جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
هبة الله الغلاييني |
|
يُحكى أن يابانياً من المحاربين الساموراي، أراد أن يتحدى أحد الرهبان ليشرح له مفهوم الجنة والنار. لكن الراهب أجابه بنبرة احتقار: "أنت تافه ومغفل، أنا لن أضيع وقتي مع أمثالك...!" أهان الراهب شرف الساموراي، الذي اندفع في موجة من الغضب، فسحب سيفه من غمده وهو يقول: "سأقتلك لوقاحتك..." أجابه الراهب في هدوء... هذا تماماً هو (الجحيم)... هدأ الساموراي وقد روعتّه الحقيقة التي أشار إليها الراهب حول موجة الغضب التي سيطرت عليه. فأعاد السيف إلى غمده، وانحنى للراهب شاكراً له نفاذ بصيرته، فقال له الراهب: "وهذه هي (الجنة).. هكذا كانت يقظة الساموراي المفاجئة، وإدراكه لحالة التوتر التي تملكته. تصّور الاختلاف الحاسم بين أن يسيطر عليك شعور ما، وأن تدرك في الوقت نفسه أن هذا الشعور قد جرفك بعيداً عن التعقل، لا شك في أن وصية سقراط التي تقول "اعرف نفسك" تتحدث عن حجر الزاوية في الذكاء العاطفي، الذي هو وعي الإنسان بمشاعره وقت حدوثها. وقد يبدو للوهلة الأولى أن مشاعرنا واضحة.. ولكن قدراً أكبر من التفكير والتأمل يذكرنا بأننا جميعاً غافلون عما شعرنا به تجاه شيء ما في الحقيقة، أو يوقظ فينا هذه المشاعر فيما بعد. وقد استخدم علماء النفس مصطلحاً ثقيلاً اسمه "ما بعد المعرفة" إشارة إلى الوعي بعملية التفكير واستخدموا مصطلح "ما بعد الانفعال.. ليشير إلى تأمل الإنسان لانفعالاته.. غير أن مصطلح "الوعي بالذات" Selfawareness هو المتعارف عليه، وهو يعني الانتباه إلى الحالات الداخلية التي يعيشها الإنسان وبهذا الوعي التأملي للنفس، يقوم العقل بملاحظة ودراسة الخبرة نفسها بما فيها من انفعالات. إن خاصية الوعي هذه تماثل ما وصفه "فرويد" بـ "الانتباه الموّزع" والذي أوصى به المحللّون النفسيون. هذا الانتباه يستوعب ما يمر على الوعي بنزاهة وتجرد بوصفه شاهداً مهتماً، لكنه غير فاعل بعد. ويسمي بعض علماء النفس هذه العملية بـ"الذات المراقبة" أي قدرة الوعي الذاتي الذي يتيح للعالم النفسي، أن يرصد ردود أفعاله هو على أقوال المريض، والكيفية التي تتوالد بها التداعيات الحرة لدى المريض النفسي. والواقع أن مراقبة الذات - على أحسن الفروض - تحقّق إدراكاً رضياً للمشاعر المضطربة والمتّقدة. إنها في أقل تقدير تقدم نفسها في صورة ظاهرية وبسيطة، وكأنها عائدة لتوها من خبرة ما. هي مجرى يوازي الوعي، هكذا يعني الوعي الذاتي، بإيجاز أن نكون مدركين لحالتنا النفسية وتفكيرنا بالنسبة لهذه الحالة المزاجية نفسها وفقاً لقول جون ماير John Mayer العالم السيكولوجي بجامعة هامبشير، الذي وضع نظرية الذكاء العاطفي مع "بيتر سالوفي" بجامعة بيل. وعلى الرغم من التمييز المنطقي بين أن نكون مدركين لمشاعرنا، وأن نعمل على تغييرها، نجد أن "ماير" قد اكتشف أن الوعي بالمشاعر، والقيام بالأفعال من أجل الأهداف العملية كلها، يسيران عادة جنباً إلى جنب ويداً بيد. ذلك لأن مجرد إدراكنا أن المزاج سيء، فهذا معناه الرغبة في التخلص منه، والتعرف على الحالة النفسية شيء متميز عمّا نبذله من جهود، حتى لا نقوم بفعل ما بدافع انفعالي. واكتشف "ماير" أن الناس يميلون إلى اتباع أساليب متميزة للعناية بعواطفهم والتعامل معهم: الوعي بالنفس: إن أولئك البشر الذين يدركون حالتهم النفسية في أثناء معايشتها، عندهم بصورة متفهمة بعض الحنكة فيما يخص حياتهم الانفعالية. ويمثل إدراكهم الواضح لانفعالاتهم أساساً لسماتهم الشخصية. هم شخصيات استقلالية، واثقة من إمكاناتها، ويتمتعّون بصحة نفسية جيدة، ويميلون أيضاً إلى النظر للحياة نظرة إيجابية، وعندما يتكدر مزاجهم لا يجترّونها ولا تستبد بأفكارهم، هم أيضاً قادرون على الخروج من مزاجهم السيئ في أسرع وقت ممكن. باختصار، تساعدهم عقلانيتهم على إدارة عواطفهم وانفعالاتهم. الغارقون في انفعالاتهم: هؤلاء الأشخاص هم من يشعرون غالباً بأنهم غارقون في انفعالاتهم، عاجزون عن الخروج منها، وكأن حالتهم النفسية قد تملكتهم تماماً. هم أيضاً متقلبو المزاج، غير مدركين تماماً لمشاعرهم إلى الدرجة التي يضيعون فيها ويتوهون عن أهدافهم إلى حد ما، ومن ثم منهم قليلاً ما يحاولون الهرب من حالتهم النفسية السيئة، كما يشعرون بعجزهم عن التحكم في حياتهم العاطفية. إنهم أناس مغلوبون على أمرهم، فاقدو السيطرة على عواطفهم. المتقبلّون لمشاعرهم: هؤلاء على الرغم من وضوح رؤيتهم بالنسبة لمشاعرهم، فإنهم يميلون لتقبّل حالتهم النفسية، دون محاولة تغييرها، ويبدو أن هناك مجموعتين من المتقبلّين لمشاعرهم: المجموعة الأولى، تشمل من هم عادة في حالة مزاجية جيدة، ومن ثم ليس لديهم دافع لتغييرها. والمجموعة الثانية تشمل من لهم رؤية واضحة لحالتهم النفسية، ومع ذلك فحين يتعرضون لحالة نفسية سيئة، يتقبلّونها كأمر واقع، ولا يفعلون أي شيء لتغييرها على الرغم من اكتئابهم. وهذا النموذج من المتقلّبين يدخل في إطار المكتئبين الذين استكانوا لليأس. العاطفيون.. واللامبالون: هناك أشخاص باردو العواطف، لا يستجيبون لأي مشاعر أو لجميع أشكال التعبير عنها. على الرغم من ثقافتهم الواسعة وعلاقاتهم الاجتماعية المتعددة. إنهم يعانون من "الجمود العاطفي" أو ما يسميه علماء النفس مرض "الألكسي ثايميا" أي العجز عن التعبير عن النفس، وهي كلمة يونانية تتكون من حرف الـ (A) ويعني (نقص)، و(Lexi) ويعني (كلمة) و(Thymes) وتعني (عاطفة)، ومثل هؤلاء الأشخاص يفتقرون للكلمات التي تعبّر عن مشاعرهم، ومن ثم يبدون وكأنهم بلا مشاعر على الإطلاق، على الرغم من أن هذا العجز يمكن أن يكون السبب في عدم قدرتهم على التعبير عن عاطفتهم أكثر من افتقارهم لهذه العاطفة. وكان أول من لاحظ هذه الحالات علماء سيكولوجيون أصابتهم الحيرة، وهم يدرسون هذا الطراز من المرضى الذين لم ينجح علاجهم بهذه الطريقة لأنهم بلا أي مشاعر أو خيالات، وأحلامهم لا لون لها إنهم باختصار بلا حياة عاطفية على الإطلاق يتحدثون عنها وتشمل الأعراض الإكلينيكية لهؤلاء المرضى بالعجز عن التعبير، وصعوبة وصف مشاعرهم، أو مشاعر أي إنسان آخر، وافتقارهم الشديد لأي مفردات عاطفية، لأنهم لا يملكون منها سوى قدر محدود للغاية. بل أكثر من هذا، هم يعانون أيضاً مشكلة التمييز بين الانفعالات المختلفة، مثل العاطفة، والحس الجسدي، لدرجة أنهم يقولون إن معداتهم تعاني من الاضطراب، وخفقات قلوبهم تتسارع، وإنهم يتصببون عرقاً، ويشعرون بالدوار، لكنهم لا يعرفون أن ما يعانونه هو القلق. ومن النادر أن يبكي مريض "العجز عن التعبير عن المشاعر"، لكنه إذا بكى تنهمر دموعه بغزارة. وإذا سئل لماذا كل هذه الدموع شعروا بالارتباك. وهذه بالفعل هي عقدة المشكلة. مرضى "الأليكسي ثايميا" ليسوا بلا مشاعر على الإطلاق، بل يشعرون، لكنهم غير قادرين على معرفة ماهية مشاعرهم على وجه التحديد، خاصة أنهم عاجزون عن التعبير عنها بالكلمات. وعلى وجه الدقة، تنقصهم المهارة الأساسية للذكاء العاطفي. أي الوعي بالذات، وهو معرفة مشاعرنا عندما تزعجنا انفعالاتنا الداخلية. ومن ثم فإن حالة هؤلاء المرضى تتناقض مع الفطرة السليمة والتفكير الصائب فيما يبيّن لنا تماماً حقيقة مشاعرنا. إنهم لا يملكون مفتاح حلّ هذا اللغز، فإذا ما حرك شعورهم شيء ما، أو شخص ما تسبب لهم هذه التجربة حالة ارتباك وشعور بالقهر، تجعلهم يحاولون تجنبها مهما كلفهم الأمر. وبينما لا يستطيع أحد حتى الآن أن يعرف بصورة مؤكدة، ما الذي يسبب حالة الأليكسي ثايميا "العجز عن التعبير عن المشاعر"، فإن "دكتور سيفنيوس" يرى وجود انفصال بين الجهاز الحوفي للمخ، والقشرة الجديدة وخاصة مراكزها الخاصة بالكلام والتي تتفق تماماً مع ما نتعلمه حول "المخ الانفعالي" فالمرضى الذين أصيبوا بنوبات مرضية حادة، وأجروا جراحات قطعت هذا الاتصال بين الجهاز الطرفي للمخ والقشرة الجديدة، بهدف تخفيف هذه الأعراض المرضية، أصبحوا كما لاحظ الدكتور "سيفنيوس" بعد الجراحة مصابين ببرود عاطفي مثلهم مثل حالات مرضى العجز عن التعبير عن المشاعر لا يستطيعون التعبير عن مشاعرهم بالكلمات. وفجأة يجدون أنفسهم مجردين عن دنيا الخيال، على الرغم من استجابة دوائر المخ العصبية للمشاعر، لكن قشرة المخ لا تستطيع أن تتعرف على هذه المشاعر وأن تعبّر عنها لغوياً. عبيد العاطفة منذ عصر أفلاطون، ظلّ الإحساس بتفوق النفس وقدرتها على مواجهة العواصف العاطفية الناتجة عن ضربات القدر بدلاً من الاستسلام لها لكي نصبح عبيداً للعاطفة، ظل هذا الإحساس فضيلة تستحق الإشادة بها دائماً. كانت الكلمة اليونانية لهذه الفضيلة هي "سوفروازيم" Sophrozyme أي الانتباه والذكاء في إدارة حياتنا: بمعنى الاتزان في الانفعال والحكمة، كما ترجمها الباحث اليوناني "بيج دي بوا" أما الرومان والكنيسة المسيحية القديمة فقد أطلقوا عليها اسم "Temperanti" أي ضبط النفس، أو كبح جماح الإفراط في الانفعال، والهدف من ذلك تحقيق التوازن العاطفي وليس قمع العاطفة، لأن لكلِّ شعور قيمته ودلالته. فالحياة من دون عاطفة تصبح أرضاً حيادية قاحلة ومملة، منقطعة ومنعزلة عن ثراء الحياة نفسها والمطلوب، كما لاحظ "أرسطو" انفعال يناسب الظرف ذاته. فعندما يكبت الانفعال تماماً فإن ذلك يؤدي إلى الفتور والعزلة، وعندما يخرج عن إطار الانضباط والسيطرة ويصبح بالغ التطرف والإلحاح، فإنه يتحول إلى حالة مرضية، تحتاج إلى العلاج مثل الاكتئاب المؤدي إلى الشلل، والقلق الساحق، والغضب الكاسح، والتهيج المجنون. ولا شك في أن مفتاح سعادتنا العاطفية يكمن في ضبط انفعالاتنا المزعجة بصورة دائمة. هذا، لأن التطرّف المتزايد والمكثّف في العواطف لفترة طويلة يؤدي إلى تقويض استقرارنا. ومن الطبيعي ألاّ نشعر طوال الوقت بنوع واحد من الانفعال. أما السعادة طوال الوقت فإنها تذكرنا بالابتسامة المفتعلة في فترة السبعينات في أمريكا. والواقع إن هناك الكثير مما يقال عما تسهم به المعاناة البنّاءة في الحياة الإبداعية والروحانية، لأن المعاناة تهذب الروح. ولا شك في أن تقلبات الدهر بما فيها من سعادة وتعاسة تعطي الحياة نكهة خاصة، وإن كانت تحتاج إلى التوازن. وما يحدد الإحساس بالسعادة بحساب القلب - هو معدل العواطف الإيجابية والسلبية، وهذه على الأقل هي الحكمة التي خرجت بها دراسات من طبائع مئات الرجال والنساء وحالاتهم النفسية، تذكر أولئك الأفراد الأوقات العصيبة التي مرت عليهم، وسجلوا انفعالاتهم في تلك الأوقات. مثل هؤلاء لا يحتاجون إلى تجنب المشاعر غير السارة للإحساس بالرضا عن حياتهم، لكنهم لا يتركون أنفسهم تحت رحمة مشاعرهم العاصفة من دون كبح جماحها حتى لا تحل محل حالتهم النفسية المبتهجة. وثمة أناس يتعرضون لنوبات عارضة من الغضب والاكتئاب، ويمكن لأولئك الناس أن يشعروا بالرضا عن حياتهم إذا ما تناوبتهم بقدر مستاء فترات من الفرح والابتهاج، وتؤكد هذه الدراسات استقلالية الذكاء العاطفي، عن الذكاء الأكاديمي، فقد تبين وجود علاقة ضئيلة جداً، أو عدم وجود أي علاقة بين درجات معامل الذكاء (I.Q) وسعادة البشر العاطفية. وكما أن هناك أفكاراً من الماضي تعاود المرء على نحو منتظم، هناك أيضاً أصداء انفعالات تعاود المرء في أوقات منتظمة كل يوم في المساء أو في الصباح لتتركه في حالة مزاجية من هذا النوع أو ذلك. ومن الطبيعي أيضاً أن يكون مزاج شخص ما في صباح أحد الأيام مختلفاً عنه في صباح اليوم التالي. بيد أننا إذا أخذنا في الاعتبار متوسط الحالات النفسية لهذا الشخص على مدى أسابيع أو شهور، فسنجد أنها تعكس إحساسه العام بالرضا والسعادة، وهذا يدل في النهاية على أن المشاعر المتطرفة الحادة نادرة نسبياً، فمعظمها يقف على خط الوسط العاطفي الرمادي، مع بروزات خفيفة من الانفعالات الحادة عبر طريق حياتنا الطويل بمنحنياته العدة. ومع ذلك، تستغرق مهمة إدارة عواطفنا كل أوقاتنا، فمعظم ما نفعله وخاصة وقت فراغنا - هو محاولة السيطرة على حالتنا النفسية ذلك لأن كل شيء نفعله، بداية من قراءة قصة، أو مشاهدة التلفزيون إلى غيرهما من الأنشطة، إلى اختيار أصحابنا، يمكن أن يجعلنا نشعر بأننا في حالة نفسية أفضل. وفن التخفيف عن النفس مهارة حياتية أساسية، وفي هذا الصدد يرى بعض المفكرين من أساتذة التحليل النفسي، مثل "جون بولبي" John Bowlby ودكتور وينيكوت D.W.Wincott أن هذه المهارة واحدة من أهم الأدوات النفسية الأساسية. وتؤمن هذه النظرية، بأن الأطفال الذين يتمتعون بعاطفة سليمة، هم الذين يتعلمون كيف يهدئون أنفسهم بالتعامل مع الذات مثلما يفعل معهم من يرعاهم، ويجعلهم ذلك أقل عرضة لتقلبات المخ الانفعالي. إن تركيب المخ يعني أننا لا يمكننا، غالباً السيطرة على انفعالاتنا متى جرفتنا، أو السيطرة على نوعية الانفعال. ولكننا نملك السيطرة على الوقت الذي يستغرقه هذا الانفعال. والمسألة لا تنحصر في مختلف الانفعالات مثل الحزن، والقلق أو الغضب، لأن هذه الحالات المزاجية تنتهي عادة مع الوقت والصبر. لكن إذا تصاعدت هذه الانفعالات بشدة وعلى نحو مستمر متجاوزة الحد المناسب، فإنها تتدرج حتى تصل إلى أقصى حدود الضيق إلى حالة قلق مزمنة، أو غضب غير محكوم، أو اكتئاب فإذا ما وصلت الحالة إلى هذا الحد، هنا تتطلب مثل هذه الحالات العسيرة التدخل الطبي أو النفسي، أو كليهما معاً للشفاء منها. في تلك الأوقات تعد إحدى العلامات على قدرة الشخص على التحكم في انفعالاته، هي القدرة على إدراك متى يصل التوتر المزمن للمخ الانفعالي إلى درجة من القوة بحيث يصعب تخطيها من دون مساعدة دوائية.
التحكّم في المزاج السوداوي
الحزن حالة نفسية، يحاول الناس عموماً التخلص منها بقدر استطاعتهم، وتوصلت ديان تايسي إلى أن الناس يتحولون إلى مبدعين في محاولاتهم الهروب من الكآبة واليأس.. ومن الطبيعي ألاّ يحاول الناس الهروب من كل أنواع الحزن، ذلك أن قدراً منه قد يكون مفيداً، فالحزن لفقدنا إنساناً عزيزاً، له تأثيرات معينة لا تتغير لفقدها اهتمامنا بالتسلية والمرح وتركيز تفكيرنا على الإنسان الذي فقدناه، ونقص قدرتنا على البدء في محاولات جديدة، على الأقل مؤقتاً. خلاصة القول إن الحزن يعزّز نوعاً من التفكير في الماضي الذي يعرقل مسيرة الحياة العملية. يتركنا الحزن في حالة توقّف عن العمل، ننعى الفقيد، ونفكر ملياً في معنى الفقدان، لكننا في آخر الأمر نتكيّف مع أنفسنا، ونبدأ في وضع خطط جديدة تسمح لنا بمواصلة الحياة. فالإحساس بالفجيعة في حدّ ذاته مفيد، لكن وطأة الاكتئاب المرضي ليست مفيدة، ولقد قدم "ويليام ستايرون" William Styron وصفاً بليغاً لأعراض هذا المرض المفزعة من بينها "كراهية النفس" أو الإحساس بانعدام القيمة أو الإحساس القاتم بعدم الابتهاج بشيء والكآبة والفزع والاغتراب. وفق هذا كله إحساس بالقلق الخانق وبعد هذه الأعراض النفسية، تأتي الأعراض العقلية (التشوش وعدم التركيز الذهني وضعف الذاكرة) ثم تسود العقل في مرحلة متأخرة تشوّهات فكرية فوضوية وإحساس بأن عمليات التفكير تغمرها موجة مسمومة يصعب تسميتها تحول دون أي استجابة مبهجة للحياة يأتي بعد ذلك التأثير الجسدي، المتمثل في الأرق وعدم القدرة على النوم، وإحساس هذا المريض بأنه ميّت أُعيد إلى الحياة، فاقد الشعور والمبالاة، كما يشعر أيضاً بالوهن والهشاشة الغريبة مع قلق عصبي كئيب. وأخيراً يفقد الإحساس بالسرور تماماً. أما الطعام فهو مثل أي شيء آخر، يصبح من خلال منظور الأحاسيس، بلا أي طعم أو مذاق، وفي النهاية يدفن الأمل تماماً، ويفضي به الإحساس بتراكم الفزع إلى اليأس، إحساس ملموس مثل الألم الجسدي الذي يصعب احتماله مما يجعل الانتحار يبدو وكأنه نوع من الحل. لا شك في أن الحياة في ظل الاكتئاب المتقدم أو الحل يصيبها الشلل تماماً، ويصبح القيام ببدايات جديدة مستحيلاً، وتنمّ أعراض الاكتئاب عن توقف الحياة كليّة. ويقول "ستايرون" إن أي علاج أو أدوية تفقد جدواها في هذه الحال. لكن مرور الوقت واللجوء إلى المستشفى قد يزيلان اليأس في نهاية المطاف. أما بالنسبة للمرضى بحالة اكتئاب حفيف فيمكن أن يساعد العلاج النفسي والدوائي هذه الحالات التي تعالَج اليوم بدواء (Prozac) كما يتوافر اليوم أكثر من اثني عشر دواءً آخر، تساعد بعض الشيء وخاصة في حالات الاكتئاب الحاد. والواقع أن استمرار الحالة النفسية على ما هي عليه أو تغيّرها، أو حتى زوالها، يعتمد على أهم عامل حاسم في هذا الشأن ألا وهو، إلى أي مدى يجتّر الناس أحزانهم، ويبدو أن القلق يكثّف الاكتئاب ويطيل فترته. ويتخذ هذا الاجترار أشكالاً عدة تتركز كلها على جانب من الاكتئاب نفسه، كأن نفكر إلى أي مدى نشعر فيه بالتعب، وإلى أي مدى بلغ ضَعْف قدراتنا ودوافعنا، وتضاءل ما أنجزناه من أعمال. وقد يتبيّن في بعض الدراسات أن العلاج بالمعرفة يكافئ علاج الاكتئاب الاكلينيكي الخفيف بالعقاقير، بل يتفوّق عليه في منع عودة هذا الاكتئاب؛ هناك خطتان فاعلتان في هذه المعركة: الأولى أن تتعلم كيف تتحدى الأفكار المستقرة في مركز الاجترار، وتتساءل عن صحتها وفعاليتها وتفكر في بدائل أكثر إيجابية، والخطة الأخرى هي تنظيم جدول مقصود للقيام بأحداث سارة جذابة تصرف الذهن عن الأفكار الاكتئابية. وسائل للخروج من الكآبة تعتقد إحدى النظريات أن البكاء قد يكون وسيلة طبيعية لخفض مستويات المواد الكيماوية التي تسبب الضيق في المخ. وعلى حين أن البكاء يمكن في بعض الأحيان أن يقطع استمرارية الحزن، فإنه قد يؤدي إلى أن يظل الشخص واقعاً تحت سيطرة البحث عن شعوره باليأس، إذ إن فكرة "البكاء مفيد" فكرة مضلّلة. فالبكاء الذي يقوّي اجترار الأفكار المحزنة يطيل الإحساس بالتعاسة. وإحدى النظريات البارزة لتفسير السبب من فاعلية العلاج بالصدمات الكهربائية في حالات الاكتئاب، ترتكز على أن تشتيت الانتباه يقطع استمرارية الحزن. إن الصدمات تؤدي إلى فقدان المرضى للذاكرة لفترة قصيرة وعليه فإنهم يشعرون بعدها بتحسن لأنهم لا يستطيعون تذكر أسباب شعورهم بالحزن. وفي كل الأحوال فإن زعزعة صور الحزن المألوفة تساعد مرضى الاكتئاب على الهروب منها، بالقراءة، أو مشاهدة التلفزيون، أو بألعاب الفيديو والألغاز أو بالنوم أو بأحلام اليقظة كتنظيم إجازة خيالية، كما أن أكثر الوسائل فعالية للانسحاب من الحالة الاكتئابية هي التي تعمل على تحويل حالتك النفسية، مثل حدث رياضي، أو فيلم كوميدي، أو كتاب ثقافي. ولقد توصلت "ديان تايس" وهي باحثة علم النفس بأن ممارسة ألعاب رياضية مثل الجري أو السباحة، من أهم الخطوات الفعّالة للتخلّص من حالات الاكتئاب الخفيفة وغيرها من الأمزجة المعتلّة. يرتكز هذا التفسير على فوائد هذه التمارين الرياضية في تحويل الحالة النفسية، وخاصة مع مرضى الاكتئاب الكسالى الذين لا يمارسون عملاً في معظم الأحيان، أما بالنسبة لهؤلاء الذين يمارسون التمرينات الرياضية يومياً فقد لوحظ أنهم كانوا أقوى مع بداية قعودهم عن هذا التمرين وما حققه لهم من فائدة. فالتمارين الرياضية الخفيفة تعمل على تنشيط الجسم ليصل إلى درجة عالية من الاستثارة. وعلى المنوال نفسه تحمل أساليب الاسترخاء على نقل الجسم إلى حالة من الاستثارة الخفيفة. وإذا كانت هذه الوسائل تفيد كثيراً في حالات القلق وهو حالة استثارة شديدة فإنها لا تفيد في حالات الاكتئاب، ويبدو أن كل أسلوب من هذه الأساليب يعمل على كسر دورة الاكتئاب أو القلق لأنه ينقل المخ إلى مستوى من النشاط يتعارض مع الحالة الانفعالية التي كانت تهيمن على المريض قبل ممارسة هذا الأسلوب. هناك أيضاً ترياق لعلاج الهموم والأحزان وهو الترفيه عن النفس بالمتع والمسرات الحسية. وتتدرج الوسائل الشائعة بين الناس للتخفيف عن النفس بداية من أخذ حمّام ساخن، إلى تناول الأطعمة المفضلة ما إلى الاستماع إلى الموسيقى، إلى ممارسة الجنس.. وبالنسبة لما هو شائع بين النساء وللخروج من حالاتهن السيئة، أنهن يقمن بشراء الهدايا لأنفسهن أو الاستمتاع بالخروج للتسوق، أو حتى لمجرد مشاهدة "الفترينات" وفي دراستها على النساء والرجال وجدت "تايس" أن النساء عندما يحاولن التخفيف عن أنفسهن، يتناولن الطعام ثلاث مرات أكثر من الرجال. أما الرجال عندما يشعرون بالكآبة فإنهم يلجؤون إلى تناول الخمور والمخدرات بما يزيد خمس مرات على النساء، والمشكلة هنا، أن الإفراط في الأكل أو تناول الخمور كترياق للكآبة يزيد الحالة الاكتئابية بسهولة من جديد، فالإفراط في الطعام يؤدي إلى الإحساس بالندم وتعاطي الخمور يقلّل من نشاط الجهاز العصبي المركزي وحيويته، فضلاً على أنه يساعد على الاكتئاب ومن ثم يزيد تأثيرات الاكتئاب نفسه. وتقرّر "تاسي" أن أكثر الأساليب أو الطرق الفاعلة في التخلص من الكآبة، هي رسم خطة عملية لتحقيق انتصار بسيط أو نجاح سهل، مثل القيام بعمل في البيت كان مؤجّلاً، أو القيام ببعض الواجبات التي كان من المفروض تأديتها وأُجّلت. وللسبب نفسه أيضاً، فإن اهتمام الشخص بمظهره يكون مبهجاً ولو كان ذلك بمجرد ارتداء ملابس أنيقة، أو بوضع الماكياج في حالة النساء. وأحد العلاجات الناجعة للاكتئاب هو رؤية الأمور من منظور مختلف أو ما يطلق عليه "تغيير الإطار المعرفي" وإن كان استخدامه قليلاً. فمن الطبيعي أن يشعر الإنسان بالحسرة على انتهاء علاقة حميمية، وأن يجد متعة في الإشفاق على نفسه وأن تراوده أفكار مثل "إن ذلك يعني أن أصبح وحيداً" وهو ما يكثّف بالتأكيد إحساسه باليأس. ومهما كان الأمر، فإذا أعاد التفكير في العلاقة السابقة، وتذكّر أنها لم تكن علاقة على الوجه الأكمل، وأنها لم تكن متكافئة فإن ذلك يعني بعبارة أخرى أنه نظر إلى فقدان هذه العلاقة بمنظور مختلف وفي ضوء أكثر إيجابية وهذا في حد ذاته ترياق للحزن. وعلى المنوال نفسه نجد مرضى السرطان في حالة نفسية أفضل، مهما كانت خطورة حالتهم، إذا تذكروا غيرهم من المرضى الذين هم في حالة أسوأ من حالتهم، كأن يقولوا لأنفسهم "لست في حالة سيئة تماماً، على الأقل أنا أستطيع السير على قدمي، أما من يقارنون أنفسهم بالأصحاء فهم أكثر الناس اكتئاباً. وهذه المقارنات بمن هو أسوأ حالاً تخفف عن النفس كثيراً، فما يثير الكآبة في النفس، يبدو وكأنه ليس بهذا القدر من السوء. هناك أيضاً عامل فعّال يساعد على التخلص من الاكتئاب وهو مساعدة الآخرين. وبما أن الاكتئاب يغذّي اجترار الأفكار والانغماس الكامل في النفس نجد أن مساعدة الآخرين تأخذنا بعيداً عن هذا الانهماك في أنفسنا فقط بتعاطفنا مع غيرنا ممن يتعذبون بهمومهم الخاصة. فالانشغال بعمل تطوعي مثل تدريب مجموعة صغيرة، أو أن تكون بمنزلة أخ أكبر، أو أن تطعم المشردين ممن لا مأوى لهم، من أقوى الوسائل لنقل الحالة النفسية إلى حالة أخرى مختلفة وإن كانت من أكثر الوسائل ندرة. وأخيراً، هناك أيضاً بعض الناس الذين يجدون في اللجوء إلى قوة غامضة، راحة لأحزانهم، فإذا كنت متديّناً جداً، فإن الصلاة تنجح في كل الحالات، وخاصة مع الاكتئاب.
المصدر : الباحثون العدد 47 تاريخ أيار 2011 |
خدمات البحث العلمي 01009848570