أ. د. عبدالكريم بكار
الجواب على هذا السؤال أهم شيء في هذه الرسالة، وذلك أن كثيرين منا صاروا يدركون اليوم أنّه لابدّ من إتباع أسلوب جديد في التربية وفي التعامل مع الأبناء، وصاروا يؤمنون أكثر بالشورى في الحياة الأسرية وبالحوار والتفاوض، لكن بسبب عدم توفّر معرفة جيِّدة وخبرة كافية بأصول كل ذلك وآدابه، فإنّهم كثيراً ما تنتهي حواراتهم إلى الشجار والنزاع وتباعد المواقف، ولهذا؛ فإنّكم تعرفون الكثير من الحالات التي يقف فيها أحكم شخص في الأسرة ليقول: أرجو ألا نناقش هذا الموضوع الآن حتى لا يتعكر المزاج، أو حتّى لا ننفضّ، ويقوم كل فرد إلى غرفته!!
ما ينبغي أن يقال في هذا الشأن كثير وكثير، لكن لأني عزمت على الإختصار؛ فإني سأقول أهم ما فيه عبر المفردات الآتية:

- توفير بيئة للحوار:

الحوار احتكاك روح بروح قبل أن يكون إتّصال عقل بعقل، وفي داخل الأسرة يكون الحوار أصعب بكثير من الحوار بين زميلين في مدرسة أو رجلين يتفاوضان حول عقد صفقة تجارية... وإن أسباب الصعوبة كثيرة؛ منها: أنّ المنزل هو مكان للحركة الطليقة والتصرُّف التلقائي، والمتحاورون في المنزل صغاراً وكباراً يعرفون بعضهم بعضاً على نحو جيِّد، وقد شكَّل كل منهم عن الآخر ما يشبه الصورة النهائية: الأب يعرف طموحات ابنه، ويعرف نقاط الضعف لديه، وقد حاول مساعدته مراراً وتكراراً، فلم يفلح، فلماذا يحاوره؟ والأم تعتقد أن زوجها قد اتّخذ قراراً في المسألة الفلانية، وهو لا يتراجع عن قرارته بسهولة، ولهذا فالجدال معه يعكر القلوب دون فائدة..، وهكذا وهكذا...
والأهم من كل هذا الشعورُ السائد بأنّ الآباء والأُمّهات حين يحاورون أولادهم فإنّهم يتنازلون لهم، ويتفضلون بذلك عليهم، فالشيء المتداول هو أنّ الكبار أعرف من الصغار بما يُصلحهم، ولهذا فإنّ من الطبيعي أن تكون مهمتهم إصدار الأوامر والتوجيهات والتعليمات، وتكون مهمة الأطفال الامتثال والتنفيذ.
ومن هنا؛ فإن جعل الحوار الأسري ناجحاً ومثمراً يحتاج إلى بيئة من نوع خاص، وإيجاد تلك البيئة يتطلب الإهتمام والمثابرة والذكاء، وقبل ذلك كله الإشفاق والرحمة، فما الذي يمكن عمله في هذا الشأن يا ترى؟


1- من المهم حين يجلس أفراد الأسرة للحوار في أي موضوع من الموضوعات أن يجلسوا وهدفهم الأوّل هو إذكاء العواطف النبيلة التي يحملها كل واحد منهم نحو الآخر، وتقوية الصلات الروحية التي تجمعهم، وذلك ضروري جدّاً لنجاح الحوار، ويأتي في المرتبة الثانية معالجة الموضوع، أو المشكلة التي عُقد الحوار من أجلها.
المقصود من هذا الكلام هو التأكيد أنّ المهم ليس الوصول إلى نتائج محددة، لكن المهم زيادة تلاحم الأسرة وتعاطفها، وزيادة درجة الثقة فيما بينها.
بعض الآباء والأُمّهات يديرون الحوار مع أبنائهم وكأنّه حوار بين أعداء، أو بين شركتين متنافستين، كل واحدة منهما تريد طرد الأخرى من السوق، وهذا يُلحق أضراراً بالعلاقة الأسرية، ولا يؤدِّي إلى أي نتيجة.


2- يحتاج الحوار المثمر إلى جو هادئ، وإلى إستعداد نفسي من قِبَل جميع أفراد الأسرة، والذي يحدث بصورة مكررة أن تتشاجر الأُم مع أحد أبنائها، فتدعو زوجها وابنها الكبير إلى إجتماع طارئ لفض الاشتباك بينها وبين ابنتها أو ابنها، أو يسمع الأب خبراً سيِّئاً عن أحد أولاده؛ فيدعو الأُم لحضور جلسة التحقيق مع ذلك الإبن، وأحياناً يدخل الزوج المنزل وقد استنفد كل طاقته الروحية والبدنية، فتستقبله زوجته بقائمة فيها العديد من الطلبات الإسعافية العاجلة، أو تستقبله بإحتجاج على سلوك أبنائه، أو إحتجاج على شيء طلبته منه في الماضي ولم يحضره – مثل جرة الغاز، أو زيت، أو ملح الطعام – فوقعت في حرج شديد في شأن إعداد الطعام... وهي لا تدرك أنّ الوضعية التي فيها زوجها لا تتحمّل الإستدعاء لحوار، أو فك اشتباك، أو تلبية أي طلب، وتكون النتيجة سلبية على صعيد العلاقة بينهما من غير حلِّ أي إشكال!.
حين يتحاور الناس وهم في حالة التصلّب، وتأخذ جلسة الحوار طابع الرفض واليأس واللامبالاة بالنتائج التي تترتّب على كل ذلك.
على الأبوين التماس الأوقات التي يكون فيها الجميع في حالة راحة ونشاط وخلو من ضغوط المواعيد والواجبات، ويُسْتَحْسن أن تفاجئ الأم الجميع بأكلة شهية يحبونها تكون على هامش الحوار أو بعده، إنّ هذا يرسخ في أذهان الأطفال حب جلسات الحوار؛ لأنّه سيصاحبها بعض الأشياء الممتعة والسارة.
بعض الأسر لا تجد وقتاً للحوار، فتجعل من إجتماع أفراد الأسرة على وجبة الغداء – أو العشاء – مناسبة للحوارات الساخنة، وتكون النتيجة ترك بعض أفراد للمائدة قبل أن يشبع للضيق الذي وجده بسبب كلمة من هذا الطرف أو ذاك.
وقت الطعام وقت للسرور والسؤال عن الصحّة والعمل، والأخبار الجميلة، وليس لمعالجة المشكلات.


3- حين يتحاور أفراد الأسرة؛ فإن ذلك يعني: الإعتراف أن من حق الكبار والصغار أن تكون لهم رؤيتهم الخاصّة، وإلى جانب الإعتراف، التوقعُ بأن لا يفضي الحوار إلى اتّفاق وتوحيد للرؤية، وهذا كله يعني: أن على الأبوين وهما يحاوران الصغار أن يتحدثا ويتصرّفا على أساس التكافؤ والندية، وهذا ضروري لنجاح الحوار أوّلاً، ولتشجيع الأبناء والبنات على المشاركة، وقول كل ما لديهم، كما أنّه من وجه آخر يعزز ثقتهم بأنفسهم. أنا أعرف أن هذا ثقيل على بعض النفوس، ولكن من الذي يقول: إن تكاليف التربية الجيِّدة صغيرة أو خفيفة؟ إذا كنّا نشعر بأنّ الحوار داخل أسرنا هو حوار مع أنداد؛ فإن علينا الإبتعاد عن بعض التعبيرات، وذلك من نحو:
- إنّ عمرك وسنك لا يعطيك القدرة والخبرة للحديث في هذا الموضوع..
- اقتراحك تافه وسخيف، ولا يمكن تطبيقه.
- هذا السؤال يدل على أنّ الحوار معك عقيم.
- قلت لك أكثر من مرة: كن مهذباً في ألفاظك.
إنّنا ونحن نحاور الكبار أمثالنا نبتعد عن هذه التعبيرات، وإن علينا أن نبتعد عنها أيضاً ونحن نتحاور مع صغارنا، وأنا هنا لا ألغي مقام الأبوة، ولا أسلب الآباء والأُمّهات حق التوجيه والتأديب وإنزال العقوبة، فهذا من مهامهم ومسؤولياتهم، ولكن أقول: لكل مقام مقال، ومقام الحوار هو مقام تشاور وتفاوض وتعبير عن المشاعر الجميلة، وليس مقام سخرية أو توبيخ.


4- مادام في المتحاورين صغار وكبار؛ فإن وجود شيء من التوتر متوقع، ولهذا فإن من مسؤولية الكبار التخفيف من ذلك التوتر، وذلك عن طريق إضفاء مسحة الإيجابية والمرح والمزاح، هذا إذا أردنا للحوار أن ينجح، وقبل ذلك أن يستمر، وهذا يتم بالآتي:
- الثناء على فكرة جيِّدة يطرحها أحد الكبار أو الصغار، مثل: هذه فكرة عظيمة، هذه لفتة رائعة، هذه ملاحظة ذكية، هذا إقتراح عملي.. ومثل: أشكرك على سعة صدرك، أنا أعرف أني تحدثت كثيراً، وأنت صبرت كثيراً عليّ، أنا معجب بقدرتك على توضيح أفكارك.
- ابتداء الحوار بآخر طرفة مهذبة سمعها أحد المتحاورين، وختم الحوار بطرفة كذلك.
- إتاحة الفرصة لأبناء الثالثة والرابعة وما بعدها كي يتحدّثوا ويبهجوا الموجودين بلثغاتهم الجميلة، ومقترحاتهم الغربية والعجيبة.
- يحاول كل متحاور أن يتحدّث عن موقف تورط فيه، وظهر فيه جهله، أو ضعف ذكائه، أو حبه للطعام – مثلاً – أو فهمه المغلوط لكلام سمعه..
إنّ هذا يشيع البهجة بطريقة إستثنائية، فالناس يميلون في العادة إلى من يساعدهم على أن يضحكوا منه.
إطلاق بعض الألقاب المحببة على الأبناء؛ مثل: تفضّل يا سيبويه، ومثل: الآن جاء دور ابن سينا، ومثل: هات ما عندك يا حكيم الزمان.


5- للمكان تأثير مهم في نجاح الحوار، ولا يعدله سوى اهتمام المتحاورين بما يقوله المتحدّث منهم والإصغاء إليه، ومن الواضح: أنّ الأماكن المفتوحة – كالحدائق مثلاً – لا تساعد على تركيز الإنتباه، كما أنّ الضجيج يجعل تواصل المستمع مع المتحدّث صعباً، المكان المناسب هو المكان المغلق والهادئ، ولا بأس في بداية جلسة الحوار أن يقول قائد الجلسة – وقد يكون أصغر الأبناء سناً – أرجو إغلاق التلفاز، وعدم الرد على أي إتّصال هاتفي، ومحاولة التركيز على ما يقال هنا.


6- الوصية الأخيرة بشأن البيئة المواتية للحوار المثمر، تتصل بالحرص على أن يظل الحوار حواراً، ولا ينقلب إلى جدال، وقد يكون الإلتزام بهذا من أشق الأمور أن نسدد ونقارب، وكما ذكرت في غير موضع؛ فإن الحوار يقوم على الإحترام المتبادل، وتكون اللغة المستخدمة فيه ناعمة مع الهدوء وبرودة الأعصاب، وحين يفقد الحوار هذه السمات يتحوّل إلى جدال، وعلامة ذلك ما يلي:
- تكرار الحجج والإدعاءات مرات ومرات، الكل يعيد ما يقوله، ويؤكِّد عليه، ويتلقى ردّاً مكرّراً أيضاً.
- إرتفاع الصوت، ومقاطعة المتحدّث ومهاجمته.
- انخفاض مستوى اللباقة واللطف والأدب في الخطاب المتداول.
- أستخدام الكبار لألفاظ تتنافى مع جوهر الحوار، كما يفعل الوالد حين:
- يحذر ابنه قائلاً: إستخدم السيارة بغير إذني إن كنت رجلاً، وسترى ماذا سأفعل بك.
- يستجوب ويحقق: أريد أن أعرف مع مَن كنت بعد العشاء، وما الذي كنت تفعله كل هذا الوقت؟
- يهدّد ويتوعّد بالعقوبة: أنت محروم من المصروف اليومي مدة شهر إذا لم ترفع من مستواك الدراسي خلال الأيّام المقبلة.
- يصدر الأحكام القاطعة: لا يمكن لمثلك أن يحصل على تقدير ممتاز، أو لا يمكن لك أن تكون مهذباً في مخاطبة والدتك.
إنّ توفير بيئة جيِّدة لحوار مثمر يحتاج إلى خُلق عظيم هو الصبر، وإنّ الأطفال كلّما كبروا احتاج الحوار معهم إلى وقت أطول، فإذا بلغوا طور المراهقة صارت إهتماماتهم وطروحاتهم أكثر تعقيداً، وصار التفاهم معهم بالتالي أعقد، ويحتاج إلى وقت أطول وأطول؛ والله المستعان في كل آن.

 

المصدر: كتاب التواصل الأسري (كيف نحمي أسرنا من التفكّك)

ahmedkordy

خدمات البحث العلمي 01009848570

أحمد السيد كردي

ahmedkordy
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

29,832,273

أحمد السيد كردي

موقع أحمد السيد كردي يرحب بزواره الكرام free counters