أيها الإخوة الكرام هذا الموضوع موضوع هام، وموضوع متشعب، وقد أمر الله تبارك وتعالى بالإصلاح، ونهى عن الفساد، فقال عز من قائل: ﴿وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ المُفْسِدِينَ﴾ [سورة الأعراف : الآية 142].

وقال تبارك وتعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾ [سورة البقرة : الآية 11]. وقال سبحانه: ﴿وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا﴾ [سورة الأعراف : الآية 56 ]. 

 

وقضى تبارك وتعالى بعدم صلاح أعمال المفسدين، وبَيَّن بغضه للفساد وأهله، فقال سبحانه: ﴿وَلَا تَبْغِ الفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ المُفْسِدِينَ﴾ [سورة القصص : الآية 77]. وقال سبحانه: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ المُفْسِدِينَ ﴾ [سورة يونس : الآية 81].

أنواع الفساد:

 لقد شدد الله سبحانه في عقوبة الفساد والمفسدين، وينقسم الفساد إلى قسمين: معنوي وحِسِّي.

الفساد المعنوي:

 كما في قوله تعالى: ﴿مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا﴾ [سورة المائدة : الآية 32].

الفساد الحسي

كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [سورة المائدة : الآية 33 ].

الفساد الإداري

ومن أنواع الفساد المنهي عنه من قبل الله تبارك وتعالى الفساد الإداري والرشوة، وسوف نعرض هذا الموضوع المتشعب في عناصر تسهيلا على المتحدث وتيسيرًا في تحقيق الفائدة للمتلقي، وهذه العناصر التي سنتحدث عنها سنوضح من خلالها بيان حكم الفساد الإداري والرشوة الشرعي وسنبين بعض صورهما، ونوضح بعد ذلك أسباب فشو وانتشار الفساد الإداري في المجتمع وآثاره، ثم نختم ببيان علاجه.

لقد انتشر هذا الأمر خاصة في الوظائف سواء كانت وظائف حكومية أو وظائف في مؤسسات خاصة، حيث أصبح غالب الناس يعمل في تلك الوظائف، فمن خلال هذه الوظائف انتشر الفساد الإدراي وانتشرت صوره المتعددة، وانتشرت الرشوة.

تعريف الفساد الإداري

إن الفساد الإدراي هو استغلال السلطة العامة لتحقيق المصالح الشخصية، وذلك كأن تستغل المصلحة العامة في تحقيق المصالح الشخصية، لا للعمل بها على الوجه المطلوب.

ويمكن أيضًا أن يُعبَّر عنه بأن يقال: هو عدم أداء الأعمال الوظيفية على الوجه المطلوب شَرْعًا ونظامًا، فإذا لم يُؤَدَّ العمل على وجهه، فإن هذا صورة من صور الفساد الإداري.

تعريف الرشوة

إن الرِّشْوة مأخوذة في اللغة من الرِّشَاء، وهو الحبل الذي يُمَدُّ إلى البئر ليتوصل به إلى الماء، فكأن الرِّشْوة حبل يُتوصَّل بها إلى الحصول على المطلوب، سواء كان موافقًا للشرع أو لا، فكما أن الرِّشَاء يُتوصَّلُ به إلى استخراج الماء بالدلو من البئر، فإن هذه الرشوة يتوصل بها إلى تحقيق ما ليس لك، فمن هنا جاءت تسميتها رِشْوة، وهذا هو الوجه الذي يجمع بين الجانب اللغوي والجانب الاصطلاحي الذي نذكره الآن.

وتعريف الرِّشْوة في الاصطلاح: هي دفع مال أو أخذه مقابل إعانة من ذي جاه على ما لا يحل. فمن دفع مالا، أو أخذ مالا مقابل إعانة صاحب جاه لتحصيل وتحقيق ما لا يحل، فإن هذا يصدق عليه من حيث الاصطلاح لفظ الرشوة.

أما الفساد الإداري فقد ظهر لنا أنه منهي عنه بالآيات التي سقناها قبل قليل، فقد زجر الشرع ونهى عن الفساد والإفساد، وبان لنا بالأدلة بغض الله له وتحريمه، مما يدل على عظم هذا المنكر عند الله تبارك وتعالى، وأن الله لا يصلح عمل من يسعى فيه، فهذا قد تقدم ذكر الأدلة عليه.

أما فيما يتعلق بالرِّشْوة فتحريمها جاء به الكتاب والسنة وإجماع أهل العلم، فمن كتاب الله الكريم قول الله تبارك وتعالى: ﴿ وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [سورة البقرة : الآية 188]، فهذا نهي من الله تبارك وتعالى أن تؤكل أموال الناس بالباطل، ومن ضمنها: أن تدلوا أيها الناس بالأموال للقضاة أو مَن يحكم بينكم من أجل أن تأكلوا أموال بعضكم بالإثم والعدوان، والأكل بالباطل هو وجه الدلالة من الآية الكريمة، قال تعالى: ﴿ وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الحُكَّامِ ﴾ [سورة البقرة : الآية 188] يعني الذين يقضون بينكم، ﴿ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [سورة البقرة : الآية 188]، إما أن تكون اللام في قوله: لتأكلوا. للتعليل، أي: من أجل أن تحصلوا على أموال الناس بالباطل، لا بالحق، أو هي لام العاقبة أو الصيرورة، كما يقول أهل العلم، أي: أنكم إذا فعلتم ذلك وقعتم في الأكل، أكل فريق من أموال الناس. فهذه الآية جاءت واضحة الدلالة على تحريم الرِّشْوة، ومن ذلك أيضًا قوله تعالى عن اليهود في معرض الذم لهم: ﴿ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ ﴾ [سورة المائدة : الآية 42]، والسحت كما فَسَّره جمع من أئمة التفسير كالحسن البصري ومجاهد هو الرشوة، وذلك أن الرِّشْوة أول ما فشت في اليهود، فمن سار على طريقهم ونحى منحاهم فإنه يناله من الإثم ما نالهم؛ لأن الله تبارك وتعالى حرم هذا على أولئك، وجعله محرمًا أيضًا على مَن بعدهم، فإنَّ ذَمَّهم في كتابه سبحانه وتعالى على هذا الفعل فيه تحذير لنا وحضٌّ على الابتعاد عن هذا المسلك الذي ساروا عليه، لكي لا نوصم بهذا الذنب الذي خالطوه وذمهم عليه المولى تبارك وتعالى، فانظر كيف وصفهم الله سبحانه وتعالى حيث قال: ﴿ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ ﴾ [سورة المائدة : الآية 42]، وقد لُعِن هؤلاء اليهود على فعلهم هذا، فمن شابههم فإنه يناله من الوعيد ما نالهم، وقد جاءت السنة النبوية المطهرة بالتحذير من الرشوة، فقد لعن المصطفى عليه الصلاة والسلام من فعل هذا الفعل، فعن عبد الله بن عمرو قال: «لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ»(1)

هذا لعن من رسول الله صلى الله عليه وسلم للراشي يعني دافع الرشوة، والمرتشي يعني آخذها، فهما ملعونان كما في هذا الحديث الشريف، فمن فعل ذلك سواء بأخذها أو بإعطائها أو كان وسيطًا في تنفيذ هذا الفعل فإن له نصيبه من هذا اللعن، وحكى ابن حزم رحمه الله في كتابه مراتب الإجماع أن الأمة أجمعت على تحريم الرشوة، وإذا كان هذا الأمر على ما تبين لنا من تحريمه في كتاب الله تبارك وتعالى وسنة رسوله وإجماع أمة محمد صلى الله عليه وسلم فإنه إنما يدل على عظم هذا الذنب، وأنه جريمة، وأن الواجب على المسلم البعد عنه وعدم الانغماس فيه، أو التوصل إليه بأي سبيل، سواء كنا بدفعها أو أخذها أو السعي والتوسط فيها.

أنواع الفساد الإداري

سبق أن تكلمنا عن أنواع الفساد ومنها الفساد الإداري، لكن هذا النوع أيضًا له أنواع عدة، نأخذ منها ثلاثة أنواع لعلها تكون أهمها، ولكل نوع عديد من الصور.

 1- الخروج على الأنظمة والتعليمات

إن الخروج على الأنظمة والتعليمات مِن قِبَل الموظفين، كأن يخرج الموظف على تعليمات رؤسائه ومسئوليه، يعد – بما لا شك فيه – نوعًا من أنواع الفساد الإداري.

كذلك من صور الفساد الإداري المتمثل في الخروج على الأنظمة عدم احترام وقت العمل والالتزام بمواعيده المقررة، كأن يكون وقت العمل يبدأ من الساعة الفلانية، فلا يأتي إلا بعد مضي جزء من الزمن، قد يصل إلى ما يقارب الساعة وربما أكثر، فهذا فساد إداري؛ لأنه موظف، ويُعْطَى راتبًا على العمل الذي يبدأ من وقت كذا إلى وقت كذا، يعني يبدأ الدوام في الساعة الفلانية وينتهي في الساعة الفلانية، فعدم احترام هذا الوقت يُعَدُّ نوعًا من أنواع الفساد الإداري، أو صورة من صور الخروج على الأنظمة والتعليمات، فعدم احترام وقت العمل يجعلك تندرج تحت قائمة من يخلون بواجباتهم.

 ومن صوره أيضًا أن تكون موجودًا في بداية الدوام، وتبقى إلى نهايته، لكنك لا تحترم الوقت الذي جئت فيه، بمعنى أنك تنشغل بمطالعة الصحف، أو بقراءة الكتب، أو بالحديث مع الزملاء في المكتب، وتترك القيام بالأعمال التي أنيطت بك، أو تترك قضاء حوائج الناس من مصالح عامة كاستخراج أوراق أنت مسئول عن استخراجها وتترك الناس يزدحمون بعضهم خلف بعض وأنت لا تلقي لذلك بالا، فهذا ليس احتراما لوقت العمل، وهو صورة من صور الخروج على الأنظمة والتعليمات.

 ومن صوره عدم احترام العمل نفسه وذلك إما برفض العمل الذي أُسْند إليك ويقتضي عليك أن تقوم به فترفض أداءه، أو تؤديه على غير وجهه، فينبغي لك أن تأتي به على الوجه الذي يقتضيه العمل، فإن لم تلق لذلك بالا فهذا أيضًا صورة من صور الخروج على الأنظمة والتعليمات، فأنت أيها الموظف تحضر من بداية العمل وتبقى فيه لكنك لم تحترم العمل نفسه ولم تؤده على الوجه المطلوب أو رفضته فهذا صورة من صور الفساد.

ومن صوره عدم تنفيذ أوامر الرؤساء وتعليماتهم واختلاق الأعذار الباطلة وعدم الامتثال لهم، فعدم امتثال الأوامر واختلاق الأعذار الباطلة وإتباعها بالأَيْمان الكاذبة على أن عذرك كذا وكذا وأنت لست بصادق، فهذا كله أيها الأخ المسلم الكريم صورة من صور الخروج على تنظيمات العمل.

كذلك أيضًا من صوره إفشاء أسرار العمل، فإن إفشاء أسرار العمل يُعَدُّ من صور الخروج على التعليمات والأنظمة، وخاصة إذا كانت هذه الأسرار التي تفشيها لها صلة بعقود أو بمناقصات أو بمسابقات وظيفية ونحو ذلك من الأمور التي يترتب عليها مصالح العموم، فأنت حين تفشي تلك الأسرار تعد خائنًا لعملك وخارجا على تعليماته، وتكون بهذا قد تعاطيت صورة من صور الفساد الإداري، فهذا نوع من أنواعه نعني الخروج على التنظيمات والتعليمات أو الخروج على الأنظمة والتعليمات.

2- الاستخدام السيئ للسلطة

إن الموظف قد تكون له سلطة تختلف أهميتها من حيث العِظَم والصِّغَر عن غيره، فكل موظف يتباين مع الآخر من حيث المرتبة، لكن هذه السلطة إذا أسيء استعمالها فهذا يعد نوعًا من أنواع الفساد الإداري، وهذا له عدة صور:

صور الاستخدام السيئ للسلطة

من صور الاستخدام السيئ للسلطة استعمال الأموال العامة للمصالح الشخصية، معلوم أن الموظف قد يكون مسئولاً كبيرًا كأن يكون وزيرًا أو مديرًا أو رئيسَ قسمٍ أو نحو ذلك، فيكون تابعًا لمؤسسته بعضُ الأموال العامة مثل السيارات الخاصة بالمؤسسة التي يعمل بها، وكأن يكون تحت رئاسته عمال وموظفون أو آلات كاتبة أو آلات تصوير أو آلات كذا وكذا … إلخ، فتجد هذا المسئول يسيء استعمال هذه الأمانات التي عنده ويجعلها لمصالحه الشخصية، فيستخدم سيارة العمل لتوصيل أولاده في ذهابهم لمدارسهم أو قضاء حوائجهم، ويستخدمها لقضاء لوازم بيته من السوق، يستغل سيارة العمل في قضاء تلك الأمور.

كذلك يستعمل العمال الذين تحت سلطته في المؤسسة التي يعمل بها مديرًا أو ما شابه لمصالحه، فهذا يذهب للسوق يقضي له الأغراض، وذاك يذهب له في مراجعة دائرة حكومية، وذاك في كذا، وذاك في كذا … بينما هم قد كلفوا بالقيام بأعمال في هذه المؤسسة، لا في قضاء هذه الأعمال، فهذا صورة من الاستغلال السيئ للسلطة العامة في تحقيق المصالح الشخصية.

 ومن صور الاستغلال السيئ للسلطة استخدام الآلات الكاتبة أو آلات التصوير التي في حيازته وتشغيلها لحسابه وتحصيل الأموال من خلالها، واستعمال بعض الأمور المتعلقة بها من أحبار وظروف وأقلام … إلى آخر هذه الأمور التي لا تحصى كثرتها فهذا باب واسع، فتجد كثيرًا من الناس يتساهلون في هذا الباب، ويظنون أنه طالما كان مسئولاً أو رئيسًا، فإن من حقه أن يتصرف كما يشاء، فهذه صورة من صور الاستخدام السيئ للسلطة.

 كذلك من صور الاستغلال السيئ للسلطة ما يسمونه بلغة العامة “المحسوبية”، وذلك أن يستخدم سلطته في تعيين الأقارب والمعارف دون أهليتهم وكفاءتهم، وتقديمهم على من هو أكفأ وأجدر من أجل تلك الوساطة، كذلك أن يتوسط المسئول – بحكم نفوذه – لمعارفه في بعض الجهات الأخرى، يعني إذا لم يجد شيئًا ينابسهم في دائرته توسط لهم عند جهات أخرى له عليها سيطرة أو شيء من السلطة، فيطلب من هذه الجهات توظيف هؤلاء الأقارب والمعارف أو نحو ذلك، فهذا لا ينبغي، ومَن قدَّم شَخْصًا ليس بكُفْءٍ ولا جدير بهذه الوظيفة على شخص له كفاءة وأَحَقِّية فقد خان الله ورسوله وخان المؤمنين، ولم يؤدِّ الأمانة على هذا.

 وهناك صورة من صور الاستعمال السيئ للسلطة أو الاستخدام السيئ للسلطة أيضًا وهي عدم صرف ميزانية المؤسسة أو الوزارة فيما وُضِعت له، فالميزانية والموازنة التي خصصت لهذه الدائرة جاءت وَفْق أبواب ووَفْق بنود مُعيَّنة فعدم صرف تلك الأموال في تلك الأوجه يُعَدُّ من الاستعمال السيئ للسلطة، فصرف ميزانية الوزارة أو المؤسسة في غير ما عُيِّنت له وجهٌ من عدم صرفها في مصارفها الشرعية، وهذا وجه من وجوه الاستخدام السيئ للسلطة.

ومن صور هذا النوع من الفساد الإتيان بأوامر صرف وإعداد محاضر لاستحقاقها كذبًا وزُورًا، كأن يأتي ببيان فيه أنا صرفنا كذا من المال، وبأنه اعتمد للعمل الفلاني مبلغ كذا، وهو في الواقع لم يعمل عملا ينبغي أن يخصص له هذا المال، مثلا يقوم بعمل مشاريع وَهْمِيَّة ويستخرج لها ميزانية، وفي الواقع أن تلك المشاريع إنما هي على الورق فقط، فمثل هذا يُعَدُّ استخدامًا سيئًا للسلطة، بل هو أساس راسخ في الفساد الإداري، تؤخذ أموال الأمة وتصرف بغير حق، ويُطْبَع إلى الناس أنها أُخذت لكذا وكذا، ثم تكون النتيجة أنَّ شيئًا من ذلك لم يكن، وأن المال فعلا قد صرف، ولكن في غير وجهه، وهذا له عواقبه الوخيمة خاصة في المجتمعات التي تفشى فيها مثل هذا الداء العضال.

 ومن صور الاستخدام السيئ للسلطة المبالغة في تقدير التكاليف للعقود والمناقصات، والتلاعب في ميزانية بعض المشاريع التي لا تكون تكلفتها إلا مبلغًا معينا، فيحتال بأنه يتكلف كذا، ويقتضي وضع كذا، وأن أسعار كذا تبلغ كذا وكذا، حتى يظهر أن الكلفة للمشروع مثلا خمسمائة مليون أو أكثر وفي الحقيقة أن التكلفة أقل من ذلك، وهناك من يضع الشيء هنا وهناك ويتستر عليه وهو يعلم بمكانه، فكل هؤلاء مسيئون لاستخدام وظائفهم وسلطاتهم ويعد هذا من أكبر صور الفساد الإداري؛ لأنه استخدام سيئ للسلطة، وهذه الصورة تخلتف عن سابقتها لأن الصورة السابقة تكون العقود والمناقصات فيها وهمية لا حقيقة لها ويستخرج لها مبالغ، أما هذه الصورة فهي عقود على مشاريع فعلا ستقام لكن لا تقام بهذه المواصفات التي ذُكِرت في العقود والبنود، مما يقتضى رفع سقف المبلغ حتى يصل إلى كذا وكذا من الملايين، في حين أن المنفذ لا يستخدم إلا بعضًا وجزءًا من هذه المبالغ الكبيرة.

كذلك من صور الاستخدام السيئ للسلطة سوء استخدام المال العام بتبديده وتبذيره في تأسيس المكاتب الفاخرة والمباني الفارهة وإقامة الحفلات الدعائية وصرفه في التهنئة والتعزية ونشر ذلك في وسائل الإعلام من صحف ومجلات وقنوات وسائر أنواع الإعلام، كل هذا من أجل التلميع لأشخاص أو الرفع منهم والغط من آخرين، أو إضفاء شيء من الأبهة على رئيس الدائرة أو رئيس المكتب، فيكون المبنى كذا والمكتب كذا، والمدخل إليه بحاجب إثر حاجب … وهكذا، مما يكون سببا للتعالي على أصحاب الحاجات، وهذا كله صورة من الصور التي يغري بها الشيطان مَن في قلوبهم تقبل لمثل هذا، وهي صورة من صور الاستخدام السيئ للسلطة

 3- الإقدام على الرشوة أخذًا وعطاءً

 من صور الفساد الإداري الإقدام على الرشوة أخذًا وعطاءً وكذلك الاختلاس من المال العام وكذلك التزوير، فهذه ثلاث صور لهذا النوع، الرشوة والاختلاس والتزوير.

 إن الرشوة سُحْت وقد تقدم بيان الأدلة من كتاب الله وسنة رسوله وإجماع الأمة على تحريمها، فالرشوة نوع ظاهر من أنواع الفساد الإداري، فبالإضافة إلى أنها أكل لمال الناس بالباطل، فهي أيضًا فساد إداري، وإذا فشت في مجتمع فقل عليه السلام؛ لأنها تضييع لحقوق الناس وبها يتشبع كثير من الناس بالحرام وفي حديث رواه البيهقي: «أَيُّمَا لَحْمٍ نَبَتَ مِنْ حَرَامٍ فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ»(2 ) ، نعوذ بالله من النار وما قرب إليها من قول وعمل.

 إن الاختلاس من المال العام كأن يدعي أنه مصاب بمصيبة وأنه جرى عليه كذا وكذا ويتقدم بشهادة فلان وفلان، وربما استخرج به صَكًّا مُزوَّرًا ثم يقتطع به مالا، هذا نوع من الاختلاس، وأحيانًا يكون في حيازته مبلغ معين فيختلسه بطريقة فيها التفاف وتحايل، كأن يأتي بمستندات وإيصالات فيها أن المبلغ الفلاني صرف في كذا، وأن المبلغ الفلاني صرف في كذا، في أمور متلفة كما يقال في محروقات، فهذا اختلاس من المال العام، كذلك التزوير في المستندات مثل الصورة التي ذكرناها قبل قليل وهي أن يستخرج صكوكا من المحاكم، ولكي يتحقق كل هذا يأتى فيه شهادة الزور وشهداء الزور وأكل المال الحرام، فيتقاسمونه وهذا مما يغضب الله تبارك وتعالى، وفي هذا تعاون على الإثم والعدوان، وليس من التعاون على البر والتقوى، وإذا فشى هذا الأمر في أمة فإن مرضها يكون عَظيمًا وداؤها يكون عُضالاً، ونحتاج إلى رحمة رب العالمين في شفائها منها، وإذا كان هذا الفساد الإداري منه هذه الأنواع التي ذكرناها فهل جاء من غير سبب، يعني هل جاء هذا الفساد الإداري وانتشر في الناس من دون أن يكون له أسباب هيئت له ودعت لوجوده، وساعدت على انتشاره وفشوه في المجتمعات، في الحقيقة إن لذلك أسبابًا بلا شك، وسنذكر بعضًا من هذه الأسباب.

أسباب الفساد الإداري

 من أسباب الفساد الإداري ضعف وازع التقوى من ضعف إيمانه وضعفت تقواه هان عليه التقحم لتلك المصائب والمعاصي والكبائر، ولهذا من كان تقيًّا كان أقرب للبعد عن الوقوع في هذه المحرمات؛ لأن التقوى في حقيقتها أن تجعل بينك وبين عذاب الله وقاية، وهذه الوقاية هي امتثال أوامره عز وجل في كتابه أو على لسان رسوله، واجتناب نواهيه الواردة في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، فضعف وازع التقوى هو مما يدعو لوجود مثل هذا الفساد وفشوه

وهناك سبب ثان وهو ضعف الأمانة، وقد بين النبي عليه الصلاة والسلام عِظَم الأمانة في قوله عليه الصلاة والسلام: «أول ما تفقدون من دينكم الأمانة وآخر ما تفقدون الصلاة»( 3) وعَظَّم الله عز وجل شأن الأمانة، فبين أنه عرضها على السماوات والأرض فأبين أن يحملنها كما في قوله: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾ [سورة الأحزاب : الآية 72]، فضعف الأمانة عند الشخص يجعله يستهين بهذا الأمر ويقع فيه.

 كذلك أيضًا من أسباب فشو الفساد الإداري في المجتمعات قلة الراتب والامتياز للموظف، وهذا ليس مبيحًا له، لكنا نذكره مثل ضعف التقوى، فهو أحد الأسباب وإن كنا لا نقر أن يكون المسلم ضعيف التقوى، لكن نذكر الأسباب التي تؤدي إلى فشو الفساد الإداري حتى إذا جئنا إلى وسائل العلاج نذكر ما يمكن أن يسهم في علاج هذا الداء، فقلة الراتب أو الرواتب أو المقابل للأعمال ربما تدفع النفس فتضعف، فيأخذ الإنسان ما لا يحل له وما لا حق له فيه، ومن هنا نقول: إن ضعف الراتب وقلته ليس مبيحًا، ولكن وإن كان سببًا فإن على المسلم أن تكون تقوى الله عز وجل حاجزًا بينه وبين الحرام، وعليه أن يعلم أن القليل المبارك فيه والحلال خير من الحرام منزوع البركة.

 ومن الأسباب أيضًا الرغبة في الحصول على الثراء ولو بطريق غير مشروع، بعض الناس يسعى ويجعل في مطامحه ومطالبه أن يكون ثَرِيًّا في وقت وجيز، فإذا جعل هذا المطمح نُصْب عينيه هان عليه الحرام في سبيل تحقيقه بكل وسيلة، ولم يعبأ بالوسائل المحرمة، فكل ما سقط في يده فهو الحلال، سواء كان من طريق حرام أو من طريق حلال، وهذا هو الذي لا ينبغي للمسلم وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«نِعِمَّا بِالْمَالِ الصَّالِحِ لِلرَّجُلِ الصَّالِحِ»( 4)

 وقال تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ﴾ [سورة البقرة: الآية 198] ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾ [سورة البقرة : الآية 197].

 ومن التقوى أيضًا أن تكون مكاسبك حلالا، فإن تزودت من مال فإن هذا مما يقويك بلا شك، ولكن ينبغي أن تكون الوسيلة وأن يكون الحصول على هذا المال بالوسائل المشروعة لك؛ لأنه ليس الحلال ما حل في يدك، وإنما الحلال ما أحله الله لك.

 ومن أسباب فشو الفساد الإداري كذلك عدم الرغبة في أداء التكاليف المنوطة بك، بعض الناس يتكاسل، فلا يرغب أن يكلف بشيء، ويريد أن يتحلل من هذه التكاليف، فماذا يسلك، لا شك أنه يسلك الوسائل غير المشروعة، كأن يتغيب عن الدوام، وإذا أحيل له تكليف بأمر أو مهمة سعى في أن تحال إلى غيره، وهكذا فتجده يسعى في عدم أداء التكاليف المكلف بها، وهذا قد يكون على سبيل الكسل وقد يكون على سبيل الطمع، كأن يتحلل من أداء التكاليف من أجل أن يقضي وقت العمل الخاص به في أداء مصالح أخرى شخصية، فتجد أن ذمته مشغولة بأداء عمل، ربما يكون هذا العمل في المكتب، ثم تجده يلزم غُرْفةً أخرى يقوم فيها بطباعة بحث لشخصٍ ما قد أخذ منه مصلحة على كتابة هذا البحث الصفحة مثلا بخمسة ريالات بعشرة ريالات، فهو دائم السعي في التحلل من أداء تكليف الوظيفة طمعًا في الحصول على مبلغ من جهة أخرى، فهذا أيضا من أسباب الفساد الإداري.

 ومن أسباب الفساد الإداري أيضًا الطمع، فكثير من النفوس عندها قبول للطمع، والنبي عليه الصلاة والسلام قد قال«لَوْ كَانَ لاِبْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ مَالٍ لاَبْتَغَى ثَالِثًا، وَلاَ يَمْلأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلاَّ التُّرَابُ، وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ»( 5)، فتجد الطمع ماثلا بين عينيه وظاهرًا، وإذا طمع الإنسان فيما يحق له فهذا مشروع وليس بالطمع المنهي عنه، وأما إذا طمع الإنسان فيما ليس له، وأراد التكثر والتشبع بما ليس له، فهذا كلابس ثوبي زور كما قال صلى الله عليه وسلم: «الْمُتَشَبِّعُ بِمَا لَمْ يُعْطَ كَلاَبِسِ ثَوْبَىْ زُورٍ»( 6) فوجود الطمع في كثير من النفوس يعد سببا في الوقوع في الفساد الإداري، ويكون هذا سببًا من أسباب وجوده وانتشاره في الأمة، هذه هي أسباب الفساد الإداري ولعلها أظهرها وأهمها.

 وإذا كان الفساد الإداري له تلك الأسباب، فما آثاره إذا هيمن على الأمة وظهر وانتشر؟

إن الفساد الإداري له عدة آثار على الفرد وعلى المجتمع، فأما الفرد فإنه يكون عُضْوَ هَدْمٍ وخرابٍ في المجتمع، ويكون ممن يأكل حرامًا فلا يُسْمَع له دعاء، وأي مال نبت من سحت فالنار أولى به، وتجد المال قد كثر في يده، ولكن الغِنَى أُبْعِد عن قلبه، فابتلاه الله عز وجل بفقر القلب، وهذا موجود في كثير ممن يتعاطون ما لا يحل لهم، تكثر دنياهم وترتفع أرصدتهم في البنوك وأرقامهم تصل إلى كذا وإلى كذا ومع ذلك، تجد حالهم في طمأنينة النفس وفي راحة البال في سيئ بل في أسوإ حال، وهذا من ضنك العيش الذي وعد الله به من تَنَكَّب عن طريق الحق.

 وأما آثاره السيئة على المجتمع وعلى الأمة يتمثل في قلة الإيرادات الحكومية، فتخسر الحكومة مبالغ طائلة من الإيرادات المستحقة لها بسبب هذا المرض الخبيث، ولنأخذ مثالا وهو تحصيل الرسوم سواء كانت هذه الرسوم تحصل عند منافذ الدخول أو كانت تؤخذ على مخالفات في تجاوزات نظامية، كأن تكون هناك لائحة عقوبات تنص على: من فعل كذا فجزائه كذا أو عليه غرامة مالية قدرها كذا. فنجد أنه إذا تسرب الفساد الإداري إلى الإحالة دون تنفيذ هذه اللوائح، فإن هذه المبالغ لا يتم تحصيلها، وذلك إما بردها إلى أصحابها عن طريق الوساطة وعن طريق الوجاهة، وإما أن تكون عن طريق التحصيل لجيبه ومصالحه الخاصة، وتحرم منها الدولة، فهذا جانب، فإذا تمت رشوة القائمين على أمور التحصيل فإن الدخول لا شك قد تنحسر، وهذا مما يؤدي إلى قلة وجود المبالغ في الخزينة، وبخاصة إذا كانت الدولة قد وضعت أو احتاجت لمثل هذه الرسوم.

الأثر الثاني من آثار هذا الفساد على المجتمع انحسار النمو الاقتصادي للمجموع، وذلك لأن معدلات الاستثمار تنخفض، فإذا انخفضت معدلات الاستثمار انخفض الإنتاج المحلي، وكَسَدَ الاقتصاد وفَقَد نموه، وإذا فقد الاقتصاد نموه، ظهر أثره على المجتمع الذي نعيش فيه.

 كذلك أيضًا من آثاره السيئة اتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء، لقد قضى الله تبارك وتعالى أن يكون بعض الخلق لبعض سُخْريا كما قال : ﴿أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ [سورة الزخرف: الآية 32]، فهذا غني بالمال، وذلك فقير بالمال، وهذا غني بصحة البدن وقوة العمل، وذاك فقير لا يستطيع أن يعمل هذا العمل، ذاك غني بالأفكار والمخترعات والابتكارات، وهذا ضعيف لا يستطيع شيئًا من هذا، وهذا كذا، وهذا كذا … فيجعل الله عز وجل هؤلاء العباد بعضًا لبعض سُخْريًّا حتى تتم بذلك عمارة الكون، ويحتاج بعضهم إلى بعض، ويتم التعاون بينهم، فإذا أسيء هذا التعاون وصار على الإثم والعدوان، جاءت النتيجة سيئة لفقد التعاون على البر والتقوى وفقد ما قضى الله به بين الناس كأن يكونوا على طبقات في غناهم وفقرهم، فذلك غني جدًّا، وأولئك متوسطون، وأولئك محتاجون، فأي مجتمع يكون فيه الأغنياء ويكون فيه الفقراء، ولكن يجب أن تكون الطبقة المتوسطة هي الأكثر، فهذا مجتمع صالح ومفلح؛ لأن غالب الناس فيه وسط، والقليل منهم فقراء، والقليل منهم أغنياء، فيجود الأغنياء وبعض المتوسطين على الفقراء، فتنسد وتضيق الفجوة بين الناس، وتبعد الشحناء والعداوة من قلوب بعضهم على بعض، أما في حال فشو الفساد الإداري وظهور صرف الأموال في غير وجهها والتعامل بالحرام، فإن طبقة الوسط تتلاشى، ويزداد الغَنِي غِنًى على غِناه، ويزداد الفقير فقرًا على فقره، فتتسع دائرة الفقر والفقراء، وإذا اتسعت هذه الدائرة في مجتمع فما نتيجة ذلك؟ النتيجة بلا شك عدم الأمن الأمان، وفشو الجرائم، وظهور التعدي والاعتداء … إلى آخره، كل هذا بسبب فتح الباب على مصرعيه للفساد الإداري الذي أشرنا إلى كثير من أضراره، فهذا أثر من آثار فشو الفساد الإداري في المجتمع.

علاج الفساد الإداري

 أما إذا جئنا إلى العلاج الذي يمكن أن يكون له مساهمة في انحساره أو تلاشيه أو عدم انتشاره أو قلة وجوده، فإن العلاج يتخذ عددًا من الصور، لعل من أهمها حث الناس على تقوى الله تبارك وتعالى، والخوف منه، وبيان كمال مراقبته تعالى، وأنه لا يخفى عليه خافية، فهذا الأمر جدير بأن يُبَثَّ وينشر من الخطباء على الجوامع ومن وسائل الإعلام في الصحافة والتليفزيون وإذاعة، ومن الْمُرَبِّين والمدرسين، ومن ملقي المحاضرات والندوات ونحو ذلك.

كذلك أيضًا حث الناس على التمسك بالأمانة، وبيان عظيم شأنها كما عظمها الله عز وجل في قوله جل من قائل: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا﴾ [سورة الأحزاب : الآية 72].

وأيضًا حث الناس على اجتناب الخيانة وبيان سوء عاقبتها كما في قوله سبحانه وتعالى: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [سورة الأنفال: الآية 27]، وكما في قوله تبارك وتعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾ [سورة النساء : الآية 58]، فإذا أديت الأمانات إلى أهلها كان ذلك اجتنابًا للخيانة

كذلك من أسباب العلاج العدل في صرف الرواتب والمستحقات، يعني بأن تكون على قدر العمل وعلى حاجة العامل، وأن يؤخذ هذا الجانب في الاعتبار، حتى يستغني الناس عن التطلع إلى ما في أيدي الآخرين، فالعدل أمر ينبغي أن يكون، فإذا كانت الدخول والرواتب تجزي الموظف وتغنيه عن التطلع لما في أيدي الناس كان هذا من أسباب عوامل انحسار الفساد.

كذلك من أسباب العلاج العدل بين الموظفين في إنصافهم وتقديم الأكفإ والجاد على من دونه، لا النظر للاعتبارات القبيلة ونحو ذلك من الأمور والجوانب الشخصية، ومَن وَلَّى رجلا يعلم أن أحدًا أكفأ منه فقد خان الله ورسوله والمؤمنين.

 ومن طرق العلاج أيضًا المراقبة والمتابعة الجادة من الجهات المعنية والرقابية على وجه الخصوص، فإذا قامت الجهات الرقابية في دورها ومتابعتها المتابعة الجادة، وهيأت لها الوسائل لتحقيق ذلك، فإن هذا بإذن الله يعد من عوامل انحسار ذلك الفساد والداء العضال، ويجب أن تُعْطَى تلك الجهات الرقابية الصلاحيات لتحقيق ما يُسَهِّل مهماتها.

 من طرق العلاج أيضًا تنفيذ العقوبات على كل مَن ثَبَت عليه شيء من أنواع الفساد، كل بِحَسَبه وبحسب جريرته، وإشهار ذلك لردع الآخرين، دون محاباة ودون هوادة، فإن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، فإذا كانت عوامل نشر التقوى ونشر الأمانة وتخويف الناس بالله لم تعمل عملها في الناس أو ما أَجْدَت إلا قليلا، فإنه يُكْمِل هذا وازعُ السلطة، فتأتي الجهات الرقابية بصلاحياتها وبدقة متابعتها، ثم تأتي الجهات القضائية بإصدار الأحكام، ثم تأتي الجهات التنفيذية بتنفيذ تلك الأحكام وإعلانها للناس حتى يعيش الناس في أمن وأمان من هذا الفساد وهذا البلاء العظيم، وفقنا الله وإياكم لما يحبه ويرضاه، وهدانا إلى سواء السبيل وأصلح لنا ديننا وجعله عصمة لأمرنا، وأصلح لنا ولاة أمرنا على الحال الذي يرضيه عنا، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تعليق مفتي المملكة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ 

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على رسول الله، وعلى آله وعلى صحابته أجمعين، وعلى التابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، وجعلنا جميعًا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ ﴾ [سورة الزمر: الآية 18].

 في الحقيقة هذه المحاضرة التي تفضل على مسامعكم بإلقائها فضيلة الشيخ محمد بن عبد الله الفهيد الأستاذ بكلية أصول الدين بجامعة الإمام محمد بن سعود بقسم السنة محاضرة نادرة، واسمحوا لي أن أقول: إنها من أهم المحاضرات في هذا الجانب، فهي محاضرة لامست الواقع، وحدثت الناس بالواقع، فهي جدير بها أن توزع أو يشعر بها كل مسئول إداري؛ لأن هذه المحاضرة شخصت الداء، وبينت الدواء والعلاج، وعالجت الفساد الإداري بصور شتى مع الرشوة وما يتعلق بها، وهذه أمور عظيمة مهمة يحتاج المسلم إليها، لا سيما المسئول الذي يرجو أن يلقى الله خاليًا من التبعات بتوفيق من الله وعونه، فهذه المحاضرات النافعة التي ينبغي العناية بها والاهتمام بها ونشرها وتبيين ما فيها من خير وما اشتملت عليه من توجيهات سليمة ونصائح قيمة يستفيد منها من أراد الله سعادته قال تعالى: ﴿وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ المُؤْمِنِينَ﴾ [سورة الذاريات : الآية 55].

العنوان الذي نحن بصدده الفساد الإداري وحكم الرشوة موضوعان عظيمان بينهما كثير من الارتباط، وقد يكون أحدهما مستقلا دون الآخر، لكن الغالب أن الثاني جزء من الأول، وأحدهما يجر الآخر، وإن كان البعض قد يستقل، فالشيخ وفقه الله تحدث عن الفساد الإداري، وقبل أن يبدأ الموضوع مهد له بقول الله تعالى: ﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ ﴾ [سورة النساء : الآية 29] فالله حذرنا من أن يأكل بعضنا مال بعض بالباطل، فإن أكل بعضنا مال بعض بالباطل أمر محرم، والباطل يشمل أنواع المحرمات: فالسارق آكل للمال بالباطل، والمنتهب آكل للمال بالباطل، والجاحد للحقوق آكل للمال بالباطل، والممتنع عن إعطاء الناس حقوقهم آكل للمال بالباطل، كل هذا يدخل في عموم هذه الآية، ثم إن الشيخ تحدث أيضًا عن موضوع الأمانة، فإن الأمانة وإيتاء الأمانة على الوجه المطلوب يخلص العبد من أنواع الفساد الإداري ومن الرشوة وتبعاتها، فالله يقول: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ﴾ [سورة النساء : الآية 58].

ما هي الأمانة التي أؤديها إلى أهلها؟ هي الحقوق التي أودعوها مثل الودائع، لكنْ هناك حقوق عامة نؤديها إلى أهلها ننيط بالمسئولية من هو مستحق لها، نكلف بالمسئولية من يتحملها، نعهد بالأمور المهمة إلى مَن هو أهل لها، لا نراعي نَسَبًا ولا مصاهرةً ولا صداقة ولا مجاملة ولا أطماع مادية، لا نراعي هذا كله، إنما نراعي ﴿ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ﴾ [سورة النساء : الآية 58].

 كيف نؤديها؟ المسئول عن الإدارة يؤدي الأمانة إذا رَشَّح للأعمال المستحقين لها، ووَضَع في كل مجال مَن هو أهله ومَن يرجى أن يؤدي العمل المطلوب، المؤدي للأمانة عندما تكون بيده المناقصات المختلفة فليتق الله، وليرسيها ويعهد بها إلى مَن يغلب على ظنه قدرته على التنفيذ من غير مجاملة، المؤدي للأمانة يُقَدِّر للموظف حَقَّه من غير نقصان، فلا يُقرِّب هذا، ولا يعطيه تقريرًا جَيِّدًا وهو يعلم فَشَله، ويُحْرِم مَن كان قَوِيًّا قادرًا لأجل عدم اتفاقه معه، المؤدي للأمانة يضع نصب عينيه خوف الله ومراقبته: ﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِياًّ أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُوا الهَوَى أَن تَعْدِلُوا وَإِن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ﴾ [سورة النساء : الآية 135].

المؤدي للأمانة يراقب موظفيه في حضورهم وغيابهم، فلا يتغاضى عن شخص لأجل مصلحته، ويشدد على الآخرين لبعده عنه، ولا يجعل الأعمال قسمين، يحمل بعضًا فوق طاقته، وبعضًا يعطيه جزءا من العمل لأجل المبررات الأخرى، المؤدي للأمانة يحاسب موظفيه عن الوقت أداءً وحضورًا، فيكون حازمًا معهم راحمًا بهم مشفقًا عليهم، لكنه يؤدي الحقوق على الوجه المطلوب، المؤدي للأمانة متق لله في كل أحواله، في الأمور المادية التي لا يجوز له استعمالها، وهي الأشياء العامة، يتقي الله ولا يستغل منصبه بأن يجعل فلانًا وفلانًا لقضاء حوائجه الخاصة والسيارات الخاصة لقضاء حاجاته الخاصة.

والذي يرقى ويبعد ويمنع ويعطي على غير أساس الأمانة ولكن على أساس الهوى فهذا لا يحل له ذلك.

وكذلك الذي يقلب الحقائق ولا يتقي الله في أحواله كلها كأن يكون مُحَقِّقًا في الجنايات والقضايا عليه أن يحقق تحقيقًا متجردا من الهوى متجردًا من الذات، وإنما يتقي الله فيما يرفعه من تحقيقات وتقارير، هكذا الأمانة، وهكذا المسلم في أمانته متق لله، لا ييأس الضعيف من عدله، ولا يطمع القوي في جوره، بل هو متق لله مراقبٌ له في أحواله كلها، عالم أن الله سيحاسبه ويجازيه على كل إخلال، وعن كل فساد، وعن كل خيانة، يقول الله تبارك وتعالى: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [سورة الأنفال : الآية 27] عندما تسند إلى المسئول المشاريع العامة التي تنفذ على يديه وتحت إشرافه عليه أن يتقي الله فيها، فيحاسب المنفذين ويناقشهم ويراقبهم، ويطبق عليهم التعليمات تطبيقًا جيدًا، مراقبًا لله؛ لأنه يعلم أن أي تساهل في ذلك فهو إخلال بالأمانة، وإن أخذ عِوَضًا على ذلك فما أقبحه، وما أسوأه، فهو مال سحت وحرام، سيندم عليه يوم لا ينفع الندم.

ثم تحدث الشيخ عن الرشوة، وما أدراك ما الرشوة؟! ذلك الداء العضال البلاء والمرض الفتاك في المجتمع، الذي يقلب الموازين، ويغير الحقائق، ويحدث الظلم والعدوان والجور، فالرشوة التي يأخذها المسئول ليوظف هذا الذي ليس أهلا لعمل، ليوظفه وظيفة هو يعلم عجزه عنها وعدم قدرته على أدائها، لكن الرشوة لعبت فيه، هذا المسئول يأخذ الرشوة ليتغاضى عن غياب هذا، وحضور هذا، هذا المسئول يأخذ الرشوة لأجل أن يوقع للمشاريع قيامه بالمهمة وأدائه المهمة وهو يعلم أنه مقصر ومخل ويتغاضى عن أخطائه حتى تصاب الأمة بهذا البلاء.

إن الرشوة تقلب الموازين، تجعل المبطل مُحِقًّا والمحق مبطلا، والعاجز عاملا والعامل عاجزا، هي بلاء، لا سيما إذا ترتب على الرشوة أن يُعَطَّل حق لمسلم، أو يحمل إنسان ما لا يستحقه، أن يحمل إنسان ما لم يفعله، فتعطيل الحقوق وإضاعتها وتجريم الأبرياء وتبرئة المجرمين هذا خيانة عامة، خيانة من أي مسئول كان، فتقوى الله ومراقبته تحول بين المرء وبين ذلك، ولهذا من الرشوة ما قال بعض السلف أو جاء مرفوعًا: «مَنْ شَفَعَ لأَخِيهِ بِشَفَاعَةٍ فَأَهْدَى لَهُ هَدِيَّةً عَلَيْهَا فَقَبِلَهَا فَقَدْ أَتَى بَابًا عَظِيمًا مِنْ أَبْوَابِ الرِّبَا».( 7) لو قال: أنا سأساعدك في التوظيف وأوظفك، لكن لي منك مرتب شهر أو شهرين، فإن هذا ربا؛ لأن مساعدة المسلم واجبة، وأخذه هذا المال بغير حق سحت وظلم وعدوان، وكما مر بنا في الحديث السابق: «لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ»( 8) قد يقول قائل: أنا ما دفعت الرشوة إلا أن حقي تأخر، وهذا المسئول ظالم لا يبالي، يماطل بحقي، ويعطي أعذارا ويؤخر، وربما سعى في إضراري، فأتخلص من كيده. قلنا: ما يجوز؛ لأنك أنت تعطيه، وهذا يعطي، فنجعله يستمرئ الرشوة ويستمرئ الباطل ويزداد إثمًا وجُرْمًا وعُدوانًا على المسلمين، فالحقيقة التعامل مع هؤلاء والتغاضي عنهم أمر خطير، فالواجب تقوى الله، وأن كل مسلم يراقب الله في أموره كلها، وليعلم أن الخيانة خلق ذميم كما في الحديث «الْمُؤْمِنُ يُطْبَعُ عَلَى كُلِّ خُلُقٍ إِلاَّ الْكَذِبَ والْخِيَانَةَ»( 9) فالخيانة داء عضال، وهي من أخلاق المنافقين، لا من أخلاق المؤمنين.


رابط الموضوع : http://www.assakina.com/mohadrat/16370.html#ixzz3G9RGGZVT

ahmedkordy

خدمات البحث العلمي 01009848570

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 578 مشاهدة
نشرت فى 14 أكتوبر 2014 بواسطة ahmedkordy

أحمد السيد كردي

ahmedkordy
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

30,880,556

أحمد السيد كردي

موقع أحمد السيد كردي يرحب بزواره الكرام free counters