إن الطيبات التي تشبع الحاجات الإنسانية ليست متاحة في الطبيعة غالباً، وإنما تستلزم تدخل الإنسان للتأثير في الطبيعة ومعطياتها بهدف إعدادها، ونشاط الإنسان الواعي والهادف إلى استيلاد الطيبات والحصول على وسائل الإشباع من الموارد المتاحة هو ما نسميه بالإنتاج.
يعتبر الإنتاج والإنتاجية من الأمور الهامة في الحياة الاقتصادية للأفراد والمجتمعات، وقد حث الإسلام على الإنتاج والعمل والاجتهاد في سبيل تحقيق الرزق والازدهار في الدنيا والآخرة. وقد أكد القرآن الكريم على هذه الفكرة في عدة آيات، منها: ﴿ وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّـهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ﴾. [التوبة : 105]. وأيضًا قوله تعالى: ﴿ وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ ﴾. [المنافقون : 10].
كما يحث الإسلام على تثوير الموارد البشرية وتجهيزها للفعالية الاقتصادية، فالإسلام يمجّد العمل وينهى عن التعطل وفي ذلك يقول تعالى موجهاً إلى الاكتساب: ﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ ۖ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾. [الملك : 15]. ويقول تعالى أيضاً: ﴿ فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ ﴾ [الجمعة، 9].
وقد عمل النبي . ﷺ . بالرعي أجيراً، واشتغل بالتجارة وشارك في بناء المسجد، وساهم في حفر الخندق، وزرع النخيل بيده الشريفة في المدينة، وما ترفع عن عمل ولم يرض أن يكفيه أحد شأناً من شؤونه كما أكدت ذلك السيرة النبوية الشريفة.
وقد ورد في الأحاديث النبوية أيضًا تشجيع على الإنتاج والعمل والاجتهاد، منها: عَنْ أبي هُريرةَ - رضْيَ اللهُ عنه - قالَ: قال رسولُ اللهِ . ﷺ .: "المؤمنُ القويُّ خيرٌ وأحبُّ إلى اللهِ مِنَ المؤمنِ الضَّعيفِ وفي كلٍّ خيرٌ. احْرِصْ على ما يَنفعُكَ، واسْتَعنْ باللهِ ولا تَعجزْ. وإنَّ أصابك شيءٌ فلا تقلْ: لو أنِّي فعلتُ كان كذا وكذا، ولكن قُلْ: قدَرُ اللهِ وما شاءَ فَعَل، فإنَّ [لَوْ] تَفتحُ عملَ الشَّيطانِ". رواه مسلم.
ويمكن القول إن الإنتاجية تمثل أحد العوامل المهمة في تطوير الاقتصاد والمجتمعات، حيث تساعد في تحسين الدخل الفردي والجماعي وزيادة المنتجات والخدمات المتاحة، وبالتالي تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
يمكن تعريف الإنتاج على أنه عملية تحويل المدخلات [الموارد] إلى منتجات أو خدمات تلبي احتياجات العملاء أو المجتمع. ويشمل الإنتاج عدة عناصر منها التخطيط والتصميم والتحليل والتنفيذ والتحكم والتحسين.
ويهدف الإنتاج في الأساس إلى تحقيق الأهداف الاقتصادية والاجتماعية والبيئية للشركة أو المنظمة. فالأهداف الاقتصادية تشمل زيادة الإنتاجية وتحسين الجودة وتقليل التكاليف وزيادة الأرباح. والأهداف الاجتماعية تشمل تحسين جودة الحياة للعملاء وتوفير فرص العمل وتحسين المستوى المعيشي للمجتمعات المحلية. والأهداف البيئية تشمل المحافظة على البيئة وتقليل التلوث والحد من الآثار السلبية للإنتاج على البيئة.
وتعتبر إدارة الإنتاج أحد العناصر الأساسية في عملية الإنتاج، وتشمل الإدارة العديد من الأنشطة مثل تخطيط الإنتاج والتصميم والتحكم في الجودة وإدارة المخزون وجدولة الإنتاج وتنظيم عملية التصنيع وتحسين العمليات والتحسين المستمر. وتسعى إدارة الإنتاج إلى تحقيق الأهداف الاستراتيجية للمنظمة من خلال تحسين الكفاءة والفعالية وتقليل التكاليف وزيادة الأرباح.
إِن المقولة المقبولة في العالم، بوجه عام، هي أن الموارد في كل مجتمع محدودة أما الحاجات فغير محدودة. والإِدارة القادرة هي التي تعمل على إِشباع أكثر ما يمكن من الحاجات عن طريق هذه الموارد المحدودة، أي إِن كفاية الإِدارة تتحقق عندما تنجز الإِدارة ما هو مطلوب منها باستعمال أقل ما يمكن من عناصر الإِنتاج، أو حين تنجز أقصى ما يمكن من الإِنتاج باستعمال عناصر إِنتاج محدودة. ومن هذه الزاوية يمكن القول إِن الإِدارة هي المسؤولة عن إِنتاج الهدف المحدد كماً ونوعاً وتوقيتاً عن طريق استعمال عناصر الإِنتاج [المدخلات] بنسب محددة تجعل تكلفة الإِنتاج أقل ما يمكن.
ويعبر ما كتب عن إِدارة الإِنتاج عن مفهومين يتصلان بالإِنتاج. يذكر المفهوم الأول أن الإِنتاج يعني تصنيع شيء مادي ما باستعمال العمال والمواد والتجهيزات. وهذا المفهوم يقتصر على إِنتاج السلع المادية فقط، مثل: الملابس والغذاء والمنازل، والأبنية على اختلاف أنواعها، والسيارات، والطائرات، وأجهزة التلفزيون، والأجهزة المنزلية الأخرى، وما شابه ذلك.
ولا يدخل في هذا المفهوم الفعاليات التي لا تتضمن إِنتاجاً مادياً والتي يشملها مصطلح الخدمات، مثل: التعليم، والخدمة الطبية، والترفيه، والأمن الداخلي.
أما المفهوم الثاني فيذهب إِلى أن الإِنتاج لا يعني الأشياء المادية فحسب، وإِنما يعني كذلك الخدمات، وأن الإِنتاج في مجال الخدمات هو إِنجاز وظيفة لها منفعة.
والمفهوم الأول يعدّ المفهوم التقليدي الشائع الاستعمال حتى الآن. والذين يأخذون به ما يزالون يستعملون في شرح إِدارة هذه الفعالية تعبير «إِدارة الإِنتاج». أما المفهوم الثاني فمفهوم جديد وموسع يروجه القائلون به على أساس أن المبادئ الأساسية التي تحكم الإِنتاج المادي هي مبادئ صالحة لحكم الإِنتاج الخدمي. ويستعمل هؤلاء في شرح إِدارة هذه الفعالية تعبير إِدارة العمليات operations management بدلاً من إِدارة الإِنتاج وذلك من أجل تمييز هذا المفهوم الجديد من المفهوم الأول.
أما مفهوم الإنتاج في الإسلام فلقد قال الله تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾. [البقرة : 29 : 30].
هذه بداية قصة الإنسان، هو قول الله خلق لكم أي: من أجلكم، وقوله: [ إني جاعل في الأرض خليفة ] أي: قوماً يخلف بعضهم بعضا قرناً بعد قرن، وجيلاً بعد جيل.
ولقد استخدم القرآن الكريم مصطلح الإعمار والإصلاح والتمكين والعمران، كدلالة على زيادة الإنتاج والتنمية. قال الله تعالى: ﴿ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ۖ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ ﴾. [هود : 61]. وعكسها الإفساد في الأرض، ولم يستخدم القرآن الكريم مصطلح التخلف، وهو عكس التنمية، أما مصطلح الإفساد في الأرض فهو إزالة ما في الأموال [الموارد] من صلاحية ونفع، واستخدام الفساد كمصطلح يعني سوء استخدام الموارد.
كما أن العمل هو العنصر الأول في عمارة الأرض التي استخلف الله فيها الإنسان، وهو وسيلة التملك ووسيلة التنمية أو الإعمار، سواء عمل الجسم أو الفكر. وتنمية الثروة تكون نتيجة العمل. وفي مجال إدارة العنصر البشري في ظل الإسلام، يجب على العامل التحلي بالقيم الأخلاقية التي يكتمل بها إيمان المسلم، وهي: الصدق – الوفاء – الأمانة – الإخلاص – القوة – التكاتف والعمل في جماعة – إعمال العقل واستثمار العلم – وإدارة الوقت. قال الله تعالى:
﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾. [النحل : 79]. ﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ﴾. [الزلزلة : 7-8].
وقوله تعالى: ﴿ فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ ﴾ [الجمعة : 9].
وكما أن العمل في الإسلام مرتبط بالقيم الإيمانية والأخلاقية، فإن تحسين مستوى معيشة العامل هدف للنظام الاقتصادي الإسلامي، لأن عملية التنمية بالإنسان وللإنسان. ويوفر المنهج الإسلامي المنطلقات الصحيحة للممارسات التي تهدف إلى تنسيق جهود الموارد البشرية وتوجيهها وإرشادها.
وقد عمل النبي . ﷺ . بالرعي أجيراً، واشتغل بالتجارة وشارك في بناء المسجد، وساهم في حفر الخندق، وزرع النخيل بيده الشريفة في المدينة، وما ترفع عن عمل ولم يرض أن يكفيه أحد شأناً من شؤونه كما أكدت ذلك السيرة النبوية الشريفة.
ومن سنته . ﷺ . أن لا يعطي الزكاة للقادر على العمل لأن الأصل أن يكسب المرء كفايته بالعمل، فقرر أن الزكاة: "لا تحل لغني ولا لقوي مكتسب"، وقد أضفى . ﷺ . على الكسب صفة تعبدية إذْ أوضح إن من الذنوب ذنوباً لا يكفرها إلى الهم في طلب الرزق، وذكر له زاهد ينصرف إلى العبادة فسأل . ﷺ . من يكفيه فقيل أخوه قال: "أخوه أعبد منه".
إن قدراً من الكسب يؤمِّن كفاية الإنسان وكفاية من يكلف بإعالته هو من الواجبات الشرعية لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
بخلاصة، يمكن القول أن مفهوم إدارة الإنتاج في الإسلام يتمحور حول الأخلاقيات والمبادئ الإسلامية التي تدعو للتعاون والتضامن بين أفراد المجتمع، وتحقيق العدالة في التوزيع والاستخدام الناجح للموارد الطبيعية. ويشجع الإسلام على العمل الجاد والمنتج والتفاني في العمل، ويعتبر الإنتاجية العالية والجودة الفائقة مطلبًا شرعيًا. ومن الأمور الهامة التي يجب مراعاتها في إدارة الإنتاج في الإسلام هي العدل والإنصاف في التوزيع والمساواة بين الناس، وتحقيق الربح الحلال والمشروع وتجنب المخالفات الشرعية في العملية الإنتاجية. وبهذا يتضح أن الإسلام يحث على الإنتاج والتنمية الاقتصادية، لكنه يشدد في الوقت نفسه على الحفاظ على القيم الأخلاقية والشرعية في كافة جوانب الحياة الاقتصادية.