بسم الله الرحمن الرحيم
مؤسسة الإعلامية
:: تقـــدم ::
دورة علمية
للشيخ / أبي سعد العاملي حفظه الله
بعنوان
دروس وعبر تربوية من سيرة خير البرية
الدرس الرابع ... رائـــع
البعثة النبوية وبدء الوحي
الحمد لله على نعمه والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين ، بشيراً ونذيراً وداعياً بإذنه وسراجاً منيراً، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه وسار على نهجه، وبعد
نعم لقد أذن الله تعالى لنبيه أن يبدأ دعوته، فقد آن للبشرية أن تعرف طريق الحق والهدى بعدما تاهت وغرقت في طرق الباطل والضلال، ومن رحمة الله لها وبها أن أذن لرسوله الخاتم أن يخرج بالرسالة الخاتمة، رحمة للعالمين، ليخرجهم من الظلمات إلى النور، وليخرجهم من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، يعبدونه لا يشركون به شيئاً.
لقد طال انتظار البشرية لهذه النعمة المهداة، ولهذه الانطلاقة النورانية، ولكن لكل أجل كتاب، وحكمة الله فوق كل اعتبار.
وهذا حديث أمنا عائشة رضي الله عنها تحكي فيه كيف نزل الوحي لأول مرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم:
أول ما بديء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فَلَق الصبح، ثم حُبِّبَ إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء، فيَتَحَنَّث فيه ـ وهو التعبد ـ الليالي ذوات العددقبل أن ينزع إلى أهله، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءهالحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال: اقرأ: قال: (ما أنا بقارئ)،قال: (فأخذنى فغطنى حتى بلغ منى الجهد، ثم أرسلنى، فقال: اقرأ، قلت: مـاأنـا بقـارئ، قـال: فأخذنى فغطنى الثانية حتى بلـغ منـى الجهد، ثم أرسلني فقال:اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة، ثـم أرسلـني فـقـال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ }[ العلق:1،3 ] ، فرجع بها رسول الله صلى اللهعليه وسلم يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد فقال: (زَمِّلُونى زملونى)،فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة: (ما لي؟) فأخبرها الخبر، (لقدخشيت على نفسي)، فقالت خديجة: كلا، والله ما يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم،وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقرى الضيف، وتعين على نوائب الحق، فانطلقت به خديجةحتى أتت به ورقة بن نوفل ابن أسد بن عبد العزى ابن عم خديجة ـ وكان امرأ تنصر فيالجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبرانى، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أنيكتب، وكان شيخًا كبيرًا قد عمي ـ فقالت له خديجة: يا بن عم، اسمع من ابن أخيك،فقال له ورقة: يابن أخي، ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر مارأي، فقال له ورقة: هذا الناموس الذي نزله الله على موسى، يا ليتني فيها جَذَعا،ليتنى أكون حيًا إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أو مخرجيّهم؟) قال:نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عُودِىَ، وإن يدركنى يومكأنصرك نصرًا مؤزرًا، ثم لم يَنْشَبْ ورقة أن توفي، وفَتَر الوحى.[ رواه البخاري ].
وفي رواية قال له ورقة بن نوفل: يا ليتني فيها جلداً فأنصرك ."
وقفات مع الحديث:
العلم قبل العمل
وأقصد أساساً ضرورة التسلح بالعلم الشرعي ليكون سلاحاً للداعية ليدعو إلى الله على بصيرة وليكون قادراً على دحض شبهات أهل الباطل التي تروج في الساحة والتي تحول دون وصول كلمة الحق إلى الناس.
فالكثير من الإخوة يستهينون بهذا الجانب استهانة واضحة، ولا يعيرون له كثير اهتمام بحجة أنهم على الحق وغيرهم على الباطل، ولكن هذا لا يكفي لأن على الدعاة أن يقتنعوا هم أولاً ويفهموا دينهم فهماً واسعاً ثم ينطلقوا بعد ذلك ليُقنعوا غيرهم وينشروا ما آمنوا به.
وهذا الأمر يتطلب دراية وفهماً وفقهاً للدين، وامتلاك الأدوات العلمية اللازمة لتحقيق ذلك. وكلمة "اقرأ" الواردة في صدر سورة العلق ترمز إلى هذا الحقيقة وهي أشمل وأوسع مما نتصور، إذ لا ينبغي حصر العلم في القراءة السطحية والاكتفاء بحفظ النصوص الشرعية حفظاً جافاً وسلبياً، بل لابد من القراءة المتأنية والمعمقة، وربطها بالواقع المراد تغييره، والسعي إلى فقه الواقع مع الفقه للنصوص الشرعية، فهما أمران متلازمان ووجهان لعملة واحدة لننجح في مهمة الدعوة إلى الله على علم وبصيرة.
القراءة تعني قراءة القرآن المقروء الذي هو كتاب الله تعالى المنزل على رسوله، والذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، فيه خبر ما قبلنا ونبأ ما بعدنا، قراءة متأنية واعية بنية العمل والتطبيق، وأن يكون هذا الكتاب الحكيم الكريم منهاج حياة لنا في كل شيء، ومصدر إلهام لكل موقف نتعامل فيه مع من نحب ومن نبغض، من نوالي ومن نعادي.
ثم هي قراءة للقرآن المنظور وهو الكون الذي من حولنا وما فيه من أسرار ومكنونات خلقها الله كلها لخدمتنا وإسعادنا، والتي ينبغي أن نستغلها في الخير ولكن قبل ذلك يلزم علينا فهم ما فيها من أسرار وحكم، ونحاول بالتالي الحفاظ على الميزان الذي خلقه الله في هذا الكون ونحافظ على العلاقة الربانية الحكيمة التي تربطنا بهذه المخلوقات، { وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} [ الرحمن:9 ].
ثقل الرسالة
منذ بداية الوحي وهو بداية رسالة الإسلام، نلاحظ أن كلام الله كان ينزل ثقيلاً على رسوله وهو كذلك معنويا ومادياً، { إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلا }[ المزمل:5 ] ، وذلك ليعلم أصحاب الدعوة أن هذا الدين ثقيل، بما يحويه من تبعات وأوامر ونواهي، وكلنا ينبغي أن نتذكر لحظات الوحي الأولى، وغطات جبريل القوية لرسولنا الكريم، فهي إشارة إلى أخذ أمر هذا الدين بجدية وعزم وقوة، وليس بالهزل والتميع والضعف.
ليس هذا فحسب، فرسالة الإسلام عجزت عن حملها السماوات والأرض والجبال حيث أَبيْنَ أن يحملنها بسبب ثقلها وكثرة تبعاتها، ولكن الله تعالى يعلم أنا قادرون على حملها والقيام بمهامها فاختصَّنا بهذه الرسالة الخاتمة، وخيرية هذه الأمة مرتبطة ارتباطاً مباشراً بأهمية الرسالة وثقلها، فلا نستحق هذه الخيرية إلا إذا قمنا بواجبات الدعوة والتبليغ كما يريد الله عز وجل، تبليغاً كاملاً غير ناقص { الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلاَّ اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا } [ الأحزاب:39 ] ..
ما دام الأمر كذلك فمن الواجب على المؤمن أن يعد نفسه إعداداً جيداً ( معنوياً وماديا) ليتمكن من تحمل مسؤولياته داعياً ومجاهداً في سبيل الله، فأوامر الله لا يقدر على تنفيذها مؤمن ضعيف فضلاً عن مؤمن لا مبالي لا يعرف من القرآن إلا رسمه ولا من الإسلام إلا اسمه، كما هو واقع غالبية المسلمين اليوم، حيث نراهم منغمسين في الشهوات ويعيشون من أجل مصالحهم وذواتهم، متخذين الإسلام غطاء وهواية لا أقل ولا أكثر، أو يجعلونه مجرد جسر يعبرون عليه لبلوغ أهدافهم التافهة الزائلة بدلاً من أن يكونوا هم جسراً ليعبر عليه الإسلام فيحرر العباد ويكسر القيود ويحطم السدود.
دور الزوجة
يبرز دور زوجة الداعية وأهميته في مسيرة الدعوة، وذلك منذ بدء المسيرة وبخاصة في مراحل الشدة والضيق، فالزوجة تعتبر السند الداخلي للداعية، ودورها يتمثل في تثبيت زوجها وتشجيعه والمشاركة معه فعلياً وليس قولاً فقط، حيث سنرى في الصفحات القادمة من هذا البحث، نماذج من هذه المشاركة على أرض الواقع، ووقوفها جنباً إلى جنب مع زوجها أو أبيها أو ابنها أو أخيها، في مختلف مراحل الدعوة.
كما سنخصص حديثاً مطولاً عن دور المرأة المسلمة إلى جانب أخيها المجاهد ( زوجاً كان أو أباً أو أخاً أو إبناً ).
ومواقف أمنا خديجة رضي الله عنها مع إمام الدعاة وسيد المرسلين عليه الصلاة والسلام، يعتبر النموذج والمثل الأعلى لما يجب أن تقوم به المرأة المسلمة تجاه دينها، وتجاه زوجها. فهي منذ الساعة الأولى لبدء الرسالة، سارعت إلى تصديق النبي صلى الله عليه وسلم وتشجيعه على المضي قدماً في قبول الرسالة، وليس التنكر لها ومحاولة إبعاده عنها وعن تبعاتها، خاصة وأنها تعلم أن التشبث بالدعوة سيحرمها من الكثير من مكتسباتها كزوجة تحب أن تنفرد بزوجها، وكامرأة تحب أن تتمتع بالحياة الرغيدة البعيدة عن المتاعب والتضحيات.
لم تقف هذا الموقف المثبط، بل سارعت إلى عرض هذا الأمر الخطير على ابن عمها ورقة بن نوفل، العليم والخبير بالديانات، لكي تتأكد من صحة ما نزل على زوجها، والاطمئنان على هذا الشرف العظيم، شرف الرسالة والنبوة.
ذهبت إلى ابن عمها ورقة بن نوفل وهي متأكدة من صدق زوجها وادعائه، فقالت رضي الله عنها: " والله ما يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم،وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق". وهذه هي الصفات المؤهلة لتحمل تبعات الدعوة والجهاد، والزوجة الصالحة تعين زوجها لاكتساب هذه الصفات والمحافظة عليها وتقويتها، وهذا يعني أن تضحي هذه الزوجة ببعض مصالحها وحقوقها وتعيش لغيرها بدلاً من احتكار الزوج لنفسها فقط.
الزوجة الصالحة هي التي تصدق زوجها الداعية المجاهد أنه على الحق، وأن طريق الجهاد هو الطريق الصحيح، طريق الولاء للمؤمنين ولو كانوا من أبعد الأبعدين والبراءة من المشركين ولو كانوا من أقرب الأقربين.
هي التي تعينه إذا خرج في مهمة جهادية أو دعوية، وتذكره إذا نسي واجباً من واجباته، تحرص على أن يكون زوجها في الصفوف الأولى وتدفعه إلى النفقة والعطاء وبذل الغالي والنفيس في سبيل نصرة دينه، لأنها تعلم يقيناً أنه إنما ينفقون لأنفسهم وسيجدون ذلك عند الله.
الدعاة أصحاب خلق رفيع
لقد رأينا أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم العالية والمتميزة، والسمعة الطيبة التي كان يتمتع بها في مجتمعه، وتكفي شهادة الله تعالى له بذلك { وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ } [ القلم:4 ]، وإن الله تعالى كان يهيئه ويعده لمهمة النبوة بل لمهمة خاتم النبوة وهي مهمة لا يقوى عليها ولا يصلح لها إلا من كان في مثل خلق رسول الله، صلة الرحم،وحمل الكل، وكسب المعدوم، وإقرار الضيف، وإعانة على نوائب الحق، وهي صفات وخصال جامعة شاملة لكل أنواع الخلق الرفيع والطبع النبيل.
من هنا ينبغي على أصحاب الدعوة أن يُجَمّلوا أنفسهم بحسن الخلق، فهي الوسيلة المثلى للتأثير في الناس، لأن الداعية يكسب الناس بخلقه وتعامله أكثر مما يكسبهم بلسانه وفصاحته.
واليوم نرى أضواء الأقربين قبل الأبعدين مسلطة على الدعاة والمصلحين، تبحث عن أدنى هفوة أو أصغر زلة لكي يظهروها على الملأ فيكون مدعاة لإسقاط هؤلاء الدعاة وسبباً لتحجيم دعوتهم وحصار كلمتهم، فلا ينبغي أن نترك هذه الثغرات لأعدائنا وخصومنا ولضعاف النفوس، وليكن سلاحنا هو اليقظة الدائمة والاستقامة المتواصلة والتحلي بالخلق الرفيع الذي سيرفع دعوتنا ويزكي منهجنا ويجعلنا في أعلى مقامات الاحترام والتقدير.
تبعات الرسالة
بعدما أكد له صحة الرسالة وصدقيتها، بادر ورقة بن نوفل إلى إخبار رسولنا الكريم ببعض ما ينتظره في الطريق، وذلك لكي يكون على علم مسبق ويتهيأ لذلك، فالدعوة عبارة عن سفر طويل، لابد للمسافر أن يعد الزاد المادي والمعنوي اللازمين.
ومن الزاد المعنوي أن يعرف الإنسان ما ينتظره في الطريق من مخاطر وعقبات لكي يحسب لها حساباً، فيصحب معه ما يلزم.
كما أن هناك زاداً علمياً يتمثل في فهم حقيقة الرسالة والإحاطة الدقيقة بتعاليم هذا الدين لنتمكن من تبليغه للناس على أكمل وجه، وهذا من الشروط الضرورية الواجب توفيرها في أتباع هذا الدين.
1- ما جاء أحد بمثل ما جئت به إلا عودي
الإسلام دين جديد يدعو إلى توحيد الألوهية والربوبية، وإزالتها من مغتصبيها وأدعيائها بغير حق، وردها إلى صاحبها الحقيقي وهو الله، خالق كل شيء، الذي بيده الأمر كله، يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار.
ولهذا فإن الذين يستعبدون العباد ويتخذونهم مطية لقضاء مآربهم، سوف يحاربون الدعاة ويقفون لهم بالمرصاد ليحولوا بينهم وبين الناس، كما سيمنعونهم من محاولة تغيير الأوضاع القائمة، والتضييق عليهم ومحاصرتهم وتشويه سمعتهم، لعزلهم وإبعادهم عن الساحة، لكي تستمر الأوضاع على ما هي عليه، يسيطرون على زمام الأمور في كل صغيرة وكبيرة.
سيكون رد فعل الطغاة قوياً أمام كل دين جديد يهدد ملكهم ومصالحهم بل وجودهم أصلاً، وسوف يبحثون عن أسماء وتهم جديدة يلصقونها بأصحاب الحق لكي يبرروا بها شرعية حربهم ومعاداتهم لهم، وسوف تطول المعركة بين الطرفين وسوف يحمي وطيسها ولن تتوقف إلا بهلاك أحد الطرفين، أما المؤمنون فيقاتلون في سبيل الله ويعلمون علم اليقين أن معية الله معهم فلا مجال للتراجع أو الخوف أو اليأس من مواصلة الصراع، وأما أصحاب الباطل فيقاتلون في سبيل نصرة باطلهم من أجل ترسيخ شريعة الشيطان، ولن تكون لديهم القدرة على مواصلة المعركة عندما تنقص الوسائل المادية أو تضعف، لأن رصيدهم المعنوي والروحي محدود أو منعدم في مقابل رصيد المؤمنين الذي لا ينفذ لأنه يستمد قوته من الله القوي العزيز.
وانظروا في أي بقعة ظهر فيه المصلحون ينشرون دين الحق، كيف يتعامل معهم الطغاة وأصحاب المصالح، إنها حرب شاملة وعداء شديد ومكر لا يتوقف، كل ذلك في مقابل إيقاف هؤلاء المصلحين عن أداء واجبهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وترسيخ عقيدة التوحيد في النفوس.
ولا تنقصهم المبررات والحجج في إصباغ الشرعية على هذه الحرب الضروس وهذا الكيد المستمر، تتعدد الشارات والعناوين والوسائل والغاية واحدة وهي استئصال شأفة هذا الدين ومحاولة إخماد جذوته في نفوس أصحابه .
وهذه حقيقة قرآنية لا ريب فيها {وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ } [ البقرة:217 ]، فلا نحتاج إلى مزيد من البينات والأدلة لكي نُقنع أنفسنا وغيرنا بها، بل ينبغي علينا أن نقنع غيرنا بضرورة الإعداد للمعارك القادمة مع أعدائنا وتحمل مسئولية انتمائنا لدين الله، والسعي إلى امتلاك قاعدة عريضة تكون قادرة على نشر هذا الدين في السراء والضراء وحين البأس.
2 - سيخرجك قومك
وعملية الإخراج تأتي تبعاً لما سبقها من تكذيب وعداء وحصار، فالأعداء يلجأون إليها كوسيلة أخيرة لحسم معركتهم مع الدعاة والمصلحين، فحينما يفشلون في إسكات صوتهم أو تكبيل حركتهم، فإنهم يختمون بالإبعاد والتهجير كحل أخير لفصل الدعاة عن المدعوين، وبذلك يخلو الجو للظالمين والمفسدين، لنشر فسادهم دون رقيب.
وسنة الإخراج أو الإبعاد سنة جارية طالت كل الأنبياء والمرسلين بدون استثناء، وهي ما تزال تطال كل الدعاة والمجاهدين في كل زمان ومكان، فأنعم بها من سنة وأنعم به من ابتلاء.
وحينما يكون الداعية على علم مسبق بما سيلاقيه في طريق الدعوة فإن ذلك مدعاة لأن يتهيأ ويعد نفسه لما ينتظره، بخلاف الذي يسير على غير هدى ولا كتاب منير، فإنه سرعان ما يُفاجئ ويُصدم وقد يتراجع أو يرتد عياذاً بالله من الخذلان.
وهذا ما ينبغي أن يفهمه أصحاب الحق في كل زمان ومكان، سوف يُخرجهم قومهم المعادون لدعوتهم من مناصبهم، ومن تجارتهم ومن مساكنهم، لا لشيء إلا لأنهم خالفوا ما عليه هؤلاء القوم من قوانين ونظم وأعراف.
وعلى ضوء هذا ينبغي على أصحاب الدعوة أن يخففوا من أثقال الدنيا وملذاتها، وأن لا يوثِّقوا أنفسهم بقيود التبعية لمنصب أو جاه أو مكان إلا بقدر ما يخدم ذلك مصالح دعوتهم، وأن يكونوا على أهبة هجرة وفقدان كل عزيز، مادياً كان أو معنوياً.
كما يجب إعداد الجنود وتربيتهم على هذا النهج، شعارنا هو الزهد في كل شيء في مقابل الحفاظ على ديننا، فلا يمكن أن نجمع بين رغبات النفس وبين مصالح ديننا، فالأولى تكون تبعاً للثانية وليس العكس.
كما ينبغي على أصحاب الدعوة أن يكونوا على أهبة دائمة للهجرة وترك متاع الدنيا الزائل من ورائهم، وليعدوا العدة من الآن لفريضة الهجرة المهجورة، والتي صارت أثقل على النفوس من جبل أحد.
فالداعية لا يرتبط بشيء من هذه الدنيا، بل على العكس فإنه يضحي بكل ما يملك في سبيل الحفاظ على دينه وإحياء سنة نبيه، ولا يرهبه شيء كما لا يرغبه شيء مهما علا شأنه وغلا ثمنه في عيون الناس.
نعم، سيُخرجنا قومنا وسوف يسجنوننا وقد يقتلوننا بسبب مخالفتنا لأعرافهم وتقاليدهم وكفرنا بطواغيتهم وقوانينهم، ولكنه ليس أمامنا غير هذا، فنحن نعي ما ينتظرنا ونستعد لذلك بأخذ كل الأسباب المادية والمعنوية لترك ما عليه قومنا إذا لم نجد حلاً غير الهجرة، لأننا إذا لم نهاجر سوف نُهجَّر، فعلينا أن نستعد لكلا الحالتين.
3 - ليتني فيها جلداً فأنصرك
تمر علينا الأيام والسنون وتنخر من عمرنا، تمر كأنها البرق ونحن في دثورنا ووراء الأماني، نحسب أنفسنا على ثغر مهم من ثغور الإسلام العديدة بينما الحقيقة غير ذلك، إلى أن نستفيق وعلى رأسنا ملك الموت يطلبنا، وقبل ذلك نمني أنفسنا أننا قدمنا خدمات عظيمة وجليلة لهذا الدين العظيم، وأننا من خيرة أنصاره بل وحتى مجاهديه.
وشتان بين الأماني والواقع، وواقعنا يشهد – وأيم الله – أننا مقصرون في حق هذا الدين، وبعيدون جداً عن المطلوب منا اتجاه أمتنا وعقيدتنا.
هناك فرق شاسع بين أن تعلن انتماءك لهذا الدين وبين أن تقوم لتحميه، وفرق أوسع بين أن تبدأ عملية الحماية هذه وبين أن تثبت عليها وتضحي بكل ما تملك في سبيل ذلك.
وهذا هو سر انتصار هذا الدين واستمراريته عبر القرون الماضية، فلو أن سلفنا اكتفوا بالأماني الكاذبة وقعدوا في بيوتهم ينتظرون المعجزات لما استطاع هذا الدين أن ينتشر ويسود العالمين، بل قاموا وشمروا عن سواعد العمل والتضحية، وواجهوا كل الصعاب وأزالوا كل العقبات ووقفوا في وجه كل ظالم ومغتصب وعملوا ليل نهار، فدعوا إلى الله وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر فكانت لهم عاقبة الأمور.
فَتْرَةُ الوحي ( أي انقطاعه ) : فائدة جميلة
"أما مدة فترة الوحي فاختلفوا فيها على عدة أقوال. والصحيح أنهاكانت أيامًا، وقد روى ابن سعد عن ابن عباس ما يفيد ذلك. وأما ما اشتهر من أنهادامت ثلاث سنوات أو سنتين ونصفًا فليس بصحيح.
وقد ظهر لي شيء غريب بعد إدارة النظر في الروايات وفي أقوال أهلالعلم. ولم أر من تعرض له منهم، وهو أن هذه الأقوال والروايات تفيد أن رسول اللهصلى الله عليه وسلم كان يجاور بحراء شهرًا واحدًا، وهو شهر رمضان من كل سنة، وذلكمن ثلاث سنوات قبل النبوة،وأن سنة النبوة كانت هي آخر تلك السنوات الثلاث، وأنه كانيتم جواره بتمام شهر رمضان، فكان ينزل بعده من حراء صباحًا ـ أي لأول يوم من شهرشوال ـ ويعود إلى البيت.
وقد ورد التنصيص في رواية الصحيحين على أن الوحي الذي نزل عليه صلىالله عليه وسلم بعد الفترة إنما نزل وهو صلى الله عليه وسلم راجع إلى بيته بعدإتمام جواره بتمام الشهر.
أقول: فهذا يفيد أن الوحي الذي نزل عليه صلى الله عليه وسلم بعدالفترة إنما نزل في أول يوم من شهر شوال بعد نهاية شهر رمضان الذي تشرف فيه بالنبوةوالوحي؛ لأنه كان آخر مجاورة له بحراء، وإذا ثبت أن أول نزول الوحي كان في ليلةالإثنين الحادية عشرة من شهر رمضان فإن هذا يعنى أن فترة الوحي كانت لعشرة أيامفقط. وأن الوحي نزل بعدها صبيحة يوم الخميس لأول شوال من السنة الأولى منالنبوة. ولعل هذا هو السر في تخصيص العشر الأواخر من رمضان بالمجاورة والاعتكاف،وفي تخصيص أول شهر شوال بالعيد السعيد، والله أعلم.
وقد بقي رسول الله صلى الله عليه وسلم في أيام الفترة كئيبًامحزونًا تعتريه الحيرة والدهشة، فقد روى البخاري في كتاب التعبير ما نصه:
وفتر الوحي فترة حزن النبي صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا حزنًا عدامنه مرارًا كي يتردى من رءوس شواهق الجبال، فكلما أوْفي بذِرْوَة جبل لكي يلقي نفسهمنه تَبدَّى له جبريل فقال: يا محمد، إنك رسول الله حقًا، فيسكن لذلك جأشه،وتَقَرّ نفسه، فيرجع، فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك، فإذا أوفي بذروةالجبل تبدى له جبريل فقال له مثل ذلك". [ نقلاً عن كتاب " الرحيق المختوم – للعلامة المباركفوري ].
يا أيها المدثر ..قم فأنذر
قال بن شهاب وأخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن أن جابر بن عبد الله الأنصاري قال وهو يحدث عن فترة الوحي فقال في حديثه بينا أنا أمشي إذ سمعت صوتا من السماء فرفعت بصري فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض فرعبت منه فرجعت فقلت زملوني زملوني فأنزل الله تعالى {يا أيها المدثر قم فأنذر...} إلى قوله {والرجز فاهجر}. فحمي الوحي وتتابع تابعه عبد الله بن يوسف وأبو صالح وتابعه هلال بن رداد عن الزهري وقال يونس ومعمر بوادره. [ رواه البخاري ]
وقفات مع الحدث
هذه الآيات الأولى من صدر سورة المدثر تكاد تلخص محتوى هذا الدين كله، حيث تبدأ بنداء النهوض ووضع حد للنوم والقعود، والدعوة إلى إنذار الناس بما ينتظرهم من عذاب عند الله بسبب كفرهم وعنادهم لأمر ربهم، ثم تكبير الله عز وجل وهو رمز للوحدانية المطلقة التي ينبغي الإعلان عنها، ودعوة إلى الطهارة العامة وهي التطهير المادي والمعنوي وما يرافقه من تزكية للنفس وتحسين الأخلاق والتعامل مع المحيط الخارجي، وكذلك الأمر الرباني بترك الموبقات والرجز بجميع أنواعه ، وهو أمر غير مباشر بالابتعاد عن أماكن الفساد والمعصية والالتحاق بأماكن الطهر والطاعة، وكذلك دعوة إلى تصغير العمل وعدم العجب بما يقدمه المرء من أعمال يحسبها صالحة، ثم التسلح بالصبر كوسيلة أساسية من أجل أداء كل هذه الأوامر الربانية.
سأنقل هنا ما ورد في تفسير الظلال للشهيد سيد قطب رحمه الله، فإني لم أجد من يوفي هذه الآيات حقها غيره، فلنقبل على التزود بما قاله الشهيد ليكون لنا عوناً في طريقنا إلى الله.
يا أيها المدثر . قم فأنذر
إنه النداء العلوي الجليل , للأمر العظيم الثقيل . . نذارة هذه البشرية وإيقاظها , وتخليصها من الشر في الدنيا , ومن النار في الآخرة ; وتوجيهها إلى طريق الخلاص قبل فوات الأوان . . وهو واجب ثقيل شاق , حين يناط بفرد من البشر - مهما يكن نبيا رسولا - فالبشرية من الضلال والعصيان والتمرد والعتو والعناد والإصرار والإلتواء والتفصي من هذا الأمر , بحيث تجعل من الدعوة أصعب وأثقل ما يكلفه إنسان من المهام في هذا الوجود !
(يا أيها المدثر . قم فأنذر). . والإنذار هو أظهر ما في الرسالة , فهو تنبيه للخطر القريب الذي يترصد للغافلين السادرين في الضلال وهم لا يشعرون . وفيه تتجلى رحمة الله بالعباد , وهم لا ينقصون في ملكه شيئا حين يضلون , ولا يزيدون في ملكه شيئا حين يهتدون . غير أن رحمته اقتضت أن يمنحهم كل هذه العناية ليخلصوا من العذاب الأليم في الآخرة , ومن الشر الموبق في الدنيا . وأن يدعوهم رسله ليغفر لهم ويدخلهم جنته من فضله !
ثم يوجه الله رسوله في خاصة نفسه بعد إذ كلفه نذارة غيره:
وربك فكبر
يوجهه إلى تكبير ربه:(وربك فكبر). . ربك وحده . . فهو وحده الكبير , الذي يستحق التكبير . وهو توجيه يقرر جانبا من التصور الإيماني لمعنى الألوهية , ومعنى التوحيد .
إن كل أحد، وكل شيء ، وكل قيمة ، وكل حقيقة . . صغير . . والله وحده هو الكبير . . وتتوارى الأجرام والأحجام ، والقوى والقيم ، والأحداث والأحوال ، والمعاني والأشكال ، وتنمحي في ظلال الجلال والكمال لله الواحد الكبير المتعال .
وهو توجيه للرسول صلى الله عليه وسلم ليواجه نذارة البشرية , ومتاعبها وأهوالها وأثقالها ، بهذا التصور , وبهذا الشعور ، فيستصغر كل كيد ، وكل قوة ، وكل عقبة ، وهو يستشعر أن ربه الذي دعاه ليقوم بهذه النذارة ، هو الكبير . . ومشاق الدعوة وأهوالها في حاجة دائمة إلى استحضار هذا التصور وهذا الشعور .
وثيابك فطهر
ويوجهه إلى التطهر:(وثيابك فطهر). . وطهارة الثياب كناية في الاستعمال العربي عن طهارة القلب والخلق والعمل . . طهارة الذات التي تحتويها الثياب , وكل ما يلم بها أو يمسها . . والطهارة هي الحالة المناسبة للتلقي من الملأ الأعلى . كما أنها ألصق شيء بطبيعة هذه الرسالة . وهي بعد هذا وذلك ضرورية لملابسة الإنذار والتبليغ , ومزاولة الدعوة في وسط التيارات والأهواء والمداخل والدروب ; وما يصاحب هذا ويلابسه من أدران ومقاذر وأخلاط وشوائب , تحتاج من الداعية إلى الطهارة الكاملة كي يملك استنقاذ الملوثين دون أن يتلوث , وملابسة المدنسين من غير أن يتدنس . . وهي لفتة دقيقة عميقة إلى ملابسات الرسالة والدعوة والقيام على هذا الأمر بين شتى الأوساط , وشتى البيئات , وشتى الظروف , وشتى القلوب !
والرجز فاهجر
ويوجهه إلى هجران الشرك وموجبات العذاب:(والرجز فاهجر). . والرسول صلى الله عليه وسلم كان هاجرا للشرك ولموجبات العذاب حتى قبل النبوة . فقد عافت فطرته السليمة ذلك الانحراف , وهذا الركام من المعتقدات الشائهة , وذلك الرجس من الأخلاق والعادات , فلم يعرف عنه أنه شارك في شيء من خوض الجاهلية . ولكن هذا التوجيه يعني المفاصلة وإعلان التميز الذي لا صلح فيه ولا هوادة . فهما طريقان مفترقان لا يلتقيان . كما يعني التحرز من دنس هذا الرجز - والرجز في الأصل هو العذاب , ثم أصبح يطلق على موجبات العذاب - تحرز التطهر من مس هذا الدنس !
ولا تمنن تستكثر
ويوجهه إلى إنكار ذاته وعدم المن بما يقدمه من الجهد , أو استكثاره واستعظامه:(ولا تمنن تستكثر). . وهو سيقدم الكثير، وسيبذل الكثير، وسيلقى الكثير من الجهد والتضحية والعناء . ولكن ربه يريد منه ألا يظل يستعظم ما يقدمه ويستكثره ويمتن به . . وهذه الدعوة لا تستقيم في نفس تحس بما تبذل فيها . فالبذل فيها من الضخامة بحيث لا تحتمله النفس إلا حين تنساه . بل حين لا تستشعره من الأصل لأنها مستغرقة في الشعور بالله، شاعرة بأن كل ما تقدمه هو من فضله ومن عطاياه . فهو فضل يمنحها إياه، وعطاء يختارها له، ويوفقها لنيله وهو اختيار واصطفاء وتكريم يستحق الشكر لله لا المن والاستكثار .
ولربك فاصبر
ويوجهه أخيرا إلى الصبر . الصبر لربه:(ولربك فاصبر). . وهي الوصية التي تتكرر عند كل تكليف بهذه الدعوة أو تثبيت . والصبر هو هذا الزاد الأصيل في هذه المعركة الشاقة، معركة الدعوة إلى الله، المعركة المزدوجة مع شهوات النفوس وأهواء القلوب، ومع أعداء الدعوة الذين تقودهم شياطين الشهوات وتدفعهم شياطين الأهواء ! وهي معركة طويلة عنيفة لا زاد لها إلا الصبر الذي يقصد فيه وجه الله، ويتجه به إليه احتسابا عنده وحده. [ في ظلال القرآن – الجزء الثلاثون – سورة المدثر- طبعة إلكترونية ] .
إلى هنا ينتهي هذا الدرس الذي يعتبر بداية الدعوة التي ستنطلق من شعاب مكة بل من غار حراء في ليلة من ليالي رمضان، لتنتشر بعد ذلك وتصل كل الآفاق بعون العلي القدير ثم بجهود أولئك الرهط المتتابعين من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وهانحن اليوم ننعم بنور هذا الدين العظيم ونستظل تحت ظلاله الوارفة الواسعة، وبقي علينا أن نحافظ على الامتداد ونكون سبباً ووقوداً لمعاركه المتتالية مع طوائف الباطل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
والحمد لله وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.