القوة الاقتصادية

تأليف الدكتور: لويد جنسن

ترجمة

الدكتور محمد بن أحمد مفتي

الدكتور محمد السيد سليم


يرى بعضُ الدارسين أن أهمية القوة الاقتصادية قد ازدادت نتيجةً لتدهور أهمية الأسلحة النووية الناشئ عن خطر الفَناء النووي المتبادل، بل إن البعضَ يذهَبُ إلى أبعدَ من ذلك، مؤكدًا أن أهميةَ الأسلحة التقليدية - كأداة من أدوات السياسة الخارجية - قد تدهورت نتيجةَ الخوف من احتمالِ تصاعد المواجهة بالأسلحة التقليدية إلى مواجهة بالأسلحة النووية، ويضيفُ هؤلاء أن أهميةَ القوة الاقتصادية قد ازدادت نتيجةَ تعاظم الاعتماد الاقتصادي المتبادل بين الدول على نحو ما أوضحنا في الفصل السابق، كما أن الأدواتِ الاقتصادية تمكِّنُ الدولة من إثابة الدول الأخرى أو معاقبتها، وبالتالي تمكنها من التأثير في سلوكها السياسي الخارجي، وربما كانت المعونةُ الخارجية هي أهمَّ شكلٍ من أشكال الأدوات الاقتصادية للسياسة الخارجية.

 

وكثيرًا ما استُعمِلت الأدواتُ الاقتصادية للتأثير في السلوك الخارجي للدول الأخرى عبر التاريخ؛ فقد كان الحكَّامُ القدماء - كما كان عليه الحال في الصين القديمة - يفرِضون الإتاوات على الأقاليم التابعة لهم، ويقول أحد المتخصصين: "لقد كان من المعتاد في القرن الثامن عشر عرضُ مكافآت مالية ضخمة على السياسيين مقابل عقد الأحلاف أو التوصل إلى نتيجة معينة للمفاوضات"[1]، بَيْدَ أنَّ ظاهرة استعمال المعونة الاقتصادية كأداة مستمرة من أدوات السياسة الخارجية لم تنشأ إلا بعد الحرب العالَمية الثانية.

 

كذلك، فكثيرًا ما تم استعمالُ سلاح قطع المعونة الاقتصادية أو التهديد بقطعها في محاولة لجرِّ الدولة المستقبِلة للمعونة إلى التصرف بشكل معين؛ ففي أواخر الأربعينيات، هددت الولاياتُ المتحدة بقطع المعونة الاقتصادية المعطاة لهولندا في إطار مشروع مارشال، إذا لم تتوصل إلى تسويةٍ مع العناصر الوطنية الإندونيسية، كذلك، فإن الولايات المتحدة لم تقطَعْ فقط معونتها الاقتصادية عن إسرائيل، لإجبارِها على وقفِ عدوانها على مصر عام 1956م، بل ذهبت إلى خطوةٍ أبعدَ من ذلك في السنة التالية؛ حيث هددت بوقفِ الاستثمار الأمريكي الخاص والهبات الخاصة، والتي وصلت إلى مائة مليون دولار، إذا لم تنسحِبْ إسرائيل من قِطاع غزة[2].

 

ومنذ المقاطعة النفطية العربية عامي 1973م، 1974 أصبح النفطُ أهمَّ الأسلحة الاقتصادية، فبعد حرب أكتوبر بدأ القادةُ العرب يُدركون أهميةَ النفط كأداة للتأثير في سياسات الدول الأخرى تجاه الصراع العربي - الإسرائيلي، وخاصة في اتجاهاتِ تصويت الدول في المنظمات الدولية تجاه القضايا المتفرِّعة عن هذا الصراع.

 

وعلى الرغم من المعونة الهائلة التي منحتها إسرائيلُ للدول الإفريقية في الستينيات، فإن الدولَ العربيةَ استطاعت أن تدفَعَ الدول الإفريقية إلى قطعِ علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل؛ فقد أصبح البترول في غاية الأهمية للدول الإفريقية، ناهيك عن أهميةِ المعونة المالية التي قدمتها الدولُ العربية الأعضاء في منظمة الأوبك لتلك الدول[3]، كذلك فقد وظفت الدولُ العربية قوتَها الاقتصادية في مواجهة الشركات الدولية؛ وذلك بحظرِ الدخول في أي معاملات تجارية مع الشركات المتعاملة مع إسرائيل.

 

والواقع أن استعمال التجارة كأداة للعقابِ والثواب ليس مقصورًا على الدول المنتجة للبترول؛ فكثيرًا ما استُعمِلت العقوبات الاقتصادية كأدوات للمعاقبة أو التأثير في الدول التي تخالف القواعدَ الدولية المتعارَفَ عليها؛ فقد فرضت عصبةُ الأمم عقوباتٍ اقتصادية على إيطاليا عام 1936م احتجاجًا على غزوِها إثيوبيا، كذلك حاولت الأممُ المتحدة فرضَ عقوبات مماثلة على روديسيا وجمهورية جنوب إفريقيا، كما فرَضت الولاياتُ المتحدة العقوباتِ الاقتصادية في ثلاث حالات، الحالة الأولى: كوبا بعد ثورة كاسترو، والثانية: الاتحاد السوفيتي بعد الغزو السوفيتي لأفغانستان عام 1979م، والثالثة: إيران بعد الاستيلاء على السفارة الأمريكية في طهران.

 

وعلى الرغم من شيوع استعمال العقوبات الاقتصادية كأداة للنفوذ، فإن النتائجَ لم تكن مشجِّعة على الإطلاق[4]؛ حيث فشِلت جهودُ عصبة الأمم للتأثير في السلوك الإيطالي العدواني تجاه إثيوبيا، حين زادت الولايات المتحدة - والتي لم تكن عضوًا في العصبة - تجارتَها مع إيطاليا.

 

كذلك فقد استطاعت الشركاتُ متعددة الجنسية والدول الأخرى أن تقلِّلَ من تأثير العقوبات الاقتصادية ضد دول كروديسيا وجنوب إفريقيا، وحينما فرَضَت الولايات المتحدة العقوباتِ الاقتصادية على كوبا تدخَّل الاتحاد السوفيتي لإفشال تلك العقوبات، وأخيرًا فإن الولايات المتحدة لم تستطِعْ أن تحصلَ على تأييد الدول الأخرى لقرارها بفرضِ العقوبات الاقتصادية على الاتحاد السوفيتي وإيران.

 

وقد تأكَّد عدمُ فعالية سلاح العقوبات الاقتصادية في دراسة عشرِ حالات تم فيها استعمالُ هذا السلاح خلال الفترة من عام 1933م حتى عام 1967م، فقد أوضَحَت النتائج أنه بمجرد اتخاذ الدول قرارًا بتخفيض المعاملات التجارية مع الدول الموجَّهة إليها العقوبات، فإنها لا تلجأ إلى مزيدٍ من خفضها؛ لأن مستوى المعاملاتِ التجارية بين الدولتينِ سرعان ما يعود إلى مستواه السابق بعد عامين بغضِّ النظر عن انتهاء أو استمرار الموقف الذي أدَّى إلى فرضِ تلك العقوبات[5].

 

وبعد أن استعرَض أحدُ المتخصصين عدم فعالية المقاطعة التجارية كأداة للضغط الاقتصادي، انتهى إلى أن الأدواتِ الأخرى - كتخفيض الاستثمارات، والتأثير في تسليم قطع الغيار، وعدم إعطاء الترخيصات، وخفض حجم القروض والمنح، ورفض إعادة جدولة الديون الراهنة - قد تكونُ أكثرَ فعالية من سلاحِ المقاطعة التجارية في التأثيرِ على سياسات الدول الأخرى[6]؛ ذلك أن المقاطعة التجارية الكاملة تؤدِّي إلى توحيد شعب الدولة الموجَّهة إليها المقاطعة، وزيادة شعوره الوطني وتضامُنه مع قيادته.

 

وتواجه الدولُ الديمقراطية مشكلاتٍ خاصة عندما تحاول استعمال التجارة كسلاحٍ؛ لأنه عادة ما تكونُ البيروقراطيات الحكومية المتباينة وجماعات المصالح منقسمةً حول هذه القضية، فلم تستطعِ الحكومةُ الأمريكية استعمالَ سلاح التجارة للحصول على تنازلات في المفاوضات الأمريكية السوفيتية في سبتمبر عام 1977م؛ لأن المفاوضَ الأمريكي سرعان ما تبين له من قراءته للجرائد أن وزارةَ الزراعة الأمريكية قد وافقت منفردةً على بيع 7 ملايين طن من القمح تطبيقًا للاتفاقيات الأمريكية - السوفيتية السابقة[7]، زِدْ على ذلك أن الحكوماتِ لا تستطيع ضبطَ سلوك العدد من الشركات المتعددة الجنسية، فكثيرًا ما تلجأُ هذه الشركات إلى بيع السلع المحظور بيعها إلى دولة معينة، عن طريق فروعها الخارجية، وقد أكد البعضُ أن جملة من الشركات الأمريكية قد باعت السلاحَ لألمانيا أثناء الحرب العالمية الثانية.

 

وبالرغمِ من التفوقِ الاقتصادي الظاهر للدول الكبرى المتقدمة، فإنها تستطيع دائمًا أن تحصلَ من الدول الأخرى على التنازلات التجارية المطلوبة؛ فقد أوضحت دراسة خمسة وعشرين نزاعًا تجاريًّا بين الولايات المتحدة ودول أمريكا اللاتينية، أن الولاياتِ المتحدة لم تكن دائمًا هي الطرفَ المنتصر؛ فقد اتضح أن الولاياتِ المتحدة لم تنتصِرْ إلا في سبع من تلك المنازعات، بينما توصلَتْ إلى حل وسط في ست منازعات، وخسرت المنازعاتِ الاثنتي عشرة الأخرى[8].

 

وبصفة عامة، فإن الدولةَ الأقل تقدمًا تتأثرُ بالعقوبات الاقتصادية بدرجة تفوق تأثر الدولة الأكثر تقدمًا بها؛ فلأن اقتصادَ الأولى أقل تنوعًا، فإنها تعاني أكثرَ من غيرها من المقاطعة التجارية، فإن كانت الدولة تنتج سلعةً واحدة، فإن تعطيلَ تصدير هذه السلعة قد يؤدِّي إلى انهيارِ تلك الدولة اقتصاديًّا، كذلك فالدولة الأقل تقدُّمًا لا تمتلك إمكانات التخزين، أو إنتاج البدائل المصنعة التي تمكِّنُها من التغلُّب على المقاطعة التجارية، وهو ما تملكه غالبًا الدولُ الأكثر تقدمًا، زِدْ على ذلك أن عدمَ توافر المهارات التسويقية، ونقص الكوادر الدبلوماسية القادرة على زيادة الصادرات يجعلُ من الدول الأقل تقدمًا أكثرَ قابليةً للتأثر بالمقاطعة التجارية، ومن ناحية أخرى، فإنه يمكن القول: إن قابليةَ الدول المتخلِّفة اقتصاديًّا للتأثر بالمقاطعة التجارية، ربما يشكِّلُ نقطة قوة؛ إذ إنه يجعل الدولة أكثرَ قدرةً على مقاومة القصف الجوي، وعلى تحمُّل الحرمان الاقتصادي؛ ولهذا يرى البعض أنه لو كانت بلجيكا محل فيتنام، لَمَا استطاعت أن تقاومَ الضغط العسكري والاقتصادي الأمريكي؛ حيث إنه يمكن بسهولة التأثيرُ في بلجيكا عن طريق تعطيلِ أو تدمير جزءٍ من اقتصادها نتيجة ترابط جميع أجزاء ذلك الاقتصاد[9]؛ فلأن اقتصاد الدولة المتقدمة يتميزُ بتعدد مراكز إنتاج أجزاء الآلات المعقدة وغيرها من المنتجات، فإنه يمكن شلُّ صناعةٍ معينة عن طريق تعطيلِ نقل تلك الأجزاء، أو تعطيل نظام إنتاج إحداها.

 

ويُعَد التأميمُ أهمَّ الأسلحة الاقتصادية التي تستعملُها الدول النامية؛ فقد تمكَّنت الفلبين في الستينيات من دفعِ الولايات المتحدة إلى تقديمِ تنازلات تِجارية عن طريق التهديد باللجوء إلى هذا السلاح[10]، وقد أشَرْنا في الفصل السابق إلى العديدِ من حالات التأميم التي قبِلتْها الولايات المتحدة دون اللجوء إلى الأدوات الانتقامية المختلفة، المنصوص عليها في تعديلي هكنلوبر وبيللي، فنظرًا إلى تخوُّف الحكومات والشركات الكبرى من أن يؤديَ الانتقامُ إلى مزيدٍ من التأميم، فإنها قرَّرت ألا تتحدى الدول النامية في هذه القضية.



[1] Wesson, State Systems, p. 121.

[2] Trygve Mathiseu, The Functions of Small States (Oslo, Norway: Universitetsforlaget, 1971), P. 218.

[3] Victor T. Levine and Timothy W. Luke, The Arub-African Connection: Political and Economic Realities (Boulder, Col.: Westview Press, 1979).

[4] انظر: Harry R. Stack, Sanctions: The Case of Rhodesia (Syracuse, N.Y.: Syracuse: The Cases of Cuba, Isral, and Rhodesia (Albuquerque: University of New Mexico, 1979).

[5] Peter Walensteen, ''Characteristics of Economic Sanctions,-'' Journal of Peace Research, 5, no.3 (1968), 248-67.

[6] R.S. Olson, ''Economic Coercion in World Politics, '' World Polititcs, 91 31(July 1979), 371-94.

[7] Samuel P. Huntington, '' Trade Technology and Leverage: Economic Diplomacy, '' Foreign Policy (Fall 1978), 75.

[8] John s. Odell, '' Latin American Trade Negotiations with the United states, '' International Organisation, 34 (Spring 1980), 207-28.

[9] Franklin B. Weinstein, Indonesian Foreign Policy and the Dilemma of Dependence (Ithaca, N.Y.: Cornell University Press, 1976), p. 27.

[10] Joseph S .Nye, '' Multinational Corporation in World Politics, '' Foreign Affairs, 53 (October 1974), 158.


رابط الموضوع: http://www.alukah.net/culture/0/73645/#ixzz3K1UQ18lz
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 500 مشاهدة
نشرت فى 24 نوفمبر 2014 بواسطة ahmedkordy

أحمد السيد كردي

ahmedkordy
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

29,720,273

أحمد السيد كردي

موقع أحمد السيد كردي يرحب بزواره الكرام free counters