مدخل
أرسل الله تعالى الأنبياء والرسل وأيدهم بالمعجزات الخارقة، وفي رسالة الختام على يد الرسول محمد - صلى الله عليه وسلم- كانت المعجزات من نوع آخر.
فمعجزات الرسل كانت وقتية يصدق بها من يصدق، ثم يكذب بها من لم يرها أو يسمعها ولذلك يقول الله سبحانه وتعالى: {وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ} [الإسراء: 59]، بينما معجزات الرسول - صلى الله عليه وسلم- أزلية خالدة، فالقرآن بحد ذاته معجزة المعجزات، وسيرته عليه السلام معجزة، وانتصاره على المشركين في الجزيرة العربية، وتوحيد العرب تحت راية الإسلام ليكونوا نواة الإسلام ومادته معجزة لا تضاهيها معجزة أخرى، ومن ثم انطلاقهم في الفتوحات شرقاً وغرباً وبحماسة دينية منقطعة النظير، وفي زمن كانوا خارج أي ميزان سياسي يتحكم بالعالم آنذاك وهما الإمبراطوريتان (الساسانية - الفارسية، والرومانية - البيزنطية)، هذه المعجزة قسمت المؤرخين إلى قسمين، قسم دفعته الأحقاد للنيل من الإسلام وإشاعة أن العرب امة همجية نشروا مبادئهم بالسيف، وقسم تناولوا الأمر بمصداقية وواقعية، فما كان لهذه المعجزة أن تتحقق لو لا ذلك الإيمان في قلوب المسلمين والتسامح الذي أظهروه تجاه الناس جميعا.
2- العالم السياسي زمن البعثة
تبلورت الإمبراطورية الفارسية على يد حاكم قوي هو كورش الاخميني، حيث أسس واحدة من أعظم الإمبراطوريات التي عرفها العالم في السعة حوالي (559 ق.م)، وتوج ملكه بالاستيلاء على مملكة بابل (539 ق.م)، وتأثر بثقافتها وبديانتها الوثنية بالإضافة لإيمانه بالديانة الزرادشتية.
وفي زمن كورش توطدت العلاقة مع اليهود عندما سمح لهم بالرجوع إلى فلسطين بعد أن سباهم نبوخذ نصر إلى بابل عام (586 ق.م).
انتهت الدولة الاخمينية على يد الاسكندر المقدوني عام (331 ق.م)، ثم استعاد الفرس الفرثيون مملكتهم من البطالسة خلفاء الاسكندر في المشرق حوالي (250 ق.م)، وحكموا إلى عام (226 م)، حيث بدأت الإمبراطورية الساسانية، والتي اختلطت فيها الديانات الزرادشتية بالديانات الإباحية كالمزدكية والمانوية، وكانت كرد فعل على النظام الطبقي للمجوسية الزرادشتية، حيث كان الناس يقدسون النار ويؤمنون بإله للخير وإله للشر.
وكانت حدود هذه الإمبراطورية من أرمينيا شمالاً إلى آسيا الصغرى وجنوبا وصلت إلى اليمن في بعض الأوقات وحتى مصدر، وكانت نهاية هذه السلسلة من الإمبراطوريات في القادسية ونهاوند فتح الفتوح عام (21 هـ)، أي أنها دامت لأكثر من ألف سنة.
أما الطرف الثاني من المعادلة فكانت الإمبراطورية البيزنطية، وهي وارثة الإمبراطورية الرومانية القديمة، وجناحها الشرقي القوي، وبدأ تاريخها الفعلي عندما انشأ قنسطنطين مدينة القسطنطينية على أنقاض بيزنطة القديمة عام (330 م)، والتي لم يضاهها في تاريخ العام مدينة أخرى جمالا وموقعا وأهمية.
وبدأت حضارة هذه الإمبراطورية بخلط واضح بين المفاهيم (الرومانية - اليونانية) القديمة مع المفاهيم المسيحية التي أمدت الدولة البيزنطية بوحدة روحية وأمدت الاستبداد الإمبراطوري بتأييد جارف، ومن هذه الأجواء انتصرت تعاليم التثليث على دعوة التوحيد الآريوسية، وكانت حدودها من البلقان غربا والى الشام ومصر وشمال افريقية قاطبةً.
كانت الدولة غارقة في الفساد الخلقي حتى أن تيودورا زوجة الإمبراطور جستينان (ت 565)، كانت مصدر تسلية للحاشية الملكية ومصدر عار للإمبراطور نفسه على حد قول احد المؤرخين.
وفي زمن الرسول - صلى الله عليه وسلم- وتحديداً في عام (605 م) ونتيجة الصراع المستمر مع الساسانيين حلت بالبيزنطيين كارثة عظمى، حيث احتل الفرس مناطق شاسعة منها ثم توالت الهزائم حتى بعد أن استولى هرقل احد أشهر أباطرة بيزنطة على الحكم بين (610 – 641 م)، فقد استولى الفرس على إنطاكية ودمشق وطرسوس وأرمينيا وبيت المقدس وجعلوها نهباً للحرائق والمذابح ودمروا كنيسة القيامة ونقلوا الصليب المقدس إلى عاصمتهم في المدائن واشترك اليهود بحماسة بالغة في عمليات السلب والنهب.
وكانت الحروب بين الدولتين تتصف بصيغة الانتقام، ولذلك كان الجو مشحوناً ومهيئاً لأي فاتح، وعندما مالت الكفة للبيزنطيين تحديداً عام (623 م) سار هرقل تجاه فارس واستولى على مدنها الرئيسة ودمر كل المعابد الزرادشتية وكنائس النساطرة المسيحيين الذين يعيشون في فارس والعراق ، وفي هذا يقول الله سبحانه وتعالى: (الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ) الروم: 1-4، وهكذا أصبحت الحروب بين الإمبراطوريتين بدوافع الانتقام والوحشية المفرطة.
3- الانشقاق الجديد
في غمرة هذا التطاحن أفاق الفرس والروم على جحافل المسلمين المنطلقة من شبه الجزيرة العربية، ففي عمر الإمبراطوريتين الطويل لم يخطر ببالهم مطلقاً أن يكون من يقوض إمبراطوريتهم قادماً من شبه جزيرة العرب والتي لم تعرف كياناً سياسياً مستقلاً ذا شأن، اللهم إلا تلك الدويلات التي نشأت في اليمن.
وهذه المعجزة التاريخية لا نظير لها في تاريخ العالم قاطبةً، فقد وحد هذا الدين هذه القبائل، وأحل فيهم رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم الحماسة الدينية، والإخلاص للمبدأ فوق كل شيء، وأرسل الرسل للأباطرة والملوك يدعوهم لنهج جديد في الحياة وتفكير جديد في حكم العباد فكان موقفهم الاستهزاء والاستخفاف والتهديد والوعيد.
وكانت إرادة الله أن تكون السنة التي استهل فيها الروم انتصاراتهم على الفرس بدءاً للتاريخ الهجري عند المسلمين وهو عام (622 م)، وفي الوقت الذي أنزل فيه هرقل الهزيمة بالفرس أرسى الرسول محمد صلى الله عليه وسلم قواعد وأسس الوحدة العقائدية والسياسية للمسلمين.
لقد صاحب الفتوحات الإسلامية تأسيس كيان على منطلق عقائدي بحت، بعيداً عن التعصب، وكان الحماس الديني منقطع النظير في نشر العقيدة الإسلامية وما صاحبها من روح بذل وتضحية في سبيل إعلاء كلمة الله ففي أقل من عقدين من بدء الهجرة انتهت الإمبراطورية الساسانية كياناً وثقافة وعقيدة في القادسية ونهاوند، وهي نقطة انقلاب تاريخية لا نظير لها على الإطلاق.
وفي نفس الزمن سقطت الشام ثم بيت المقدس سنة (638 م)، وكان دخولاً سلمياً في زمن عمر رضي الله عنه لا يمكن مقارنته مطلقاً بما فعله الفرس فيها، حيث حضر الخليفة نفسه واستلم مفاتيح المدينة من بطريركها صفرنيوس، فهذه المدينة لها قدسيتها الخاصة عند المسلمين.
لقد كان من نتيجة حسن سلوك المسلمين أن سلمت مدن أخرى ودخلت في الدين الجديد كالموصل بدون مقاومة ورحبوا بالفاتحين الجدد وانظموا إليهم، ثم تقدم المسلمون نحو أذربيجان، وفي سنة (642 م) سقطت الإسكندرية بيد عمرو بن العاص رضي الله عنه ثم طرابلس الغرب وآثر معظم أهل مصر من الأقباط والعرب حكم المسلمين على حكم الروم تخلصاً من ظلمهم وما كانوا يفرضونه عليهم من ظلم واستعباد لا مثيل لهما.
واكتملت المعجزة بإنشاء الأسطول البحري سنة (649 م - 28 هـ) في البحر المتوسط حيث كان بحيرة بيزنطية بدون منازع، وأبحر بقيادة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه نحو قبرص ثم رودس، وفي أول مواجهة مع الأسطول البيزنطي العتيد عام (655 م) انتصر المسلمون وكاد الإمبراطور قنسطانز يقع أسيراً وهذه هي معركة ذات الصواري.
لقد تغيرت خارطة العالم القديم تغيراً لا يمكن تفسيره إلا بالمعجزة.
4- المنهج الجديد
وهكذا في غمضة عين أصبح الإسلام نظاماً سياسياً رائداً بقدر ما هو ديني، وانطلقت كلمات التوحيد والشهادة من غرب الصين إلى الأندلس تصدح ليلاً ونهاراً، فقد أقام هذا النظام سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم وأرسى دعائمه أصحابه وأهل بيته وخلفاؤه من بعده، فحل التسامح محل الانتقام، ولم يكن السيف هو العامل الحاسم في نشر الإسلام كما أشاعه أعدائه ليلاً ونهاراً.
فالسيف ضروري لمقارعة الظالمين وتوقيفهم عند حدهم، ولم يستعمل السيف لقهر المظلومين وسحقهم ولكن لإحقاق حقوقهم.
فالسنة التاسعة للهجرة والتي تسمى بعام الوفود لأن عدداً كبيراً من القبائل العربية وأهالي المدن اسلموا طواعية لما لمسوه من سجايا الرسول محمد - صلى الله عليه وسلم- وتصرفاته السمحاء وأخلاقه العظيمة، وهكذا كانت البداية بعد تحطيم الأصنام.
ويؤكد هذا النهج سير أرنولد في كتابه الخالد "الدعوة إلى الإسلام" الذي كتبه قبل أكثر من قرن من الزمان بقوله: «بأن الانتصارات في الفتوحات الإسلامية لم تكن ثمرة حرب دينية فقط وإنما تلتها حركة ارتداد واسعة عن الديانات الفارسية والمسيحية»، ومن هنا أخذ المؤرخون الحاقدون على الإسلام يشيعون أن الإسلام لم ينتشر إلا بالسيف.
ثم يذكر عشرات الأمثلة على ذلك منها رسالة ميخائيل الأكبر بطريرك الإسكندرية اليعقوبي للجيش الإسلامي والتي جاء فيها "أن الله لما رأى شرور الروم الذين لجؤوا إلى القوة فنهبوا كنائسنا وممتلكاتنا وأنزلوا بنا العقاب بغير رحمة فأرسل أبناء إسماعيل ليخلصنا"، هذا هو النهج الجديد الذي أرساه محمد - صلى الله عليه وسلم- في التسامح والعدل والمساواة، وهذا هو النور الذي يجب سلوكه في معاملة الناس وهدايتهم، وهو باق إلى أبد الآبدين.