عدنان بحارث.

ظاهرة الزوجية ظاهرة عامة في الحياة الكونية، تنطبق على جانبيه : المادي والمعنوي، فتشمل عالم الإنسان والحيوان والنبات : حيث ظاهرة الذكر والأنثى، وعالم الجماد : بالموجب والسالب، وعالم الأفكار: بالصواب والخطأ، وكذلك المشاعر : فالرضا يقابله الغضب، والسرور يقابله الحزن . وهذا التشبيه مع الفارق؛ إذ لا يمكن أن تنطبق الزوجية في عالم الإنسان على الزوجية في نظام الكون من كل وجه، إلا أنه يدل على أن نظام " الزوجية ليس دائرة ضيقة ولا أفقاً محصوراً مقصوراً على الإنسان أوالحيوان أو النبات؛ بل هو سنة كونية كلية مرتبة، اتخذت مكانها في أنواع الكائنات كلها، وقسَّمت أفراد كل نوع قسمين أو زوجين، وحلَّت في أحد القسمين بسر يخالف السر الذي حلت به القسم الآخر، ولا تُعطي سنة الله ثمرتها بإيجاد النوع إلا إذا التقى السِّران، واجتمع الزوجان " .

والإنسان أفضل الكائنات، وأرقاها في عمق تعبيره عن الطبيعة الزوجية، فقد قامت البشرية منذ آدم عليه السلام على نظام الزواج والأسرة، فما أن خلق الله آدم عليه السلام حتى أتبعه زوجه؛ ليسكن إليها، وتستقر نفسه بها، فما عرفت البشرية قطُّ فكرة شيوعية النساء إلا في عهد الثورة الشيوعية المنْدَحرة . ثم لما تبيَّن لهم بعد زمن فداحة فكرتهم وضلالها : عادوا من جديد إلى نظام الزواج .

إن الزواج في الحقيقة يُعد أعظم أركان التَّمدُّن الإنساني، وهو السبيل الوحيد لضمان دوام الإنسانية، وهو النظام الفريد القادر على بقاء الجنس البشري، ولو أخفقت جميع النظم البشرية الأخرى . ولا يزال الخلق يتزوجون، فما يبلغ أحدهم الخمسين إلا وقد جرَّب الزواج، وقلَّة نادرة هم الذين يتركونه . فيحتاجون - لهذا الشذوذ - من الجهاد النفسي والجسمي، والاعتزال الاجتماعي ما يُعينهم على مخالفة الفطرة السوية . يقول الجنيد - وهو الزاهد المعروف - مبيِّناً الحاجة إلى الزواج : " يقولون : يُحتاج إلى النكاح كما يُحتاج إلى القوت، قلت : فالزوجة على التحقيق سبب طهارة القلب "، فزاد رحمه الله على كونه ضرورة كالقوت للبدن، أنه من أسباب طهارة القلب، حيث تستقر به النفس، ويُحفظ به الدين والخلق.

ورغم الانفتاح الكبير الذي يعيشه الغرب، والحرية غير المحدودة : فإنهم -الآن- يتوجهون نحو الزواج وترك العزوبة، وتُقرر دراساتهم الاستطلاعية على الفتيات خصوصاً والنساء المتعلمات عموماً : أن الزواج والأمومة هما وظيفتا المرأة في الحياة . مما يدل على انتصار الفطرة، ولو خالفها الواقع الاجتماعي .

ومن هنا فإن قناعة الفتاة المسلمة بهذا المبدأ من الناحية الشرعية، والناحية العقلية والواقعية يدفعها نحو الزواج والإقبال عليه، والتنعم بمباهجه : موافقة لطبيعتها البشرية، وانسجاماً مع طبيعة الحياة، ونظامها الكوني .

تعتمد الأمم منذ القديم في قوتها على أعداد أفرادها البشرية العاملة والمنتجة، فالعامل البشري في التنمية الاقتصادية أهم بكثير من الموارد المادية الطبيعية؛ لأن الإنسان هو الأساس في النهضة الاجتماعية، والدعامة الأولى للنمو الحضاري، والازدهار الاقتصادي؛ فهو الوسيلة التي يمكن من خلالها إحداث التنمية وتطويرها، وهو أيضاً غاية التنمية، في تحقيق رفاهيته وسعادته، فالإنسان هو الوسيلة والغاية في الوقت نفسه؛ ولهذا يعتبر نقص المواليد في اليابان مشكلة وتحدياً يواجه المجتمع الياباني خلال القرن الواحد والعشرين الميلادي، كما جاء ذلك مصرحاً به في تقرير لجنة الوزراء باليابان .

وقد أدركت الشعوب منذ القدم هذا الفهم، فالأمم اليهودية والنصرانية، رغم فهمها الأعوج للزواج؛ حيث طفحت كتبهم المنحرفة التي يقدِّسونها بالتحذير منه والترغيب في العزوبة والتبتل، ومع ذلك تدعو بكل قوة إلى التناسل والتكاثر وتحسين النوع، وإنزال أقسى أنواع العقوبات بكل من يقتل أبناءه، أو يجهض الحوامل، حتى إن الكنيسة في القرون الوسطى كانت تُحرِّم جميع وسائل منع الحمل.

واستمر عندهم هذا المسلك السياسي الاجتماعي مع شيء من التطور في العصور الحديثة التي أعطت للأفراد مزيداً من الحرية في الإجهاض، وترك الإنجاب، ورغم ذلك فإن الدول الغربية لا تزال من خلال التشجيع، والحوافز تدفع بشعوبها نحو التكاثر - بصورة مشروعة أو غير مشروعة - خاصة بعد أن قلَّت أعداد المواليد عندهم بصورة مفزعة، وفي الوقت نفسه - وبصورة مزدوجة - سعوا إلى إضعاف التناسل السكاني عند الشعوب المنافسة، خاصة الشعوب الإسلامية التي ترى من دينها : أن التكاثر سنة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وأن الأرض لن تضيق يوماً بكفاية أهلها . فجدُّوا في إقناع الشعوب - بوسائل مختلفة - بضرورة ضبط الإنجاب، وأوصوا من خلال بعض المؤتمرات السكانية : بنقل التقنية الخاصة بإنتاج وسائل منع الحمل إلى الدول النامية؛ لتحقيق الاكتفاء الذاتي منها، في الوقت الذي لا يجد كثير من هذه الشعوب في الدول الفقيرة الماء النَّقي الذي يصلح للتَّناول . فدل على أن هذه الدعوة تهدف إلى القضاء على قوة المسلمين السكانية، حيث يخافون من زيادة نسبتهم، وتفوقهم العددي، معتبرين ذلك تهديداً لمصالحهم الحيوية؛ ولهذا أفتى علماء الإسلام المعاصرون بحرمة تحديد النسل مطلقاً إلا في حالات فردية خاصة، تدعو إليها الضرورة، معتبرين هذه الدعوة تآمراً على قوى المسلمين البشرية، وإيقافاً لها عند حد القلة والضعف أمام الشعوب الأخرى . وقد دلَّت العديد من الإحصاءات الحديثة على تفوق الدول العربية والإسلامية - في الجملة - في معدلات النمو السكاني والخصوبة على الدول الصناعية بأكثر من الضعفين للخصوبة، وأكثر من أربعة أضعاف للنمو السكاني، وهذا لا شك يزيد من توتر القوى المعادية للإسلام والمسلمين، مما يدفعهم إلى مزيد من الأنشطة الرامية إلى الحد من تنامي قوى المسلمين العددية .

ومن هذا المنطلق تدرك الفتاة دورها المهم أمام هذا المخطط الغربي، وتقتنع بضرورة قيامها من خلال الزواج الإسلامي بتحقيق هدف تكثير الأمة المسلمة، امتثالاً لأمر النبي r الحاثِّ على التناسل، وتجنباً من مشابهة طبيعة المرأة العاقر التي لم يُرغِّب رسول الله r في الزواج منها، وتعرف أن أهم ثمار النكاح : التناسل فهو المقصد الأسمى والأعظم من مشروعية الزواج . بحيث لا يمنعها من الزواج، ولا يصرفها عنه - إذا حضر الكفء - إلا ضرورة مانعة .

لقد ثبت يقيناً، وعلى جميع المستويات : أن الزواج هو أعظم وسيلة لحماية المجتمعات من الانحرافات الخلقية والنفسية، وأن العزوبة في الرجال والنساء سبب أكثر الانحرافات الخلقية المعاصرة . وقد أشار إلى هذا المعنى الحديث الوارد عن رسول الله r في خطر العزوبة على الأخلاق حيث يقول فيه : (( … ما للشيطان من سلاح أبلغ في الصالحين من النساء، إلا المتزوجون أولئك المطهَّرون المبرؤن من الخنا ))، فالمتزوجون في الغالب بريئون من الفواحش، وكبائر المعاصي، ولا سيما المتعلقة منها بالناحية الجنسية، في حين يكون العزاب أقرب إليها، وأدعى للوقوع فيها؛ ولهذا فإن المتزوج الصالح قد سلم له نصف دينه، وقد دلَّت الدراسات على أن العزاب في العموم أكثر الناس إجراماً وفساداً على المستويين الاجتماعي والسياسي، وأكثر فئات المجتمع معاناة للأمراض والآلام النفسية من : القلق، وتقلب المزاج، والأوهام والخرافات، والهوس . في حين يُلاحظ أن الفتاة الريفية ضمن نظام الزواج المبكر لا تعرف هذه المشكلات الخلقية والأزمات النفسية، وفي هذا يقول المفكر الغربي موليير : " الزواج دواء يشفي كل أدواء سن المراهقة " .

وعلى الرغم من خطر العزوبة الذي يهدد المجتمع الدولي عموماً والمجتمع المسلم خصوصاً، واستمرار وسائل الإعلام المختلفة في تشويه الرابطة الزوجية، ووسمها بالقيود والأغلال، مقابل الحرية والانطلاق في حياة العزوبة : فإن الإحصاءات الكثيرة تشير إلى تزايد عدد الفتيات العازبات، وإلى تناقصٍ حادٍ في أعداد عقود النكاح في جميع المجتمعات المعاصرة، وأن زيادة أعداد عقود النكاح في بعض البلاد ترافقها زيادة عكسية في أعداد صكوك الطلاق، مما نتج عنه انحرافات خلقية عظيمة تفوق حدَّ الوصف، وكان نصيب الفتيات منها في الغالب انحرافات جنسية . في حين لم يكن يخطر ببال الفتاة المسلمة إلى عهد قريب : أن تقع في الفاحشة، لولا إلحاح الرغبة العارمة في ظل نظام العزوبة المعاصر، الذي فرضه الواقع الحديث، يقول المفكر الغربي " لايتز " الذي عاش أكثر من نصف قرن من الزمان بين المسلمين حتى نهاية عام 1902م : " وتكاد لا ترى امرأة غير متزوجة … وليس في الإسلام محلات للفاجرات، ولا قانون يبيح انتشار المومسات " .

إن على المربين أن يدركوا أن الميول الجنسية، والحاجة إلى إشباعها : لا يمكن أن يؤجلها شيء من أمور الحياة، مهما بلغت الفتاة من التعليم والثقافة والوعي؛ فإن " اللقاء لا بد أن يتم - بحكم الفطرة - بين الرجل والمرأة، وليس هناك إلا طريقان اثنان لهذا اللقاء، مهما تعددت صوره : إما لقاء مشروع في صورة زواج، وإما لقاء غير مشروع في أية صورة من الصور "، فإذا حصلت الإثارة الجنسية : ضعفت عندها القوى العقلية المدركة لعواقب الأمور، وحصل من جرَّاء ذلك المكروه، يقول التابعي الجليل أبو مسلم الخولاني رحمه الله ناصحاً قومه، ومشيراً إلى هذه القضية الجنسية الخطيرة : " يا معشر خولان زوِّجوا نساءكم وإماءكم، فإن النَّعظ أمر عارم، فأعدُّوا له عدة، واعلموا أنه ليس لمنعظ أذن "، يعني ضعف إدراكه تحت الإثارة العارمة، فلا يقبل النصح، ولا يستوعبه .

إن إدراك المربين في العموم والفتاة على الخصوص لهذه المفاهيم يدفع الجميع نحو الجدية في طلب النكاح، والسعي لتسهيل سبله، بهدف حماية المجتمع من الانحرافات، فلا يقف ضده تعليم، أوعمل، أو فكرة مهما كانت حميدة؛ فإن الزواج هو الحصن الحصين من غوائل الشهوة، ودوافع الرغبة العارمة التي يستخدمها الشيطان للفساد الخلقي والانحراف .


ahmedkordy

خدمات البحث العلمي 01009848570

  • Currently 120/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
40 تصويتات / 5638 مشاهدة
نشرت فى 10 أغسطس 2010 بواسطة ahmedkordy

أحمد السيد كردي

ahmedkordy
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

29,877,736

أحمد السيد كردي

موقع أحمد السيد كردي يرحب بزواره الكرام free counters