لا يبدو الابتكار الإعلاني عملية بسيطة، أو جهد فردي، أو موهبة فطرية فقط، وإنّما يبدو بوضوح كعملية متداخلة لها محددات أساسية تؤثر وتتأثّر بالعديد من المتغيّرات التي لا نستطيع أن نتوقّع إعلاناً مبتكراً دون الوعي بها.. وتتمثّل أهمها فيما يلي:
- يجسد الجهد الإعلاني محاولة دائمة لإيجاد علاقة بين حقائق الأرقام والمعلومات والإتجاهات والسلوك التي يمثلها البحث العلمي من جانب، والإتِّصال الرمزي الذي يعتمد على عناصر مثل الألوان والصور والإضاءة والتعبير والتصميمات المبهرة والتي يمثلها المجال الابتكاري من جانب آخر،... ومما لاشك فيه أنّ الإعلان المؤثر مدين للإبتكار، ولكن في نفس الوقت لا يمكن أن ينجح الإعلان المبتكر لكونه مبتكراً وجذاباً فقط، ولكنه ينجح لكونه مبتكراً لإستخدامه معلومات دقيقة خاصة بتفضيلات المستهلكين وثقافتهم وتقسيماتهم الديموجرافية، والأسواق المستهدفة، وخصائص ونقاط الجذب لدى المنافسين وغيرها من المعلومات التسويقية التي تمثل أساساً للإعلان المتميّز، لذا فإن التوازن المثالي يحدث بين محدّدات البحث العلمي وخيال الابتكار حينما يسمح للمعلومات بأن توجه الجانب الخيالي إلى مزيد من الانطلاق القابل للتطبيق الفعال.
- على الرغم من أن المعلنين يختارون دائماً الوكالات الإعلانية المتميّزة بأسلوبها الابتكاري وقدرتها على توصيل المفاهيم الإعلانية بفاعلية بما يترتب على ذلك من زيادة مبيعات المؤسسة المعلنة ومنحها مزايا تنافسية في مواجهة المؤسسات الأخرى، وتدعيم صورتها الذهنية وسمعتها في السوق، وزيادة مبيعاتها من خلال المحافظة على العملاء الحاليين وجذب عملاء جدد وغير ذلك من المزايا، إلا أنّه ينبغي الإشارة إلى أنّ التفكير الابتكاري ليس مسؤولية القائمين على إدارة الإعلان أو وكالة الإعلان فقط، ولا يمكن أن يحقّق تأثيراً إلا إذا كان جزءاً من فكر تسويقي عام وعملية فكرية مستمرة تمثل تياراً أو إتجاهاً سائداً وتوجّهاً مسيطراً على كلّ العاملين في المؤسسة التي تستهدف الإعلان... كما أنّ الإعلان المبتكر لن يكون فعالاً وحده، بمعزل عن عناصر المزيج التسويقي التي يتكامل معها من إنتاج وتسعير وتوزيع وترويج.
- لا ينبغي السعي إلى الابتكار الإعلاني فقط كرد فعل لتطوير المنافسين لإستراتيجياتهم الإعلانية، أو بسبب أحداث وتطوّرات وقعت خارج المؤسّسة، ولا ينبغي أن يحكم الابتكار فكر ردّ الفعل للخوف فقط، من التغيير خارج دائرة المعلن، وإنّما يجب أن يكون ابتكار الفعل الذي يدرك أهمية التغيير وضرورة الاتساق الإيجابي معه، ومن أجل أن يكون المعلن في مقدمة السوق وليس في صفوف التابعين الذين يحاولون اللحاق، ففي الوقت الذي يتطوّر فيه العلم بمعدلات متلاحقة يبدو من غير المنطقي ألا يحاول الأفراد تطوير قدراتهم الابتكارية في إطار فهم دقيق لمتغيّرات السوق من أجل ملاحقة التغيير ومواجهة المشكلات الإعلانية بأساليب خلاقة.
- ضرورة اعتماد الابتكار في مجال الإعلان على "خصوصية الحالة الإعلانية" فالقواعد الإعلانية العامّة لا توجد ابتكاراً، ولكن يوجده الإلمام الكامل والدقيق بتفاصيل كل حالة إعلانية على حدة، فالابتكار الإعلاني ليس معادلة حسابية أو تركيبة كيميائية ثابتة صالحة للإستخدام في حالات متعدّدة، وليس في نفس الوقت خيالاً جامحاً بلا حدود يبتغي إثارة الدهشة لمجرّد إثارة الدهشة، ولكنّه القدرة على المزج الفريد بين الحقائق العلمية والخيال الخلاق الذي ينطلق من قيود المعادلات، بمعنى أنّه لا ينبغي أن ننتظر حالات ناجحة لكي نأخذها إلى حيز إعادة التطبيق الكامل كي تنجح مرة أخرى مع جماهير ومنتجات أخرى، فالفكرة الإعلانية المبتكرة والناجحة مع جمهور معيّن قد لا تنجح مع جمهور آخر، بل قد لا تنجح مع نفس الجمهور في فترة زمنية أخرى تحمل تغيّراً جذرياً في المتغيّرات التي أوجدت النجاح السابق.
ولذلك يشكل الإعلان المبتكر نوعاً خاصاً من الإتِّصال يستهدف تقديم حقيقة بصورة جيِّدة جذابة، فالمعلنون يعملون من أجل التوصل إلى أفضل الأساليب للإخبار بفاعلية عن المنتجات، وحتى يحقّقوا ذلك لابدّ أن يكون لديهم فهم كامل لعناصر العملية الإعلانية التي من أساسيات الإتِّصال الإنساني (W.F Arens 1999:8) فالإعلان المبتكر ليس فقط ما تقول، ولكن كيف تقول؟ وكيف تبدو؟ وكيف تعبر؟.
إلى جانب القدرات العقلية الأساسية التي لابدّ من توافرها في الإنسان مثل التعرّف والإدراك والفهم والتذكر وغيرها، تتعدّد المهارات أو القدرات التي ينبغي أن تتوافر في المبتكر الإعلاني، وبقدر ما يملك من هذه المهارات يكون ثراؤه الإبتكاري وقدرته على الإنتاج الخلاق... وتتمثّل أهم هذه المهارات فيما يلي:
1- الحسّاسية للمشكلات (Sensitivity To Problems):
وهي تمثل المهارة الأولى لأي تفكير ابتكاري، وتعني أنّ المبتكر الإعلاني يجب أن يتصف بإرتفاع درجة الوعي بوجود مشكلات تحتاج إلى حلول إعلانية، سواء كانت حلولاً جذرية تتصل بالإستراتيجية الإعلانية نفسها، أو جزئية تتعلّق بالوسائل أو بعض الأفكار والتصميمات والشخصيات المستخدمة والصياغات التعبيرية، كما يجب أن يكون لدى المبتكر الإعلاني القدرة على التنبؤ من خلال حدسه وتحليله العميق ورؤيته لما وراء الأشياء بالكثير من المشكلات الإعلانية قبل وقوعها في حين قد لا يملك الكثيرون هذه المهارة، أو لا يستطيعون تقدير الحجم الواقعي للمشكلات، وتبرز هذه المهارة خاصّة حين تكون المشكلات غير واضحة المعالم أو متصلة بعناصر تسويقية أخرى غير الإعلان.
ولا يجب أن يملك المبتكر الإعلاني فقط حسّاسية خاصّة تجاه وجود مشكلات، وإنّما يجب أن يملك أيضاً قدرة عالية على إكتشاف الكثير من الحلول الملائمة لها، فهو يجد سهولة أكثر من غيره في خلق الأفكار، ويستطيع في نفس الفترة الزمنية الممنوحة لغيره أن يطوّر ويعطي عدداً أكبر من الحلول الملائمة للموضوع المطروح للبحث والدراسة، وهو فضلاً عن ذلك يجد سهولة أكثر في سرعة التفكير والتعبير عن المشاعر والمواقف بكثير من وسائل الرمز والإستعارات، ووضع الفروض والنظريات المفسرة. (عبدالستار إبراهيم 2002: 59)
2- الطلاقة (Fluency):
وتعني القدرة على استدعاء أكبر قدر من الأفكار والتعبيرات والصور الملائمة تجاه مشكلة إعلانية أو مثير إعلاني معين، وهناك عدة مكونات للطلاقة نعرض لها فيما يلي:
أ) الطلاقة اللفظية (word Fluency):
يقصد بها القدرة على إنتاج أكبر عدد من الكلمات تحت شروط تركيبية معيّنة، ولا يلعب عامل المعنى دوراً مهمّاً فيها، ومن أمثلة الاختبارات التي تقيس هذه القدرة اختبار بداية ونهاية الكلمات، وفيه يطلب ذكر أكبر عدد من الكلمات التي تبدأ أو تنتهي بحرف معيّن في فترة زمنية محدّدة (أحمد عبادة 2001: 18)، أو تكليف الفرد بأن يكتب قائمة من الكلمات ذات تركيب معيّن من الحروف.
ب) الطلاقة الفكرية (Ideational Fluency):
أي القدرة على إنتاج أكبر عدد من الأفكار الملائمة لموقف معيّن في فترة زمنية محدّدة، ومن أمثلة ذلك أن يعطى للمبحوث صورة إعلانية ويطلب منه إنتاج عدة أفكار توحي بها هذه الصورة، أو تقديم سلعة ذات لون أحمر أو أزرق مثلاً ويطلب منه استدعاء أكبر عدد من الأشياء أو الأماكن التي يوحى بها لون السلعة.
ج) الطلاقة الارتباطية (Associational Fluency):
وهي القدرة على استدعاء عدد من الكلمات المشتركة في جانب معيّن، كأن يذكر المبحوث أكبر عدد من الكلمات المترادفة أو المتضادة لصفات منتج معيّن.
د) الطلاقة التعبيرية (Expressive Fluency):
أي القدرة على التفكير السريع في تكوين كلمات مترابطة ومتّصلة، وصياغة التراكيب اللغوية، وهي في ذلك تختلف عن الطلاقة الإرتباطية التي تتضمن إنتاج كلمات مفردة فقط، ومن أمثلة الإختبارات التي تقيس هذه القدرة أن يطلب كتابة جمل واضحة المعنى تشتمل على عدة كلمات تبدأ كلّها بحروف معيّنة، أو يطلب كتابة أكبر عدد من الجمل المفيدة مستخدماً أربع كلمات محدّدة مسبقاً. (أحمد عبادة 2001: 19)
هـ) الطلاقة الشكلية (Figural Fluency):
ويقصد بها القدرة على الإنتاج السريع لعدد من التكوينات استناداً إلى مثيرات معطاة، كأن يعطى المبحوث عدداً من الدوائر أو الأشكال المستقيمة أو المثلثات أو المربعات، ثمّ يطلب منه إستخدامها في إنتاج أكبر عدد من الأشكال.
3- المرونة (Flexibility):
ويقصد بها قدرة المبتكر الإعلاني على النظر إلى الحالة الإعلانية موضع الإعتبار من أكثر من زاوية، وعدم التفكير في إطار حدود معيّنة أو أطر ثابتة، بحيث يتمكّن الشخص من التوصل إلى أفكار جديدة وغير تقليدية. (نعيم حافظ 2003: 85)
وتختلف الطلاقة عن المرونة في أنّ الطلاقة تعتمد على (كم) الإستجابات، أمّا المرونة فإنّها تعتمد على تنوّع (كيف) هذه الإستجابات.
وتعتبر المرونة العقلية الأساس المعرفي للإبتكار، ويقصد بذلك أن يمتلك المبتكر درجة عالية من التنوّع في الرؤى، والقدرة على إعادة بناء الحقائق المتاحة في صياغات جديدة وملائمة وفقاً للمتطلبات المستجدة، وتعني أيضاً تغيير الصياغة عندما لا تبرهن الصياغات المتاحة على مناسبتها أو فاعليتها لتفسير الحقائق المتاحة، والمبتكر بهذا المعنى قادر على مقاومة النمطية الفكرية والأشكال السائدة من التفسير والنظريات، والبعد عن التصلب ومقاومة البقاء ضمن إطار النمط التقليدي من حل المشكلات. (عبدالستار إبراهيم 2002: 59)
وهناك نوعان من المرونة هما:
أ) المرونة التلقائية (Spontaneous Flexibility):
وهي القدرة على إنتاج أكبر قدر ممكن من الأفكار التي ترتبط بموقف معيّن يحدّده الإختبار على أن تكون الأفكار الخاصّة بهذا الموقف متنوعة، ويتم قياس هذه القدرة بإختبار الإستخدامات غير المعتادة مثل إستخدام الصحيفة في عشرات الأشياء غير مجرد قراءتها.
ب) المرونة التكليفية (Adaptive Flexibility):
وهي قدرة الشخص على تغيير وجهته الذهنية حين يكون بصدد النظر إلى حل مشكلة معيّنة، ويمكن أن ننظر إليها بإعتبارها الطرف الموجب للتكيف العقلي، فالشخص المرن (من حيث التكيف العقلي) مضاد للشخص المتصلب عقلياً. (مصرى حنورة 2000: 81-82)
4- الأصالة (Originality):
وهي تعني القدرة على إنتاج أفكار إعلانية جديدة وغير مألوفة لم يسبق التوصل إليها، وتستطيع أن تثبت فاعليتها وملائمتها، ولا يعني ذلك أن يهمل المبتكر الإعلاني الأفكار المألوفة أو التي سبق التوصل إليها، فقد تساعده مثل هذه الأفكار على التوصل إلى شيء فريد، أو قد توحى إليه بفكرة غير تقليدية، بل إن توافر مثل هذه الأفكار المألوفة يمكن أن يستخدم كوسيلة لاستبعاد الأفكار التي يمكن أن تتشابه مع ما سبق التوصل إليه. (نعيم حافظ 2003: 84)
وإذا نظرنا إلى الأصالة في ضوء مهارات الحسّاسية للمشكلات والطلاقة والمرونة نجد أنّها تختلف عن كل منها فهي:
- لا تتضمن شروطاً تقويمية في النظر إلى البيئة، كما لا تحتاج إلى قدر كبير من الشروط التقويمية المطلوبة لنقد الذات حتى يستطيع المبتكر أن ينهي عمله على خير وجه، وهذا ما يميزها عن الحسّاسية للمشكلات التي تحتاج لقدر مرتفع من التقييم سواء للبيئة أو للذات.
- لا تشير إلى كمية الأفكار التي يقدمها الفرد، بل تعتمد على قيمة تلك الأفكار ونوعيتها وجدتها، وهذا ما يميزها عن الطلاقة.
- لا تشير إلى نفور الشخص من تكرار تصوّراته، أو أفكاره هو شخصياً (كما في المرونة)، بل تشير إلى النفور من تكرار ما يفعله الآخرون، وهذا ما يميزها عن المرونة. (عبدالستار إبراهيم 1998: 29)
5- الإحتفاظ بالإتجاه (Maintaining Direction):
ويقصد به متابعة الجهد العقلي وتنفيذ العمل الإعلاني المستهدف على الرغم من كل العوامل التي تدفع إلى عدم التركيز الذهني، سواء كانت عوامل عقلية مثل الجهد الذي تتطلبه فكرة ما، أو الإنتقال من فكرة إعلانية إلى فكرة أخرى، أو عوامل وجدانية تتعلّق والإحباط الذي يمكن أن يعاني منه المبتكر الإعلاني في الكثير من مراحل العمل الإبتكاري، أو عوامل متّصلة بالمجال الإعلاني نفسه كالمنافسة، ونقد الآخرين، وضغوط السوق، وضغوط العمل الجماعي.