المبحث الأول : الوقف في الإسلام : معناه ومغزاه

المعنى اللغوي للوقف

الوقف في اللغة معناه المنع من الحركة ومن التنقل ومن التداول.

ويطلق الوقف بالمعنى المصدري على الفعل والممارسة. كما يطلق على الذي وقع عليه الوقف، أي الشيء الموقوف، وفي هذه الحالة يجمع على أوقاف ووقوف. فتقول: وقفت شخصاً، إذا منعته من الحركة والانتقال، أي أمرته أو ألزمته بالوقوف. ويقال: وقفت المصحف، أي منعت ملكيته ونقله من مكانه. وفلان وقف داره لفائدة الأيتام، أي منع نفسه وورثته من تملكها والتصرف فيها. فالوقف دائماً يتضمن  معنى المنع،  بالإضافة إلى  المعنى  الذي يقتضيه سياق كل استعمال على حدة.

ومعنى الوقف قريب جداً من معنى الحبس، لغةً واصطلاحاً. بل إنهما في الاستعمال الاصطلاحي أصبحا مترادفين، يقوم أحدهما مقام الآخر، كما سنرى فيما بعد.

المعنى الاصطلاحي للوقف

الوقف، مصطلح فقهي إسلامي يعبر به عن نوع خاص من التصدق والتبرع على سبيل الخير والإحسان، فيطلق على الصدقات والتبرعات التي يكون لها بقاء واستمرار، بحيث ينتفع بها الناس على مدى سنين أوأجيال وقرون. وهذا يعني أن الوقف إنما يكون بأشياء يستفاد من نفعها وغلتها وفائدتها مع بقاء الشيء نفسه واستمرار عينه مدة من الزمن ـ تطول أو تقصر ـ  كالأرض، والبناء، والبئر، والشجرة.

وكما يعبر عن هذا المعنى بالوقف، يعبر عنه أيضاً بالحبس، فالوقف والحبس في الاصطلاح الفقي مترادفان. بل إن من الفقهاء من يعتبرهما مترادفين لغةً واصطلاحاً. قال الشيخ القاضي أبو عبد اللّه الرصاع، في شرحه  لكتاب الحدود لابن عرفة: الفقهاء بعضهم يعبر بالحبس، وبعضهم يعبر بالوقف، والوقف عندهم أقوى في التحبيس، وهما في اللغة لفظان مترادفان، يقال : وقفته وأوقفته، ويقال : حبسته. والحبس يطلق على ماوقف، ويطلق على المصدر وهو الإعطاء. وكذلك في العرف الشرعي(1).

أما التعريف الفقهي الدقيق للوقف، فقد تفاوتت فيه عبارات الفقهاء، تبعاً لموقفهم من بعض عناصر الوقف وشروطه، مع اشتراكها في المعنى الأساس. ودونما حاجة إلى استعراض مختلف التعريفات والخوض في المقارنة والمفاضلة بينها، فإني أختار واحداًً منها يعتبر من أيسرها وأصحها، وهو تعريف العلامة الحنبلي موفق الدين بن قدامة، حيث قال : ومعناه : تحبيس الأصل، وتسبيل الثمرة(2).

ومما يقوي هذا التعريف لفظاً ومعنى، كونه مأخوذاً من كلام النبي، صلى اللّه عليه وسلم، في قوله لعمر بن الخطاب حين استشاره في أرض له :" احْبِسْ أَصْلَهَا وَسَبِّلْ ثَمَرَتَهَا"، وسيأتي الحديث بتمامه بعد قليل.

وهذا التعريف يتضمن كون أصل المال يصير محبوساً، أو محبَّساً، فيمنع التصرف فيه على صاحبه وعلى ورثته أو غيرهم، ويستفيد من منفعته ومن ثمرته الذين حبس عليهم، من فقراء، أو مرضى، أو أيتام، أو مجاهدين، أو طلاب العلم، أو عابري السبيل، أو الأرامل... أو نحوهم ممن يحبس عليهم عادة.

فالتحبيس هنا معناه إنهاء حق المالك، وحق من كان يمكن أن يؤول إليه الملك، إنهاء حقه في هذا الملك ومنعه من التصرف فيه. والتسبيل معناه جعل منفعته واستعماله والانتفاع به مُفوَّتاً في سبيل اللّه لفائدة الذين حبس عليهم من طرف المحبس. وهذه هي "الصدقة الجارية" كما سماها النبي صلى اللّه عليه وسلم في حديثه المعروف" إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له" (1).

الوقف يزيل ملكية الواقف

إذا وقع الوقف على نحو تام صحيح، فإنه يزيل ملكية الواقف عما وقفه. وعلى هذا جمهور الفقهاء من مختلف المذاهب. قال ابن قدامة: "الوقف إذا صح زال به ملك الوقف عنه، في الصحيح من المذهب، وهو المشهور من مذهب الشافعي، ومذهب أبي حنيفة"(1).

ومما يدل على أن الوقف يزيل ملكية المحبس قول النبي، صلى اللّه عليه وسلم، لعمر بن الخطاب: "إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها، غير أنه لايباع أصلها ولايبتاع، ولايوهب ولايورث". وكذلك لايصح الرجوع في الوقف بعد الإقدام عليه. قال الشوكاني: "فالحق أن الوقف من القرابات التي لايجوز نقضها بعد فعلها، لا للواقف ولا لغيره"(2).

فأي ملك يبقى للمحبس إذا امتنع عليه استعادة ما حبسه، وامتنع عليه بيعه أو هبته، وامتنع على ورثته وإرثه من بعده؟. وهذه هي جملة الحقوق والتصرفات التي تتجسد فيها ملكية الملاك، فإذا زالت فمعناه زوال ملكيتهم عما حبسوه. ثم إن المحبس قد وهب ملكه  للَّه تعالى، لفائدة عباده المحبَّس عليهم. الأحباس تصير كالمساجد التي هي بيوت اللّه، تستعمل ويستفاد منها ولا يملكها أحد، لامحبسها ولابانيها ولا القيّم عليها.

ويترتب على خروج الأحباس عن ملكية محبسيها، سقوط نفقاتها وتبعاتها ورعايتها عنهم، إلا أن يَطَّوَّعُوا بشيء. فلا يلزمهم مثلا ترميم المباني، ولاتنقية الآبار، ولارعاية البهائم.. بل هذا كله تؤخذ نفقاته وتقع تبعاته على الحبس نفسه، وعلى من كُلِّفَ به، حسب النظام الخاص بكل حبس، أو حسب النظام العام للأحباس، على ما سنرى فيما بعد.

النصوص الشرعية الداعية إلى الوقف

بالإضافة إلى الحديث المتقدم، فإن هناك نصوصاً كثيرة من القرآن والسنة تحض على  التحبيس وترشد إليه و تبين أحكامه.

ـ القرآن الكريم

فأما القرآن الكريم، ففيه نصوص عامة تشمل جميع أنواع الخير والبر والإحسان، فيدخل فيها الوقف وغيره، من مثل قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون}  (1)، والتحبيس هو من أعظم أنواع الخير الذي أمرت به الآية، لأنه يطول نفعه ويكثر المستفيدون منه.

ومنها قوله سبحانه:{لن تنالوا الْبِرَّ حتى تنفقوا مما تحبون}(2)، وأكثر ما يحب الإنسان من ماله، مايكون أصلاً يبقى ويدوم كالدور والأراضي والأشجار، فالآية ترغب وتشجع المؤمنين على أن ينفقوا من أحب أموالهم إليهم.

ومنها قوله تعالى : {إنا نحن نُحْيِ الْمَوْتَى ونكتب ما قدموا وآثارهم }(1)، فاللّه عز وجل يكتب أفعال العباد ويكتب الآثار التي تنجم عن أفعالهم، سواء في حياتهم أو بعد مماتهم، وسواء كانت خيراً أو شراً. ولاشك أن الأموال والأملاك المحبَّسة، تبقى آثارها الخيرة الطيبة بعد موت صاحبها، ويستمر ثوابها ما دام لها نفع لأحد من عباد اللّه، أو من عامة خلقه.

ـ السنة النبوية وعمل الصحابة:

1. عن عبد اللّه بن عمر، رضي اللّه عنهما، قال: أصاب عمر أرضاً بخيبر، فأتى النبي صلى اللّه عليه وسلم يستأمره فيها، فقال: يارسول اللّه، إني أصبت أرضاً بخيبر، لم أصب قط  مالاً أنفس عندي منه، فما تأمرني فيها؟ فقال: " إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها، غير أنه لا يباع أصلها ولايبتاع ولايوهب ولايورث". قال: فتصدق بها عمر في : الفقراء، وذوي القربى، والرقاب، وابن السبيل، والضيف، لاجناح على من وليها أن يأكل منها، أو يطعم صديقاً بالمعروف، غير متأثل فيه، أو غير متمول فيه<(2).

2. وعن أنس، رضي اللّه عنه، قال : "كان أبو طلحة أكثر أنصاري بجوار المدينة مالاً، وكان أحب أمواله إليه "بيرحاء"(بستان من نخيل قرب المسجد النبوي)، فلما نزلت هذه الآية : {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون}، قام أبو طلحة إلى رسول اللّه، صلى اللّه عليه وسلم، فقال: إن اللّه  تعالى يقول في كتابه: { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون}، وإن أحب أموالي إليَّ بيرحاء، وإنها صدقة للّه أرجو برها وذخرها عند اللّه، فضعها يارسول اللّه حيث شئت..."(1).

3. عن عثمان، رضي اللّه عنه، أن النبي، صلى اللّه عليه وسلم، قدم المدينة وليس به ماء يستعذب غير بئر رومة، فقال: من يشتري بئر رومة فيجعل فيها دلوه مع دلاء المسلمين(2)، بخير له منها في الجنة؟، فاشتريتها من صلب مالي(3).

وقد روي أن هذه البئر كانت لرجل من بني غفار، وكان يبيع منها القربة بِمُدِّ، فقال له النبي، صلى اللّه عليه وسلم: تبيعنيها بعين في الجنة؟، فقال يارسول اللّه: ليس لي ولعيالي غيرها. فبلغ ذلك عثمان فاشتراها بخمسة وثلاثين ألف درهم. ثم أتى النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال: أتجعل لي ماجعلت له؟، قال نعم. قال قد جعلتها للمسلمين(4).

ومنذ أن أرشد النبي، صلى اللّه عليه وسلم، صحابته إلى التحبيس وفضله، وهم يحرصون عليه ويجعلون أموالهم وممتلكاتهم فيه، حتى قال جابر: "لم يكن أحد من أصحاب النبي، صلى اللّه عليه وسلم، ذو مقدرة إلا وقف"(1).

ومنذ ذلك الحين أصبح الوقف يمثل ركناً من أركان المجتمع الإسلامي، في حياته الدينية والاجتماعية والعلمية والاقتصادية والسياسية، حيث صار دعامة كبرى لحركة العلم ولحركة الجهاد في سبيل اللّه وحماية الثغور، ومصدر عيش ومواساة  للفئات المعوزة في المجتمع، ومصدر تمويل وتطوير لكثير من المرافق الاقتصادية والتنموية.

ما يصح تحبيسه من الأموال

مما لاخلاف فيه أن الوقف يصح في الأصول :  الأراضي، والأبنية، والأشجار، والآبار.. إلخ، لأن مثل هذه الممتلكات وردت بها نصوص شرعية، ولأن خصوصية الوقف وحكمته تتحقق فيها بشكل تام لاغبار عليه.

واختلف الفقهاء في الأموال المنقولة، كالحيوان، والثياب، والنقود، والكتب، والمواد الغذائية، والآلات الصناعية والقتالية...إلخ. هل يصح وقفها أم أنها لا تعدو أن تكون صدقة عادية لاتجري عليها أحكام الوقف؟.

والقول الجامع في هذا  الباب، هو ما ذهب إليه العلامة ابن قدامة حيث قال : وجملة ذلك أن الذي يجوز وقفه ما جاز بيعه وجاز الانتفاع به مع بقاء عينه وكان أصلاًً يبقى بقاء متصلاً، كالعقار، والحيوانات، والسلاح، والأثاث، وأشباه ذلك(1). بمعنى أن ما لايمكن الانتفاع به مع بقاء عينه كالدنانير والدراهم، والمطعوم والمشروب، والشمع، وأشباهه، لايصح وقفه في قول عامة الفقهاء وأهل العلم(2).

وقد وردت نصوص تعزّز القول بصحة وقف الأموال المنقولة التي ينتفع بها مع بقائها مدة من الزمن، من ذلك ماروى أبو هريرة، رضي اللّه عنه، قال: قال رسول اللّه، صلى اللّه عليه وسلم: من احتبس فرساً في سبيل اللّه إيماناً واحتساباً، فإن شبعه وروثه وبوله في ميزانه يوم القيامة حسنات(3).

وفي صحيح البخاري، عن أبي هريرة، عن النبي، صلى الله عليه وسلم: أن خالد بن الوليد احتبس أدراعه وأعتده(4) في سبيل الله(5). قال الحافظ بن حجر: واستدل بقصة خالد على مشروعية تحبيس الحيوان(6).

وعلى العموم، فإن المذهب المالكي يعتبر الأكثر توسعاً في الأموال القابلة للتحبيس والأكثر تيسيراً في شروط التحبيس، كما قال القرافي: " وينبغي أن يخفف في شروطه"(7).

مقاصد الوقف وأهميته

الوقف نوع من الصدقات والتبرعات الإحسانية، أو لِنَقُلْ هو إحدى العبادات المالية التي شرعها الإسلام. فمقاصده من هذه الناحية العامة المشتركة، تلتقي مع مقاصد الأنواع الأخرى للإنفاق والتعبد بالمال، فهو مثلها يحقق :

1. توجيه الهمة إلى الدار الآخرة وثوابها

إن أصحاب الأموال عادة إذا انهمكوا في جمعها وتنميتها وتدبيرها وحمايتها وتنويع مصادرها، فإنها تستولي على حياتهم وتستحوذ على تفكيرهم وهمتهم، فيصبحوا مستغرقين في متطلباتها ومشاكلها، متعلقين بها حرصاً عليها، فلذلك كانوا من أحوج الناس إلى التذكير وإلى توجيه انتباههم وتطلعاتهم إلى الدار الآخرة ابتغاءً لما فيها، وخاصة من خلال أموالهم ومكاسبهم المالية، امتثالاً لقوله تعالى : {وابتغ فيما آتاك اللّهُ الدَّارَ الآخرة}(1).

2. شكر المنعم المتفضل

أفضل صور الشكر على النعمة مايكون من جنسها، فشكر نعمة المال يكون بالإنفاق منه، وشكر نعمة العلم يكون بالتعليم والبيان، فتحبيس الأموال في سبيل اللّه هو نوع من الشكر للمنعم، جل جلاله، والاعتراف بنعمته وفضله.

3. تزكية النفس

وذلك بتخليصها من اللهفة على المال والهلع من أجله والشح به، وتعويدها السخاء والبذل، كما ورد في شأن الزكاة {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها}(1).

فهذه مقاصد وفوائد جليلة سامية، ولكنها تنطبق على الوقف وعلى غيره من أنواع الإنفاق في سبيل اللّّه. وللوقف مقاصد أخرى خاصة، لاتكاد تتحقق إلا فيه، وهي:

4. تأمين الاحتياجات الأساس للمجتمع ولفئاته المعوزة بصورة مضمونة ومستمرة

فالصدقات الفانية المخصصة للاحتياجات الآنية تنقضي، وقد تأتي على المجتمع ظروف تنضب فيه وتقل هذه الصدقات، كهيمنة الشح والأنانية، أو لطروء جوائح وكوارث طبيعته، وكذلك الزكوات، فهي، ولو أنها ذات استمرارية وتجدد، فقد تصبح في بعض السنين ضئيلة القدر نتيجة اتساع دائرة الفقر، وقل مثل هذا في بيت المال "خزينة الدولة".

ففي مثل هذه الحالات تبقى الأموال الوقفية قائمة ومستمرة العطاء تؤدي  وظيفتها لفائدة  مستحقيها. وفي هذا المعنى يقول العلامة شاه ولي اللّه الدهلوي : > ومن التبرعات : الوقف، وكان أهل الجاهلية لايعرفونه، فاستنبطه النبي، صلى اللّه عليه وسلم، لمصالح لاتوجد في سائر الصدقات، فإن الإنسان يمكن أن يصرف في سبيل اللّه مالاً كثيراً، ثم يفنى، فيحتاج أولئك الفقراء تارة أخرى، ويجىء أقوام كثيرة من الفقراء  فيبقون محرومين، فلا أحسن ولا أنفع  للعامة من أن يكون شيء حبساً للفقراء وأبناء السبيل تصرف عليهم منافعه، ويبقى أصله<(1).

5. التفكير والتدبير للمستقبل

وهذا المقصد يَصُبُّ في سابقه، ولكنه هنا منظور إليه من حيث حمل الناس وتعويدهم على التفكير والتدبير المستقبليين، والشعور بالمسؤولية تجاه الأجيال المقبلة. فالمحبس عادة ما يستحضر ـ وهو يقرر التحبيس ـ احتياجات الأجيال والأزمان المقبلة. والذين يتولون نظارة الأحباس وتدبير شؤونها من واجبهم استحضار ذلك والعمل من أجله. وبناء عليه، فالوقف تطلع وتدبير مستقبليان، المستقبل الأخروي للواقف، والمستقبل الدنيوي للموقوف عليهم.

6. تعويد المجتمع على القيام بشؤونه

من الآفات الخطيرة التي تصيب الأمم والمجتمعات، وتدفع بها نحو التفكك والشلل وفقدان الفاعلية، آفة الاستقالة من الشؤون العامة، تفكيراً وفعلاً. فتجد الناس يلقون بهذه الشؤون على عاتق الدولة ومسؤوليها ومؤسساتها إلقاءً كليّاً، ولايبقى عليهم شيء سوى توجيه النقد واللوم والمطالبة تلو الأخرى، أو يلقي بعض الناس بالمهام والمسؤوليات على  آخرين، ويَتَّكِلُ بعضهم على بعض.

لذلك جاء الإسلام يخاطب عموم الأمة، ويأمر وينهى عموم المسلمين، ولايخاطب أمراءهم وزعماءهم وقضاتهم، حتى فيما يتولاه عادة الأمراء والزعماء والقضاة، وعلى وجه التحديد والتخصيص، فقد أمر اللَّه تعالى وحث على الإنفاق في سبيل اللَّه، وفي سبيل دينه وفي كل أبواب الخير، ولم يوجه خطابه هذا إلى الدولة وإلى مسؤوليها، بل إلى عموم المسلمين وعموم الناس. بل حتى الأغنياء أرباب الأموال لم يخصصهم بالذكر والأمر في هذا المجال الذي هو مجالهم: {إنما المؤمنون الذين آمنوا باللَّه ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل اللَّه}(1)، {وأنفقوا في سبيل اللَّه ولاتلقوا بأيديكم إلى التهلكه وأحسنوا إن اللَّه يحب المحسنين}(2)، {والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم}(3).

ففي ظل هذه الآيات ـ ومثلها كثير جداً من القرآن والحديث ـ يحس الناس جميعاً أنهم مخاطبون معنيون، سواء كانوا مكثرين أو مقلين أو متوسطين، في نطاق القاعدة القرآنية المحكمة: {لايكلف اللَّه نفساً إلَّا ما آتاها}(1)،{لايكلف اللَّهُ نَفْساً إلَّا وُسْعَهَا}(2).

وهذا ما جعل الصحابة يقبلون على الإنفاق ويتنافسون فيه، وبخاصة الإنفاق بواسطة الوقف، حتى لم يبق أحد منهم يستطيع أن يحبس شيئاً إلا حبسه، كما تقدم في الرواية عن جابر. وهكذا أصبح المجتمع كله معنياً منشغلاً بحاجات المجتمع، في حاضره ومستقبله. وهكذا أيضاًً عرف المجتمع الإسلامي حيوية وفاعلية قلَّ نظيرها في التاريخ. وقد استمرت هذه الحيوية وهذه الفاعلية تعطي وتبني وتقوي، على مدى قرون وقرون، مما مكن من تشييد الحضارة الإسلامية والأمجاد الإسلامية التي سادت العالم زمناً طويلاً. وقد كان للأحباس والمؤسسات الحبسية الدور الريادي في ذلك كله.

المراجع

(1) شرح حدود ابن عرفة، لأبي عبد الله الأنصاري، ط. المغرب 1422 هـ/ 1992م، د، ص 581.

(2) المغني، لابن قدامة، ط. القاهرة 1412 هـ / 1992م، 184/8.

(3) رواه مسلم، كتاب الوصية من صحيحه، ورواه أبوداود والترمذي والنسائي.

(4) سورة الحج، الآية: 75.

(5)  سورة آل عمران، الآىة:91.

(6) سورة يس، الآية: 11.

(7) رواه البخاري في كتاب الشروط.

(8)  رواه البخاري ومسلم والترمذي.

(9) يعني أن يكون حقه فيها كحق عامة المسلمين.

(10) رواه النسائي والترمذي، انظر نيل الأوطار،  للشوكاني، 21/6.

 (11) نيل الأوطار،  للشوكاني،24/6.

(12) المغني، لابن قدامة، 185/8.

(13) المغني، لابن قدامة، 231/8.

(14) المغني، لابن قدامة، 229/8.

(15) رواه البخاري وأحمد، انظر نيل الأوطار، للشوكاني، 25/6.

(16) جمع عدة القتال، من سلاح وخيل... إلخ.

(17) صحيح البخاري، كتاب الزكاة، باب قول اللّه تعالى: {وفي الرقاب..}.

(18) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، لابن حجر العسقلاني،96/4.

(19)  الذخيرة، للقرافي، 322/6.

(20) سورة القصص، الآية: 77.

(21)  سورة التوبة،  الآية: 104.

(22) حجة اللَّه البالغة، لشاه ولي الله الدهلوي، ط. دار إحياء العلوم، بيروت 1410هـ / 1990م، 310/2.

(23) سورة الحجرات، الآية: 15.

(24)  سورة البقرة، الآية: 194.

(25) سورة المعارج، الآيتان: 25-24.

(26)  سورة الطلاق، الآية: 7.

(27)  سورة البقرة، الآية: 285.

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 1157 مشاهدة
نشرت فى 24 إبريل 2012 بواسطة ahmedkordy

أحمد السيد كردي

ahmedkordy
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

29,719,018

أحمد السيد كردي

موقع أحمد السيد كردي يرحب بزواره الكرام free counters