقلياً ، لا يحسب للعواطف أنها هي كل الحساب ، فهي تقول له بدلل أنوثه ألستُ جميلة أنا؟، وهو يرد بأي حسابات أنتِ شديدة الجمال ، وصاحبة جاذبية من الصعب تحديها ، ولكِ مركز من غير السهل الوصول إليه وتحقيقه ، فأنتِ معيدة في كلية مرموقة ، فتقول إذن أين المشكلة في أن نرتبط ونتمتع بهذا الحب ، فيقول لها المشكلة أن للحياة قوانينها ، والعاقل يجب أن يحترم تلك القوانين ، وخاسر من يتحدى الحياة وقوانين الحياة ، وسبق أن كتبت قصة بعنوان (الصراحة) ، وقلت فيها (الحب هو يُشبَهْ بالفاكهة ، فالحب في العمر من 25 الى 35 يشبه الكريز طعم جميل ويستخدم عادة عند تزين كل الحلويات ويُضع على عرش من الكريم شانتيه الأبيض فيعطي جمالاً للعين ، والحب من 35 إلى 45 يشبه فاكهة الأناناس أيضا الطعم جميل قطع أو عصير ثم به أيضا تزين التورتات والحلويات ، والحب من 45 إلى 55 له طعم الفراولة قد تكون كبيرة وزاهية ولكن ليس لها طعمها عندما كانت صغيرة وهذا الفرق جوهري ، أما بعد 55 فيكون للحب طعم البطيخ ، لا يؤكل إلا في وقت معين وهو الصيف ، ولا يؤكل إلا مثلجاً ونحن ياصغيرتى الأن أصبحنا فاكهة مختلقة الطعم ) ، هل وصلت لك الرسالة ، وما فضلنا الله بالعقل إلا ليستخدم في تحقيق الجميل في الحياة ، قالت أنا لا أريد إلا أن أضع على صدري وسام ، أني زوجة العالم والأديب والرسام والموسيقي والرياضي فلان فقط ، قال لها هنا تكون أم المشاكل ، فالإختيار لهذا السبب ققط حتماً سيدفع الى صدام ، من المؤكد أنه سيقع في يومٍ من الأيام ، إعيدي جميلتي التفكير جيداً ، في سبب هذا الإختيار ، وحاولي أن تجعلي قوانين الحياة طرفاً معكِ في تفكيرك ، لعل هذا يهديكِ الى الصحيح من القرار ، قالت لـن يأخذني اليأس وأعيد حواري معك حتى أحقق مرادي ، قال لها الأيام بيننا ، وأفترقا ، وهو كله قناعة أنه يفكر بعقلهِ فالأيام لا ترحم الأغبياء.
♠ ♠ ♠ ا.د/ محمد موسى
متحابان إلى الأبد قصة قصيرة
بقلم : فؤاد حسن محمد
هدس في سره :
- السقوط ....السقوط
دومت ورقة صفراء في الهواء هابطة نحو الأسفل ، كان صوت ارتطامها بالأرض قد احدث دوياً هائلاًً .
وهنا وهناك انتشرت أصوات أخرى ، أصوات غريبة ورهيبة تئن بهلع وفق إيقاع واحد، تعلو وتنخفض كما لو كانت عواء ثعالب ، لكن البعض قال أنها صرخات جرحى الإرهابيين .
استمر المطر الخريفي يهطل ثلاث أيام مستمرة ، المطر هنا يحمل القسمات الفريدة للساحل السوري ، انه غزير يشبه الفرسان المنطلقين على صهوات الخيل ، وفيه نفساُ من طيبة مزارعي الحقول ولطف وعذب بساطتهم .
كان معسكر للجيش قد نقل لتوه إلى سفح تله ، حيث يتاح لمجندي الدفاع الوطني إن ينطلقوا لتحرير جبل ال 45.كان هذا هو الحل الذي توصل إليه المقدم عصام ورؤساء المجموعات، الذين يقودون الرجال لأداء المهمة .
على ارض المعركة لامجال للخطأ ،لذلك يجب على القائدان الانتهاء من وضع خطة الهجوم ، وإعداد المجندين نفسياً ، وتأمين الأسلحة اللازمة ، واختيار الطريق الأمن للوصول إلى الجبل ،بيد إن المجندين المشتاقين للنوم كانوا يشخرون شخيراً عالياُ ، ويغرقون في أحلام العودة إلى زوجاتهم ، إما الشبان فكانوا يتبادلون النكات من اجل التسلية ، ويقول واحدهم للأخر :
- إذا مازلت على قيد الحياة
الآن دوي المدافع تلاشى ، وأزيز الرصاصات أضحى متقطعاً ، وعالياً توقفت الغادة السماوية عن دلق المطر ، في هذه الأثناء خرج الضابطان من الخيمة لشرح الخطة للمجندين ، المقدم عصام يثير العجب بالنظر إلى وجهه ألفلاحي الوسيم، ذي الحسب والنسب بكل تأكيد٠ حاجباه الكثين أعطت ملامحه الجدية دون تحريف، وشاربه حاد الهيئه٠ جانبا شفتيه وذقنه تثير الاحترام، وتعبر عن قوة الإرادة .
قسم الضابطان الجنود إلى خمسة مجموعات ، كل واحدة تضم اثنا عشر فرداً ، ثلاثة مجموعات بقيادة عصام للهجوم ، ومجموعتان تقومان بالتغطية النارية الغزيرة أثناء اقتحام موقع العدو ،وحددا ساعة الصفر الرابعة صباحاْ .
العام الفائت كانوا يحاربون في القصير ، وهذا العام يقاتلون في كسب ، لكي يصدوا الهمج الوهابيين المتوحشين ، والقتال والزحف لا يتوقف أبدا منذ ثلاث سنوات ،وقد اشتبكوا مرات عديدة وجهاْ لوجه ، قتلوا أعداد هائلة من الإرهابيين ، واستشهد منهم رجال كثيرون ، وعيون الباقين كانت تصهل بكبرياء وترنوا إلى السماء ،إن فقدان رفيق في المعركة حزن يحيط بالأوقات ، تلك الذكريات ستبقى في القلوب تشتعل دمعاً ، لقد شابت الجيوش من مناظر القتل ، إن الحرب شئ ملعون ، لا يستخدمه الشرفاء إلا مضطرين .
منذ عهد ليس ببعيد ،سنة تقريباً ،زارتهم مراسلة حربية لمرافقتهم في تحرير موقع من سيطرة العدو ، فاتنة وزاهية، شعرها أسودً وجميلاً عيناها صافيتان ، طويلة وممتلئة ، حقا إنها حسناء بين النساء ، فلماذا عليها إن تصعد نحو السماء ، ولماذا تعرضّ نفسها للوقوف أمام الله ،وقع كل منهما في غرام الأخر ، كانت نظرات المقدم عصام المشعة كناية عن طلب يدها ، وكانت ابتسامتها كناية عن قبولها ،وكان لسان حاليهما يقول ( ننتظر إلى أن نحرز النصر )، كان اتفاق ضمني فهمه الاثنان.
اقتربت المراسلة الحربية من عصام ، وأجرت معه مقابلة تلفزيونية ، سألته أسئلة معتادة ، وأجابها بإلفه واعتياد إننا سنسحق الإرهابيين ...وسنطهر سوريا من رجس هؤلاء الأنجاس الوهابيين ، بعدها دعاها لشرب كاس شاي في مقر القيادة ، وهناك سردت له حكاية مؤلمة
قالت له بصوت أنثوي يطوي في اهتزازاته غريزة الأمومة :
-عمرها سنة واحدة ، زهرة نادرة ، بيضاء كالضوء ،أجمل أطفال العالم ، انتزعوها من صدر أمها الشابة ، التي كانت ضمن أسرى قرية من قرى كسب ،لقد قذفتهم الأقدار إلى هؤلاء الحثالة ، نظرت الأم بعينين حزينتين مملئتين بالحب إلى طفلتها ، في محاولة يائسة لمنعهم ، لكن احدهم رفسها بحافره ، مشيراُ إلى عدم جدوى الاحتجاج، ثم قيدها من يديها وقدميها ، ورفسها مرة ثانية ، وبدم بارد اخرج سكين من خصره ، وفصل رأس الطفلة عن جسدها الطاهر ،جاهدت الأم أن تصرخ ،لكن الهواء احتبس في صدرها ، فماتت دون صراخ .لقد صنعت من عجزها جناحان ، وطارت بابنتها عبر الزمان الأبدي .لتشكي فاجعتها إلى الله .
اغرورقت عينا المراسلة الحربية بدمعتين ،فمد عصام يديه الخشنتين ومسحهما برقة،كل منهما يشد من أزر الأخر بطريقته ، ابتسم فبدا وجهه الساحلي أكثر قدرة في منح الثقة بالنصر ،وفي روحه عواصف حزن على رفاق امتلأت قلوبهم القوية بحب الوطن ، ولهذا غاصت إلى أعماق أرضه ، بعضهم ترك في أرض المعركة للغربان تنهش جثثهم ،وقد رآها تحمل بمناقيرها أشلاؤهم وتحلق بها في السماء ، أو تعلقها على أغصان الأشجار ، لكنهم لم يموتوا أنهم مازالوا يسبحون في أوقيانوس أفكارنا .
أحزنها أن ترى وجه هذا الإنسان الضخم تعتليه نظرة أسى فخفضت رأسها مفكرة برهة:( لاحق لي أن أحمله أثقالاْ فوق أثقاله )، فقالت بلطف :
- استميحك عذرا ، ما كان يجب....
ولمست يده الكبيرة مسترضية إياه ولتضّيق الهوة بينهما .
أجابها وعلى شفتيه ابتسامة فيها ثقة ( سترافقيننا ..وسترين كيف يهربون كالجرذان ، إنهم جبناء..أنهم بلا جذور ...وسنطهر عما قريب هذه الأرض الطاهرة من قذارتهم)،التمعت عيناها كالماء ، لاأثر للخوف فيهما ،الضابط الشاب سيجد من الصعوبة عليه أن ينجو من حب هذه الفتاة ، ذلك المحظوظ.
التقط عصام بحرص البندقية الروسية ، بعد أن ربط بحرص الجعبة على كتفيه بمهارة ،هذه الجعبة استراحت على كتفيه ثلاث سنوات ، وألان يشعر أن له كتفين اقوي وأكثر اتساعاً ،كان القرار قد اتخذ ، وكان الجنود قد تبلغوا بالأمر ، لم تضغط عليه مشاعر الخوف من المغامرة ،إن الموت لا يأتي من الحرب بل من تجاهل أن ترسل النور لمن تحب ،امسك عصام بيد المراسلة متضرعاً إلى الله أن يجعله حارساً لروحها . نظر إليها برقة ورأفة ، ولوهلة رأى في وجودها معهم ضعفاً يثير الشفقة ،فما أغرب أن تمشي دون شئ على كتفيك ، الجنود يحملون إثقالا من الأسلحة إلا هي ، هل ساهم هذا الحمل بإعطائهم رباطة جأشهم ، وجعلهم أكثر إحساسا بقوة.
كانا يسيران جنباً إلى جنب ، وأخذ يتفحص لها الدرب من اجل مساعدتها ، فكان يراقب خطواتها ، الممرات الجبلية الضيقة ، والمنحدرات الزلقة ، أراد أن يحذرها لكنه امسك لسانه ( دعها تتمتع بهذه الجبال إلى أن تقع في حبها ).
عندما بزغ الفجر، بدأت تتحدد ملامح الجبال ،توجد مساحات شاسعة من الغابات ،هنا أشجار الصنوبر ولأرز والبطم والسنديان ،ومن بين الطحالب والأوراق المتساقطة المبللة بالمطر التي تدوسها أحذية المجندين ،ارتفع عطر الأرض ورائحتها الممزوجة برطوبة التراب والصخور ،لكأن الأرض تطلق زفيراً ، استنشقته المراسلة بعمق واضح ، فأصدرت صوتاً أشبه بتنهيدة من اكتشف أن هذه الروعة الطبيعية حقيقة وليس وهماً. قال لها : يبلغ طول الطريق أكثر من اثنا عشرة كيلو متر
أومأت برأسها ناظرة إليه بسرور،
:إنني لا أفكر بطول الطريق ...
: بماذا تفكرين بعريس
أجابته وقد احمرت خجلا:
-أتأمل روعة هذه الجبال
في هذه الرفقة أصبح جلياً لهما إن الشئ الوحيد الذي يعادل متعة الحب هو المغامرة بأرواحهما من اجل بقاءه ، وثمة شئ أخر لم يجرؤ عليه إلا الأبطال ، وهو الشعور بالرضي والارتياح من الموت بكرامة ، عندما يجدون أنفسهم مهددين بالموت جوعاُ.
كانت تراقبه كما يراقب طفلا قائد الجيش ،لم تعزم على البوح الذي كان من الممكن أن يحطم شيئا مقدسا ،فوضعت يدها في كفه ، دافئة كالجمر ،شعر بإحساس غريب يتسلط عليه بقوة ، فحرك أصبعه في راحتها ،وفي ذهنه أن الوقت غير مناسب للتشتت ،وعليه أن يتذكر في كل دقيقة انه ليس مستجدا بل قائدا له خبرة طويلة جدا ،فأفلت يده بلطف ،لقد شعر كل واحد منهم بشعور الاستعجال المندفع ، وهم يزحفون إلى مكان المعركة بلا هوادة .
كان السكون الغريب يتمدد بموجات واسعة ، فلم يصدر ولا أزيز واحد لرصاصة ،وفي هذا السكون الغير مفهوم سببه في ارض معركة لم تحسم ،كانت تعلوا أكثر وأكثرا نفاس الجنود إلى وهي تصعد المرتفع ،قال أحد الجنود :
-ماذا قلت يا غدير
- كما سمعت ؟؟؟
-هل تريد أن تشرب المتة مع خطيبتك ؟؟ فكر جيدا قبل أن تتكلم !
- خذ لها قصعة برغل ؟؟؟ وقهقه - إذا دعوتها لذلك فسوف تتركك يا مسكين !
ثرثرة نفوس حزينة على شفا الموت ،وعادة ما يركز عصام أذنيه على أحاديث تأتي بها السنة الجنود ،فالحديث يكشف الكثير من المكنون ، يتلمس الاستعداد الملازم للنصر في المهمة ،نظر عصام بطرف عينيه إلى المراسلة فابتسمت عيناها تحملان خوفا خفيا ، وتساءلت كيف يمكن أن يضحك الجنود وهم ذاهبون بشكل مجتمع إلى نهاية منفصلة،وعلى الرغم من الألم الذي يسببه التفكير في غير أوانه،انزلق عصام في حلم اليقظة ،فتخيل ظلان يمشيان حافيا القدمين على رمال الشاطئ الأزرق،تداعب وجهاهما الشمس والأمواج والملوحة والنسمات الرطبة وكلها رقة وحب ،ويهيم في تفكيره ،لكنه فجأة شعر أن انزلاقه شيئا رومانسيا في غير مكانه،كمن يضع باقة زهر في زاوية ليست مناسبة لها في البيت ،فيعطي الجنود انطباعا سيئا انه غير ناضج ، ولا يليق بضابط يقود عملية في الجبال أن يمشي مشيتين على هواه، فصرخ في الجنود :
_ توقفوا ... استراحة ربع ساعة .
سأله أحد الجنود :
-هل هم بعيدون ؟كم يا سيادة المقدم ..ساعة ....ساعتين ؟؟؟؟
كان عصام يريد إبعاد رومانسيته عن عيون الجنود ،فابتعد مسافة كبيرة عن المراسلة ، وتقدم إلى الأمام ،وطلع على شجرة سنديان ،محدقا بالمنظار في قمة الجبل ، هناك بعيدا في الأفق انشق شرط من الضوء القرمزي تحت أطراف السحب الواطئة ،كل شئ اصطبغ بلون الشفق القرمزي ، لكن صمت ثقيل سيطر على الجنود الذين أضجعوا على الأرض واضعين أيدهم خلف رؤوسهم يحدقون بقمة الجبل.
قال عصام:
- نحن على مسافة قريبة ...شغلوا عقولكم إثناء الاشتباك ،وعلموا أن الحذر الشديد يضعف القلب ،وأنا أعرف شجاعتكم ،لكن يجب أن نكون يقظين فالإرهابيين لم يكونوا نائمين ... نحن لا نخاف الموت ....ولا نهاب الوهابيين الصعاليك ...نموت ونحن نخدم وطننا مدافعين عنه .
هذه هي المرة الوحيدة التي تنبأ أن لا أحد يريد الموت ،لكن الآن الكل يواجه مصيره على هذا الطين ،قد يبدوا غريبا أن لا يترك الفقراء الوطن يموت ، الوطن الذي لن يغير الانتصار فيه شئ .
أحست المراسلة بلحظة تأبين غير مفتعلة على أرواح بالجملة ،أمسكت عينيها بالجنود التي قد لا ينظر إليها أحد بعد،قالت " مازالوا يشعرون بالحياة ، وما زالوا ينتظرون الموت في أي لحظة .
فؤاد حسن محمد- جبلة -سوريا
قرار عمي الأخير
قصة : ثروت مكايد
( نشرت في جريدة آفاق الأدب )
-1-
قال عمي :
- إن القبر يسع المئات .
قلت أثقب حجب الغيب :
- مئات من الموتى ياعماه..
وأردفت حين لم يفطن لمرادي :
- أما الدنيا بأسرها فلا تسع اثنين .
لكنه أعرض عني ، وقال وهو يهم بالخروج :
- ستتزوج ابنة عمك هنا ..في هذا البيت .
- لكن...
- هذا قراري الأخير .
-2-
مات عمي وقد أنفقت كل ما أملك في ترميم البيت ، وجهزت حجرتين فيه استعدادا للزفاف . رأى أولاد عمي أن يتأخر الزفاف حتى يمر الأربعون ، وقال أكبرهم :
- تعرف أن الظرف الذي نمر به صعب . علينا أن نواجه مشاكلنا بحسم.مشاكلنا كثيرة . كانت كامنة في وجود عمك .
- رحم الله عمي .
- نعم ..قد كان حالما كبيرا .
قلت :
- ماذا تقصد ؟
- عرضت عليه أكثر من مرة شراء بيت آخر ، فرفض .
- كان يريد جمع الأسرة .
- جمع خانق !
- ماذا تقصد ؟!
- لا شيء ..
وقمت يعضني القلق . نظرت إلى الجدران اللامعة من نقودي غير أني أكره اليأس كما تكره الفئران القطط.
-3-
رأى أبناء عمي أن أتأخر حتى تمر سنوية عمي ، ويتمكنوا من حل خلافاتهم حول الميراث..قلت :
- لم لا نتزوج !
رمقني أكبرهم بطرف نفث سما وقال :
- لكنك غير مستعد .
- كيف وقد جهزت حجرتين !!
- دون أن نعرف ...
وأردف في غمرة ذهول اجتاحني كإعصار :
- لكن أين ؟!
- هنا ..
ضحك وهو يضرب كفا بكف..وقال :
- هنا !
- ألم تر ما أنفقته على ترميم البيت وتجهيز ال.....
قاطعني بحدة :
- أنت وارث عمك الوحيد في حمقه ..
- ماذا تقول!!
- ليتك تفيق من وهمك . ثم هي تنتظرك.ابحث عن مكان مناسب وساعتها....
قاطعته شاردا :
- كيف وقد أنفقت كل مليم على بيتكم هذا !
رد ببرود :
- هذا شأنك . واحد يرمي بماله في البحر ، فما ذنبي أنا !
قمت وقد ضاق صدري غير مصدق لما سمعته ، وإن كان قد مر بخيالي عندما علمت بموت عمي .
-4-
بات زواجي من ابنة عمي في حكم المستحيل ، وكلما مررت ببيتهم أضع يدي في جيبي، وأترحم على عمي فقد كان واهما كبيرا غير أن أخشى ما أخشاه أن أكون وارثه الوحيد في عبطه كما ذكر أبناء عمي .
تمت .
مجلة عشتار الإلكترونية
ابحث
تسجيل الدخول
عدد زيارات الموقع