إنَّ النُّظمَ الدولية قد تعدَّدتْ وتشعَّبتْ، وأصبحت مثارًا للجَدَل في المجامع الدولية، والمحافِل الثقافية، وغدا كلُّ فريقٍ ينتصر لمذْهبِه، وقامت الدولُ لتفْرض على جماهيرها النُّظمَ والدَّساتير التي ورثتها عن الاستعمار، وكانت الدولُ المنتسبة إلى الإسلام في طليعة هذه الدول؛ ذلك أنها ابْتَعَدتْ عن المنهج الإسلامي، بل وأخذتْ تُحاربه، وتثير الشُّبَه حوله، وتتَّهمه بالجُمُود، وعدم التمَشِّي مع رُوح هذا العصر.
ونحن في هذه اللمْحة المقتضبة نعرض لبعض الجوانب التنظيميَّة الإدارية، في عهْدِ الخليفة الراشِد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - الذي قال عنه عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه -: "كان إسلام عُمر فتْحًا، وهِجرته نصْرًا، وإمارته رحْمة".
مؤكِّدين على جوانب الكمال في تلك السياسة الراشدة، قاصدين من ذلك إثْباتَ صلاحيتها لكلِّ زمان ومكانٍ؛ ذلك أنها تنهل من مَعين التعاليم الإسلامية الرَّبَّانيَّة الخالدة، والتي تُعنَى بالحياة بكلِّ دقائقها وتفاصيلها.
أ - تقسيم عُمر للولايات، واختيار الولاة ومُتابعتهم:
عندما تولَّى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - الخلافة، اتَّسَعَتْ في عهْده الدولةُ الإسلامية، وذلك بتوسُّع الفُتُوحات؛ حيث تَمَّ فتْح العِراق، وفارس، والشام، ومصر، فتطلَّب منه الوضْع الجديدُ أن يضعَ نظامًا إداريًّا حقيقيًّا؛ يُعينُه في إدارة الدَّولة الواسعة، والإشراف على تنْظيمِ مواردِها، فعمل على تقسيم الدولة إلى ولايات؛ أهمها: "ولاية الأهْواز والبحرين - ولاية سجستان ومكران - ولاية طبرستان - ولاية خراسان - ولاية البصْرة - ولاية الكوفة - ولاية المَوْصل - ولاية حمْص - ولاية دِمَشْق - ولاية فِلَسْطين - ولاية مصر".
وكان عمر يختار لكلِّ إقليم واليًا، وكان يختارهم ممن يَتَوَسَّم فيهم الصلاح والمقْدرة على إدارة شؤون الولاية، والقِيام بالمهام المُلْقاة على عواتقِهم.
وكان مِن مهام الوالي: إمامة الناس في الصلاة، والقضاء بينهم بالحقِّ، وتقْسيم الغنائم والعُشُور، وجَمْع الزكاة والجِزْية والخَرَاج.
وكان عمر يوصِي أولئك الوُلاةَ بحُسْن معامَلة الرعية، والرِّفْق بهم، وعدم تكْليفهم فوق طاقتهم، ويحملهم مسؤولية تطْبيق شرائع الإسلام وسُننه؛ فقال مُوَضِّحًا واجباتِهم: "أيُّها الناس، إنِّي والله ما أرسل إليكم عمَّالاً ليضربوا أبشاركم، ولا ليأخذوا أعْشاركم؛ ولكن أرسلهم ليعلِّموكم دينكم وسُننكم، فمَن فُعل به شيءٌ سوى ذلك، فليرفعه إليَّ، فوالَّذي نفس عمر بيده، لأقتصّنَّ له منه".
وإذا كان عمر - رضي الله عنه - لا يرضيه ظُلْم العمَّال للرعية، فإنه كذلك يكْرَه أن يتطاوَل أحدٌ من الرَّعيَّة على العمَّال، "فهو حينما شكا إليه أهلُ الكوفة سعدَ بن أبي وقاص، وطَلَبَ وفْدٌ منهم عَزْلَه، قال: مَن يعذِرني مِن أهل الكوفة؟ إن ولَّيتُهم التَّقيَّ ضعَّفوه، وإن وليتهم القوي فجَّروه، فقال له المُغِيرة بن شُعبة: يا أمير المؤمنين، إنَّ التَّقيَّ الضعيف له تقْواه ولك ضعْفه، وإنَّ القويَّ الفاجِر لك قوته وعليه فُجُوره، فقال عمر: صدقْتَ،" وولاه الكوفة.
كان عمر - رضي الله عنه - يتابِع ولاته متابَعةً دقيقة، تنمُّ عن حرْصٍ على المصالِح العامة للمسلمين، فكان إذا وفدتْ عليه وُفُود الحجيج، سألَهم عن أحوال أمرائِهم وسيرتهم فيهم، فكان مما يقول لهم: "هل يعود مرْضاكم؟ هل يعول العبيد؟ كيف صنيعه بالضعيف؟ وهل يجلس على بابه؟ فإن قالوا لخصْلة منها: لا، عَزَلَهُ".
كما كان يسأل القُضاة ويستحلفهم عن مدى تطْبيق الوالي للعدْل.
كذلك كان لعمر مُفوَّضون رسميُّون يسافِرُون إلى الأمصار، ويراجعون أعمال الوُلاة، وكان من أطهر هؤلاء المفتِّشين محمدُ بن سلمة، وهو رجلٌ حازم فائق الأمانة.
وحرصًا منه - رضي الله عنه - على استقرار الوُلاة، وعدم انشغالهم بأمْرٍ غير الولاية؛ فقد أجْرى عليهم مرتباتٍ من شأنِها أن تعينَهم على التفرُّغ لعَمَلِهم المنوط بهم، ومثال ذلك: أنه أجْرى على عمار - والي الكوفة - ستمائة درهم، له ولكاتبه ومؤذِّنيه كلَّ شهر، وأجْرى على عثمان بن حنيف رُبع شاة وخمسة دراهم كل يوم، مع عطائه - وكان خمسةَ آلاف درهم - وأجْرى على عبدالله بن مسعود مائة درهم في كل شهر وربع شاة كل يوم.
ب - القضاء في عهْد عمر:
أنزل الله القرآن على نبيِّه - صلى الله عليه وسلم - متضمنًا الشرائعَ والأحكام، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - هو الذي يتولَّى الفصل بين الناس، وتطبيق الحدود والأحكام، كما أنه استعان ببعض أصحابه في ذلك، فبعث معاذًا إلى اليمن قاضيًا ومعلِّمًا، وكذلك بعث عليًّا - رضي الله عنهما.
ولما تولَّى عمر بن الخطاب، وتوسَّعَتِ الدولة في عهْده، واختلط العربُ بسكان البلاد المفتوحة، وازدادَتِ القضايا في هذه الأمصار - تعذَّر على الخليفة النظرُ فيها، وكذلك الولاة، فعمل عمر بن الخطاب على فصل القضاء عن الولاية، وشرع في تعيين القضاة في البلاد المفتوحة، فولَّى أبا الدرداء قضاءَ المدينة، وشريحًا الكندي قضاء الكوفة، وعثمانَ بن أبي العاص قضاء مصر، وأبا موسى الأشعري قضاء البصرة.
وقد أجرى عمر - رضي الله عنه - عليهم الرواتب، فجعل للقاضي سليمان بن ربيعة خمسمائة درهم في كل شهر، وجعل لشريح مائةَ درهم ومؤْنته من الحنطة.
وكان - رضي الله عنه - يتعهَّد الولاة بالنُّصح والمتابَعة، ولا أدلَّ على ذلك من كتابه لأبي موسى الأشـعري، والذي يعتبر دستورًا يَسْترشد به كلُّ مَن ولي هذه المهمةَ العظيمة.
ولولا خوفي من الإطالة، لعرجت على كتابه هذا، وذكرت تفاصيله، مستخلصًا من ذلك حرْصَه - رضي الله عنه - على إحقاق الحق، وإقامة العدل بين الناس؛ مما دفع القضاةَ إلى العمل على تنفيذ أحكام الله، دون أن تأخذهم في الله لومةُ لائم، مستندين في ذلك إلى الدستور العادل، الذي يخوِّل لهم التسويةَ بين الناس؛ فـ((الناس سواسية كأسنان المشط))، ((لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى)).
زِد على ذلك ما كان يتمتَّع به القضاة من سلطات تنفيذية كاملة، تحت ظِل الخلافة الإسلامية الراشدة.
جـ- الحسبة:
تَرِد بعض الإشارات التاريخية إلى أن الحِسبة نشأتْ منذ عهْد الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقد مارسها بنفسه، وفوَّضها أحيانًا إلى غيره، وتبعه من بعده الخلفاء الراشدون، ثم صارت بعد ذلك ولايةً من الولايات الدينية، ويرى بعضُ المؤرخين أنها نشأت في عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب، حيث وضع أُسسَها واختصاصاتِها، وكان يقوم بها بنفسه، ثم أوكلها إلى رجل، أطلق عليه لقب "المحتسب".
وكانت مهمة المحتسب تتمثل في: مراعاة أحكام الشَّرع، وإقامة الشعائر الدينية، والمحافظة عليها، والنظر في أرباب البهائم، ومراقبة مَن يتصدَّر لتفسير القرآن الكريم، والنظر في الآداب العامة، وفي البيوع الفاسدة في السوق، والموازين والمكاييل.
وبالنظر في طبيعة تلك المهام، ندرك أن وظيفة الحسبة ومهامَّ المحتسب أشمل وأعمُّ مما تقوم به هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في أيَّامنا هذه.
بل ويمكننا القول: أن الحسبة في الصدر الأول للإسلام هي نواة لنشأة ما يعرف الآن بالشؤون البلدية والقروية، وأن أمانة المدينة المنورة هي أول بلدية في الإسلام؛ وذلك للتشابُه بين بعض مهام المحتسب سابقًا، وما تضطلع به البلدية اليوم من مهام.
د- تدوين الدواوين:
ترجع نشأة الدواوين إلى رواية أبي يوسف، التي تفيد أنه لما قدم أبو هريرة من البحرين ومعه خمسمائة ألف درهم، خطب عمر بن الخطاب الناسَ، وقال لهم: إنه قد جاء مال كثير، فإن شئتم أن نكيل لكم كِلْنا، وإن شئتم أن نعدَّ لكم عَدَدْنا، وإن شئتم أن نزن لكم وزنَّا لكم، فقال رجل من القوم: "يا أمير المؤمنين، دوِّن للناس دواوينَ يُعطون عليها، فدوَّن عمر الديوان".
ومن المعلوم أن عهْد عمر هو عهد الفُتُوحات، حيث كوَّن الجيوش، التي استطاع بها أن يفتح العراق وفارس والشام ومصر، ولضمان سير هذه الجيوش، وحرصًا على تجهيزها وتموينها؛ أنشأ ديوانَ الجند، الذي سجَّل فيه أسماء المقاتلين، ووجهتهم، ومقدار أعطياتهم وأرزاقهم.
وبسبب هذه الفتوح؛ فقد تدفَّقت الأموال على المسلمين، وكان لا بد لهذه الأموال من نظام يتحكَّم فيها، وينظم توزيعها، ويحفظ ما زاد منها؛ لذلك بدأَتِ التنظيمات الإسلامية تتبلْور؛ نتيجة الحاجة الماسَّة إليها، واتخذت نظمًا تنسجم مع واقع العرب والدين الإسلامي، فاستحدث ديوان بيت المال.
ومن هنا؛ ندرك أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - هو أول مَن وضع أُسُس التنظيم الإداري للدولة الإسلامية، بإدخاله نظامَ الدواوين، وقد عبَّر الماوردي عن أهمية خطوة عمر في استحداث الديوان؛ لكونه موضعًا لحفظ ما يتعلق بحقوق الدولة من الأعمال والأموال، ومن يقوم بها من الجيوش والعمال.
وقد اهتمَّ عمر بالأموال الواردة للدولة، وكان حريصًا جدًّا على المحافظة عليها، وإعطائها لمستحقيها، وقد كان يتعامل معها كما يتعامل والي اليتيم مع ماله، فلا يأخذ منه إلا كما يأخذ أدنى رجل من المسلمين، ومما يروى عن نزاهة عمر وترفُّعه عن المال العام: ما رواه معيقيب، الذي كان يتولَّى بيت المال لعمر: "أنه كسح بيت المال يومًا، فوجد فيه درهمًا، فدفعه إلى ابنٍ لعمر، قال معيقيب: ثم انصرفتُ إلى بيتي، فإذا رسول عمر قد جاء يدعوني، فجئت، فإذا الدرهم في يده، فقال: ويحك يا معيقيب، أوجدتَ عليَّ في نفسك سببًا؟! أو: مالي ومالك؟ فقلت: وما ذاك؟ قال: أردتَ أن تخاصمني أمَّةُ محمد - صلى الله عليه وسلم - في هذا الدرهم يوم القيامة".
هـ - المركزية واللامركزية في الإدارة العمرية:
يمكن القول - بصفة عامة -: أن المركزية تعني: قيام الحكومة المركزية وحدها بالوظيفة الإدارية، دون مشاطرة الهيئات الأخرى لها في ذلك.
وقد وصف أحد الكُتاب عهد عمر بن الخطاب بالمركزية في الإدارة، فقال: "لقد فرضتْ ظروف الدولة الإسلامية في عهد عمر أسلوبَ المركزية في الحكم؛ بل إن عمر قد سلك أسلوبًا مركزيًّا متطرِّفًا، لا نكاد نجد له مثيلاً في التاريخ".
ثم بعد أن أورد نصوصًا من كتب عمر بن الخطاب إلى قوَّاد الجيوش، ينصح لهم ويوجههم، قال: "ولم تقف هيمنة عمر في العاصمة على الأمور العسكرية؛ بل امتدَّت إلى الشؤون المدنيَّة، ومن ذلك استئذان المسلمين الخليفةَ في طريقة بناء المساكن في المدن الجديدة، وحرص الخليفة على أن يُحاط علمًا بأقاليم الدولة التي لم يذهب إليها".
وقد ردَّ عليه الدكتور القطب محمد طباية، بعد أن أوْرد أقواله تلك، في كتابه "نظام الإدارة في الإسلام"، فقال: "إنه إذا كانت كتب السيرة والتاريخ قد حفظتْ لنا مثل هذه الكتب، التي يوجِّه بها عمر عمَّاله وقُواده، ويتابع أعمالهم - فإنها قد حفظت لنا كذلك آثارًا يفوِّض فيها عمرُ الرأيَ لعمَّاله وقواده؛ لكي يتصرفوا في مواجهة المواقف، بما تقتضيه هذه المواقف.
ومن ذلك قوله لمحمد بن سلمة: "إن أكمل الرجال رأيًا مَن إذا لم يكن عنده عهْد من صاحبه، عمل بالحزم، أو قال به"، وقوله لمعاوية بن أبي سفيان حين بيَّن له أسباب اتِّخاذه مظاهرَ الملك: "لا آمرك ولا أنهاك"، وردُّه على أبي عبيدة حين استشاره في دخول الدروب خلف العدو بقوله: "أنت الشاهد وأنا الغائب، وأنت بحضرة عدوِّك، وعيونُك يأتونك بالأخبار"، إلى غير ذلك من النصوص التي تدلُّ على أن عمر بن الخطاب كان ينتهج المنهج اللامركزي في الإدارة، وليس معنى ذلك أنه قد رفع يده كلية عن الولايات الأخرى؛ بل إن من حقه وواجبه الإشرافَ على هذه الولايات ومراقبتها في الحدود الشرعية".
ولعل ما ذهب إليه الدكتور طباية هو الصحيح، خصوصًا إذا عرفنا أنه من الصعب جدًّا الرجوع إلى الخليفة في كل صغيرة وكبيرة في دولة مترامية الأطراف، وفي زمن لم تتقدم فيه وسائل النقل والمواصلات، والله أعلم بالصواب.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحابته والتابعين، وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين.
لمزيد من المعلومات حول الإدارة العمرية؛ آمل الاطِّلاع على المراجع التالية:
1- الإدارة في الإسلام: رائد محمد منا العلي، الدار السعودية للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 1405هـ.
2- دراسات في النظم العربية والإسلامية: د. توفيق سلطان اليوزبكي، وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، جامعة الموصل، طبعة ثانية، 1399هـ - 1979م.
3- عمر بن الخطاب: عبدالكريم الخطيب، دار الفكر العربي، طبعة أولى، 1978م.
4- عمر بن الخطاب: محمد صبيح، دار الثقافة العامة.
5- نظام الإدارة في الإسلام: د. القطب محمد القطب طباية، دار الفكر العربي، القاهرة، طبعة أولى، 1398هـ - 1978م.
رابط الموضوع: http://www.alukah.net/culture/0/5799/#ixzz3G3tJwjYZ