لقد تحدثنا حتى الآن عن أربعة أركان للسياسات الوطنية للعلم والتكنولوجيا. ولكن يوجد ركن خامس ربما يكون أكثرها تعقيداً، وهو المناخ الدولى. والنماذج المبكرة لتأثير هذا المناخ تتمثل بالطبع فى الأزمات والحروب التى حفلت بها الساحة الأوروبية منذ الثورة الصناعية.
ولكن هذا التأثير تضاعف عدة مرات بتأثير طائفة كبيرة من العوامل الفاعلة خلال القرن العشرين، وبصفة خاصة خلال نصفه الأخير. ومن هذه العوامل مايلى:-
1 - المنافسات السياسية الدولية كان لها تأثير كبير فى صياغة سياسات العلم والتكنولوجيا. فلا يمكن مثلاً فهم أسباب تركيز الاتحاد السوفيتى (السابق) على تكنولوجيا الدفاع وتكنولوجيا الفضاء وذلك على حساب التكنولوجيات الضرورية لتطوير الحياة العادية بدون أن نفهم عقدة الحصار التى تكونت عنده منذ الثورة البلشفية الشيوعية عام 1917 وما تلاها من حروب أهلية وحروب تدخل دولى. وحتى بعد ما أصبح الاتحاد السوفيتى القوة الثانية فى العالم، واصل التركيز على هذه المجالات بحكم الاعتقاد السائد بأن كسب المباراة العجيبة مع الولايات المتحدة فى مجال غزو الفضاء يمنحه الهيبة الدولية والبريق الايديولوجى فى أعين ملايين البشر فى شتى أرجاء العالم. وبسبب عقيدة كسب المباراة الايديولوجية من خلال الفضاء فقد الاتحاد السوفيتى فى النهاية وجوده نفسه بعد أن فشل فى توفير الاحتياجات العادية لمواطنيه. ومن ثم كانت سياساته التكنولوجية سبباً لفشله بل وللدمار الذى لحق به بدون حرب. (Aliceetal/15-20)
ومع ذلك ، فإن المنافسات السياسية بين الدول فى المجال التكنولوجى لازالت شديدة التأثير على المستوى الوطنى لعديد من الدول. ولم يعد هذا العامل قاصراً على الدول الكبرى مثل الولايات المتحدة وفرنسا بل امتد تأثيره الى عديد من الدول الوسطى مثل البرازيل والأرجنتين وكوريا ...إلخ. ولا يمكننا تفسير عديد من المشروعات القومية الكبيرة من خلال الاعتبارات العقلانية الاقتصادية والاستراتيجية وحدها، حيث تدخل عوامل مثل الهيبة القومية والفخر والدعاية والسباق حول المكانة الدولية كعوامل مؤثرة بدورها.
2 - دخول قضايا العلم والتكنولوجيا كموضوعات أساسية على جدول أعمال النظام الدولى. فقضايا البيئة على سبيل المثال صارت من أكثر قضايا السياسة الدولية أهمية. وكما هو معروف يستحيل معالجة تآكل وتلوث البيئة الطبيعية فى حدود الدولة، بل يتحتم علاجها على مستوى عالمى. ويصدق ذلك أيضا بالنسبة للأمراض الوبائية عابرة الحدود مثل الإيدز وفيروس الكبد الوبائى...الخ. فإذا أضفنا لذلك المفاوضات الدولية حول الشئون العلمية والتكنولوجية مثل حقوق الملكية الفكرية لأدركنا كيف أصبح العالم كله يؤثر بقوة فى صنع السياسات الوطنية.
3 - العلم والتكنولوجيا كآلية متزايدة الأهمية للتعاون الدولى. ففى حالة المجتمعات المتقدمة لم يعد من الممكن لدولة واحدة مهما بلغت ضخامتها أن تتحمل الأعباء المالية الكبيرة لبعض المشروعات العلمية والتكنولوجية العملاقة. ويدفعها ذلك للتعاون (التنافس أحياناً) مع غيرها من الدول المتقدمة فى مجالات بحثية أو تكنولوجية هامة لمستقبل الدولة والبشرية ككل. وتتركز هذه المشروعات فى مجال الفضاء والإندماج النووى والتكنولوجيا الحيوية ، والبيئة والصحة.
أما بالنسبة للعلاقات الرأسية بين الشمال والجنوب، فقد صارت قضية المساعدات من أجل التنمية التكنولوجية واحدة من أهم محاور سياسات التنمية.
وثمة جانب بازغ وإن كان لايزال ضعيفاً بالنسبة للدول النامية وهو استعادة بعض علمائها الكبار المهاجرين والعاملين فى الدول المتقدمة ، أو قيامهم بمساعدة بلادهم سواء فى وضع سياسة للعلم والتكنولوجيا أو فى مشروعات محددة ، عسكرية أو مدنية .
ومع ذلك كله، ورغم انهيار نظام القطبية الثنائية ونهاية الحرب الباردة، ورغم رفع شعارات العولمة فلازال التعاون الدولى أقل أهمية وتأثيراً من التنافس بين الدول الكبرى فى مجال العلم والتكنولوجيا ، وهو الأمر الذى يطرح للتساؤل أثر النظام الدولى الحالى على رفاهية البشرية. ويثير المجتمع المدنى العالمى البازغ هذا التساؤل بإلحاح. ومن المتوقع أن يصير الرأى العام العالمى فاعلاً مهماً فى رسم سياسات التطور التكنولوجى على صعيد عالمى فى المستقبل غير البعيد .
وهكذا نصل إلى تحديد أركان خمسة لسياسات العلم والتكنولوجيا، وهى الصناعة (أو قطاع الأعمال بصفة عامة)، والمجتمع العلمى والتكنولوجى، والحكومة، والرأى العام، والمجتمع الدولى.
ولكن ذلك لا يقول لنا سوى القليل فيما يتعلق بالطريقة التى توضع بها سياسة العلم والتكنولوجيا. فالمعضلة الحقيقية ليست فى تحديد هذه الأركان، وإنما فى تحديد طبيعة العلاقات فيما بينها ، والكيفية التى تترتب بها الأولويات العامة فى هذا المجال، ومساهمة كل طرف فى تحقيق أهداف مشتركة مرجوة.
وتمثل صورة العلاقات بين هذه الأركان المختلفة المحتوى العملى والفكرى لمنظومة العلم والتكنولوجيا، والطريقة التى تعمل بها هذه المنظومة وتطورها التاريخى، والمستقبلى المحتمل.
فبوسعنا مثلاً أن نتحدث عن نوعين مختلفين من المنظومات المعروفة، وهما:-
ساحة النقاش