ليلى بيومي

توارثت مجتمعاتنا الاهتمام بالأبناء وجعل مصلحتهم أولى أولويات الأسرة، وتجنيبهم الخلافات التي تحدث بين والديهم. وهكذا وجدنا كثيراً من الأبناء الذين انفصل آباؤهم وأمهاتهم يحملون الحب والود والاحترام للطرفين.
لكن مع تعقد حياتنا الاجتماعية، وتدني مستوى التفاهم بين الأب والأم، وزيادة حدة الخلافات بين الطرفين، أصبحنا نسمع عن مشكلات لم نكن نسمع عنها من قبل، ومنها استخدام الأبناء والزجّ بهم في أتون الخلافات الزوجية، ومحاولة كل من الطرفين استقطابهم في مواجهة الطرف الآخر، سواء كان الزوجان منفصلين أو يعيشان معاً وغير منفصلين.

نموذج واقعي

أعرف هذه الزميلة التي كانت تشكو لي من تصرفات زوجها معها ومن غيرته الشديدة عليها ومراقبته الدقيقة لها، ومحاولة معرفته لدقائق تصرفاتها، وعده لخطواتها وسؤاله: هل خرجت؟ ومتى خرجت؟ ومع من خرجت؟ وأين ذهبت؟ ومتى عدت؟ .. الخ.
هذه الزميلة جادّة في حياتها، ومن أسرة محترمة ومعروفة بحسن سيرة أبنائها وسمعتهم الطيبة، وهذا كان يؤلم زميلتي بشكل مضاعف، وكانت تقارن بين حالتها وحالات أقاربها وزميلاتها وصديقاتها، وتتحسر على حالتها.
لكن الجانب الأكثر قسوة في الأمر هو أن زوجها كان يستخدم ابنهما في التجسس على أمه ونقل أخبارها، وكان يعطيه في مقابل ذلك بعض الرشاوى من النقود واللعب والحلوى.
كانت هذه المسكينة تخبرني بذلك وتبكي، وتؤكد أن هذا الأمر فيه خطورة شديدة على الابن، وقد بذلت من جهتي مساعي عند الأب، لمحاولة تنبيهه إلى خطورة ذلك تربوياً، ولكن لم تكن هناك نتيجة وثمرة لذلك.
تضاعفت الخلافات بين الزوجين، وحدث ما كان يخشاه الجميع، ووقع الطلاق، وتضخم الدور التجسّسي الذي يقوم به الابن، ولم تفلح محاولات جده وأخواله وخالاته لمنعه، خاصة وأنه أصبح يفضل أن يقيم معظم الوقت مع أبيه، الذي لم يحسن مراقبته وحثه على الاهتمام بدروسه والمذاكرة الجيدة، وجاءت الثمرة المرة سريعاً، وفشل الابن تماماً في الثانوية العامة، ورسب في جميع المواد، وفي غالبية المواد التي مجموعها من خمسين درجة لم يحصل إلاّ على درجتين فقط، فضلاً عن اكتسابه لأنماط أخلاقية ذميمة، وعدم جديته.
وهكذا دفع هذا الأب الغافل الذي حاول الاستقواء بابنه ضد زوجته الثمن غالياً، ودفعه دفعاً إلى الإخفاق والرسوب، وقتل فيه المعاني الطيبة التي كان يجب أن يغرسها فيه، ومنها حب أمه، واحترامها، وعدم الشك فيها، وطاعتها، والأغرب من ذلك أنه إلى الآن غير منتبه للجريمة التي ارتكبها، ولا يرى أنه فعل شيئاً سلبياً.
* تقول الحاجة مبروكة صالح التي تجاوزت السبعين من عمرها: كانت زوجة ابني في بداية زواجها مستكينة، وعندما كان ابني ينفعل عليها كانت تقف صامتة، وهي امرأة ليست سهلة، وعندما ذهبت غاضبة إلى أبيها في بداية زواجها نصحها بالصبر، وعلمها درساً مهماً، هو أن تستقوي علينا بالأبناء، أي أن تنجب أولاداً بقدر ما تستطيع من أجل أن تربط زوجها بها، فيخاف من تطليقها، وعندما يكبرون تربيهم على أن يكونوا في صفها كي يقفوا معها وقت اللزوم ضد أبيهم.
و على الرغم من أنها تتمتع في بيتنا بكل الأهمية، وكل مقاليد الأمور في يديها، وخاصة الأمور المادية، لكن عندما كبر أولادها وأصبحوا في مراكز مرموقة، أصبحوا ينحازون إليها، فهم لا يتشاورون إلاّ معها، ولا يتزوجون إلاّ باختيارها، ويتركونني أنا جدتهم ولا يهتمون مطلقاً بآرائي، وعندما أبدأ في أي حديث معهم ينسحبون من أمامي، ويجلسون دائماً مع أمهم في غرفتها الخاصة، وأظل أنا وأبوهم كأننا منعزلون.
ونحن متأكدون من أن كل هذا يحدث بدأب شديد وتخطيط ومتابعة من الأم، التي تردد دائماً أن الإنسان الذكي يجب أن يعامل عدوه بلين حتى ينتصر عليه!!

انقلب السحر على الساحر

تقول المهندسة منى المنشاوي: كنت في منزل أسرتي مدللة، وعندما تزوجت كان لهذا التدليل أثر عكسي على حياتي الزوجية، ولأن أمي كانت شخصيتها طيبة وضعيفة فلم أتلق منها أية نصائح، لكن صديقاتي كن يقلن لي إنني من خلال الأبناء أستطيع أن أتحكم في زوجي الذي يتمتع بشخصية قوية وحازمة.
ولكن حدث ما لم يكن أتوقعه بسبب تدليلي لأولادي ليكونوا دائماً في صفي عندما أختلف مع أبيهم، وانقلب الأمر عليّ، وأصبح أولادي بعدما كبروا أكثر تمرداً، ولا يسمعون كلامي ولا يأخذون برأيي، بل أحياناً يسخرون مني، ويخافون من أبيهم.
وبعد تلك الخبرة التي مررت بها اقتنعت أن المرأة يجب أن تستقوي بزوجها وتعيش في حمايته وكنفه، وهو عندما يجد منها الطيبة والمودة يعطف عليها ويرعاها، لكنّ تكبّرها وعنادها يزيده شراسة عليها وعلى الأولاد. وليت النساء يدركن أن أفضل صحبة هي صحبة الزوج، أما الأبناء فيجب أن نربيهم لله، ولا نستغلهم في الاستقواء على آبائهم.
* تقول إيمان صالح: الأمومة غريزة والأبوة ممارسة، فإذا استقوت الزوجة بأبنائها على أبيهم فسوف يترك لهم المنزل، ويبحث عن زوجة أخرى يجد لديها الطمأنينة والسكن والهدوء. وقد أوصى الإسلام الأبناء بآبائهم، ولم يوص الآباء بالأبناء، لأن الآباء مجبولون على رعاية الأبناء.
والمرأة الذكية هي التي تستحوذ على رضا زوجها، بحسن طاعتها وطاعة أبنائها لأبيهم؛ لأنهم إن لم يبروا أباهم فسيتمرّدون عليها في وقت من الأوقات حتماً.

نتائج عكسية على المدى الطويل

تقول د. راوية راشد أستاذة علم الاجتماع: الملاحظ أن المستجدات والمتغيرات الاجتماعية في مجتمعاتنا الحديثة كثيرة ومتلاحقة، وللأسف فإن معظمها متغيرات وتطورات سلبية مرتبطة بانحسار الروح الإسلامية عن مجتمعاتنا لحساب سيادة أنماط المفاهيم والقيم الغربية. فقد عاشت مجتمعاتنا، وخاصة في مجال الأسرة، في قوة ومنعة وعافية وتماسك، بفضل صمودها أمام موجات التغريب التي تريد أن تغيرها، بل وأن تقتلعها من جذورها، حدث هذا وقت أن كان فينا بقية منعة ومقاومة وقوة ذاتية، أما الآن في زمن خضوعنا واستسلامنا شبه الكامل أمام الغرب في كل المجالات السياسية والعسكرية والعلمية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية، فقد ارتكبنا الخطأ القاتل بأن استسلمنا له أيضاً في مجال القيم والأخلاق والأسرة.
وهكذا أصبح ما يصوغ الأسرة في بلادنا ليس هو القيم الإسلامية، وإنما القيم المادية الغربية، القائمة على اللذة والمنفعة والمصلحة الذاتية الضيقة، التي هناك مصلحة أهم وأعم وأكبر منها، هي مصلحة مجموع الأبناء، ومصلحة الأسرة ككل.
بل إننا نجد في الغرب في كثير من الأحيان تغليب العقلية العلمية على حساب العقلية العاطفية، وبالتالي لا يكون هناك مجال لمثل هذا التفكير الذي سرعان ما يكتشفه الأبناء ويسخرون ممن يفعله.
وهكذا فإن محاولة أحد الزوجين الاستقواء بالأبناء على الآخر هي نتيجة تفكير غير سويّ، وسوف تؤدي في الأجل البعيد إلى نتائج عكسية، وسوف يدينها الأبناء أنفسهم.

بين المتعلمين أكثر

د. سامي زايد أستاذ الصحة النفسية يرى أن محاولات الاستقواء هذه موجودة بكثرة على أرض الواقع، بل إن نسبتها تزيد بين المتعلمين والمثقفين، وخاصة المنفصلين، أو الذين أحاطت بهم المشكلات وأخفقوا في حلها، أو الذين يتصارعون على الفوز بأرصدة وممتلكات الأسرة.
فكثير من الزوجات المطلقات حينما يحدث الطلاق تتحول حياتهن إلى ساحة للحرب والتآمر ضد أزواجهن، فمنهن من يردن الاستحواذ على كل دخل ومرتب الزوج، ويرفعن القضايا من أجل أن يحكم لهن القضاء بذلك، ويسرهن أن يتسول أزواجهن بعد الطلاق. وقليل من الزوجات من يتعاملن مع الأمر بعقل وهدوء، ويرين أن الطلاق طريقة لحل المشكلات وليس مفتاحاً وبداية للمشكلات، وبالتالي فهن لا يشوّهن صورة الأب أمام الأبناء، وربما يتحدثن عنه بإنصاف، ليس خوفاً على الطليق ومراعاة لعشرة قديمة، وإنما من أجل مصلحة الأبناء وأن يشبوا متوازنين نفسياً مثل زملائهم، وحتى لا تتعرض صحتهم النفسية لصدمات عنيفة.
فالأم العاقلة الذكية لا تسعى أبداً لمثل هذا الأسلوب لإدارة الصراع مع طليقها، أو مع زوجها الذي تجمعها به المشكلات، وترى أنها لن تحل مشكلتها معه بهذه الطريقة، فهو سيبقى بشكل أو بآخر موجوداً من خلف الستار في حياتها، سواء من أجل الإنفاق على الأبناء، أو المشاركة في تربيتهم وتوجيههم وحل مشكلاتهم.
وطالما كان الأمر كذلك، فإنه من الأفضل أن تظل قناة الاتصال قائمة بشكل محترم وبدون اختلاق المشاكل.

حيلة من حيل المرأة

د. محمود أبو علي أستاذ التاريخ يؤكد أن الاستقواء موجود في معظم الأسر بدرجات متفاوتة، حسب ثقافة ووعي الأم أولاً؛ لأن طبيعة المرأة، بما فيها من ضعف، تلجأ إلى الحيلة وخاصة عندما يكون الزوج قوي الشخصية ومسيطراً على الأسرة، ولا تجد الزوجة سبيلاً لتسييس واستئناس الزوج إلاّ من خلال الانحياز العاطفي للأبناء، وتجميع هذه الكيانات مع بعضها البعض يؤثر على المدى الطويل في علاقة الأب المسيطر، وبالتدريج نجد أن الأب، بحكم ارتباطه الأبوي بالأبناء، يتنازل بعض الشيء ويستجيب لرغبات الأبناء والأم، حتى وإن لم يكن مقتنعاً بما يطلبون.
وربما انطبقت الآية الكريمة (إن كيدهن عظيم) على موضوع الاستقواء الذي نتحدث عنه، فكيد النساء يحدث؛ لأن المرأة تستطيع أن تصل إلى ما تطمح إليه بالتدبير والتخطيط، وإن لم تكن هناك علاقة متوازنة بين الزوج والزوجة فإن الزوجة تراهن على الأبناء، وتضغط على الزوج من أجل تحقيق ما تطمح إليه.

معركة خاسرة ونصر وهمي

ومن جهتها ترى المحامية نادية عبد اللطيف أن الملاحظ أن غالبية الأزواج والزوجات الذين تقع بينهم الخلافات، لا يديرون أمورهم بشكل عقلاني وهادئ، ولكن فكرة تصفية الحسابات تكون هي المسيطرة، وينشغل كل طرف بحسم المعركة مع الطرف الآخر بكل ما يملك من الأسلحة، حتى ولو كانت أسلحة محرمة مثل الأبناء.
وبحكم عملي في القضايا ألاحظ أن كثيراً من الآباء حينما يرون أن زوجاتهم قد نجحن في استمالة الأبناء إليهن يقطعون النفقة عن الزوجات والأبناء، كرد فعل، وكسلاح فعّال يستخدمونه في هذه المعركة المتوهمة والخاسرة. كما رأيت آباءً لا يقطعون النفقة عن الزوجة والأبناء، وإنما يقطعون الصلة النفسية والتربوية والاجتماعية بالأسرة، فلا يتواصلون معها، ولا يحضرون المناسبات الاجتماعية والأفراح.. الخ، ويتزوجون من أخريات لإغاظة الزوجات والرد عليهن عملياً وتصفية الحسابات معهن. وهذا كله مرفوض دينياً وأخلاقياً واجتماعياً وعلمياً ومنطقياً، وليس فيه أية مصلحة لأي طرف، والانتصار في هذه المعركة وهمي، فهو انتصار على الذات، وعلى مصلحة الأبناء.

ahmedkordy

خدمات البحث العلمي 01009848570

  • Currently 35/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
11 تصويتات / 806 مشاهدة
نشرت فى 28 أغسطس 2011 بواسطة ahmedkordy

أحمد السيد كردي

ahmedkordy
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

30,874,602

أحمد السيد كردي

موقع أحمد السيد كردي يرحب بزواره الكرام free counters