الخدمة المصرفية عصب الحياة العصرية وقلب اقتصادها النابض ولا سيما الاقتصاد النقدي. فالخدمة المصرفية الحديثة لا يقتصر دورها على تيسير التبادل النقدي بين المتعاملين وخاصة رجال المال والأعمال، كما كانت تقوم بذلك الدَّور الخدمة المصرفية التقليدية، وإنما توسعت أهدافها حتى صارت تشمل سائر الأنشطة الاقتصادية الاستهلاكية والاستثمارية والتنموية على اختلاف درجات الحاجة والمتطلبات الحديثة.

وبالرغم من التطور الهائل الذي شهدته الخدمة المصرفية الحديثة، ولا سيما في العالم المتقدم، وما صاحب ذلك من استخدام الأنظمة التقنية والأجهزة الذكية حتى عمَّت الخدمة الإلكترونية أنحاء المعمورة، إلا أن الخدمة المصرفية الإسلامية اتخذت موقعاً متميزاً بين الخدمات المصرفية، وصار لها جرس وحدس وإيقاع في الحياة اليومية المعاصرة. ولم يقتصر الأمر على المصارف الإسلامية التي ملأت الدنيا وشغلت الناس، بل امتد الأمر واتسع حتى شمل المصارف التقليدية نفسها، بل واشتد الأمر سعة حينما أصبحت بعض الخدمات المصرفية الإسلامية والصيغ الإسلامية منافساً شرساً لبعض الخدمات المصرفية التقليدية سواء كان ذلك على مستوى العالم الإسلامي أو على الصعيد الدولي حيث فرضت الخدمة المصرفية الإسلامية نفسها كبديل منافس للخدمة المصرفية التقليدية في كثير من المجالات.

مفهوم المصرفية الإسلامية
إن الحد الفاصل بين الخدمة المصرفية التقليدية والخدمة المصرفية الإسلامية يتمثل في التزام الأخيرة مبادئ وأحكام الشريعة الإسلامية وتنقية المعاملة المصرفية المطلوبة من الشوائب والعيوب التي يمكن أن تؤدي إلى إيقاع ظلم أو جهالة أو غرر أو ربا أو خلافه، مما يفضي للنزاع بين الأطراف المتعاملة أو أكل أموال الناس بالباطل. ولذلك فالذي يتعامل مع البنك التقليدي من جهة والبنك الإسلامي من الجهة الأخرى قد لا يجد فارقاً في المسميات أو الغايات النهائية للخدمة المقدمة، وإنما يجد الفرق الشاسع في الوسائل المؤدية إلى هذه الغايات وفي الضوابط التي تحكم الخدمة بشكل عام. وهذا في حد ذاته يعني أن على المصرف الإسلامي أن يلعب دوراً بالغ الأهمية، في تقديم خدمات مصرفية نقية خالية من الشوائب والعيوب من جهة، ومواكبة لاحتياجات المتعاملين مع البنوك من الجهة الأخرى. وقد سلكت المصارف الإسلامية طريقاً متميزاً في هذا الصدد، بل وقد تبعتها في الآونة الأخيرة، أي في نهايات القرن الميلادي الماضي، تجارب سلوكية مماثلة من المصارف التي تعمل في الأصل وفق مفاهيم مصرفية مختلفة من حيث الأهداف والغايات في تقديم خدماتها المصرفية.

قبس من بنك الزبير
قد لا يتوقع بعض القراء أن تكون الخدمات المصرفية الإسلامية سابقة بعدة قرون لتلك التجربة المصرفية التي تبناها بنك انجلترا عام 1695م، باعتباره أقدم تجربة مصرفية متكاملة. وللحقيقة فإن الإسلام قد وضع أنموذجاً فريداً في التعامل المالي كان نواة صالحة للتعامل المصرفي. وقد وردت أمثلة كثيرة في التاريخ الإسلامي تبين أن المسلمين كانت لديهم تجارب سباقة وفريدة وعريقة ولا تزال تمثل الشريان التاجي للخدمات المصرفية المعاصرة، نذكر منها على سبيل المثال ودائع الزبير بن العوام حيث كان الناس يودعون أموالهم عنده، فيقول لهم بل هو قرض ليتمكن من جهته هو من توظيفه ويتمكنوا هم من ضمانه حتى بلغ مجموع ما عنده، كما جاء في كتب السنة، ما قيمته مليونان ومائتا ألف درهم مما حدا بأحد الباحثين في الاقتصاد الإسلامي الحديث أن يطلق على هذا النموذج (بنك الزبير). وهذا الأنموذج يعبر عن أهم خدمة تقدمها البنوك التقليدية المعاصرة لعملائها، بل وتعتمد عليها في تسيير استثماراتها، وهي ما يسمى بالحسابات الجارية.
كذلك عرف العرب السفتجة واستخدموها في تنقلاتهم وأسفارهم وهي تحويل الأموال من بلد إلى آخر، ومن ذلك ما كان يفعل ابن عباس وعبدالله بن الزبير، رضي الله عنهما، حيث حيث كانا يأخذان الفضة المضروبة بمكة المكرمة ويكتبان لأصحابها مكتوباً يستلمان بموجبه نقداً من العراق. ثم عرف العرب في صدر الإسلام مصارفة العملات فكانوا يبيعون بالدراهم ويأخذون الدنانير، كما أنهم عرفوا استخدام الأوراق التجارية.

الخدمات المصرفية الإسلامية المعاصرة
لم تقف المصارف الإسلامية مكتوفة الأيدي أمام التطور الهائل الذي تشهده الساحة المصرفية، بل سعت إلى مواكبة هذه التطورات بكفاءة واقتدار ووفرت للمتعاملين معها معظم الخدمات إن لم نقل جميع الخدمات التي توفرها المصارف التقليدية؛ بل العجيب في الأمر أن المصارف التقليدية اتجهت في الآونة الأخيرة لتطبيق النموذج الإسلامي في معظم خدماتها الائتمانية. ويمكن أن نتناول هذه الظاهرة من خلال طرحنا لبعض الخدمات المصرفية الإسلامية التي تقدمها البنوك التجارية السعودية.

أولاً: البطاقة الائتمانية
كانت البطاقة الائتمانية في المصارف التقليدية تقدم في شكل قرض بفائدة حيث يتمكن صاحب البطاقة من استخدام الحد الممنوح له بموجبها في شراء أغراضه من الأسواق دون أن يكون في حسابه الجاري مقابل نقدي، وعند حلول الأجل يضاف إلى قيمة السحب فائدة نظير استخدام القرض وعند التأخير تحسب قيمة إضافية مع الفائدة. ولكن هيئات الرقابة الشرعية جعلت لذلك ضوابط وشروطاً تحول دون الوقوع في شبهات الربا أوالغرر فجعلت للبطاقة الائتمانية أصولاً خاصة للتعامل. وعلى ضوء ذلك تسابقت البنوك التجارية في المملكة العربية السعودية في إصدار بطاقة ائتمانية تقوم على مبدأ التمويل الإسلامي؛ ومن ذلك بطاقة الراجحي الائتمانية التي تمنحها شركة الراجحي المصرفية للاستثمار، وبطاقة الخير الائتمانيةالتي يمنحها البنك السعودي الأمريكي، وبطاقة الأمان التي يقدمها البنك السعودي البريطاني، وبطاقة الاعتماد المبارك التي يمنحها البنك العربي الوطني.

ثانياً: بيع التقسيط
البيع بالتقسيط من أشهر وأقدم صيغ التمويل التي تقدمها المصارف الإسلامية لعملائها، ويقوم على مبدأ تملك البنك للسلعة المطلوبة ومن ثم بيعها للعميل بالأجل بثمن شرائها مع ربح معلوم. والبيع بالتقسيط هو مصطلح يطلق في الأوساط العامة ولكنه في الواقع يشمل مجموعة من المعاملات البيعية التي تتميز كل واحدة منها في الفقه الإسلامي بسمات معينة وخصائص تميزها عن الأخرى. ومن هذه المعاملات بيع المساومة وبيع المرابحة للواعد بالشراء وبيع الاستصناع، حيث تلتقي جميع هذه المعاملات في كونها بيوع يؤجل فيها الثمن إلى ما بعد التسليم ويدفع في أقساط تكون في الغالب متساوية إلى أجل محدد. وقد تسابقت البنوك التجارية السعودية في تقديم هذه الخدمة لعملائها في مجال العقار والسيارات بأسماء مختلفة؛ فيسمي البنك السعودي البريطاني هذا النوع من المعاملات بتسهيلات البيع بالمرابحة، وتسميه شركة الراجحي المصرفية للاستثمار بالمتاجرة والتمويل، وتسمى في البنك العربي الوطني التمويل المبارك، ويجعلها بنك الرياض تحت عنوان "بالمرابحة اشتريت سيارتي" والتمويل السكني، ويسميها البنك السعودي الهولندي برنامج المرابحة.

ثالثاً: صناديق الاستثمار
تختلف فكرة صناديق الاستثمار عن الخدمتين السابقتين في أنها تعتبر خدمة لتوظيف الأموال للمستثمرين الذين ليست لديهم مشاريع مدروسة أو خطط استثمارية أو دراية بهذا المجال، بينما تقدم الخدمتان السابقتان لتمويل الأفراد أو المؤسسات الراغبة في القيام بأعمال أو مشاريع يكونون بموجبها في حاجة إلى المال.
وتعتبر فكرة الصناديق الاستثمارية خدمة راقية لأنها تقدم للمستثمرين العاجزين عن الاستثمار أو الراغبين في الاستثمار بواسطة الغير حلولاً سهلة ومريحة تمكنهم من الحصول على عوائد مالية معقولة دون بذل جهود مباشرة. وتقوم فكرة الصناديق الاستثمارية الإسلامية على عقد المضاربة الشرعية أو الإجارة بضوابطهما المقررة شرعاً عند الفقهاء ويحصل كل طرف على نسبة محددة من الأرباح التي يرزق بها الله تعالى المشاريع المستثمر فيها. وانتشرت هذه الصناديق وتعددت بأسماء وأشكال كثيرة ومختلفة وتسابقت عليها جميع البنوك التجارية السعودية نذكر منها على سبيل المثال؛ صندوق المتاجرة بالأسهم العالمية، صندوق المتاجرة بالأسهم المحلية، صندوق المتاجرة لأسهم الشركات الصاعدة، وصندوق المضاربة الشرعية في البضائع.

الخلاصة
تمثل الخدمات المصرفية الإسلامية تحدياً كبيراً لنجاح المصارف الإسلامية لأنها تنطلق من معادلة صعبة في مواكبة التطورات المصرفية مع الالتزام التام بضوابط وأحكام الشريعة الإسلامية. وهذا ما حدا بالمصارف الإسلامية وبعض المصارف التقليدية أن تعين هيئة رقابة شرعية من خيرة العلماء لضبط المعاملات من الناحية الشرعية بعد توفير الآلية التي تعمل بها المصارف الكبرى ومعالج أوجه القصور فيها لتتماشى مع أحكام وضوابط الشريعة الإسلامية.
ويكفي هذه المعاملات نجاحاً أنها نافست من حيث الشكل والمضمون الخدمات المصرفية التقليدية ولبت احتياجات العملاء في جميع المجالات الاستهلاكية والاستثمارية والتنموية وجعلت الغنم بالغرم والخراج بالضمان كما أمر بذلك النبي المصطفى عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم.

المصدر: توفيق الطيب البشير
ahmedkordy

خدمات البحث العلمي 01009848570

  • Currently 80/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
26 تصويتات / 1131 مشاهدة
نشرت فى 22 أكتوبر 2010 بواسطة ahmedkordy

أحمد السيد كردي

ahmedkordy
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

29,875,028

أحمد السيد كردي

موقع أحمد السيد كردي يرحب بزواره الكرام free counters