صلاح الصيفي / برلين
فى الوقت الذى انهالت فيه اتهامات السياسيين وعلماء الاجتماع الغربيين على المسلمين والعقيدة الإسلامية، واصفين إياها بالتشدد، وناعتين متبيعها بالتطرف، فإن الاقتصاديين الغربييون كانوا أكثر اعتدالاً في دراسة الإسلام ومنهج الشريعة الإسلامية فى تسيير الأمور الحياتية العادية، وخاصة الجوانب الاقتصادية منها، وعلى رأسها تلك البنوك الإسلامية التى أصبحت تمثل ظاهرة اقتصادية إسلامية بحتة تستحق المتابعة والدراسة والوقوف على جوانبها عند الغرب، وخاصة مع تزايد التساؤلات من الغربيين حول نظام عمل تلك البنوك، وهل هي تختلف عن غيرها من البنوك العادية الغربية..؟ وكيف يمكن لهم الاستفادة منها فيما لا يشكل خطراً عليهم وعلى أنظمتهم الاقتصادية؟
ففي تقرير نشرته صحيفة (الإيكونومست) البريطانية المعنية بالأخبار الاقتصادية العالمية يؤكد أن البنوك الإسلامية قد فرضت واقعاً جديداً على السوق المصرفية العالمية، حتى اقتحمت مصطلحات "المشاركة" و"الصكوك" و"التكافل" قواميس البنوك الغربية، واستطاعت البنوك الإسلامية أن تطرح مفهوماً جديداً في التعاملات المصرفية، وليس أدل على ذلك من سعي العديد من البنوك العالمية لإنشاء أقسام إسلامية لتلبية الطلب المتزايد لعملائها المسلمين على الخدمات البنكية التي تتوافق وتعاليم الشريعة الإسلامية، ويربط البعض بين نمو القطاع المصرفي الإسلامي وأحداث 11 سبتمبر، مستندين في ذلك إلى ارتفاع حجم الودائع في البنوك الإسلامية خلال الأشهر الثلاثة التي تلت هجمات 11 سبتمبر بنحو 5% عن المعدل الطبيعي الذي يتراوح بين 5 و10%.
نمو البنوك الإسلامية
وحتى مطلع الثمانينيات كان عدد المصارف الإسلامية في المنطقة العربية محدوداً للغاية، وكانت الفكرة وقتها تواجه معارضة شديدة من جانب الكثير من الاقتصاديين، الذين استفزتهم وقتها فكرة ما سُمّي بـ "شركات توظيف الأموال" التي انتشرت خصوصاً في مصر بشكل لافت للنظر، واستغلت الوازع الديني لدى شريحة كبيرة من الراغبين في عدم التعامل مع البنوك التقليدية، أو ما يُسمّى بالربوية، ونجحت هذه الشركات في جمع إيداعات خيالية من المودعين، في وقت أخفت فيه البنوك التقليدية الضخمة، إلاّ أنها سقطت بعد ذلك وتم تصفيتها ، وبدءاً من أوائل التسعينيات عادت فكرة البنوك الإسلامية للظهور وبقوة، ونجحت عبر عقدين من الزمن، على الرغم من الصعاب التي واجهتها، في كسب ثقة المتعاملين، وباتت منافساً قوياً للبنوك التقليدية، بل إنها تجاوزت حدود العالم الإسلامي إلى التواجد في الدول غير الإسلامية خصوصاً في أوروبا.
وبحسب الإحصاءات هناك (300) مؤسسة تمويل إسلامية، يبلغ رأس مالها مجتمعة (13) مليار دولار، وتقف أصولها حالياً عند حد (265) مليار دولار، باستثمارات تتجاوز (400) مليار دولار، أما الإيداعات فتُقدّر حالياً بنحو (202) مليار دولار، بمعدل نمو يصل إلى 20%، أما بالنسبة إلى المحافظ، فقد قدر في تقرير حديث أن هناك (250) محفظة مشتركة إسلامية في العالم، تُقدّر قيمة موجوداتها بـ (300) مليار دولار، بينما توجد (300) مؤسسة مالية إسلامية أخرى لديها موجودات حجمها (250) مليار دولار.
فوائد كثيرة
ويؤكد رجال الاقتصاد أن البنوك الإسلامية ساهمت بشكل مباشر في انتعاش الاقتصاد العربي والعالمي؛ إذ إن البنك الإسلامي أساسًا شركة استثمار حقيقي، وليس استثماراً مالياً، ومن ثم فعمليات البنك الإسلامي هي الدخول في إنشاء مشروعات استثمارية وفقاً للأولويات الإنمائية للبلد الذي يوجد فيه البنك الإسلامي؛ حيث يساهم البنك في المشروعات الصناعية والمشروعات الزراعية، ومشروعات الخدمات من صحة، وتعليم، وتدريب إلى آخره، ومن ثم يدخل في كافة المشروعات الاقتصادية التي تعمل على تنمية القدرة الإنتاجية للمجتمع موضع التنمية، والقول بأن البنك الإسلامي يقتصر عمله على المعاملات المالية التقليدية قول يجانب الحقيقة والواقع؛ إذ إنه في بداية عمل البنوك الإسلامية كان لابد أن تأخذ بأساس الفن المصرفي الحديث، وهو المواءمة بين اعتبارين متضادين، وهما الربح من ناحية، والسيولة أو ثقة العملاء من ناحية أخرى؛ إذ إن أي مؤسسة نقدية حديثة لا يمكن أن تركز على اعتبار دون الآخر، فإذا ركزت على اعتبار الربحية أدّى ذلك إلى أنها لن تستطيع أن تستجيب لطلبات العملاء بالدفع نقداً وفي الحال، ومن ثم يتنافى وجودها كمؤسسة نقدية، وإذا ما ركّزت على اعتبار السيولة أو الثقة أصبحت كخازن للنقود، ومن ثم كمشروع اقتصادي فلن تحقق أرباحاً، ومن هنا كان لابد من المواءمة بين اعتبار الربحية واعتبار السيولة سواء كان البنك إسلامياً أو تقليدياً.
اختراق الغرب
وفي الوقت الذي لم يكن فيه عدد البنوك الأجنبية المستثمرة إسلامياً على صعيد العالم يتجاوز العشرة عام 1999، ارتفع عددها الآن إلى قرابة (150)؛ إذ استطاعت البنوك الإسلامية أن تطرح مفهوماً جديداً في التعاملات المصرفية، وليس أدل على ذلك من سعي الكثير من البنوك العالمية لإنشاء أقسام إسلامية لتلبية الطلب المتزايد لعملائها المسلمين على الخدمات البنكية التي تتوافق وتعاليم الشريعة الإسلامية، ويربط البعض بين نمو القطاع المصرفي الإسلامي وحوادث 11 سبتمبر، مستندين في ذلك إلى ارتفاع حجم الودائع في البنوك الإسلامية خلال الأشهر الثلاثة التي تلت هجمات 11 سبتمبر بنحو 5% عن المعدل الطبيعي الذي يتراوح بين 5 و10%.
وقد أدى نجاح الخدمات المصرفية للبنوك الإسلامية إلى جذب اهتمام العديد من المصارف العالمية إلى تقديم خدمات مصرفية إسلامية مثل (مجموعة هونج كونج شنجاهاي المصرفية) و(تشيس مانهاتن سيتي بنك) إلى جانب مصارف إقليمية ومحلية موثوق بها، كما شهدت بريطانيا مولد بنك بريطانيا الإسلامي عام 2004، في محاولة لجذب أموال حوالي مليوني مسلم يعيشون في بريطانيا، كما وافقت ماليزيا على منح ترخيصين مصرفيين إسلاميين لبنوك من الشرق الأوسط للعمل في البلاد في إطار سعي البنك المركزي لتحويل ماليزيا إلى مركز عالمي للتمويل الإسلامي.
وقد جاء في بيان صحفي صادر عن اتحاد المصارف السويسرية (يو.بي.إس) في زيورخ: أنه استجابة للطلبات المتزايدة للعملاء الباحثين عن خدمات مالية تحترم الشريعة الإسلامية، أعاد اتحاد المصارف السويسرية مؤخراً النظر في هيكلة نشاطاته في الشرق الأوسط، وقرر تدشين أكبر مصرف سويسري للإدماج الكامل لفرعه (نوريبا) في البحرين المتخصص في إدارة الثروات، وكان (يو.بي.إس) قد أسس في عام 2002 بنك (نوريبا) الذي يعمل وفقاً لتعاليم الشريعة الإسلامية،
واستنتج المصرف من خلال تلك المراجعة أن توسّعه في المنطقة يقتضي إدماج كفاءاته بشكل أفضل في إطار مجموعات الأعمال الثلاث: إدارة الثروات الشاملة والأعمال المصرفية، وإدارة الموجودات الشاملة، وبنك الاستثمار.
نمو متزايد في ألمانيا
وفي ألمانيا يؤكد الخبراء الاقتصاديون أن الاستثمارالمالي الإسلامي(المصارف الإسلامية) يشهد نمواً متزايداً ومازال يتمتع باحتياطيات كبيرة ليس فقط في الشرق الأوسط والعالم الإسلامي وحسب، وإنما في أماكن أخرى من العالم، وأن إمكانياته لم تُستنفد بعد، فقد بلغت قيمة الاستثمارات طبقاً للشريعة الإسلامية في عام 2005 على الصعيد العالمي مايربو على (270) مليار دولار.
وهنا لابد من الإشارة إلى أن مصرف (كوميرتس بنك الألماني) وهو واحد من أكبر البنوك الألمانية فاجأ في الثاني من يناير من عام ألفين الأوساط المالية الألمانية عندما أسس من خلال شركة (كومينفست) للاستثمار المتفرعة عنه صندوقاً استثمارياً أطلق عليه اسماً غريباً على مسمع المستثمرين الأوروبيين ومشوقاً في الوقت ذاته، ألا وهو" الصقور"، وبذلك دشن آنذاك أول سابقة في السوق المالية الألمانية حيث خضع صندوق استثماري كبير لقوانين وتوجيهات الشريعة الإسلامية في الاستثمار المالي.
وساد رأي قوي في أوساط الخبراء والمحللين الاقتصاديين آنذاك مفاده أن هذه التجربة هي تجربة واعدة بكل المقاييس؛ إذ يربو عدد المسلمين الذين يعيشون ويعملون في ألمانيا حوالي أربعة ملايين معظمهم من أصل تركي، كما أنهم من المواظبين على الادخار واستثمار مدخراتهم بانتظام، ولم يكن لدى المواطنين المسلمين الملتزمين بالشريعة في المانيا حتى ذلك الحين أي امكانية لاستثمار أموالهم إسلامياً، فقد كانوا يحتفظون بمبالغ نقداً في البيت أو يبقون فوائضهم المالية دون فائدة في حسابات جارية لدى صناديق الادخار في الحي، أو أنهم يستثمرون جزءاً في شراء عقارات في أوطانهم أو في استثمارات شراكة هناك؛ إذ يلتهم جزء منها التضخم أو عمليات الإخلال بالشركة والخداع لاسيما من جانب الأصدقاء القدامى أو الأقرباء.
وفي سابقة هي الأولى من نوعها والتي لفتت نظر رجال المال والأعمال في ألمانيا
وهو قيام حكومة ولاية (سكسونيا) الألمانية الشرقية في صيف عام 2004 بتأسيس صندوق استثمار إسلامي ضمن عملية معقدة شملت تأسيس مبرة(مؤسسة خيرية)، ونقلت إلى ملكيتها عقارات وأبنية؛ إذ يستفيد المستثمرون من ريع الإيجارات، ويبدو أن هذه التجربة نجحت وأدت الى تدفق الملايين لخزينة حكومة الولاية، وساهمت في سد العجز الكبير الذي تعاني منه، والعجيب في هذا هو أن حكومة الولاية جعلت مقر المبرة الاستثمارية هذه في هولندا، وذلك تفادياً لدفع ضرائب عالية على أرباحها كما لو كانت مسجلة في ألمانيا.
وهكذا أصبحت البنوك الإسلامية أمرًا واقعًا في الحياة المصرفية الدولية بعد أن شقت طريقها بصعوبة في بيئات مصرفية، بعيدة في أسسها وقواعدها وآليات العمل فيها عن الروح والقواعد التي تُدار بها المصارف الإسلامية، ومع ذلك نجحت البنوك الإسلامية - حسب بيانات صندوق النقد الدولي - في أن تنتشر في ثلث دول العالم الأعضاء في صندوق النقد، وأنها خرجت من نطاقها الطبيعي في أسواق الدول الإسلامية إلى أسواق الدول الأخرى حسبما أشارت آخر إحصائيات الاتحاد الدولي للبنوك الإسلامية.