مفهوم الإنتاجية و وإدارة الأداء في القطاع الحكومي
سوف يتم تكريس هذا الجزء من الورقة لتوضيح مفهوم القطاع الحكومي ، ومفهوم الإنتاجية ، ومفهوم إدارة الأداء ، ليتلو ذلك استعراض ابرز أساليب إدارة الأداء الحديثة في علم الإدارة.
أولاً : مفهوم القطاع الحكومي :
من المفيد في البداية أن نحدد المقصود بالقطاع الحكومي ونميزه عن مفهوم القطاع الخاص. فتعبير القطاع الحكومي يستخدم للدلالة على النشاطات الاقتصادية القائمة على أساس ملكية الدولة لرأس المال والمنتجات ، في حين أن القطاع الخاص يشمل النشاطات الاقتصادية القائمة على الملكية الخاصة سواء كانت ملكية فردية أم ملكية جماعية. وكلا التعريفيين ينطلقان من معيـار واحـد وهـو الشكـل الحقوقي للملكية.
إن وضع القطاع الحكومي في البلدان النامية متشابه إلى حد كبير من حيث إن معظم النشاطات الاقتصادية للدولة تميل نحو التركيز على تشييد البِنى التحتية ، وتقديم الخدمات الاجتماعية ، وتنظيم حركة التجارة الخارجية ، وإنتاج السلع والخدمات التي تقع في نطاق دائرة الاحتكارات الطبيعية. غير أن ارتفاع أسعار النفط خلال عقد السبعينيات والتصاعد الحاد في عائدات النفط قد زاد من قوة ونفوذ الدول المنتجة للنفط في النشاط الاقتصادي، فصارت الدولة هي الطرف القابض لأعظم مقدار من الدخل ، وهي الطرف الذي يتولى إنفاق أعظم جزء من الموارد المالية. وبعبارة أخرى: صارت الدولة هي المحدد الأكبر للنشاط الاقتصادي والصائغ الأول لهيكل الاقتصاد الوطني.
إن الثروة النفطية التي تمتعت بها المملكة العربية السعودية في عقد الثمانينيات ألقت على عاتق الحكومة مهمة المبادرة إلى إقامة البِنى الأساسية والمشاريع الهيكلية ، وإقامة المؤسسات والهيئات العامة لاستثمار موارد الدولة ومقوماتها والتي لا تتوافر لدى القطاع الخاص. هذا ما فرض تكوين القطاع الحكومي كمحور تنموي رئيسي لتعجيل عملية التنمية الاقتصادية ، وتنويع مصادر الدخـل القومي ، وإنشاء المشروعات الاقتصادية الكبيرة الحجم والمتقدمة تقنيا وإدارياً والتي تتمتع فيها المملكة بميزة نسبية ، وكذلك تغيير نمط الدخل عن طريق الخدمات الاجتماعية والإعانات وغيرها من أشكال الإنفاق العام. وعلى هذا فإن القطاع الحكومي في المملكة أسس منشآت لم تكن موجودة من قبل ، ومن ذلك المصالح الحكومية ، والمؤسسات العامة ، والشركات الحكومية ، واستثمارات القطاع الحكومي ، وصار إنتاج القطاع الحكومي في المملكة يشكل الجزء الأعظم من مجمل الناتج القومي السعودي.
ثانياً : مفهوم الإنتاجية :
لقد كان المفكر الاقتصادي آدم سميث (Adam Smith) من أوائل من تطرق لمفهوم الإنتاجية في كتابـة ثروة الأمم (The wealth of Nations ) حيث افترض أنة يمكن زيادة الإنتاج وخفض تكلفته عن طريق تحسين وسائل الإنتاج ، وتقسيم العمل ، وتنظيم التبادل التجاري. ثم جاء عدد من الاقتصاديين وأضافوا إلى نظرية آدم سميث أن زيادة الإنتاج وخفض التكاليف مرهونان بحسن الاستغلال الأمثل للموارد الاقتصادية ، مما يؤدي إلى خفض أسعار المنتجات وزيادة الطلب عليها ، ومن ثم زيادة الدخل القومي (نادر أبو شيخة/1982م/ص:206).
ويلاحظ المتتبع للأدب الاقتصادي المعاصر ، أن مفهوم الإنتاجية قد أصبح له معاني وتعريفات مختلفة أسهمت في تطويره ، إلا أنها في ذات الوقت زادت من تعقيده. فقد ذكر P.Hennigan و J. Burkhead أن الإنتاجية قد عرفت بعبارات عديدة مثل: الكفاءة Efficiency ، الفاعلية Effectiveness ، توفير التكاليـف Cost Savings ، تقويـم البرامـج Program Evaluation ، قـياس العمـل Work Measurement ، تحليـل المدخـلات والمخرجـات Input-Output Analysis ، فاعليـة الإدارة Management Effectiveness ، معاييـر العمل Work Standards ، المناخ السياسي والاجتماعي Political &Social Environment (جيسي بيرخيد ، وباتريك هنيجان/1978م/ص:34).
والإنتاجية في أوسع معانيها تُعنى بالجمع بين مدخلات الإنتاج Factor Inputs (العمالة ورأس المال والأرض والإدارة) اللازمة لإنتاج مخرجات Output من السلع والخدمات المختلفة ، هذا هو المفهوم العام للإنتاجية. وهناك جدل حول مفهوم الإنتاجية بحسب اختلاف مفهوم المنظمة وأهدافها الرئيسية ومسئولياتها تجاه المجتمع ، حيث إن القطاعات التي تهدف إلى تحقيق أرباح عالية ورفع الكفاية الإنتاجية تنظر إلى الإنتاجية على أنها القدرة على استخدام أحد عناصر الإنتاج أو كلها بشكل يحقق أفضل إنتاج بأقل تكلفة على المدى الطويل باستخدام التكنولوجيا القائمة. في حين أن القطاعات التي تؤدي خدمات معينة ليس الهدف منها تحقيق الربح ، تنظر إلى الإنتاجية على أساس تحقيق مستوى معين من الإنتاج باستخدام عناصر إنتاج محـددة بصـرف النظـر عن العائد المادي.
ثالثاً : مفهوم إدارة الأداء :
كما رأينا فيما تقدم فإن النظرة للإنتاجية هي نظرة متباينة تبعاً لتباين القصد والهدف من الإنتاج ، فقد يكون الهدف اقتصادياً أو اجتماعياً أو غير ذلك من الأهداف. وعلى الرغم من وجود خلافٍ مثيرٍ حول مفهوم الإنتاجية في القطاع الحكومي والقطاع الخاص إلا أنه من المؤكد إبراز أهمية الكيفية التي تدار بها الإنتاجية في جميع القطاعات كعنصر لا بد منه للتقدم الاقتصادي والاجتماعي وهو ما يعبـر عـن إدارة الأداء في علم الإدارة. هـذه الأهمية جعلت المنظمات تنظر إلى تحديد مفهـوم إدارة الإنتاجيـة أو إدارة الأداء على أنه من أهم واجبات الإدارة. كما أن الاقتصادييـن يـرون أن الإنتاجية
هي التي تقيس درجة نجاح الوحدة الاقتصادية في الاستغلال الأمثل للموارد الاقتصادية المتاحة لإنتاج السلع والخدمات المطلوبة. وبعبارة أخرى: ينظرون إلى الإنتاجيـة على أنهـا مؤشـرٌ مهم مـن مؤشرات قياس الأداء في الوحدات الاقتصادية.
إن أهمية ودرجة تقدم أي دولة تقاس بمقدرتها على إدارة الأداء وصولاً إلى زيادة الإنتاجية ، حيث إن زيادة الإنتاجية كماً وكيفاً تُعد عصب التقدم الاقتصادي والاجتماعي وسمة بارزة للدول المتقدمة. فزيادة وتحسين مستوى الناتج القومي والتفوق الاقتصادي ، يعني مزيداً من الدخل للدولة ، ومزيداً من السلع والخدمات التي تقدمها الدولة أو القطاع الخاص ، وهذا يؤدي إلي ارتفاع مستوى المعيشة ، وهي الغاية التي تسعى إليها جميع الدول متقدمة كانت أم نامية. إن زيادة وتحسين مستوى الناتج القومي مروراً بتطوير وتنمية إدارة الأداء يكون إما بإضافة كيانات إنتاجية جديدة تأخذ بأساليب الإدارة والتقنية الحديثة ، وإما بزيادة الانتفاع بالطاقات المتاحة أي رفع إنتاجيتها أو بكلاهما ، وهو ما سوف ينعكس إيجاباً على مستوى النشاط الاقتصـادي وتكويـن رأس المال الوطني.
غير أن قياس الإنتاجية بشكل دقيق سواء في القطاع الحكومي أو القطاع الخاص يكتنفه كثير من الغموض وعدم الدقة ، نظراً لعدم وجود معايير محددة يمكن الاعتماد عليها في القياس ، خصوصاً في مجال الخدمات ، لذلك فإن المشتغلين بالإدارة في مختلف المنظمات - وعلى وجه الخصوص في المنظمات العامة - يحاولون تحديد اتجاه الإنتاجية ، والعمل على تفعيل العوامل التي تؤدي إلى زيادتها ، وإزالة العقبات التي تؤدي إلى انخفاضها.
إن التنمية الشاملة التي شهدتها المملكة العربية السعودية في العقدين الماضيين قد اقترنت بتوسع واضح في إنشاء المؤسسات العامة والشركات الحكومية. ومن الضروري أن تشهد السنوات القادمة اهتماماً ملحوظاً بتحسين مستوى الإنتاجية وإدارة أدائها في هذه المؤسسات والشركات انطلاقاً من مفهوم أن هذه المؤسسات تمثل أدوات رئيسية في تحقيق خطط التنمية الاقتصادية ، وأن تحسين الإنتاجية إحدى الوسائل المهمة في زيادة تنويع مصادر الدخل القومي. وإذا كان تحسين الإنتاجية مطلباً أساسياً في حد ذاته فإن مستوى الأداء الإداري يتحكم بدرجة كبيرة في إمكانية تحقيق هذا المطلب ، حيث تعد أساليب الإدارة الفعالة مدخلاً رئيساً لتهيئة المؤسسات للإسهام بدورها المناسب في تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
رابعاً : أساليب إدارة الأداء :
سوف نستعرض أبرز اساليب إدارة الأداء الحديثة ، وذلك في مجال تجربة تمكين العاملين Empowerment ، ومجال إعادة الهندسة Reengineering ، ومجال الهندسة القيمية Value Engineering ، ومجال إدارة الجودة الشاملة Total Quality Management (TQM) ، ومجال التفوق المقارن Benchmarking.
1- مدخل تمكين العاملين :
يمكن إرجاع جذور نظرية تمكين العاملين إلى أفكار مدرسة العلاقات الإنسانية التي برزت إلى الوجود بوصفها رد فعل لإهمال الجانب الإنساني في معادلات العمل التي تبنتها مدرسة الإدارة العلمية التي قادها المهندس الصناعي فريدرك تايلور في الولايات المتحدة الأمريكية ، في نهايات القرن التاسع عشر الميلادي وبدايات القرن العشرين. أي أن نظرية تمكين العاملين عن طريق تفويض المزيد من السلطة التنفيذية لهم وإشراكهم في صنع قرارات العمل إنما هي مرحلة متقدمة من أفكار المدرسـة الإنسانيـة فيمـا عـرف بمشاركـة العامليـن Employee Participation في الخمسينيات والستينيات من القرن الميلادي الماضي.
ويعرف قاموس مريام وبستر التمكين بأنه: " تفويض أو منح أو إعطاء السلطة القانونية لشخص ما " (في : كيرل يه وين لـن/ ديسمبـر 1998م/ ص:2*). كما يعـرف كونجـر وكانيـو نجـو التمكين بأنه:
" إجراء يؤدي إلى توطيد إيمان الشخص بقدراته الذاتية " (1998م/ في المرجع السابق*). ويعبر بايهام عن مفهوم التمكين بأنه: " شعور والتزام وظيفي لصيق ناتج عن إحساس الموظف بالقدرة على اتخاذ القرارات ، وحمل المسئولية ، وأن أداءه يقاس بالنتائج ، وأنه ينظر إليه على أنه شخص مفكر ويسهم في الأداء وتطويره وليس مجرد زوج من الأيدي تنفذ ما تؤمر به " (1992م/ في المرجع السابق*) ، واضح من هذه التعريفات أن فكرة تمكين العاملين أو إشراكهم في إدارة المنظمة وصنع قراراتها تصب في اتجاه زرع الثقة بنفس الموظف ، وإشعاره بأنه عامل مهم في تحقيق أهداف المنظمة ونمائها ، وأن العاملين على اختلاف مواقعهم إنما هم شركاء لهم قيمة وأهمية رفيعة في رسم رسالة المنظمـة وفـي تحقيـق هذه الرسالة.
وتشير نتائج البحوث إلى أهمية فكرة تمكين العاملين في دعم كفاءة وفاعلية الأداء والإنتاجية في منظمات الأعمال في القطاعين العام والخاص. فقد وجد أن هناك علاقة موجبة قوية بين التمكين لبناء الثقة بنفوس العاملين في المنظمات وبين الرضاء الوظيفي ، وجودة القرارات ، والانتماء للمنظمة ، ووضوح دور المسئولية الوظيفية ، ووضوح دور الأداء الإنتاجي ، وتصميم الوظائف ، ووسائـل الرقابة ، والعلاقات بين الوحدات الإدارية ، والإبداع. كما وجد أن هناك علاقة وثيقة موجبة بين بناء الثقة وبين مستوى الاتصال في المنظمة. ووجد أن تدني فاعلية المنظمة له علاقة بضعف التمكين الذي يولد ضعف الثقة بين العاملين والإدارة (جلبرت وتانج/ بود ساكف وآخرين/جونز/في : هيثر لاشنجر ، جـوان فاينجان ، جديث شاميـان/2001م/ ص:3*). مثل هذه النتائج ترجح كفة الحاجة إلى زيادة استثمار نظرية تمكين العاملين في أجهزة الدولة في المملكة العربية السعودية في المستقبل ، بغية تحسيـن الإنتاجية والأداء فـي القطاع الحكومي ودعـم مستقبـل الاقتصاد
2- مدخل إعادة الهندسة :
يركز أسلوب إعادة الهندسة على التغيير الجذري في عمليات المنظمة من أجل تطوير الإنتاجية في كمها وكيفها ومناولتها بهدف إرضاء العملاء. ويعود ظهور أسلوب إعادة الهندسة إلى عام (1990م) على يد مايكل هامر الذي يعرف إعادة الهندسة هو وجيمس شامبي عام (1995م) بقولهما: " عندما يطلب منا تقديم تعريف موجز لمصطلح (هندرة نظم العمل) أو (الهندرة) ، فإننا نجيب بأنها : البدء من جديد ، أي البدء من نقطـة الصفر ، وليس إصلاح وترميم الوضع القائم ، أو إجراء تغييرات تجميلية تترك البنى الأساسية كما كانت عليه. كما لا يعني ترقيع ثقوب النظم السارية لكي تعمل بصورة أفضل ، وإنما يعني التخلي التام عن إجراءات العمل القديمة الراسخة والتفكير بصورة جديدة ومختلفة في كيفية تصنيع المنتجات أو تقديم الخدمات لتحقيق رغبات العملاء " (ص:19*).
ويعرف إيراكيج (1996م) إعادة الهندسة بأنها: " تغيير المنهج الأساسي للعمل لتحقيق تطوير جوهري في الأداء في مجالات السرعة ، والتكلفة ، والجودة " (في : فهد السلطـان/1421هـ/ ص:43). وبعد استعراض مجموعة من التعريفات ، يخلص الدكتور فهد السلطان إلى تعريف إعادة الهندسـة بأنها: " وسيلة إدارية منهجية تقوم على إعادة البناء التنظيمي من جذوره وتعتمد على إعادة هيكلة وتصميم العمليات الأساسية بهدف تحقيق تطوير جوهري وطموح في أداء المنظمات يكفل سرعة الأداء وتخفيض التكلفة وجودة المنتج ". (المرجع السابـق/ ص:45).
إن أدبيات تطبيق أسلوب إعادة الهندسة تشير إلى عدة نتائج ، من أبرزها: أن هذا الأسلوب ، وإن كان قد نشأ وترعرع في أحضان مصانع القطاع الخاص ، إلا أنه قابل للتطبيق في إعادة هندسة العمليات في منظمات القطاع الحكومي (جيف لوك، وجون بيبدي/ 2000م/ ص:9). وأنه يعاب على أسلوب إعادة الهندسة أنه لا يقيم وزناً للإنسان العامل في المنظمة بسبب تركيزه على النتائج أي أن الغاية فيه تبرر الوسيلة ، فها هو هامر رائد إعادة الهندسة يعترف بعد مرور ثلاثة أعوام على صدور كتابه عن إعادة الهندسة بأنه قد فـات عليـه أخذ العامل الإنساني في الحسبان مع أهميته (ميتشل لوه/1997م/ص:124). كما تشير الأدبيات إلى أن التعقيدات والأوضاع غير المرنة في منظمات القطاع الحكومي مثل عدم توافر الاعتمادات الكافية ، وضعف القـدرة على تحفيز العاملين ، وتعدد أنواع الرقابة المالية والقانونية والإدارية إلى جانب عدم وضوح الأهداف ، كلها تضعف مفعول إعادة الهندسـة فـي الأجهـزة الحكوميـة (جيف لوك/ وجون بيبدي/مرجع سابق/ ص:9).
وبغض النظر عما ذكر من مصاعب تطبيق إعادة الهندسة في منظمات الأجهزة الحكومية لأسباب هي من طبيعة الجهاز الحكومي ومن طبيعة البيروقراطية العامة ، فإن الرغبة في إنعاش الأداء في الجهاز الحكومي وفي تطوير الإنتاجية فيه تجعلنا نحبذ محاولات تطويع جميع أساليب التغيير ، ومنها أسلوب إعادة الهندسة لخدمة تطوير الأداء والإنتاجية في القطاع الحكومي في المملكة العربيـة السعودية ، أملاً في أن يؤدي ذلك إلى زيادة كفاءة وفاعليـة أداء الاقتصـاد السعـودي موضـوع الندوة الحاضرة.
3- مدخل الهندسة القيمية :
يقوم هذا الأسلوب في تطوير الأداء والإنتاجية على فكرة الجمع بين تحقيق الإنتاجية المستهدفة ، سواءً كانت من خلال إقامة المشروعات أو تقديم السلع والخدمات ، وبين تحقيق وفورات في التكاليف دون المساس بالجودة والوظائف الأساسية التي يتوقعها المستفيدون والمنتجون. هذا الأسلوب نشأ وترعرع في القطاع الخاص الأمريكي في الميدان الصناعي إبان الحرب العالمية الثانية كنتيجة للحاجة إلى متطلبات الحرب من الأسلحة والذخائر والمنتوجات الأخرى. " وتقنية الهندسة القيمية كانت تدعى تحليـل القيمـة (Valu Analysis) ، ولكن في عام (1954م) استخدم سلاح البحرية الأمريكية اسم الهندسة القيمية (Value Engineering) ومنذ ذلك الوقت وهذه هي التسمية الشائعة " (سعيد فنيس وعلي باطرفي/1418هـ/1997م/ص:14).
وفي مطلع السبعينيات الميلادية انتقل أسلوب الهندسة القيمية إلى بقية أنحاء العالم. وكانت اليابان سباقة إلى تبني الفكرة والتوسع في تطبيقها ، وتأسيس جمعية مهنية تعنى بالهندسة القيمية والمنتمين إليها. كما انتشرت فكرة وتقنية الهندسة القيمية في أوروبا والهند والمملكة العربية السعودية. ويعود تاريخ الهندسة القيمية في المملكة إلى منتصف السبعينيات الميلادية حينما أدخلتهـا الإدارة العامـة للأشغــال العسكريـة بـوزارة الدفـاع والطيـران ضمـن برامجها الإنتاجية ، وقامت آنذاك بإرسال مجموعة من مهندسيها المتخصصين إلى الولايات المتحدة الأمريكية لحضور حلقات في مجال الهندسة القيمية. كما نظمت أول ندوة حول الموضوع في الرياض عام 1402هـ حضرها ما ينوف على مائة وخمسين مهندساً من جميع القطاعات في المملكة (المرجع السابق/ص: 15-17).
ويعرف صالح العشيش الهندسة القيمية بأنها: " دراسة تحليلية ذات منهج محدد ، تجرى بواسطة فريق عمل متعدد التخصصات على منتج أو مشروع أو خدمة لتحديد وتصنيف الوظائف التي يؤديها ، بغرض تحقيق تلك الوظائف المطلوبة بطريقة أفضل أو تكلفة إجمالية أقل أو بهما معاً من خلال بدائل ابتكارية دون المساس بالمتطلبات الأساسية " (في : المرجع السابق/ص:14). كما يورد مفهوم الهندسة القيمية سعيد فنيس وعلي باطرفي بقولهم: " … الهندسة القيمية هي طريقة أو دراسة تتم وفق منهج معين أو خطة عمل معينة ، الهدف منها الوصول إلى وظائف المشروع ، ومن ثم مطابقتها بمتطلبات المستفيد للتأكد من أن المشروع يحقق فعلاً تلك المتطلبات ، ثم ابتكار بدائل إبداعية تؤدي تلك
الوظائف بنفس المستوى إن لم يكن أفضل وبأقل التكاليف الإجمالية الممكنة دون التأثير علـى الجودة ، والجودة هنا يقصد بها مستوى الأداء الذي يتطلبه المستفيد أو المالك " (المرجع السابق).
وهكذا فإن التعرف على وظائف المشروع أو المنتج من السلع والخدمات ، واستشراف التطلعات المتوخاة من ذلك المشروع أو المنتج من وجهة نظر المستفيد والجهة المنتجة ، وتحقيقها بطرق ابتكاريه تؤدي إلى خفض التكلفة وعدم المساس بالجودة والوظائف والتطلعات المعقودة على المشروع أو المنتج إنما تمثل جوهر الهندسة القيمية. لذلك ، ومن أجل تطوير الأداء والإنتاجية ومن ثم دعم الاقتصاد السعودي فإن التوسع في استخدام أسلوب وتقنية الهندسة القيمية يصبح أمراً مرغوباً ومفيداً في أجهزة الدولة في المملكة.
4- مدخل إدارة الجودة الشاملة :
تُرجع أدبيات إدارة الجودة الشاملة المباديء والأساليب التي تقوم عليها في تطوير الأداء والإنتاجية إلى روادها الأوائل مثل دمنج Deming ، آيشيكاوا Ishhikawa ، جوران Juran ، كروزبي Crosby ، أوكلاند Oakland. ويقوم أسلوب إدارة الجودة الشاملة على فلسفة الأداء المستمر والمتميز للإنتاج المطور للسلع والخدمات بوفرة أعلى وتكلفة أقل مع الخلو من العيوب والشوائب " من أول مرة وفي كل مرة " وإرضاء العملاء داخل المنظمة وخارجها. وبهذا التوجه يقول دمنج: " … إن ما يجعل هذا المدخل للإنتاجية ذا مصداقية عالية هو أن تحسين الجودة فيه يصاحبه زيادة الإنتاج وخفض تكاليفه ، وذلك بعكس المداخل التقليدية التي يصاحب تحسين الجودة فيها خفض الإنتاج وزيادة تكاليفه " (في : جون بانك/2000م/ص:87).
جيمس هارنجتون H. James Harrington أحد الرواد المعاصرين في إدارة الجودة الشاملة يقول أنه من الصعب تعريف إدارة الجودة الشاملة TQM لأنه لم يسبق وضع تعريف واضح لها (جيمس هارنجتون/1995م/ص:27*). ثم يورد المرتكزات الأساسية لإجراءات إدارة الجودة الشاملة نحو تطوير الأداء وتحسين الإنتاجية على أنها: " البدء من قمة الإدارة ، تعليم جميع مستويات الإدارة ، التعرف على متطلبات العملاء الخارجيين ، منع حدوث الأخطاء ، استخدام الطرق الإحصائية لحل المشكلات والتحكم بالإجراءات ، تدريب كل الموظفين على أعمال الفريق وطرق حل المشكلات ، التركيز على أن المشكلات تنبع من الإجراءات لا من الأفراد ، التعامل مع عدد جيد من الممولين ، استخدام مقاييس للجودة والتعامل مع العملاء ، الاهتمام بالعملاء الداخليين والخارجيين ، استخدام فرق العمل من كل المستويات لحل المشكلات واتخاذ القرارات (المرجع السابق*).
إن المتتبع لمحاولات تطبيق تقنية إدارة الجودة الشاملة في المنظمات العامة يلمس شيئاً من المد
والجزر حول النتائج التي يفرزها التطبيق. ففي تقرير منشور حول نتائج ورشة عمل تم فيهـا تقديـم
ومناقشة مجموعة من أوراق العمل والبحوث في المؤتمر الدولي الثالث والعشرين للعلوم الإدارية في عام (1995م) يورد التقرير:
" (1) أن المتحمسين لتطبيق إدارة الجودة الشاملة في منظمات القطاع الحكومي يرون أنها: تستطيع تحسين الإنتاجية العامة في كمها ونوعيتها وإجراءاتها ، تؤدي إلى رفع معنويات الموظفين ، تقود إلى تحسين نوعية القرارات في المنظمة العامة ، ترفع من مستوى العزة الوظيفية وكرامتها ، تكرس نظرة إيجابية في المنظمة تجاه عملائهـا. (2) أن غير المتحمسين لتطبيق إدارة الجودة الشاملة في القطاع الحكومي يرون أنها: مصممة في الأساس للتطبيق في منظمات القطاع الخاص وليس القطاع الحكومي ، تحتوي على إجراءات طويلة ومملة والقطاع الحكومي لديه الكثير من هذه العيوب بما لا يحتاج إلى المزيد ، تتطلب التزاماً وظيفياً جاداً ومتواصلاً بما لا يلائم طبيعة الموظف العام وما تعود عليه ، التركيبة الهرمية للبيروقراطية الحكومية لا تمكنها من التكيف مع فلسفة إدارة الجودة الشاملة المبنية على المشاركة في السلطة من خلال المشاركة في صنع القرارات والاتصالات الإدارية الأفقية ، وأن التبني الناجح لإدارة الجودة الشاملة يقتضي التعامل مع أهداف وأغراض واضحة ومحددة مدعومة بمعايير ذات مصداقية واعتمادية لقيـاس الإنتاجيـة وهـو ما لا يتوافر في منظمات القطاع العام " (محمد الغيث/1995م/ص:111*).
ومن جانب آخر يوضح جيمس هارنجتون أن دراسة أجريت بمعرفة Manufacturer’s Alliance للإنتاجية والإبداع على مجموعة من المنظمات تطبق إدارة الجودة الشاملة أظهرت أن: " (40%) حققت تحسناً كبيراً ، (45%) حققت بعض التحسن ، (15%) حققت تحسناً هامشياً ، (صفر %) لم تحقق تحسناً (جيمس هارنجتون/1955م/ص:28*). كما أظهرت دراسة أجرتها جاكلين كويل شابيرو أن مدى إسهام الموظفين في إدارة الجودة الشاملة يتأثر برؤيتهم لمدى تطبيق رؤسائهم لأسلوب إشراكهم في صنع القـرارات قبـل تبنـي منظمتهم منهج إدارة الجودة الشاملة. وأن تقييم الموظفين لمزايا إدارة الجودة الشاملة يحكم المدى الذي يذهبون إليه في دعمهم لمنهج إدارة الجودة الشاملة. وأن هذا التقييم للمزايا من جانب الموظفين أهم في التنبؤ بإسهاماتهم المستقبلية في إدارة الجودة الشاملة من إسهاماتهم الفعلية المبدئية في هذا المنهج قبل تقييمهم للمزايا. كما أفصحت نفس الدراسة أنه ليست هناك علاقة موجبة بين مدى مشاركة الموظفين بمنهج إدارة الجودة الشاملة وبين الالتزام الذي يظهرونه تجاه المنظمـة (1999م/ص: 7-9). مثل هذه النتائج وغيرها تؤكد ضرورة توفير البيئة الملائمة لتبني منهج إدارة الجودة الشاملة في المنظمة وخاصة المنظمة العامة قبل الإقدام عليه.
ومهما يكن أمر الاختلاف في ملائمة أو عدم ملائمة منهج وتقنية إدارة الجودة الشاملـة لتحسيـن وتطوير الأداء والإنتاجية في منظمات القطاع الحكومي ، إلا أننا نرى أنه من المفيد زيادة استخدام هـذا المنهج ، ونتوقع أنه سوف يحقق نجاحاً في بعض منظمات القطاع الحكومي إن لم يكن في جميعها بشرط توفير وضمان البيئة والثقافة المطلوبة لنجاحه.
1 - مدخل التفوق المقارن:
التفوق المقارن يقوم على مقارنة المنظمة بمنظمات أخرى في ميادين معينة من أجل التعلم منها والتفوق عليها في الميدان أو الميادين محل المقارنة ، عن طريق تحسين وتطوير الأداء والإنتاجية وأساليب خدمة العملاء. ويوضح جون بانك أنه " إذا استخدم أسلوب التفوق المقارن بشكل صحيح فإنه يمدنا بالحقائق المجردة التي نحتاجها لتخطيط وتنفيذ الاستراتيجيات التي تخدم متطلبات العملاء " (جون بانك/مرجع سابق/ص: 42). كما يعرف التفوق المقارن بأنه: " … إجراء إداري مستمر يساعد المؤسسات في تقييم منافسيها وذاتها واستخدام المعلومات الناتجة عن المقارنة في تصميم خطة عملية لتحقيق التفوق في سوق العمل. والهدف هو التصميم على أن تصبح المؤسسة أفضل من الأفضل " (المرجع السابق).
وتبنى فكرة وتقنية التفوق المقارن على ما يسمى بـ " دورة التفوق المقارن " التي تتكون من أربعة أنشطة متتالية (يوضحها الشكل رقم 1) وهي على الترتيب: تحديد وبلورة العناصر المؤثرة في النجاح. تحديد أفضل المنتجين في السوق من بين المنافسين. رسم خطة وبرنامج لتحقيق أفضل الأهداف مقارنة بالقائم في السـوق بما يجعل المؤسسة تتفوق على الأفضل بين منافسيها. ويلي ذلك متابعـة دورة التفوق فـي الأداء وقيـاس التقدم والتأكد من أن الدورة تعيد نفسها بما يضمن استمرارية التحسين
وأخيراً يخلص سيمبسون وكاندولي بعد تحليل أجرياه لثلاث حالات دراسية من تطبيق تقنية التفوق المقارن في ميدان الخدمات الصناعية إلى " أن أسلوب التفوق المقارن أثبت أنه فعال جداً وقابل للتطبيق في مجال الخدمات الصناعية. وأنه يمكن أن يساعد في : تصميم الاستراتيجية ، وفي التطوير التنظيمي وزيادة كفاءة الأداء ، وتحسين التدريب ، والحد من التكاليف ، وتسهيل التحسين في التصاميم ، وفي تمكين الناس من التعلم حـول الطـرق الجديـدة فـي أداء العمـل ، وتحسيـن طرق الاتصـال الداخلي " (يوليو 2000م/ص:7). وبعد أن عرضنا أبرز خمس تجارب دولية معاصرة من أساليب إدارة الأداء وتقديم الخدمات في هذا الجزء من الورقة ، وتم التعرف على أهم جوانب كل أسلوب ونتائج بعض الدراسات التي أجريت له ، فإنه يمكننا تأكيد فائدة استخدام أو زيادة استخدام جميع الأساليب التي تم عرضها في منظمات القطاع الحكومي والتركيز على الأسلوب الأكثر ملاءمة لطبيعة كل منظمة ، بعد توفير بيئة العمل والثقافة التنظيمية التي تخدم الأسلوب أو الأساليب التي يتم تطبيقها والاستفادة منها ، وذلك من أجل تطوير الأداء وتحسين الإنتاجية بما يخدم مستقبل الاقتصاد السعودي في القطاعين العام والخاص.