إن للعمل في الإسلام مكانة عالية ومنزلة رفيعة، به ينال الأجر والثواب، وهو عبادة عظيمة لله وامتثال لأمره، عن طريقه تقوم الحياة، وتعمر الديار، وتزدهر الأوطان، ويحدث الاستقرار، أمر به سبحانه وتعالى فقال: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة: 10]، وقال تعالى: {وَجَعَلْنَا النَّهَارَ‌ مَعَاشًا} [النبأ: 11]، وقال سبحانه وتعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك: 15].

واعتَبَر الإسلام العمل نوعاً من أنواع الجهاد في سبيل الله، فقد رأى بعض الصحابة شابًّا قويًّا يُسرِع إلى عمله، فقالوا: لو كان هذا في سبيل الله، فردَّ عليهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «لا تقولوا هذا؛ فإنَّه إنْ كان خرَج يسعى على ولده صِغارًا فهو في سبيل الله، وإنْ كان خرج يسعى على أبوَيْن شيخَيْن كبيرَيْن فهو في سبيل الله، وإنْ كان خرج يسعى على نفسه يعفُّها فهو في سبيل الله، وإنْ كان خرج رياءً ومفاخرة فهو في سبيل الشيطان» (صحيح الجامع للألباني، برقم: 1428)، إن هدف العمل في الإسلام ليس كسب المال فقط، ففضلاً عن معانيه التعبدية، فإن من غاياته تحقيق الأمن الاجتماعي بين الناس، وهذا يؤدي إلى التوازن النفسي على مستوى الفرد والجماعة، وكم من مجتمعات بلغت الغاية في الكسب المادي، ولكن أفرادها ظلت حياتهم مملوءة بالقلق والخوف والوحدة والشعور الحاد بالغربة القاتلة، وكأنها تعيش في غابة مملوءة بالوحوش الكاسرة، لذا نجد علاقات طردية بين العمل الصالح -والذي من وراءه بسط الرزق- والتوازن الاجتماعي، وهذا المفهوم يتضح من خلال الحديث الصحيح: «من سره أن يبسط له في رزقه أو يُنسأ له في أثره فليصل رحمه» (البخاري، برقم: 2067، ومسلم، برقم: 2557).

لقد جعل الله الأرض مستقر حياة الإنسان ومعاشه في هذه الدنيا، وأوجد فيها الكثير من النعم، وسخر جميع المخلوقات لخدمته، ونوع له أبواب الرزق وطرقه، وأمره بالسعي والعمل الصالح النافع الذي جعله سببا لمعاشه وعزته وقوته، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً} [الكهف: 107]، والمطلوب أن ينزل المسلم في ميادين الحياة مكافحا، وإلى أبواب الرزق ساعيا، ولكن قلبه معلق بالله، وفكره لا يغيب عن مراقبة الله وخشيته، والالتزام بحدوده والتقيد بأوامره، قال تعالى: {رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [النور: 37].

أيها المؤمنون، عباد الله: إن نظام هذه الحياة، يتطلب السعي والعمل، فجميع المخلوقات من حولنا تسعى بجد، وتعمل بنشاط، فكان من الواجب أن ينهض الإنسان للعمل مستشعراً بشعار الجد والنشاط، طارحاً القعود والكسل وراءه ظهرياً، حتى يقوم بما فرضته عليه طبيعة الإنسانية، وهي سنة الله في خلقه، وبما أوحت إليه القوانين الشرعية، والعاقل لا يرضى لنفسه أن يكون كلا على غيره، وهو يعلم أن الرزق منوط بالسعي، وأن مصالح الحياة لا تتم إلا باشتراك الأفراد حتى يقوم كل واحد بعمل خاص له، وهناك تتبادل المنافع، وتدور رحى الأعمال، ويتم النظام على الوجه الأكمل. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده» (رواه البخاري)، ويقول أيضًا: «إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلةٌ فإن استَطاع ألاَّ يقوم حتى يغرسها فليفعلْ» (رواه البخاري في: الأدب المفرد، رقم: 479). قال ابن عباس رضي الله عنهما: “كان آدم -عليه السلام- حراثاً، ونوح نجاراً، وإدريس خياطاً، وإبراهيم ولوط كانا يعملان في الزراعة، وصالح تاجراً، وداود حداداً..

قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ، أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [سبأ: 10-11]. وموسى وشعيب ومحمد صلوات الله تعالى عليهم رعاة للأغنام، وعمل صلى الله عليه وسلم أيضاً في التجارة فخرج إلى الشام في تجارة عمه وزوجه خديجة رضي الله عنها”. قال لقمان الحكيم لابنه يوما: “يا بني استعن بالكسب الحلال فإنه ما افتقر أحد قط إلا أصابه ثلاث خصال: رقة في دينه، وضعف في عقله، وذهاب مروءته وأعظم من هذه الخصال استخفاف الناس به”.

لقد عظم الإسلام من شأن العمل مهما كان هذا العمل، في المصنع أو في المتجر أو في المستشفى أو في الوزارة أو في السوق، أو في بناء العمارات وتشييد المباني، أو في الزراعة وحراثة الأرض، أو حتى كان العمل في حفظ الأمن وحراسة الأموال والأعراض، أو حتى كان في القضاء والفصل بين الناس أو غير ذلك، بل حتى عمل المرأة في بيتها لزوجها وأولادها فأنها تؤجر عليه. فعلى قدر عمل الإنسان يكون جزاؤه، قال الله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [الحج: 97].

 

ومن آداب العمل في الإسلام أن يكون العامل قويًّا أمينًا. والقوة تتحقق بأن يكون عالمًا بالعمل الذي يسند إليه، وقادرًا على القيام به، وأن يكون أمينًا على ما تحت يده، قال الله تعالى: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص: 26]، وأن يكون العامل بعيداً عن الغش والتحايل، فالغش ليس من صفات المؤمنين، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من غش فليس مني» (مسلم وأبو داود والترمذي)، وعن أبو هريرة، «أنَّ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ مرَّ على صُبرةِ طعامٍ. فأدخلَ يدَهُ فيها. فنالت أصابعُهُ بللًا. فقالَ ما هذا يا صاحبَ الطَّعامِ؟ قالَ أصابَتهُ السَّماءُ. يا رسولَ اللَّهِ! قالَ أفلا جعلتَهُ فوقَ الطَّعامِ كي يراهُ النَّاسُ؟ من غَشَّ فليسَ منِّي» (رواه مسلم)

ومن الآداب والواجبات على العامل المسلم الالتزام بالمواعيد، والنصح لصاحب العمل، وتحري الحلال، والبعد عن الأعمال المحرمة، ويجب على العامل أن يحفظ أسرار عمله، فلا يتحدث إلى أحد -خارج عمله- عن أمورٍ تعتبر من أسرار العمل، وعليه أن يلتزم بقوانين العمل، ويجب على العامل أيضا أن يحافظ على أداء الصلوات وإيتاء الزكاة، والقيام بسائر العبادات على أكمل وأحسن وجه، بل إن ذلك من أسباب الحصول على الرزق والتوسعة فيه، قال تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه: 132]، وقال صلى الله عليه وسلم: «ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم تؤت كبيرة، وذلك الدهر كله» (رواه مسلم)

وإذا كان العمل بهذه الأهمية والمكانة، فإن له آداب وواجبات ينبغي لكل مسلم أن يلتزم بها وهو يقوم بأي عمل من الأعمال، فعليه ابتداءاً أن يتقن في عمله، وتلك صفة عظيمة في حياة المؤمن، لذلك كانت مطالبة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الإتقان في الأعمال، فقد قال: «إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه» (السلسلة الصحيحة، رقم: 1113). فالإتقان سمة أساسية في الشخصية المسلمة يربيها الإسلام فيه منذ أن يدخل فيه، وهي التي تحدث التغيير في سلوكه ونشاطه، ولأن كل عمل يقوم به المسلم بنيّة العبادة هو عمل مقبول عند الله، يُجازى عليه سواء كان عمل دنيا أم آخرة. قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّـهِ رَ‌بِّ الْعَالَمِينَ . لَا شَرِ‌يكَ لَهُ وَبِذَٰلِكَ أُمِرْ‌تُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162-163]. ومن الآداب أن الإسلام نهى أن يجلس الرجل بدون عمل، ثم يمد يده للناس يسألهم المال، فالذي يطلب المال من الناس مع قدرته على العمل ظالم لنفسه؛ لأنه يُعرِّضها لذل السؤال، وقد حذَّر النبي صلى الله عليه وسلم من المسألة، وبالغ في النهي عنها والتنفير منها، فقال صلى الله عليه وسلم: «اليد العُلْيَا خير من اليد السُّفْلَى، وابدأ بمن تعول، وخير الصدقة عن ظهر غنى، ومن يستعفف يعِفَّه الله، ومن يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ الله» (متفق عليه). وقال صلى الله عليه وسلم: «لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب على ظهره خير له من أن يأتي رجلا فيسأله أعطاه أو منعه» (البخاري). ويقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "لا يقعدن أحدكم عن طلب الرزق، ويقول: اللهم ارزقني، وقد علم أن السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة"، ويقول أيضاً: رضي الله عنه: "أني لأرى الرجل فيعجبني فأقول أله حرفة فإن قالوا لا سقط من عيني". فعلى المسلم أن يعمل ويجتهد حتى تتحقق قيمته في الحياة.
المصدر: http://gl-news.net
ahmedkordy

خدمات البحث العلمي 01009848570

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 9645 مشاهدة
نشرت فى 24 نوفمبر 2014 بواسطة ahmedkordy

أحمد السيد كردي

ahmedkordy
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

30,799,626

أحمد السيد كردي

موقع أحمد السيد كردي يرحب بزواره الكرام free counters