authentication required

 

الحمد لله تعالى على نعمة الاسلام وأن جعلنا مسلمين . واشهد ان لا اله الا الله وحده لا شريك له هو يتولى الصالحين . واشهد أن محمدا عبده ورسوله الصادق الوعد الامين . أما بعد / ان أطيب الحديث كتاب الله وخير الهدى هدى محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم وشر الامور محدثاتها  وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة فى النار ثم أما بعد /

       إن المتفحص في تاريخ الحضارة الإسلامية يدرك مدى إسهام الفكر الإسلامي في رقي وتطور أساسيات الإدارة ؛ ذلك أن الإسلام دين شامل للحياة ؛ فهو ليس مجرد دين يقتصر على العبادات ، بل شملت تعاليمه وتوجيهاته كل شؤون الفرد والجماعة والدولة .

إن نظرة الإسلام الشمولية إلى موضوع الإدارة تنطلق من كون الأخلاقيات الإسلامية تأخذ مفهوما واسعاً يوحد توحيداً كاملا بين الإيمان والعبادات والمعاملات المجتمعية ومنها المعاملات الإدارية أي انه لا يفرق مطلقا بين الروحانيات والماديات، فبقدر ما يتدخل في الشؤون العامة يتدخل في الشؤون الخاصة لذلك كانت الرقابة الإلهية التي ينبغي للموظف الإداري أن يراعيها قبل الرقابة الإدارية لا تتناول عملا وتدع آخر بل تتناول الأعمال كلها ، من جهة أخرى فإنه إذا كان الشعور بالمسؤولية يعتبر إحدى الخصائص الأساسية المطلوبة في الموظف الإداري ، وبذلك تتعدى مسؤولية الإنسان الإداري أفعاله الخاصة ومقاصده الشخصية إلى نطاق مجموع المجتمع الإداري الذي يتحرك ويمارس عمله في إطاره، فهو في الوقت الذي يعتبر فيه مسؤولاً عما يصدر عنه من أفعال وتصرفات وممارسات، فان الإسلام لا يعفيه من المسؤولية عما يجري في محيطه الإداري ويدور حوله ويقع من غيره، خصوصاً إذا كان هذا الغير ممن يقع تحت مسؤوليته ورعايته([1]) .

هذا إذن عن نظرة الإسلام إلى مسألة تخليق الإدارة وهي نظرة شمولية هادفة تدعو إلى تفعيل السلوك الإداري قبل التوظيف وبعده وتنمية الإحساس لدى الموظف بأهمية الالتزام بالشعائر الدينية التي تسهم في تهذيب السلوك وتزكيته، وكذا ضرورة إيقاظ الضمير الديني الذي يوجه الخطوات ويسدد التصرفات إلى حد ما، هذا فضلا عن التأكيد على أهمية الإحساس بالمسؤولية الذي يعتبر الأساس وقطب الرحى الذي يبنى عليه مفهوم تخليق الإدارة.

فالاسلام جاء لسعادة البشرية , والاستفادة من العلوم والابتكارات لخدمة ورفاهية الانسان , يقول Joe Simpson ( ليس فى القرآن ما يتعارض مع العلم الحديث , بل أيضا به ما يمكن ويلهم العلماء , ويضيف مفاهيم جديدة للعلوم التقليدية – ان القرآن الكريم فضلا عن كونه كتاب عقيدة وهداية ومنهاج حياة , فانه كذلك كنز للعلوم يهدى العلماء كل حسب تخصصه الى أبحاث جديدة , ويحقق فى حالة توظيف اشارته العلمية بصورة صحيحة خدمة للمعرفة والتقدم العلمى وصولا لخير البشرية وسعادتها ) ([2]).

إن محاولة الاستفادة من التطورات العلمية الحديثة أمر يطلبه الإسلام ويرغب فيه بل ويحث عليه انطلاقا من أن الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أولى الناس بها ، ولكن لا يمكن أن تتحقق الاستفادة إلا إذا تمت المحاولة بوعي وإدراك ,والنبي الكريم صلى الله عليه وسلم جعل من الأخلاق الفاضلة والقيم النبيلة طريقاً فسيحاً لدعوته ، فقال "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" ، كما أن الله جل وعلا جعل تغيير أحـــوال الأمم رهيناً بتغيير أخلاقها وسـلوكها كما في قوله تعالى (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)  (الرعد  : 11) .

وإذا كان هناك عدد من الصفات الأخلاقية التي ينبغي على الفرد المسلم التحلي بها في التعامل مع الآخرين فإن الالتزام بهذه الصفات في مجال العمل يكون أوجب وأهم ، ذلك لأن المهنة هي محـور علاقة مباشرة بين الفـرد ومن حوله ممن يتعاملـون معه من الزملاء و الرؤســـاء والمرءوسين والمستفيدين من عمله من محتاجين وعملاء  .

وتؤدي القيم الفاضلة التي يعتنقها الفرد المسلم المستمدة من عقيدة التوحيد ومبادئ الشريعة دوراً أساسياً في التأثير على سلوكه ونشاطاته بل وممارساته اليومية  ، ومن هذا المنطلق فإن قيمنا هي أهم ما يميز شخصياتنا ، فهي تؤثر على سلوكنا والأشخاص الذين نثق بهم والرغبات التي نلبيها ، وكذلك الطريقة التي نستثمر بها أوقاتنا وجهودنا ، وعلى جميع مظاهر حياتنا ، بل إن قيمنا هي التي توجهنا للطريق القويم في الأوقات الحرجة حين تتفرق بنا السبل وتتقاذفنا الضغوط وأمواج الحياة .

والقيم تعبر عن المعتقدات الأساسية للفرد ، وهي التي تحدد له ما يجب أن يفعله أولا يفعله ، وما هو صحيح أو خطأ أو حق و باطل أو اختصاراً هي التي توجه أخلاقنا وسلوكنا في التعامل مع الأشياء أو مع الآخرين من حولنا .

وإن لمظاهر السلوك الإنساني الذي يسلكه الفرد وهو يؤدي مهنته التي يزاولها علاقة وطيدة بين قيمه التي يعتنقها من جهة وبين قيم المنظمة التي يعمل فيها ويطبق فلسفتها من جهة أخرى ، وبين قيم المجتمع الذي يعيش فيه كل من الفرد والمنظمة من جهة ثالثة .

وقد تصدى مجموعة من العلماء والباحثين في شتى الحقول العلمية والمعرفية في علم النفس والاجتماع وعلم الأجناس البشرية والإدارة إلى قضية القيم ومحاولة فهمها لتفسير السلوك الإنساني وما يصدر عنه من ممارسات صحيحة أو خاطئة نتيجة للقيم أو الموروثات التي يحملها الفرد ويؤمن بها.([3])

     إن الرقابة الذاتية الحقة لا تجلب أبداً من الخارج ، وإنما هي شعاع من نور،  يولد ، ويكبر في داخل الإنسان ، ويضيء جوانب الحياة كلها ، ويجعلها أكثر قيمة ومنطقية ، وأكثر تهيّئاً للنمو والتقدّم والاستمرار ، وكل ذلك مرهون بأوضاع تسود فيها الأحكام الأخلاقية ، ويعلو فيها صوت الالتزام والاستقامة ، وترفرف في أرجائها إشراقات النفس !.

ومن هنا ندرك حجم الجريمة التي ارتكبت في حق هذه الأمة حينما دُفعت دفعاً من قبل أعدائها على مستوى التنظير ، وعلى مستوى العمل إلى أن تجعل القيم الأخلاقية والنفسية في المرتبة الدنيا من اهتماماتها ؛ فلما واجهه الناس ما واجهوه من ضائقات في العيش ، ومن شح في متطلبات الحياة الكريمة ، لم يجدوا لديهم سنداً ُخلقياً كريماً يعتمدون عليه في الصمود أمام المغريات وأمام أسباب الانحدار المختلفة !.

إن دراسة الحضارات توقفنا على حقيقة كبرى ، وهي أن مصير الإنسان كان يتوقف دائماً على أمرين : علاقته بربه ، وعلاقته بأخيه الإنسان . والبعد النفسي والأخلاقي هو المركز والمحور في هاتين العلاقتين . وحينما ينحطّ الإنسان يتحول عن عبادته لربه إلى عبادته شهواته . وتعتمد علاقتَه بالآخرين على القوةُ لا على الرحمة ، وعلى العنف لا على التفاهم ، وينصرف الإنسان عن العناية بالنفس إلى العناية بالجسد ، وعن الاهتمام بالمبدأ إلى الاهتمام بالمصلحة ، ويتحول المجتمع كله إلى غابة يحسّ كل واحد فيها أن من حقه افتراس الآخرين ، كما أنه من الممكن أن يكون فريسة لأي واحد منهم !. هذا هو مجتمع الغاب 0  ([4])  والطريق الوحيد للحيلولة دون هذه الحالة يكمن في تدعيم الرقابة الذاتية ، وتعزيز علاقة العبد بربه ـ جل وعلى ـ  وتحفيز الإرادة الخيِّرة في الناس . وهذا الحل وإن كان مكْلفاً على المدى القريب . فإنه سفينة نوح على المدى البعيد 0

     لن يكون في إمكان أفضل النظم الاجتماعية ، ولا في إمكان أقسى العقوبات الصارمة أن تقوِّم الاعوِّجاج ، ولا أن تملأ الفراغ الناشئ عن ذبول النفس ، وانحطاط القيم ؛ فالعقوبات الصارمة لا تنشئ مجتمعاً لكنها تحميه . والنظم مهما كانت مُحكَمة ، ومتقَنة لن تحول دون تجاوز الإنسان لها ، وتأويلها بما يجهضها ، وكل الحضارات المندثرة تركت تنظيماتها وأدوات ضبطها خلفها شاهدةً على نفسها بالعقم والعجز !.

     إن الإسلام يعلمنا أن بالإِمكان تصحيح المسار قبل أن نرتطم بقاع الهاوية ، كما يعلّمنا أنه بالإمكان أن نتحول من الخسارة إلى الربح قبل أن يصبح الرصيد صفراً ؛ وذلك إذا أصغينا إلى نداء الفطرة في أعماقنا ، وضغطنا على بعض حاجات الجسد من أجل إنعاش النفس ، وفكّرنا مَلياً بما هو آت !.

إننا اليوم في أمس الحاجة إلى إيجاد مدخل جديد للتنمية الأخلاقية ، يقوم على منح بعض الثوابت القيمية والأخلاقية معاني جديدة أو اهتمامات خاصة ببعض مدلولاتها ، بغية التخفيف من حدّة وطأة التخلُّف الذي يجتاح حياة المسلم ،  فالتقوى  في حياتنا المعاصرة بحاجة إلى إثراء مفرداتها كي تتناول بعض الفروض الحضارية ، مثل : الإسراع إلى العمل ، وإتقان العمل ، وتطوير العمل ، والمحافظة على الوقت ، وحسـن إدارته  ، والعمل المؤسساتي ، وترسيخ مفهوم فريق العمل ،  والالتزام بالمواعيد ، وحسن التصرّف بالإمكانات المتاحة ، وترشيد الاستهلاك ... وكل هذه القيم المعاصرة لها أصول ثابتة في القرآن والسنة ،   ويمكن من خلال التربية والموعظة الحسنة أن نجعل المسلم يشعر بحلاوة الإيمان ، وحلاوة الالتزام من خلال القيام بهذه الأعمال التي تقتضيها طبيعة العصر ,    فالتجديد النفسي والأخلاقي ليس نسخ أخلاق وإحلال أخلاق أخرى في موضعها ، وإنما هو توسيع في مدلولات بعض المفهومات الأخلاقية ، ومنحها أهمية أكبر في النَسق الأخلاقي العام .

       وهذا كله يوصلنا إلى قناعة بضرورة ألا نعزل معالجة القضايا الأخلاقية عن معالجة مشكلات الحياة الأخرى .

 


[1]- د/ حسن عزوزى ( دور الإسلام في دعم أخلاقيات الإدارة) المصدر: مجلة الوعي الإسلامي العدد 521تنمية

2- سوسن سالم الشيخ , أصول البحث العلمى عند المسلمين وأثرة على التراث العلمى والعلوم الادارية , المجلة العلمية لكلية التجارة , جامعة الازهر – فرع البنات , العدد الحادى والعشرون , يونيو , ص 104.

[3] - د. إبراهيم فهد الغفيلي , العلاقة والتأثير بين قيم الفرد والمنظمات , ورقة عمل مقدمة الى الملتقى الثالث لتنمية الموارد البشرية , 31 أكتوبر 2001

[4] - د. محمد راتب النابلسى , التنمية الاخلاية . موسوعة النابلسى للعلوم الاسلامية , 2004

المصدر: أحمد السيد كردى.
ahmedkordy

خدمات البحث العلمي 01009848570

  • Currently 53/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
18 تصويتات / 2170 مشاهدة
نشرت فى 18 يونيو 2011 بواسطة ahmedkordy

أحمد السيد كردي

ahmedkordy
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

30,249,921

أحمد السيد كردي

موقع أحمد السيد كردي يرحب بزواره الكرام free counters