جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
لا أريد أن أكون نجمة في السماء
لم يكن بمقدورنا أنا وأمك أن نمنعك أن تولدي ، ففي ليلة أكتمل فيها القمر رأت أمك في المنام الشيخ أحمد يبشرها بأنثى، وليس الذكر كالأنثى ، والمشبه به أعظم كمالا ، إن العالم يدور يضع بنتا هنا وولد هناك ،أنا أقول كنت ِ قطرة ماء تتلألأ في شفق السماء ، وإذا لم تكوني موجودة فلا معنى لمجيئك ، لا أعرف كيف أشرح لك ، وأنت ِ لا تفهمين ما أريد أن أقوله أن أحدا غيرك لن يأتي في تلك اللحظة وفي ذلك الزمان .
قلت لأمك سأسميها فاطمة ، كل النساء تطلق أسماء على أبناءها ، لكني أشك أن اسما مثلها يحمل صفة ملائكية ، إن تاريخ العالم يفقد إنسانيته لولا وجود البتول فاطمة ،بالتأكيد إن المرء يشعر بنفسه عندما يفكر ، في كل الأحوال أن تولد في الحرب هو امتحان قدرتك على أن تكون إنسان ،ولسبب ما يصبح مجيئك انتصار على ممالك اصطياد الأطفال بالطائرات .
في مشفى نبع الفوار ولدتِ كان صوت بكاءكِ يعلو على ضجيج طائرة حربية مزقت جدار الصوت، وفجأة تملكني إحساس بأن الممرضة التي تحملك قد تسرقك ، أو تستبدلك بطفلة أخرى ، فلازمتك وهذا يعني إني منذ الآن سأكون معك .
مدتك الممرضة برفق وحرص شديدين على سرير خشبي ، تحت ضوء المصباح ، قالت لي وهي تدغدغ خدك بإصبعها ، وابتسمت لاستجابتك وأنت تحركين فمك لتلقمي إصبعها :
- إنها تتضور جوعا ...سأجلب لها ماء وسكر ، وأردفت :
ـ الأطفال شرهون للأكل
رافقت الممرضة بعيني ألقصيرتي النظر ، وأنا أتفحصك عضوا تلو الأخر ، وجهك منتفخ و مزرق قليلا من عملة الولادة ، بجوارك تستلقي أمرأة أغمضت عينيها بقوة ، متعبة منهكة ، ترسمك في مخيلتها مرارا قبل أن تستيقظِ.
عادت الممرضة بزجاجة الرضاعة مملوءة بمحلول السكر ، لقمتك حلمتها ، استمتعت ِ بهذيان السكر في فمك . قالت الممرضة:
- الأفضل أن تجزيء الرضعة على مدار اليوم كي تتحرك أمعاءها .
لا تحب الممرضات أن تعاملهن كخادمات ، يقلن ، ذلك سيجعلهن غير لطيفات في تعاملهن ، قلت له :
- شكرا لك ...أنتِ تبذلين جهدا لا يقدر بثمن
قالت لي مبتهجة ،بعد أن دسست في يدها مبلغ من المال :
-تحت أمرك ...إذا احتجت مساعدة نادي لي
غبطة غامرة تطوق حواف القلب ،ترتعش في العينين ، خلت نفسي أقفز إلى الأعلى من فرط الفرحة . أتنفل بين حافة سريرك وشرفة الغرفة ، بل أتنقل بين رائحة عطر الطفولة ، ورائحة الشارع وماذا يوجد في الأسفل إلا روائح مخلفات الإنسان .
في منتصف الجدار علقت صورة لطفل أشقر وجهه أبيض وادع ،عيناه واسعتان زرقاوان ، يريدون منا أن نتلاشى في سلالة العرق البيض ، لا يكبر أحدا في الصورة ، سيبقى هكذا بدون حركة إلى الأبد ، أما أنا أريدك أن تكبري أمام عيني .
كنتما مستغرقتين أنت وأمك بنوم عميق ، هي بجسدها المتهالك تحت وجع العملية وأثر المخدر ،وأنت تحت وجع الخروج من العدم إلى الوجود، مر عليكما الطبيب سريعا ، الواحدة منكما ذكرى أو حلم للثانية .
سألت الطبيب الذي يبدو أصغر من سنه بمريوله الأبيض :
- متى تستيقظ من المخدر .
ابتسم بثقة طبيب خبير " نصف ساعة ..الحمد لله الوضع جيد " وخرج.
تهاويت جالسا على حافة السرير ، أتأملكما حُبيَن وأٌشرد ،أحرك عقارب الساعة إلى الأمام ،أَدفع الزمن إلى تخوم حافته ، تركب روحي الأيام ، فأقع في الشرك ،أرسمك في مخيلتي ، أبعد عنك مالا أرغب فيه، الخيال لا يصنع واقع ،فأنا مترع بالخوف ، هل تصدقين إذا قلت لك الحقيقة ، تلك هي الحقيقة ، أنا أهرب من واقع مليء بالألم ، واقع يصعب أن أقوله لك " الحياة قاسية "
معجزة أن تتواجد في مكانين وزمنين باّن واحد ،شيء مستغرب أن يقلع الزمن إلى الأمام بينما أنت ترجع إلى الخلف ، أو العكس ،ضلالة خاطئة ، هراء ، هلوسات ، أعلو إلى قمة الحلم ، ثم أهوي متدحرجا إلى قعر واد الذهان السحيق ،ولهنيهة ألمح وجهك على زجاج النافذة ، إنه الحلم نفسه ، عمرك خمس سنوات ،أجلس أنا وأنت على المصطبة وفوق رأسينا تزدحم النجوم ، حولنا سبعة أصص من ورد الجوري ، في هذا الهزيع من الليل تفتح الذكريات أجفانها ، تغادر العقل باتجاه الوراء ، كانت أمك قد ذهبت إلى المطبخ لتغلي لنا الشاي ، أنا أجلس على إسمنت المصطبة لا أعرف لماذا ،سألتني أول سؤال حميمي :
- لماذا أسميتني فاطمة ؟؟؟
كنت تودين لو كان لك اسم عصري ، جولييت ، هيلدا ، كاترين ، فالطفل تساوره الشكوك ويظن أن اسمه يجلب له الحزن . شيء ما أنبأني أنكِ في حيرة ، عندئذ عرفت أنه يجب أن أبدد مخاوفك ، قلت لكِ :
- سأحكي لكِ قصة الطفلة التي سرقوها من أهلها .
كنت يومها في كراج جبلة ،أمشي وأنا ألبس حذائي الجديد ، وفجأة دوى انفجار رهيب ، قسم السماء من أقصاها إلى أقصاها ، مات ناس كثيرون مثل الذباب ، تطايروا أشلاء في الهواء وتبعثروا نتفا من لحم ودم ، ماتوا قبل أن يصرخوا ، ركضت مع من ركضوا إلى داخل الكراج ، فرأيت رجلا يدق الأرض بقدميه وهو يجأر مثل عجل في المسلخ شاخصا بعينية إلى السماء:
- فاطمة ... أريد فاطمة .
ثم ركع وراح يلطم وجهه،مددت يدي إلى عظم كتفه ،أنهضته برفق ،قلت وأنا أبادله الحزن بالحزن :
- تعال يا أخي نبحث عنها قد تكون حية ترزق
جسده مملوء بالوهن والارتخاء ، وروحه مخنوقة من سحب وجع الصراخ ، مشينا فوق عظام عارية ، ونحن ندوس فوق الأرض المملوءة بالأصابع والأقدام المبتورة ،وفرو الرؤوس والمصران وبقع الدم ، انهار الرجل بسرعة مخيفة أمام رأس طفلة لم تلتقط شفتيه صرختها الأخيرة
- وداعا يابابا
تمنيت أن أعانقها ، أداعبها ، أتعرفين ماذا كانت هذه الطفلة مني ، أن أضع يدي بيدها ، لكني عانقت والدها لأحجب عنه فظاعة المشهد،الأطفال لا يموتون ، إنهم يدهشون ، يصيرون نجوما في السماء .
سألتِني ببراءة
- لماذا قتلوها ؟؟
قلت لك :
- لأن اسمها فاطمة و أسم فاطمة مقدس ...منذ الف سنة وأكثر قتلوا أيضا شابة أسمها فاطمة
- وأين هي الآن
- أصبحت نجمة في السماء
طفرت من عينيك ِ دمعة كبيرة ، ولفتني يداك الصغيرتان وشفتاك تلتقطان كلمات متقطعة :
- بابا لا أريد أن أكون نجمة في السماء
فؤاد حسن محمد- جبلة - سوريا
المصدر: مجلة عشتار الالكترونية